عزّوجلّ : ( وَلَقَدْخَلَقْنَا الاِِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ) ففي النطفة دية ، ( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ) ففي العلقة دية ،( فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً ) و فيها دية ، ( فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظاماً ) وفيها دية ، (فَكَسَونَا الْعِظامَ لَحْماً) وفيه دية أُخرى ، ( ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) (1) وفيه دية أُخرى ، فهذا ذكر آخر المخلوق. (2)
   هـ ـ فتاوى الفضل بن شاذان ( المتوفّى 260 هـ)
  إنّ الفضل بن شاذان أحد أصحابنا الفقهاء والمتكلّمين ، يصفه النجاشي بقوله : وله جلالة في هذه الطائفة ، وهو في قدره أشهر من أن نصفه ، وكان أبوه من أصحاب يونس ، فلو تبع الفضل بن شاذان الخط الموروث في يونس لما كان به عجب ، وقد جاء قسم من فتاواه في كتابه المطبوع باسم ( الاِيضاح ) وها نحن نستعرض بعض فتاواه التي نقلها الكليني في ( الكافي ) :
  قال الفضل بن شاذان :لو انّ رجلاً ضرب ابنه غير مسرف في ذلك يريد تأديبه ، فقُتل الابن من ذلك الضرب ورثه الاَب ولم تلزمه الكفّارة ، لاَنّ ذلك للاَب ، لاَنّه مأمور بتأديب ولده ، لاَنّه في ذلك بمنزلة الاِمام يقيم حدّاً على رجل فمات ، فلا دية عليه ولا يسمّى الاِمام قاتلاً، وإن ضربه ضرباً مسرفاً لم يرثه الاَب ، فإن كان بالابن جرح أو خراج ، فبطّه الاَب ، فمات من ذلك ، فإنّ هذا ليس بقاتل ولا كفّارة عليه ، وهو يرثه ، لاَنّ هذا بمنزلة الاَدب والاستصلاح والحاجة من الولد إلى ذلك وإلى شبهه من المعالجات.
  ولو أنّ رجلاً كان راكباً على دابة ، فأوطأت الدابة أباه أو أخاه ، فمات لم


(1) الموَمنون :12 ـ 14.
(2) الكافي : 7|83 ، 84 ، ولاحظ أيضاً ص115 ، 116ـ121 ، 125.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 202 ـ
  يرثه ، ولو كان يسوق الدابة أو يقودها ، فوطئت الدابة أباه أو أخاه فمات ، ورثه وكانت الدية على عاقلته لغيره من الورثة ، ولم تلزمه الكفارة.
  ولو انّه حفر بئراً في غير حقّه أو أخرج كنيفاً أو ظلّة ، فأصاب شيء منها وارثاًله فقتله لم تلزمه الكفارة ، وكانت الدية على العاقلة وورثه ، لاَنّ هذا ليس بقاتل ، ألا ترى أنّه لو كان فعل ذلك في حقّه لم يكن بقاتل ولا وجب في ذلك دية ولا كفارة ، فإخراجه ذلك الشيء في غير حقّه ليس هو بقتل ، لاَنّ ذلك بعينه يكون في حقّه فلا يكون قتلاً ، و إنّما أُلزم الدية في ذلك إذا كان في غير حقّه احتياطاً للدماء ، ولئلاّ يبطل دم امرىَ مسلم ، وكيلا يتعدّى الناس حقوقهم إلى ما لا حقّ لهم فيه ، وكذلك الصبي و المجنون لو قتلا لورثا ، وكانت الدية على العاقلة ، والقاتل يحجب وإن لم يرث.
  قال : ولا يرث القاتل من المال شيئاً، لاَنّه إن قتل عمداً ، فقد أجمعوا انّه لا يرث، وإن قتل خطاءً ، فكيف يرث وهو تُوَخذ منه الدية ؟ وإنّما منع القاتل من الميراث احتياطاً لدماء المسلمين ، كيلا يقتل أهل الميراث بعضهم بعضاً طمعاً في المواريث . (1)
  هذه نماذج من فقهاء أصحاب الاَئمّة (عليهم السلام) ، ونماذج من فتاواهم ، وكم لهم من نظير كجميل بن درّاج وابن أبي عمير ، اللّذين نقلت فتاواهم في ثنايا الاَحاديث المروية في الكتب الاَربعة ورجال الكشي .
  إنّ اجتهاد هوَلاء كان يدور حول استخراج الفروع من النصوص والاَُصول الكلّية بعد تخصيص العام بخاصّه ، والمطلق بمقيّده ، وتمييز الصحيح عن السقيم دون أن يتجاوزوا تلك القواعد والنصوص الكلية ، وأمّا الاجتهاد في الدور الثاني

(1) الكافي :7|142، ولاحظ أيضاً : 88 ، 90ـ95 ، 96ـ 98 ، 99ـ 105 ، 108ـ 116 ، 118ـ 120 ، 121 ، 142ـ 145 ، 146ـ 148 ، 149ـ 161ـ 162 ، 166 ـ 168 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 203 ـ
  ـ الآتي ـ فقـد اتخـذ لنفسـه منهجـاً خاصــاً ميّزه عن الدور الاَوّل ألا و هـو الاستفادة في بعض الاَحيان من القواعد العقلية بغية الاِجابة على المستجدات .
  نعم بذرت بذرة الاجتهاد في الدور الاَوّل على يد هوَلاء الاَعاظم من أصحاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ونمت وتعالت حسب الاِمكانات والظروف المتاحة على مرِّ العصور .

المراكز الفقهية التي ازدهرت في هذا الدور
  الاِسلام دين العلم والمعرفة ، رفع الاِنسان من حضيض الجهل والاَُميّة إلى أعلى مستويات العلم والكمال من خلال تشجيعه للقراءة والكتابة والتدبر في آثار الكون ومظاهر الطبيعة ، ونبذ التقليد في العقيدة ، فأراد للاِنسان حياة كريمة نابضة بالفكر والثقافة .
  وقد كانت للشيعة مراكز علمية مهمة خلال القرون الماضية ، نشير في كلّ دور إلى أبرزها ، ففي هذا الدور نشأت الجامعات التالية :
  1 ـ جامعة المدينة المنورة .
  2 ـ جامعة الكوفة وجامعها الكبير .
  3 ـ جامعة قم والري .
  وإليك لمحة خاطفة عن تلك الجامعات :
  1 ـ المدينة المنوّرة
  إنّ المدينة المنورة هي المنطلق العلمي الاَوّل ، نشأ فيها عدّة من الاَعلام من شيعة أمير الموَمنين (عليه السّلام) ، وعلى رأسهم ابن عباس حبر الاَُمّة ، وسلمان

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 204 ـ
  الفارسي ، وأبوذر الغفاري ، وأبو رافع ، الذي هو من خيار شيعة الاِمام علي ، موَلّف كتاب السنن والاَحكام والقضاء ، (1) وغيرهم .
  ثمّ أعقبتهم طبقة من التابعين ، تخرّجوا من تلك المدرسة على يد الاِمام علي ابن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) ولقد روى الكليني عن الاِمام الصادق (عليه السّلام) أنّه قال : ( كان سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر وأبو خالد الكابلي من ثقات علي بن الحسين (عليهما السلام) . (2) وازدهرت تلك المدرسة في عصر الاِمامين الصادق والباقر (عليهما السلام) ، وزخرت بطلاب العلوم ، ووفود الاَقطار الاِسلامية ، حتى أضحت جامعة إسلامية مكتظة برجال العلم وحملة الحديث .
  2 ـ الكوفة وجامعها الكبير
  قد سبق أنّ الاِمام أمير الموَمنين (عليه السّلام) هاجر من المدينة إلى الكوفة ، واستوطن معه خيار شيعته ومن تربّى على يديه من الصحابة والتابعين .
  ولقد أتى ابن سعد في ( طبقاته الكبرى ) على ذكر جماعة من التابعين الّذين سكنوا الكوفة ، (3) ولقد أعان على ازدهار مدرسة الكوفة مغادرة الاِمام الصادق (عليه السّلام) المدينة المنورة إليها أيام أبي العباس السفاح ، حيث بقى فيها سنين .
  اغتنم الاِمام فرصة ذهبية أوجدتها الظروف السياسية آنذاك ، وهي أنّ الدولة العباسية جاءت على أنقاض الدولة الاَموية و كانت جديدة العهد ، فلم يكن للعباسيّين يومذاك قدرة على الوقوف في وجه الاِمام لا نشغالهم بأُمور

(1) النجاشي : الرجال :64 برقم 1 .
(2) الكليني : الكافي ، كما في تأسيس الشيعة :299 .
(3) الطبقات الكبرى :6 ، وقسّمهم على تسع طبقات .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 205 ـ
  الدولة ، بالاِضافة إلى أنّهم كانوا قد رفعوا شعار العلويين للوصول إلى السلطة ، وقد نشر زمن إقامته بها علوماً جمّة .
  وقد انتشر نبأ وروده الحيرة ، فتقاطرت وفود للارتواء من منهله العذب ، وهذا الحسن بن علي بن زياد الوشّاء يحكي لنا ازدهار مدرسة الكوفة في تلك الظروف ، ويقول :
  أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ تسعمائة شيخ كلّ يقول حدثني جعفر بن محمد . ويضيف النجاشي : كان هذا الشيخ عيناً من عيون هذه الطائفة ، وله كتب ، ثمّ ذكر أسماءها . (1)
  وكان من خريجي هذه المدرسة لفيف من الفقهاء الكوفيين ، نظير : أبان بن تغلب بن رباح الكوفي ، ومحمد بن مسلم الطائفي ، وزرارة بن أعين ، إلى غير ذلك ممّن تكفّلت كتب الرجال بذكرهم ، وقد وقفت على أسماء عدّة منهم تحت عنوان تلاميذ الاِمام الباقر والصادق (عليهما السلام) .
  لقد ألّف فقهاء الشيعة ومحدّثوهم في تلك الظروف في الكوفة 6600 كتاب ، ولقد امتاز من بينها 400 كتاب اشتهرت بالاَُصول الاَربعمائة (2) فهذه الكتب هي التي أدرجها أصحاب الجوامع الحديثية في كتبهم كما مرّ آنفاً .
  ولم تقتصر الدراسة آنذاك على الحديث والتفسير والفقه بل شملت علوماً أُخرى ، فأنجبت موَلّفين كباراً صنّفوا كتباً كثيرة في علوم شتّى ، كهشام بن محمد بن السائب الكلبي ألّف أكثر من مائتي كتاب ، وابن شاذان ألّف 280 كتاباً ،

(1) النجاشي : الرجال :1|137 ، رقم 79 .
(2) وسائل الشيعة :ج20 ، الفائدة الرابعة ، وقد بيّنا الفرق بين الكتاب والاَصل في كتابنا ( كليات في علم الرجال ) .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 206 ـ
  وابن أبي عمير صنّف 194 كتاباً ، وابن دوَل الذي صنّف 100 كتاب (1) وجابر بن حيان أُستاذ الكيمياء والعلوم الطبيعية ، إلى غير ذلك من الموَلّفين .
  3 ـ مدرسة قم والري
  دخل الفرس الاِسلام وكان أكثرهم على غير مذهب الشيعة ، نعم كانت قم والري وكاشان وقسم من خراسان مركزاً للشيعة ، وقد هاجر الاَشعريون ـ خوفاً من الحجاج ـ إلى قم وجعلوها موطنهم ومهجرهم ، وكانت تلك الهجرة نواة للشيعة في إيران .
  كانت مدرسة الكوفة مزدهرة بالعلم والثقافة ، إلاّ انّها عانت الويلات من الظلم العباسي ممّا حدا بكبار الفقهاء والمحدثين إلى النزوح عنها ، ففي هذه الفترة نحو سنة 250 هـ هاجر إبراهيم بن هاشم الكوفي تلميذ يونس بن عبد الرحمن ، وهو من أصحاب الاِمام الرضا (عليه السّلام) إلى قم ، ونشر فيها حديث الكوفيين ، فصارت مدرسة قم والري مزدهرة بعد ذاك بالمحدّثين والرواة الكبار .
  وقد أضحت مدينة قم مركزاً نشطاً للحديث ، ومأوى لموالي أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ونخبة من المحدّثين والفقهاء ، أمثال :
  أ ـ زكريا بن آدم
  قال النجاشي : زكريا بن آدم بن عبد اللّه بن سعد الاَشعري القمي ، ثقة جليل ، عظيم القدر ، وكان له وجه عند الرضا ، وله كتاب .
  يروي محمد بن الحسن الصفار ( المتوفّـى 290 هـ ) ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ( المتوفّى نحو 280 هـ ) ، عن محمد بن خالد ، عن زكريا بن آدم ، وله

(1) الطهراني : الذريعة :1|17 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 207 ـ
  كتـاب مسائله للرضا (عليه السّلام) . (1)
  وعلى أيّة حال فالرجل من أصحاب الاَئمة : الصادق والرضا والجواد (عليهم السلام) .
ب ـ سعد بن سعد بن الاَحوص بن سعد بن مالك الاَشعري القمي قال النجاشي : ثقة ، روى عن الرضا وأبي جعفر (عليهما السلام) كتابه المبوب ، يروي عنه محمد بن خالد البرقي . (2)
  وذكره الشيخ في ( رجاله ) في أصحاب الاِمام الرضا (عليه السّلام) ، وقال : سعد بن سعد الاَحوص القمّي ، ثقة . (3)
  ج ـ العباس بن معروف ، أبو الفضل ، مولى جعفر بن عبد اللّه الاَشعري قمّي ، ثقة ، له كتاب الآداب ، وله نوادر ، ذكره النجاشي ، ثمّذكر سنده بجميع أحاديثه ومصنّفاته . (4)
  ( تمّ الكلام في الدور الاَوّل و يليه الكلام في الدور الثاني )

(1) النجاشي : الرجال : 393 برقم 456 .
(2) النجاشي : الرجال : برقم 468 .
(3) الطوسي : الرجال : 378 ، فصل أصحاب الرضا ، وذكره الكشي في الرجال :423 ، برقم 362 .
(4) النجاشي : الرجال : برقم 741 ، وذكره الشيخ في ( رجاله ) برقم 34 ، في أصحاب الرضا .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 208 ـ
أدوار الفقه الشيعي
2 ـ الدور الثاني

  عصر منهجة الحديث والاجتهاد( 260 ـ 460 هـ)
  قد عرفت أنّالنهج السائد في عصر الاَئمّة هو نشر الحديث بين الاَُمّة ودعم النشاط الاجتهادي ، فإنّ أصحابهم بين محدّث يهمّه سماع الحديث ونقله وكتابته دون أن يولي اهتماماً إلى استخراج ما طوي فيه من أحكام وفروع وهم يوَلفون الغالبية من أصحاب الاَئمّة (عليهم السلام) ، و محدّث واعٍ يتدبّر في الكتاب والسنّة وكلمات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ويستخرج منها ما تحتاج إليه الاَُمّة ، فهم يروون أحاديث المعصومين وفي الوقت نفسه يظهرون إبداعاتهم وانطباعاتهم عنها ، و قد نشأ هذا النهج منذ زمان الاِمام سيد الساجدين (عليه السّلام) إلى أن بلغ ذروته في عهد الصادقين والكاظمين إلى عهد الاِمام العسكري (عليه السلام) ، وفي طليعة الذين تبنّوا هذا المنهج محمد بن مسلم ، وزرارة بن أعين ، وابن أبي عمير ، ويونس بن عبد الرحمن ، والفضل بن شاذان ، وغيرهم ممّن قد سبق نقل أسمائهم .
  ورثت الشيعة هذين المنهجين عن أئمتهم (عليهم السلام) بعد غيبة الاِمام الثاني عشر ، فأخذوا ببسط الحديث ونشره وجمعه وتدوينه بأحسن ما يرام على نحو يجاوب روح العصر ، كما أخذوا ببث الاجتهاد وإضفاء المنهجية عليه ، والسعي

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 209 ـ
  وراء المنهج الذي ورثوه عن فقهاء عصر الاَئمّة (عليهم السلام) .
  وأثمرت الجهود عن ارتقاء المنهجين وتكاملهما على النحو الذي سنستعرضه لك .

منهجية الحديث
  أمّا المنهج الحديثي ، فقد ورثت الشيعة الاَُصول الاَربعمائة ، وقد كانت مدوّنة بصورة مسانيد حيث قام كلّ راو بتدوين ما سمعه من الاِمام ، أو عمّن سمعه من الاِمام ، وقد كان أكثر رواجاً من سائر صور التأليف ، فكلّ راو كان يسجّل ما سمعه من الاِمام مباشرة ، أو بواسطة راو واحد ، في كتابه من دون أن يبوّب الروايات وينظمها كما هو الملموس في ما بقي من تلك الاَُصول في عصرنا هذا .
  ولا شكّ انّهذا اللون من تدوين الحديث و إن كان له شأن من التقدير ، ولكنّه لا يجاوب روح العصر ، ولا يبلغ مكانة تدوين الحديث حسب المواضيع والاَبواب .
  فأكثر الكتب التي دوّنت في عهد الاَئمّة كانت في الترتيب والنظم أشبه بمسانيد أهل السنّة ، كمسند أحمد بن حنبل ومسند ابن أبي شيبة وغيرهما ، فإنّ دأب الموَلف من وراء تأليف المسند كان منصبَّاً على جمع روايات راو واحد في موضع واحد ، سواء أكان بين الروايات تناسب في الموضوع أم لا ، لذا فقد أطلق على هذا النوع من التأليف اسم ( المسند ) .
  وهذا بخلاف جمع الروايات على حسب المواضيع ، فإنّ الذي يروي غلّة الفقيه هو العثور على كتاب يشمل روايات موضوع واحد في مكان واحد ، وقد سبق إلى تأليف هذا اللون من التصنيف نخبة من أصحاب الاَئمّة في عهدهم ،

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 210 ـ
  كالبزنطي في جامعه ، والاَشعري في نوادره (نوادر الحكمة) ولكن التأليف على هذا الغرار لم يكن على نطاق و اسع .
  هذا ممّا حدا بالمحدّثين الذين أعقبوه في عصر الغيبة إلى الاستمرار على ذلك النهج ، وإليك سرد أسمائهم :
  (1) محمد بن يعقوب الكليني ( 260 ـ 329 هـ)
  الحافظ الكبير ، والمحدّث الجليل محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي البغدادي ، أبو جعفر ، ينسب إلى بيت طيب الاَصل في ( كلين ) .
  تخرّج على يده عدّة من أفاضل رجالات الفقه والحديث ، منهم : خاله علاّن الكليني .
  كان شيخ الشيعة في وقته في الري ووجههم ، ثمّ سكن بغداد بباب الكوفة ، وحدّث بها سنة ( 327 هـ) ، بعد ما طاف الشام ونزل بعلبك وحدث بها كما ذكره ابن الجوزي في المنتظم وقد أدرك زمان سفراء المهدي ، وجمع الحديث من شِرَعه وموردِه ، وقد انفرد بتأليف كتاب ( الكافي ) في أيامهم ، ألّفه في مدّة قاربت العشرين سنة ، وكان مجلسه مثابة أكابر العلماء الراحلين في طلب العلم ، كانوا يحضرون حلقته لمذاكرته ومفاوضته والتفقّه عليه ، وقد قام بترجمته كثير من الرجاليين والموَلّفين في التراجم . (1)
  هذا وقد تضافر الثناء على الكليني منذ عصره إلى يومنا هذا من السنّة والشيعة ، وإليك بعض ما قيل فيه :
  قال الشيخ الصدوق في ترجمته : الشيخ الفقيه محمد بن يعقوب الكليني .(2)

(1) وتجد له ترجمة في الكامل لابن الاَثير :8|127، لسان الميزان :5|433 .
(2) الفقيه : 4|165 ، برقم 578 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 211 ـ
  وقال النجاشي : شيخ أصحابنا في وقته بالري ووجههم ، وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم . (1) وقال الطوسي : ثقة عارف بالاَخبار ، جليل القدر . (2)
  و أثنى عليه الذهبي بقوله : شيخ الشيعة وعالم الاِمامية ، صاحب التصانيف ، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني . (3)
  وللاِيعاز إلى مكانة الشيخ الكليني وتأثيره في الجيل اللاحق ، نأتي بمشايخه والرواة عنه .
  مشايخه
  روى الكليني عن عدد كثير جداً من علماء أهل البيت ورجالهم ومحدّثيهم بما يضيق المجال بذكرهم ، ونقتصر على مشاهيرهم :
  1 ـ أبو جعفر محمد بن الحسن بن فروخ الصفّار القمّي ، صاحب كتاب : ( بصائر الدرجات ) ( المتوفّى 290 هـ ) .
  2 ـ أبو علي أحمد بن إدريس بن أحمد الاَشعري القمّي ( المتوفّى عام 306 هـ) .
  3 ـ أبو الحسن علي بن إبراهيم بن هاشم ، صاحب التفسير المعروف ( المتوفّى نحو عام 308 هـ) .
  4 ـ أبوجعفر محمد بن يحيى العطار الاَشعري ( المتوفّى نحو عام 300 هـ) .
  إلى غير ذلك من مشايخ الحديث وفطاحله .

(1) النجاشي : الرجال : برقم 1026 .
(2) الشيخ : الفهرست : برقم 591 .
(3) الذهبي :سير أعلام النبلاء :15|280 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 212 ـ
  تلاميذه والرواة عنه
  وأمّا تلاميذه والرواة عنه فحدث عنهم ولا حرج ، فمنهم على سبيل المثال :
  1 ـ أبو الحسين أحمد بن علي بن سعيد الكوفي ، المعروف بـ ( ابن عقدة) ( المتوفّى عام 333 هـ) .
  2 ـ أبو غالب أحمد بن محمد بن محمد بن سليمان بن الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين بن سنسن الزراري ( 285 ـ 368 هـ) .
  3 ـ أبو القاسم جعفر بن محمد بن جعفر بن موسى بن قولويه ، صاحب ( كاملالزيارات ) ( المتوفّى عام 367 هـ) .
  4 ـ أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم بن جعفر الكاتب النعماني ( المتوفّى عام 340 هـ) ، المعروف بـ ( ابن زينب ) كان خصيصاً به يكتب كتابه ( الكافي ) .
  إلى غير ذلك ممّن يروي عنه تجد أسماءهم مبسوطة في مقدّمة كتاب ( الكافي ) بقلم الاَُستاذ حسين علي محفوظ البغدادي .
  وكفاك في جلالة هذا الجامع انّالشيخ المفيد يصفه بقوله : من أجلّ كتب الشيعة وأكثرها فائدة . (1)
  وقال الشهيد محمد بن مكي في إجازته لابن الخازن : كتاب الكافي في الحديث الذي لم يعمل للاِمامية مثله . (2)
  وقد شرحه كثير من العلماء ، وهو بين مطبوع ومخطوط ، كما وترجم إلى لغات مختلفة .

(1) المفيد : تصحيح الاعتقاد :27 .
(2) بحار الاَنوار :104ـ190 ، الاِجازات .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 213 ـ
  قال النجاشي : مات (رحمه الله) ببغداد سنة ( 329 هـ) سنة تناثر النجوم ، وصلّى عليه محمد بن جعفر الحسني ودفن في باب الكوفة . (1)
  2 ـ محمد بن بابويه القمي ( 306 ـ 381 هـ)
  المحدّث الكبير محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، أبو جعفر ، نزيل الري ، مصنّف كتاب ( من لا يحضره الفقيه ) .
   وينتمي إلى أُسرة بني بابويه ، وهي من بيوتات القمّيين الّذين ذاع صيتهم بالعلم والفضيلة ، وأنجبت أفذاذاً مصلحين ، وعباقرة مرشدين ، أدّوا رسالاتهم على أحسن وجه ، وخدموا مبدأهم بأمانة وإخلاص ، فاستحقوا بذلك كلّ تعظيم وتبجيل ، وخلّدهم التاريخ بإكبار ، وحفظ آثارهم بكلّفخر .
  قال العلاّمة السيد بحر العلوم في ( الفوائد الرجالية ) : ولد بعد وفاة العمري في أوائل سفارة الحسين بن روح ، وقد كانت وفاة العمري سنة 305 هـ ، فيكون قد أدرك من الطبقة السابعة فوق الاَربعين ، ومن الثامنة إحدى وثلاثين ، ويكون عمره نيفاً وسبعين سنة ، ومقامه مع والده ومع شيخه الكليني في الغيبة الصغرى نيفاً وعشرين سنة ، فإنّ وفاتهما سنة 329 هـ وهي سنة وفاة السمري آخر السفراء . (2)
  وعلى هذا فقد عاصر الشيخ الصدوق سفيرين من السفراء الاَربعة هما : الحسين بن روح والسمري ، وعلى أيّة حال فمحدثنا الكبير شخصية فذّة ورث المجد و العلى من بيت عريق في العلم والورع ، و قد عرّفه العلماء بإجلال وإكبار .

(1) النجاشي : الرجال :2|292 .
(2) بحر العلوم : الفوائد الرجالية : 3|301 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 214 ـ
  قال النجاشي : شيخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسان ، كان ورد بغداد سنة 355 هـ ، وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن ، ثمّ ذكر فهرست كتبه .
  يقول العلاّمة : كان جليلاً ، حافظاً للاَحاديث ، بصيراً بالرجال ، ناقلاً للاَخبار ، لم يُر في القمّيين مثله في حفظه وكثرة علمه ، وله نحو من ثلاثمائة مصنّف .
  مشايخه
  وقد شدّالرحال لتحمّل الرواية والحديث إلى مختلف الحواضر العلمية في القرن الرابع كبغداد ، والكوفة والري وقم ونيسابور وطوس وبخارى ، وهو وإن سافر إلى تلك البلدان لاَخذ الحديث ، لكنّه أيضاً حدّث بها ، وقد أحصى شيخنا النوري في خاتمة ( مستدركه ) مشايخه الذين أخذ منهم الحديث فبلغ 211 محدثاً ، وإليك أسماء بعضهم :
  1 ـ أبو علي أحمد بن الحسن بن عبد ربّه القطان الرازي عرّفه المترجم له في كتابه ( كمال الدين ) ص 40 بقوله : وهو شيخ كبير من أصحاب الحديث .
  2 ـ أحمد بن علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي .
  3 ـ أحمد بن محمد بن يحيى العطار الاَشعري القمي .
  4 ـ جعفر بن محمد بن موسى بن قولويه القمي المتوفّى (367 هـ) .
  5 ـ الحسين بن أحمد الحاكم البيهقي .
  6 ـ علي بن أحمد بن مهزيار .
  7 ـ محمد بن حسن بن أحمد بن الوليد القمي (المتوفّى 343 هـ) وهو من أكبر مشايخه ، إلى غير ذلك .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 215 ـ
  تلاميذه والرواة عنه
  1 ـ الحسين بن علي بن موسى بن بابويه القمّي ـ أخو المترجم ـ .
  2 ـ محمد بن محمد بن النعمان المفيد .
  3 ـ علي بن أحمد بن العباس ـ والد الشيخ النجاشي ـ .
  4 ـ أبو القاسم علي بن محمد بن علي الخزاز ، صاحب كتاب ( كفاية الاَثر ) .
  5 ـ أبو عبد اللّه الحسين بن عبيد اللّه بن إبراهيم الغضائري .
  6 ـ أبو الحسن جعفر بن الحسن حسكة القمي .
  7 ـ أبو الحسن محمد بن أحمد بن علي بن شاذان القمّي .
  كما أنّه روى عن شيخنا المترجم أفذاذ من أهل الحديث الّذين أصفقت معاجم التراجم على ذكرهم بكلّ جميل ، وقد أنهاهم محقّق كتاب ( الفقيه ) إلى عشرين . (1)
  توفي في الري عام 381 هـ ، وقبره هناك معروف يزار .
  3 ـ محمد بن الحسن الطوسي ( 385 ـ 460 هـ)
  الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي ، نسبة إلى طوس من مدن خراسان التي هي من أقدم بلاد فارس وأشهرها ، وكانت ـ ولا تزال ـ من مراكز العلم والثقافة ، وأنّفيها قبر الاِمام علي الرضا (عليه السّلام) ثامن أئمة الشيعة الاثني عشرية ، فصارت مهوى أفئدتهم يقصدونها من الاَماكن الشاسعة والبلدان النائية .

(1) انظر مقدّمة ( من لا يحضره الفقيه ) .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 216 ـ
  ولد الشيخ في طوس في شهر رمضان سنة 385 هـ أي بعد أربع سنين من وفاة الشيخ الصدوق ، وهاجر إلى العراق فهبط بغداد سنة 408 هـ وهو ابن 23 عاماً ، وكان زعيم الشيعة آنذاك ، شيخ الاَُمّة محمد بن محمد بن النعمان الشهير بـ ( المفيد ) فلازمه ملازمة الظل لذي الظلّ ، وعكف على الاستفادة منه إلى حدّ توفّق لشرح كتاب أُستاذه ( المقنعة ) وهو بعد لم يناهز الثلاثين .
  ولما انتقل الشيخ المفيد إلى رحمة اللّه ، عكف على بحوث السيد المرتضى ، ولازم حضوره طيلة 23 سنة حتى توفي السيد لخمس بقين من شهر ربيع الاَوّل عام 436 هـ ، فاستقل شيخ الطائفة بالاِمامة ، وظهر على منصَّة الزعامة ، وكانت داره في ( الكرخ ) مأوى الاَُمّة وملجأ روّاد العلم ، يأتونها لحلّ المشاكل ، وإيضاح المسائل ، وقد ذاع صيته ، وعلا مقامه ، ممّا حدا بخليفة عصره القائم بأمر اللّه أن يجعل كرسي الكلام له ، وكان لهذا الكرسي يومذاك عظمة وقدر فوق ما يوصف .
  وكان الشيخ يدرّس ويربّي إلى أن ضاقت به الاَُمور ، وثارت القلاقل بشن طغرل بيك أوّل ملوك السلاجقة حملة شعواء على الشيعة ، وأمر بإحراق مكتبة الشيعة التي أنشأها أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة البويهي ، وكانت يومذاك من دور العلم المهمة في بغداد ، ونافت كتبها على عشرة آلاف من جلائل الآثار .
  حتى توسّعت الفتنة واتجهت إلى بيت الشيخ الطوسي وأصحابه ، فأحرقوا كتبه وكرسيّه الذي كان يجلس عليه ، فلم يجد الشيخ بداً إلاّ مغادرة بغداد إلى النجف الاَشرف لائذاً بجوار مولانا أمير الموَمنين (عليه السّلام) ، فأسّس فيها حوزة علمية كبيرة ، تقاطر إليها الفضلاء من شتّى الاَقطار ، وبقيت تلك الحوزة على مرّ الدهور إلى يومنا هذا تشع نوراً ، وتربّي جيلاً بعد جيل من العلماء لا يحصي عددهم إلاّاللّه سبحانه .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 217 ـ
  وقد ترك الطوسي تراثاً علمياً في شتى الموضوعات ، كالكلام والفقه والرجال والحديث .
  وكتاباه الجامعان : ( التهذيب ) و ( الاستبصار ) هما من الاَُصول الثانوية الاَربعة .
  مشايخه
  فقد تخرّج على يد عدّة من جهابذة العلم الذين كانت تشد إليهم الرحال لتحمّل الرواية من مختلف الحواضر الاِسلامية ، حتى أنهاهم السيد المحقّق البروجردي في مقدّمته على كتاب ( الخلاف ) إلى قرابة ثلاثين شيخاً ، ومن بين شيوخه يعد الشيخ المفيد من أعاظمهم ، فقد ارتشف من معين علمه سنين طوالا .
  وإليك سرد أسماء جملة منهم :
  1 ـ أحمد بن عبد الواحد ، المعروف بـ ( ابن الحاشر ) و ( ابن عبدون ) ( 330 ـ 423 هـ ) .
  2 ـ أحمد بن محمد بن موسى المعروف بـ"ابن الصلت" المتوسط بينه و بين ابن عقدة ( 317 ـ 409 هـ ) .
  3 ـ أبو الحسن جعفر بن الحسين بن حسكة القمّي المتوسط بينه وبين ابن بابويه .
  4 ـ الحسن بن إبراهيم بن أحمد بن الحسن بن محمد بن شاذان ، أبو علي البزاز المتكلّم .
  5 ـ أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى الفحام السامرائي ( المتوفّى 408 هـ ) .
  6 ـ الشيخ أبو عبد اللّه الحسين بن عبيد اللّه الغضائري ( المتوفّى 411 هـ ) .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 218 ـ
  7 ـ أبو عمرو عبد الواحد بن محمد بن عبد اللّه بن محمد بن مهدي بن خشنام ( 318 ـ 410 هـ ) .
  8 ـ أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن حفص المقري ، المعروف بـ ( ابن الحمامي ) ( 328 ـ 417 هـ ) .
  9 ـ أبوالحسين علي بن أحمد بن محمد بن طاهر بن الحسن بن أبي عبيد الاَشعري القمّي ، الراوي عن ابن الوليد وأحمد بن محمد بن يحيى .
  10 ـ الشريف الطاهر ذو المجدين أبو القاسم علي بن الحسين المعروف بالسيد المرتضى ( 355 ـ 436 هـ ) .
  11 ـ أبوالحسين علي بن محمد بن عبد اللّه بن بشران .
  12 ـ أبو الحسين محمد بن أحمد بن شاذان القمي .
  13 ـ أبو زكريا محمد بن سليمان الحمراني ، المتوسط بينه و بين أبي جعفر ابن بابويه(الصدوق) .
  14 ـ أبو الحسن محمد بن محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد البزاز البغدادي ( 329 ـ 419 هـ ) .
  15 ـ أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالمفيد ( 336 ـ 413 هـ ) .
  16 ـ أبو الفتح هلال بن محمد بن جعفر ( 322 ـ 414 هـ) .
  تلاميذه والرواة عنه
  استقطب شيخنا الطوسي روّاد العلم بعد رحيل السيد المرتضى حتى أخذ يحضر مجلس درسه جهابذة العلم من كلا الفريقين ، ولا يمكننا سرد أسماء

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 219 ـ
  جميع من تتلمذ عليه ، بل نشير إلى أسماء المشاهير منهم :
  1 ـ أحمد بن الحسين بن أحمد النيسابوري الخزاعي ، جد والد أبي الفتوح الرازي .
  2 ـ الشيخ تقي بن النجم أبو الصلاح الحلبي ، صاحب كتاب ( الكافي ) .
  3 ـ الحسن بن الحسين بن علي بن بابويه ، المعروف بـ ( حسكا ) .
  4 ـ القاضي عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البراج ، صاحب كتاب : ( الكامل ) و ( المهذب ) و ( الموجز ) و ( الجواهر ) في الفقه .
  5 ـ الشيخ الاِمام الثقة أبو الفتح محمد بن علي الكراجكي .
  6 ـ شهر آشوب بن أبي نصر المازندراني ، جدّمحمد بن علي بن شهر آشوب موَلّف ( المناقب ) ، إلى غير ذلك ممّن قرأ عليه وتخرّج على يديه ، وقد ذكر الشيخ منتجب الدين في ( فهرسته ) وغيره أسماء الكثير منهم .
  إلى هنا تمّ الكلام حول تدوين الحديث بصورة منهجية ولا أقول إنّ المدوّن على هذا النمط منحصر بالكتب الاَربعة ، ولكن المعروف بهذه الصبغة هي الكتب الاَربعة .
  بقيت هنا نكتة جديرة بالاِشارة ، وهي انّ المحدّثين ـ كما أوعزنا إليهم في صدر البحث ـ لم يسيروا على نمط واحد ، بل انقسموا على أنفسهم إلى قسمين ، فمنهم من صبَّ اهتمامه على الجمع والتدوين فقط دون التعمّق وإعمال النظر ، ومنهم من ضم إلى التدوين إعمال الفكر والنظر في تمحيص السنّة الصحيحة عن الموضوعة ، وقد دام النزاع بينهما مدّة لا يستهان بها إلى أن أطفأ جذوتها الشيخ المفيد ( 336 ـ 413 هـ ) في عصره وقلع فكـرة الجمود على نقـل الخبر من دون أي تمحيص ونظر .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 220 ـ
مدرسة أهل الحديث
  كلّما أطلق أهل الحديث أو أهل الخبر أو الاَخبارية يراد منه من يمارس تدوين ونقل السنن النبوية وأخبار العترة الطاهرة ، ولم يكن لهم مذهب خاص باسم مذهب أهل الحديث ، بل نهج أصحابنا نهجين :
  1 ـ نقل الحديث من كلّ مَن هبّ و دب دون فرق بين الثقة وغيره ، وهم المعروفون بالاِكثار عن الضعفاء .
  2 ـ نقل الحديث عن الثقة دون الضعيف مع إعمال النظر في السند ، وهم مشايخ الشيعة وكبار مراجعهم في الحديث .
  فمن الصنف الاَوّل :
  1 ـ سهل بن زياد ، أبو سعيد الآدمي الرازي ، كان ضعيفاً في الحديث ، غير معتمد فيه ، وكان أحمد بن محمد بن عيسى يشهد عليه بالغلو والكذب ، وأخرجه من قم إلى الري ، وكان يسكنها وقد كاتب أبا محمد العسكري (عليه السّلام) على يد محمد ابن عبد الحميد العطار للنصف من شهر ربيع الآخر سنة 255 هـ ، ذكـر ذلك أحمد بن علي بن نوح وأحمد بن الحسين رحمهما اللّه . (1)
  2 ـ أحمد بن محمد بن خالد بن عبد الرحمن بن محمد بن علي البرقي ، أبو جعفر ، أصله كوفي ، وكان ثقة في نفسه يروي عن الضعفاء واعتمد المراسيل ، توفّي عام 274 هـ .
  ونقل العلاّمة الحلّي عن ابن الغضائري : طعن عليه القمّيون ، وليس الطعن فيه وإنّما الطعن فيمن يروي عنه ، فإنّه كان لا يبالي عمّن أخذ على طريقة أهل

(1) النجاشي : الرجال : ترجمة 488 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 221 ـ
  الاَخبار ، وكان أحمد بن محمد بن عيسى أبعده عن قم ، ثمّ أعاده إليها واعتذر إليه ، ولمّا توفي مشى أحمد بن محمد بن عيسى في جنازته حافياً حاسراً ، ليبرىَ نفسه ممّا قذفه به . (1)
  3 ـ عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى الجلودي البصري ، أبو أحمد شيخ البصرة وأخباريّها ، وكان عيسى الجلودي من أصحاب أبي جعفر (عليه السّلام) ، ثمّ ذكر أسماء كتبه الكثيرة . (2)
  4 ـ محمد بن زكريا بن دينار مولى بني غلاّب ، قال النجاشي : وكان هذا الرجل وجهاً من وجوه أصحابنا في البصرة ، وكان أخبارياً ، واسع العلم ، وصنّف كتباً كثيرة ، توفّي عام 298 هـ . (3)
  5 ـ أحمد بن إبراهيم بن المعلى بن أسد العمّي ، قال النجاشي : كان ثقة في حديثه ، حسن التصنيف ، وأكثر الرواية عن عامة الاَخباريّين . (4)
  هذه نماذج من الصنف الاَوّل ، وإليك نماذج من الصنف الثاني ممّن كانوا لا يروون إلاّ بعد إتقان الحديث ، نخص منهم بالذكر ما يلي :
  1 ـ أحمد بن محمد بن عيسى ، يقول النجاشي : أوّل من سكن قم من آبائه ، سعد بن مالك بن الاَحوص ـ إلى أن قال :ـ وأبو جعفر (رحمه الله) شيخ القمّيين ووجههم وفقيههم غير مدافع وله كتب ، ولقي الرضا ، ولقي أبا جعفر الثاني وأبا الحسن العسكري (عليهما السلام) ، (5) وقد عرفت أنّالرجل أخرج بعض المحدّثين

(1) ابن المطهر : الرجال : قسم المعتمدين ،باب أحمد ، برقم 7 .
(2) النجاشي : الرجال :برقم 638 .
(3) النجاشي : الرجال : برقم 937 .
(4) النجاشي : الرجال : برقم 237 .
(5) النجاشي : الرجال : برقم 196 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 222 ـ
  من قم ، لكثرة روايتهم عن الضعفاء .
  2 ـ محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ، أبو جعفر شيخ القمّيين ، وفقيههم ، ومتقدّمهم ووجههم ، ويقال انّه نزيل قم ، وما كان أصله منها ، ثقة ، عين مسكون إليه ، له كتب ، منها : تفسير القرآن ، وكتاب الجامع ، توفي سنة 343 هـ . (1)
  وقد اعتمد الصدوق على تصحيحه وتجريحه ، وقال في ذيل خبر صلاة الغدير : إنّ شيخنا محمد بن الحسن كان لا يصحّحه ، ويقول : إنّه من طريق محمد ابن يونس الهمداني وكان غير ثقة ، وكلّ ما لم يصحّحه ذلك الشيخ ولم يحكم بصحته من الاَخبار ، فهو عندنا متروك غير صحيح . (2)
  3 ـ علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، أبو الحسن شيخ القميين في عصره ومتقدّمهم وفقيههم وثقتهم ، توفّي عام 329 هـ .
  إنّ من تصفّح كتب الشيخ الصدوق يجد انّه يروي عن أبيه أكثر من غيره ، وانّما يرويه عن أبيه قد يقرب من مجموع ما رواه عن غيره .
  هذه نماذج من الصنف الثاني ، وكم له من نظير :
  كسعـد بن عبد اللّه القمـي (المتوفّى 301 هـ) والشيخ الكلينـي (المتوفّى 329 هـ) وجعفر بن محمد بن قولويه (المتوفّى 367 هـ) والصدوق الثاني (المتوفّى 381 هـ) إلى غير ذلك من كبار المحدّثين .
  هذا موجز الكلام في المنهجين السائدين عند المحدّثين .

(1) النجاشي : الرجال : برقم 1043 .
(2) المامقاني : تنقيح المقال : 3|100 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 223 ـ
الاختلاف في تحديد الغلو
  لا شكّ انّ الغلاة كفّار باللّه تبارك وتعالى ، وانّهم شر من اليهود والنصارى والمجوس ومن جميع أهل البدع والاَهواء المضلّة ، وانّه ما صغر اللّه جلّ جلاله تصغيرهم شيئاً وقال اللّه سبحانه : ( ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُوَْتِيَهُ اللّهُ الكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللّهِ وَلكِن كُونُوا رَبّانِيّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ* وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) . (1)
  وقال اللّه تعالى : ( لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ" (2) (3) ولا شكّ انّ الاِمامية تتبّرأ من الغلاة ، إنّما الكلام في تحديد الغلو ، فقد كان الرأي الرائج بين القمّيين نسبة السهو إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصلاة ، وقد انتحل به الشيخ الصدوق وأُستاذه محمد بن الحسن بن الوليد القمّي اعتماداً على الروايات الواردة في ذلك المجال .
  كما زعموا انّ نسبة علم الغيب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والاَئمّة (عليهم السلام) لا تخلو من غلو ، ولم يفرّقوا بين العلم الذاتي والعلم المكتسب .
  وعلى كلّ تقدير كان هناك اختلاف بين المدرستين مدرسة قم ومدرسة بغداد .
  وكان البغداديون يشنّون حملات شعواء على هوَلاء ويصفونهم

(1) آل عمران : 79ـ 80 .
(2) النساء : 171 .
(3) اعتقادات الصدوق : 97 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 224 ـ
  بالتقصير ، كما انّهم يتّهمونهم بالغلو ، قال الصدوق في ( اعتقاداته) : وعلامة المفوضة والغلاة وأصنافهم نسبتهم مشايخ قم وعلمائهم إلى القول بالتقصير . (1)
  ولما انتهت رئاسة الاِمامية إلى الشيخ المفيد ردّ عليهم ردّاً عنيفاً ، وبذلك حقّق مذهب الاِمامية وأثبت دعائمه ، ولا بأس بنقل هذه الوثيقة التاريخية عن الشيخ المفيد (قدس سره) .
  يقول الشيخ المفيد في حقّ هوَلاء : لكن أصحابنا المتعلّقين بالاَخبار ، أصحاب سلامة وبعد ذهن وقلّة فطنة ، يمرون على وجوههم فيما سمعوه من الاَحاديث ، ولا ينظرون في سندها ، ولا يفرّقون بين حقّها وباطلها ، ولا يفهمون ما يدخل عليهم في إثباتها ، ولا يحصلون معاني ما يطلقونه منها . (2)
  نقل الشيخ المفيد آراء عن بعض المحدّثين بمالا يوافق مذهب الاِمامية ، ولاَجل ذلك خطَّأهم ونسبهم إلى التقصير ، قال : وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد (رحمه الله) لم نجد لها دافعاً في التقصير ، وهي ما حكي عنه أنّه قال : أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبي والاِمام ، فإن صحّت هذه الحكاية فهو مقصِّر مع أنّه من العلماء القمّيين ومشيختهم .
  وقد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم يقصرون تقصيراً ظاهراً في الدين ، وينزلون الاَئمّة عن مراتبهم ، يزعمون انّهم كانوا ، لا يعرفون كثيراً من الاَحكام الدينية حتى ينكت في قلوبهم .
  ورأينا في أُولئك من يقول إنّهم ملتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون ويدعون مع ذلك انّـهم من العلماء ، وهذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه .(3)

(1) اعتقادات الصدوق :101 .
(2) تصحيح الاعتقاد : 38 ، طبع تبريز .
(3) المصدر السابق :66 .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 225 ـ
  ويظهر من غير واحدة من كلمات الشيخ المفيد انّ مسلك الصدوق لم يكن مورد رضا شيخنا المفيد ، فقد رفع إلى الشيخ وجود الاختلاف بين ما أثبته الشيخ أبو جعفر بن بابويه في كتبه من الاَخبار المسندة عن الاَئمّة ، وبين ما أثبته الشيخ أبو علي بن الجنيد (رحمه الله) في كتبه من المسائل الفقهية المجرّدة عن الاَسانيد .
  ثمّ إنّ الشيخ يجيب عن السوَال ويقول : والذي رواه أبو جعفر(رحمه الله) فليس يجب العمل بجميعه إذا لم يكن ثابتاً من الطرق التي تعلّق بها قول الاَئمّة (عليهم السلام) ، إذ هي أخبار آحاد لا توجب علماً ولا عملاً ، وروايتها عمّن يجوز عليه السهو والخلط ، وإنّما روى أبو جعفر(رحمه الله) ما سمع ، ونقل ما حفظ ، ولم يضمن العهدة في ذلك .
  وأصحاب الحديث ينقلون الغث والسمين ، ولا يقتصرون في النقل على المعلوم ، وليسوا بأصحاب نظر وتفتيش ولا فكر فيما يروونه وتمييز ، فأخبارهم مختلطة ، لا يتميز منها الصحيح من السقيم إلاّ بنظر في الاَُصول و اعتماد على النظر الذي يوصل إلى العلم بصحة المنقول . (1)
  والسابر في تاريخ الحديث في القرن الرابع إلى أوائل القرن الخامس يقف على أنّه كان بين محدّثي مدرسة قم ومحدّثي مدرسة بغداد اختلاف بارز فيما يتعلّق بمقامات النبي والاَئمّة وعلومهم .
  فالقمّيون كانوا يرمون خريجي مدرسة بغداد بالغلو لاَجل نفي السهو عن النبي والاَئمّة ، كما انّ خريجي مدرسة بغداد يرمون القميين بالتقصير في حق الاَئمّة ، وقد كان النزاع قائماً على قدم وساق ، إلى أن طواه شيخنا المفيد عندما انتهت إليه رئاسة الاِمامية في الكلام والفقه ، فقد حقّق المقال في العقائد في غير

(1) المفيد : المسائل السروية : 222 ط النجف الاَشرف .