واحد من كتبه لا سيما أوائل المقالات وتصحيح الاعتقاد. (1)
  ومع أنّ الطائفتين كانوا على خلاف في بعض المسائل ، ولكنّهم (رحمهم الله) جميعاً بذلوا قصارى جهودهم بغية تثبيت الهوية الفكرية والعلمية للتشيع في زمن الغيبة بعدما مرّ في أوائل عصر الغيبة بمنعطفات حرجة كادت تقوّض كيانه ، وتمحو هويته لولا رعاية اللّه سبحانه.
  هذا كلّه حول مدرسة أهل الحديث ، وإليك الكلام في مدرسة أهل الاجتهاد.

مدرسة أهل الاجتهاد
  قد ذكرنا سابقاً انّ الاِمامية ورثت خطين ، خطَّ ممارسة الحديث وتدوينه ونشره دون منهجية ، وخطَّ ممارسة الاجتهاد الذي بذرت بذرته في عصر الاِمام السجاد (عليه السّلام) ثمّ نمت في عصر الصادقين (عليهما السلام) فنبغ فقهاء كبار ، كزرارة ، وابن أبي عمير ، ويونس بن عبد الرحمن ، والفضل بن شاذان ، وغيرهم من المجتهدين المفتين ، كما عرفت أنّ للفضل بن شاذان بل لشيخه يونس بن عبد الرحمن إبداعاً في كتابة الفقه ، كما أنّ لزرارة ذلك النمط أيضاً ، فلم يكونوا ملتزمين في مقام الاِفتاء بنقل نص الرواية ، وهذا هو الكليني يذكر فتاوى زرارة في ( الكافي ) (2) عپوقد مرّت نصوصها. (3)
  وقد ورثت الاِمامية ذينك الخطّين من أسلافهم فبرعوا في إضفاء المنهجية على نقل الحديث ونقده ، كما برعوا في اضفائها على أُسس الاجتهاد

(1) انظر للوقوف على اختلاف القمّيين مع غيرهم في بعض الآراء كتاب ( كشف القناع) للمحقّق التستري ، ص 200ـ203.
(2) الكليني : الكافي : 7|97و100.
(3) مرّت فتاوى زرارة ص 195.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 227 ـ
  وتطويره ، فقد استمر خط الاجتهاد باستمرار الحديث ، ويكفيك في ذلك ما ذكره المحقّق في ( المعتبر ) حيث يعطف فقهاء الدور الثاني على فقهاء الدور الاَوّل ويقول : لمّا كان فقهاوَنا رضي اللّه عنهم في الكثرة إلى حدّ يعسر ضبط عددهم ، ويتعذّر حصر أقوالهم لاتساعها وانتشارها وكثرة ما صنّفوه ، وكانت مع ذلك منحصرة في أقوال جماعة من فضلاء المتأخّرين ، اجتزأت بإيراد كلام من اشتهر فضله وعرف تقدّمه في الاَخبار وصحّة الاختيار وجودة الاعتبار ، واقتصرت من كتب هوَلاء الاَفاضل على ما بان فيه اجتهادهم وعرف به اهتمامهم وعليه اعتمادهم ، ممّن اخترت نقله : الحسن بن محبوب ، ومحمد بن أبي نصر البزنطي ، والحسين بن سعيد ، والفضل بن شاذان ، ويونس بن عبد الرحمن، ومن المتأخّرين : أبو جعفر محمد بن بابويه القمي رضي اللّه عنه ، ومحمد بن يعقوب الكليني.
  ومن أصحاب كتب الفتاوى : علي بن بابويه ، وأبو علي بن الجنيد ، والحسن ابن أبي عقيل العماني ، و المفيد محمد بن محمد بن النعمان ، وعلم الهدى ، والشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي. (1)
  تجد أنّ المحقّق يصف جميع من سمّاهم بالفقاهة ، نعم خصّ طائفة منهم بأهل الفتوى الّذين يرجع إليهم الشيعة في أخذ الحكم ، كعلي بن بابويه الذي ألّف رسالة ( الشرائع ) ، والحسن بن أبي عقيل العماني الذي ألّف رسالة عملية ، يقول النجاشي في حقّها : ما ورد الحاج من خراسان إلاّ واشتراها ، والمفيد محمد بن محمد ابن النعمان موَلّف ( المقنعة ) وغيرهم.
  وهذه الوثيقة التاريخية توَكد لنا وجود الاجتهاد بين أصحاب الاَئمّة (عليهم السلام) وانّه لم يكن وليد الصدفة.

(1) نجم الدين الحلي : المعتبر :1|33.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 228 ـ
  نعم صارت الغيبة سبباً لحرمانهم من زيارة الاِمام عن كثب ممّا حدا إلى إنهاض الهمم بغية إعمال الفكر وتقوية ملكة الاجتهاد للاِجابة على المستجّدات من الاَحكام ، فقد قيل : إنّ الفقر أبو الصنائع ، والحاجة أُمّ الاختراع.

وهنا سنقوم باستعراض طائفة من المجتهدين عقب عصر الغيبة إلى عصر الشيخ الطوسي
  1 ـ إبراهيم بن محمد الثقفي ( المتوفّى 283 هـ )
  يعرّفه النجاشي بقوله : ( إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي ، أصله كوفي ، وسعد بن مسعود أخو أبو عبيد بن مسعود ، عمّ المختار ، كان زيدياً أوّلاً ، ثمّ انتقل إلينا ، ويقال انّ جماعة من القمّيين ، كأحمد ابن محمد بن خالد وفدوا إليه وسألوه الانتقال إلى قم فأبى ، ثمّ ذكر سبب خروجه من الكوفة وأسماء تأليفاته ، منها : الجامع الكبير في الفقه ، توفي عام 283 هـ ، (1) وطبع من كتبه ( الغارات ) وهو كتاب قيّم.
  2 ـ سعد بن عبد اللّه القمي ( المتوفّى 299 هـ)
  سعد بن عبد اللّه بن أبي خلف الاَشعري القمّي ، المكنّى بأبي القاسم ، شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجهها ، كان قد سمع من حديث العامة شيئاً كثيراً ، وسافر لطلب الحديث ، لقى من وجوههم ، وصنّف كتباً كثيرة. (2)
  وقال الشيخ : فمن كتبه : كتاب ( الرحمة ) وهو يشتمل على كتب ، منها : كتاب الطهارة ، وكتاب الصلاة ، وكتاب الزكاة ، وكتاب الصوم ، وكتاب جوامع

(1) النجاشي : الرجال : برقم 18.
(2) النجاشي : الرجال : برقم 465.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 229 ـ
  الحج. (1)
  وقد قرأ عليه أبو القاسم جعفر بن قولويه.
  نقل النجاشي ، عن الحسين بن عبيد اللّه(ابن الغضائري) قال : جئت بالمنتخبات إلى أبي القاسم بن قولويه أقرأها عليه ، فقلت : حدّثك سعد ، فقال : لا ، بل حدّثني أبي وأخي عنه ، وأنا لم أسمع من سعد إلاّحديثين . (2)
  3 ـ محمد بن أحمد الصابوني ( المتوفّى نحو 320 هـ )
  محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليم الجعفي الكوفي ، المعروف بـ ( أبي الفضل الصابوني ) والمشهور بين الفقهاء بـ ( صاحب الفاخر ) و ( الجعفي ) أيضاً على الاِطلاق من قدماء أصحابنا وأعلام فقهائنا من أصحاب كتب الفتوى ، ومن كبار الطبقة السابعة ، ممّن أدرك الغيبتين الصغرى و الكبرى ، عالم فاضل فقيه ، عارف ، له كتب ، منها : كتاب ( الفاخر ) المذكور ، وهو كتاب كبير يشتمل على الاَُصول والفروع والخطب وغيرها ، وكتاب ( تفسير معاني القرآن ) وكتاب ( المحبر ) وكتاب ( التحبير ). (3)
  قال النجاشي بعد ذكر اسمه : سكن مصر وكان زيدياً ثمّ عاد إلينا ، وكانت له منزلة بمصر ، ثمّذكر سنده إلى كتبه ، وقال : أخبرنا أحمد بن علي بن نوح ، عن جعفر بن محمد ( المتوفّى 369 هـ) قال : حدّثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ببعض كتبه. (4)

(1) الطوسي : الفهرست : برقم 318.
(2) النجاشي : الرجال : برقم 465.
(3) بحر العلوم : الفوائد الرجالية :3|199.
(4) النجاشي : الرجال : برقم 1023.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 230 ـ
  وأمّا طبقته ، فقد عرفت أنّ النجاشي نقل كتبه عنه عن طريق جعفر بن محمد ابن قولويه المتوفّى عـام 367 هـ ، فيكون في طبقة مشايخه ، كالكليني وعلي بن بابويه وغيرهما.
  نعم عدّه الشيخ في ( رجاله ) من أصحاب الاِمام الهادي (عليه السّلام) المتوفّى عام 254 هـ ، (1) وعلى ذلك فيكون متقدّماً على الكليني بقليل ، فلو افترضنا انّه من مواليد 240 هـ يكفي في عدّه في الصحابة لقاوَه غير مرّة ، وتوفّي عام 320 هـ ، فيكون له من العمر 80 عاماً ، واللّه العالم.
  وقال الشيخ : له كتب كثيرة ، فمنها كتاب ( المتخير ) ، وكتاب ( التخيير ) ، (2) وكتاب ( الفاخر ) وكان من أهل مصر ، أخبرنا بجميع كتبه أحمد بن عبدون عن أبي علي كرامة بن أحمد بن كرامة البزاز وأبي محمد الحسن بن محمد الخيزراني المعروف بابن أبي العسّاف المغافري عنه بجميع رواياته. (3)
  وقد نقل السيد بحر العلوم بعض فتاويه عن غاية المراد ، منها : القول بالمواسعة في قضاء الصلاة اليومية.
  ومنها : القول بالتفصيل في البئر ، والفرق فيها بين القليل والكثير ، وتحديد الكثرة بالذراعين في الاَبعاد الثلاثة.
  ومنها : الاجتزاء بالشهادة الواحدة في التشهد الاَوّل وبالتسليم الاَوّل من التسليم الواجب. (4)
  ويظهر من الفتاوى المنقولة عنه انّه كان يفرغ الفتاوى في قوالب خاصة ،

(1) الطوسي : الرجال : 422.
(2) وقد مرّ عليك انّالنجاشي عبّر عنه بالمحبرة والتحبير.
(3) الطوسي : الفهرست ، باب من عرف بكنيته ، برقم 898.
(4) بحر العلوم : الفوائد الرجالية :3|203.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 231 ـ
  ولم يكن ملتزماً بالمنصوص ، وكان ذلك استمراراً لما رسمه زرارة ويونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان.
  4 ـ الحسن بن أبي عقيل (المتوفّى نحو 329 هـ)
  الحسن بن علي بن أ بي عقيل ، أبو محمد العماني (1) صفه النجاشي بقوله : الحذّاء ، فقيه متكلّم ثقة ، له كتب في الفقه والكلام ، منها : كتاب ( المتمسك بحبل آل الرسول ) كتاب مشهور في الطائفة ، وقيل ما ورد الحاج من خراسان إلاّطلب واشترى منه نسخاً ، وسمعت شيخنا أبا عبد اللّه (رحمه الله) يكثر الثناء على هذا الرجل.
  وقرأت كتابه المسمى كتاب ( الكرّ والفرّ ) على شيخنا أبي عبد اللّه.
  وأمّا طبقته فهو في طبقة الكليني ( المتوفّى عام 329 هـ) لاَنّ ابن قولويه المتوفّى عام 367 هـ من تلامذة الكليني ينقل عنه بالاِجازة ، قال النجاشي (عن أبي القاسم جعفر بن محمد) : كتب إليَّ الحسن بن أبي عقيل يجيز لي كتاب ( المتمسك ) وسائر كتبه. (2)
  و يحتمل تقدم طبقته على الكليني بشيء يسير ، و ذلك لانّ ابن قولويه ممّن يروي عن سعد كما تقدّم ، فيكون ابن أبي عقيل في طبقة سعد بن عبد اللّه القمي الذي توفّي في عام 301 هـ أو 299 هـ ، فمن المحتمل أن يكون متقدّماً على الكليني بقليل.
  ويصفه العلاّمة الحلّي بقوله : فقيه ثقة متكلّم ، له كتب في الفقه والكلام ، منها : كتاب ( المتمسك بحبل آل الرسول ) كتاب مشهور عندنا ، ونحن نقلنا أقواله

(1) عمان كغراب المعروفة في هذه الاَيام بسلطنة عمان.
(2) رجال النجاشي : 1|154 برقم 99.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 232 ـ
  في كتبنا الفقهية ، وهو من جملة المتكلّمين وفضلاء الاِمامية. (1)
  ثمّ إنّكتبه وإن لم تبق بصورتها ، ولكن بقيت بمادّتها ، فقد أورد العلاّمة الحلّـي وغيره أقواله في كتبهم الفقهية ، وأخص بالذكر كتاب ( المختلف) للعلاّمة الحلّـي ، ولاَجل ذلك قام مركز المعجم الفقهي في مدينة قم باستخراج آرائه من الكتب الفقهية المتوفرة ونشرها في مجلد واحد.
  ثمّ إنّ المعروف أنّ ابن أبي عقيل أوّل من هذّب الفقه واستعمل النظر وفتق البحث عن الاَُصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى ، وبعده الشيخ الفاضل ابن الجنيد ، وقد ذكره غير واحد من العلماء. (2)
  ونقله أيضاً موَلّف ( الكنى والاَلقاب ). (3)
  ولكنّك عرفت أنّ ذلك أمر لا واقع له ، بل كان خط الاجتهاد رائجاً منذ عصر الصادقين (عليهما السلام) إلى يومنا هذا ، وذكرنا أيضاً أسماء الفقهاء ممّن تقدّموا عليه كالفضل بن شاذان ومن بعده.
  ومع الاَسف انّ سيرة ابن أبي عقيل قد اكتنفها كثير من الغموض ، فلا نعرف بالضبط أسماء أساتذته وتلامذته ، والظاهر انّه كان فقيهاً بعمان ، وكانت الصلة بينه وبين الحواضر العلمية ضعيفة ، ولاَجل ذلك ينقل عنه فتويان شاذتان ما أفتى بهما غيره إلاّ القليل ، كعدم انفعال الماء القليل بمجرّد الملاقاة ، ومن قرأ في صلاة السنن في الركعة الاَُولى ببعض السورة وقام في الركعة الاَُخرى ابتدأ من حيث قرأ ولم يقرأ بالفاتحة. (4)

(1) ابن المطهر : الخلاصة :40.
(2) الاَفندي التبريزي : رياض العلماء :1|203.
(3) الكنى والاَلقاب : 1|190.
(4) بحر العلوم : الرجال : 2|214.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 233 ـ
  إنّ لابن أبي عقيل فتاوى أُخرى شاذّة ، كالتالي :
  أ ـ عدم وجوب طواف النساء.
  ب ـ عدم اشتراط رضى المرأة في نكاح بنت أخيها وبنت أُختها عليها.
  ولعلّ مرجع الاَخير هو العمل بعموم قوله : ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (1) في نكاح بنت الاَخ و الاَُخت ، ولا شكّ انّ الفقه المبني على الاَخذ بالعموم والغفلة عن المخصص والمقيّد يخلق فجوة عميقة فيه.
  ومن مبانيه الفقهية أيضاً عدم الاَخذ بخبر الواحد ، يقول المحقّق التستري : وكان لا يعمل إلاّ بالاَخبار المتواترة إلاّ أنّه كالمفيد والمرتضى يدّعي التواتر كثيراً في ما لا تواتر فيه ، كادّعاء الاِجماع في ما لا إجماع فيه. (2)
  5 ـ علي بن أحمد الكوفي (المتوفّـى 352 هـ)
  على بن أحمد ، أبو القاسم الكوفي صنّف كتباً كثيرة ، منها : كتاب ( الفقه ) على ترتيب المزني. (3)
  قال الشيخ الطوسي : علي بن أحمد الكوفي يكنّى أبا القاسم ، كان إماميّاً ، مستقيم الطريقة ، وصنّف كتباً كثيرة سديدة ، منها : كتاب ( الاَوصياء ) وكتاب في الفقه على ترتيب المزني ، ثمّ خلط. (4)

(1) النساء : 24.
(2) التستري : قاموس الرجال :3|198.
(3) رجال النجاشي : برقم 689 ، و المزني تلميذ الشافعي.
(4) فهرست الشيخ : برقم 391.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 234 ـ
  6 ـ علي بن بابويه الصدوق الاَوّل (المتوفّـى 329 هـ)
  عرّفه النجاشي بقوله : ( علي بن بابويه القمّي ، أبو الحسن شيخ القمّيين في عصره ومتقدّمهم ، وفقيههم وثقتهم ، ثمّ ذكر أسماء كتبه التي منها : كتاب ( الشرائع) وهي الرسالة إلى ابنه ) (1) ومن المحتمل جداً انّه نفس كتاب فقه الرضا ، وهو متن فقهي يشتمل على أكثر الاَبواب والمسائل ، وهو كتاب بديع يعرب عن أنّ الموَلف كان خبيراً بالاَخبار ، فقد استخرج الفتاوى منها بعد تخصيص العام بالخاص ، وتقييد المطلق بالمقيد ، إلى غير ذلك من شوَون الجمع بين الروايات والخروج بالفتوى ، مات عام تسع وعشرين وثلاثمائة.
  إنّ علي بن بابويه أوّل من أعدّ متناً فقهياً من متون الروايات بحذف أسانيدها وأسماه بكتاب ( الشرائع ) وقد حذا ولدُه حذوه في تأليف ( المقنع ) (2) يقول في مقدّمة كتابه : إنّي صنّفت كتابي هذا وسمّيته كتاب ( المقنع ) لقنوع من يقرأه بما فيه ، وحذفت الاَسناد فيه لئلاّ يثقل حمله ، ولا يصعب حفظه ، ولا يملَّ قارئه إذ كان ما أبيّنه فيه ، في الكتب الاَُصولية موجوداً مبيناً على المشايخ العلماء الفقهاء ، الثقات. (3)
  لقد عاش شيخنا في العصر العباسي قبل تسلم البويهيّين منصَّة الحكم في العراق سنة 334 هـ ، وقد استوطن قم المحمية التي كانت في أوان عصر الغيبة وعهد نيابة الاَبواب الاَربعة ، مركزاً فقهياً من مراكز البحث الفقهي استقطبت الفقهاء والمحدّثين من بلاد الشيعة.

(1) الرجال : النجاشي :2 ، رقم 682.
(2) البحار :107|30.
(3) الصدوق : المقنع : 5.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 235 ـ
  روى الشيخ الطوسي قال : أنفذ الشيخ حسين بن روح كتاب ( التأديب ) (1) إلى قم ، وكتب إلى جماعة الفقهاء بها ، وقال لهم : انظروا في هذا الكتاب ، وانظروا هل فيه شيء يخالفكم، فكتبوا إليه أنّه كلّه صحيح ، وما فيه شيء يخالف إلاّ قوله في الصاع في الفطرة نصف صاع من طعام ، والطعام عندنا مثل الشعير من كلّ واحد صاع. (2)
  فهذا يعرب عن مكانة قم في عصر النائب الثالث ، المتوفّى عام 326 هـ.
  وكما أنّ الشيخ الحسين بن روح يستمد من علماء قم وفقهائهم ، كذلك يستمد فقهاء تلك البلدة من علوم الشيخ.
  روى الشيخ الطوسي بسنده عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن داود القمّي ، قال : وجدت بخط أحمد بن إبراهيم النوبختي وإملاء أبي القاسم الحسين بن روح رضي اللّه عنه على ظهر كتاب فيه جوابات ومسائل انفذت من قم يسأل عنها هل هي جوابات الفقيه (عليه السّلام) أو جوابات محمد بن علي الشلمغاني ، لاَنّه حكي عنه انّه قال : هذه المسائل أنا أجبت عنها.
  فكتب إليهم على ظهر كتابهم : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، قد وقفنا على هذه الرقعة وما تضمّنته ، فجميعه جوابنا عن المسائل ، ولا مدخل للمخذول الضال المضل المعروف بالعزاقري لعنه اللّه في حروف منه ...(3)
  7 ـ أبو الحسين الناشىَ (271 ـ 366 هـ)
  علي بن عبد اللّه بن وصيف ، من أهل بغداد ، المكنّى بأبي الحسين

(1) كتاب التأديب تأليف نفس الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح. راجع الذريعة :3|210.
(2) الطوسي : الغيبة : 390 ، الحديث 357.
(3) الطوسي : الغيبة :373 برقم 345.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 236 ـ
  الناشىَ ، كان متكلماً شاعراً مجوداً ، و له كتب ، وكان يتكلم على مذهب أهل الظاهر في الفقه أخبرنا عنه الشيخ المفيد (رحمه الله). (1)
  وقال محقق فهرس الشيخ الطوسي : قصد سيف الدولة وأهداه شعره في مسجد الكوفة ، فحضر مجلسه المتنبي وهو صغير ، ولد سنة 271 وتوفي ببغداد سنة 366.
  وقال الاَفندي التبريزي : هو الشيخ أبو الحسن علي بن عبد اللّه بن وصيف الناشىَ الاَصغر الحلاّء المتكلّم البغدادي ، الفاضل العالم الكامل الشاعر الاَديب ، من مشايخ الشيخ المفيد ، كما هو الظاهر من عبارة الفهرست.
  ولعلّ النمط الذي اختاره في الفقه هو تجريد النصوص عن الاَسانيد ، وعدم الخروج عن حرفيتها في ضمن عدم الاعتقاد بالقواعد العقلية.
  8 ـ محمد بن أحمد بن الجنيد (المتوفّى 381 هـ)
  محمد بن أحمد بن الجنيد ، أبو علي الكاتب الاسكافي ، قال النجاشي : وجه في أصحابنا ، ثقة ، جليل القدر ، صنّف فأكثر ، وسمعت بعض شيوخنا يذكر انّه كان عنده مال للصاحب (عليه السّلام) وسيف أيضاً، ثمّ ذكر فهرست كتبه ، منها : ( تهذيب الشيعة لاَحكام الشريعة). (2)
  قال الشيخ الطوسي : كان جيد التصنيف حَسَناً ، إلاّ أنّه كان يرى القول بالقياس ، فتركت لذلك كتبه ولم يعوَّل عليها ، وله كتب كثيرة ، منها : كتاب ( تهذيب الشيعة لاَحكام الشريعة ) كبير نحو من عشرين مجلداً ، يشتمل على

(1) الطوسي : الفهرست ، برقم 385 ، وله ترجمة في وفيات الاَعيان :3|369 ، وفي الرياض : 4|137.
(2) النجاشي : الرجال : برقم 1048.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 237 ـ
  عدد كتب الفقه على طريق الفقهاء ، وكتاب ( المختصر الاَحمدي للفقه المحمدي ) في الفقه مجرّداً ، ثمّ ذكر أسماء بقية كتبه. (1)
  ويظهر من الشيخ انّ التهذيب كان كتاباً استدلالياً ، والمختصر الاَحمدي يتضمن فتاواه.
  وقال العلاّمة بحر العلوم في ( الفوائد الرجالية ) : أبوعلي الكاتب الاسكافي من أعيان الطائفة ، وأعاظم الفرقة ، وأفاضل قدماء الاِمامية ، وأكثرهم علماً وفقهاً وأدباً ، وأكثرهم تصنيفاً ، وأحسنهم تحريراً ، وأدقّهم نظراً ، متكلم فقيه ، محدّث ، أديب ، واسع العلم ، صنّف في الفقه والكلام والاَُصول والاَدب والكتابة وغيرها ، تبلغ مصنّفاته عدا أجوبة مسائله نحواً من خمسين كتاباً ، ثمّ ذكر كتبه. (2)
  وقد أطراه العلاّمة في ( خلاصته ). (3)
  أقول : إنّ القياس على أقسام أربعة :
  1 ـ العمل به فيما إذا كانت العلّة منصوصة ، كما إذا قال : لا تشرب الخمر ، لاَنّه مسكر.
  2 ـ قياس الاَولوية ، وهو قياس الاَقوى غير المنصوص على الاَضعف المنصوص ، كما إذا قال : لا تأكل ذبيحة أهل الكتاب ، فيعلم منه حرمة أكل ذبيحة المشرك بوجه أولى.
  3 ـ المناط القطعي فيما إذا وقف المجتهد على وجه القطع واليقين انّ مناط الحكم هو هذا ، كما إذا قال : لا تأكل ذبيحة اليهودي ووقف على انّ المناط كونه

(1) الطوسي : الفهرست : برقم 602.
(2) بحر العلوم : القواعد الرجالية :2|205.
(3) خلاصة الرجال :145.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 238 ـ
  كافراً فيقيس عليه ذبيحة النصراني، فالعمل بالقياس في هذه الصور الثلاث جائز ، وإن كان الخوض في تحصيل مناطات الاَحكام أمراً محظوراً.
  4 ـ المناط الظني وتحصيله بالوجوه والاعتبارات وهذا النوع من القياس الناتج عن التخرصات الظنية من غير حصول القطع هو الممنوع.
  ولم يعلم أنّ ابن الجنيد قد عمل بالقياس في القسم الاَخير ، ولعلّ عمله كان في الاَقسام الثلاثة الاَُول.
  وهناك احتمال آخر وهو أن يكون عمله لاَجل الاستدلال بالقياس على المخالف.
  وعلى كلّ تقدير فالاِطراء الذي يذكره العلاّمة عن صفي الدين محمد بن معد ، وما يذكره هو نفسه يعرب عن كونه على جلالة في الفقه.
  قال العلاّمة : وجدت بخط السعيد صفي الدين محمد بن معد ما صورته : وقع إليّ من هذا الكتاب مجلد واحد ، وقد ذهب من أوّله أوراق ، تصفّحته ولمحت مضمونه ، فلم أر لاَحد من الطائفة كتاباً أجود منه ، ولا أبلغ ، ولا أحسن عبارة ، ولا أدق معنى ، وقد استعرض فيه الفروع والاَُصول ، وذكر الخلاف في المسائل واستدل بطريق الاِمامية وطريق مخالفيهم ، (1) وهذا الكتاب إذا أُمعن النظر فيه ، وحصلت معانيه ، وأُديمت الاِطالة فيه ، علم قدره وموقعه ، وحصل به نفع كثير لا يحصل من غيره.
  وقال العلاّمة : وأقول قد وقع إليّ من كتب هذا الشيخ المعظّم الشأن كتاب ( الاَحمدي في الفقه المحمدي ) وهو كتاب جيد ، يدل على فضل هذا الرجل

(1) وهذا يعرب عن أنّ الاستدلال بالقياس ونحوه لاَجل إقناع المخالف.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 239 ـ
  وكماله وبلوغه الغاية القصوى في الفقه وجودة نظره ، وأنا ذكرت خلافه وأقواله في كتاب ( مختلف الشيعة في أحكام الشريعة ). (1)
  وقد اعتنى بأقواله وفتاويه كثير من المحقّقين ، كالسيد المرتضى ، وابن إدريس في ( السرائر ) و المحقّق الحلّـي في ( المعتبر ) ، والشهيدين ، والسيوري ، وابن فهد ، والصيمري ، والمحقّق الكركي ، وغيرهم وكلّ ذلك يجلب الاعتماد إلى الموَلِّف والموَلَّف.
  هذا ما يمكن الدفاع عن الرجل ومنهجه وكتبه ، ولكن هناك ما يصدّنا عن التصديق ببعض ما ذكرنا ، فإنّ مسلك الرجل لم يكن مورد الرضا لاَعلام الاَُمّة ، كالمرتضى والمفيد الذي أفرد على نقد مسلكه رسالتين ذكرهما النجاشي عند ترجمة المفيد.
  1 ـ نقض رسالة الجنيدي إلى أهل مصر.
  2 ـ النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي. (2)
  ولم يصل إلينا شيء من تينك الرسالتين.
  كما انّه ردّ عليه في ثنايا كتابيه ( المسائل الصاغانية ) و ( المسائل السروية ) المطبوعتين ، فقال في المسائل الصاغانية : (3)
  قال هذا الشيخ الجاهل (يريد الشيخ الحنفي المتحامل على الشيعة) : قد

(1) بحر العلوم : الفوائد الرجالية :3|209ـ210 ، نقلاً عن إيضاح الاشتباه للعلاّمة الحلّي.
(2) النجاشي : الرجال : برقم 1048.
(3) هذا الكتاب جملة مسائل وردت على شيخنا المفيد ، وهي عشر مسائل من مختلف أبواب الفقه شنّع بها فقيه حنفي على الشيعة الاِمامية ، وادّعى انّهم خارجون بها عن الاِيمان ، مخالفون لنصوص القرآن، فأجاب عنها الشيخ المفيد وسمّـاها بالمسائل الصاغانيّة.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 240 ـ
  وصل إلى نيسابور في سنة 340 هـ (1) رجل من هوَلاء الرافضة يعرف بالجنيدي يدّعي معرفة بفقههم ويتصنّع بالنفاق لهم ... ثمّ إنّ الشيخ المفيد بعد كلام طويل ردّ به على الفقيه الحنفي ، قال في حقّ ابن الجنيد ما يلي : فأمّا شهادتك بجهل الجنيدي فقد أسرفت بما قلت في معناه وزدت في الاِسراف ولم يكن كذلك في النقصان ، وإن كان عندنا غير سديد فيما يتحلّى به من الفقه ومعرفة الآثار ، لكنّه مع ذلك أمثل من جمهور أئمتك ، وأقرب منهم إلى الفطنة والذكاء.
  فأمّا قوله بالقياس في الاَحكام الشرعية واختياره مذاهب لاَبي حنيفة وغيره من فقهاء العامة لم يأت بها أثر عن الصادقين (عليهم السلام) ، فقد كنّا ننكره عليه غاية الاِنكار ، ولذلك أهمل جماعة من أصحابنا أمره واطَّرحوه ، ولم يلتفت أحد منهم إلى مصنّف له ولا كلام. (2)
  وقال في المسائل السروية :وأجبت عن المسائل التي كان ابن الجنيد جمعها وكتبها إلى أهل مصر ، ولقبها بـ ( المسائل المصرية ) وجعل الاَخبار فيها أبواباً ، وظنّ أنّها مختلفة في معانيها ، ونسب ذلك إلى قول الاَئمّة (عليهم السلام) فيها ، بالرأي.
  وأبطلت ما ظنّه في ذلك وتخيّله ، وجمعت بين جميع معانيها ، حتى لم يحصل فيها اختلاف ، فمن ظفر بهذه الاَجوبة وتأمّلها بإنصاف ، وفكر فيها فكراً شافياً ، سهل عليه معرفة الحقّفي جميع من يظن انّه مختلف ، و يتيقن ذلك ممّا يختص بالاَخبار المروية عن أئمّتنا (عليهم السلام) . (3)
  فهذه النصوص من الشيخ المفيد توقفنا على أنّ ابن الجنيد كان متأثراً

(1) هذا يعرب عن أنّ ابن الجنيد كان في تلك السنة في نيسابور.
(2) المفيد : المسائل الصاغانية :56ـ 59 ، في ذيل المسألة الاَُولى ، ولاحظ أيضاً ص 61 ، ولاحظ من الطبعة القديمة ص 249ـ250.
(3) المفيد : المسائل السروية :75ـ 76 ، الطبعة الحديثة.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 241 ـ
  بالاَساليب الفقهية للعامة.
  ثمّ الاَعجب من العمل بالقياس هو جعل سبب الاختلاف في الاَخبار المروية عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) هو إفتاء الاَئمّة بالرأي كما هو صريح كلام الشيخ المفيد ، أعني قوله : ( وظنّ أنّها مختلفة في معانيها ، ونسب ذلك إلى قول الاَئمّة (عليهم السلام) فيها بالرأي ).
  ثمّ إنّالسيد بحر العلوم اعتذر عن زلّته بعدم بلوغ الاَمر فيه إلى حد الضرورة ، فإنّ المسائل قد تختلف وضوحاً وخفاء باختلاف الاَزمنة والاَوقات ، فكم من أمر جلي ظاهر عند القدماء قد اعتراه الخفاء في زماننا ، لبعد العهد وضياع الاَدلّة ؟ وكم من شيء خفي في ذلك الزمان قد اكتسى ثوب الوضوح والجلاء باجتماع الاَدلّة المنتشرة في الصدر الاَوّل ، أو تجدّد الاِجماع عليه في الزمان المتأخر ، ولعلّ أمر القياس من هذا القبيل ؟ (1) وقال النجاشي : توفي ابن الجنيد بالري سنة 381 هـ ، وقد اتّفق موته وموت الصدوق الثاني في سنة واحدة ، ويظهر من رسالة الشيخ الحنفي انّه زار نيسابور عام 340 هـ كما مرّ .
  9 ـ محمد بن مسعود العياشي ( المتوفّى نحو 320 هـ)
  محمد بن مسعود بن محمد بن عياش السلميّ السمرقندي ، أبو النضر المعروف بـ ( العياش ).
  قال النجاشي : ثقة ، صدوق ، عين من عيون هذه الطائفة ، وكان يروي عن

(1) بحر العلوم : الرجال : 3|215.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 242 ـ
  الضعفاء كثيراً ، وكان في أوّل أمره عامّي المذهب ، وسمع حديث العامة فأكثر منه ، ثمّ تبصّر وعاد إلينا ، سمع أصحاب الحسن بن علي بن فضّال وعبد اللّه بن محمد ابن خالد الطيالسي وجماعة من شيوخ الكوفيّين والبغداديّين والقمّيين.
  قال أبو جعفر الزاهد (أحمد بن عيسى بن جعفر العلوي العمري وكان من أصحاب العياشي) : أنفق أبو النضر على العلم والحديث تركة أبيه سائرها وكانت ثلاثمائة ألف دينار ، وكانت داره كالمسجد بين ناسخ أو مقابل أو قارىَ أو معلّق مملوءة من الناس ، ثمّ ذكر أسماء كتبه في مختلف المجالات وفي الفقه كثيراً. (1)
  وعرّفه الشيخ الطوسي بقوله : محمد بن مسعود العياشي من أهل سمرقند ، وقيل انّه من بني تميم ، يكنّى أبا النضر ، جليل القدر ، واسع الاَخبار ، بصير بالروايات مطّلع عليها ، له كتب كثيرة تزيد على مائتي مصنّف ذكر فهرست كتبه التي ذكرها ابن إسحاق النديم. (2)
  أقول : لعب الزمان بعامة ما كتبه إلاّتفسيره المعــروف بـ ( تفسير العياشي ) يشتمل المطبوع منه على تفسير القرآن من أوّله إلى آخر سورة الكهف ولم يطبع الجزء الثاني ، ومع ذلك فقد أُصيب الموجود منه بأضرار كبيرة ، وذلك لاَنّ جلّ رواياته كانت مسندة ، فاختصرها بعض النساخ بحذف الاَسانيد.
  10 ـ جعفر بن محمد بن قولويه القمي (المتوفّى 367 هـ)
  جعفر بن قولويه القمي من مشايخ الاِمامية وأعيانها ، قال النجاشي : أبو القاسم من خيار أصحاب سعد ، وكان من ثقات أصحابنا وأجلاّئهم في الحديث والفقه ، روى عن : أبيه وأخيه عن سعد ، وعليه قرأ شيخنا أبو عبد اللّه (المفيد)

(1) النجاشي : الرجال : برقم 945.
(2) الطوسي : الفهرست : 163 ، برقم 605.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 243 ـ
  الفقه ، ومنه حمل ، وكلّ ما يوصف به الناس من جميل وفقه فهو فوقه ، ثمّذكر أسماء كتبه ، وقال : قرأت أكثر هذه الكتب على شيخنا أبي عبد اللّه المفيد(رحمه الله) وعلى الحسين ابن عبيد اللّه (رحمه الله). (1)
  وكفى في فضله انّ شيخنا المفيد من تلامذته وخريجي مدرسته في الفقه ، وقد وصفه النجاشي بما لم يصف به أحداً في رجاله.
  يقول الشيخ الطوسي : جعفر بن محمد بن قولويه القمّي يكنّى (أبا القاسم) ثقة ، له تصانيف كثيرة على عدد أبواب الفقه. (2)
  ويتبادر من تعبير الشيخ انّتصانيفه كانت إمّا بتجريد المتون عن الاَُصول كما هو الرائج في تلك الاَزمنة ، أو صب الفقه في قوالب خاصة.
  وعلى أية حال فهو من الفقهاء العظام ممّن كان لهم دور عظيم في منهجة الفقه ، كيف وهو ممّن ألّف كتباً كثيرة على عدد أبواب الفقه كما صرّح به الشيخ في ( الفهرست) ؟ !
  وترجمه الشيخ في ( رجاله ) في باب من لم يرو عنهم (عليهم السلام) برقم 5 ، فلاحظ .
  وفي خلاصة العلاّمة انّ وفاته كانت في سنة 369 هـ ، وفي ( الفهرست ) : 368 هـ ، ولعلّ الاَوّل أقرب . (3)
  ويظهر من اتصاله بابن أبي عقيل نزيل عمان انّه كان على اتصالات وثيقة مع مراكز العلم والفتيا آنذاك .
  وقد قصد الحج ووصل بغداد عام 337 هـ في السنة التي ردّ القرامطة فيها الحجر إلى مكانه من البيت . (4)

(1) النجاشي : الرجال : برقم 316 .
(2) الطوسي : الفهرست : برقم 141 .
(3) لاحظ المستدرك للعلاّمة النوري : 3|524 ، الفائدة الثالثة .
(4) لاحظ المستدرك للعلاّمة النوري : 3|524 ، الفائدة الثالثة .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ244 ـ
  11 ـ محمد بن علي بن الحسين الصدوق (306 ـ 381 هـ)
  رئيس المحدّثين على الاِطلاق ، وفقيه الاِمامية ووجههم ، وصدوق الطائفة ، المولود بدعوة صاحب الاَمر ، المخصوص بحقّ رعايته وألطافه ، الشيخ الفقيه المحدّث أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي ، ولد في محتد طيب وبلدة عريقة أي مدينة قم ، وتربّى في بيت رفيع عرف بالصلاح والعلم وزعامة الدين ، وقد تتلمذ على أبيه وتخرّج على يديه ، ثمّ هاجر من قم واختلف إلى حواضر العلم لتبادل السماع والاسماع مع المحدّثين وأئمّة العلم .
  قال النجاشي بعد ذكر اسمه : أبو جعفر ، نزيل الري ، شيخنا وفقيهنا ، ووجه الطائفة بخراسان ، وكان ورد بغداد سنة 355 هـ ، وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن ، ثمّ ذكر أسماء كتبه وذكر أنّه ينقل كتب الصدوق عن طريق والده وهو علي بن أحمد بن العباس النجاشي ، وهو الواسطة الوحيدة بينه وبين الصدوق ، فإنّ الوالد قد تتلمذ على الصدوق وسمع كتبه ، ومات الصدوق بالري سنة (381 هـ) . (1)
  ويقول شيخ الطائفة في ( رجاله ) : جليل القدر ، حفظة ، بصير بالفقه والاَخبار والرجال ، له مصنّفات كثيرة . (2)
  وقال في ( فهرسته ) : محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي ، يكنّى أبا جعفر ، كان جليلاً ، حافظاً للاَحاديث ، بصيراً بالرجال ، ناقداً للاَخبار ، لم ير في القمّيين مثله في حفظه وكثرة علمه ، له نحو من ثلاثمائة مصنّف وفهرست كتبه معروف . (3)
  ثمّ ذكر أسماء كتبه .

(1) النجاشي : الرجال : 311 ، برقم 1050 .
(2) الطوسي : الرجال : 495 ، برقم 25 ، في باب ( من لم يرو عن الاَئمّة ) .
(3) الطوسي : الفهرست : 184 ، برقم 709 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ245 ـ
  قال الخطيب البغدادي : كان من شيوخ الشيعة ومشهوري الرافضة ، حدّثنا عنه محمد بن طلحة النعالي . (1)
  وقال الذهبي : رئيس الاِمامية ، أبو جعفر محمد بن العلاّمة علي بن الحسين ابن موسى بن بابويه القمّي ، صاحب التصانيف السائرة بين الرافضة ، يضرب في حفظه المثل ، يقال له (300) مصنف . (2)
  وكفى في جلالته انّه تخرّج عليه شيخنا المفيد ، قال ابن إدريس : كان ثقة ، جليل القدر ، بصيراً بالاَخبار ، ناقداً للآثار ، عالماً بالرجال ، حفظة ، وهو أُستاذ شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان . (3)
  وقد سبق منّا ذكر أسماء مشايخه وتلامذته .
  يظهر من التدبّر في الكتب الفقهية الموَلّفة في القرن الرابع أنّه كانت الفتاوى في ذلك العصر تستعرض على نحوين .
  أحدهما : ما كان عليه الصدوق ووالده وغيرهم من الاِفتاء بنصوص الروايات تقريباً ، مع تجريدها عن الاَسانيد ، وعلى ذلك ألّف الوالد كتاب ( الشرائع ) الذي هو الكتاب المعروف بـ ( فقه الرضا ) في هذه الاَيام ، وألّف الولد كتاب ( الهداية ) و ( المقنع ) ، فهما ومن تبعهما كانوا مجتهدين مستنبطين يستعملون النظر في استنباط الاَحكام بتميز الصحيح عن غيره بعد تقييد المطلق بقيده وتخصيص العام بخاصه دون الخروج عن النصوص الواردة في السنّة ، وقد دام هذا النمط من الاجتهاد بعد مضيهما وألّف الشيخ الطوسي ( النهاية ) على غرار ذلك النمط .

(1) الخطيب : تاريخ بغداد :3|89 .
(2) الذهبي : سير أعلام النبلاء : 16|303 .
(3) ابن إدريس : السرائر : 2|529 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 246 ـ
  ويظهر من مقدّمة المبسوط انّ هذا النمط كان أكثر رواجاً في القرن الرابع .(1)
  والثاني : استنباط الاَحكام من الكتاب والسنّة والقواعد العقلية التي دلّ عليها العقل الصريح وطبيعة ذلك الاجتهاد هو الخروج عن دائرة النصوص ، وعلى ذلك جرى ابن أبي عقيل في كتابه ( المتمسك بحبل آل الرسول ) ، وابن الجنيد في ( تهذيبه ) ، والمرتضى في ( انتصاره ) ، و الشيخ في ( مبسوطه ) .
  قد مضى أنّ النمطين كانا موروثين من فقهاء عصر الحضور ، فقد عرفت أنّ زرارة ويونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان كانوا مستنبطين ومفتين لا بلفظ النصوص بل كانوا يصبّون ما استنبطوه من الاَدلّة في قالب التعبير .
  وبذلك نقف على أنّ الدور الثاني كان امتداداً للدور الاَوّل بإضافة المنهجية في مجالي الحديث والاجتهاد ، فظاهرة الاجتهاد بمعناه الحقيقي كانت سائدة في الدور الاَوّل ، ولكنّها ارتقت وتكاملت عبر الدور الثاني بكلا النمطين : الاِفتاء بلفظ النصوص وهو الذي كان سيدنا البروجردي يعبّر عنه بالفقه المتلقّى عن أئمّة أهل البيت والاَولى التعبير عنه بالفقه المنصوص ، والفقه الخارج عن نطاق النصوص معتمداً على الاَدلّة الشرعية .
  12 ـ محمد بن محمد بن النعمان المفيد (336 ـ 413 هـ)
  لا عتب على اليراع إذا وقف عاجزاً أمام تحديد معالم شخصية إسلامية فذّة كشخصية الشيخ المفيد ، فهو كالنجم اللامع في سماء العلم والحديث ، وكقطب الرحى لكافة الفضائل الاِنسانية ، فقد آلت إليه زعامة الشيعة في بغداد أواخر القرن الرابع التي كانت تعجّ بالتيارات الفكرية المختلفة ، فمن سلفي لا همّ

(1) الطوسي : المبسوط :12|1 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ247 ـ
  له سوى أخذ الحديث وجمعه من كلّ من هبّ و دب ، إلى معتزلي لا يقيم للسنّة وزناً ويعتمد على العقل في كافة المجالات ، إلى أشعري يحاول صياغة السلفية بأُطر عقلية ، إلى زيدي يقتفي إثر المعتزلة في الاَُصول ، و الحنفية في الفروع ، إلى غير ذلك من التيارات الفكرية التي كانت رائجة في تلك الاَزمنة . التي حاولت القضاء على الفكر الشيعي الاِمامي .
  فوسط هذا العجاج بزغ نجم شيخنا المفيد (رحمه الله) فقام خير قيام بتثبيت الهوية الفكرية الشيعية ، وتصدّى للمخالفين خصوصاً من يتّهمون المذهب الاِمامي بأقاويل فاسدة وينسبون إليه آراءً زائغة قصداً للتشنيع والتنكيل ، كالقول بالجبر والتشبيه والتجسيم التي هي على جانب النقيض من عقائد الشيعة .
  وقد كان ليراعه وبيانه أثر بالغ في إخضاع المخالف للعقيدة الحقّة وتبكيته على وجه اعترف به الموافق والمخالف ، فهذا هو اليافعي يعرّفه في ( تاريخه ) في حوادث سنة 413 هـ بقوله :
  توفي فيه عالم الشيعة وعالم الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة ، شيخهم المعروف بالمفيد وبابن المعلم أيضاً البارع في الكلام والجدل والفقه ، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية .
  قال ابن أبي طي : وكان كثير الصدقات ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة والصوم ، خشن اللباس .
  وقال غيره : كان عضد الدولة ربما زار الشيخ المفيد وكان ربعة نحيفاً أسمر ، عاش ستاً وسبعين سنة ، وله أكثر من مائتي مصنّف ، وكانت جنازته مشهودة ، وشيّعه ثمانون ألفاً من الرافضة والشيعة ، وأراح اللّه منه ، وكان موته في رمضان . (1)

(1) اليافعي : التاريخ :3|28 ، طبعة 1338هـ .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ248 ـ
  أقول : إنّ كلام اليافعي خير شاهد على جلالة الشيخ ، ووفور علمه ، وعظمة منزلته عند الموافق والمخالف وإنّه ببيانه و بيراعه ضيّق الخناق على أعدائه حتى تُلقّيتْ وفاته بالراحة لهم .
  وقال ابن كثير : المفيد شيخ الاِمامية الروافض ، والمصنّف لهم ، والمحامي عن حوزتهم ، كانت له وجاهة عند ملوك الاَطراف لميل كثير من أهل ذلك الزمان إلى التشيّع . (1)
  وكم للموافق والمخالف من جمل درّية في حقّ شيخنا المفيد ، فلنذكر كلمتين من تلميذيه(وكم له من تلامذة برعوا في مجالات شتّى) .
  يقول النجـاشي ـ بعدمـا يسوق نسبـه إلى يعرب بن قحطان ـ : شيخنــا وأُستاذنا رضي اللّه عنه ، فضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة والعلم ، ثمّ ذكر أسماء كتبه الهائلة وقال : مات (رحمه الله) ليلة الجمعة لثلاث ليال خلون من شهر رمضان سنة 413 هـ ، وكان مولده يوم الحادي عشر من ذي القعدة سنة 336 هـ ، وصلّى عليه الشريف المرتضى بميدان الاشنان وضاق على الناس مع كبره ،ودفن في داره سنين ،ونقل إلى مقابر قريش بالقرب من السيد أبي جعفر (عليه السّلام) .(2)
  وقال تلميذه الآخر الشيخ الطوسي : من أجلّة متكلّمي الاِمامية ، انتهت إليه رئاسة الاِمامية في وقته ، وكان مقدّماً في العلم وصناعة الكلام ، وكان فقيهاً متقدماً فيه ، حسن الخاطر ، دقيق الفطنة ، حاضر الجواب ، وله قريب من مائتي مصنّف كبار وصغار ، وكان يوم وفاته يوماً لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة البكاء من المخالف و الموالف . (3)

(1) ابن كثير : البداية والنهاية :12|15 .
(2) النجاشي : الرجال : برقم 1068 .
(3) الطوسي : الفهرست : برقم 710 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 249 ـ
( المقنعة ) أثره الخالد في الفقه
  لقد ترك شيخنا المفيد تراثاً فقهياً حيث انتهج منهجاً وسطاً بين الجمود على النصوص والتوسّع في التفريعات المستمدة من القياس والاستحسان ، وكتابه المقنعة قد سبك على هذا السبك ، فليس كتابه متناً حديثياً فقهياً محضاً لا يخرج عن حيطة الروايات ، ولا كتاباً تفريعياً تخريجياً يتوسّع في الاستدلال ، ويحتوي كتابه على أبواب الفقه جميعاً ، وأنت إذا قارنت بين هذا الكتاب وما ألّفه أُستاذه قبله كالمقنع للصدوق وما نقل عن القديمين (ابن أبي عقيل وابن الجنيد) من الفتاوى لوجدته كتاباً متوسطاً بينهما.
  إنّ شيخنا المفيد بتأليفه هذا الكتاب وغيره أضفى للفقه الاِمامي ثوباً جديداً ، فأخرج الفقه من حصار الوقوف على النصوص كما كان عليه الصدوقان كما حدّده بقواعد لها رصيد في الكتاب والسنّة ، من دون أن يتعبّد بما لم ينزل بها من سلطان كالقياس والاستحسان ، وكأنّه تبع نهج ابن أبي عقيل الذي كان يثني عليه ويطريه ثناءً على شخصيته ومنهج فقهه ، فما هوالمعروف انّ المقنعة فقه منصوص فليس على صواب.
  نعم ليس هو كتاباً تفريعياً تخريجياً كالمبسوط وغيره.
  وأمّا سائر موَلّفاته الفقهية فقد ذكر أسماءها تلميذه النجاشي في ( رجاله ) ، فلاحظ. (1)

(1) النجاشي : الرجال : برقم 1068.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 250 ـ
البصمات التي تركها المفيد على الفقه الاِمامي
  1 ـ نحل الشيخ المفيد للفقه الاِمامي منهجية موضوعية بعيدة عن الجمود والتزمّت الذي كان عليه المحدّثون ، وعن الاَساليب التي كانت على الخلاف من أُصول أئمّة أهل البيت كالعمل بالقياس والاستحسان وغيرهما ، ففي هذا الجو المشحون بالتفريط والاِفراط أخذ الشيخ بزمام الفقه ونفض عنه غبار الجمود وجعله في منحى التكامل والازدهار.
  فبينما تجد أنّه كان يندّد بكل محدث لا يأبى بما أخذ وعمّن أخذ ويعمل بخبر الواحد دون اكتراث في جميع المجالات ، كان يندّد أيضاً بمن حاول تبسيط الفقه وفق القياس والاستحسان ، و أثبت بذلك الهوية الفكرية والفقهية للشيعة الاِمامية وحدّد معالمها بعدما تعرّض الفقه لمنعطفات حرجة كادت تقوِّض كيانه.
  وقد كان شيخنا الوالد الشيخ محمد حسين السبحاني (1299 ـ 1392 هـ) يحكي عن أُستاذه شيخ الشريعة الاصف هـاني (1266 ـ 1339 هـ) أنّه قال : إنّ لبعض الفقهاء حقاً عظيماً في تثبيت الهوية الفكرية للشيعة في سالف الزمان ، منهم : الشيخ المفيد فقد جعل الفقه ينحو منهج أهل البيت (عليهم السلام) صائناً له عن التحريف والاِضلال.
  2 ـ انّ لاَكثر فقهائنا مع تثبتهم في الفقه فتاوى شاذة تخالف فتاوى مشاهير الفقهاء ، ولكن شيخنا المفيد في منأى عن هذه الوصمة ، فمع أنّه تتلمذ على أيدي أهل القياس والاستحسان ، ولكنّه لم يتأثر بأفكارهم قيد أنملة ، وقد أبعد القياس والاستحسان والاستصلاح عن فقهه.
  3 ـ يعد الشيخ المفيد أوّل من صنّف كتاباً جامعاً في أُصول الفقه مشتملاً على جميع الاَبواب ، فإنّ من تقدّمه من العلماء ألّفوا رسائل خاصة في بعض