ببعضه :
  قال أبو بكر : أي أرض تقلّني ، وأي سماء تظلّني إن قلت في آية من كتاب اللّه برأيي أو بما لا أعلم.
  وقال عمر بن الخطاب : اتّقوا الرأي في دينكم.
  وروى عن علي : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاها.
  وقال ابن عباس : من أحدث رأياً ليس في كتاب اللّه ولا تمضي به سنّة من رسول اللّه لم يدر على ما هو منه إذا لقي اللّه عزّ وجلّ. (1)
  ثمّنقل عن التابعين كلمات كثيرة في نقد أصحاب الرأي ، وقال :
  روى مالك عن نافع : أنّه قال : العلم ثلاث : كتاب اللّه الناطق ، وسنّة ماضية ، ولا أدري.
  سئل الشعبي عن مسألة في النكاح ، فقال : إن أخبرتك برأيي فبُل عليه.
  وروى أيضاً ، قال : ما جاءكم به هوَلاء من أصحاب رسول اللّه فخذوه ، وما كان من رأيهم فاطرحوه في الحش.
  وقال سفيان بن عيينة : اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم لا أن يقول برأيه.
  وقال ابن شهاب : دعوا السنّة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي. (2)
  إنّ انقسام أهل الفتيا إلى أهل الحديث والرأي كان نتيجة طبيعية

(1) اعلام الموقعين :1|53 ـ 58.
(2) اعلام الموقعين :1|73 ـ 74.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 52 ـ
  لانعكاسات البيئة التي حضنت تلك الاَفكار ، فأصحاب الحديث كانوا يقطنون المدينة المنورة وما حولها التي كانت تمتاز ببساطة الحياة دون أن يواجهوا حوادث مستجدّة ، ولم يكن هناك أعراف مختلفة ، ولا أفكار متشعبة ، فلذلك اقتصروا على ظاهر الكتاب والسنّة دون حاجة إلى الخوض في غمار الاجتهاد.
  وأمّا البيئة الاَُخرى التي حضنت أصحاب الرأي ، فقد عجَّت بالحوادث المستجدة التي تأتي إليها من شتى الاَمصار.
  مضافاً إلى قلّة المحدثين في تلك البيئات ، فقد اكتظت المدينة بأهل الحديث ، وانحازوا عن الدولة الاَُموية لما رأوا فيها من انحراف عن سيرة النبي والخلفاء ، فلم يكن لاَصحاب الرأي بد من الاِجابة على الحوادث عن طريق إعمال النظر والفكر ، وهذا صار سبباً لحدوث المنهجين : أهل الحديث وأهل الرأي ، وقد تشعّب أهل الرأي إلى قسمين فيما بعد :
  قسم يستنطق فيه كتاب اللّه وسنّة رسوله وما جعله الشرع دليلاً في المسألة ، ولا شك انّ هذا القسم من الرأي ليس افتاءً بالرأي المطلق ، بل افتاء بما هو المعلوم من الاَدلّة الشرعية ، وفي الواقع إفتاء بالدليل الشرعي الذي ليس له ظهور واضح في الحكم لكن بذل المجتهد جهوده لاستنطاقه ، وعلى هذا فالرأي هو التفكير الذي أرشد إليه الشرع حتى يصل إلى حكم اللّه الواقعي ، وإلى ذلك ينظر قول معاذ ـ إن صحّ سنده ـ فقد ولاّه رسول اللّه اليمن و سأله بقوله : كيف تقضي إذا عرض لك قضاء ؟ قال معاذ : أقضي بكتاب اللّه ، فإن لم أجد فبسنّة رسول اللّه ، فإن لم أجد أجتهد. (1)
  وقسم آخر لا يتّكل على الدليل الشرعي ، بل يفتي على اعتبارات

(1) مختصر سنن أبي داود : 5|212 ، الحديث 3447 ، مسند أحمد بن حنبل : 5|230، وقد مضى الكلام في حديثه في الجزء الاَوّل فلاحظ.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 53 ـ
  ومقاييس ما أنزل اللّه بها من سلطان ، فلا شكّ انّ هذا النوع إفتاء بغير ما أنزل اللّه وقضاء به وهو في الكتاب العزيز ظالم وفاسق وكافر ، بل هو مبتدع وإدخال ما ليس في الشريعة فيها.
  وحصيلة الكلام : أنّ نزاع المدرستين يُحسم بالكلمة التالية :
  انّ صاحب الرأي إذا اعتمد على الدليل الشرعي الذي ثبتت حجيته بالدليل القطعي ، وبذل جهوده في فهم الحكم واستنباطه منه ، فهو ليس افتاءً بالرأي بل افتاءً بالدليل ، غير أنّ تسميته بالرأي لاَجل كونه سبباً للاستفادة من الدليل.
  وأمّا إذا اعتمد على الظنون غير المعتبرة والمعايير التي لم تثبت صحتها بالدليل ، فلا شكّ انّه إفتاء محرم ، وبدعة في الدين ، وقضاء بغير ما أنزل اللّه.
  إكمال
  العمل بالرأي على قسمين :
  تارة يعمل الفقيه برأيه فيما لا نص فيه ، وأُخرى يعمل به تجاه النص ، وقد انقسم أهل الفتيا إلى أهل الحديث وأهل الرأي في الاَمر الاَوّل ، فكانَ أهل الحديث يمسكون عن الاِفتاء فيما لا نصَّ فيه غير انّ أهل الرأي لم يكن لهم بد من الاِفتاء.
  لكن الداهية الكبرى في الاَمر الثاني ، فنرى أنّ بين الصحابة من يقدم رأيه على النصّ ، ومع ذلك يعدّونه من أهل الحديث وحماته ومخالفاً للرأي.
  ومن نماذج ذلك : انّ الطلاق كان على عهد رسول اللّه وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب :إنّ الناس قد

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 54 ـ
  استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم. (1)
  ترى أنّ الخليفة يستدل على النص بذوق شخصي ، وهو انّ الناس لما استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه إناة كان من الاَولى بنا أن نمضي ما استعجلوه ، وهذا نفس الاِفتاء بالرأي تجاه النص.

كلمة لبعض المعاصرين
  قال مناع القطان تحت عنوان مذهب أهل الرأي والعراق : ربّما كان عمر بن الخطاب أكثر الصحابة فقهاً للنصوص ، واجتهاداً في فهمه ، وإقداماً على إبداء الرأي فيه. والمشكلات التي اعترضت الصحابة واجتهدوا فيها تعطي لعمر بن الخطاب هذه الميزة في أكثر من موضع ، وإن كان قد حرص على استشارة الصحابة والتريّث في الاَُمور.
  فعن الشعبي قال : كانت القضية ترفع إلى عمر بن الخطاب ، فربّما تأمل في ذلك شهراً ، ويستشير أصحابه ، واليوم ، يفصل في المجلس مائة قضية. (2)
  الظاهر أنّ القضايا التي كان الخليفة يفتي فيها كانت ممّا لا نصّفيه ، وإلاّ فلو كانت ممّا ورد فيه النص لما كان هناك حاجة للتريّث شهراً ، فعند ذلك يجب التأكد من المصادر التي اعتمد عليها الخليفة في حل هذه المعضلات والاِجابة على الاستفسارات ، فلم يكن له بُدٌّ من العمل بالمقاييس والاَذواق الشخصية لرفعها.
  والكلام في حجّية هذه المعايير التي لم يدل نص من الكتاب ولا السنّة على حجّيتها ، بل الحاجة إلى حلّ المشكلات ، وقلّة النصوص دفعت بالصحابة يتقدّمهم الخليفة إلى اعتبار هذه المعايير ، ثمّ اتخاذها فيما بعد سيرة عملية

(1) مسلم : الصحيح : 4 ، باب الطلاق ثلاث ، الحديث 1ـ3.
(2) مناع القطان : تاريخ التشريع الاِسلامي : 225.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 55 ـ
  للمسلمين.
  ويقول الاَُستاذ علي حسن عبد القادر في كتابه (نظرة عامة في تاريخ الفقه) عن طريقة الرأي :
  ( إنّـها هي أشرف الطريقتين ، لاَنّ الاَحاديث التي توَخذ منها الاَحكام قليلة غير كافية لتنظيم كلّ العلاقات وتقنينها ، فإذا أُريد أن لا تملاَ بالاَحاديث غير الصحيحة كل ثغرات الفقه ، فيجب أن يجتهد في القليل الموجود بكل طرق الاستنتاج الاَوّلي لكي يبنى صرح الفقه.
  والعالم النظري قد يستطيع بسهولة أن يرفض ضرورة الرأي في مصدرية التشريع ، لاَنّه لا يتصل بحوادث الحياة العملية ، أمّا القاضي في بلد كالعراق فلا يمكنه أن يقوم بوظيفته دون القياس والرأي في الحوادث والمسائل التي لا تخطر على بال الحجازيين . (1)
  وقد عرفت الكلمة الحاسمة فلا نعيد.
  ميزة الدور الاَوّل
  لكلّ دور من الاَدوار ميزة خاصة يتميّز بها عن الآخر ، وما يمكن أن يكون مميزاً لهذا الدور هو ظهور مدرستي أهل الحديث وأهل الرأي ، فإنّ الصحابة في عصر الرسول لم يمارسوا استعمال الرأي ، ولكن لمّا ضرب الاِسلام بجرانه ، وهوجم المسلمون بحوادث مستجدة ، لم يكن بد من الاِجابة عليها ، إمّا بالرجوع إلى أئمّة أهل البيت الذين هم خزنة حديث الرسول ، أو استعمال الرأي والقياس وما أشبه ذلك ، وحيث إنّ الجمهور اختاروا الطريق الثاني ، فظهر أهل الرأي.

(1) المدخل الفقهي العام : 1|169 ، نقلاً عن الاَُستاذ علي حسن عبد القادر في كتابه ( نظرة عامة في تاريخ الفقه ).

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 56 ـ
  أضف إلى ذلك انّه راج بين الصحابة والتابعين الاَخذ بعلل الاَحكام والاِعراض عن ظاهر الدليل ، وهذا ما يعبر عنه اليوم الاَخذ بروح القانون ، وعلى هذا منع الخليفة عمر بن الخطاب الموَلّفة قلوبهم من بيت المال ، قائلاً : بأنّ الداعي إلى إعطائهم هو الاتّقاء عن شرهم ، وقد قوى الاِسلام فلا حاجة إليهم.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 57 ـ
أدوار الفقه السنّي
2 ـ الدور الثاني

  عصر ظهور المذاهب الفقهية
  (أوائل القرن الثاني ـ أوائل القرن الرابع)
  ما مرّ في القائمة السابقة من أسماء ممن أُخذت عنهم الفتيا أوجدت أرضية خصبة لظهور طبقة الفقهاء الذين قاموا بتدوين الفقه ، فأرسوا قواعد الفقه وأشادوه وبسطوا الفروع ، فصار الفقه الاِسلامي مواكباً للحضارة ملبّياً لحاجاتها ومتطلباتها.
  إنّ المذاهب الفقهية التي ظهرت بعد طبقة التابعين منها ما هو فردي ، ومنها ما هو جماعي ، والمراد من المذهب الفردي مجموعة الآراء الفقهية الموروثة عن المجتهد دون تبنّيها من قبل أتباعه ، بغية إرساء قواعد ذلك المذهب ونشره وإكماله.
  وهذا النوع من المذاهب ذهب بذهاب أصحابه ، إذ لم تحظَ بالنشر والتدوين ، وإنّما نقلت آراوَها في ثنايا الكتب الفقهية والحديثية ولم يبق لها أثر.
  وأمّا المذاهب الجماعية ، فهي المذاهب التي لم تتكوّن من آراء أصحابها فحسب ، بل نضجت تحت ظل مادوّنه أصحاب تلك المذاهب وأتباعها في مجموعات متكاملة ، وأضافوا إليها آراءهم الخاصة في المسائل التي لم ينقل فيها

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 58 ـ
  عن أصحاب تلك المذاهب قول.
  ثمّ إنّ تميز المذاهب الفردية عن الجماعية يتوقّف على دراسة تاريخ المذهب وكيفية نشوئه وسيره التاريخي ، حتى يقف الباحث على أنّالمذهب لم يكن وليد فكر الموَسس فحسب ، وإنَّما تكوّن ونضج تحت ظل عوامل أُخرى كما عرفت.
  وأكثر المذاهب التي لم يكتب لها البقاء طويلاً بعد رحيل أصحابها هي كالتالي :

المذاهب البائدة
  1 ـ مذهب الحسن البصري (23 ـ 110 هـ) (1) هو الحسن بن أبي الحسن يسار ، أبو سعيد ، مولى زيد بن ثابت الاَنصاري ، ولد في المدينة لسنتين بقيتا من خلافة عمر.
 له : ( التفسير ) رواه عن جماعة ، وكتابه إلى عبد الملك بن مروان في (الرد على القدرية).
  2 ـ محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (74 ـ 148 هـ) (2) كان من أصحاب الرأي ، وتولّى القضاء بالكوفة ، وأقام حاكماً 33 سنة ، ولي لبني أُميّة ثمّ لبني العباس ، وكان فقيهاً مفتياً ، توفّي سنة 148 هـ .
  وكان بينه وبين أبي حنيفة وحشة ، إذ كثيراً ما يُستفتى أبو حنيفة فيما قضى

(1) طبقات ابن سعد :7|156 ، وفيات الاَعيان :2|69 ، تهذيب الكمال : 256 ، تاريخ الاِسلام :4|98 ، تذكرة الحفاظ :1|66 ، تهذيب التهذيب : 2|263 ، شذرات الذهب : 1|136 ، طبقات المفسرين :1|147 ، سير أعلام النبلاء : 4|563.
(2) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب : 9|301 ، الطبقات الكبرى : 6|358 ، طبقات الفقهاء :84 ، الجرح والتعديل :7|322 ، سير أعلام النبلاء :6|310.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 59 ـ
  فيه ابن أبي ليلى فيفتي بخلافه ، فيتأثر لذلك ابن أبي ليلى.
  3 ـ الاَوزاعي ، أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الاَوزاعي ( 88 ـ 157 هـ ) (1) ، كان أصله من سبأ السند ، وكان ينزل الاَوزاع ـ اسم قبيلة ـ وغلب ذلك عليه.
  انتشر مذهبه بالشام والاَندلس ، ولكنّه انقرض في القرن الرابع بعد أن تولّى قضاء دمشق ، أتباع الشافعي ونشروا مذهبه ، كما انقرض مذهبه من الاَندلس بعد المائتين بسبب تغلّب مذهب الاِمام مالك ، وقبره في بيروت ، له كتاب : ( السنن في الفقه والمسائل ).
  4 ـ سفيان الثوري ( 97 ـ 161 هـ ) (2) وهو كوفي ، وكان له مذهب فقهي ، ولم يطل العمل بمذهبه ، وحل مكانه مذهب الاَوزاعي ، وقد أوصى إلى عمار بن سيف في كتبه فمحاها وأحرقها ، وقد أخذ بمذهبه أُناس باليمن ، وآخرون من إصفهان وقوم بالموصل ، وقد انقرض أهل هذا المذهب في وقت قصير ، ثمّ اختفت كتبهم.
  5 ـ ليث بن سعد الفهمي ( المتوفّى 175 هـ ) (3) ولد بقلقشندة على نحو أربعة فراسخ من الفسطاط ، عالم مصر وفقيهها ورئيسها.

(1) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب :6|238 برقم 484، الزركلي : الاَعلام : 3|320 ، تذكرة الحفاظ : 1|376، حلية الاَولياء : 6|135، طبقات الفقهاء :76، الطبقات الكبرى :7|488، مشاهير علماء الاَمصار :180، سير أعلام النبلاء : 7|107، تاريخ الاِسلام : حوادث (141ـ160) : 483.
(2) انظر ترجمته في الطبقات الكبرى : 6|371، مشاهير علماء الاَمصار : 169 ، تاريخ بغداد :9|101، سير أعلام النبلاء : 7|229، غاية النهاية :1|308، تهذيب التهذيب : 4|111.
(3) انظر ترجمته في طبقات ابن سعد : 7|517، التاريخ لابن معين :501، التاريخ الكبير :7|246، الجرح والتعديل :7|180ـ 197، تاريخ بغداد : 13|3، تهذيب التهذيب :8|459، شذرات الذهب :1|285.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 60 ـ
  ارتحل إلى الحجاز ثمّ إلى العراق حتى استقر في مصر ، وكان له مذهب خاص في الفقه ، إلاّ أنّه غلب على مذهبه مذهب الاِمامين مالك والشافعي اللّذين تقاسما مصر بعد وفاته ، وله رسالة إلى مالك بن أنس نشرها ابن قيم الجوزية في ( إعلام الموقعين ).
  6 ـ أبو ثور إبراهيم بن خالد بن اليمان الكلبي البغدادي ( المتوفّى 240 هـ ) (1) كان ببغداد ، وكان مذهبه مشتقاً من مذهب الشافعي ، فهو يعد من أئمّة فقهاء الشافعية ، وإن كان لا يقلده بل يخالفه متى ظهر الدليل ،وقد اختار لنفسه آراء ، وصار له مذهب خاص ، وله أتباع ، لكنّه لم يدم طويلاً.
  7. أبو سليمـان داود بن علي بن خلف الاصبهــاني ( 202 ـ 270 هـ ) (2) المعروف بالظاهري ، ولد بالكوفة سنة 202 هـ ، وكان من مقلّدي المذهب الشافعي ، وأكثر الناس تعصباً له ، انتهت إليه رئاسة العلم ببغداد ، ثمّ انتحل لنفسه مذهباً خاصاً أساسه العمل بظاهر الكتاب والسنّة ، مالم يدل دليل منهما ، أو من الاِجماع على أنّه يراد به غير الظاهر ، فإن لم يوجد نص عمل بالاِجماع ، ورفض القياس رفضاً باتاً ، وكان يقول : إنّ في عمومات النصوص من الكتاب والسنّة ما يفي بكلّ جواب.
  له مصنّفات منها : كتاب ( إبطال التقليد ) وكتاب ( إبطال القياس ) .
  وقد استمر مذهب داود متبعاً إلى منتصف القرن الخامس ، ثمّ اضمحل ، وله آراء خالف فيها أهل السنّة ، نتجت من ترك القياس والرأي والعمل بظاهر

(1) انظر ترجمته في طبقات الفقهاء : 92، تذكرة الحفاظ :2|87، ميزان الاعتدال : 1|15، تاريخ بغداد : 6|65، طبقات الشافعية : 1|227، وفيات الاَعيان :1|7.
(2) انظر ترجمته في وفيات الاَعيان :1|175، تذكرة الحفاظ : 2|136، الجواهر المضيّة :2|419، تاريخ بغداد : 8|369، طبقات الشافعية :2|42.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 61 ـ
  الكتاب والسنّة.
  8 ـ أبو جعفر محمد بن جرير الطبـري ( 224 ـ 310 هـ ) (1) ولد بآمل طبرستان ، أخذ الفقه عن داود ، ودرس فقه أهل العراق ومالك والشافعي ، فاجتمع عنده وجوه المعرفة بالفقه ، وانتحل لنفسه مذهباً خاصاً ، وكان له أتباع ، وقد اشتهر مذهبه في بغداد ، ومن موَلّفاته في الفقه كتاب ( اختلاف الفقهاء ) والكتاب يعرب عن إلمامه بآراء فقهاء عصره و من قبله ، وقد حفظ بذلك آراء من تقدّمه أو عاصره من الفقهاء ، أفل نجم مذهبه بعد منتصف القرن الخامس وبقيت آراوَه في الكتب.

المذاهب السائدة
  هذه هي المذاهب الفقهية الفردية أو الجماعية التي لم يكتب لها البقاء لعلل شتى ، بقي الكلام في المذاهب الفقهية السائدة والتي كتب لها البقاء ، وظل العمل بها إلى زماننا هذا ، وهي : المذهب الحنفي ، و المالكي ، والشافعي ، والحنبل ، وإليك لمحة خاطفة عن نشوئها ومميزاتها :

المذهب الحنفي
  أسّسه أبوحنيفة النعمان بن ثابت ، وهو كوفي نشأ فيها ويعد من أتباع التابعين ، والمعروف انّه ولد سنة ثمانين ،ومات ببغداد سنة 150 هـ ، وقد اشتغل منذ البداية بعلم الكلام ، ثمّ تحول إلى الفقه ، وتربّى على يدي حماد بن أبي سليمان الكوفي ( المتوفّى 120 هـ ) ، وكان له وراء أبي حنيفة تلاميذ يعلّمهم الفقه.

(1) انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ :2|351، وفيات الاَعيان :1|456، طبقات الشافعية :2|135، البداية والنهاية :11|145، غاية النهاية :2|106، تاريخ بغداد : 2|162.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 62 ـ
  لقد استقى أبو حنيفة فقهه من أُستاذه حمّاد وهو بدوره ورث الفقه من أعلام الصحابة والتابعين الذين جاءوا الكوفة ونزلوا بها وتعلّم منهم الناس فقههم ، وفي مقدّمتهم الاِمام علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ( المتوفّـى 40 هـ ) وعبد اللّه بن مسعـود ( المتوفّـى 32 هـ ) وعلقمة بن قيس ( المتوفّـى 62 هـ )و مسروق بن الاَجدع ( المتوفّـى 53 هـ ) وأخيراً إبراهيم النخعي ( المتوفّـى 96 هـ ) وعامر بن شراحيل الشعبي ( المتوفّـى 104 هـ ).
  يقول الكوثري : أصبحت الكوفة لا مثيل لها بعد أن اتّخذها علي بن أبي طالب (كرم اللّه وجهه) عاصمة الخلافة ، فكبار أصحاب علي وابن مسعود ـ رض ـ بها لو دوّنت تراجمهم في كتاب خاص لاَتى كتاباً ضخماً ، وليس هذا موضع سرد لاَسمائهم ، وقد جمع شتات علوم هوَلاء ، إبراهيم بن يزيد النخعي ، وقد جمع أبو حنيفة علوم هوَلاء ودوّنها بعد أخذٍ و ردٍّ شديدين في المسائل بينه و بين أفذاذ أصحابه في مجمع فقهي كيانه من أربعين فقيهاً من نبلاء تلاميذه. (1)
  روى الخطيب البغدادي عن أبي مطيع قال : قال أبو حنيفة : دخلت على أبي جعفر أمير الموَمنين ، فقال لي : يا أبا حنيفة عمّن اخترت العلم ؟ قال : قلت : عن حماد ، عن إبراهيم ، عن عمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب و عبد اللّهبن مسعود و عبد اللّه بن عباس، (2) فقد تحمّل حمّاد فقه هوَلاء ، وورّثه تلميذه أبا حنيفة ، و من لطيف الكلام انّه كان فقيهاً وفي الوقت نفسه يتّجر ، ويلمس ما يجري في الاَسواق من بيع وشراء وعقود ومعاملات.

(1) مقالات الكوثري :221 ، بتلخيص.
(2) تاريخ بغداد : 13|334.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 63 ـ
أُصول مذهبه
  لقد بنى أبوحنيفة فقهه على أُسس وقواعد نذكرها كالتالي :
  1 ـ الكتاب العزيز : وهو أُس جميع المذاهب الاِسلامية .
  2 ـ السنّة : وهي المبيّنة لكتاب اللّه ، المفصّلة لمجمله ، وربما تشتمل على أحكام فقهية غير مذكورة في الكتاب ، وهي أيضاً أُس جميع المذاهب الفقهية .
  3 ـ قول الصحابي : فإنّ الصحابة أدركوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحملوا علمه .
  4 ـ القياس : وهو استنباط حكم موضوع من موضوع آخر لجهة جامعة بينهما .
  وبعبارة أُخرى : إذا عرفت علّة الحكم ، طُبق الحكم على كلّ موضع تنطبق فيه العلّة ، وقد بلغ أبو حنيفة في الاستنباط بالقياس الذروة .
  5 ـ الاستحسان : وقد اختلفت كلمة الاَحناف في تفسيره ، ومضت كلماتهم في الجزء الاَوّل .
  6 ـ الاِجماع : وهو اتفاق المجتهدين من الاَُمّة الاِسلامية في عصر على الحكم في أمر من الاَُمور ، وهو في ذاته حجّة عند الحنفية دون فرق بين الاِجماع القولي ، أو الاِجماع السكوتي ، غير انّ الاَوّل دليل قطعي ، والثاني دليل ظنّي .
  7 ـ العرف : أن يكون عمل المسلمين على أمر لم يرد فيه نص من القرآن أو السنّة أو عمل الصحابة ، والمقصود هو العرف العام الذي لا يخالف الاَدلّة السابقة .
  هذه هي الاَُصول التي اعتمد عليها أبو حنيفة في فقهه ، وشيّد عليها أركان مذهبه ، ولنا هنا وقفة قصيرة مع بعض تلك الاَُصول التي تقبّلها الاِمام وأتباعه طيلة قرون .
  لا شك انّ الكتاب و السنّة من أُسس المذهب ، ولولاهما لما قام للمذهب

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 64 ـ
  الفقهي الاِسلامي عمود ، ولا اخضرّ له عود.
  ولكن المعروف انّ أبا حنيفة لم يعتمد على السنّة إلاّ قليلاً.
  يقول ابن خلدون في هذا الصدد : إنّ الاَئمّة المجتهدين تفاوتوا في الاِكثار من هذه الصناعة والاِقلال ، فأبو حنيفة يقال بلغت روايته إلى سبعة عشر حديثاً أو نحوها ، ومالك إنّما صحّ عنده ما في كتاب الموطأ وغايتها ثلاثمائة حديث أو نحوها ، وأحمد بن حنبل في مسنده خمسون ألف حديث ولكل ما أداه إليه اجتهاده في ذلك وقد تقوّل بعض المبغضين المتعسفين إلى أنّ منهم من كان قليل البضاعة في الحديث ، فلهذا قلت روايته ـ ثمّ رد على ذلك الزعم بقوله ـ وإنّما قلّل منهم من قلّل الرواية لاَجل المطاعن التي تعترضه فيها ، والعلل التي تعرض في طرقها سيّما والجرح مقدّم عند الاَكثر ، فيوَديه الاجتهاد إلى ترك الاَخذ بما يعرض مثلَ ذلك فيه من الاَحاديث وطُّرق الاَسانيد ويكثر ذلك فتقلُّ روايته لضعف في الطُّرق.
  إلى أن قال : و الاِمام أبو حنيفة إنّما قلّت روايته لما شدّد في شروط الرواية والتحمّل وضعف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي وقلّت من أجلها روايته ، فقلَّ حديثه لا أنّه ترك رواية الحديث متعمداً. (1)
  أقول : أين هذا التشدّد في الاَخذ بالحديث ممّا عليه أهل الحديث من الاَخذ بكل حديث صحيح وسقيم ، وإذا لم يثبت عنده إلاّ سبعة عشر حديثاً فما هو مصدر الاَحاديث التي استخرجها أصحاب الصحاح ، وهذا هو الاِمام البخاري استخرج صحيحه من ستمائة ألف حديث ، وكان الاِمام ابن حنبل يحفظ ألف ألف حديث ؟ ولاَجل هذا التشدّد لم يجد أبو حنيفة محيصاً عن التمسّك بقواعد ،

(1) ابن خلدون : المقدمة : 444ـ445 ، الفصل السادس في علوم الحديث.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 65 ـ
  كالقياس والاستحسان ، وهو ممّن توسّع في القياس والاستحسان وقدّمه على الاَثر المنقول عن الصحابة ، وقد نقل عنه أنّه قال : إنّما آخذ بكتاب اللّه إذا وجدته ، فما لم أجد فيه أخذت بسنّة رسول اللّه والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات ، فإذا لم أجد في كتاب اللّه ولا سنّة رسول اللّه أخذت بقول من شئت من أصحابه وأدع قول من شئت ثمّ لا أخرج من قولهم إلى غيرهم ، فإذا انتهى الاَمر إلى إبراهيم (النخعي) والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن الحسين فلي أن أجتهد كما اجتهدوا (1).
  والظاهر انّه كان يجتهد في الاَقوال المنقولة ، كالصحابة ويأخذ بما وافق القياس ، وتميّز فقهه بإخراج الناس من المأزق بإعمال الحيل الشرعية ، وقد تقدّم الكلام عند البحث في مصادر الفقه.
  وقد انتشر مذهبه بفضل أتباعه خاصة بعدما بسط العثمانيون نفوذهم على معظم الاَمصار الاِسلامية ، وجعلوا المذهب الحنفي هو المذهب الرسمي للدولة ، وأمروا القضاة أن يعملوا وفق فقهه ، فصار الفقه الرائج هو الفقه الحنفي ، فدخل : مصر ، والشام ، وتونس ، والجزائر ، وطرابلس ، واليمن ، و آسيا الوسطى، يقول ابن خلدون : وأمّا أبو حنيفة فقلّده اليوم أهل العراق ومسلمة الهند والصين وماوراء النهر وبلاد العجم كلها لما كان مذهبه أخص بالعراق ودار السلام ، وكان تلاميذه صحابة الخلفاء من بني العباس ، فكثرت تآليفهم ومناظراتهم مع الشافعية ، وحسنت مباحثهم في الخلافيات ، وجاءوا منها بعلم مستظرف وأنظار غريبة (2).

(1) تاريخ بغداد :13|368.
(2) مقدمة ابن خلدون :448.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 66 ـ
المذهب المالكي
  وهو مذهب فقهي للاِمام مالك بن أنس بن مالك بن أنس ( 94 ـ 179 هـ ) وقد ذكرنا فيما سبق نبذة مختصرة عن سيرته وكتابه (الموطأ ) فلا نطيل ، والجدير ذكره هو بيان أُصول مذهبه الفقهي ، فنقول :
  1 ـ القرآن الكريم.
  2 ـ السنّة : وكان يقبل المرسل من الاَحاديث مادام رجاله ثقات ، وفي موطئه كثير من المراسيل و منقطع الاسناد ، ولم يكن يرى التشدّد المعهود عند أبي حنيفة في الحديث ، ومن أهم ميزات مذهبه هو الاعتماد على الحديث ، لا سيما حديث أهل الحجاز.
  3 ـ عمل أهل المدينة : وقد كتب مالك إلى ليث بن سعد : إنّالناس تبع لاَهل المدينة التي كانت إليها الهجرة ، وبها نزل القرآن ـ وَهذا هو الاَساس لاعتباره عمـل أهل المدينـة أساسـاً لفقهه ، ـ قائلاً : بإنّ رسول اللّه أقام في المدينة وأقام أصحابه ، فيكون أهل المدينة أعلم الناس بالتنزيل ، وليست هذه الميزة لغيرهم.
  4 ـ قول الصحابي : إذا لم يرد حديث صحيح في المسألة عن النبي ، فإنّ قول الصحابي إذا لم يعلم له مخالف يكون حجّة باعتبار انّ الصحابة أعلم بالتأويل وأعرف بالمقاصد ، وقد روى في كتابه شيئاً من أقوال الصحابة والتابعين ، وإذا تعارض قول الصحابي مع عمل أهل المدينة ، فهو يقدّم عمل أهل المدينة على قول الصحابي.
  5 ـ المصالح المرسلة : هي المصالح التي لم يشهد لها نص معين من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار ، وكانت ترجع إلى حفظ مقصود شرعي يعلم كونه مقصوداً بالكتاب أو السنّة أو الاِجماع ، إلاّ إذا عارضته مصلحة أُخرى ، فعند ذلك

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 67 ـ
  يقوم العمل بالثاني ، وإليك مثالين :
  الاَوّل : إذا وجد بيد شخص زعفران مغشوش ، أفتى مالك بأنّه يتصدّق به على المساكين قلّ أو كثر ، يقول الشاطبي : إنّه يماثل إراقة عمر اللّبن المغشوش بالماء ، ووجّه بذلك التأديب للغاش ، وهذا التأديب لا نص يشهد له لكن من باب الحكم على الخاص لاَجل العام.
  الثاني : ضرب المتهم بالسرقة ليقر بالمسروق ، فقد جوّزه مالك وخالفه غيره ، لاَنّهذه مصلحة تعارض مصلحة أُخرى هي مصلحة المضروب إذ قد يكون بريئاً.
  6 ـ القياس : حيث لا يوجد نص من كتاب ، أو سنّة ، أو قول صحابي ، أو إجماع من أهل المدينة، فهو يستخدم القياس في اجتهاده ، فقد جاء في ( الموطأ ) (1) سئل مالك عن الحائض إذا طهرت ولم تجد ماءً هل تتيمم؟ فقال : نعم ، قياساً على الجنب عند فقد الماء الذي ثبت بالنص القرآني.
  7 ـ سد الذرائع : وهو المنع عن التذرّع بفعل جائز إلى عمل غير جائز ، وإن شئت قلت : الحيلولة عن التوصل بأمر مباح إلى فعل محظور ، وقد استعمله مالك كثيراً في فقهه.
  يقول الشاطبي في ( الاعتصام ) : كان مالك (ره) شديد المبالغة في سد الذرائع.
  فمثلاً لو وقف الحاكم على أنّ رجلاً يزرع ويغرس كرماً بغية عملها خمراً ، فللحاكم إيقافه عن العمل للحيلولة دون الوصول إلى غرضه.
  أو افترضنا انّ رجلاً رأى هلال شوال وحده ، فليس له الاِفطار لئلاّ يكون

(1) الموطأ : 64 ح 91 ، كتاب الصلاة ، باب طهر الحائض.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 68 ـ
  ذريعة إلى إفطار الفسّاق محتجّين بعمله ، إلى غير ذلك من الاَمثلة التي وردت في ( الموطأ ) وغيره.
  وفي الحقيقة انّ سد الذرائع أصل مناقض للحيل تمام المناقضة ، فما جوّزه الاَحناف من إعمال الحيل قد سدّته المالكية والحنابلة بأصل آخر ، وهو سد الذرائع.
  8 ـ الاِجماع.
  9 ـ العرف والعادة.
  10 ـ الاستحسان.
  11 ـ الاستصحاب.

المذهب الشافعي
  وقد شيّد معالمه محمد بن إدريس الشافعي ( 150 ـ 204 هـ ) (1) الذي تخرّّج على يد مالك شيخ الحجازيين وزعيم مدرسة الحديث ، كما اتصل بمحمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة وزعيم مدرسة الرأي ، فأخذ منهما فصار مذهبه الفقهي حدّاً فاصلاً بين المذهبين الحنفي و المالكي.
  بنى الاِمام الشافعي أُصول مذهبه على الكتاب والسنّة والاِجماع والقياس ، ولم يجنح إلى سائر الاَدلّة التي اعتمد عليها أبو حنيفة ومالك ، فهو يحتج بظواهر القرآن ، كما يحتج بالسنّة وإن كان خبراً واحداً ، شريطة أن يكون الراوي ثقة

(1) انظر ترجمته في تذكرة الحفاظ :1|354ـ 361، حلية الاَولياء :9|63ـ161، تاريخ بغداد : 2|56ـ73، الاَنساب للسمعاني :325|ب، تهذيب الاَسماء للنووي :1|44ـ67، تهذيب الكمال :580|م،طبقات الشافعية :1|100ـ107، الرسالة المستطرفة :54، مقدّمة تحفة الاحوذي :100ـ 101.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 69 ـ
  ضابطاً والحديث متصلاً برسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثمّ إذا لم يكن هناك دليل منصوص عمد إلى القياس وترك العمل بالاستحسان الذي قالت به الحنفية والمالكية ، وأنكر الاحتجاج به قائلاً : ( من استحسن فقد شرّع ) وألّف كتاب ( إبطال الاستحسان ) ورد كذلك المصالح المرسلة ( الاستصلاح ) ، وأنكر الاحتجاج بعمل أهل المدينة ، وأطال في كتــاب ( الاَُم) في ردّه.
  وأمّا قول الصحابي ، فالظاهر انّه لا يعمل بقوله إذا صدر عن رأي واجتهاد ، ونقل عنه قوله : ( لا يقلّد المجتهد صحابياً كما لا يقلّد عالماً آخر ) (1) .
  وفي نقل آخر عنه أيضاً أنّه قال : إنّقول الصحابي إذا لم يعلم له مخالف يكون خيراً لنا من رأينا لاَنفسنا ، وإذا اختلف أصحاب رسول اللّه في مسألة فإنّه يأخذ من قول بعضهم ما يراه أقرب إلى الكتاب والسنّة ، ولا يتجاوز أقوالهم إلى غيرها (2).

مذهبه القديم والجديد
  ورد الشافعي إلى العراق عام 195 هـ في خلافة الاَمين ، وصنف كتابه القديم المسمّى بـ ( الحجة ) ومدّة إقامته بالعراق سنتان ، ثمّ رجع إلى الحجاز ، وفي سنة 198 هـ قدم إلى العراق مرّة أُخرى فأقام هناك أشهراً ، ثمّ ارتحل إلى مصر فظهرت فيها مواهبه الفقهية ، فأملى على تلاميذه كتبه الجديدة التي يعبر عنها بالقول الجديد ، ويجمعها كتاب ( الاَُم) وهو المذهب الذي تغير إليه اجتهاده بمصر ، ولعلّ سبب التغيّر سماعه بعض الاَحاديث من علمائها ، ولم يكن واقفاً

(1) نقله العطار في حاشيته على جمع الجوامع :2|261، انظر تاريخ الفقه الاِسلامي للدكتور أحمد فرّاج حسين.
(2) مناع القطان : تاريخ التشريع الاِسلامي :312.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 70 ـ
  عليها ، وربما يكون لتقاليد وعادات الموطن الذي حلّ فيه تأثير في تغير فتاواه.
  وبما ذكرنا في ترتيب الاَُصول التي بنى عليه فقهه يظهر وجه الاختلاف بين الاَئمّة الاَربعة في الفتوى ، فمثلاً :
  1 ـ انّ أبا حنيفة يشترط في الحديث الشهرة إذا عمّت البلوى ، بخلاف الشافعي فهو يعمل على الخبر الصحيح المتصل سواء أَبَلَغَ الشهرة أم لا.
  2 ـ انّ مالكاً يشترط في العمل بالحديث عدم مخالفته لعمل أهل المدينة ، بخلاف الشافعي فهو يعمل بالحديث الصحيح المتصل وإن كان مخالفاً لعمل أهل المدينة.
  3 ـ انّ أبا حنيفة ومالكاً يعملان بالاستحسان ، في حين انّ الشافعي قد نقل عنه : انّ من استحسن فقد شرع.
  4 ـ انّ مالكاً يعمل بقاعدة الاستصلاح والمصالح المرسلة ، في حين انّ الشافعي لا يعتمد عليها.
  5 ـ انّ أبا حنيفة جعل القياس في الدرجة الثالثة من الاعتبار حتى اشتهر في الفقه الحنفي ( انّ من لا قياس عنده لا فقه عنده ، ومن رد القياس الشرعي سدّ على نفسه باب الاجتهاد ) (1).
  والحال انّالشافعي جعل القياس في الدرجة الاَخيرة من الاعتبار ، حيث قال : والعلم طبقات ، الاَُولى : الكتاب والسنة ، الثانية : الاِجماع فيما ليس كتاباً ولا سنّة ، الثالثة : أن يقول صحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة ، الرابعة : اختلاف الصحابة ، الخامسة : القياس (2) .

(1) المقالات الكوثرية :216ـ225.
(2) ابن القيم : إعلام الموقعين :4|121ـ122.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 71 ـ
  هذه الوجوه وأمثالها أثارت خلافاً واسعاً بين المذاهب الاَربعة.
  وقد انتشر مذهبه على يد تلامذته في كثير من الاَقطار ، وذكر تفصيلها ابن خلدون في ( المقدمة ) وقال ما هذا خلاصته : أمّا الشافعي فمقلّدوه بمصر أكثر من سواها ، وقد كان انتشر مذهبه بالعراق وخراسان وماوراء النهر ، وقاسموا الحنفية في الفتوى والتدريس في جميع الاَمصار ، وعظمت مجالس المناظرات بينهم ، وشحنت كتب الخلافيات بأنواع استدلالتهم.
  إلى أن قال : وقد انقرض فقه أهل السنّة في مصر بظهور فقه أهل البيت ، ولمّا انقرض على يد صلاح الدين رجع إليهم فقه الشافعي وأصحابه من أهل العراق والشام ، واشتهر منهم : محيي الدين النووي ، وعز الدين بن عبد السلام ، وتقي الدين بن دقيق العيد ، ثمّ تقي الدين السُبكي ، إلى أن انتهى إلى شيخ الاِسلام بمصر لهذا العهد وهو سراج الدين البلقيني ، فهو اليوم أكبر الشافعية بمصر ، وكبير العلماء بها بل أكبر العلماء من أهل مصر (1).

المذهب الحنبلي
  المذهب الحنبلي هو المنسوب إلى الاِمام أحمد بن محمد بن حنبل ( 164 ـ 241 هـ ) وقد ذكرنا شيئاً من ترجمته عند البحث عن تدوين الجوامع الحديثية الثانوية عند السنّة ، ولا شكّ انّه يعد من كبار المحدّثين ، ومسنده الموجود دليل على توسّعه في الحديث ، إنّما الكلام في أنّه هل كان جالساً على منصة الاِفتاء ، أو أنّه كان يتورّع عن الاِفتاء إلاّ قليلاً ؟ وقد مرّ الكلام فيه ، وعلى كلّ تقدير فالفقه المنسوب إليه مبني على الاَُسس التالية :

(1) مقدّمة ابن خلدون : 415 ، ط دار الكتاب العربي.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 72 ـ
أُصول مذهبه
  وقد ذكر ابن القيم (الذي يغالي في الاِمام أحمد غلواً كبيراً) انّ الاِمام كان يعتمد في تدوين مذهبه على خمسة أُصول هي :
  1 ـ النصوص : فإذا وجد النص أفتى بموجبه ، ولم يلتفت إلى ما خالفه ومن خالفه ، ثمّ ذكر عدّة أمثلة ، ويقول : ولم يكن يقدّم على الحديث الصحيح عملاً ، ولا رأياً ، ولا قياساً ، ولا قول صحابي ، ولا عدم علمه بالمخالف الّذي يسمّيه كثير من الناس إجماعاً ، وقد كذّب أحمد من ادّعى هذا الاِجماع ، ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت.
  2 ـ ما أفتى به الصحابة ، فإنّه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها ولم يقل إنّ ذلك إجماع ، وإذا وجد الاِمام أحمد هذا النوع من الصحابة لم يقدّم عليه عملاً ولا رأياً ولا قياساً.
  3 ـ إذا اختلفت الصحابة تخيّر من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنّة ، ولم يخرج عن أقوالهم ، فإن لم يتبيّـن له موافقة أحد الاَقوال حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقوله.
  4 ـ الاَخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن ، وهو الذي رجّحه على القياس ، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا من في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه والعمل به ، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن ، ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف ، بل إلى صحيح وضعيف ، وللضعيف عنده مراتب.
  5 ـ القياس : فهو يقدّم الحديث المرسل والمنقطع والبلاغات وقول الصحابي على القياس ، فإذا لم يكن عنده شيء من هذه يعمل به واستعمله

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 73 ـ
  للضرورة ، وقد قال في كتاب ( الخلال ) : سألت الشافعي عن القياس ، فقال : إنّما يصار إليه عند الضرورة ، أو ما هذا معناه.
  فهذه الاَُصول الخمسة من أُصول فتاويه (1) وعليها مدارها ، وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الاَدلّة عنده ، أو لاختلاف الصحابة فيها ، أو لعدم اطّلاعه فيها على أثر ، أو قول أحد من الصحابة والتابعين.
  وكان شديد الكراهة والمنع للاِفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف ، كما قال لبعض أصحابه : إيّاك أن تتكلّم في مسألة ليس لك فيها إمام. وكان يسوغ استفتاء فقهاء الحديث وأصحاب مالك ، ويدل عليهم ، ويمنع من استفتاء من يعرض عن الحديث ولا يبني مذهبه عليه ،ولا يسوغ العمل بفتواه (2) .
  ما ذكرنا من المذاهب الاَربعة هي المذاهب السائدة إلى الآن ، وقد أُبيدت المذاهب الاَُخرى لعلل شتّى ، وحصرت المذاهب في الاَربعة بعدما انتحل الناس مذاهب أُخرى ، ونظراً لاَهمية هذا الموضوع نستعرض في نهاية الفصل مبحث حصر المذاهب في الاَربعة ، وإغلاق باب الاجتهاد ، وما أعقبته من نتائج سلبية ومضاعفات على النهضة الفقهية.
  ميزة الدور الثاني
  وبالاِمعان فيما جرى في هذا العهد من الاَحداث يمكن أن نقول : إنّ هذا الدور يتميّز بأمرين :

(1) وقد صرّح بعض الكتّاب المعاصرين انّ الاِمام أحمد اعتمد في مذهبه الفقهي على أدلّة ثمانية هي : القرآن ، السنّة ، فتاوى الصحابة ، الاِجماع ، القياس ، الاستصحاب ، المصالح المرسلة ، سد الذرائع ، (انظر تاريخ الفقه الاِسلامي للدكتور أحمد فراج حسين).
(2) ابن القيم : إعلام الموقعين : 1|33.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 74 ـ
  1 ـ استقلال علم الفقه عن سائر العلوم على وجه صار علم الفقه علماً مستقلاً عن سائر العلوم ، كما هو الحال بالنسبة إلى الآداب العربية .
  2 ـ شيوع طريقة الرأي في الفقه ، وقد مرّ فيما مضى انّ بذور هذه الفكرة كانت بعد رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولكن تصاعَد نشاطها في هذا الدور لاَنّهم واجهوا العديد من الحوادث التي لم يكن لها حلول في الشريعة ، سوى إعمال الرأي لا سيما في بلد كالعراق مكتظ بأعراف وثقافات مختلفة ومتنوعة.

تاريخ الفقه الاسلامي وأدواره ـ 75 ـ
أدوار الفقه السنّي
3 ـ الدور الثالث

  عصر ركود الحركة الاجتهادية
  (أوائل القرن الرابع ـ أواسط القرن السابع)
  لقد تألّق نجم المذاهب الاَربعة من منتصف القرن الرابع إلى سقوط بغداد سنة 656هـ(سقوط الدولة العباسية) فسرت روح التقليد للاَئمة الاَربعة سرياناً عاماً اشترك فيها العلماء وجمهور الناس بعدما كان الناس على فرقتين :
  فرقة تدرس الكتاب والسنّة وتستنبط الاَحكام الشرعية من ظواهرها ، وفرقة مقلّدون تَفْزع إلى الفرقة الا َُولى في كلّ حادثة ونازلة ، ولكن تغير الوضع عقب منتصف القرن الرابع ، فانصبّت همم الفقهاء والعلماء على فهم ما أُثر عن الاَئمّة الاَربعة من النصوص والقواعد في مجال الاَحكام ، فراج الاجتهاد في المذهب بدل الاجتهاد المطلق ، وانحصر بذل الجهود في فهم كلام أئمّة المذاهب ، وبذلك نزلت كلماتهم منزلة النصوص القرآنية أو الحديثية.
  يقول الاستاذ الخضري بك في هذا الصدد : أمّا في هذا الدور فإنّ روح التقليد سرت سرياناً عاماً واشترك فيها العلماء وغيرهم من الجمهور ، فبعد أن كان مريد الفقه يشتغل أوّلاً بدراسة الكتاب ورواية السنّة اللّذين هما أساس الاستنباط ، صار في هذا الدور يتلقّى كتب إمام معيّن ويدرس طريقته التي