لغواً لا أثر له في سعادة الناس كما أنه من غير رفع المحذور كان لا أثر له ، فهذا حال تشريع الدين قبل وصول أو ان الفداء وتحققه !
  وأما في زمان الفداء وبعده فالأمر في صيرورة التشريع والدعوة الدينية والهداية الإلهية لغواً أوضح وأبين ، فما هي الفائدة في الإيمان بالمعارف الحقة والإتيان بالأعمال الصالحة بعد ارتفاع محذور الخطيئة ، واستيجاب نزول المغفرة والرحمة على الناس مؤمنهم وكافرهم ، برهم وفاجرهم ، من غير فرق بين أتقى الأتقياء وأشقى الأشقياء في أنهما يشتركان في الهلاك المؤبد مع بقاء الخطيئة ، وفي الرحمة اللازمة مع ارتفاعها بالفداء والمفروض أنه لا ينفع أي عمل صالح في رفعها لولا الفداء.
  فان قيل : إن الفداء إنما ينفع في حق من آمن بالمسيح فللدعوة ثمرة كما يصرح به المسيح في بشارته (1).
  قيل : مضافاً إلى أنه مناقض لما تقدمت الاشارة إليه من كلام يوحنا في رسالته ، إنه هدم لجميع الاصول الماضية إذ لا يبقى من الناس ـ آدم فمن دونه ـ في حظيرة النجاة والخلاص إلا شرذمة منهم ، وهم المؤمنون بالمسيح والروح بل واحدة من طوائفهم المختلفة في الاصول وأما غيرهم فهم باقون على الهلاك الدائم ، فليت شعري إلى ما يؤول أمر الأنبياء المكرمين قبل المسيح وأمر المؤمنين من اممهم ؟ وبما ذا يتصف الدعوة التي جاؤوا بها من كتاب وحكم ، أبالصدق أم بالكذب ؟ والأناجيل تصدق التوراة ودعوتها ، وليس فيها دعوة إلى قصة الروح والفداء ! وهل هي تصدق ما هو صادق أو تصدق الكاذب ؟
  فان قيل : إن الكتب السماوية السابقة فيما نعلم تبشر بالمسيح ، وهذه منهم دعوة إجمالية إلى المسيح وإن لم تفصل القول في كيفية نزوله وفدائه فلم يزل الله يبشر أنبيائه بظهور المسيح ليؤمنوا به ويطيبوا نفساً بما سيصنعه .
  قيل : اولا : إن القول به قبل موسى تخرص على الغيب ، على أن البشارة لو

--------------------
(1) ( أقول لكم إن كل من اعترف لي قدام الناس فابن الإنسان يعترف به أيضاً قدام ملائكة الله ، ومن أنكرني قدام الناس أنكره أيضاً قدام ملائكة الله ، وكل من يقول كلمة في ابن الإنسان يغفر له ومن يجدف روح القدس لا يغفر له ) إنجيل لوقا ـ الاصحاح الثاني عشر .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 302 _
  فإنما هي بشارة بالخلاص وليست بدعوة إلى الإيمان والتدين به. وثانياً : إن ذلك لا يدفع محذور لغوية الدعوة في فروع الدين من الأخلاق والأفعال حتى من المسيح نفسه ، والأناجيل مملوءة بذلك .
  وثالثاً : إن محذور الخطيئة وانتقاض الغرض الإلهي باق على حاله فإن الله تعالى : ( إنما خلقهم ليرحم جميعهم ويبسط النعمة والسعادة ) على كافتهم وقد آل أمره إلى عقابهم والغضب عليهم وإهلاكهم للأبد إلا شرذمة منهم .
  فهذه نبذة من وجوه فساده عند العقل ، ويؤيده ويجري عليه القرآن الكريم ، قال تعالى : ( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) طه ـ 50 ، فبين أن كل شيء مهدي إلى غايته وما يبتغيه بوجوده ، والهداية تعم التكوينية والتشريعية فالسنة الإلهية جارية على بسط الهداية ، ومنها هداية الإنسان هداية دينية .
  ثم قال تعالى وهو أول هداية دينية ألقاها إلى آدم ومن معه حين إهباطهم من الجنة : ( قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة ـ 39 ، وما يشتمل عليه بمنزلة التلخيص لتفاصيل الشرائع إلى يوم القيامة ففيه تشريع ووعد ووعيد عليه من غير تردد وارتياب ، وقد قال تعالى : ( الْحَقَّ أَقُولُ ) ص ـ 84 ، وقال تعالى : ( مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) ق ـ 29 ، فبين أنه لا يتردد فيما جزم به من الأمر ولا ينقض ما أنفذه من الأمر فما يقضيه ، هو الذي يمضيه ، وإنما يفعل ما قاله ، فلا ينحرف فعله عن المجرى الذي أراد عليه لا من جهته نفسه بأن يريد شيئاً ثم يتردد في فعله ، أو يريده ثم يبدو له فلا يفعله ، ولا جهة غيره بأن يريد شيئاً ويقطع به ويعزم عليه ثم يمنعه مانع من العقل أو يبدو إشكال يعترض عليه في طريق الفعل فكل ذلك من قهر القاهر ، وغلبة المانع الخارجي ، قال تعالى : ( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) يوسف ـ 21 ، وقال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ) الطلاق ـ 3 ، وقال تعالى : حكاية عن موسى ( قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ) طه ـ 52 ، وقال تعالى : ( الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) المؤمن ـ 17.
  تدل هذه الآيات وما يشابهها على أنه تعالى إنما خلق الخلق ولم يغفل عن أمره ، ولم يجهل شيئاً مما سيظهر منه ، ولم يندم على ما فعله ، ثم شرع لهم الشرائع تشريعاً

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 303 _
  جدياً فاصلاً من غير هزل ولا خوف ولا رجاء ، ثم إنه يجزي كل ذي عمل بعمله ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر من غير أن يغلبه تعالى غالب ، أو يحكم عليه حاكم من شريك أو فدية أو خلة أو شفاعة من دون إذنه فكل ذلك ينافي ملكه المطلق لما سواه من خلقه .
  وعاشراً : ما ذكروه من حديث الفداء وحقيقة الفداء أن يلزم الإنسان أو ما يتعلق به من نفس أو مال أثر سيىء من قتل أو فناء فيعوض بغيره أي شيء كان ليصان بذلك من لحوق ذلك الاثر به كما يفدي الإنسان الأسير بنفس أو مال وكما تفدي الجرائم والجنايات بالاموال ، ويسمى البدل فدية وفداء ، فالتفدية نوع معاملة ينتزع بها حق صاحب الحق وسلطنته عن المفدي عنه إلى الفداء فيستنقذ به المفدي عنه من أن يلحق به الشر.
  ومن هنا يظهر أن الفداء غير معقول في ما يتعلق بالله سبحانه فإن السلطنة الإلهية ـ على خلاف السلطنة الوضعية الإعتبارية الإنسانية ـ سلطنة حقيقية واقعية غير جائزة التبديل مستحيلة الصرف ، فالأشياء بأعيانها وآثارها موجودة قائمة بالله سبحانه وكيف يتصور تغيير الواقع عما هو عليه فليس إلا أمرا لا يمكن تعقله فضلا عن أن يمكن وقوعه وهذا بخلاف الملك والسلطنة والحق وأمثالها الدائرة بيننا معاشر أبناء الاجتماع فإنها وأمثالها امور وضعية اعتبارية زمامها بأيدينا ، نحن المجتمعين نبطلها مرة ، ونبدلها اخرى على حسب تغير مصالحنا في الحيوة والمعاش ( راجع ما تقدم من البحث في تفسير قوله تعالى : ( مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) الحمد ـ 4 ، وقوله تعالى : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ )الآية آل عمران ـ 26 .
  وقد نفى الله سبحانه الفدية بالخصوص في قوله : ( فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ ) الحديد ـ 15 ، وقد تقدم فيما مر أن من هذا القبيل قول المسيح فيما يحكيه الله تعالى عنه : ( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ) قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ـ إلى أن قال ـ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به : ( أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) المائدة ـ 118 ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 304 _
  فإن قوله : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ ) ( الخ ) في معنى أنه لم يكن لي شأن فيهم إلا ما أنت وظفته علي وعينته وهو تبليغ الرسالة ، والشهادة على الأعمال ما دمت فيهم ، وأما هلاكهم ونجاتهم وعذابهم ومغفرتهم فإنما ذلك اليك من غير أن يرتبط بي شيء من ذلك أو يكون لي شأن فيه فأملك لهم شيئاً منك أخرجهم به من عذابك أو تسلطك ، عليهم وفي ذلك نفى الفداء إذ لو كان هناك فداء لم يصح تبريه من أعمالهم وإرجاع العذاب والمغفرة معاً إلى الله سبحانه بنفي ارتباطهما به أصلاً.
  وفي معنى هذه الآيات قوله تعالى : ( وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ) البقرة ـ 48 ، وكذا قوله تعالى : ( يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ ) البقرة ـ 254 ، وقوله تعالى : ( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) المؤمن ـ 33 ، فإن العدل في الآية الاولى والبيع في الآية الثانية والعصمة من الله في الآية الثالثة مما ينطبق عليه الفداء فنفيها نفي الفداء.
  نعم أثبت القرآن الشريف في مورد المسيح الشفاعة بدل ما يثبتونه من الفداء والفرق بينهما أن الشفاعة ( كما تقدم البحث عنها في قوله تعالى : ( وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي ) البقرة ـ 48 ، نوع من ظهور قرب الشفيع ومكانته لدى المشفوع عنده من غير أن يملك الشفيع منه شيئاً أو يسلب عنه ملك أو سلطنة ، أو يبطل حكمه الذي خالفه المجرم أو يبطل قانون المجازاة بل إنما هو نوع دعاء واستدعاء من الشفيع لتصرف المشفوع عنده وهو الرب ما يجوز له من التصرف في ملكه ، وهذا التصرف الجائز مع وجود الحق هو العفو الجائز للمولى مع كونه ذا حق أن يعذبه لمكان المعصية وقانون العقوبة.
  فالشفيع يحضه ويستدعي منه أن يعمل بالعفو والمغفرة في مورد استحقاق العذاب للمعصية من غير أن يسلب من المولى ملك أو سلطان بخلاف الفداء فإنه كما مر معاملة يتبدل به سلطنة من شيء إلى شيء آخر هو الفداء ويخرج المفدي عنه عن سلطان القابل الآخذ للفداء .
  ويدل على هذا الذي ذكرناه قوله تعالى : ( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف ـ 86 ، فإنه صريح في وقوع الشفاعة من المستثنى ، والمسيح ( عليه السّلام ) ممن كانوا يدعونهم من دون الله ، وقد نص القرآن بأن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 305 _
  الله علمه الكتاب والحكمة ، وبأنه من الشهداء يوم القيامة ، قال تعالى : ( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) آل عمران ـ 48 ، وقال تعالى حكاية عنه : ( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ) المائدة ـ 117 ، وقال تعالى : ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ) النساء ـ 159.
  فالآيات كما ترى تدل على كون المسيح ( عليه السّلام ) من الشفعاء ، وقد تقدم تفصيل القول في هذا المعني في تفسير قوله تعالى : ( وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً )الآية البقرة ـ 48.

6 ـ من أين نشأ هذه الآراء ؟
  القرآن ينفي أن يكون المسيح ( عليه السّلام ) هو الملقي لهذه الآراء والعقائد إليهم والمروج لها فيما بينهم بل انهم تعبّدوا لرؤسائهم في الدين وسلموا الأمر إليهم وهم نقلوا إليهم عقائد الماضين من الوثنيين كما قال تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) الآيات التوبة ـ 31.
  وهؤلاء الكافرون الذين يشير تعالى إليهم بقوله : ( يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ ، ليسوا ) هم عرب الجاهلية في وثنيتهم حيث قالوا : إن الملائكة بنات الله فإن قولهم بأن لله ابناً أقدم تاريخاً من تماسهم مع العرب واختلاطهم بهم وخاصة قول اليهود بذلك مع أن ظاهر قوله : من قبل ، أنهم سابقون فيه على اليهود والنصارى ، على أن اتخاذ الأصنام في الجاهلية مما نقل إليهم من غيرهم ولم يكونوا بمبتكرين في ذلك (1).

--------------------------------------
(1) ذكروا أن أول من وضع الاصنام على الكعبة ودعي الناس إليها عمرو بن لحى وكان في زمان سابور ذي الاكتاف ساد قومه بمكة واستولى على سدانة البيت ثم سافر إلى مدينة البلقاء بأرض الشام فرأى قوماً يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية والاشخاص البشرية نستنصر بها فننصر ، ونستمطر بها فنمطر بطلب منهم صنما من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فرجع إلى مكة ووضعه على الكعبة ودعا الناس إلى عبادتها ، وكان معه إساف ونائلة على شكل زوجين فدعا الناس إليهما والتقرب إلى الله بهما ـ ذكره في الملل والنحل وغيره .
  ومن عجيب الأمر أن القرآن يذكر أسماء من أصنام العرب في قصة نوح وشكواه من قومه قال تعالى حكاية عنه : ( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ) نوح ـ 23.
  ( 3 ـ الميزان ـ 20)

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 306 _
  على أن الوثنية من الروم ويونان ومصر وسورية والهند كانوا أقرب إلى أهل الكتاب القاطنين بفلسطين وحواليه ، وانتقال العقائد والمزاعم الدينية إليهم منهم أسهل ، والأسباب بذلك أوفق.
  فليس المراد بالذين كفروا الذين ضاهاهم أهل الكتاب في القول بالبنوة إلا قدماء وثنية الهند والصين ووثنية الغرب من الروم ويونان وشمال إفريقا كما أن التاريخ يحكي عنهم نظائر هذه المزاعم الموجودة في أهل الكتاب من اليهود والنصارى من البنوة والابوة والتثليث وحديث الصلب والفداء وغير ذلك ، وهذا من الحقائق التاريخية التي ينبه عليها القرآن الشريف.
  ونظير الآيات السابقة في الدلالة على هذه الحقيقة قوله تعالى : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ) المائدة ـ 77 ، فإن الآية تبين أن غلوهم في الدين بغير الحق إنما طرء عليهم بالتقليد واتباع أهواء قوم ضالين من قبلهم .
  وليس المراد بهؤلاء القوم أحبارهم ورهبانهم ، فإن الكلام مطلق غير مقيد ولم يقل : قوم منكم ، وأضلوا كثيراً منكم ، وليس المراد بهم عرب الجاهلية كما تقدم على أنه وصف هؤلاء القوم بأنهم أضلوا كثيراً أي كانوا أئمة ضلال مقلدين متبعين ( بصيغة المفعول فيهما ) ولم يكن العرب يومئذ إلا شرذمة مضطهدين اميين ليس عندهم من العلم والحضاره والتقدم ما يتبعهم به وفيه غيرهم من الامم كفارس والروم والهند وغيرهم .
  فليس المراد بهؤلاء القوم المذكورين إلا وثنية الصين والهند والغرب كما تقدم .

7 ـ ما هو الكتاب الذي ينتسب إليه أهل الكتاب وكيف هو ؟
  الرواية وإن عدت المجوس من أهل الكتاب ، ولازم ذلك أن يكون لهم كتاب خاص أو ينتموا إلى واحد من الكتب التي يذكرها القرآن ككتاب نوح ، وصحف إبراهيم ، وتوراة موسى ، وإنجيل عيسى ، وزبور داود ، لكن القرآن لا يذكر شأنهم ، ولا يذكر كتاباً لهم ، والذي عندهم من ( أوستا ) لا ذكر منه فيه ، وليس عندهم من سائر الكتب اسم.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 307 _
  وإنما يطلق القرآن ( أهل الكتاب ) فيما يطلق ، ويريد بهم اليهود والنصارى لمكان الكتاب الذي أنزله الله عليهم .
  والذي عند اليهود من الكتب المقدسة خمسة وثلثون كتاباً منها توراة موسى مشتملة على خمسة أسفار (1) ومنها كتب المؤرخين إثنا عشر كتاباً (2) ، ومنها كتاب أيوب ، ومنها زبور داود ، ومنها ثلثة كتب لسليمان (3) ، ومنها كتب النبوات سبعة عشر كتاباً (4).
  ولم يذكر القرآن من بينها إلا توراة موسى وزبور داود ( عليهما السلام ).
  والذي عند النصارى من مقدسات الكتب ، الأناجيل الأربعة وهي أنجيل متى ، وإنجيل مرقس ، وإنجيل لوقا ، وإنجيل يوحنا ، ومنها كتاب أعمال الرسل ، ومنها عدة من الرسائل (5) ، ومنها رؤيا يوحنا .
  ولم يذكر القرآن شيئاً من هذه الكتب المقدسة المختصة بالنصارى إلا أنه ذكر أن هناك كتاباً سماوياً أنزله الله على عيسى بن مريم يسمى بالإنجيل ، وهو إنجيل واحد ليس بالأناجيل ، والنصارى وإن كانوا لا يعرفونه ولا يعترفون به إلا أن في كلمات

--------------------------------------
(1) وهي سفر الخليقة ، وسفر الخروج وسفر الأحبار ، وسفر العدد ، وسفر الاستثناء.
(2) وهي كتاب يوشع ، وكتاب قضاة بني إسرائيل ، وكتاب راعوث ، والسفر الأول من أسفار صموئيل ، والثاني منها ، والسفر الاول من أسفار الملوك ، والثاني منها ، والسفر الاول من أخبار الأيام ، والسفر الثاني منها ، والسفر الأول لعزرا ، والثاني له ، وسفر إستير.
(3) وهي كتاب الأمثال ، وكتاب الجامعة ، وكتاب تسبيح التسابيح.
(4) وهي كتاب نبوة أشعيا ، وكتاب نبوة أرميا ، ومراثي أرميا ، وكتاب حزقيال ، وكتاب نبوة دانيال ، وكتاب نبوة هوشع ، وكتاب نبوة يوييل ، وكتاب نبوة عاموص ، وكتاب نبوة عويذيا ، وكتاب نبوة يونان ، وكتاب نبوة ميخا ، وكتاب نبوة ناحوم ، وكتاب نبوة حيقوق ، وكتاب نبوة صفونيا ، وكتاب نبوة حجى ، وكتاب نبوة زكريا ، وكتاب نبوه ملاخيا .
(5) وهي أربع عشرة رسالة لبولس ، ورسالة ليعقوب ، ورسالتان لبطرس ، وثلاث رسائل ليوحنا ، ورسالة ليهوذا .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 308 _
  رؤسائهم لقيطات تتضمن الاعتراف بأنه كان للمسيح كتاب اسمه إنجيل (1).
  والقرآن مع ذلك لا يخلو من إشعار بأن بعضاً من التوراة الحقة موجود فيما عند اليهود وكذا بعض من الإنجيل الحق موجود في أيدي النصارى ، قال تعالى : ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ) المائدة ـ 43 ، وقال تعالى : ( وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ) المائدة ـ 14 ، والدلالة ظاهرة .

( بحث تاريخي )
1 ـ قصة التوراة الحاضرة
  بنو إسرائيل هم الأسباط من آل يعقوب كانوا يعيشون أولاً عيشة القبائل البدويين ثم أشخصهم الفراعنة إلى مصر وكانوا يعامل معهم معاملة الأسراء المملوكين حتى نجاهم الله بموسى من فرعون وعمله.
  وكانوا في زمن موسى يسيرون مسير الحيوة بالإمام وهو موسى وبعده يوشع ( عليهما السلام ) ثم كانوا برهة من الزمان يدبر أمرهم القضاة مثل إيهود وجدعون وغيرهما ، وبعد ذلك يشرع فيهم عصر الملك وأول الملوك فيهم شاؤل وهو الذي يسميه القرآن الشريف بطالوت ثم داود ثم سليمان .
  ثم انقسمت المملكة وانشعبت القدرة ومع ذلك ملك فيهم ملوك كثيرون كرحبعام وإبيام ويربعام ويهوشافاط ويهورام وغيرهم بضعة وثلثون ملكاً .
  ولم تزل تضعف القدرة بعد الانقسام حتى تغلبت عليهم ملوك بابل وتصرفوا في اورشليم وهو بيت المقدس ، وذلك في حدود سنة ستمأة قبل المسيح ، وملك بابل يومئذ بخت نصر ( بنو كد نصر ) ثم تمردت اليهود عن طاعته فأرسل إليهم عساكره

--------------------
(1) في رسالة بولس إلى أهل غلاطية ـ الاصحاح الاول : ( إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعاً عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوه أي يغيروه .
  وقد استشهد النجار في قصص الأنبياء بما مر وبموارد اخر من كلمات بولس في رسائله على أنه كان هناك إنجيل غير الأربعة يسمى إنجيل المسيح.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 309 _
  فحاصروهم ثم فتحوا البلدة ونهبوا خزائن الملك ، وخزائن الهيكل ( المسجد الأقصى ) وجمعوا من أغنيائهم وأقويائهم وصناعهم ما يقرب من عشره آلاف نفساً وساروا بهم إلى بابل وما أبقوا في المحل إلا الضعفاء والصعاليك ، ونصب بخت نصر ( صدقيا ) وهو آخر ملوك بنى إسرائيل ملكاً عليهم ، وعليه الطاعة لبخت نصر .
  وكان الأمر على ذلك قريباً من عشر سنين حتى وجد صدقيا بعض القوة والشدة ، واتصل بعض الاتصال بواحد من فراعنة مصر فاستكبر وتمرد عن طاعة بخت نصر .
  فأغضب ذلك بخت نصر غضباً شديداً فساق إليهم الجيوش وحاصر بلادهم فتحصنوا عنه بالحصون ، وتمادى بهم التحصن قريباً من سنة ونصف حتى ظهر فيهم القحط والوباء.
  وأصر بخت نصر على المحاصرة حتى فتح الحصون ، وذلك في سنة خمسمأة وست وثمانين قبل المسيح ، وقتل نفوسهم ، وخرب ديارهم وخربوا بيت الله ، وأفنوا كل آية وعلامة دينية ، وبدلوا هيكلهم تلاً من تراب ، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الذي كانت تجعل فيه .
  وبقي الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ، ولا من مسجدهم وديارهم إلا تلال ورياع .
  ثم لما جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك ، وكان من أمره مع البابليين ما كان ، وفتح بابل ودخله أطلق اسراء بابل من بني اسرائيل ، وكان عزرا المعروف من المقربين عنده فأمّره عليهم ، وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ، ويبني لهم الهيكل ، ويعيدهم إلي سيرتهم الاولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمأة وسبعة وخمسين قبل المسيح ، وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصححها ، وهي التوراة الدائرة اليوم (1).
  وأنت ترى بعد التدبر في القصة أن سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير

--------------------
(1) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدس تأليف مستر هاكس الأمريكاني الهمداني ومآخذ اخرى من التواريخ.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 310 _
  متصلة بموسى ( عليه السّلام ) إلا بواحد ( وهو عزرا ) ، لا نعرفه أولاَ ، ولا نعرف كيفية اطلاعه وتعمقه ثانياَ ، ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاَ ، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاَ ، ولا ندري بالاستناد إلى أي مستند صحح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساَ.
  وقد أعقبت هذه الحادثة المشيئومة أثراَ مشيئوماً آخر وهو إنكار عدة من باحثي المؤرخين من الغربيين وجود موسى وما يتبعه ، وقولهم : إنه شخص خيالي كما قيل نظيره في المسيح عيسى بن مريم ( عليهما السلام ) ، لكن ذلك لا يسع لمسلم فإن القرآن الشريف يصرح بوجوده ( عليه السّلام ) وينص عليه .

2 ـ قصة المسيح والإنجيل
  اليهود مهتمون بتاريخ قوميتهم ، وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار التي مرت بهم ، ومع ذلك فانك لو تتبعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم ( عليه السّلام ) : لا على كيفية ولادته ، ولا على ظهوره ودعوته ، ولا على سيرته والآيات التي أظهرها الله على يديه ، ولا على خاتمة حيوته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك ، فما هو السبب في ذلك ؟ وما هو الذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره ؟
  والقرآن يذكر عنهم أنهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى ، وأنهم ادعوا قتل عيسى ، قال تعالى : ( وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ) النساء ـ 157.
  فهل كانت دعويهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القومية من غير أن يكون مودعاً في كتاب ؟ وعند كل أُمة أحاديث دائرة من واقعيات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة .
  أو أنهم سمعوا من النصارى الذكر المكرر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم ، وادعوا قتل المسيح ؟ لا طريق إلى استبانة شيء

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 311 _
  من ذلك غير أن القرآن ـ كما يظهر بالتدبر في الآية السابقة ـ لا ينسب إليهم صريحاً إلا دعوى القتل دون الصلب ، ويذكر أنهم على ريب من الأمر ، وأن هناك اختلافاً !
  وأما حقيقة ما عند النصارى من قصة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أن قصته ( عليه السّلام ) وما يتعلق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة التي هي أناجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا ، وكتاب أعمال الرسل للوقا ، وعدة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنا ويهوذا ، واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها :
  أما إنجيل متى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنه صنف سنة 38 الميلادية ، وذكر آخرون أنه كتب ما بين سنة 50 إلى سنة 60 (1) فهو مؤلف بعد المسيح.
  والمحققون من قدمائهم ومتأخريهم على أنه كان أصله مكتوباً بالعبرانية ثم ترجم إلى اليونانية وغيرها ، أما النسخة الأصلية العبرانية فمفقودة ، وأما الترجمة فلا يدري حالها ، ولا يعرف مترجمها (2).
  وأما إنجيل مرقس : فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس ، ولم يكن من الحواريين وربما ذكروا إنه أنما كتب إنجيله باشارة بطرس وأمره ، وكان لا يرى إلهية المسيح (3) ، ولذلك ذكر بعضهم أنه إنما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرف المسيح تعريف رسول إلهي مبلغ لشرائع الله (4) ، وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة 61 ميلادية .
  وأما إنجيل لوقا : فلوقا هذا لم يكن حوارياً ولا رأى المسيح وإنما تلقن النصرانية من بولس ، وبولس كان يهودياً متعصباً على النصرانية يؤذي المؤمنين بالمسيح ويقلب

--------------------
(1) قاموس الكتاب المقدس للمستر هاكس مادة ـ متى .
(2) كتاب ميزان الحق ، واعتراف به على تردد في قاموس الكتاب المقدس.
(3) نقل ذلك عبد الوهاب النجار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الأخبار في تراجم الأخبار لبطرس قرماج .
(4) ذكره في قاموس الكتاب المقدس ، يقول فيه : إن نص تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية ، وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنه ليس له كثير اعتبار لان ظاهر إنجيله أنه كتبه لاهل القبائل والقرويين لا لاهل البلاد وخاصة الرومية ، فتدبر في كلامه !

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 312 _
  الامور عليهم ، ثم اتفق مفاجأة أن ادعى أنه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متبعيه وأنه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشر بإنجيله .
  وبولس هذا هو الذي شيد أركان النصرانية الحاضرة على ما هي عليها (1) فبني التعليم على أن الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل ، وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير مما في التوراة (2) مع أن الإنجيل لم يأت إلا مصدقاً لما بين يديه من التوراة ، ولم يحلل إلا أشياء معدودة ، وبالجملة إنما جاء عيسى ليقوم شريعة التوراة ويرد إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.
  وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس ، وذلك بعد موت بطرس وبولس ، وقد صرح جمع بأن إنجيله ليس كتاباً إلهاميا كسائر الأناجيل (3) كما يدل عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.
  وأما إنجيل يوحنا فقد ذكر كثير من النصارى أن يوحنا هذا هو يوحنا بن زبدي الصياد أحد التلاميذ الاثنى عشر ( الحواريين ) الذي كان يحبه المسيح حباً شديداً (4).
  وذكروا أن ( شيرينطوس ) و ( أبيسون ) وجماعتهما لما كانوا يرون أن المسيح ليس إلا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود أُمة اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في

--------------------
(1) راجع مادة بولس من قاموس الكتاب المقدس.
(2) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس .
(3) قال في أول إنجيل لوقا : ( لاجل أن كثيرين راموا كتب قصص الامور التي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأولون الذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداماً للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعاً لكل شيء بتحقيق أن أكتب اليك أيها العزيز ثاوفيلا ) ، ودلالته على كون الكتاب نظرياً غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة الالهام ، وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأولين من إنجيل لوقا وأنهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني ، وجزم إكهارن في كتابه ص 95 أن من ف 43 إلى 47 من الباب 22 من إنجيل لوقا الحاقية ، وذكر إكهارن أيضاً في ص 61 من كتابه : قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات التي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير ، وقول ( كلي مي شيس أن متى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا ) نقل عن قصص الأنبياء للنجار ـ ص 477.
(4) راجع قاموس الكتاب المقدس مادة يوحنا .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 313 _
  سنة 96 ميلادية عند يوحنا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ، ويبين بنوع خصوصي لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم (1).
  وقد اختلفت كلماتهم في السنة التي الف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنها سنة 65 ، وقائل أنها سنة 96 ، وقائل أنها سند 98.
  وقال جمع منهم إنه ليس تأليف يوحنا التلميذ فبعضهم على أنه تأليف طالب من طلبة المدرسة الإسكندرية (2) ، وبعضهم على أن هذا الإنجيل كله وكذا رسائل يوحنا ليست من تصنيفه بل إنما صنفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني ، ونسبه إلى يوحنا ليعتبره الناس (3) ، وبعضهم على أن إنجيل يوحنا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة ( أفاس ) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنا (4) ، فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة ، وإذا أخذنا بالقدر المتيقن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم : متى ، مرقس ، لوقا ، يوحنا ، بطرس ، بولس ، يهوذا ، ينتهي ركونهم كله إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متى ، وقد مر أنه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الذي ترجمه ؟ وكيف كان أصله وعلى ما ذا كان يبني تعليمه ، أبرسالة المسيح أم بالوهيته .
  وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجار وأقام الدعوة إلى الله ، وكان يدعي أنه ابن الله مولود من غير أب بشري وأن أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل : ( وأنه أحيى الميت ، وابرء الأكمه والأبرص ) ، وشفى المجانين بإخراج الجن من أبدانهم ، وأنه كان له إثنا عشر تلميذاً : أحدهم متى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحي ( إلخ).

--------------------
(1) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.
(2) نقل ذلك من كتاب ( كاتلك هرالد ) في المجلد السابع المطبوع سنة 1844 ص 205 ، نقله عن استادلن ( عن القصص ) ، وأشار إليه في القاموس في مادة يوحنا .
(3) قال ذلك ( برطشنيدر ) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الاول ( عن القصص ).
(4) المدرك السابق.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 314 _
  فهذا ملخص ما تنتهي إليه الدعوة المسيحية على انبساطها على شرق الأرض وغربها ، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم ، مبهم العين والوصف .
  وهذا الوهن العجيب في مبدء القصة هو الذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اروبا أن أدعى أن المسيح عيسى بن مريم شخص خيالي صوره بعض النزعات الدينية على حكومات الوقت أولها ، وتأيد ذلك بموضوع خرافي آخر يشبهه كل الشبه في جميع شئون القصة ، وهو موضوع ( كرشنا ) الذي تدعي وثنية الهند القديمة أنه ابن الله نزل عن لاهوته ، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلصهم من الأوزار والخطايا كما يدعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل ( كما سيجيء ذكره ).
  وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أن هناك شخصين مسميين بالمسيح : المسيح غير المصلوب ، والمسيح المصلوب ، وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون .
  وأن التاريخ الميلادي الذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمأة وستة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأول غير المصلوب يتقدم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستين سنة ، والمسيح الثاني المصلوب ، يتأخر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة ، وقد عاش نحواً من ثلث وثلثين سنة (1).
  على أن عدم انطباق التاريخ الميلادي على ميلاد المسيح في الجملة مما لم يسع للنصارى إنكاره (2) وهو سكتة تاريخية .
  على أن هيهنا اموراً مريبة موهمة اخرى فقد ذكروا أنه كتب في القرنين الأولين من الميلاد أناجيل كثيرة اخرى ربما أنهوها إلى نيف ومأة من الأناجيل ، والأناجيل الأربعة منها ثم حرمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلا الأناجيل الأربعة التي عرفت

--------------------
(1) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل ( بهروز ) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوية ، وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب ، والقدر المتيقن ( الذي يهمنا منه ) اختلال التاريخ المسيحي.
(2) راجع مادة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 315 _
  قانونية لموافقة متونها تعليم الكنيسة (1).
  ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربية والفارسية ، وهو يوافق في عامة قصصه ما قصه القرآن في المسيح عيسى بن مريم (2).
  ومن العجيب أن المواد التاريخية المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحية من حديث البنوة والفداء وغيرهما ، ذكر المؤرخ الإمريكي الشهير ( هندريك ويلم وان لون ) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب ( إسكولابيوس كولتلوس ) الرومي سنة 62 الميلادية إلى ابن أخيه ( جلاديوس أنسا ) وكان جندياً في عسكر الروم بفلسطين ، يذكر فيه أنه عاد مريضاً برومية يسمى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلمه بالدعوة المسيحية ، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.
  ثم يذكر أنه ترك بولس ولم يره حتى سمع بعد حين أنه قتل في طريق ( أوستى ) ثم يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبي الإسرائيلي الذي كان يذكره بولس ، وعن أخبار بولس نفسه ، ويكتب إليه ما بلغه من ذلك .
  فكتب إليه ( جلاديوس أنسا ) بعد ستة أسابيع من معسكر الروم باورشليم :

--------------------
(1) ولقد لام ( شيلسوس ) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه ( الخطاب الحقيقي ) على تلاعبهم بالأناجيل ، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالأمس ، وفي سنة 384 م ، أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونية في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الأساقفة ، وتمت تلك الترجمة التي تسمى ( فولكانا ) وكان ذلك خاصاً بالأناجيل الأربعة : متى ومرقس ولوقا ويوحنا ، وقد قال مرتب تلك الأناجيل : ( بعد أن قابلنا عدداً من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايراً للمعنى ، وأبقينا الباقي على ماكان عليه ) ، ثم إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع ( التريدنتيني ) سنة 1546 أي بعدها بأحد عشر قرناً ، ثم خطأها سيستوس الخامس سنة 1590 وأمر بطبع نسخ جديدة ، ثم خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً ، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين ( تفسير الجواهر ـ الجزء الثاني ـ ص 121 الطبعة الثانية ).
(2) وقد وجد هذا الإنجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربية الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسية الحبر الفاضل ( سردار كابلي ) بإيران .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 316 _
  ( أني سألت عدة من شيوخ البلد ومعمريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم [ هذا والسنة سنة 62 ميلادية وهم شيوخ ! ].
  حتى لقيت بياع زيتون فسألته هل يعرفه ؟ فأنعم لي في الجواب ثم دلني على رجل اسمه يوسف ، و ذكر أنه كان من أتباعه ومحبيه ، وأنه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.
  فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحصت أياماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.
  كان الرجل على كبر سنه صحيح المشاعر جيد الحافظة وقص لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان ، أوان الاغتشاش والفتنة.
  ذكر أن فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديه في عهد القيصر ( تي بريوس ).
  فاتفق أن وقع أيام حكومته فتنة في اورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد : ( ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة ) هي ما شاع يومئذ أن ابن نجار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.
  فلما تحققوا أمره تبين أن ابن النجار المتهم شاب عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أن رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشد ما يكون ، وقد قالوا لفيلاطوس إن هذا الشاب الناصري يقول : لو أن يونانياً أو رومياً أو فلسطينياً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطالعة كتاب الله وتلاوة آياته.
  وكأن هذه التعرضات والاقتراحات لم تؤثر في فيلاطوس أثرها لكنه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطعوهم إرباً إرباً رأى أن الأصلح أن يقبض هو على هذا الشاب النجار ويسجنه حتى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم .
  وكان فيلاطوس لم يتضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كل الاتضاح ، وكلما

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 317 _
  كلم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم ، علت أصواتهم وتنادوا : ( هو كافر ) ( هو ملحد ) ( هو خائن ) فلم ينته الأمر إلى طائل .
  حتى استقر رأي فيلاطوس أن يكلم عيسى بنفسه فأشخصه وكلمه وسأله عما يقصده : ( بما يبلغه من الدين ) ، فأجابه عيسى أنه لا يهتم بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض ، وأنه يهتم بالحياة الروحانية أكثر مما يهتم بأمر الحياة الجسمانية ، وأنه يعتقد أن الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.
  وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيين وسائر فلاسفة يونان فكأنه لم ير في ما كلمه به عيسى موضع غمضة ، ولا محل مؤاخذة ، ولذلك عزم ثانياً أن يخلص هذا النبي السليم المتين من شر اليهود ، وسوف في حكم قتله وإنجازه.
  لكن اليهود لم يرضوا بذلك ، ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأن فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر ، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة ، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين .
  والقوى المؤمنة القيصرية قليلة العدة لا تقوى على إسكات الناس فيها كل القوة.
  وكان على الحكام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.
  فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بداً من أن يفدي هذا الشاب المسجون للامن العام ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله .
  وأما عيسى فإنه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه ، وقد عفى قبل موته عمن تسبب إلى قتله من اليهود ثم قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبونه.
  قال ( جلاديوس أنسا ) هذا ما قص لي يوسف من قصة عيسى ودموعه تجري على خديه ، وحين ودعني للمفارقة قدمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبي لكنه أبى أن يأخذه ، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر مني فأعطه إياه.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 318 _
  وسألته عن بولس رفيقك المعهود ، فما كان يعرفه معرفة تامة ، والقدر الذي تبين من أمره أنه كان رجلاً خياماً ثم ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الرب الرؤوف الرحيم الإله الذي بينه وبين ( يهوه ) إله يهود الذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد مما بين السماء والأرض.
  والظاهر أن بولس سافر أولاً إلى آسيا الصغرى ثم إلى يونان وأنه كان يقول للعبيد والأرقاء إنهم جميعاً أبناء لأب يحبهم ويرأف بهم ، وأن السعادة ليست تخص بعض الناس دون بعض بل تعم جميع الناس من فقير وغني بشرط أن يعاشروا على المؤاخاة ، ويعيشوا على الطهارة والصداقة ، انتهى ملخصاً .
  هذه عامة فقرات هذا الكتاب مما يرتبط بما نحن فيه من البحث.
  وبالتأمل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصل للمتأمل أن ظهور الدعوة المسيحية كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى ( عليه السّلام ) ، وأنه لم يكن إلا ظهور دعوة نبوية بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهية بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالداء !
  ثم إن عدة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقية ورومية وغيرها ، وبسطوا الدعوة المسيحية لكنهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصلية من التعليم كلاهوت المسيح ، وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكملاً إياها (1) فافترقوا عند ذلك فرقاً .
  والذي يجب الإمعان فيه أن الامم التي بسطت الدعوة المسيحية وظهرت فيها أول ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنية الصابئة أو البرهمنية أو البوذائية ، وفيها اصول من مذاق التصوف من جهة ، والفلسفة البرهمنية من جهة ، وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت ، على أن القول بتثليث

--------------------
(1) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس ، وقد اعترضت به النصارى

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 319 _
  الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحملها الصلب (1) والعذاب فدائاً ، كان دائراً بين القدماء من وثنية الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس ، وكذا قدماء وثنية الغرب كالرومان والإسكندناويين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلفة في الأديان والمذاهب القديمة.
  ذكر ( دوان ) في كتابه ( خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاخرى ) إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أن أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتية هو التثليث ، ويسمون هذا التعليم بلغتهم ( ترى مورتى ) وهي عبارة مركبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتية ( برهما وفشنو ، وسيفا ) ثلثة أقانيم متحدة لا ينفك عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.
  ثم ذكر : أن برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الأبن ، وسيفا هو روح القدس.
  ثم ذكر أنهم يدعون سيفاً ( كرشنا (2) ) الرب المخلص والروح العظيم الذي ولد منه ( فشنو ) الإله الذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة التي هي الإله الواحد.
  وذكر أيضاً : أنهم يرمزون للاقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.
  وقال مستر ( فابر ) في كتابه ( أصل الوثنية ) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلفاً من ( برهما ) و ( فشنو ) و ( سيفا ) نجد عند البوذيين ثالوثاً فإنهم يقولون : إن ( بوذ ) إله له ثلاثة أقانيم ، وكذلك بوذيو ( جينست ) يقولون : إن ( جيفا ) مثلث الأقانيم.

--------------------
(1) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جداً فقد كانوا يقتلون من اشتد جرمه وفظع ذنبه بالصلب الذي هو من أشد أسباب القتل عداباً وأسوئها ذكراً ، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثم يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير ، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربما شدتا من غير دق ثم تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أياماً ثم تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال ، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة ، وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب .
(2)وهو المعبر عنه بالانكليزية ( كرس ) وهو المسيح المخلص.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 320 _
  قال : والصينيون يعبدون بوذه ويسمونه ( فو ) ويقولون إنه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.
  وقال دوان في كتابه المتقدم ذكره : وكان قسيسوا هيكل منفيس بمصر يعبرون عن الثالوث المقدس للمبتدئين بتعلم الدين بقولهم : إن الأول خلق الثاني والثاني خلق الثالث ، وبذلك تم الثالوث المقدس.
  وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره : هل كان قبله أحد أعظم منه ؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه ؟ فأجابه الكاهن : نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كل شيء ثم الكلمة ومعهما روح القدس ، ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة ، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوة الأبدية فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.
  وقال بونويك في كتابه ( عقائد قدماء المصريين ) أغرب كلمة عم انتشارها في ديانة المصريين هي قولهم بلاهوت الكلمة ، وأن كل شيء حصل بواسطتها ، وأنها منبثقة من الله ، وأنها هي الله ، انتهى ، وهذا عين العبارة التي يبتدي بها إنجيل يوحنا .
  وقال ( هيجين ) في كتاب ( الإنكلوساكسون ) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلص الفرس.
  ونقل عن كتاب سكان اوروبة الأولين : أنه كان الوثنيون القدماء يقولون : إن الإله مثلث الأقانيم.
  ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديين والإسكندناويين قضية الثالوث السابق الذكر ، وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيين والآشوريين والفينيقيين.
  وقال دوان في كتابه ( خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاخرى ) ( ص 181 ـ 182 ) ما ترجمته بالتلخيص :
  ( إن تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائاً عن الخطيئة قديم العهد جداً عند الهنود الوثنيين وغيرهم ) وذكر شواهد على ذلك :
  منها قوله : يعتقد الهنود أن كرشنا المولود البكر ـ الذي هو نفس الآلهة فشنو الذي لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم ـ تحرك حنواً كي يخلص الأرض من ثقل حملها

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 321 _
  فأتاها وخلص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.
  وذكر أن ( مسترمور ) قد صور كرشنا مصلوباً كما هو مصور في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين ، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلقاً ، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب ، والنصارى تقول : إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.
  وقال ( هوك ) في ص 326 من المجلد الأول من رحلته : ويعتقد الهنود الوثنيون بتجسد بعض الآلهة ، وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.
  وقال ( موريفور ليمس ) في ص 26 من كتابه ( الهنود ) ويعتقد الهنود الوثنيون بالخطيئة الأصلية ، ومما يدل على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسلاتهم التي يتوسلون بها بعد ( الكياتري ) وهو ، إني مذنب ومرتكب الخطيئة ، وطبيعتي شريرة ، وحملتني امي بالإثم فخلصني يا ذا العين الحندقوقية يا مخلص الخاطئين من الآثام والذنوب.
  وقال القس ( جورج كوكس ) في كتابه ( الديانات القديمة ) في سياق الكلام عن الهنود : ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنه قدم شخصه ذبيحة .
  ونقل ( هيجين ) عن ( اندارا دا الكروزوبوس ) وهو أول اوروبي دخل بلاد التيبال والتبت : أنه قال في الإله ( اندرا ) الذي يعبدونه : أنه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلص البشر من ذنوبهم ، وأن صورة الصلب موجودة في كتبهم.
  وفي كتاب ( جورجيوس ) الراهب صورة الإله ( اندرا ) هذا مصلوباً ، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسي اقصرها ـ وفيه صورة وجهه ـ والسفلى اطولها ، ولولا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنها تمثل شخصاً ، هذا .
  وأما ما يروى عن البوذيين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتى أنهم يسمونه المسيح ، والمولود الوحيد ، ومخلّص العالم ، ويقولون إنه إنسان كامل وإله كامل تجسد بالناسوت ، وأنه قدم نفسه ذبيحة ليكفر ذنوب البشر ويخلصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها ، ويجعلهم وارثين لملكوت السموات ،
  ( 3 ـ الميزان ـ 21)

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 322 _
  بين ذلك كثير من علماء الغرب : منهم ( بيل ) في كتابه ، و ( هوك ) في رحلته ، و ( موالر ) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتية ، وغيرهم، (1).
  فهذه نبذة أو أُنموذجة من عقيدة تلبس اللاهوت بالناسوت ، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة التي كانت الامم متمسكين بها منكبين عليها يوم شرعت الديانة النصرانية تنبسط على الأرض ، وأخذت الدعوة المسيحية تأخذ بمجامع القلوب في المناطق التي جال الدعاة المسيحيون فيها ، فهل هذا إلا أن الدعاة المسيحيين أخذوا أُصول المسيحية وأفرغوها في قالب الوثنية واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبل دعوتهم وهضم تعليمهم ؟
  ويؤيد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والازراء بطرق الاستدلالات العقلية ، وأن الإله الرب يرجح بلاهة الأبله على عقل العاقل.
  وليس ذلك إلا لأنهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقل والاستدلال فرده أهله بأنه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدس فشاكلوا بذلك ما يصر به جهلة المتصوفة أن طريقتهم طور وراء طور العقل.
  ثم إن الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد ( على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ ) وبسطوا الدعوة المسيحية واستقبلتهم في ذلك العامة في شتات البلاد ، كان من سر موفقيتهم وخاصة في إمبراطورية الروم هي الضغطة الروحية التي عمت البلاد من فشوّ الظلم والتعدي ، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد ، والبون البعيد في حيوة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة ، والفصل الشاسع بين عيشة الأغنياء وأهل الاتراف والفقراء والمساكين والأرقاء.
  وقد كانت الدعاة تدعو إلى المؤاخاة والمحابة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ، ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية ، والإقبال على الحيوة الصافية السعيدة التي في ملكوت السماء ، ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك

--------------------
(1) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار ـ الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف ، وفي كتاب العقائد الوثنية في الديانة النصرانية وغيرها.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 323 _
  والقياصرة كل العناية ، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.
  فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوة وشدة حتى حصل لهم جم غفير في إمبراطورية الروم وإفريقية والهند وغيرها من البلاد ، ولم يزالوا كلما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه .
  وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنية في هدم أساسهم ، ولا بملوك الوقت وحكامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم ، وربما كان ذلك يؤديهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اخرى وتشرد ثالثة .
  وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر ( كنستانتين ) فآمن بالملة المسيحية وأعلن بها فأخذ التنصر بالرسمية وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريته من الممالك ، وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلادي.
  تمركزت النصرانية يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيلي.
  والذي يجب إلفات النظر إليه أنهم وضعوا البحث على اصول مسلمة إنجيلية فأخذوا التعاليم الإنجيلية كمسألة الأب والأبن والروح ، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اصولاً مسلمة وبنوا البحث والتنقير عليها.
  وهذا أول ما ورد على أبحاثهم الدينية من الوهن والوهاء فإن استحكام البناء المبني وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبني عليه شيئاً ، وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.
  وقد اعترف عدة من باحثيهم في التثليث بأنه أمر غير معقول لكنهم اعتذروا عنه بأنه من المسائل الدينية التي يجب أن تقبل تعبداً فكم في الأديان من مسألة تعبدية تحيلها العقول.
  وهو من الظنون الفاسدة المتفرعة على أصلهم الفاسد ، وكيف يتصور وقوع مسألة مستحيلة في دين حق ؟ ونحن إنما نقبل الدين ونميز كونه دين حق بالعقل وكيف يمكن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 324 _
  عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقة على أمر يبطله العقل ويحيله ؟ وهل هذا إلا تناقض صريح ؟
  نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية ، والسنة الطبيعية القائمة ، وأما المحال الذاتي فلا البتة.
  وهذا الطريق المذكور من البحث هو الذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانية وانكباب المحصلين على الأبحاث المذهبية في مدارس الروم والإسكندرية وغيرهما.
  فكانت الكنيسة تزيد كل يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيئ مجمعاً مشكلاً عند ظهور كل قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العام وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا .
  وأول مجمع عقدوه مجمع نيقيه لما قال أريوس : إن اقنوم الأبن غير مساو لاقنوم الأب ، وان القديم هو الله والمسيح مخلوق.
  اجتمعت البطارقة والمطارفة والاساقفة في قسطنطنية بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مأة وثلاثة عشر رجلاً ، واتفقوا على هذه الكلمة نؤمن بالله الواحد الأب مالك كل شيء ، وصانع ما يرى وما لا يرى ، وبالأبن الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد ، بكر الخلائق كلها ، وليس بمصنوع ، إله حق من إله حق ، من جوهر أبيه الذي بيده أُتقنت العوالم وكل شيء ، الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء ، وتجسد من روح القدس ، وولد من مريم البتول ، وصلب أيام فيلاطوس ، ودفن ثم قام في اليوم الثالث ، وصعد إلى السماء ، وجلس عن يمين أبيه ، وهو مستعد للمجيء تارة اخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ، ونؤمن بروح القدس الواحد ، روح الحق الذي يخرج من أبيه ، وبمعمودية (1) واحدة لغفران الخطايا ، وبجماعة واحدة قدسية

--------------------
(1) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 325 _
  مسيحية ـ جاثليقية ، وبقيام أبداننا (1) ، والحيوة أبد الآبدين (2) ).
  هذا هو المجمع الأول وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبري عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطورية واليعقوبية والأليانية واليليارسية و المقدانوسية والسباليوسية والنوئتوسية والبولسية وغيرها.
  ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها ، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها ، وتزيد كل يوم في قوتها وسيطرتها حتى وفقت لجلب سائر دول اوروبا إلى التنصر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولندا وغيرهم إلا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلادي سنة 496.
  ولم تزل تتقدم وترتقي الكنيسة من جانب ، ومن جانب آخر كانت تهاجم الامم الشمالية والعشائر البدوية على الروم والحروب والفتن تضعف سلطنة القياصرة ، وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والامم المتغلبة على إلقاء زمام امور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام امور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانية والجسمانية لرئيس الكنيسة اليوم وهو ( البابا جريجوار ) وكان ذلك سنة 590 الميلادية.
  وصارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحي غير أن الروم لما كانت انشعبت إمبراطوريته إلى الروم الغربي الذي عاصمتها روما ، والروم الشرقي الذي عاصمتها قسطنطينية كانت قياصرة الروم الشرقي يعدون أنفسهم رؤساء دينيين لمملكتهم من غير أن يتبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحية إلى الكاثوليك ، أتباع كنيسة روما والأورثوذكس وهم غيرهم.
  وكان الأمر على ذلك حتى إذا فتحت قسطنطينية بيد آل عثمان ، وقتل القيصر ( بالي اولوكوس ) وهو آخر قياصرة الروم الشرقي وقسيس الكنيسة اليوم ( قتل في

--------------------
(1) أورد عليه أنه يستلزم القول بالمعاد الجسماني والنصارى تقول بالمعاد الروحاني كما يدل عليه الإنجيل وأظن أن الإنجيل انما يدل على عدم وجود اللذائذ الجسمانية الدنيوية في القيامة ، وأما كون الإنسان روحاً مجرداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدل على أن الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أن الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلاً عن الإنسان يوم القيامة.
(2) الملل والنحل للشهرستاني .