استنبط بها ما دوّنه من الاَحكام ، فإذا أتم ذلك صار من العلماء الفقهاء ، ومنهم من تعلو به همّته فيوَلّف كتاباً في أحكام إمامه إمّا اختصاراً لموَلّف سبق ، أو شرحاً له ، أو جمعاً لما تفرّق في كتب شتّى ، ولا يستجيز الواحد منهم لنفسه أن يقول في مسألة من المسائل قولاً يخالف ما أفتى به إمامه ، كأنّ الحقّ كلّه نزل على لسان إمامه وقلبه ، حتّى قال طليعة فقهاء الحنفية في هذا الدور وإمامهم من غير منازع ، وهو أبو الحسن عبيد اللّه الكرخي : كل آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي موَولة أو منسوخة ، وكل حديث كذلك فهو موَول أو منسوخ ، وبمثل هذا أحكموا دونهم إرتاج باب الاختيار. (1)
  لقد تلقّى المتأخرون ، المذاهب الاَربعة تراثاً إسلامياً بلغ من القداسة كأنّه موحى من اللّه لا يمكن النقاش فيه ، ولا يجوز الخروج عن إطاره ، فأصبحت نصوص الاَئمّة الاَربعة ، كالوحي المنزل يجب استفراغ الوسع في فهم كلامهم ، وموَدّى لفظهم ، خلف ذلك فيما بعد آثاراً سلبية حالت دون تكامل الفقه ، منها :
  1 ـ نشوء روح التقليد عند فقهاء تلك الاَعصار ، والتعصّب لمذهب الاَسلاف.
  2 ـ كثرة التخريج والتفريع والترجيح بين فقهاء المذاهب ، فإنّهم بدل أن يبذلوا جهودهم في فهم الكتاب والسنّة انصبت جهودهم في استنباط الفروع من الاَُصول الثابتة عند أئمّة المذاهب ، ولاَجل ذلك كثر التأليف والتصنيف في هذه العصور وأكثرها يحمل طابع التخريج والتفريع ، وقد حفظ تاريخ طبقات الفقهاء أسماء الذين برعوا في تلك الاَعصار ، وكلّ يحمل على عاتقه الدفاع عن المذهب الذي ينتحله ، ويتعصّب له ، ويوَلّف في فقه إمامه ، أو يشرح كتب من ألّف من فقهه.

(1) الخضري بك : تاريخ التشريع الاِسلامي : 278 ط دار الفكر .

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 77 ـ
  وقد خلّف هذا الوضع أثراً سلبياً عجيباً ، وهو انّ انتصار كلّ حاكم من الحكام لمذهب من المذاهب ، صار سبباً لانقراض كثير من المذاهب ، كمذهب سفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، وعبد اللّه بن مبارك ، وأبي عمرو الاَوزاعي ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وليث بن سعد ، وداود بن علي ، وأبي ثور ، وابن جرير الطبري وغيرهم.
  فقد كانت الدولة العباسية تثبّت دعائم مذهب أبي حنيفة ، فيولّى على القضاء من كان متبعاً لهذا المذهب ، ولما استولى الفاطميون على مصر نشروا المذهب الاِسماعيلي ومنعوا التفقّه على مذهب أبي حنيفة ، لاَنّه مذهب الدولة العباسية وسمحوا بالتفقّه على المذهب المالكي والشافعي والحنبلي.
  وقد ذكر الاَُستاذ أحمد مصطفى الزرقاء

العوامل التي سببت الاِفتاء بغلق باب الاجتهاد ، وذكر منها الاَسباب التالية :
  1 ـ التعصّب المذهبي
  فقد تعصّب التلاميذ لآثار أساتذتهم من الاَئمّة المجتهدين الّذين أناروا العصر السابق ، وكشفوا ظلمات المسائل بنور عقولهم الساطع.
  ولا يخفى انّا لتعصّب لفكرة ، يحمل الاِنسانَ على الجمود عليها والتعلّق بأهدابها ، ودعوة الناس إليها دون سواها ، وهكذا فعل أُولئك الذين جاءوا بعد الاَئمة السابقين ، فقد عنوا بدراسة مذاهبهم ونشرها بدلاً من السير على منهاجها ، والاجتهاد كما اجتهد أصحابها ، فوثق الناس بالسابقين وشكّوا في أنفسهم.
  2 ـ ولاية القضاء
  فقد كان الخلفاء يختارون القضاة أوّل الاَمر من المجتهدين لا من

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 78 ـ
  مقلّديهم ، ولكنّهم فيما بعد آثروا اختيارهم من المقلّدين ، ليقيدوهم بمذهب معين ، ويعيّنوا لهم ما يحكمون على أساسه بحيث يكونون معزولين عن كلّ قضاء يخالف ذلك المذهب ، ولاَنّ بعض القضاة المجتهدين كان يتعرض الفقهاء المذهبيون لتخطئته ، فيكون حكمه مثاراً لنقد الناس لا سبب اطمئنان لهم.
  وهكذا كان تقيّد القاضي بمذهب يرتضيه الخليفة سبباً في اكتفاء أكثر الناس به وإقبالهم عليه.
  3 ـ تدوين المذاهب
  إنّ تدوين المذاهب قد سهّل على الناس تناولها ، والناس دائماً يطلبون السهل اليسير دون الصعب العسير ، وقد كان يدفع الناس إلى الاجتهاد في العصور السابقة ضرورة ملجئة إلى تعرّف أحكام حوادث وشوَون جديدة ما كانوا يعرفون حكمها الشرعي.
  فلمّا جاء المجتهدون ودوّنوا أحكام الحوادث التي عرضت والتي يحتمل عروضها ، صار الناس كلّما عرضت لهم مسألة وجدوا السابقين قدتعرّضوا لها ، فاكتفوا بمقالهم في شأنها ، فسدّت حاجتهم بما وجدوا ، فلا عامل يحفزهم إلى بحث جديد.
  وساعد على ذلك ما للاَقدمين من موقع علمي كبير جدير بالتقدير ، وما يكسبهم تفوقهم على مضي الزمن من إجلال ، وما يكون من عناية الاَهم بتكريم سلفها الصالح ليرتبط حاضرها بماضيها برباط متين.
  لهذا كلّه انصرف الناس إلى التقليد ، اللّهمّ إلاّ في تعرّف علل الاَحكام المذهبية ، أوترجيح بعض الآراء في المذهب نفسه على غيرها.
  ويسمّى من أُوتي القدرة العلمية على ذلك : مجتهداً في المذهب ، أي انّه

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 79 ـ
  ليس مجتهداً مطلقاً ذا مذهب مستقل ، بل هو من أتباع إمام مجتهد ، ولكنّه ذو رأي معتبر في ضمن مذهب إمامه ، وفي البناء على أُصوله. (1)
  هذه العوامل الثلاثة وإن سببت ركود الحركة الاجتهادية ، ولكنّها عوامل جانبية على ما يبدو ، بل هناك سبب آخر وهو المهم في شلِّ الحركة العلمية الفقهية ، وهو تأثير السياسة التي اتّخذها القادر باللّه الخليفة العباسي للحد من نشاط الحركة الاجتهادية حيث تصدّى للخلافة ما يقرب عن 41 عاماً، (2) ساد في هذه الفترة الطويلة فكرة التقشف والتنسّك وذم الفكر والاجتهاد في الدين ، ويعرب عن ذلك ما ذكر من حالاته وأفعاله ، فقد عرفوا القادر باللّه بأنّه : صنّف كتاباً ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث ، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز ، وأفكار المعتزلة ، والقائلين بخلق القرآن ، وكان الكتاب يُقرأ في كلّ جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي ، ويحضر الناسُ سماعه ، ذكر محمد بن عبد الملك الهمداني انّ القادر باللّه كان يلبس زي العوام ويقصد الاَماكن المعروفة بالبركة ، كقبر معروف وتربة ابن بشار. (3)
  وقد بلغ كبح جماح الفكر بمكان انّه استتاب القادر باللّه سنة 408 هـ فقهاء المعتزلة والحنفية ، فأظهروا الرجوع وتبرّأوا من الاعتزال ، ثمّ نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للاِسلام ، وأخذ خطوطهم بذلك وانّهم متى خالفوه حلَّ بهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم ، وامتثل يمين الدولة وأمين الملّة أبو القاسم محمود أمر أمير الموَمنين ، واستنّ بسننه في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها في قتل

(1) مصطفى أحمد الزرقاء : المدخل الفقهي العام :1|177ـ 179.
(2) بويع بالخلافة عام 381هـ وتوفي عام 422هـ. لاحظ المنتظم :14|353 و15|217.
(3) ابن الجوزي : المنتظم :14|354.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 80 ـ
  المعتزلة والرافضة والاِسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم ونفاهم ،وأمر بلعنهم على منابر المسلمين ، وإيعاد كلّ طائفة من أهل البدع وطردهم عن ديارهم ، وصار ذلك سنّة في الاِسلام. (1)
  فإذا كان هذا حال أمير الموَمنين وحال وزيره في أصقاع كبيرة من الاَرض كخراسان ، فكيف يستطيع أي متكلم بارع أو فقيه متضلّع أن يفكّر في تجديد الهيكلية الفقهية أو العقائدية ، أو يطرح وجهات نظره الخاصة ، إذ لا يوَمن من أن يوَخذ باتّهام مخالفته لاَهل السنّة والجماعة ، فينكل به أو يحبس أو يصلب على أعواد المشانق ؟!
  وقد مضى انّه كتب كتاباً عرف باسم ( الاعتقاد القادري ) ، وكأنّه وحي منزل يجب أن يقرأ في كلّ جمعة ، وقد امتد ذلك طول خلافته الطويلة ، ومع أنّه توفي عام 422 هـ ، ولكن السياسة التي ابتدعها للدولة دامت بعد موته في خلافة ابنه القائم بأمر اللّه ، وهذا هو ابن الجوزي يذكر في حوادث عام 433 هـ انّه قرأ الاعتقاد القادري في الديوان ، وحضر الزهّاد والعلماء ، وممّن حضر الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ، فكتب خطه تحته قبل أن يكتب الفقهاء ، وكتب الفقهاء خطوطهم فيه : إنّ هذا اعتقاد المسلمين ومن خالفه فقد فسق وكفر ، ثمّ ذكر نص الاعتقاد القادري. (2)
  ويقول في آخره : هذا هو قول أهل السنّة والجماعة الذي من تمسّك به كان على الحق المبين ، وعلى منهاج الدين ، و الطريق المستقيم ، ورجا به النجاة من النار ودخول الجنة. (3)
  وقد شعر ببعض ما ذكرنا بعض المستشرقين يقول آدم مِتز :
  وكان معنى ذلك نهاية تطور علم الكلام ، ويستطيع الرجل الثاقب النظر أن

(1) المنتظم : 15|125ـ 126.
(2) المنتظم : 15|279 ، حوادث سنة 433هـ.
(3) المنتظم :15|281.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 81 ـ
  يتبيّـن في كلّ كلمة من هذا الاعتقاد جراثيم المنازعات التي مضت عليها قرون ثم نقل الاعتقاد القادري بنصّه. (1)
  والحقّ انّ القادر باللّه ليس هو أوّل من كبح جماح الفكر ، بل تبع المنهج الذي اختطه المتوكل باللّه بعد المأمون وابنه الواثق ، فقاطبة الخلفاء الذين أعقبوا المتوكل قادوا حملة شرسة ضد الفكر وأهله ، وروّجوا لما ورثه العلماء من السلف.
  يقول آدم مِتز : ومضى عصر الابتكار في التشريع و اعتُـبر العلماء الاَوّلون كالمعصومين ، وأصبح الفقيه لا يستطيع إصدار حكمه الخاص إلاّ في المسائل الصغيرة ، وهذا يشبه ما حدث عند اليهود من مجيَ الربّانيين الذين كان قصاراهم ، التناقش في آراء القدماء ، وذلك بعد مضي عهد علماء الكتاب الذي يعلمون الكتاب ويحق لهم الاجتهاد. (2)
  وفي الحقيقة انّه كان هناك صراع بين الفقهاء ، أهل الفكر الحر الذين يبغون إثارة الكتاب والسنّة واستنطاقها للاِجابة على كلّ حادث مستجد ، وبين المحدّثين المتمسّكين بالسنّة القديمة.
  يقول آدم مِتز : وكان أهم المذاهب بين أصحاب الحديث الحنابلة والاَوزاعية والثورية ، ولم يكن الحنابلة في ذلك ـ خلافاً لما صار إليه الحال فيما بعد ـ يعتبرون من جملة الفقهاء ، وفي سنة 306 هـ ذُكر أصحاب الحديث ، فكانوا الشافعية والمالكية والثورية أصحاب سفيان الثوري والحنفية والداوودية وفي أواخر القرن الرابع كانوا هم الحنفية والمالكية والشافعية والداوودية ولم يذكر الحنابلة بين الفقهاء في هاتين المدّتين ، ولمّا توفي محمد بن جرير الطبري عام 310 هـ دفن بداره ليلاً ، لاَنّ العامة اجتمعت ومنعت من دفنه نهاراً ، وكان ذلك بتأثير الحنابلة ، وقد تعصب عليه هوَلاء ، لاَنّه جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل ، فسئل عن ذلك؟ فقال : لم يكن فقيهاً وإنّما كان محدّثاً (3) .

(1) آدم متز : الحضارة الاِسلامية :1|363 و 369 و 370.
(2) آدم متز : الحضارة الاِسلامية :1|363 و 369 و 370.
(3) آدم متز : الحضارة الاِسلامية :1|363 و 369 و 370.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 82 ـ
  هذه الجمل المتناثرة من التاريخ تكشف لنا بوضوح عن سيادة أهل الحديث والسلفية على البيئات العلمية ونصرة السلطات الحاكمة لها ، ممّا أصاب الفكر الحرَّ الجمودُ والانتكاس ، كما يعلم انّ انحصار المذاهب الفقهية في الاَربعة لم يكن وليد الساعة وإنّما آل الاَمر إليه بالتدريج عبر الزمان.
  نعم كانت قبل المذاهب الاَربعة ومعها ، مذاهب فقهية أُخرى كان لها دعاة ، نذكر على سبيل المثال بعضها، مذهب الاَوزاعي ،وسفيان الثوري ، وداود الاصفهاني ، ومحمد بن جرير الطبري وغير ذلك ، فهذه مذاهب بائدة ، بادت لعوامل شتى واستقرت المذاهب الفقهية بالتدريج في الاَربعة .
  كثرة التخريج والتفريع
  أُصيب الفقه الاِسلامي السنّي في هذه الفترة بركود في حين نشطت حركة أُخرى وإن كانت أقل قيمة ألا وهي حركة التخريج والتفريع ، فجمعوا الآثار ، ورجّحوا بين الروايات ، وخرّجوا علل الاَحكام ، واستخرجوا من شتّى المسائل والفروع أُصول أئمتهم وقواعدهم التي بنوا عليها فتاواهم ، وألّفوا كتب الخلافيات جمعوا فيها أحكام الاَئمّة وأدلّتهم ، ونصر كل مذهب إمامه ، ودَعَمَ رأيه وزيّف أدلّة مخالفيه ، وأفتوا في مسائل كثيرة لم يكن لاَئمتهم فيها نص ، فهم مكمّلون لمذاهب أئمتهم بما قاموا به من النظر في ترجيح الاَقوال ، والتنبيه على مسالك التعليل ومدارك الاَدلّة ، وبيان تنزيل الفروع على الاَُصول ، وإيضاح المشكل وتقييد المهمل ، ومقابلة بعض الاَقوال ببعض ، والنظر في تمييز قويّها من ضعيفها.
  فمع أنّه لم يوجد في هذا العصر مجتهد مستقل ، لكن انحصر عمل العلماء في :
  1 ـ تعليل الاَحكام.
  2 ـ الترجيح بين الآراء المختلفة في المذاهب.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 83 ـ
  3 ـ الانتصار للمذاهب. (1)
  ولاَجل الاِشارة إلى هذا النوع من المساهمات نعطف الاَنظار إلى أسماء بعض الفقهاء الذين صنّفوا في تلك الفترة وتركوا تراثاً فقهياً مهماً.
  لقد استقصى الشيخ محمد الخضري بك أسماء الموَلّفين الذين كان لهم دور في هذه الاَُمور الثلاثة ، فذكر من علماء الحنفية 20 فقيهاً ، ومن المالكية 23 فقيهاً ، ومن الشافعية 30 فقيهاً ، ولم يذكر من الحنابلة أحداً مع أنّ مختصر الشيخ الخرقي وشرحه باسم المغني لابن قدامة من أهم الكتب التي صنّفت في تلك الفترة على وجه قلّما يتفق أن يوجد للمغني مثيل فيما سبق ، ونحن نقتصر من كل طائفة ببعضهم ، ونذكر من الحنابلة مالم يذكره.

فمن فقهاء الحنفية في هذا الدور
  1 ـ أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصّاص ، صاحب تفسير آيات الاَحكام المطبوع المتداول.
  2 ـ أبو الحسن أحمد بن محمد القدوري البغدادي ، وهو صاحب المختصر المشهور ، وشرح مختصر الكرخي ، وصنّف كتاب ( التجريد ) وهو مشتمل على الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي مجرّداً عن الدلائل ، وكان حسن العبارة في النظر ، وكان يناظر الشيخ أبا حامد الشافعي ، توفي سنة 428 هـ.
  3 ـ أبو زيد عبد اللّه بن عمر الدبوسي السمرقندي ، وهو أوّل من وضع علم الخلاف ، وأجلّ تصانيفه ( الاَسرار ) وله ( النظر في الفتاوى ) وكتاب ( تقدّم الاَدلّة ) وكان يضرب به المثل في النظر ، و استخراج الحجج ،وكان له بسمرقند وبخارى مناظرات مع الفحول ، توفي سنة 430 هـ.
  4. شمس الاَئمة محمد بن أحمد السرخسي تلميذ الحلواني ، عدّ من

(1) محمد علي السايس : تاريخ الفقه الاِسلامي : 113ـ 114.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 84 ـ
  المجتهدين في المسائل كان متكلّماً مناظراً أُصولياً مجتهداً ، أملى المبسوط نحو خمسة عشر مجلداً ، وهو في السجن بأوزجند ، وله كتاب في أُصول الفقه ، وشرح السير الكبير ، وشرح مختصر الطحاوي ، ومبسوطه عبارة عن شرح الكافي الحاكم والشهيد ، وقد طبع في مصر ، توفي في أواخر القرن الخامس.
  5 ـ برهان الدين أبو الحسن علي بن أبي بكر المعروف بالمرغيناني ( 530 ـ 593 هـ) موَلّف كتاب ( الهداية في شرح بداية المبتدي ) والشرح والمتن لنفس الموَلف وهو أحسن كتاب في الفقه الحنفي ايجازاً وتأليفاً وتبويباً.
  وهو في الحقيقة كالشرح لمختصر القدوري المتوفى عام 428 ، والجامع الصغير لمحمد بن الحسن الشيباني.
  ومن تصانيفه الا َُخرى كتاب ( مجموع النوازل ) وكتاب ( الفرائض ) و ( المنتقى ) و ( كفاية المنتهى ) و ( مناسك الحج ) (1) .

ومن فقهاء المالكية في هذا الدور
  1 ـ بكر بن العلاء القشيري ، بصري الاَصل ، ثمّ انتقل إلى مصر ، تفقّه على تلامذة القاضي إسماعيل ، ألّف كتباً جليلة ، منها : كتاب ـ الاَحكام ـ المختصر من كتاب إسماعيل بن إسحاق والزيادة عليه ، وكتاب ( الرد على المزني ) وكتاب ( أُصول الفقه ) وكتاب ( القياس ) وغير ذلك ، توفي سنة 314هـ. (2)
  2 ـ يوسف بن عمر بن عبد البر ، شيخ علماء الاَندلس وكبير محدّثيها في وقته ، صنّف كتاب ( الاستنكار ) بمذاهب علماء الاَمصار فيما تضمّنه الموطأ من معاني الآثار ، شرح فيه الموطأ على وجهه ونسق أبوابه ، وصنّف كتاب ( الكافي ) في الفقه ، وغير ذلك من الكتب ، توفي عام 380 هـ (3).

ـ انظر مقدمة الهداية.
(1) محمد الخضري : تاريخ التشريع الاِسلامي : 260 و 261.
(2)(3) محمد الخضري : تاريخ التشريع الاِسلامي : 260 و 261.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 85 ـ
  3 ـ أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي ، زعيم فقهاء وقته بالاَندلس والمغرب ومقدّمهم ، المعترف له بصحة النظر ، وجودة التأليف ، ودقة الفقه ، وكانت الدراية أغلب عليه من الرواية ، ألّف كتاب ( البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل ) ، وكتاب ( المقدّمات ) لاَوائل كتب المدوّنة ، واختصار الكتب المبسوطة من تأليف يحيى بن إسحاق ، وتهذيبه لكتب الطحاوي في مشكل الآثار وحجب المواريث ، توفي سنة 520 هـ. (1)
  4 ـ أبو بكر محمد بن عبد اللّه المعروف بابن العربي المعافري الاِشبيلي ، تأدّب ببلده ، ثمّ رحل رحلة طويلة إلى بلاد المشرق ، ولقي كثيراً من العلماء ، منهم : الغزالي ، فاستفاد كثيراً ، وأتقن مسائل الخلاف والاَُصول والكلام ، ثمّ انصرف إلى الاَندلس تعلّم كثيراً ، وصنّف كثيراً ، ومن تصانيفه : كتاب ( أحكام القرآن ) وكتاب ( المسالك في شرح موطأ مالك ) وله كتاب ( المحصول في أُصول الفقه ) ، توفي سنة 534 هـ. (2)
  5 ـ القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي ، كان إمام وقته في الحديث والتفسير ، فقيهاً أُصولياً ، بصيراً بالاَحكام ، عاقداً للشروط ، حافظاً لمذهب مالك ، ومن شيوخه ابن رشد ، له التصانيف المفيدة ، منها : ( إكمال العلم في شرح صحيح مسلم ) ، و ( الشفا بتعريف حقوق المصطفى ) و ( مشارق الاَنوار ) في تفسير غريب الموطأ والبخاري ومسلم ، وكتاب ( ترتيب المدارك وتقريب المسالك ) لمعرفة أعلام مذهب مالك ، وغير ذلك ، توفي سنة 541 هـ (3) .

(1) شجرة النور الزكية : 129 برقم 376 .
(2) محمد الخضري : تاريخ التشريع الاِسلامي : 261 ـ 264.
(3) محمد الخضري : تاريخ التشريع الاِسلامي : 261 ـ 264.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 86 ـ
ومن فقهاء الشافعية في هذا الدور
  1 ـ القاضي أبو حامد أحمد بن بشر المروزي ، من أصحاب أبي إسحاق ، صنّف كتاب الجامع ، وهو محيط بالاَُصول والفروع ، آت على النصوص والوجوه ، وهو عمدة عند أصحاب الشافعي ، وشرح مختصر المزني، توفي عام 362 هـ.
  2 ـ أبو القاسم عبد الواحد بن الحسين الصيمري ، كان حافظاً للمذهب ، حسن التصنيف ، وبه تخرّج جماعة منهم الماوردي ، ومن تصانيفه : ( الاِفصاح ) في المذهب ، ( الكفاية ) ، ( القياس والعلل ) وكتاب صغير في أدب المفتي والمستفتي ، وكتاب في الشروط ، توفي عام 386 هـ.
  3 ـ أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفيروزآبادي الشيرازي ، صاحب ( التنبيه ) و ( المهذب ) في الفقه ، و ( النكت ) في الخلاف و ( اللمع ) وشرحه و ( التبصرة ) في أُصول الفقه ، و ( الملخّص ) و ( المعونة ) في الجدل ، وله مناظرات مع أبي عبد اللّه الدامغاني الحنفي، توفي سنة 476 هـ.
  4 ـ أبو نصر عبد السيد بن محمد المعروف بـ ( ابن الصباغ ) صاحب ( الشامل ) و ( الكامل ) و ( عدّة العالم والطريق السالم ) و ( كفاية السائل ) و ( الفتاوى ) انتهت إليه رئاسة الشافعية ببغداد ، توفي عام 487 هـ.
  5 ـ أبو المعالي عبد الملك بن عبد اللّه الجويني ، المعروف بـ ( إمام الحرمين ) ، تفقّه على والده ، وصار إمام نيسابور في الفقه والاَُصول والكلام ، وجاور مكة أربع سنين ، ومن هنا لقب بإمام الحرمين ، ولمّا عاد إلى نيسابور بنى له نظام الملك المدرسة النظامية ، ومن تصانيفه : ( النهاية ) في الفقه ، و ( البرهان ) في أُصول الفقه ، و ( مغيث الخلق ) في ترجيح مذهب الشافعي، توفي سنة 478 هـ.
  6 ـ حجة الاِسلام ، أبوحامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي ، ولد بطوس عام 450 هـ ، وتفقّه عند إمام الحرمين ، وجدَّ حتى برع في المذهب

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 87 ـ
  والخلاف والجدل والاَصلين والمنطق ، وقرأ الحكمة والفلسفة ، وبعد وفاة إمام الحرمين ذهب إلى بغداد ، وتولّى تدريس النظامية بها ، صنّف في المذهب : ( البسيط ) و ( الوسط ) و ( الوجيز ) و ( الخلاصة ) ، وفي أُصول الفقه : ( المستصفى ) و ( المنخول ) و ( بداية الهداية ) و ( المآخذ ) في الخلافيات و ( شفاء العليل في بيان مسائل التعليل ) وغير ذلك من الكتب في علوم شتى ، توفي بطوس عام 505 هـ (1).

ومن فقهاء الحنابلة في هذا الدور
  1 ـ أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد البغدادي ( 431 ـ 513 هـ ) له تصانيف كثيرة ، منها : ( التذكرة ) وكتاب ( الفنون ) وله في الفقه كتاب ( الفصول ) ويسمّى (كفاية المفتي ) في عشرة مجلدات ، و ( عمدة الاَدلّة ) ، وكتاب ( المفردات ) ، وكتاب ( الاِشارة ) وكتاب ( المنشور ) (2) .
  2 ـ محفوظ أحمـد بن الحسـن بن أحمـد الكلوذانـي ( 432 ـ 510 هـ) أبو الخطاب البغدادي ، أحد أئمّة المذهب وأعيانه ، من تصانيفه : ( الهداية ) و ( الخلاف الكبير ) المسمّى بـ ( الانتصار في المسائل الكبار ) والخلاف الصغير المسمّى بـ ( روَوس المسائل ) وله أيضاً كتاب ( التهذيب ) في الفرائض و ( التمهيد ) في أُصول الفقه (3) .
  3 ـ محمـد بن عبـد اللّه بن محمـد بن الحسين السامري ( 535 ـ 616 هـ ) ويلقّب نصير الدين ، وتفقّه على ابن حكيم ، ولازمه مدّة ، وبرع في الفقه والفرائض ، وصنّف فيها تصانيف مشهورة ، منها : ( المستوعب ) وكتاب ( الفروق )

(1) محمد الخضري بك : تاريخ التشريع الاِسلامي : 266 ـ 270.
(2) سير أعلام النبلاء : 19|443، الفتح المبين : 2|12 ـ 13 ، وغيرهما.
(3) سير أعلام النبلاء : 19|348 برقم 206، الاَعلام : 5|291.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 88 ـ
  وكتاب ( البستان ) في الفرائض (1) .
  4 ـ مجد الدين أبو البركات عبد السلام ، بن عبد اللّه بن أبي القاسم بن تيمية ( المتوفّى 652 هـ ) شيخ الحنابلة ، وله تصانيف ، منها : ( المحرر ) و ( أطراف أحاديث التفسير ) و ( أُرجوزة في علم القراءات ) و ( الاَحكام الكبرى ) في عدّة مجلّدات ، و ( المنتقى من أحاديث الاَحكام ) ، و ( منتهى الغاية في شرح الهداية ). (2)

حصر المذاهب في الاَربعة
  لاذت الاَُمّة الاِسلامية بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الصحابة والتابعين ثمّ الفقهاء بغية الاِجابة عن المشاكل والعوائق التي تواجهها في أُمور الدين والدنيا في برهة لم يكن للمذاهب الاَربعة أي أثر يذكر ولم يكن العمل في ظل فتوى الفقهاء آنذاك خلافاً للكتاب والسنّة.
  فإذا كان هذا واقع الاَمر فليس هناك أي دليل على حصر المذاهب الفقهية في الاَربعة ، ومن حصرها فإنّما تم بدافع سياسي لا ديني ، وعليه فالحصر لا يستند إلى دليل شرعي لكي يكون الخروج عنه أمراً غير مشروع.
  وممّن أرّخ لحصر المذاهب وانّه تم بدافع سياسي هو المقريزي في كتابه "الخطط" قائلاً : استمرت ولاية القضاة الاَربعة من سنة 665 هـ حتى لم يبق في مجموع أمصار الاِسلام مذهب يعرف من مذاهب الاِسلام غير هذه الاَربعة ، وعودي من تمذهب بغيرها ، وأُنكر عليه ، ولم يول قاضٍ ، ولا قبلت شهادة أحد ، ولا قدّم للخطابة والاِمامة والتدريس أحد ما لم يكن مقلّداً لاَحد هذه المذاهب ، وأفتى فقهاء هذه الاَمصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ماعداها ، والعمل على هذا إلى اليوم (3) .

(1) سير أعلام النبلاء : 23|291 برقم 198، الاَعلام : 4|6.
(2) المقريزي : الخطط : 2|344.
(3) المقريزي : الخطط : 2|344.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 89 ـ
  أقول : إنّ قوله : ( وتحريم ماعداها ) يكشف بوضوح عن أعظم المصائب التي حلّت بالاِسلام حيث لم يسمع أحد من المسلمين ممن عاشوا في القرنين الاَوّلين اسم المذاهب أبداً ، فكانوا بالنسبة إلى الاَحكام الفرعية في غاية من السعة والحرية ، كان يقلّد عامّيهم من اعتمد عليه من المجتهدين ، وكان المجتهدون يستنبطون الاَحكام من الكتاب والسنّة على موازينهم المقرّرة عندهم في العمل بالسنّة النبوية ، فأي شيء أوجب بعد هذا التاريخ على عامة المسلمين : العامي المقلّد والفقيه المجتهد ، أن لا يخرج عن نطاق تقليد الاَئمّة الاَربعة في الاَحكام الشرعية ؟! وبأي دليل شرعي صار اتّباع أحد المذاهب الاَربعة واجباً مخيّراً والرجوع إلى ماوراءها حراماً معيناً ، مع علمنا بأحوال بعض المذاهب من بدئها وكيفية نشرها وتأثير العوامل لا سيما السياسية في تقدّم بعضها ، كما أفصح عن بعض ذلك ما ذكره ابن الفوطي في "الحوادث الجامعة ص 216 في وقائع سنة 645 هـ يعني قبل انقراض بني العباس بإحدى عشرة سنة في أيام المستعصم الذي قتله هولاكو سنة 656 هـ. (1)
  أمّا ما ذكره المقريزي فهو لا يعني شروع الحصر في هذه السنّة في مصر ، وإنّما كان يرجع جذوره إلى العراق ، فقد ذكر ابن الفوطي في كتابه ( الحوادث الجامعة ) عند ذكر فتح المدرسة المستنصرية : انّه قسمت الاَرباع ، فسلم ربع القبلة الاَيمن إلى الشافعية ، والربع الثاني يسرة القبلة إلى الحنفية ، والربع الثالث يمنة الداخل إلى الحنابلة ، والربع الرابع يسرة الداخل للمالكية ، وأُسكنت بيوتها وغرفها واجري لهم الجراية الوافرة عملاً بشرط الواقف ، ثمّ نهض نصير الدين وأرباب الدولة والحاضرون وكان يومئذٍ الخليفة جالساً في الشباك الذي في

(1) راجع تاريخ حصر الاجتهاد لشيخنا العلاّمة الطهراني : 104.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 90 ـ
  صدر الاِيوان ينظر جميع ماجرت الحال عليه. (1)
  هذا ما يذكره ابن الفوطي عند افتتاح المدرسة المستنصرية عام 631 هـ ، ويذكر في حوادث 645 هـ : أُحضر مدرسو المستنصرية إلى دار الوزير ، وتقدم إليهم أن لا يذكروا شيئاً من تصانيفهم ، ولا يلزموا الفقهاء بحفظ شيء منها ، بل يذكروا كلام المشايخ تأدّباً معهم وتبرّكاً بهم ، وأجاب جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي مدرس الحنابلة بالسمع والطاعة ، ثمّ مدرس المالكية سراج الدين عبد اللّه الشرمساحي ، وقال : ليس لاَصحابنا تعليقة ، فأمّا النقط من مسائل الخلاف فمما أرتبه ، فبان بذلك عذره ، وأمّا شهاب الدين الزنجاني مدرس الشافعية وأقضى القضاة عبد الرحمن بن اللمغاني مدرس الحنفية فإنّهما قالا ما معناه : إنّ المشايخ كانوا رجالاً ونحن رجال ، ونحو ذلك من إيهام المساواة فانهيت صورة الحال ، فتقدم الخليفة أن يلزموا بذكر كلام المشايخ واحترامهم ، فأجابوه بالسمع والطاعة (2) .
  فسواء أكان العامل لانحصار المذاهب الاَربعة هم الفقهاء كما يظهر من المقريزي في عبارته السابقة ، أو من الخليفة العباسي كما يظهر من عبارات ابن الفوطي ، فهذا العمل كان بخساً لحقوق سائر الاَئمة والمذاهب ، كما انّه عدّ إهانة للسابقين الذين كان ديدنهم العمل بفتاوى غير الاَئمّة الاَربعة.
  وقد نقل الاَُستاذ محمد مصطفى المراغي شيخ الاَزهر في رسالة له باسم ( البحث في التشريع الاِسلامي ) : انّ ابن الصلاح عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان الشهروزي شارح الوسيط في فقه الشافعية ، المدرس بدار الحديث ، والمتوفّى بها سنة 642 هـ انّه أفتى بحرمة الخروج عن تقليد الاَربعة مستدلاً له

(1) عبد الرزاق بن الفوطي البغدادي : الحوادث الجامعة : 58.
(2) المصدر السابق : 217.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 91 ـ
  بإجماع المحقّقين. (1)
  ويظهر من كتاب ( تهذيب الاَنساب ونهاية الاَعقاب ) تأليف السيد النسابة أبي الحسن محمد بن محمد بن علي بن الحسن الحسيني الموسوي انّ فكرة الحصر للمذاهب كانت في أوائل القرن الخامس في عصر خلافة القادر باللّه.
  وقال : اشتهر على ألسنة العلماء انّ العامة في زمن الخلفاء لمّا رأوا تشتّت المذاهب في الفروع واختلاف الآراء ، إلى أن يقول : وذلك بعينه على نهج تفرّق أقوال النصارى وطبق تشتّت أحوال هوَلاء دين الحيارى بعد غيبة نبيّهم عيسى ، وعلى وفق وفور الاَناجيل وظهور كثير من الاَقاويل وشيوع غفير الاَباطيل ، فلمّا تحيّروا في ذلك احتالوا بالاِجماع على صحّة الاَناجيل الاَربعة ، أعني : إنجيل متى ، ومرقس ، ولوقا ، ويوحنا، وبطلان الباقي منها والقول بعدم صحته ، فأسّسوا في الفروع على الظن والحسبان والتشهّي والاستحسان على ما أوضحناه في القسم الثاني من كتابنا الموسوم بـ ( وثيقة النجاة ) وبيّناه أيضاً في بعض رسائلنا المعمولة في ردّ تلك الكفرة الغواة.
  وقال ـ بعد كلام له ـ : آل أمر الشيعة إلى ما آل في العمل بقول الآل السادة الاَنجاب ، والعامة قد جوّزوا الاجتهاد في المذهب ولم يجوّزوا الاجتهاد عن المذهب ، حتى أنّهم لم يجوّزوا تلفيق أقوال هوَلاء الاَربعة ، والقول في بعض المسائل بقول بعض الاَربعة وفي بعض الآخر من المسائل بقول الآخر منهم ، وشدّدوا في ذلك الباب و سدّوا سائر الاَبواب ، وشيّدوا الحبال والاَطناب على نحو ما ذكرناه مشروحاً في القسم الثالث من كتاب ( وثيقة النجاة ) واستمروا على هذا الرأي إلى يومنا هذا ، ولم يخالفهم أحد منهم في تلك الاَعصار المتمادية سوى محيي الدين العربي الصوفي المعروف المعاصر للفخر الرازي حيث

(1) نقله شيخنا الطهراني في كتابه تاريخ حصر الاجتهاد :108.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 92 ـ
  خالفهم هو في عمل الفروع فتارة يقول بقول واحد من هوَلاء الاَئمّة الاَربعة في مسألة ، ويقول في مسألة أُخرى بقول الآخر ، فيلفّق بين أقوال الاَربعة ، وتارة يخترع في بعض المسائل وينفرد بقول لم يدخل في تلك الاَقاويل (1) .

مضاعفات حصر المذاهب
  وقد أعقب حصر المذاهب في الاَربعة استيلاء الجمود والركود على الفقهاء منذ منتصف القرن السابع الهجري ، فلم يكن لهم بُدّ إلاّ السير على ضوء هذه المذاهب ، وإن أدركوا بذكائهم أنّ الحقّ في غيرها ، وربما امتلكوا موَهلات فكرية لو استخدموها في استنباط الاَحكام لوصلوا إلى ما لم يصل إليها السابقون.
  أمّا باب الاجتهاد ، عند الشيعة فهو مفتوح على مصراعيه فلم يغلق منذ فتح بابه ، وقد أنجبت المدرسة الشيعية العديد من المجتهدين والفقهاء إلى يومنا هذا ، قد أحيوا الشريعة وأنقذوها من الانطماس والانكماش ، فافتوا بحرمة تقليد المجتهد الميت ولزوم الرجوع إلى المجتهد الحي ،وصار هذا سبباً لانتعاش الاجتهاد وراج سوقه في الجامعات الاِسلامية ، واكتظت برواد العلم ، فلم يزل المجتهد الحي مقلّداً يأخذ بزمام الاَُمور إلى أن يفارق الحياة ، فيقوم مقامه مجتهد آخر يرجع إليه الناس في أُمور دينهم ودنياهم ، وبذلك صار الفقه الشيعي يساير سنن الحياة وتطوّرها ، وصارت النصوص الشرعية في ظل الاجتهاد حيّة مرنة نامية متطوّرة تتمشى مع نواميس الزمان والمكان ، فلا جمود حتى يباعد الدين عن الدنيا ولا العقيدة عن الحياة.
  وفي هذا تذكرة للمفكّرين من أهل السنّة في أن يقوموا بإنهاض الفقه وإنعاشه حتى يواكب مستجدات الزمان.

(1) رياض العلماء : 4|33 و 34 ، ذيل ترجمة الشريف المرتضى.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 93 ـ
  إنّ لزوم فتح باب الاجتهاد في أعصارنا هذه أمر واضح لا يحتاج إلى البرهنة ، إذ نحن في زمن نواجه الحوادث والمستجدات التي تتطلب لنفسها حلولاً ،ونحن أمام أحد الطرق التالية :
  1 ـ بذل الوسع في استنباط أحكامها على ضوء الكتاب والسنّة وسائر الاَُصول الشرعية.
  2 ـ اتباع المبادىَ الغربية من غير نظر إلى مقاصد الشريعة.
  3 ـ الوقوف دون إعطاء حكم لها.
  ومن الواضح انّ المتعيّن هو الاَوّل.

الاجتهاد في مذهب خاص ليس اجتهاداً مطلقاً
  إنّ الاجتهادعبارة عن بذل الجهد في استنباط الاَحكام عن أدلّتها الشرعية ، سواء أوافق حكم مجتهد متقدّم عليه أم لا ، فلا يكون المجتهد مجتهداً مطلقاً إلاّ إذا تحرّر عن كلّ رأي مسبق إلاّ الالتزام بالاَدلّة الشرعية ، وأمّا الاجتهاد في مذهب خاص ، كمذهب أبي حنيفة أو الشافعي ، فليس اجتهاداً مطلقاً ، وإنّما هو بذل جهد لتشخيص رأي كلّ إمام في موضوع خاص.
  نعم ربما يعزى الاجتهاد المطلق إلى الغزالي في القرن الخامس ، وأبي طاهر السلفي في القرن السادس ، وعز الدين بن عبد اللّه السلام ، وابن دقيق العيد في القرن السابع ، وتقي الدين السبكي وابن تيمية في القرن الثامن ،وجلال الدين السيوطي في القرن التاسع ، ولكن الحقّ انّ ما قاموا به لا يتجاوز في نظر المنهج العلمي الحديث باب الفتوى ولا يدخل في شيء من الاجتهاد ، بل لا يعدو في الواقع إلاّ الخروج عن إطار المذهب الواحد دون اجتياز حدود المذاهب الاَربعة.
  ولا أدري لماذا أُقفل هذا الباب وإن تفلسف في بيان وجهه بعض الكتاب

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 94 ـ
  المعاصرين حيث قال : لم يكن مجرد إغلاق باب الاجتهاد باجتماع بعض العلماء وإصدار قرار منهم ، وإنّما كانت حالة نفسية واجتماعية ، وذلك انّهم رأوا غزو التتار لبغداد وعسفهم بالمسلمين ، فخافوا على الاِسلام ، ورأوا أنّأقصى ما يصبون إليه هو أن يصلوا إلى الاحتفاظ بتراث الاَئمّة ممّا وضعوه واستنبطوه. (1)
 والحقّ انّ ما ذكره الكاتب ليس شيئاً يركن إليه ، فإنّ حياة الفقه ، وبعث الروح في شريانه ، وحفظ التراث الفقهي رهن مدارسته ومذاكرته ونقاشه ، فاللّه سبحانه هو القادر أن يهب للخلف ما وهب للسلف من ذكاء وفطنة ومقدرة علمية لفهم الكتاب والاِحاطة بالحديث ورد الفروع إلى الاَُصول ، فلماذا يقف الخلف مكتوف الاَيدي أمام السلف؟! وقد استشعر بعض المفكّرين والكتاب المعاصرين في العصر الحاضر بلزوم إعادة الروح إلى الفقه من خلال فتح باب الاجتهاد المطلق ليكون مواكباً لازدهار الحضارة وتقدّمها.
  يقول محمد علي السايس : ومهما يكن من العوامل التي اختلف أثرها في الفقه ، فقد استقر في تلك المذاهب المشهورة ،وأخذ سبيله بين الناس في حدود تلك المذاهب ، وإن اختلفت هي رواجاً أو كساداً بين مقلّديها وفي الاَقطار التي استوطنتها.
  ومع أنّ التقليد وصل بالناس في نهاية أمرهم إلى تمسّك كلّ فريق بمذهب إمامه وإسرافهم في التعصّب له وحبسهم الجهود على كتب علمائه ، فقد نشطت في مصر حياة علمية جديدة ، وثارت لها في عصرنا هذا همم فتية رغبت عن ذلك التعصب الجاحد ، وحفظت لكل مذهب حرمته ـ مراعية انّ المذاهب

(1) أحمد أمين : رسالة الاِسلام ، العدد الثاني من السنة الثالثة.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 95 ـ
  التي عليها جمهور المسلمين راجعة كلّها إلى أصل واحد ، وهو دين اللّه الحق ومستمدة من بحر واحد هو كتاب اللّه وسنّة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعمل أسلافنا ـ نظروا إلى ذلك ، وإلى أنّ الناس كثيراً ما يتعرّضون للحرج ، وتلتوي عليهم السبل كلّما جدت بهم حاجة شخصية أو اجتماعية ووقفوا بها عند مذهب معيّن ، على حين أنّهم لا يجدون في ذلك المذهب منفذاً للتخلص منها ولا حيلة في تفاديها.
  فلم يرق للمصلحين من رجال العلم أن يدعوا الاَمر على هذا الجمود البغيض ، ويتركوا الناس يجأرون بالشكوى من كلّ جانب ولم يكن بدّمن العمل على تقريب مسافات الخلف بين المذاهب المشهورة والاتجاه بالناس إزاء حاجاتهم إلى التماس المخرج في غير المذهب الذي يلتزمونه متابعة للشريعة في رفقها ، واقتباساً من سماحتها وسيراً بالناس في أحداثهم ومقتضيات زمنهم على ضوء الاِسلام الحنيف. (1)
  وقد شعر بما ذكره غيره ، فقام الاَُستاذ علي منصور المصري مستشار مجلس الدولة السابق لمحكمة القضاء الاِداري بنشر مقال مبسوط حول فتح باب الاجتهاد ، نشرته مجلة رسالة الاِسلام في عددها الاَوّل من السنة الخامسة ، ومن أراد فليرجع إليها. وقد اقتبسنا شيئاً منه في كتاب مفاهيم القرآن (2) .

المرجع هو الكتاب والسنّة
  إنّ الواجب علينا العمل بالكتاب والسنّة ، ورأي المجتهد واستنباطه سبيل إلى العلم بما فرضه اللّه ، فإذا توفرت شرائط الاِفتاء في المجتهد على النحو المقرّر في علم الاَُصول ، فلا فرق بين مجتهد دون مجتهد ، ومذهب دون آخر.

(1) محمد على السايس :تاريخ الفقه الاِسلامي : 129.
(2) السبحاني : مفاهيم القرآن : 3|275 ـ 278.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 96 ـ
  فالاِلزام بالتمذهب بمذهب فقهي معيّـن بدعة مخالفة للاَُصول ، والاَُمة الاِسلامية جرت منذ أمد طويل على الاَخذ بفتاوى الفقهاء الذين سبقوا أصحاب المذاهب الاَربعة ، وكان هذا ديدنهم إلى أن تدخلت السياسة في ذلك المضمار فألغت سائر المذاهب الفقهية وأضفت الرسمية على الاَربعة منها فقط.
  وهناك كلمة لابن قيم الجوزية جاء فيها :
  لا واجب إلاّ ما أوجبه اللّه ورسوله ، ولم يوجب اللّه ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الاَُمّة فيقلده دينه دون غيره ، وقد انطوت القرون الفاضلة مبرأة مبرأ أهلها من هذه النسبة ـ إلى أن قال : ـ وهذه بدعة قبيحة حدثت في الاَُمّة لم يقل بها أحد من أئمّة الاِسلام ، وهم أعلى رتبة وأجل قدراً ، واعلم باللّه ورسوله من أن يلزموا الناس بذلك ، وأبعد منه قول من قال : يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء ، وأبعد منه قول من قال : يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الاَربعة.
  فياللّه العجب! ماتت مذاهب أصحاب رسول اللّهص ومذاهب التابعين وتابعيهم وسائر أئمّة الاِسلام و بطلت جملة ، إلاّمذاهب أربعة أنفس فقط من بين سائر الاَئمّة والفقهاء.
  وهل قال ذلك أحد من الاَئمّة ، أو دعا إليه ، أو دلّت عليه لفظة واحدة من كلامه عليه؟ والذي أوجبه اللّه تعالى ورسوله على الصحابة والتابعين وتابعيهم هو الذي أوجبه على من بعدهم إلى يوم القيامة (1) .
  كان الناس أحراراً في تقليد المذاهب التي صحت عن أصحابها إلى أن تدخلت السلطة في حصر المذاهب بالاَربعة ، كما عرفت من ابن الفوطي

(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين :4|262ـ263.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 97 ـ
  والمقريزي.
  وهنا سوَال يطرح نفسه :
  وهو انّه يجب على المسلم العمل وفق المذهب الذي قام الدليل على حجيته بينه و بين اللّه ، فهل هناك دليل على حجّية كل واحد من تلك المذاهب؟ وهل هناك خبر مرسل فضلاً عن مسند يتصل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يضفي الحجية فيها على واحد من تلك المذاهب ؟ وهل جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلك المذاهب مرجعاً دينياً بعد رحيله على الرغم من الفاصل الزماني السحيق بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أصحاب تلك المذاهب؟ ولو افترضنا انّ النبي أضفى الحجية على ما يُروى عن الصحابة من الفتاوى ، فهو مختص بفتاوى الصحابة ولا يعم أصحاب تلك المذاهب.
  إنّ من له أدنى إلمام بالفقه يقف على أنّ أكثر ما يروى عن هوَلاء من الآراء ليس مأخوذاً من الكتاب والسنّة ، وإنّما هي آراء استخرجوها في ظل مقاييس ظنّية ، وقواعد استحسانية يدور أمرها بين الصواب والخطأ ، فما الدليل على اتّباع قولهم على الاِطلاق في غير ما كان فيه نص الكتاب والسنّة ؟ نعم جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الكتاب والعترة مرجعاً بعد رحيله ، وجعل ذكر العترة في الصلوات بعد ذكر اسمه ( اللّهم صلِّ على محمد وآل محمد ) ، وقال في غير موقف من المواقف : ( إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه وعترتي ) فما وجه العدول إذن عنهم والرجوع إلى الاَخذ بآراء وأفكار غيرهم؟ فلو صرفنا النظر عمّا ذكرنا وافترضنا جواز العمل بجميع المذاهب الاِسلامية الفقهية من غير فرق بين مذهب ومذهب ، فلماذا يُفرز المذهب الفقهي الشيعي الاِمامي عن سائر المذاهب مع أنّه له مقوّمات وأُسس وأُصول يعتمد عليها كسائر المذاهب الفقهية ( وكلّهم من رسول اللّه مقتبس ) ؟ فالاَولى

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 98 ـ
  النظر إلى جميع المذاهب بعين واحدة ، كما عليه أصحاب السماحة والفضيلة من أعلام السنّة.
  سأل سائل شيخ الاَزهر ـ المغفور له ـ شلتوت ، فقال لفضيلته :
  إنّ بعض الناس يرى أنّه يجب على المسلم لكي تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح أن يقلّد أحد المذاهب الاَربعة المعروفة ، وليس من بينها مذهب الشيعة الاِمامية ولا الشيعة الزيدية ، فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه ، فتمنعون تقليد مذهب ( الشيعة الاِمامية الاثني عشرية ) مثلاً؟ فأجاب فضيلته :
  1 ـ إنّ الاِسلام لا يوجب على أحد من أتباعه ، اتباعَ مذهب معين ، بل نقول : إنّ لكل مسلم الحق في أن يقلّد بادىَ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلاً صحيحاً ، والمدوّنة أحكامها في كتبها الخاصة ، ولمن قلّد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره ـ أي مذهب كـان ـ ولا حرج عليه في شيء من ذلك.
  2 ـ إنّ مذهب الجعفرية المعروف بـ ( مذهب الشيعة الاِمامية الاثني عشرية ) مذهب يجوز التعبّد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة.
  فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك ، وأن يتخلّصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة ، فما كان دين اللّه وما كانت شريعته بتابعة لمذهب ، أو مقصورة على مذهب ، فالكلّ مجتهدون مقبولون عند اللّه تعالى يجوز لمن ليس أهلاً للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقرّرونه في فقههم ، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات (1) .

(1) رسالة الاِسلام : السنة الحادية عشرة ، العدد الثالث الموَرّخ محرم سنة 1379هـ.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 99 ـ
  ميزة الدور الثالث
  يعلم ممّا سبق ميزات هذا الدور وأهمها ترجع إلى :
  1 ـ نشاط حركة التخريج والترجيح المذهبية مقروناً بالتعصّب المذهبي.
  2 ـ إقفال باب الاجتهاد وتكريم الاَئمّة.
  3 ـ تدوين المذاهب بصور مختلفة.
  4 ـ تأسيس علم الاَُصول على أيدي رجال كبار ، وشيوع مناظرات مذهبية بين رجالات المذاهب.

تعليق على مقال
  إنّ الشيخ محمد زاهد الكوثري ( 1296 ـ 1371 هـ ) كتب في مقال تحت عنوان : ( اللا مذهبية قنطرة اللا دينية ) وقد ندّد بالذين يرون فتح باب الاجتهاد المطلق ، وكسر حصر المذاهب في الاَربعة بكلام طويل ليس له محصل إلاّما يلي :
  فمن يدعو الجمهور إلى نبذ التمذهب بمذاهب الاَئمّة المتبوعين لا يخلو من أن يكون من الذين يرون تصويب المجتهدين في استنباطاتهم كلّها بحيث يباح لكلّ شخص غير مجتهد أن يأخذ بأي رأي من آراء أي مجتهد من المجتهدين بدون حاجة إلى الاقتصار على آراء مجتهد واحد يتخيّره في الاتّباع.
  فيرد عليه ما قاله أبو إسحاق الاِسفراييني عن تصويب المجتهدين مطلقاً : أوّله سفسطة وآخره زندقة ، لاَنّأقوالهم تدور بين النفي والاِثبات ، فأنّى يكون الصواب في النفي والاِثبات معاً ؟

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 100 ـ
  وأمّا إن كان ذلك الداعي إلى نبذ التمذهب يعتقد في الاَئمة المتبوعين أنّهم من أسباب وعوامل الفرقة والخلاف بين المسلمين ، وانّ المجتهدين في الاِسلام إلى اليوم كلّهم على خطأ ، وانّه يستدرك عليهم في آخر الزمن الصواب الذي خفي على الاَُمّة منذ بزوغ شمس الاِسلام إلى اليوم ، فهذا من التهوّر والمجازفة البالغين حدّ النهاية (1) .
  أقول : إنّ ما ذكره الكوثري في تفسير الشقين ليس على صواب ، فأمّا الشق الاَوّل ، فهو ما يعبّـر عنه في الاَُصول والكلام بالمصوبة ، ومعناه انّ كلّ حكم لم يرد فيه نص في الكتاب والسنّة ، فقد فوّض اللّه حكمه إلى المجتهدين ، فما حكم به المجتهد فهو حكم اللّه ، وفي مثل ذلك لا مانع من اجتماع النفي والاِثبات ، لاَنّ امتناع اجتماعهما فيما إذا كان لحكم اللّه وراء اجتهاد المجتهد واقع مستقل ، ففي مثله لا يمكن أن يكون كلّ من النفي والاِثبات صحيحاً.
  وأمّا إذا لم يكن هناك واقع محفوظ كما هو الحال فيما لا نصّ فيه ، فكل جهد بذل لاستنباط الحكم فهو حقّ نسبي في حقّه وحقّمقلّديه ، وليس كذلك بالنسبة إلى مجتهد آخر ومقلّديه ، و التصويب بهذا المعنى وإن كان باطلاً عند الشيعة الاِمامية ، ولكن لا يرد عليه ما ذكره أبو إسحاق الاسفراييني وتبعه الكوثري بلا تأمل ، ولا مانع حينئذٍ من اجتماع النفي والاِثبات.
  وأمّا الشقّ الثاني ، فهو ما يعبّر عنه بالمخطئة وعليه جمهور الفقهاء خصوصاً الشيعة الاِمامية ، ومعناه انّ المجتهد قد يصيب وقد يخطىَ ، فللاَوّل أجران وللثاني أجر واحد ، وانّه ليس في الشريعة الاِسلامية حادث ليس لحكمه دليل في الشريعة ، وليس الدليل منحصراً في الكتاب والسنّة.
  وعلى ضوء ذلك فكلّ الاَحكام لها دليل غير انّ المجتهد ربما يصيبه

(1) مقالات الكوثري :223ـ225.