وفيه إشارة إلى أن التوحيد في العبادة من لوازم الإسلام.
  قوله تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ ) إلى آخر الآية ، الظاهر أنه مقول القول الواقع في الآية السابقة ، وكذا ما يأتي بعد أربع آيات فيكون مقولاً لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وإن كان ظاهر سياق قوله : بعد آيتين : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ) الآية ، أن يكون الخطاب من الله لا من رسوله بإذنه .
  ومحاجتهم في إبراهيم ( عليه السّلام ) بضم كل طائفة إياه إلى نفسها يشبه أن تكون أولاً بالمحاجة لإظهار المحقية كأن تقول اليهود إن إبراهيم ( عليه السّلام ) الذي أثنى الله عليه في كتابه منا فتقول النصارى : إن إبراهيم كان على الحق ، وقد ظهر الحق بظهور عيسى معه ، ثم تتبدل إلى اللجاج والعصبية فتدعي اليهود أنه كان يهودياً ، وتدعي النصارى أنه كان نصرانياً ، ومن المعلوم أن اليهودية والنصرانية إنما نشأتا جميعاً بعد نزول التوراة والإنجيل وقد نزلا جميعاً بعد إبراهيم ( عليه السّلام ) ، فكيف يمكن أن يكون ( عليه السّلام ) يهودياً بمعنى المنتحل بالدين الذي يختص بموسى ( عليه السّلام ) ، ولا نصرانياً بمعنى المتعبد بشريعة عيسى ( عليه السّلام ) ، فلو قيل في إبراهيم شيء لوجب أن يقال : إنه كان على الحق حنيفاً من الباطل إلى الحق مسلماً لله سبحانه ، وهذه الآيات في مساق قوله تعالى : ( أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ ) البقرة ـ 140.
  قوله تعالى : ( هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ) الآية ، الآية تثبت لهم علماً في المحاجة التي وقعت بينهم ، وتنفي علماً وتثبته لله تعالى ، ولذلك ذكر المفسرون : أن المعنى : أنكم حاججتم : في إبراهيم ( عليه السّلام ) ولكم به علم ما ، كالعلم بوجوده ونبوته ، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو كونه يهودياً أو نصرانياً والله يعلم وأنتم لا تعلمون ، أو أن المراد بالعلم علم ما بعيسى وخبره ، والمعنى أنكم تحاجون في عيسى ولكم بخبره علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم وهو كون إبراهيم يهودياً أو نصرانياً ، هذا ما ذكروه .
  وأنت تعلم أن شيئاًً من الوجهين لا ينطبق على ظاهر سياق الآية : أما الأول فلأنه لم تقع لهم محاجة في وجود إبراهيم ونبوته ، وأما الثاني فلأن المحاجة التي وقعت منهم في عيسى لم يكونوا فيها على الصواب بل كانوا مخطئين في خبره كاذبين في

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 252 _
  دعويهم فيه فكيف يمكن أن يسمى محاجة فيما لهم به علم ، وكلامه تعالى على أي حال يثبت منهم محاجة فيما لهم به علم كما يثبت لهم محاجة فيما ليس لهم به علم ، فما هذه المحاجة التي هي فيما لهم به علم ؟ على أن ظاهر الآية أن هاتين إنما جرتا جميعاً فيما بين أهل الكتاب أنفسهم لا بينهم وبين المسلمين وإلا كان المسلمون على الباطل في الحجاج الذي أهل الكتاب فيه على علم ، وهو ظاهر .
  والذي ينبغي ان يقال ـ والله العالم ـ أن من المعلوم أن المحاجة كانت جارية بين اليهود والنصارى في جميع موارد الاختلاف التي كانت بينهم ، وعمدة ذلك نبوة عيسى ( عليه السّلام ) وما كانت تقوله النصارى في حقه ( إنه الله ، أو ابنه ، أو التثليث ) فكانت النصارى تحاج اليهود في بعثته ونبوته وهم على علم منه ، وكانت اليهود تحاج النصارى ، وتبطل الوهيته ونبوته والتثليث وهم على علم منه فهذه محاجتهم فيما لهم به علم ، وأما محاجتهم فيما ليس لهم به علم فمحاجتهم في أمر إبراهيم أنه كان يهودياً أو نصرانياً .
  وليس المراد بجهلهم به جهلهم بنزول التوراة والإنجيل بعده وهو ظاهر ، ولا ذهولهم عن أن السابق لا يكون تابعاً لللاحق فإنه خلاف ما يدل عليه قوله تعالى : أفلا تعقلون ، فإنه يدل على أن الأمر يكفي فيه أدنى تنبيه ، فهم عالمون بأنه كان سابقاً على التوراة والإنجيل لكنهم ذاهلون على مقتضى علمهم وهو أنه لا يكون حينئذ يهودياً ولا نصرانياً بل على دين الله الذي هو الإسلام لله .
  لكن اليهود مع ذلك قالوا : إن الدين الحق لا يكون إلا واحدا وهو اليهودية فلا محالة كان إبراهيم يهودياً ، وقالت النصارى مثل ذلك فنصرت إبراهيم ، وقد جهلوا في ذلك أمراً وليس بذهول ، وهو أن دين الله واحد ، وهو الإسلام لله ، وهو واحد مستكمل بحسب مرور الزمان واستعداد الناس من حيث تدرجهم بالكمال ، واليهودية والنصرانية شعبتان من شعب كمال الإسلام الذي هو أصل الدين ، والأنبياء ( عليهم السلام ) بمنزلة بناة هذا البنيان ، لكل منهم موقعه فيما وضعه من الأساس ومما بنا عليه من هذا البنيان الرفيع.
  وبالجملة فاليهود والنصارى جهلوا أنه لا يلزم من كون إبراهيم مؤسساً للإسلام وهو الدين الأصيل الحق ثم ظهور دين حق باسم اليهودية أو النصرانية ، وهو اسم شعبة من شعب كماله ومراتب تمامه أن يكون إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً بل يكون مسلماً

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 253 _
  حنيفاً متلبساً باسم الإسلام الذي أسسه وهو أصل اليهودية والنصرانية دون نفسهما ، والأصل لا ينسب إلى فرعه بل ينبغي أن يعطف الفرع عليه.
  وتسمية إبراهيم مسلماً لا يهودياً ولا نصرانياً غير عده تابعاً لدين النبي وشريعة القرآن ليرد الإشكال بأنه كما كان متقدماً على نزول التوراة والإنجيل فلا ينبغى أن يعد يهودياً أو نصرانياً كذلك كان متقدماً على نزول القرآن وظهور الإسلام فلا ينبغي أن يعد مسلماً ( حذو النعل بالنعل ).
  وذلك أن الإسلام بمعنى شريعة القرآن من الاصطلاحات الحادثة بعد نزول القرآن وانتشار صيت الدين المحمدي ، والإسلام الذي وصف به إبراهيم هو أصل التسليم لله سبحانه والخضوع لمقام ربوبيته فالاشكال غير متوجه من أصله.
  ولعل هذا الذي ذكرناه من وجه جهلهم بمعنى الدين الأصيل ، وكونه حقيقة ذات مراتب مختلفة ومتدرجة في الاستكمال هو المراد بقوله تعالى : ( وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا ) ( الخ ) ويؤيده قوله : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه ) الآية ، وقوله تعالى في ذيل الآيات : ( قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ) الآية آل عمران ـ 85 ، على ما سيجيء من البيان.
  قوله تعالى : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا ) إلى آخر الآية ، قد مر تفسيره فيما مر ، وقد قيل : إن اليهود والنصارى كما كانوا يدعون أن إبراهيم ( عليه السّلام ) منهم وعلى دينهم كذلك عرب الجاهلية من الوثنية كانت تدعي أنهم على الدين الحنيف دين إبراهيم ( عليه السّلام ) حتى كان أهل الكتاب يسمونهم الحنفاء ، ويدعون بالحنيفية الوثنية.
  ولما وصف الله سبحانه إبراهيم ( عليه السّلام ) بقوله : ولكن كان حنيفاً ، وجب بيانه حتى لا يتوهم منه الوثنية فلذلك أردفه بقوله : مسلماً وما كان من المشركين ، أي كان على الدين المرضي عند الله تعالى وهو الإسلام وما كان من المشركين كعرب الجاهلية.
  قوله تعالى : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ) الآية في موضع التعليل للكلام السابق وبيان للحق في المقام والمعنى ـ والله العالم ـ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 254 _
  أن هذا النبي المعظم إبراهيم لو أخذت النسبة بينه وبين من بعده من المنتحلين وغيرهم لكان الحق أن لا يعد تابعاً لمن بعده بل يعتبر الأولوية به والأقربية منه ، والأقرب من النبي الذي له شرع وكتاب هم الذين يشاركونه في إتباع الحق ، والتلبس بالدين الذي جاء به ، والأولى بهذا المعنى بإبراهيم ( عليه السّلام ) هذا النبي : ( والذين آمنوا لأنهم على الإسلام ) الذي اصطفى الله به إبراهيم وكذا كل من اتبعه دون من يكفر بآيات الله ويلبس الحق بالباطل .
  وفي قوله : للذين اتبعوه تعريض لأهل الكتاب من اليهود والنصارى بنحو الكنايه أي لستم أولى بإبراهيم لعدم اتباعكم إياه في إسلامه لله .
  وفي قوله : وهذا النبي والذين آمنوا إفراد للنبي ( عليه السّلام ) ومن اتبعه من المؤمنين من الذين اتبعوا إبراهيم اجلالاً للنبي وصوناً لمقامه أن يطلق عليه الاتباع كما يستشعر ذلك ـ مثل قوله تعالى : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) الأنعام ـ 90 ، حيث لم يقل : فبهم اقتده.
  وقد تمم التعليل والبيان بقوله : والله ولي المؤمنين ، فإن ولاية إبراهيم ( ولى الله ) من ولاية الله : ( والله ولي المؤمنين دون غيرهم الكافرين ) بآياته اللابسين الحق بالباطل .
  قوله تعالى : ( وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) ، الطائفة الجماعة من الناس ، وكأن الأصل فيه أن الناس وخاصة العرب كانوا أولا يعيشون شعوباً وقبائل بدويين يطوفون صيفاً وشتائاً بماشيتهم في طلب الماء والكلاء ، وكانوا يطوفون وهم جماعة تحذراً من الغيلة والغارة فكان يقال لهم جماعة طائفة ، ثم اقتصر على ذكر الوصف ( الطائفة ) للدلالة على الجماعه.
  وأما كون أهل الكتاب لا يضلون إلا أنفسهم فإن أول الفضائل الإنسانية الميل إلى الحق واتباعه فحب صرف الناس عن الحق إلى الباطل من جهة أنه من أحوال النفس وأخلاقها رذيلة نفسانية ـ وبئست الرذيلة ـ وإثم من آثامها ومعاصيها وبغيها بغير حق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال فحبهم لإضلال المؤمنين وهم على الحق إضلال بعينه لأنفسهم من حيث لا يشعرون .
  وكذا لو تمكنوا من بعضهم بإلقاء الشبهات فأضلوه بذلك فإنما يضلون أولا أنفسهم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 255 _
  لأن الإنسان لا يفعل شيئاًً من خير أو شر إلا لنفسه كما قال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) حم السجدة ـ 46 ، وأما ضلال من ضل بإضلالهم فليس بتأثير منهم بل هو بسوء فعال الضال الغاوي وشآمة إرادته بإذن من الله ، قال تعالى : ( مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) الروم ـ 44 ، وقال تعالى : ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ * وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ) الشورى ـ 31 ، وقد مر شطر من الكلام في خواص الأعمال في الكلام على قوله تعالى : ( حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) البقرة ـ 217 ، في الجزء الثاني من الكتاب.
  وهذا الذي ذكرناه من المعارف القرآنية التي يفيدها التوحيد الأفعالي الذي يتفرع على شمول حكم الربوبية والملك ، وبه يوجه ما يفيده قوله تعالى : ( وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) ، من الحصر.
  وأما ما ذكره المفسرون من التوجيه لمعنى الآية فلا يغني في الحصر المذكور طائلاً ولذلك أغمضنا عن نقله .
  قوله تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ) ، قد مر أن الكفر بآيات الله غير الكفر بالله تعالى ، وأن الكفر بالله هو الالتزام بنفي التوحيد صريحاً كالوثنيه والدهرية ، والكفر بآيات الله إنكار شيء من المعارف الإلهية بعد ورود البيان ووضوح الحق ، وأهل الكتاب لا ينكرون أن للعالم إلهاً واحداً ، وإنما ينكرون اموراً من الحقائق بينتها لهم الكتب السماوية المنزلة عليهم وعلى غيرهم كنبوة النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وكون عيسى عبداً لله ورسولاً منه ، وأن إبراهيم ليس بيهودي ولا نصراني ، وأن يد الله مبسوطة ، وأن الله غني ، إلى غير ذلك ، فأهل الكتاب في لسان القرآن كافرون بآيات الله غير كافرين بالله ، ولا ينافيه قوله تعالى : ( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ) التوبه ـ 29 ، حيث نفى الإيمان عنهم صريحاً ، وليس إلا الكفر وذلك أن ذكر عدم تحريمهم للحرام وعدم تدينهم بدين الحق في الآية يشهد بأن المراد من توصيفهم بعدم الإيمان هو التوصيف بلازم الحال فلازم حالهم من الكفر بآيات الله عدم الإيمان بالله واليوم الآخر وإن لم يشعروا به ، وليس بالكفر الصريح.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 256 _
  وفي قوله تعالى : وأنتم تشهدون ـ والشهادة هو الحضور والعلم عن حس ـ دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله إنكارهم كون النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) هو النبي الموعود الذي بشر به التوراة والإنجيل مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذكورة فيهما عليه.
  ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم : أن لفظ الآيات عام شامل لجميع الآيات ولا وجه لتخصيصه بآيات النبوة بل المراد كفرهم بجميع الآيات الحقة والوجه في فساده ظاهر .
  قوله تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ) إلى آخر الآية ، اللبس بفتح اللام إلقاء الشبهة والتمويه أي تظهرون الحق في صورة الباطل.
  وفي قوله : وأنتم تعلمون دلالة أو تلويح على أن المراد باللبس والكتمان ما هو في المعارف الدينية غير ما يشاهد من الآيات كالآيات التي حرفوها أو كتموها أو فسروها بغير ما يراد منها .
  وهاتان الآيتان أعني قوله : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ ) ـ إلى قوله : ( وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ـ تتمه لقوله تعالى : ودت طائفة الآية ، وعليهذا فعتاب الجميع بفعال البعض بنسبته إليهم من جهة اتحادهم في العنصر والنسل والصفة ، ورضاء البعض بفعال البعض وهو كثير الورود في القرآن.
  قوله تعالى : ( وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ ) إلى آخر الآية ، المراد بوجه النهار بقرينة مقابلته بآخره هو أوله فإن وجه الشيء ما يبدو ويظهر به لغيره وهو في النهار أوله ، وسياق قولهم يكشف عن نزول وحي على النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في وجه النهار يوافق ما عليه أهل الكتاب وآخر في آخره يخالف ما هم عليه فإنما هو الذي دعاهم إلى أن يقولوا هذا القول.
  وعليهذا فقوله : بالذي أُنزل على الذين آمنوا أريد به شيء خاص من وحي القرآن يوافق ما عند أهل الكتاب ، وقوله : وجه النهار منصوب على الظرفية ومتعلق بقوله : أُنزل ، لا بقوله : آمنوا ( صيغة الأمر ) لأنه أقرب ، وقوله : واكفروا آخره في معنى واكفروا بما أُنزل في آخره فيكون من وضع الظرف موضع المظروف بالمجاز العقلي نظير قوله تعالى : ( بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) سبأ ـ 33.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 257 _
  وبذلك يتأيد ما ورد في سبب النزول عن أئمة أهل البيت أن هذه كلمة قالتها اليهود حين تغيير القبلة حيث صلّى رسول الله صلوة الصبح إلى بيت المقدس وهو قبلة اليهود ، ثم حولت القبلة في صلوة الظهر نحو الكعبة فقالت طائفة من اليهود : آمنوا بما أُنزل على الذين آمنوا وجه النهار يريدون استقبال بيت المقدس ، واكفروا آخره يريدون استقبال الكعبة ، ويؤيده قولهم بعده على ما حكاه الله : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، أي لا تثقوا بمن لا يتبع دينكم بالإيمان به فتفشوا عنده شيئاً من أسراركم والبشارات التي عندكم وكان من علائم النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنه يحول القبلة إلى الكعبة.
  وذكر بعضهم أن قوله : وجه النهار متعلق بقوله : آمنوا ( بصيغة الأمر ) والمراد به أول النهار ، وقوله : آخره ظرف بتقدير في ، ومتعلق بقوله واكفروا ، والمراد بقولهم : آمنوا بالذي أُنزل ( إلخ ) أن يظهر عدة منهم الإيمان بالقرآن ويلحقوا بجماعة المؤمنين ثم يرتدوا في آخر النهار بإظهار أنهم انما آمنوا أول النهار لما كاد يلوح لهم من إمارات الصدق والحق من ظاهر الدعوة الإسلامية ، وإنما ارتدوا آخر النهار لما تبين لهم من شواهد البطلأن وعدم انطباق ما عندهم من بشارات النبوة وعلائم الحقانية على النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فيكون ذلك مكيدة تكاد بها المؤمنون فيرتابون في دينهم ، ويهنون في عزيمتهم فينكسر بذلك سورتهم وتبطل أُحدوثتهم.
  وهذا المعنى في نفسه غير بعيد وخاصة من اليهود الذين لم يألوا جهداً في الكرة على الإسلام لإطفاء نوره من أي طريق ممكن غير أن لفظ الآية لا ينطبق عليه ، وسيأتي للكلام تتمة نتعرض لها في البحث الروائي التالي إنشاء الله العزيز.
  وقال بعضهم : إن المراد آمنوا بصلاتكم إلى الكعبة أول النهار واكفروا به آخره لعلهم يرجعون ، وقال آخرون : المعنى أظهروا الإيمان في صدر النهار بما أقررتم به من صفة النبي صلّى الله عليه وآله واكفروا آخره بإبداء أن ما وصف به النبي الموعود لا ينطبق عليه لعلهم يرتابون بذلك فيرجعوا عن دينهم ، وهذان الوجهان لا شاهد عليهما.
  وكيف كان المراد ، لا إجمال في الآية.
  قوله تعالى : ( وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ ) ( إلخ) الذي يعطيه السياق هو أن تكون هذه الجملة من قول أهل الكتاب تتمة لقولهم : ( آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ
  ( 3 ـ الميزان ـ 17)

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 258 _
  آمَنُواْ ) ، وكذا قوله تعالى : ( أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ) ، ويكون قوله : ( قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ ) جملة معترضة هو جواب الله سبحانه عن مجموع ما تقدم من كلامهم أعني قولهم : ( آمِنُواْ بِمَا أَنزَلْ ) إلى قوله : دينكم ، على ما يفيده تغيير السياق ، وكذا قوله تعالى قل إن الفضل بيد الله جوابه تعالى عن قولهم : أن يؤتى أحد إلى آخره ، هذا هو الذي يقتضيه ارتباط أجزاء الكلام واتساق المعاني في الآيتين أولاً ، وما تناظر الآيتين من الآيات الحاكية لأقوال اليهود في الجدال والكيد ثانياً .
  والمعنى ـ والله أعلم ـ أن طائفة من أهل الكتاب ـ وهم اليهود ـ قالت أي قال بعضهم لبعض : صدقوا النبي والمؤمنين في صلوتهم وجه النهار إلى بيت المقدس ولا تصدقوهم في صلوتهم إلى الكعبة آخر النهار ، ولا تثقوا في الحديث بغيركم فيخبروا المؤمنين أن من شواهد نبوة النبي الموعود تحويل القبلة إلى الكعبة فإن في تصديقكم أمر الكعبة وإفشائكم ما تعلمونه من كونها من امارات صدق الدعوة محذور أن يؤتى المؤمنون مثل ما اوتيتم من القبلة فيذهب به سوددكم ويبطل تقدمكم في أمر القبلة ، ومحذور أن يقيموا عليكم الحجة عند ربكم أنكم كنتم عالمين بأمر القبلة الجديدة شاهدين على حقيته ثم لم تؤمنوا .
  فأجاب الله تعالى عن قولهم في الإيمان بما في وجه النهار والكفر في آخره وأمرهم بكتمان أمر القبلة لئلا يهتدي المؤمنون إلى الحق بأن الهدى الذي يحتاج إليه المؤمنون الذي هو حق الهدى إنما هو هدى لله دون هداكم ، فالمؤمنون في غنى عن ذلك : ( فإن شئتم فاتبعوا وإن شئتم فاكفروا ) وإن شئتم فأفشوا وإن شئتم فاكتموا .
  وأجاب تعالى عما ذكروه من مخافة أن يؤتى أحد مثل ما اوتوا أو يحاجوهم عند ربهم بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا بيدكم حتى تحبسوه لأنفسكم وتمنعوا منه غيركم ، وأما حديث الكتمان مخافة المحاجة فقد أعرض عن جوابه لظهور بطلأنه كما فعل كذلك في قوله تعالى في هذا المعنى بعينه : ( وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) البقرة ـ 77 ، فقوله : أو لا يعلمون ، إيذان بأن هذا القول بعد ما علموا أن الله لا يتفاوت فيه السر

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 259 _
  والعلانية كلام منهم لا يستوي على تعقل صحيح ، وليس جواباً لمكان الواو في قوله : أو لا يعلمون .
  وعلى ما مر من المعنى فقوله تعالى : ولا تؤمنوا معناه ، لا تثقوا ولا تصدقوا لهم الوثاقة وحفظ السر على حد قوله تعالى : ( وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) البرائة ـ 61 ، والمراد بقوله : لمن تبع ، اليهود.
  والمراد بالجملة النهي عن إفشاء ما كان عندهم من حقية تحويل القبلة إلى الكعبة كما مر في قوله تعالى : ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ـ إلى أن قال : وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ـ إلى أن قال : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) البقرة ـ 146.
  وفي معنى الآية أقوال شتى دائرة بين المفسرين كقول بعضهم : إن قوله تعالى : ( وَلاَ تُؤْمِنُواْ ) إلى آخر الآية كلام لله تعالى لا لليهود ، وخطاب الجمع في قوله : ولا تؤمنوا وقوله : ما اوتيتم : ( أو يحاجوكم عند ربكم جميعاً للمؤمنين ) ، وخطاب الإفراد في قوله : قل ، في الموضعين للنبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وقول آخرين بمثله إلا أن خطاب الجمع في قوله : اوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ، لليهود في الكلام عتاب وتقريع، وقول آخرين إن قوله : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم من كلام اليهود ، وقوله : قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد ( إلخ ) كلام لله تعالى جواباً عما قالته اليهود ، وكذا الخلاف في معنى الفضل أن المراد به الدين أو النعمة الدنيوية أو الغلبة أو غير ذلك.
  وهذه الأقوال على كثرتها بعيدة عما يعطيه السياق كما قدمنا الإشارة إليه ولذا لم نشتغل بها فضل اشتغال.
  قوله تعالى : ( قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ، الفضل هو الزائد عن الاقتصاد ، ويستعمل في المحمود كما أن الفضول يستعمل في المذموم ، قال الراغب : وكل عطية لا تلزم من يعطي يقال لها فضل نحو قوله : واسألوا الله من فضله ـ ذلك فضل الله ـ ذو الفضل العظيم ، وعلى هذا قوله : قل بفضل الله ـ ولو لا فضل الله انتهى.
  وعلى هذا فقوله : إن الفضل بيد الله ، من قبيل الإيجاز بالقناعة بكبرى البيان

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 260 _
  القياسي ، والتقدير قل إن هذا الإنزال والايتاء الإلهي الذي تحتالون في تخصيصه بأنفسكم بالتظاهر على الإيمان والكفر ، والإيصاء بالكتمان أمر لا نستوجبه معاشر الناس على الله تعالى : ( بل هو من الفضل ، والفضل بيد الله الذي له الملك وله الحكم فله أن يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ).
  ففي الكلام نفي ما يدل عليه قولهم وفعلهم من تخصيص النعمة الإلهية بأنفسهم بجميع جهاته المحتملة فإن تنعم بعض الناس بفضل الله تعالى دون البعض كتنعم اليهود بنعمة الدين والقبلة ، وحرمان غيرهم إما أن يكون لأن الفضل منه تعالى يمكن أن يقع تحت تأثير الغير فيزاحم المشية الإلهية ، ويحبس فضله عن جانب ، ويصرفه إلى آخر ، وليس كذلك فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء .
  وأما أن يكون لأن الفضل قليل غير واف والمفضل عليهم كثيرون فيكون إيتائه على البعض دون البعض يحتاج إلى انضمام مرجح فيحتال إلى إقامة مرجح لتخصيص البعض الذي ينعم عليه ، وليس كذلك فإن الله سبحانه واسع الفضل والمقدرة.
  وإما أن يكون لأن الفضل وإن كان واسعاً وبيد الله لكن يمكن أن يحتجب المفضل عليه عنه تعالى بجهل منه فلا ينال الفضل فيحتال في حجبه وستر حاله عنه تعالى حتى يحرم من فضله ، وليس كذلك فإن الله سبحانه عليم لا يطرأ عليه جهل .
  قوله تعالى : ( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) فلما كان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء وكان واسعاً عليماً أمكن أن يختص بعض عباده ببعض نعمه فإن له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء ، وليس إذا لم يكن ممنوع التصرف في فضله وإيتائه عباده أن يجب عليه أن يؤتي كل فضله كل أحد فإن هذا أيضاً نوع ممنوعية في التصرف بل له أن يختص بفضله من يشاء .
  وقد ختم الكلام بقوله : والله ذو الفضل العظيم وهو بمنزلة التعليل لجميع المعاني السابقة فإن لازم عظمة الفضل على الإطلاق أن يكون بيده يؤتيه من يشاء ، وأن يكون واسعاً في فضله ، وأن يكون عليماً بحال عباده وما هو اللائق بحالهم من الفضل ، وأن يكون له أن يختص بفضله من يشاء .
  وفي تبديل الفضل بالرحمة في قوله : يختص برحمته من يشاء ، دلالة على أن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 261 _
  الفضل وهو العطية غير الواجبة من شعب الرحمة قال تعالى : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) الأعراف ـ 156 وقال : ( وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ) النور ـ 21 ، وقال تعالى : ( قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ ) أسرى ـ 100.
  قوله تعالى : ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ) ـ إلى قوله : من سبيل ـ إشارة إلى اختلافهم في حفظ الأمانات والعهود اختلافاً فاحشاً آخذاً بطرفي التضاد وأن هذا وإن كان في نفسه رذيلة قومية ضارة إلا أنه ناش بينهم فاش في جماعتهم من رذيلة اخرى اعتقادية وهي ما يشتمل عليه قولهم : ليس علينا في الاميين سبيل ، فانهم كانوا يسمون أنفسهم بأهل الكتاب ، وغيرهم بالاميين فقولهم ، ليس علينا في الاميين سبيل معناه نفي أن يكون لغير إسرائيلي على إسرائيلي سبيل ، وقد أسندوا الكلمة إلى الدين ، والدليل عليه قوله تعالى : ( وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) بلى ( إلخ).
  فقد كانوا يزعمون ـ كما أنهم اليوم على زعمهم ـ أنهم هم المخصوصون بالكرامة الإلهية لاتعدوهم إلى غيرهم بما أن الله سبحانه جعل فيهم نبوة وكتاباً وملكاً فلهم السيادة والتقدم على غيرهم ، واستنتجوا من ذلك أن الحقوق المشرعة عندهم اللازمة المراعاة عليهم كحرمة أخذ الربا وأكل مال الغير : وهضم حقوق الناس إنما هي بينهم معاشر أهل الكتاب فالمحرم هو أكل مال الإسرائيلي على مثله ، و المحظور هضم حقوق يهودي على أهل ملته ، وبالجملة إنما السبيل على أهل الكتاب لأهل الكتاب ، وأما غير أهل الكتاب فلا سبيل له على أهل الكتاب فلهم أن يحكموا في غيرهم ما شائوا ويفعلوا في من دونهم ما أرادوا ، وهذا يؤدي إلى معاملتهم مع غيرهم معاملة الحيوان العجم كائناً من كان .
  وهذا وإن لم يوجد فيما عندهم من الكتب المنسوبة إلى الوحي كالتوراة وغيرها لكنه أمر أخذوه من أفواه أحبارهم فقلدوهم فيه ثم لما كان الدين الموسوي لا يعدو بني إسرائيل إلى غيرهم جعلوه جنسية بينهم ، وتولد من ذلك أن هذه الكرامة والسؤدد أمر جنسي خص بذلك بنو إسرائيل خاصة فالأنتساب الإسرائيلي هو مادة الشرف وعنصر السؤدد والمنتسب إلى إسرائيل له التقدم المطلق على غيره ، وهذه الروح الباغية إذا دبت في قالب قوم بعثتهم إلى إفساد الأرض وإماتة روح الإنسانية وآثارها

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 262 _
  الحاكمة في الجامعة البشرية.
  نعم أصل هذه الكلمة ـ وهو سلب الحقوق العامة عن بعض الأفراد والجوامع ـ مما لا مناص عنه في الجامعة الإنسانية لكن الذي يعتبره المجتمع الإنساني الصالح هو سلب الحقوق عمن يريد إبطال الحقوق وهدم المجتمع ، والذي يعتبره الإسلام في ثبوت الحق هو دين التوحيد من الإسلام أو الذمة فمن لا إسلام له ولا ذمة ، فلا حق له من الحيوة وهو الذي ينطبق على الناموس الفطري الذي سمعت أنه المعتبر إجمالاً عند المجتمع الإنساني.
  ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في الآية فقوله تعالى : ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) كان الظاهر أن يقال : ومنهم ، فهو من وضع الظاهر موضع الضمير والوجه فيه دفع أن يتوهم أن هؤلاء بعض من الطائفة المذكورة في الآيتين السابقتين التي : قالت :( آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ ) ( الخ ) ولذلك لما اندفع التوهم المذكور قيل في الآية الآتية : وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب الآية.
  وهناك وجه آخر وهو أن ذكر الوصف ـ وهو كونهم من أهل الكتاب مشعر بنوع من التعليل ، وذلك أن صدور هذا القول والفعل منهم ـ أعني قولهم : ليس علينا في الاميين سبيل ، وأكلهم مال الناس بذلك لم يكن بذاك البعيد المستغرب لو كانوا اميين : ( لا خبر عندهم من النبوة والوحي لكنهم أهل الكتاب وعندهم الكتاب فيه حكم الله ، وهم يعلمون ) أن الكتاب لا يحكم لهم بذلك ، ولا يبيح لهم مال غيرهم لأنه غيرهم فهذا الذي قالوه ثم فعلوه وهم أهل الكتاب منهم أغرب وأبعد ، والتوبيخ والتقبيح عليهم أوجه وألزم .
  والقنطار والدينار معروفان ، والمقابلة بينهما ـ على ما فيها من المحسنات البديعية ـ والمقام مقام يذكر فيه الأمانة تفيد أنه كنى بهما عن الكثير والقليل ، والمراد أن منهم من لا يخون الأمانة وإن كثرت وثقلت قيمتها ، ومنهم من يخونها وإن قلت وخفت.
  وكذا الخطاب الموضوع في الكلام بقوله : إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ، غير متوجه إلى مخاطب معين بل هو للتكنية عن أي مخاطب يمكن أن يخاطب بهذا الكلام للإشعار بأن الحكم عام غير مقصور على واحد دون واحد ، والكلام في معنى قولنا ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 263 _
  إن يأمنه مؤتمن أي مؤتمن كان بقنطار يؤده إليه.
  وما في قوله : إلا ما دمت عليه قائماً ، مصدرية على ما قيل ، والتقدير إلا أن تدوم قائما عليه ، وذكر القيام عليه للدلالة على الإلحاح والاستعجال فإن قيام المطالب على ساقه عند المطالبة من غير قعود دليل على ذلك ، وربما قيل : إن ما ظرفية وليس بشيء .
  وقوله : ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الاميين سبيل ، ظاهر السياق أن ذلك إشارة إلى مجموع المضمون المأخوذ من سابق القول أي كون بعضهم يؤدي الأمانة وإن كانت خطيرة مهمة ، وبعضهم لا يؤديها وإن كانت حقيرة لا يعبأ بها إنما هو لقولهم ، ليس علينا في الاميين سبيل فأوجب ذلك اختلافاً بينهم في الصفات الروحية كحفظ الأمانات والاتقاء عن تضييع حقوق الناس ، والاغترار بالكرامة مع أنهم يعلمون أن الله لم يسن لهم ذلك في الكتاب ولا رضي بمثل هذه الافعال منهم .
  ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى حال الطائفة الثانية المذكورة بقوله : ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده اليك ، ويكون ذكر الطائفة الاولى الأمينة لاستيفاء تمام الأقسام ، والتحفظ على النصفة ، ويجوز حينئذ أن تكون ضمائر الجمع في قوله : ويقولون وفي قوله : وهم يعلمون راجعة إلى أهل الكتاب أو راجعة إلى قوله : من إن تأمنه بدينار ، بحسب المعنى وكذا يجوز على التقدير الثاني أن يكون المراد بضمير التكلم في قوله : علينا ، جميع أهل الكتاب أو خصوص البعض ، ويختلف المعنى باختلاف المحتملات إلا أن الجميع صحيحة مستقيمة ، وعليك بالتدبر فيها .
  قوله تعالى : ( وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ إبطال لدعويهم أنه ليس علينا في الاميين سبيل ) ، ودليل على أنهم كانوا ينسبون ذلك إلى الوحي السماوي والتشريع الديني كما مر .
  قوله تعالى : ( بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) ، رد لكلامهم وإثبات لما نفوه بقولهم : ليس علينا في الاميين سبيل ، وإيفاء العهد تتميمه بالتحفظ من العذر والنقص والتوفية البذل والإعطاء وافياً ، والاستيفاء الأخذ والتناول وافياً .
  والمراد بالعهد ما أخذ الله الميثاق عليه من عباده أن يؤمنوا به ويعبدوه على ما يشعر به قوله في الآية التالية : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً ) ، أو مطلق

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 264 _
  العهد الذي منه عهد الله تعالى .
  وقوله : ( فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) من قبيل وضع الكبرى موضع الصغرى إيثاراً للإيجاز ، والتقدير فإن الله يحبه لأنه متق : ( والله يحب المتقين ) ، والمراد أن كرامة الله لعباده المتقين حبه لهم لا ما زعمتموه من نفي السبيل.
  فمفاد الكلام أن الكرامة الإلهية ليست بذاك المبتذل السهل التناول حتى ينالها كل من انتسب إليه انتساباً أو يحسبها كل محتال أو مختال كرامة جنسية أو قومية بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله وميثاقه والتقوى في الدين فإذا تمت الشرائط حصلت الكرامة وهي المحبة والولاية الإلهية التي لا تعدو عباده المتقين ، وأثرها النصرة الإلهية والحيوة السعيدة التي تعمر الدنيا وتصلح بال أهلها ، وترفع درجات الآخرة.
  فهذه هي الكرامة الإلهية لا أن يحمل قوماً على أكتاف عباده من صالح وطالح ويطلقهم ويخلي بينهم وبين ما يشائون وما يعملون فيقولوا يوماً : ليس علينا في الاميين سبيل ، ويوماً : ( نحن أولياء لله من دون الناس ) (1) ويوما نحن أبناء الله وأحبائه (2) فيهديهم ذلك إلى إفساد الأرض ، وإهلاك الحرث والنسل .
  قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً ) تعليل للحكم المذكور في الآية السابقة ، والمعنى أن الكرامة الإلهية خاصة بمن أوفى بعهده واتقى لأن غيرهم ـ وهم : ( الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً ) ـ لا كرامة لهم .
  ولما كان نقض عهد الله وترك التقوى إنما هو للتمتع بزخارف الدنيا وإيثار شهوات الأولى على الاخرى كان فيه وضع متاع الدنيا موضع إيفاء العهد والتقوى ، وتبديل العهد به ، ولذلك شبه عملهم ذلك بالمعاملة فجعل عهد الله مبيعاً يشترى بالمتاع ، وسمى متاع الدنيا وهو قليل بالثمن القليل ، والاشتراء هو البيع فقيل : يشترون بعهد الله وإيمانهم ثمناً قليلاً ، أي يبدلون العهد والإيمان من متاع الدنيا.
  قوله تعالى : أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله إلى آخر الآية ،

--------------------
(1) قال تعالى : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاس ) الآية الجمعة ـ 1.
(2) قال تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) الآية المائدة ـ 18

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 265 _
  الخلاق النصيب ، والتزكية هي الإنماء نمواً صالحاً ، ولما كان الوصف المأخوذ في بيان هذه الطائفة من الناس مقابلاً للوصف المأخوذ في الطائفة الاخرى المذكورة في قوله : من أوفى بعهده واتقى ، ثم كانت التبعات المذكورة لوصفهم اموراً سلبية أفاد ذلك :
  أولاً : أن الإتيان في الإشارة بلفظ اولئك الدال على البعد لإفادة بعد هؤلاء من ساحة القرب كما أن الموفون بعهدهم المتقون مقربون لمكان حب الله تعالى لهم .
  وثانياً : أن آثار محبة الله سبحانه هي الخلاق في الآخرة ، والتكليم والنظر يوم القيامة ، والتزكية والمغفرة ، وهي رفع أليم العذاب.
  والخصال التي ذكرها الله تعالى لهؤلاء الناقضين لعهد الله وأيمانهم امور ثلاثة :
  أحدها : أنهم لا نصيب لهم في الآخرة ، والمراد بالآخرة هي الدار الآخرة ( من قيام الوصف مقام الموصوف ) ويعني بها الحياة التي بعد الموت كما أن المراد بالدنيا هي الدار الدنيا وهي الحياة الدنيا قبل الموت.
  ونفي النصيب عنهم في الآخرة لاختيارهم نصيب الدنيا عليه ، ومن هنا يظهر أن المراد بالثمن القليل هو الدنيا ، وإنما فسرناه فيما تقدم بمتاع الدنيا لمكان توصيفه تعالى إياه بالقليل ، وقد وصف به متاع الدنيا في قوله ـ عز من قائل ـ : ( قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ ) النساء ـ 77 ، على أن متاع الدنيا هو الدنيا.
  وثانيها : أن الله لا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، وقد حوذي به المحبة ـ الإلهية للمتقين من حيث إن الحب يوجب تزود المحب من المحبوب بالاسترسال بالنظر والتكليم عند الحضور والوصال ، وإذ لا يحبهم الله فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة وهو يوم الإحضار والحضور ، والتدرج من التكليم إلى النظر لوجود القوة والضعف بينهما فإن الاسترسال في التكليم أكثر منه في النظر فكأنه قيل : لا نشرفهم لا كثيراً ولا قليلاً .
  وثالثها : أن الله لا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، وإطلاق الكلام يفيد أن المراد بهما ما يعم التزكية والعذاب في الدنيا والآخرة .
  قوله تعالى : وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 266 _
  وما هو من الكتاب ، الليّ هو فتل الحبل ، ولي الرأس واللسان إمالتهما ، قال تعالى : ( لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ ) المنافقون ـ 5 ، وقال تعالى : ( لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ ) النساء ـ 46 ، والظاهر أن المراد بذلك أنهم يقرأون ما افتروه من الحديث على الله سبحانه بألحان يقرأون بها الكتاب تلبيساً على الناس ليحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب.
  وتكرار لفظ الكتاب ثلاث مرات في الكلام لدفع اللبس فإن المراد بالكتاب الأول هو الذي كتبوه بأيديهم ونسبوه إلى الله سبحانه ، وبالثاني الكتاب الذي أنزله الله تعالى بالوحي ، وبالثالث هو الثاني كرر لفظه لدفع اللبس وللإشارة إلى أن الكتاب بما أنه كتاب الله أرفع منزلة من أن يشتمل على مثل تلك المفتريات ، وذلك لما في لفظ الكتاب من معنى الوصف المشعر بالعلية .
  ونظيره تكرار لفظ الجلالة في قوله : ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ، فالمعنى وما هو من عند الله الذي هو إله حقاً لا يقول إلا الحق ، قال تعالى : ( وَالْحَقَّ أَقُولُ ) ص ـ 84.
  وأما قوله : ( وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ تكذيب بعد تكذيب لنسبتهم ما اختلقوه من الوحي إلى الله سبحانه فإنهم كانوا يلبسون ) الأمر على الناس بلحن القول فأبطله الله بقوله : وما هو من الكتاب ثم كانوا يقولون بألسنتهم هو من عند الله فكذبهم الله : أولاً بقوله : وما هو من عند الله ، وثانياً بقوله : ويقولون على الله الكذب ، وزاد في الفائدة أولا أن الكذب من دأبهم وديدنهم ، وثانياً أن ذلك ليس كذباً صادراً عنهم بالتباس من الأمر عليهم بل هم عالمون به متعمدون فيه .

( بحث روائي )
  في الدر المنثور في قوله تعالى : قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء الآية أخرج ـ يعني ابن جرير J عن السدي ، قال : ثم دعاهم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ يعني الوفد من نصارى نجران ـ فقال : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء الآية.
  اقول : وروى فيه هذا المعنى أيضاً عن ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير وظاهر الرواية أن الآية نزلت فيهم ، وقد قدمنا الرواية في أول السورة الدالة على أن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 267 _
  صدر السورة إلى نيف وثمانين آية نزلت في نصارى نجران ، وهذه الآية منها لوقوعها قبل تمام العدد.
  وورد في بعض الروايات أن رسول الله دعا يهود المدينة إلى الكلمة السواء حتى قبلوا الجزية ، وذلك لا ينافي نزول الآية في وفد نجران .
  وفي صحيح البخاري بإسناده عن ابن عباس عن أبي سفيان في حديث طويل : يذكر فيه كتاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى هرقل عظيم الروم ، قال أبو سفيان ثم دعا يعني هرقل بكتاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقرأه فإذا فيه ، بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ ) ـ إلى قوله ـ : اشهدوا بأنا مسلمون الحديث.
  اقول : ورواه أيضاً مسلم في صحيحه ، ورواه السيوطي في الدر المنثورعن النسائي وعبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس وقد قيل إن كتاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى مقوقس عظيم القبط أيضاً كان مشتملاً على قوله تعالى : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) ، وهناك نسخة منسوبة إليه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مخطوطة بالخط الكوفي تضاهي كتابه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى هرقل وقد استنسخ منها أخيراً بالتصوير الشمسي ما يوجد عند كثيرين .
  وكيف كان فقد ذكر المؤرخون أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إنما كتب الكتب وأرسل الرسل إلى الملوك من قيصر وكسرى والنجاشي سنة ست من الهجرة ، ولازمه نزول الآية في سنة ست أو قبلها وقد ذكر المؤرخون كالطبري وابن الأثير والمقريزي أن نصارى نجران إنما وفدوا على رسول الله ـ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) سنة عشر من الهجرة ، وذكر آخرون كأبي الفداء في البداية والنهاية ونظيره في السيرة الحلبية أن ذلك كان في سنة تسع من الهجرة ، ولازم ذلك نزول هذه الآية في سنة تسع أو عشر .
  وربما قيل : إن الآية مما نزلت أول الهجرة على ما تشعر به الروايات الآتية ، وربما قيل : إن الآية نزلت مرتين نقله الحافظ ابن حجر .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 268 _
  والذي يؤيده اتصال آيات السورة سياقاً كما مرت الإشارة إليه في أول السورة : أن الآية نزلت قبل سنة تسع ، وأن قصة الوفد إنما وقعت في سنة ست من الهجرة أو قبلها ، ومن البعيد أن يكاتب ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عظماء الروم والقبط وفارس ويغمض عن نجران مع قرب الدار.
  وفي الرواية نكتة اخرى وهي تصدير الكتاب ببسم الله الرحمن الرحيم ، ومنه يظهر ما في بعض ما نقلناه من الروايات في قصة وفد نجران كما عن البيهقي في الدلائل : أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان : بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب ، من محمد رسول الله إلى اسقف نجران إن أسلمتم فإني أحمد اليكم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وإلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية ، وإن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب والسلام ، الحديث.
  وذلك أن سورة النمل من السور المكية ومضامين آياتها كالنص في أنها نزلت قبل هجرة النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) وكيف يجتمع ذلك مع قصة نجران على أن الكتاب يشتمل على امور اخر لا يمكن توجيهها كحديث الجزية والايذان بالحرب وغير ذلك ، والله أعلم.
  وفي الدر المنثور أخرج الطبراني عن ابن عباس : أن كتاب رسول الله إلى الكفار : ( تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) الآية.
  وفي الدر المنثور أيضاً في قوله تعالى : يا أهل الكتاب لم تحاجون الآية أخرج ابن إسحأق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) ـ فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار ـ ما كان إبراهيم إلا يهودياً ، وقالت النصارى ما كان إبراهيم إلا نصرانياً فأنزل الله فيهم : يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده إلى قوله : والله ولي المؤمنين ، فقال أبو رافع القرظي (1) ـ أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ فقال رجل من أهل نجران : أذلك تريد يا محمد ؟ فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : معاذ الله أن أعبد غير الله ، أو آمر بعبادة غيره ، ما بذلك بعثني ولا

--------------------
(1) من يهود بني قريظة .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 269 _
  أمرنى فأنزل الله في ذلك من قولهما : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله إلى قوله ـ : بعد إذ أنتم مسلمون ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق بتصديقه إذا هو جائهم ، وإقرارهم به على أنفسهم ، فقال : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ـ إلى قوله ـ : من الشاهدين.
  اقول : الآيات أعني قوله : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة إلى آخر الآيات أوفق سياقاً وأسهل انطباقاً على عيسى بن مريم ( عليه السّلام ) منه برسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على ما سيجيء في الكلام على الآيات فلعل ما في الرواية من نزول الآيات في حق رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) استنباط وتطبيق من ابن عباس ، على ان المعهود من دأب القرآن التعرض لهذا النوع من القول في صورة السؤال والجواب أو الحكاية والرد.
  وفي تفسير الخازن روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ورواه محمد بن اسحاق عن ابن شهاب بإسناده حديث هجرة الحبشة ، قال : لما هاجر جعفر بن أبي طالب واناس من أصحاب النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى أرض الحبشة واستقرت بهم الدار ، وهاجر النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إلى المدينة ، وكان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة ، وقالوا إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد ثأراً ممن قتل منكم ببدر فأجمعوا مالا وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع اليكم من عنده من قومكم ، ولينتدب إليه رجلأن من ذوي رأيكم.
  فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط معهم الهدايا : الإدم وغيره فركبا البحر حتى أتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه ، وقالا له إن قومنا لك ناصحون شاكرون ، ولأصحابك محبون وأنهم بعثونا اليك لنحذر هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل كذاب ، خرج يزعم أنه رسول الله ، ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء ، وإنا كنا قد ضيقنا عليهم : الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد فقتلهم الجوع والعطش فلما اشتد عليه الأمر بعث اليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم الينا لنكفيكم ، قال : وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ، ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك.
  قال : فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب ، يستأذن عليك حزب

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 270 _
  الله تعالى ، فقال النجاشي : مروا هذا الصائح فليعد كلامه ، ففعل جعفر فقال النجاشي : نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته فنظر عمرو إلى صاحبه فقال : ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به الملك ؟ فأسائهما ذلك.
  ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص : ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك ؟ فقال لهم النجاشي : ما منعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق ؟ قالوا نسجد لله الذي خلقك وملكك ، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان فبعث الله فينا نبياً صادقاً ، فأمرنا بالتحية التي رضيها الله وهي السلام تحيه أهل الجنة فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل ، قال : أيكم الهاتف : يستأذن عليك حزب الله ؟ قال جعفر : أنا ، قال : أنك ملك من ملوك الأرض من أهل الكتاب ، ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم ، وإنما احب أن اجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا فقال عمرو لجعفر : تكلم .
  فقال جعفر للنجاشي : سل هذين الرجلين ، أعبيد نحن أم أحرار ؟ فإن كنا عبيداً قد أبقنا من أربابنا فردنا عليهم. فقال النجاشي : أعبيد هم أم أحرار ؟ فقال بل أحرار كرام ، فقال النجاشي : نجوا من العبودية فقال جعفر : سلهما : هل أرقنا دماً بغير حق فيقتص منا ؟ فقال عمرو ؟ لا ولا قطرة ، قال جعفر : سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضائها ، قال النجاشي : إن كان قنطاراً فعلي قضائه ، فقال عمرو لا ولا قيراط ، فقال النجاشي : فما تطلبون منهم ؟ قال : كنا وإياهم على دين واحد ، على دين آبائنا فتركوا ذلك ، واتبعوا غيره فبعثنا قومنا لتدفعهم الينا فقال النجاشي : ما هذا الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه ؟ فقال جعفر : أما الدين الذي كنا عليه فهو دين الشيطان كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة وأما الذي تحولنا إليه فهو دين الله الإسلام جاءنا به من عند الله رسول بكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقاً له ، فقال النجاشي يا جعفر تكلمت بأمر عظيم.
  ثم أمر النجاشي بضرب الناقوس فضرب واجتمع إليه كل قسيس وراهب فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي : انشدكم بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبياً مرسلاً ؟ قالوا اللهم نعم قد بشرنا فقال : من آمن به فقد

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 271 _
  آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي فقال النجاشي لجعفر ما ذا يقول لكم هذا الرجل ؟ وما يأمركم به ؟ وما ينهاكم عنه ؟ فقال يقرأ علينا كتاب الله ، ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر ويأمرنا بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ، يأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له ، فقال له : اقرأ علي مما يقرأ عليكم فقرأ عليه سورة العنكبوت والروم ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من الدمع ، وقالوا : زدنا من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال إنهم يشتمون عيسى وامه فقال النجاشي : فما تقولون في عيسى وامه ؟ فقرأ عليهم سورة مريم فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين ؟ وقال : والله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا ، ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول : آمنون من سبكم وأذاكم غرم. ثم قال : ابشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم ؟ فقال : عمرو يا نجاشي ومن حزب إبراهيم قال هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم فأنكر ذلك المشركون وادعوا دين إبراهيم ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال : إنما هديتكم إلى رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة ، قال جعفر : فانصرفنا فكنا في خير جوار ، وأنزل الله عز وجل في ذلك على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في خصومتهم في إبراهيم وهو في المدينة : إن اولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي : ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ).
  اقول : وهذه القصة مروية من طرق اخرى ومن طرق أهل البيت ( عليهم السلام ) وإنما نقلناها على طولها لاشتمالها على فوائد هامة في بلاء المسلمين من المهاجرين الأولين ، وليست من سبب النزول في شيء .
  وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السّلام ) : في قوله تعالى : ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ، قال : قال أمير المؤمنين لا يهودياً يصلي إلى المغرب ، ولا نصرانياً يصلي إلى المشرق لكن كان حنيفاً مسلماً على دين محمد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ).
  اقول : قد تقدم في البيان السابق معنى كونه على دين محمد صلّى الله عليهما وآلهما ، وقد اعتبر في الرواية استقبال الكعبة وقد حولت القبلة إليها في المدينة والكعبة في نقطة جنوبها تقريباً ، وتأبى اليهود والنصارى عن قبولها أوجب لهم الانحراف عنها إلى

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 272 _
  جهتي المغرب التي بها بيت المقدس ، والمشرق التي يستقبلها النصارى فعد ذلك من الطائفتين انحرافاً عن حاق الوسط ، وقد أيد هذه العناية لفظ الآية وكذلك جعلناكم امة وسطاً الآية ، وبالجملة فإنما هي عناية لطيفة لا تزيد على ذلك.
  وفي الكافي عن الصادق ( عليه السّلام ) : خالصاً مخلصاً ليس فيه شيء عن عبادة الأوثان.
  وفي المجمع : في قوله تعالى : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ ) الآية ، قال أمير المؤمنين ( عليه السّلام ) إن اولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاءوا به ثم تلا هذه الآية وقال ان ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته ، وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته .
  وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق ( عليه السّلام ) : هم الأئمة ومن اتبعهم.
  وفي تفسيري القمي والعياشي عن عمر بن اذينة عنه ( عليه السّلام ) قال : أنتم والله من آل محمد ، فقلت : من أنفسهم جعلت فداك ؟ قال : نعم والله من أنفسهم ثلاثاً ، ثم نظر إلى ونظرت إليه ، فقال : يا عمر إن الله يقول في كتابه : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ ) ، الآية.
  وفي تفسير القمي في قوله تعالى : وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا الآية ، عن الباقر ( عليه السّلام ) : أن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) لما قدم المدينة وهو يصلي نحو بيت المقدس أعجب ذلك القوم فلما صرفه الله عن بيت المقدس إلى بيت الله الحرام وجدت اليهود من ذلك ، وكان صرف القبلة صلوة الظهر ، فقالوا صلّى محمد الغداة واستقبل قبلتنا فآمنوا بالذي انزل على محمد وجه النهار وأكفروا آخره يعنون القبلة حين استقبل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) المسجد الحرام.
  اقول : والرواية كما ترى تجعل قوله : وجه النهار ، ظرفاً لقوله : أنزل ، دون قوله : آمنوا ، وقد تقدم الكلام فيه في البيان السابق.
  وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : وقالت طائفة الآية ، قال : إن طائفة من اليهود قالت : إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا ، وإذا كان آخره فصلوا صلوتكم لعلهم يقولون : هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا لعلهم ينقلبون عن دينهم.
  أقول : ورواه فيه أيضاً عن السدي ومجاهد .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 273 _
  وفي الكافي ( في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ ) الآية ) عن الباقر ( عليه السّلام ) قال : انزل في العهد : ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً ) أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب إليم ، والخلاق النصيب فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شيء يدخل الجنة.
  وفي أمالي الشيخ بإسناده عن عدي بن عدي عن أبيه قال : اختصم امرؤ القيس ورجل من حضرموت إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في أرض فقال : ألك بينة ؟ قال : لا ، قال فبيمينه ، قال : إذن والله يذهب بأرضي ، قال : إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم ، قال : ففزع الرجل وردها إليه.
  اقول : والرواية كما ترى لا تدل على نزول الآية في مورد القصة ، وقد روي من طرق أهل السنة في عدة روايات أن الآية نزلت في هذا الشأن ، وهي متعارضة من حيث مورد القصة : ففي بعضها أن النزاع كان بين امرء القيس ورجل من حضرموت كما مر في الرواية السابقة ، وفي بعضها أنه كان بين الاشعث بن القيس وبين رجل من اليهود في أرض له ، وفي بعضها أنها نزلت في رجل من الكفار وقد كان أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع بها رجلاً من المسلمين فنزلت الآية.
  وقد عرفت في البيان السابق أن ظاهر الآية أنها واقعة موقع التعليل لمضمون الآية السابقة عليها : فالوجه حمل الروايات إن أمكن على بيان انطباق الآية على مورد القصة دون النزول بالمعنى المعهود منه .
  ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ
  ( 3 ـ الميزان ـ 18)

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 274 _
   أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ) ـ 80.
  ( بيان )
  وقوع الآيات عقيب الآيات المرتبطة بأمر عيسى ( عليه السّلام ) يفيد أنها بمنزلة الفصل الثاني من الاحتجاج على برائة ساحة المسيح مما يعتقده في حقه أهل الكتاب من النصارى ، والكلام بمنزلة قولنا : إنه ليس كما تزعمون فلا هو رب ولا أنه ادعى لنفسه الربوبية ، أما الأول : فلأنه مخلوق بشري حملته امه ووضعته وربته في المهد غير أنه لا أب له كآدم ( عليهما السلام ) فمثله عند الله كمثل آدم ، وأما الثاني : فلأنه كان نبياً أوتي الكتاب والحكم والنبوة ، والنبي الذي هذا شأنه لا يعدو طور العبودية ولا يتعرى عن زي الرقية فكيف يتأتى أن يقول للناس اتخذوني رباً وكونوا عباداً لي من دون الله ، أو يجوز ذلك في حق غيره من عباد الله من ملك أو نبي فيعطي لعبد من عباد الله ما ليس له بحق ، أو ينفي عن نبي من الأنبياء ما أثبت الله في حقه من الرسالة فيأخذ منه ما هو له من الحق.
  قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ ) ، البشر مرادف للإنسان ، ويطلق على الواحد والكثير فالإنسان الواحد بشر كما أن الجماعة منه بشر .
  وقوله : ما كان لبشر ، اللام للملك أي لا يملك ذلك أي ليس له بحق كقوله تعالى : ( مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا ) النور ـ 16 ، وقوله : ( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ) آل عمران ـ 161.
  وقوله تعالى : ( أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ) ، اسم كان إلا أنه توطئة لما يتبعه من قوله : ثم يقول للناس ، وذكر هذه التوطئة مع صحة المعنى بدونها ظاهراً يفيد وجهاً آخر لمعنى قوله : ما كان لبشر ، فإنه لو قيل : ما كان لبشر أن يقول للناس ، كان معناه أنه لم يشرع له هذا الحق وإن أمكن أن يقول ذلك فسقاً وعتواً ، ولكنه

الميزان في تفسير القران (الجزء الثالث) _ 275 _
  إذا قيل : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، ثم يقول : كان معناه أن إيتاء الله له العلم والفقه مما عنده وتربيته له بتربية ربانية لا يدعه أن يعدو طور العبودية ، ولا يوسع له أن يتصرف فيما لا يملكه ولا يحق له كما يحكيه تعالى عن عيسى ( عليه السّلام ) في قوله : ( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) المائدة ـ 116.
  ومن هنا تظهر النكتة في قوله : أن يؤتيه الله ( الخ ) دون أن يقال : ما كان لبشر آتاه الله الكتاب والحكم والنبوة أن يقول ( الخ ) فإن العبارة الثانية تفيد معنى أصل التشريع كما تقدم بخلاف قوله : أن يؤتيه الله ( الخ ) فإنه يفيد أن ذلك غير ممكن البتة أي أن التربية الربانية والهداية الإلهية لا تتخلف عن مقصدها كما قال تعالى : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء ( يعني قوم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ) الأنعام ـ 89.
  فمحصل المعنى أنه لا يسع لبشر أن يجمع بين هذه النعم الإلهية وبين دعوة الناس إلى عبادة نفسه بأن يؤتى الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ، فالآية بحسب السياق بوجه كقوله تعالى : ( لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ـ إلى أن قال ـ : وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ) النساء ـ 173 ، فإن المستفاد من الآية : أن المسيح وكذا الملائكة المقربون أجل شأناً وأرفع قدراً أن يستنكفوا عن عبادة الله فإن الاستنكاف عن عبادته يستوجب أليم العذاب ، وحاشا أن يعذب الله كرام أنبيائه ومقربي ملائكته .
  فان قلت : الإتيان بثم الدالة على التراخي في قوله : ثم يقول للناس ، ينافي الجمع الذي ذكرته .
  قلت : ما ذكرناه من معنى الجمع محصل المعنى ، وكما يصح اعتبار الاجتماع والمعية بين المتحدين زماناً كذلك يصح اعتباره بين المترتبين والمتتاليين فهو نوع من الجمع.
  وأما قوله : ( كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ ) فالعباد كالعبيد جمع عبد ، والفرق بينهما أن العباد يغلب استعماله فيما إذا نسب إلى الله سبحانه ، يقال عباد الله ، ولا