وربما لا يصيبه هذا هو معنى المخطئة ، وليس معناه ( انّ المجتهدين في الاِسلام إلى اليوم كلّهم على خطأ ، وانّه يستدرك عليهم في آخر الزمن الصواب الذي خفي على الاَُمّة منذ بزوغ شمس الاِسلام إلى اليوم ) ، فإنّ هذا التفسير مجازفة وتهوّر بلا مسوغ.
  وحصيلة الكلام : أنّ الاِسلام لم يفرض على مكلّف تقليد أحد الاَئمّة الاَربعة ، فلو قلنا بأنّه يجوز تقليد مجتهد ، حياً كان أو ميتاً يجوز تقليد كلّ من أراد من المجتهدين الماضين إذا كان مذهبه الفقهي واصلاً إلى المكلّف عن طريق معتبر ، وإن قلنا بشرطية الحياة في المجتهد ، فعلى كلّ مكلّف أن يقلّد أي مجتهد حي ، وعلى أُصول الاِمامية بما انّ تقليد الميت باطل من رأس ، كما انّتقليد الاَعلم فرض ومعه لا يجوز تقليد غيره ، فيجب على كلّ مكلّف تقليد المجتهد الحي الاَعلم حتى تجتمع كلمة المسلمين على مجتهد واحد ويتبعه جميع المسلمين.
  أقول : إنّ شيخنا الكوثري من أفذاذ الاَُمّة ومن المتبحّرين في التتبع ، ولكن مقاله هذا نشأ من تعصّبه للاَئمّة الاَربعة وبالاَخص لاِمام مذهبه أبي حنيفة ، ولولا ذلك الحجاب لما سمّى الخروج عن حصر المذاهب في الاَربعة قنطرة اللا دينية.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 102 ـ
أدوار الفقه السنّي
4 ـ الدور الرابع

  عصر الانحطاط الفقهي
  (أواسط القرن السابع ـ أواخر القرن الثالث عشر)
  إنّ كلّ ظاهرة من الظواهر سرعان ما تأخذ بالحركة نحو الكمال ، وتتدرّج في مدارج الترقّي ، ثمّتبتلى بعوامل تعوقها عن سيرها وتحدّ من نشاطها ممّا يجعلها تراوح في مكانها لا تتقدّم قيد أنملة.
  وهكذا الظاهرة الفقهية لم تكن مستثناة من هذه الضابطة ، فقد شلّت حركتها في الدور الرابع ، وراوحت في مكانها ، وأصابها الانحطاط في هذا الدور ، فصارت مصداقاً لقوله سبحانه : ( ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعفاً وَشَيْبَة ) . (1)
  هذا الوضع المزري الذي وصل الفقه إليه يكمن في الاَوضاع والظروف الخارجية التي أحاطت بالفقه والتي منها الوهن والضعف الذي أصاب الخلافة الاِسلامية من جرّاء انقسامها إلى دويلات وحكومات ، وما أعقبه من هجمات شرسة من قبل أعداء الاِسلام من الوثنيين والمسيحيين المتحالفين على تمزيق الجسد الاِسلامي المتمثل آنذاك في الخلافة العباسية حتى أنشبت الصليبية

(1) الروم :54.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 103 ـ
  مخالب هـ ا في الوطن الاِسلامي في أوائل القرن السادس ، فأشعلت حروباً طاحنة راح ضحيتها آلاف من المسلمين ، وكان الانتصار فيها حليف الصليبيين تارة والمسلمين أُخرى ، وبينما كان الجسد الاِسلامي مثخناً بالجراح إذ واجهته حملات أشرس من ذي قبل من قبل الوثنيّين المغول من الشرق ، فاجتاحوا المدن الاِسلامية الآمنة ، واستولوا على زهرتها بغداد ، فأراقوا دماءً كثيرة ، وأحرقوا المكتبات الاِسلامية ، وقتلوا العلماء ، فأضحت البلاد الاِسلامية تحت نير المغول في الشرق ، و الصليبية في الغرب.
  فإذا كان هذا حال البلاد من الدمار والفوضى والهلع ، فقد انعكست تلك الظروف المتدهورة على الفقه الاِسلامي ، فتخلّف عن عجلة الحضارة. هذا هو ابن الاَثير يصوّر لنا الدمار الذي خلّفته تلك الحروب ، قائلاً : وقد بلي الاِسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الاَُمم ، منها هوَلاء التتار أقبلوا من المشرق ، ففعلوا الاَفعال التي يستعظمها كل من سمع بها ، ومنها خروج الاِفرنج من المغرب إلى الشام ، وقصدهم ديار مصر ، وملكهم ثغر دمياط منها ، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف اللّه ونصره عليهم. (1)
  ففي هذا الدور أخذ الفقه بالانحطاط ، و انتهى الاَمر به إلى الجمود ، وساد الفكر التقليدي المغلق والاكتفاء بنقل كلّ ما في الكتب المذهبية ، دون مناقشة ، وطفق يتضاءل ويغيب ذلك النشاط الذي كان يحرّكه التخريج والترجيح والتنظيم في فقه المذاهب ، وأصبح طالب الفقه يدرس كتاب فقيه معين من رجال مذهبه ، فلا ينظر إلى الشريعة وفقهها إلاّ من خلال سطوره بعد أن كان قبلاً يدرس القرآن والسنّة وأُصول الشرع ومقاصده.

(1) الكامل في التاريخ :12|360.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 104 ـ
  وقد أصبحت الموَلّفات الفقهية أواخر هذا العصر اختصاراً لما وجد من الموَلفات السابقة ، أو شرحاً لها ، فانحصر العمل الفقهي في ترديد ما سبق ودراسة ألفاظها وحفظها.
  وفي هذا الدور اكتفى الفقهاء بكتابة المتون والشروح والتعليق عليها.
  كان الاَمر على هذا المنوال حتى تألّق نجم الحضارة الغربية ، فانتقل التشريع الوضعي إلى الاَوساط الشرقية ، فصار هناك تلاقح بين الحضارتين ، فظهر للفقه نشاط في الجامعات و المعاهد الدينية وهذا ما سنذكره في الدور الخامس.
  نعم تنفّس المسلمون منذ منتصف القرن التاسع الصعداء باستيلاء أقوام منهم على مدينة القسطنطينية التي صارت فيما بعد عاصمة إسلامية ، فازدهر الاِسلام وقويت شوكته ، وصار للفقه أيضاً إقبال وازدهار.
  فإذا كانت سيادة روح التقليد على العلماء وعدم الخروج عن نصوص الاَئمّة الاَربعة من مميزات الدور الثالث ، فيكون الحال في هذا الدور نفس ما سبق ، لكن بوضع أسوأ ، فقد تنحّى الفقه عن مكانته العالية وأُصيبت الحركة الفقهية بالشلل الكامل ، وقلّما نجد في هذا الدور تصنيفاً أوكتاباً للفقه إلاّ الشيء اليسير من الذين كسروا طوق التقليد ، ومع ذلك كلّه فالطابع العام المخيِّم على الفقه هو روح التقليد والجمود والهرم ، ومع أنّه ابتلي بما ابتلي به الفقه في الدور الثالث ولكن وجد فيهم علماء أحرار ، نشير إلى أسماء بعضهم :
  1 ـ العز بن عبد السلام ( 577 ـ 660 هـ ).
  2 ـ تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (مع ما فيه من الانحراف في العقائد) ( 661 ـ 728 هـ ).
  3 ـ شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ( المتوفّى 751 هـ ).

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 105 ـ
  4 ـ تقي الدين أبو الحسن علي بن القاضي السبكي ( 683 ـ 756 هـ ).
  5 ـ عبد الوهاب بن علي بن الكافي السبكي ( 727 ـ 771 هـ ).
  6 ـ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ( 773 ـ 852 هـ ).
  7 ـ جلال الدين السيوطي ( 848 ـ 911 هـ ).
  8 ـ شيخ الاِسلام أبو يحيى زكريا بن محمد الاَنصاري ( 823 ـ 926 هـ ).
  9 ـ أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي ( 909 ـ 974 هـ ).
  ولكن هذا المقدار من العلماء الاَكابر قليل جداً بالنسبة إلى عظم الرقعة الاِسلامية ، وسعة مدارسها ، وكثرة المترجمين عنها.
  يقول الاَُستاذ مصطفى الزرقاء : ففي هذا العصر ساد الفكر التقليدي المغلق ، وانصرفت الاَفكار عن تلمس العلل والمقاصد الشرعية في فقه الاَحكام إلى الحفظ الجاف ، والاكتفاء بتقبل كلّ ما في الكتب المذهبية دون مناقشة.
  إلى أن قال : وفي أواخر هذا الدور حلَّ الفكر العامي محل الفكر العلمي لدى كثير من متأخري رجال المذاهب الفقهية.
  وقد شاعت كنتيجة لذلك طريقة ( المتون) في التآليف الفقهية وأصبحت هي الطريقة السائدة العامة ، وحلت كتب المتأخرين فيها محل كتب المتقدمين القيمة في الدراسة الفقهية.
  وطريقة المتون هذه يعمد فيها المتأخرون إلى وضع مختصرات يجمعون فيها أبواب العلم كلها في ألفاظ ضيقة يتبارون فيها بالايجاز ، حتى تصل إلى درجة المسخ أو الاَلغاز ، وتكاد كل كلمة أو جملة تشير إلى بحث واسع أو مسألة تفصيلية ، كمن يحاول حصر الجمل في قارورة ! ويسمى هذا المختصر ( متناً ) .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 106 ـ
  ثم يعمد موَلف المتن نفسه ، أو سواه ، إلى وضع ( شرح ) على المتن لايضاح عباراته ، وبسط تفاصيل مسائله ، والزيادة عليها.
  ثم توضع من قبل آخرين تعليقات على تلك الشروح تسمى ( الحواشي ) ثم توضع على تلك الحواشي ملاحظات تسمى ( تقريرات ). (1)
  ميزة الدور الرابع
  ولعلّ القارىَ لا يحتاج إلى تبين ميزة هذا الدور ، فإنّ سيادة الفكر التقليدي انتجت كثرة كتب الفتاوى الرسمية حسب ما طرحت عليهم من المسائل ، وقد وجد من كتب الفتاوى في هذا الدور ما كان وما يزال من أهم المراجع الفقهية ، كالفتاوى الستارخانية ، والخانية والبزازية والحامدية والهندية.

(1) مصطفى الزرقاء : المدخل الفقهي العام :1|186ـ187.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 107 ـ
أدوار الفقه السنّي
5 ـ الدور الخامس

  عصر إعادة النشاط الفقهي
  (أواخر القرن الثالث عشر إلى يومنا هذا)
  ظهور الدولة العثمانية
  كان الركب الفقهي ينحو هذا المنحى إذ ظهرت الدولة العثمانية في المشرق ، وامتد سلطانها حتى فتحت القسطنطينية في عهد السلطان محمد الفاتح ، ثمّ وحدت معظم بلاد المسلمين ونشرت الاِسلام إلى منتصف أُوربا ، فصار للمسلمين شوكة ، وقوة برية وبحرية ، ولكن بما انّ المذهب الرسمي الذي اتّخذته الدولة العثمانية هو المذهب الحنفي لم يكن هناك أي إنهاض للهمم في سبيل كسر طوق الجمود عن كاهل الفقه ، فانصبت الهمم إلى اختصار الكتب ، أو شرحها ، أو التعليق على الشروح ، وهكذا، ممّا أضعف ملكة الاجتهاد والتخريج ، وأدّى إلى التقهقر والانحطاط أكثر ممّا سبق.
  وقد أعان على ذلك الخصومات البارزة بين أتباع المذاهب الاَربعة لا سيما انّ المناصب والوظائف كانت مختصة بالاَحناف دون سائر المذاهب.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 108 ـ
  وثمة حقيقة لا يمكن إنكارها ، وهي انّ الركب الفقهي إذا تحرّك في فلك الدولة ، فيكون استثماره لصالح الدولة ومقاصدها ، فتكون الفتاوى طبقاً للاَهداف المنشودة ، ومثل هذا لا يتيح للفقه تكاملاً حقيقياً.
  وأمّا إذا كان العامل لدفع عجلة الفقه نحو الاَمام هو العامل الذاتي النفسي ، فلا محالة يستثمر العلم بأحسن ما يمكن وتنصبُّ الجهود في اقتناص الحقائق ، وكشف المجهولات ، والاِجابة عن المستجدات حسب ما يرشد إليه الدليل.
  وهذا هو سرّ خلود ( الفقه الاِمامي الاثني عشري ) وتكامله عبر القرون ، فلم يكن للركب الفقهي فيه وقفة بارزة في قرن من القرون كما سيوافيك بيانه.
  هذه هي الاَدوار التي مرّبها الفقه السنّي ، وهي أدوار خمسة ، غير أنّموَرّخي الفقه السنّي حاولوا أن يكشفوا دوراً سادساً ، وهو دور التجديد وإعادة النشاط الفقهي إلى الحياة العصرية ، وذكروا انّ مبدأه هو تأليف مجلة الاَحكام للدولة العثمانية في أواخر حياتها ، أي سنة 1286 هـ ،وإليك بيانه :
  الاتصال الوثيق بين الدولة العثمانية والدول الغربية دفع الدولة إلى تدوين قوانين في مجموعة تكون دستوراً رسمياً للدولة في العدل والقضاء ، فوضعت اللجنة في السنة1286 هـ مجلة (الاَحكام العدلية ) بصفة قانون مدني عام من الفقه الحنفي ، وقسّمتها إلى كتب ، وكلّ كتاب إلى أبواب أوّلها البيوع وآخرها القضاء بالترتيب التالي :
  البيوع ، الاِجارات ، الكفالة ، الحوالة ، الرهن ، الاَمانات ، الهبة ، الغصب ، الاتلاف ، الحجر والشفعة ، الشركات ، الوكالة ، الصلح والاِبراء ، الاِقرار ، الدعوى ، البيّنات ، التحليف والقضاء.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 109 ـ
  فشكل فبُذِرت فيما بعد النواة الاَُولى لتطوير الفقه في هذا العصر ومابعده ، وتابعته إنشاء المجامع الفقهية ومجالس الافتاء ، وقيام العلماء بالاجتهاد في المسائل المستجدة والوقائع الجديدة ، فاجتهدوا في موضوعات متعدّدة مثل : التأمين ، والشركات ، والاَسهم ،وزكاة الاَسهم ، وأطفال الاَنابيب ، وموت الدماغ ، والتشريح ، وقامت الدعوة إلى الاجتهاد الجماعي مقام الاجتهاد الفردي.
  ثمّ تلاها إقامة الندوات الفقهية والموَتمرات القانونية ، فصار في ذلك إنهاض للهمم في سبيل تطوير الفقه السنّي وإخراجه من حيز الجمود إلى الحركة ومسايرة الاَحداث المستجدة ، ولم يزل الركب سائراً على هذا الطريق.
  هذا هو تاريخ الفقه السنّي وأدواره حسب ما يناسب المقام و من يطلب التفصيل ، فعليه الرجوع إلى المصادر أدناه . (1)
  ويتلوه الكلام في أدوار الفقه الشيعي بإذن منه سبحانه.

(1) راجع موسوعة النظم والحضارة الاِسلامية للدكتور أحمد شلبي في أجزاء ، والجزء السابع مختص بتاريخ التشريح الاِسلامي ، وتاريخ النظم القضائية في الاِسلام ، الفكر السامي في تاريخ الفقه الاِسلامي تأليف محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي في جزءين ، المدخل الفقهي العام للاَُستاذ مصطفى أحمد الزرقاء ، تاريخ الفقه الاِسلامي للدكتور محمد يوسف موسى.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 110 ـ
  العهد التأسيسي للتشريع (1)
  بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسط مجتمع أُمّي ، والاَُمّي من لا يحسن القراءة والكتابة ، منسوباً إلى الاَُم باقياً على الحالة منذ يوم ولدته أُمّه ، وكان عدد من يجيد القراءة والكتابة من قريش عند ظهور الاِسلام لا يتجاوز سبعة عشر شخصاً ، كما لا يتجاوز أحد عشر شخصاً بين الاَوس و الخزرج في المدينة. (2)
  وهذا هو الاِمام علي (عليه السّلام) يصف التخلّف الثقافي الذي فشا في تلك البيئة ، بقوله : ( إنّ اللّه بعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس أحد من العرب يقرأ كتاباً ولا يدّعي نبوة ، فساق الناس حتى بوّأهم محلّتهم ،وبلّغهم منجاتهم ، فاستقامت قناتهم ، واطمأنّت صفاتهم ).
  ولم يقتصر التخلّف على الصعيد الثقافي ، بل شملت كافة الاَصعدة الاَخلاقية والاجتماعية ، وكانت حياتهم حياة قَبَليّة لا يحكمهم القانون ، ولا يسود بينهم العدل ، فهذا هو التاريخ يحكي لنا انّ رجلاً من زبيد دخل مكة المكرمة في شهر ذي القعدة ، وعرض بضاعة له للبيع ، فاشتراها منه العاص بن وائل ، وحبس عنه حقّه ، فاستعدى عليه الزبيدي قريشاً ، فطلب منهم أن ينصروه على العاص ، وقريش آنذاك في أنديتهم حول الكعبة ، فنادى المشتكي بأعلى صوته وقال :

(1) قد سبق أنّ العهد التشريعي خارج عن أدوار الفقه مطلقاً سنّياً كان أم شيعياً.
(2) البلاذري : فتوح البلدان : 457.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 111 ـ
يـا آل فـهر لـمظلوم iiبضاعتُه      بـبطن  مـكة نائي الدار والنفر
ومـحرم أشعث لم يقض iiعمرتَه      يا  للرجال وبين الحجر iiوالحجر
انّ  الـحرام لِـمَنْ تمّتْ iiكرامته      ولا حرام لثوب الفاجر القذر  (1)
  وتكمن عظمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أنّه صنع من هذه الاَُمّة المتخلّفة ، أُمّة متحضّـرة سائرة في ركاب الحضارة ، وأوجد مدينة فاضلة قلّما يشهد التاريخ لها من نظير.
  كانت الجزيرة العربية غاصة بالفساد من كافة الجوانب ، فكان يسودهم الشرك وعبادة الاَوثان ، و وأد البنات ، وقتل الاَولاد ، والاِغارة ، وقتل النفس ، والبخس في الميزان ، إلى غير ذلك من مساوي الاَخلاق ورذائلها.
  وإصلاح أُمّة كهذه ، رهن أمرين :
  الاَوّل : التشريع الكامل.
  الثاني : المنفذ الحاذق الذي يكون في مستوى التشريع الكامل.
  وماهذا الانقلاب الحضاري الذي طرأ عليهم إلاّبفضل هذين الاَمرين.
  ومن وقف على آيات الاَحكام في القرآن يجد فيها غزارة المادة ، وروعة التشريع ، وشمولها للعبادات والمعاملات والاِيقاعات والسياسات ، فنستعرض الموضوعات التي تبنّاها القرآن بالتشريع.
  فمن العبادات : الصلاة ، والصوم ، والحج ، و العمرة.
  ومن المعاملات : البيع ، والربا ، و العقود كلّها.
  ومن الاِيقاعات : الطلاق ، والاِيلاء ، والظهار ، والوصية.
  ومن السياسات : القصاص ،والحدود ، كحد الزاني والقاذف والسارق وقطّاع الطرق ، ويلحق به الجهاد بشتّى أقسامه ، والعهود ، والمواثيق المنعقدة بين

(1) البداية والنهاية : 1|290، السيرة الحلبية : 1|132.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 112 ـ
  الحاكم الاِسلامي وخصومه ، وأسرى الحرب ، وغنائمها.
  هذه نماذج من نظام التشريع القرآني الذي عدّ رصيداً في بناء الحضارة الاِسلامية وإعادة الاِنسان إلى الحياة الحرّة الكريمة ، وقد اعترف أعداء الاِسلام بهذه الحقيقة ، قال الدوزي : ( وبعد ظهور الذي جمع قبائل العرب أُمّة واحدة ، تقصد مقصداً واحداً ، ظهرت للعيان أُمّة كبيرة ، مدّت جناح ملكها من نهر تاج إسبانيا إلى نهر الجانج في الهند ، ورفعت على منار الاِشادة أعلام التمدّن في أقطار الاَرض ، أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة ، ثمّ قال : إنّهم كانوا في القرون المتوسطة مختصين بالعلوم من بين سائر الاَُمم ، وانقشعت بسببهم سحائب البربرية التي امتدت إلى أُوربا حين اختل نظامها بفتوحات المتوحشين).
  وبما انّا استوعبنا الكلام في العهد التأسيسي للفقه في الجزء الاَوّل عند البحث عن الكتاب والسنّة ، فنقتصر في المقام بهذا المقدار .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 113 ـ
أدوار الفقه الشيعي
1 ـ الدور الاَوّل

  عصر النشاط الحديثي و الاجتهادي
  ( 11 ـ 260 هـ )

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المرجع في الاَحكامل
  النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المرجع الاَوّل في الاَحكام الشرعية ، لاَنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يفتي عن اللّه بوحيه المبين ، فكلامه هو فصل الخطاب ، والخطاب الفاصل يجب اتّباعه ، والاَخذ بأوامره ونواهيه ، سواء كان ذلك في مجال التشريع وبيان الاَحكام ، أو في مجال القضاء وفصل الخصومات ، قال سبحانه : ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (1)
  وقال سبحانه : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُوَْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (2)
  فالآية الاَُولى تشير إلى ضرورة اتباعه في الاَحكام بما لها من أوامر ونواهي ، والآية الثانية تشير إلى ضرورة التسليم لما قضى به في المخاصمات والمشاجرات والنزاعات.
  وبكلمة جامعة لا يجوز التقدّم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مطلقاً و التي

(1) الحشر : 7.
(2) النساء : 65.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 114 ـ
  تشمل التقدّم في الرأي أيضاً ، قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيم ) (1)
  إنّ قوله سبحانه : ( أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَومٍ يُوقِنُون ) (2) ، دلّ على أنّ الحكم يُصنَّف إلى صنفين : حكم جاهلي ، وحكم إلهي. فما لم يكن بإذن من اللّه سبحانه ، فهو جاهلي ، ولا يعلم ذلك الاِذن إلاّ عن طريق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يتولّى الوحي مهمة إيصاله إليه من ربه ، وجاء في موارد ثلاثة لزوم الحكم بما أنزل اللّه دون غيره ، وانّ مَن لم يمتثل ذلك فهو كافر وظالم وفاسق ، كما يقول سبحانه : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُون) (3) وفي آخر : ( فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) (4) وفي موضع ثالث : ( فَأُولئكَ هُمُ الْفاسِقُون ). (5)
  وهذا ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين ، والآيات الواردة في هذا الهدف كثيرة ، نكتفي بهذا المقدار منها.

العترة هم المرجع في الاَحكام بعد رحيله (صلى الله عليه وآله وسلم)
  إذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المرجع العلمي للمسلمين في المعارف والاَحكام ، فطبيعة الحال تقتضي أن يكون هناك من يملاَ هذا الفراغ بعد رحيله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولا يصحّ في منطق العقل ترك الاَُمّة سدىً ، لئلاّ يأخذوا بحكم الجاهلية مكان الحكم الاِلهي.
  وهذا المرجع هو العترة الطاهرة ، قرناء القرآن بتنصيص من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في حديثه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ( إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه ، وعترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ) .

(1) الحجرات : 1.
(2) المائدة : الآيات : 50 ، 44 ، 45 ، 47.
(3) المائدة : الآيات : 50 ، 44 ، 45 ، 47.
(4) المائدة : الآيات : 50 ، 44 ، 45 ، 47.
(5) المائدة : الآيات : 50 ، 44 ، 45 ، 47.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 115 ـ
  وحديث الثقلين ، حديث متواتر ، رواه الفريقان في كتبهم ، وألّف غير واحد رسائل وكتباً مستقلة في طرقه واسناده ومفاده. (1)
  والجدير بالمسلمين التركيز على مسألة تعيين المرجع العلمي بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، إذ لا يسوغ في منطق العقل أن يترك صاحب الرسالة ، الاَُمّةَ المرحومة بلا راع ،وهو يعلم أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) برحيله سوف يواجه المسلمون حوادث مستجدة ووقائع جديدة تتطلب أحكاماً غير مبيّنة في الكتاب والسنّة ، فلا محيص من وجود مرجع علمي يحل مشاكلها ويذلّل أمامها الصعاب ، وقد قام (صلى الله عليه وآله وسلم) ببيان من يتصدّى لهذا المنصب بحديث الثقلين الذي ألقاه في غير موقف من المواقف.
  ومن العجب انّ كثيراً من المسلمين يطرقون كلَّ باب إلاّ باب أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) مع أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يذكر شيئاً ممّا يرجع إلى غير هوَلاء ، فلا أدري ما هو وجه الاِقبال على غيرهم والاِعراض عنهم ؟!

أُولي الاَمر
  أمر سبحانه بإطاعة الرسول وأُولي الاَمر ، بأمر واحد ،قال : ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولي الاََمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُوَْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلاً ) . (2)
  تأمر الآية بإطاعة اللّه كما تأمر بإطاعة الرسول ، وأُولي الاَمر ، لكن بتكرار

(1) لاحظ صحيح مسلم : 7|122و 123 ، باب فضائل علي ، طبعة محمد علي صبيح ، مصر، سنن الترمذي :2|308، مستدرك الصحيحين :3|109 و 148، مسند أحمد : 3|17 و 26 و ج4|371 و ج5|181، الطبقات الكبرى لابن سعد :2|2 ، القسم 2، حلية الاَولياء لاَبي نعيم :1|355 و ج9|64، كنز العمال :1|47و96 ، وغيرها.
(2) النساء : 59.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 116 ـ
  الفعل ، أعني : ( وَأَطِيعُوا الرَّسول ) وما هذا إلاّ لاَنّ سنخ الاِطاعتين مختلف ، فإطاعته سبحانه واجبة بالذات ، وإطاعة النبي وأُولي الاَمر واجبة بإيجابه سبحانه.
  والمهم في الآية هو التعرّف على المراد من أُولي الاَمر ، فقد اختلف فيه المفسّرون على أقوال ثلاثة :
  أ ـ الاَُمراء.
  ب ـ العلماء.
  ج ـ صنف خاصّ من الاَُمّة ، وهم أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) .
  وبما أنّه سبحانه أمر بإطاعة أُولي الاَمر إطاعة مطلقة غير مقيّدة بما إذا لم يأمر بالمعصية ، فيمكن استظهار أنّ أُولي الاَمر ـ المشار إليهم في الآية والذين وجبت طاعتهم على الاِطلاق ـ معصومون من المعصيّة والزلل كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى صارا مقترنين بالطاعة في الآية.
  وبعبارة أُخرى : انّه سبحانه أوجب طاعتهم على الاِطلاق ، كما أوجب طاعته ، وطاعة رسوله ، ولا يجوز أن توجَب طاعة أحد على الاِطلاق إلاّ من ثبتت عصمته ، وعلم أنّ باطنه كظاهره ، وأُمن منه الغلط والاَمر بالقبيح ، وليس ذلك بحاصل في الاَُمراء ، ولا العلماء سواهم ، جلَّ اللّه عن أن يأمر بطاعة من يعصيه ، أو بالانقياد للمختلفين في القول والفعل ، لاَنّه محال أن يطاع المختلفون ، كما أنّه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه. (1)
  وقد أوضحه الرازي في تفسيره ، وذهب إلى أنّ المقصود من أُولي الاَمر ، هم المعصومون من الاَُمّة وإن لم يدخل في التفاصيل ، ولم يستعرض

(1) مجمع البيان : 3|100.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 117 ـ
  مصاديقهم ، لكنّه بيّنه بصورة واضحة ، وقال :
  والدليل على ذلك ، أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الاَمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابدَّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير اقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللّه بمتابعته ، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأً منهي عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الاَمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد ، وأنّه محال.
  فثبت أنّ اللّه تعالى أمر بطاعة أُولي الاَمر على سبيل الجزم ، وثبت أنّ كلَّ من أمر اللّه بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ ، فثبت قطعاً أنّ أُولي الاَمر المذكور في هذه الآية لابدّ وأن يكون معصوماً (1).
  روى ابن شهر آشوب عن تفسير مجاهد ، أنّ هذه الآية نزلت في أمير الموَمنين حين خلفه رسول اللّه في المدينة ، فقال : (يا رسول اللّه ، تخلفني على النساء والصبيان؟ ) فقال : (يا عليّ ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبي بعدي ، حين قال : اخلفني في قومي وأصلح ، فقال اللّه : (وَأُولي الاََمْرِ مِنْكُمْ ) ) .
  وقد أخذت الاَُمّة عن أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) في مجال المعارف و الاَحكام ما ملاَ كتب الفريقين ، أمّا الاِمام أمير الموَمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فحدث عنه ولا حرج ، وأمّا الحسنان فقد قسا عليهما الزمان ، وحالت الحكومة الاَُموية بينهما و بين الاَُمّة ، وبالتالي فقد قلَّت الرواية عنهما ، وعن علي بن الحسين (عليهم السّلام) أيضاً.

(1) الفخر الرازي : التفسير الكبير : 1|144.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 118 ـ
العترة عيبة علم الكتاب والسنّة
  ترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الكتاب العزيز ، وقد رسمت فيه الخطوط العريضة للاَحكام التي كانت بحاجة إلى تبيين وتفسير إذ فيها المجمل و المطلق و العام ، ولا يُطّلع على حقيقتها إلاّ ببيان شارح ، كما أنّه ترك السنّة وهي في صدور الحفاظ الذين تفرّقوا في البلاد ، وقد أكلت حروب الردة جماعة منهم ، أضف إلى ذلك أنّ قسماً من السنّة وضعت المبادىَ العامة دون تفسيرها وبيانها.
  كان الوضع على هذا المنوال حتى مُنعت كتابة الحديث وتدوينه والتحدّث به ، ولا شك انّالمنع لم يكن لدوافع شرعية ، بل كان بدوافع سياسية ، وقد مُني من جراء ذلك جمهور المسلمين بخسارة جسيمة ، إلاّ أنّ الشيعة لم يعيروا أهمية لهذا الحظر ، بل دأبوا على كتابة السنّة وتدوينها ونشرها بين أبنائهم ، علماً منهم بأنّالسنّة وحي كالقرآن الكريم لا يمكن التساهل فيها دون نشرها وإلاّ تذهب أدراج الرياح ، و المسلمون خلال الاَعصار المتعاقبة لمسوا الحاجة إلى تدوين السنّة والاطّلاع عليها ، لاَنّ ما في الصدور يذهب بذهاب أصحابها.
  قامت أئمّة الشيعة وأتباعهم بوجه منع كتابة السنّة ، ودوّنوا الحديث من غير اكتراث بحظر المنع ، منهم :
  1 ـ الاِمام أمير الموَمنين (عليه السّلام)
  قال النجاشي في ترجمة محمد بن عذافر الصيرفي ، عن أبيه ، قال : كنت مع الحكم بن عتيبة ، عند أبي جعفر ، فجعل يسأله ، و كان أبو جعفر (عليه السّلام) له مكرماً ، فاختلفا في شيء ، فقال أبو جعفر (عليه السّلام) : ( يا بني قم فأخرج كتاب علي (عليه السّلام) ) فأخرج كتاباً مدروجاً عظيماً ، ففتحه و جعل ينظر حتى أخرج المسألة ،

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 119 ـ
  فقال أبو جعفر (عليه السّلام) :( هذا خط علي (عليه السّلام) و إملاء رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ) وأقبل على الحكم و قال : (يا أبا محمد اذهب أنت وسلمة(بن كهيل) و أبو المقدام حيث شئتم يميناً وشمالاً ، فواللّه لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل (عليه السّلام) ). (1)
  وقد أخرج العلاّمة الشيخ علي الاَحمدي في موسوعته قسماً من الروايات المنتهية إلى كتاب علي (عليه السّلام) المبثوثة في الكتب الحديثية لا سيما كتاب الوسائل (2) .
  وكان للاِمام كتاب آخر يدعى "الصحيفة" جمع فيه ما يرجع إلى الديات ، وقد قام أيضاً الشيخ الاَحمدي بجمع ما روي عن تلك الصحيفة في غير واحد من الصحاح والمسانيد (3) .
  وبذلك يظهر انّ ما رواه البخاري في باب كتابة العلم ، عن أبي جحيفة قال : قلت لعلي هل عندكم كتاب ؟ قال : لا ، إلاّكتاب اللّه ، أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة( قال : قلت : وما في هذه الصحيفة؟ قال : ( العقل ، وفكاك الاَسير ، ولا يقتل مسلم بكافر ) (4) ليس على صواب لوجهين :
  أوّلاً : فقد كان للاِمام كتاب وراء الصحيفة جاءت ميزاته وخصوصياته في رواية أئمة أهل البيت وكان طوله 70 ذراعاً وضخامته كفخذ الاِبل وكان الكتاب مدروجاً.
  ثانياً : أنّ الصحيفة اشتملت على أحكام كثيرة في باب القصاص والديات ، ولم تكن مقتصرة على هذه الجمل الثلاث.

(1) النجاشي : الرجال : الترجمة 967.
(2) لاحظ مكاتيب الرسول :1|72 ـ 89.
(3) لاحظ مكاتيب الرسول : 1|66ـ71.
(4) البخاري : الصحيح :1|38 ، باب كتابة العلم ، الحديث الاَوّل.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 120 ـ
  2 ـ أبو رافع الصحابي
  وقد تبعت الشيعة الاِمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) في تدوين السنّة و لم يعيروا للمنع وزناً ، و هذا أبو رافع الصحابي الجليل من شيعة علي بن أبي طالب ، الذي أعتقه رسول اللّه عندما بشّر بإسلام العباس ، يقول النجاشي :
  ولاَبي رافع كتاب السنن والاَحكام والقضايا. (1)
  ويظهر من النجاشي انّالكتاب كان مشتملاً على أبواب الصلاة والصيام والحج والزكاة والقضايا.
  3 ـ علي بن أبي رافع التابعي
  وقد اقتفى أثر أبيه في تدوين السنّة ، ابنه علي بن أبي رافع ذلك التابعي الذي كان من خيار الشيعة ، وكان له صحبة مع أمير الموَمنين ، وكان كاتباً له ، وحفظ كثيراً ، وجمع كتاباً في فنون من الفقه ، الوضوء والصلاة وسائر الاَبواب (2) .
  4 ـ عبيد اللّه بن أبي رافع التابعي
  فقد ألّف عبيد اللّه بن أبي رافع كتاباً في أقضية أمير الموَمنين ، ذكره الشيخ في ( الفهرست ) وذكر سنده إليه، (3) فإذن أبو رافع وولداه : علي و عبيد اللّه حفظوا السنّة النبوية التي ورثوها عن الاِمام أمير الموَمنين والصحابة والتابعين.
  نعم زعم شيخنا التستري انّ هناك كتاباً واحداً نسبه النجاشي إلى علي بن

(1) النجاشي : الرجال : 1|65 ، الترجمة 1.
(2) النجاشي : الرجال :1|65 ، الترجمة 1.
(3) الطوسي : الفهرست : برقم 441.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 121 ـ
  أبي رافع ، و الشيخ إلى عبيد اللّه واللّه العالم. (1)
  ولم يعلم مدركه لهذا الادّعاء إذ لا مانع من وجود كتابين ، أحدهما يرجع إلى أبواب الفقه كما هو صريح النجاشي ، والآخر يرجع إلى باب أقضية الاِمام أمير الموَمنين علي (عليه السّلام) .
  5 ـ ربيعة بن سميع التابعي
  قال النجاشي عند ذكر الطبقة الاَُولى من موَلّفي الحديث : ربيعة بن سميع عن أمير الموَمنين (عليه السّلام) ، له كتاب في زكوات النعم (2) .
  ثمّ ذكر سنده إلى الكتاب ناقلاً عن ربيعة بن سميع ، عن أمير الموَمنين أنّه كتب له في صدقات النعم وما يوَخذ من ذلك ، وهذا صريح في أنّ الاِمام أملاه وكتبه ربيعة ، أو كتبه نفس الاِمام ودفعه إليه.
  6 ـ عبيد اللّه بن الحر الجعفي ، الفارس الفاتك ، الشاعر التابعي قال النجاشي : له نسخة يرويها عن أمير الموَمنين (عليه السّلام) .
  وروى النجاشي أيضاً بسنده عنه انّه سئل الحسين بن علي عن خضابه ، فقال (عليه السّلام) : ( أما إنّه ليس كما ترون إنّما هو حناء وكتم ) (3) هذه هي الطبقة التي دونت السنّة النبوية المأخوذة عن لسان أمير الموَمنين (عليه السّلام) وسائر الصحابة والتابعين.

(1) التستري : قاموس الرجال :6 ، ترجمة علي بن أبي رافع.
(2) النجاشي : الفهرست :برقم 2.
(3) النجاشي :1|71 برقم 5 ، والكتم بالتحريك نبت يخلط بالحناء ، ويختضب به الشعر ، فيبقى لونه.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 122 ـ
  بيد انّ هذا الوضع لم يدم طويلاً ، فقد كثرت الضغوط على الشيعة في عهد الاَُمويين خاصة في عهد معاوية وعبد الملك بن مروان وابنائه ، فقام الاَئمّة الثلاثة الّذين أعقبوا الاِمام أمير الموَمنين علياً (عليه السّلام) ، أعني : الحسن بن علي ، والحسين بن علي ، و علي بن الحسين (عليهم السّلام) ، بأعباء الاِمامة وإرشاد الاَُمّة في أجواء مشحونة بالعداء والبغض لاَئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) ، فلم تسنح الفرص للشيعة من أن ينهلوا من معين علوم الاَئمّة (عليهم السّلام) إلاّ قليلاً منهم ، وسيوافيك أسماء من أخذ الفتيا عنهم في تلك الظروف العصيبة.
  ومع هذا الضغط ، فقد ذكر الشيخ الطوسي أصحاباً للاِمام الحسن (عليه السّلام) الذين صاحبوه ورووا عنه ، فبلغوا 52 بين صحابي وتابعي ارتوَوا من معين علمه الفيّاض.
  كما ذكر أصحاب الاِمام الحسين بن علي (عليهما السّلام) وفق الحروف الهجائية ، فبلغوا 109 بين صحابي وتابعي ، وقد رووا عنه في مختلف المجالات من العقائد والفقه والتفسير.
  وعلى الرغم من أنّ الاِمام السجاد كان محاطاً بالعيون وعلى مرأى ومسمع من حكّام بني أُميّة ، لكنّه ترك تراثاً علمياً في العقائد والحقوق تتجسد في ( الصحيفة السجادية ) ورسالة ( الحقوق ).
  أمّا الصحيفة ، فهي في فصاحة ألفاظها ، وبلاغة معانيها ، و الاَساليب العجيبة في طلب عفوه وكرمه سبحانه ، فريدة في بابها ليس لها مثيل .
  وأمّا الرسالة ، فقد رواها الحسن بن شعبة في ( تحف العقول ) كما رواها الصدوق في ( خصاله ) ، وهي من جلائل الرسائل في أنواع الحقوق ، فيذكر الاِمام فيها حقوق اللّه سبحانه على الاِنسان ، وحقوق نفسه عليه ، وحقوق أعضائه من اللسان والسمع والبصر و الرجلين واليدين و البطن و الفرج ، ثمّ يذكر حقوق

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 123 ـ
  الاَفعال من الصلاة والصوم والحج والصدقة والهدي ، ثمّ يذكر حقوق الاَئمّة ، والرعية وحقّ الرحم حتى بلغت 50 حقاً آخرها حقّ الذمة. (1)
  وقد ذكر الطوسي في رجاله الرواة عنه (عليه السّلام) ورتّبها على حروف المعجم ، فبلغ 175 شخصاً ، وهم بين صحابي وتابعي. (2)

عصر الاِمامين الباقر والصادق (عليهما السّلام)
  ولمّا ضعفت الدولة الاَُموية ، وازدادت القلاقل و الفتن ضدها سنحت الفرصة للاِمامين الباقر والصادق (عليهما السّلام) ، لبثِّ السنّة النبوية ، وتزويد الاَُمّة بالعلوم الاِلهية ، فصارت الشيعة تتحمل عناء السفر والحضور عند الاَئمّة بغية النهل من معين علومهم العذب ، وضبط كلّ ما سمعوه في كتبهم مادامت الفرصة متاحة ، فبثّا من العلوم ما يشدّ إليه الركبان.
  يقول الموَرّخ الكبير شيخنا الطهراني :
  كانت الشيعة تتوصّل بكلّ طريقة للتشرّف بحضرتهم ، وأخذ معالم دينهم عنهم ، وتدوينها في كتبهم ، والفاحص في أحوال الرواة وأخبارهم يعرف مبلغ اهتمامهم في تلقّي أنواع المعارف والعلوم من معادنها في السر والعلانية حسب الاقتضاءات الزمنيّة ، ويطّلع على مقدار رعايتهم للآداب في حالات حضور مجالس أئمتهم ، وعرض المسائل عليهم وسماع الاَجوبة عنهم ، وإعدادهم ما يلزمهم لذلك من الاَدوات بوضع الاَلواح من آبنوس والاميال في أكمامهم ، ثمّ مبادرتهم إلى كتابة ما سمعوه عنهم بعينه صيانة من وقوع السهو ، أو عروض

(1) انظر تحف العقول : 184ـ195، الخصال : 564ـ 570 ، في أبواب الخمسين.
(2) الطوسي : الرجال :81ـ102.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 124 ـ
  نسيان ، أو حصول تغيير في المعنى بتغيير اللفظ ، ثمّ كيفيات تحفّظهم على كتبهم بعدم إخراجها إلى من لا يثقون به خوفاً من دسّه شيئاً فيها ، وعدم جعل سبيلها كسائر التركة ، ثمّ يخرجونها عنهم في حياتهم إلى من يثقون بديانته وصلاحه وأهليّته أو يوصون بها إليه ، كلّ ذلك منهم طوعاً و انقياداً لطلبات مواليهم المعصومين (عليهم السّلام) . (1)
  قال ابن حجر في ترجمة الاِمام الباقر (عليه السّلام) : سُمي بذلك لاَنّه من بقر الاَرض ، أي شقّها ، وإثارة مخبآتها ومكامنها ، فكذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الاَحكام ، والحكم و اللطائف ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة أو فاسد الطوية والسريرة ، ومن ثمّ قيل فيه هو باقر العلم وجامعه وشاهر علمه ورافعه. (2)
  وقال ابن كثير : أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وسمي بالباقر لبقره العلوم ، واستنباطه الحكم ، كان ذاكراً خاشعاً صابراً ، وكان من سلالة النبوة ، رفيع النسب ، عالي الحسب ، وكان عارفاً بالخطرات ، كثير البكاء والعبرات ، معرضاً عن الجدال والخصومات. (3)
  وقال ابن خلكان : أبو جعفر محمد بن زين العابدين ، الملقّب بالباقر ، أحد الاَئمة الاثني عشر في اعتقاد الاِمامية ، وهو والد جعفر الصادق ، كان الباقر عالماً سيداً كبيراً ، وإنّما قيل له الباقر لاَنّه تبقّر في العلم أي توسّع ، وفيه يقول الشاعر :
  يا باقر العلم لاَهل التقى وخير مَنْ لبّى على الاَجْبُلِ (4)

(1) الطهراني : الذريعة :1|15ـ16 ، المقدّمة.
(2) الصواعق المحرقة :201.
(3) البداية و النهاية :9|309.
(4) وفيات الاَعيان :4|174.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 125 ـ
  وهذا هو محمد بن طلحة ، يعرّف الاِمام الصادق بقوله : هو من عظماء أهل البيت وساداتهم ذو علوم جمّة ، وعبادة موفورة ، وزهادة بيّنة ، وطراوة كثيرة ، يتبع معاني القرآن الكريم ، ويستخرج من جواهره ، ويستنتج عجائبه ، ويقسم أوقاته على أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليها نفسه ، روَيته تذكر بالآخرة ، واستماع كلامه يزهد في الدنيا ، والاقتداء بهداه يورث الجنة ، نور قسماته شاهد أنّه من سلالة النبوّة ، وطهارة أفعاله تصدع أنّه من ذرّية الرسالة : نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من أعيان الاَئمّة وأعلامهم ، مثل : يحيى بن سعيد الاَنصاري ، وابن جريج ، ومالك بن أنس ، والثوري ، وابن عيينة ، وأبي حنيفة ، وشعبة ، وأبي أيوب السجستاني وغيرهم ، وعدّوا أخذهم عنه منقبة شرِّفوا بها وفضيلة اكتسبوها. (1)
  ولقد امتدّ عصر الاِمام الصادق (عليه السّلام) من نهاية خلافة عبد الملك بن مروان إلى منتصف خلافة المنصور الدوانيقي ، أي من سنة 83 هـ إلى سنة 148 هـ . فقد أدرك فترة طويلة من العصر الاَُموي ، وعاصر كثيراً من ملوكهم وشاهد من جورهم أعنف أشكاله ، وقضى شطراً من حياته حتى الحادية عشرة مع جدّه زين العابدين ، وحتّى الثانية والثلاثين مع أبيه الباقر ، ونشأ في ظلّهما يتغذّى من تعاليمهما حتى تكاملت تربيته الدينية ، وتخرّج من تلك المدرسة الجامعة ، فاختصَّ بعد وفاة أبيه بالزعامة سنة 114 هـ ، واتسع نشاط مدرسته في المدينة ومكة والكوفة وغيرها من الاَمصار الاِسلامية.
  وقد اتّسم العصر المذكور الذي عاشه الاِمام بظهور الحركات الفكريّة ، ووفود الآراء الاعتقادية الغريبة إلى المجتمع الاِسلامي ، لا سيما حركة الغلاة الهدّامة ، الذين تطلّعت روَوسهم في تلك العاصفة الهوجاء إلى بث روح التفرقة بين المسلمين ، وترعرعت بُناة أفكارهم في ذلك العصر ليقوموا بمهمّة الانتصار

(1) كشف الغمة : 2|368 ، وفيه أيوب السختياني ، و الصحيح ما ذكرناه.