اعظم من احد.
  وفيه عن علي بن الحسين ( عليهما السلام ) عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ان الله ليربي لاحدكم الصدقة كما يربي احدكم ولده حتى يلقاه يوم القيامة وهو مثل احد.
  اقول : وقد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن عدة من الصحابة كأبي هريره و عائشة وابن عمر وابي برزة الاسلمي عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  وفي تفسير القمي : انه لما انزل الله : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا ) الآية ، قام خالد بن الوليد إلى رسول الله وقال يا رسول الله ربا ابي في ثقيف وقد اوصاني عند موته بأخذه فأنزل الله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ) الاية.
  اقول : وروي قريبا منه في المجمع عن الباقر ( عليه السلام ).
  وفي المجمع ايضا عن السدي وعكرمة قالا : نزلت في بقية من الربا كانت للعباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير : ناس من ثقيف فجاء الاسلام ولهما اموال عظيمة في الربا فانزل الله هذه الآية فقال النبي : ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا اضعه ربا العباس بن عبد المطلب ، وكل دم في الجاهلية موضوع ، واول دم اضعه دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مرضعا في بني ليث فقتله هذيل .
  اقول : ورواه في الدر المنثور عن ابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم عن السدي الا ان فيه ونزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة.
  وفي الدر المنثور اخرج ابو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن ابي حاتم والبيهقي في سننه عن عمرو بن الاحوص : انه شهد حجة الوداع مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : الا ان كل ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رؤوس اموالكم لا تظلمون ولا تظلمون .
  اقول : والروايات في هذه المعاني كثيرة ، والمتحصل من روايات الخاصة والعامة ان الآية نزلت في اموال من الربا كانت لبني المغيرة على ثقيف ، وكانوا يربونهم في الجاهلية ، فلما جاء الاسلام طالبوهم ببقايا كانت لهم عليهم فأبوا التأدية لوضع الاسلام ذلك فرفع امرهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فنزلت الآية.
  وهذا يؤيد ما قدمناه في البيان : ان الربا كان محرما في الاسلام قبل نزول هذه الآيات ومبينا للناس ، وان هذه انما تؤكد التحريم وتقرره ، فلا يعبأ ببعض ما روي ان حرمة الربا انما نزلت في آخر عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وانه قبض ولم يبين للناس

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 427 _
  امر الربا كما في الدر المنثور عن ابن جرير وابن مردويه عن عمر بن الخطاب : انه خطب فقال : من آخر القرآن نزولا آية الربا ، وانه قد مات رسول الله ولم يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لايريبكم .
  على ان من مذهب أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) : ان الله تعالى لم يقبض نبيه حتى شرع كل ما يحتاج إليه الناس من امر دينهم وبين ذلك للناس نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  وفي الدر المنثور بطرق عديدة عن ابن عباس إ والسدي وعطيه العوفي وأبي صالح وسعيد بن جبير : ان آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى آخر الآية .
  وفي المجمع عن الصادق ( عليه السلام ) : انما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضا أورفدا.
  وفي المجمع أيضا عن علي ( عليه السلام ) إذا أراد الله بقرية هلاكا ظهر فيهم الربا.
  أقول : وقد مر في البيان السابق ما يتبين به معنى هذه الروايات.
  وفيه : في قوله تعالى : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة الآية قال : واختلف في حد الاعسار فروي عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) انه قال : هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته وقوت عياله على الاقتصاد.
  وفيه : انه أي انظار المعسر واجب في كل دين عن ابن عباس والضحاك والحسن وهو المروي عن ابي جعفر وابي عبد الله ( عليهما السلام ).
  وفيه ! قال الباقر ( عليه السلام ) : إلى ميسرة معناه إذا بلغ خبره الامام فيقضي عنه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في المعروف.
  وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) قال : صعد رسول الله المنبر ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه وصلى على أنبيائه ثم قال : أيها الناس ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، ألا ومن أنظر معسرا كان له على الله في كل يوم صدقة بمثل ماله حتى يستوفيه ، ثم قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : وان كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ( وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) انه معسر فتصدقوا عليه بمالكم فهو خير لكم .
  أقول : والرواية تشتمل على تفسير قوله : ( إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ، وقد مر له معنى آخر ، والروايات في هذه المعاني وما يلحق بها كثيرة والمرجع فيها كتاب الدين من الفقه.
  ( بحث علمي )
  تقدم مرارا في المباحث السابقة : ان لا هم للانسان في حياته الا ان يأتي بما يأتي

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 428 _
  من اعماله لاقتناء كمالاته الوجودية ، وبعبارة اخرى لرفع حوائجه المادية ، فهو يعمل عملا متعلقا بالمادة بوجه ، ويرفع به حاجته الحيوية ، فهو مالك لعمله وما عمله ( والعمل في هذا الباب أعم من الفعل والانفعال وكان نسبة ورابطة يرتب عليه الاثر عند أهل الاجتماع ) أي انه يخص ما عمل فيه من المادة لنفسه ، ويعده ملكا جائز التصرف لشخصه ، والعقلاء من اهل الاجتماع يجيزون له ذلك فافهم .
  لكنه لما كان لا يسعه ان يرفع جميع حوائجه بعمل نفسه وحده دعى ذلك إلى الاجتماع التعاوني وان ينتفع كل بعمل غيره وما حازه وملكه غيره بعمله ، فأدى ذلك إلى المعاوضة بينهم ، واستقر ذلك بأن يعمل الانسان في باب واحد أو في أبواب معدودة من ابواب العمل ويملك بذلك أشياء ثم يأخذ مقدار ما يرفع به حاجته ، ويعوض ما يزيد على حاجته مما ليس عنده من مال الغير ، وهذا اصل المعاملة والمعاوضة.
  غير ان التبائن التام بين الاموال والامتعة من حيث النوع ، ومن حيث شدة الحاجة وضعفها ، ومن حيث كثرة الوجود وقلته يولد الاشكال في المعاوضة ، فإن الفاكهة لغرض الاكل ، والحمار لغرض الحمل ، والماء لغرض الشرب ، والجوهرة الثمينة للتقلد والتختم مثلا لها أوزان وقيم مختلفة في حاجة الحياة ، ونسب مختلفة لبعضها إلى بعض .
  فمست الحاجة إلى اعتبار القيمة بوضع الفلوس والدرهم والدينار ، وكان الاصل في وضعه : انهم جعلوا شيئا من الامتعة العزيزة الوجود كالذهب مثلا اصلا يرجع إليه بقية الامتعة والسلعات فكان كالواحد التام من النوع يجعل مقياسا لبقية افراده كالمثاقيل والمكائيل وغيرهما ، فكان الواحد من وجه النقد يقدر به القيمة العامة ويقوم به كل شيء من الامتعة فيتعين به نسبة كل واحد منها بالنسبة إليه ونسبة بعضها إلى بعض .
  ثم انهم لتعميم الفائدة وضعوا آحاد المقائيس للاشياء كواحد الطول من الذراع ونحوه ، وواحد الحجم وهو الكيل ، وواحد الثقل والوزن كالمن ونحوه ، وعند ذلك تعينت النسب وارتفع اللبس ، وبان مثلا ان القيراط من الالماس يعدل أربعة من الدنانير والمن من دقيق الحنطة عشر دينار واحد ، وتبين بذلك ان القيراط من الالماس يعدل أربعين منا من دقيق الحنطة مثلا وعلى هذا القياس.
  ثم توسعوا في وضع نقود أخر من اجناس شتى نفيسة أو رخيصة للتسهيل والتوسعة كنقود الفضة والنحاس والبرنز والورق والنوط على ما يشرحه كتب الاقتصاد.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 429 _
  ثم افتتح باب الكسب والتجارة بعد رواج البيع والشراء بأن تعين البعض من الافراد بتخصيص عمله وشغله بالتعويض وتبديل نوع من المتاع بنوع آخر لابتغاء الربح الذي هو نوع زيادة فيما يأخذه قبال ما يعطيه من المتاع.
  فهذه أعمال قدمها الانسان بين يديه لرفع حوائجه في الحياة ، واستقر الامر بالاخرة على ان الحاجة العمومية كأنها عكفت على باب الدرهم والدينار ، فكان وجه القيمة كأنه هو المال كله ، وكأنه كل متاع يحتاج إليه الانسان لانه الذي يقدر الانسان بالحصول عليه على الحصول بكل ما يريده ويحتاج إليه مما يتمتع به في الحياة ، وربما جعل سلعة فاكتسب عليه كما يكتسب على سائر السلع والامتعة وهو الصرف.
  وقد ظهر بما مر : ان اصل المعاملة والمعاوضة قد استقر على تبديل متاع من متاع آخر مغاير له لمسيس الحاجة بالبدل منه كما في اصل المعاوضة ، أو لمسيس الحاجة إلى الربح الذي هو زيادة في المبدل منه من حيث القيمة ، وهذا أعني المغايرة هو الاصل الذي يعتمد عليه حياة المجتمع ، وأما المعاملة بتبديل السلعة من ما يماثله في النوع أو ما يماثله مثلا فإن كان من غير زيادة كقرض المثل بالمثل مثلا فربما اعتبره العقلاء لمسيس الحاجة به وهو مما يقيم أود الاجتماع ، ويرفع حاجة المحتاج ولا فساد يترتب عليه ، وإن كان مع زيادة في المبدل منه وهي الربح فذلك هو الربا ، فلننظر ما ذا نتيجة الربا ؟
  الربا ـ ونعني به تبديل المثل بالمثل وزيادة كإعطاء عشرة إلى أجل ، أو اعطاء سلعة بعشرة إلى أجل واخذ اثنتي عشرة عند حلول الاجل وما اشبه ذلك ـ إنما يكون عند اضطرار المشتري أو المقترض إلى ما يأخذه بالاعسار والاعواز بأن يزيد قدر حاجته على قدر ما يكتسبه من المال كأن يكتسب ليومه في أوسط حاله عشرة وهو يحتاج إلى عشرين فيقرض العشر الباقي باثني عشر لغد ولازمه ان له في غده ثمانية وهو يحتاج إلى عشرين ، فيشرع من هناك معدل معيشته وحياته في الانمحاق والانتقاص ولا يلبث زمانا طويلا حتى تفنى تمام ما يكتسبه ويبقى تمام مايقترضه ، فيطالب بالعشرين وليس له ولا واحد ( 20 ـ 0 = المال ) وهو الهلاك وفناء السعي في الحياة.
  واما المرابى فيجتمع عنده العشرة التي لنفسه والعشرة التي للمقترض ، وذلك تمام العشرين ، فيجتمع جميع المالين في جانب ويخلو الجانب الآخر من المال ، وليس الا لكون الزيادة مأخوذة من غير عوض مالي ، فالربا يؤدي إلى فناء طبقة المعسرين وانجرار المال إلى طبقة الموسرين ، ويؤدي ذلك إلى تأمر المثرين من المرابين ، وتحكمهم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 430 _
  في أموال الناس واعراضهم ونفوسهم في سبيل جميع ما يشتهون ويتهوسون لما في الانسان من قريحة التعالي والاستخدام ، والى دفاع أولئك المستخدمين المستذلين عن انفسهم فيما وقعوا فيه من مر الحياة بكل ما يستطيعونه من طرق الدفاع والانتقام ، وهذا هو الهرج والمرج وفساد النظام الذي فيه هلاك الانسانية وفناء المدنية.
  هذا مع ما يتفق عليه كثيرا من ذهاب المال الربوي من رأس فما كل مدين تراكمت عليه القروض يقدر على اداء ديونه أو يريد ذلك.
  هذا في الربا المتداول بين الاغنياء واهل العسرة ، واما الذي بين غيرهم كالربا التجاري الذي يجري عليه أمر البنوك وغيرها كالربا على القرض والاتجار به فأقل ما فيه انه يوجب انجرار المال تدريجا إلى المال الموضوع للربا من جانب ، ويوجب ازدياد رؤوس أموال التجاره واقتدارها أزيد مما هي عليها بحسب الواقع ، ووقوع التطاول بينها واكل بعضها بعضا ، وانهضام بعضها في بعض ، وفناء كل في ما هو أقوى منه فلا يزال يزيد في عدد المحتاجين بالاعسار ، ويجتمع الثروة بانحصارها عند الاقلين ، وعاد المحذور الذي ذكرناه آنفا.
  ولا يشك الباحث في مباحث الاقتصاد ان السبب الوحيد في شيوع الشيوعية وتقدم مرام الاشتراك هو التراكم الفاحش في الثروة عند أفراد ، وتقدمهم البارز في مزايا الحياة ، وحرمان آخرين وهم الاكثرون من أوجب واجباتهم ، وقد كانت الطبقة المقتدرة غروا هؤلاء الضعفاء بما قرعوا به اسماعهم من ألفاظ المدنية والعدالة والحرية والتساوي في حقوق الانسانية ، وكانوا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، ويعنون بها معاني هي في الحقيقة أضداد معانيها ، وكانوا يحسبون انها يسعدهم في ما يريدونه من الاتراف واستذلال الطبقة السافلة والتعالي عليهم ، والتحكم المطلق بما شائوا ، وانها الوسيلة الوحيدة لسعادتهم في الحياة لكنهم لم يلبثوا دون ان صار ما حسبوه لهم عليهم ، ورجع كيدهم ومكرهم إلى أنفسهم ، ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) ، وكان عاقبة الذين اساؤوا السوآى ، والله سبحانه أعلم بما تصير إليه هذه النشأة الانسانية في مستقبل أيامها ، ومن مفاسد الربا المشؤومة تسهيله الطريق إلى كنز الاموال ، وحبس الالوف والملائين في مخازن البنوك عن الجريان في البيع والشرى ، وجلوس قوم على أريكة البطالة والاتراف ، وحرمان آخرين من المشروع الذي تهدي إليه الفطرة وهو اتكاء الانسان في حياته على العمل ، فلا يعيش بالعمل عدة لاترافهم ، ولا يعيش به

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 431 _
  آخرون لحرمانهم .
  ( بحث آخر علمي )
  قال الغزالي في كتاب الشكر من الاحياء : من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا ، وهما حجران لا منفعة في اعيانهما ولكن يضطر الخلق اليهما من حيث أن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته ، وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه ، كمن يملك الزعفران وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل وربما يستغني عنه ويحتاج إلى الزعفران فلا بد بينهما من معاوضة ، ولابد في مقدار العوض من تقدير ، إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال : يعطى مثله في الوزن أو الصورة ، وكذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار فهذه الاشياء لا تناسب فيها ، فلا يدري ان الجمل كم يسوى بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا ، فافتقرت هذه الاعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينهما يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المراتب ، وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي ، فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين الاموال حتى تقدر الاموال بهما ، فيقال : هذا الجمل يساوي مأة دينار وهذا المقدار من الزعفران يسوى مأة ، فهما من حيث انهما متساويان لشئ واحد متساويان ، وانما أمكن التعديل بالنقدين إذ لاغرض في أعيانهما ، ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحا ولم يقتض ذلك في حق من لاغرض له فلا ينتظم الامر ، فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الايدي ، ويكونا حاكمين بين الاموال بالعدل .
  ولحكمة أخرى وهي : التوسل بهما إلى سائر الاشياء لانهما عزيز ان في أنفسهما ، ولاغرض في اعيانهما ، ونسبتهما إلى سائر الاموال نسبة واحدة ، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء ، لاكمن ملك ثوبا فإنه لم يملك إلا الثوب ، فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لان غرضه في دابه مثلا ، فاحتيج إلى شيء آخر هو في صورته كأنه ليس بشئ وهو في معناه كأنه كل الاشياء ، والشئ انما تستوي نسبته إلى المختلفات إذ لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها ، كالمرآة لالون لها وتحكي كل لون فكذلك النقد لاغرض فيه وهو وسيلد إلى كل غرض ، وكالحرف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره ، فهذه هي الحكمة الثانية، وفيهما ايضا حكم يطول ذكرها.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 432 _
  ثم قال ما محصله : انهما لما كانا من نعم الله تعالى من جهة هذه الحكم المترتبة عليهما كان من عمل فيهما بعمل ينافي الحكم المقصودة منهما فقد كفر بنعمة الله.
  وفرع على ذلك حرمة كنزهما فإنه ظلم وابطال لحكمتهما ، إذ كنزهما كحبس الحاكم بين الناس في سجن ومنعه عن الحكم بين الناس والقاء الهرج بين الناس من غير وجود من يرجعون إليه بالعدل .
  وفرع عليه حرمة اتخاذ آنية الذهب والفضة فإن فيه قصدهما بالاستقلال وهما مقصودان لغيرهما ، وذلك ظلم كمن اتخذ حاكم البلد في الحياكة والمكس والاعمال التي يقوم بها أخساء الناس.
  وفرع عليه أيضا حرمة معاملة الربا على الدراهم والدنانير فإنه كفر بالنعمة وظلم ، فعنهما خلقا لغيرهما لالنفسهما ، إذ لاغرض يتعلق بأعيانهما .
  وقد اشتبه عليه الامر في اعتبار أصلهما والفروع التي فرعها على ذلك :
  اما اولا : فإنه ذكر ان لاغرض يتعلق بهما في انفسهما ، ولو كان كذلك لم يمكن أن يقدرا غيرهما من الامتعة والحوائج ، وكيف يجوز أن يقدر شيء شيئا بما ليس فيه ؟ وهل يمكن ان يقدر الذراع طول شيء الا بالطول الذي له ؟ أو يقدر المن ثقل شيء الا بثقله الذي فيه ؟
  على ان اعترافه بكونهما عزيزين في نفسهما لا يستقيم الا بكونهما مقصودين لانفسهما ، وكيف يتصور عزة وكرامة من غير مطلوبي .
  على أنها لو لم يكونا إلا مقصودين لغيرهما بالخلقة لم يكن فرق بين الدينار والدرهم أعني الذهب والفضة في الاعتبار ، والواقع يكذب ذلك ، ولكان جميع أنواع النقود متساوية القيم ، ولم يقع الاعتبار على غيرهما من الامتعة كالجلد والملح وغيرهما .
  واما ثانيا : فلان الحكمة المقتضية لحرمة الكنز ليس هي إعطاء المقصودية بالاستقلال لهما ، بل ما يظهر من قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ ) الآية التوبة ـ 34 ، من تحريم الفقراء عن الارتزاق بهما مع قيام الحاجة إلى العمل والمبادلة دائما كما سيجئ بيان ذلك في تفسير الآية.
  واما ثالثا : فلان ما ذكره من الوجه في تحريم اتخاذ آنية الذهب والفضة وكونه ظلما وكفرا موجود في اتخاذ الحلي منهما ، وكذا في بيع الصرف ، ولم يعدا في الشرع ظلما وكفرا ولاحراما.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 433 _
  واما رابعا : فلان ما ذكر من المفسدة لو كان موجبا لما ذكره من الظلم والكفر بالنعمة لجرى في مطلق الصرف كما يجري في المعاملة الربوية بالنسيئة والقرض ، ولم يجر في الربا الذي في المكيل والموزون مع ان الحكم واحد ، فما ذكره غير تام جمعا ومنعا.
  والذي ذكره تعالى في حكمة التحريم منطبق على ما قدمناه من أخذ الزيادة من غير عوض.
  قال تعالى : ( وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) الروم ـ 39 ، فجعل الربا رابيا في أموال الناس وذلك انه ينمو بضم أجزاء من أموال الناس إلى نفسه كما ان البذر من النبات ينمو بالتغذي من الارض وضم أجزائها إلى نفسه ، فلا يزال الربا ينمو ويزيد هو وينقص أموال الناس حتى يأتي إلى آخرها ، وهذا هو الذي ذكرناه فيما تقدم ، وبذلك يظهر ان المراد بقوله تعالى : وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون الآية يعني به لا تظلمون الناس ولا تظلمون من قبلهم أو من قبل الله سبحانه فالربا ظلم على الناس.
   ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 434 _
  وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) ـ 283.
  ( بيان )
  قوله تعالى : ( إِذَا تَدَايَنتُم ) الخ ، التداين ، مداينة بعضهم بعضا ، والاملال والاملاء إلقاء الرجل للكاتب ما يكتبه ، والبخس هو النقص والحيف والسأمة هي الملال ، والمضارة مفاعلة من الضرر ويستعمل لما بين الاثنين وغيره .
  والفسوق هو الخروج عن الطاعة. والرهان ، وقرء فرهن بضمتين وكلاهما جمع الرهن بمعنى المرهون.
  والاظهار الواقع في موقع الاضمار في قوله تعالى : فإن كان الذي عليه الحق ، لرفع اللبس برجوع الضمير إلى الكاتب السابق ذكره.
  والضمير البارز في قوله : أن يمل هو فليملل وليه ، فائدته تشريك من عليه الحق مع وليه ، فإن هذه الصورة تغاير الصورتين الاوليين بأن الولي في الصورتين الاوليين هو المسؤول بالامر المستقل فيه بخلاف هذه الصورة فإن الذي عليه الحق يشارك الولي في العمل فكأنه قيل : ما يستطيعه من العمل فعليه ذلك وما لا يستطيعه هو فعلى وليه.
  وقوله : أن تضل إحديهما ، على تقدير حذر ان تضل إحديهما ، وفي قوله : إحديهما الاخرى وضع الظاهر موضع المضمر ، والنكتة فيه اختلاف معنى اللفظ في الموضعين ، فالمراد من الاول احديهما لاعلى التعيين ، ومن الثاني احديهما بعد ضلال الاخرى ، فالمعنيان مختلفان .
  وقوله : واتقوا أمر بالتقوى فيما ساقه الله إليهم في هذه الآية من الامر والنهى ، وأما قوله : ( وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ، فكلام مستأنف مسوق في مقام الامتنان كقوله تعالى في آية الارث : ( يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ ) النساء ـ 176 ، فالمراد به

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 435 _
  الامتنان بتعليم شرائع الدين ومسائل الحلال والحرام.
  وما قيل : إن قوله : واتقوا الله ويعلمكم الله يدل على أن التقوى سبب للتعليم الالهي ، فيه أنه وان كان حقا يدل عليه الكتاب والسنة ، لكن هذه الآية بمعزل عن الدلالة عليه لمكان واو العطف ، على أن هذا المعنى لا يلائم سياق الآية وارتباط ذيلها بصدرها .
  ويؤيد ما ذكرنا تكرار لفظ الجلالة ثانيا فانه لو لاكون قوله ويعلمكم الله ، كلاما مستأنفا كان مقتضى السياق ان يقال : يعلمكم بإضمار الفاعل ، ففي قوله تعالى : ( واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم ) ، أظهر الاسم اولا وثانيا لوقوعه في كلامين مستقلين ، وأظهر ثالثا ليدل به على التعليل ، كأنه قيل : هو بكل شيء عليم لانه الله.
  واعلم : ان الآيتين تدلان على ما يقرب من عشرين حكما من أصول أحكام الدين والرهن وغيرهما ، والاخبار فيها وفيما يتعلق بها كثيرة لكن البحث عنها راجع إلى الفقه ، ولذلك آثرنا الاغماض عن ذلك فمن أراد البحث عنها فعليه بمظانه من الفقه.
  لله ما في السموات وما في الارض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ـ 284.
  ( بيان )
  قوله تعالى : ( لله ما في السموات وما في الارض ) ، كلام يدل على ملكه تعالى لعالم الخلق مما في السموات والارض ، وهو توطئة لقوله بعده : وإن تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ، أي إن له ما في السموات والارض ومن جملتها أنتم وأعمالكم وما اكتسبتها نفوسكم ، فهو محيط بكم مهيمن على اعمالكم لا يتفاوت عنده كون أعمالكم بادية ظاهرة ، أو خافية مستورة فيحاسبكم عليها.
  وربما استظهر من الآية : كون السماء مسانخا لاعمال القلوب وصفات النفس فما في النفوس هو مما في السموات ، ولله ما في السموات كما ان ما في النفوس إذا أبدي بعمل الجوارح كان مما في الارض ، ولله ما في الارض فما انطوى في النفوس سواء أبدى أو أظهر مملوك لله محاط له سيتصرف فيه بالمحاسبة .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 436 _
  قوله تعالى : وان تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ، الابداء هو الاظهار مقابل الاخفاء ، ومعنى ما في أنفسكم ما استقر في أنفسكم على ما يعرفه أهل العرف واللغة من معناه ، ولا مستقر في النفس إلا الملكات والصفات من الفضائل والرذائل كالايمان والكفر والحب والبغض والعزم وغيرها فإنها هي التي تقبل الاظهار والاخفاء.
  أما إظهارها فإنما تتم بأفعال مناسبة لها تصدر من طريق الجوارح يدركها الحس ويحكم العقل بوجود تلك المصادر النفسية المسانخة لها ، إذ لولا تلك الصفات والملكات النفسانية من إرادة وكراهة وإيمان وكفر وحب وبغض وغير ذلك لم تصدر هذه الافعال ، فبصدور الافعال يظهر للعقل وجود ما هو منشأها.
  وأما إخفائها فبالكف عن فعل ما يدل على وجودها في النفس.
  وبالجملة ظاهر قوله : ما في أنفسكم ، الثبوت والاستقرار في النفس ، ولا يعني بهذا الاستقرار التمكن في النفس بحيث يمتنع الزوال كالملكات الراسخة ، بل ثبوتا تاما يعتد به في صدور الفعل كما يشعر به قوله : إن تبدوا وقوله : أو تخفوها فان الوصفين يدلان على ان ما في النفس بحيث يمكن ان يكون منشئأ للظهور أو غير منشأ له وهو الخفاء ، وهذه الصفات يمكن ان تكون كذلك سواء كانت أحوالا أو ملكات ، وأما الخطورات والهواجس النفسانية الطارقة على النفس من غير إرادة من الانسان وكذلك التصورات الساذجة التي لاتصديق معها كتصور صور المعاصي من غير نزوع وعزم فلفظ الآية غير شامل لها البتة لانها كما عرفت غير مستقرة في النفس ، ولا منشأ لصدور الافعال.
  فتحصل : ان الآية إنما تدل على الاحوال والملكات النفسانية التي هي مصادر الافعال من الطاعات والمعاصي ، وأن الله سبحانه وتعالى يحاسب الانسان بها ، فتكون الآية في مساق قوله تعالى : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) البقرة ـ 225 ، وقوله تعالى : ( فانه آثم قلبه ) البقرة ـ 283 ، وقوله تعالى : ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا ) الاسراء ـ 36 ، فجميع هذه الآيات دالة على أن للقلوب وهي النفوس أحوالا وأوصافا يحاسب الانسان بها ، وكذا قوله تعالى : ( إن الذين يحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ) النور ـ 9 ، فانها ظاهرة في ان العذاب إنما هو على الحب الذي هو أمر قلبي ، هذا.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 437 _
  فهذا ظاهر الآية ويجب أن يعلم : أن الآية إنما تدل على المحاسبة بما في النفوس سواء أظهر أو أخفي ، وأما كون الجزاء في صورتي الاخفاء والاظهار على حد سواء ، وبعبارة اخرى كون الجزاء دائرا مدار العزم سواء فعل أو لم يفعل وسواء صادف الفعل الواقع المقصود أو لم يصادف كما في صورة التجري مثلا فالآية غير ناظرة إلى ذلك.
  وقد أخذ القوم في معنى الآية مسالك شتى لما توهموا أنها تدل على المؤاخذة على كل خاطر نفساني مستقر في النفس أو غيره ، وليس الا تكليفا بما لا يطاق ، فمن ملتزم بذلك ومن مؤول يريد به التخلص.
  فمنهم من قال : إن الآية تدل على المحاسبة بكل ما يرد القلب ، وهو تكليف بما لا يطاق ، لكن الآية منسوخة بما يتلوها من قوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها الآية.
  وفيه : أن الآية غير ظاهرة في هذا العموم كما مر ، على أن التكليف بما لا يطاق غير جائز بلا ريب، على انه تعالى يخبر بقوله : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) الحج ـ 78 ، بعدم تشريعه في الدين ما لا يطاق .
  ومنهم من قال : إن الآية مخصوصة بكتمان الشهادة ومرتبطة بما تقدمتها من آية الدين المذكورة فيها وهو مدفوع بإطلاق الآية كقول من قال : إنها مخصوصة بالكفار .
  ومنهم من قال : إن المعنى : إن تبدوا بأعمالكم ما في أنفسكم من السوء بأن تتجاهروا وتعلنوا بالعمل أو تخفوه بأن تأتوا الفعل خفية يحاسبكم به الله.
  ومنهم من قال : ان المراد بالآية مطلق الخواطر الا أن المراد بالمحاسبة الاخبار أي جميع ما يخطر ببالكم سواء أظهرتموها أو اخفيتموها فان الله يخبركم به يوم القيامة فهو في مساق قوله تعالى : ( فينبئكم بما كنتم تعملون ) المائدة ـ 105 ، ويدفع هذا وما قبله بمخالفة ظاهر الاية كما تقدم .
  قوله تعالى : ( فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير ) ، الترديد في التفريع بين المغفرة والعذاب لا يخلو من الاشعار بأن المراد بما في النفوس هي الصفات والاحوال النفسانية السيئة ، وان كانت المغفرة ربما استعملت في القرآن في غير مورد المعاصي أيضا لكنه استعمال كالنادر يحتاج إلى مؤنة القرائن الخاصة.
  وقوله : إن الله تعليل راجع إلى مضمون الجملة الاخيرة ، أو إلى مدلول الآية بتمامها .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 438 _
( بحث روائي )
  في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لله ما في السموات وما في الارض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله اشتد ذلك على اصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأتوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم مجثوا على الركب فقالوا يا رسول الله كلفنا من الاعمال ما نطيق : الصلوة ، والصيام ، والجهاد ، والصدقة ، وقد أنزل الله هذه الآية ولانطيقها. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( أتريدون ان تقولوا كما قال اهل الكتاب من قبلكم ) : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا : ( سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ). فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في اثرها : ( آمن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون ) الآية ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل : ( لا يكلف الله نفسا الا وسعها ) إلى آخرها.
  اقول : ورواه في الدر المنثور عن احمد ومسلم وابي داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن ابي حاتم عن ابي هريرة ، وروى قريبا منه بعدة من الطرق عن ابن عباس، وروي النسخ أيضا بعدة طرق عن غيرهما كابن مسعود وعائشة.
  وروي عن الربيع بن أنس : ان الآية محكمة غير منسوخة وإنما المراد بالمحاسبة ما يخبر الله العبد به يوم القيامة بأعماله التي عملها في الدنيا.
  وروي عن ابن عباس بطرق : ان الآية مخصوصة بكتمان الشهادة وأدائها، فهي محكمة غير منسوخة .
  وروي عن عائشة أيضا : ان المراد بالمحاسبة ما يصيب الرجل من الغم والحزن إذا هم بالمعصية ولم يفعلها ، فالآية ايضا محكمة غير منسوخة .
  وروي من طريق علي عن ابن عباس في قوله : وإن تبدوا ما في انفسكم أو تخفوه : فذلك سرائرك وعلانيتك يحاسبكم به الله فانها لم تنسخ ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول : اني أخبركم بما أخفيتم في انفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي ، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله : يحاسبكم به الله يقول يخبركم ، وأما اهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب ، وهو قوله : ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم .
  اقول : والروايات على اختلافها في مضامينها مشتركة في انها مخالفة لظاهر

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 439 _
  القرآن على ما تقدم : ان ظاهر الآية هو : ان المحاسبة انما تقع على ما كسبته القلوب إما في نفسها وإما من طريق الجوارح ، وليس في الخطور النفساني كسب ، ولا يتفاوت في ذلك الشهادة وغيرها ولا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر ، وظاهر المحاسبة هو المحاسبة بالجزاء دون الاخبار بالخطورات والهمم النفسانية ، فهذا ما تدل عليه الآية وتؤيده سائر الآيات على ما تقدم.
  وأما حديث النسخ خاصد ففيه وجوه من الخلل يوجب سقوطه عن الحجية.
  اولها : مخالفته لظاهر الكتاب على ما تقدم بيانه.
  ثانيها : اشتماله على جواز تكليف مالا يطاق وهو مما لا يرتاب العقل في بطلانه .
  ولاسيما منه تعالى ، ولا ينفع في ذلك النسخ كما لا يخفى ، بل ربما زاد إشكالا على إشكال فإن ظاهر قوله في الرواية : فلما اقترئها القوم الخ ان النسخ انما وقع قبل العمل وهو محذور .
  ثالثها : أنك ستقف في الكلام على الآيتين التاليتين : ان قوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، لا يصلح لان يكون ناسخا لشئ ، وإنما يدل على ان كل نفس انما يستقبلها ما كسبته سواء شق ذلك عليها أو سهل ، فلو حمل عليها ما لا تطيقه ، أو حمل عليها إصر كما حمل على الذين من قبلنا فانما هو امر كسبته النفس بسوء اختيارها فلا تلومن الا نفسها ، فالجملة أعني قوله : لا يكلف الله نفسا الا وسعها ، كالمعترضة لدفع الدخل.
  رابعها : انه سيجئ ايضا : ان وجه الكلام في الآيتين ليس إلى امر الخطورات النفسانية اصلا ، ومواجهة الناسخ للمنسوخ مما لابد منه في باب النسخ.
  بل قوله تعالى : آمن الرسول إلى آخر الآيتين مسوق لبيان غرض غير الغرض الذي سيق لبيانه قوله تعالى : ( وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) إلى آخر الآية على ما سيأتي إنشاء الله.
  ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير ) ـ 285 ، ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 440 _
  وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) ـ 286.
  ( بيان )
  الكلام في الآيتين كالفذلكة يحصل بها إجمال ما اشتملت عليه السورد من التفاصيل المبينة لغرضها ، وقد مر في ما مر أن غرض السورة بيان ان من حق عبادة الله تعالى : أن يؤمن بجميع ما أنزل على عباده بلسان رسله من غير تفرقة بين رسله ، وهذا هو الذي تشتمل عليه الآية الاولى من قوله ، آمن الرسول إلى قوله : من رسله ، وفي السورة قصص تقص ما أنعم الله به على بني إسرائيل من أنواع نعمه من الكتاب والنبوة والملك وغيرها وما قابلوه من العصيان والتمرد ونقض المواثق والكفر ، وهذا هو الذي يشير إليه وإلى الالتجاء بالله في التجنب عند ذيل الآية الاولى وتمام الآية الثانية ، فالآيتين يرد آخر الكلام في السورة إلى أوله وختمه إلى بدئه .
  ومن هنا يظهر خصوصية مقام البيان في هاتين الآيتين ، توضيحه : أن الله سبحانه افتتح هذه السورة بالوصف الذي يجب ان يتصف به اهل التقوى ، أعني ما يجب على العبد من إيفاء حق الربوبية ، فذكر ان المتقين من عباده يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون من رزق الله ويؤمنون بما أنزل الله على رسوله وعلى الرسل من قبله ويوقنون بالآخرة ، فلاجرم انعم الله عليهم بهداية القرآن ، وبين بالمقابلة حال الكفار والمنافقين.
  ثم فصل القول في أمر أهل الكتاب وخاصة اليهود وذكر أنه من عليهم بلطائف الهداية ، وأكرمهم بأنواع النعم ، وعظائم الحباء ، فلم يقابلوه الا بالعتو وعصيان الامر وكفر النعمة ، والرد على الله وعلى رسله ، ومعاداة ملائكته ، والتفريق بين رسل الله وكتبه، فقابلهم الله بحمل الاصر الشاق من الاحكام عليهم كقتلهم أنفسهم وتحميلهم ما لا طاقة لهم به كالمسخ ونزول الصاعقة والرجز من السماء عليهم.
  ثم عاد في خاتمة البيان إلى وصف حال الرسول ومن تبعه من المؤمنين فذكر أنهم على خلاف اهل الكتاب ما قابلوا ربهم فيما أنعم عليهم بالهداية والارشاد الا بأنعم القبول والسمع والطاعة ، مؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله ، غير مفرقين بين أحد

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 441 _
  من رسله ، وهم في ذلك حافظون لحكم موقفهم الذي أحاطت به ذلة العبودية وعزة الربوبية ، فانهم مع إجابتهم المطلقة لداعي الحق اعترفوا بعجزهم عن إيفاء حق الاجابة.
  لان وجودهم مبني على الضعف والجهل فربما قصروا عن التحفظ بوظائف المراقبة بنسيان أو خطأ ، أو قصروا في القيام بواجب العبودية فخانتهم أنفسهم بارتكاب سيئة يوردهم مورد السخط والمؤاخذة كما اورد أهل الكتاب من قبلهم ، فالتجأوا إلى جناب العزة ومنبع الرحمة ان لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا ، ولا يحمل عليهم إصرا ، ولا يحملهم ما لا طاقة لهم به ، وأن يعفو عنهم ويغفر لهم وينصرهم على القوم الكافرين.
  فهذا هو المقام الذي يعتمد عليه البيان في الآيتين الكريمتين ، وهو الموافق كما ترى للغرض المحصل من السورة ، لا ما ذكروه : أن الآيتين متعلقتا المضمون بقوله في الآية السابقة : ( إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) الاية الدال على التكليف بما لا يطاق ، وأن الاية الاولى : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون الاية ، حكاية لقبول الاصحاب تكليف ما لا يطاق ، والاية الثانية ناسخة لذلك !
  وما ذكرناه هو المناسب لما ذكروه في سبب النزول : أن البقرة أول سورة نزلت بالمدينة فان هجرة النبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى المدينة واستقراره فيها لما قارن الاستقبال التام من مؤمني الانصار للدين الالهي وقيامهم لنصرة رسول الله بالاموال والانفس ، وترك المؤمنين من المهاجرين الاهلين والبنين والاموال والاوطان في جنب الله ولحوقهم برسوله كان هو الموقع الذي يناسب أن يقع فيه حمد من الله سبحانه لاجابتهم دعوة نبيه بالسمع والقبول ، وشكر منه لهم ، ويدل عليه بعض الدلالة آخر الاية : ( أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) فان الجملة يؤمي إلى ان سؤالهم هذا كان في اوائل ظهور الاسلام.
  وفي الآية من الاجمال والتفصيل ، والايجاز ثم الاطناب ، وأدب العبودية وجمع مجامع الكمال والسعادة عجائب.
  قوله تعالى : ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون ) ، تصديق لايمان الرسول والمؤمنون ، وإنما أفرد رسول الله عنهم بالايمان بما أنزل إليه من ربه ثم ألحقهم به تشريفا له ، وهذا دأب القرآن في الموارد التي تناسب التشريف أن يكرم النبي بإفراده وتقديم ذكره ثم اتباع ذلك بذكر المؤمنين كقوله تعالى : ( فأنزل الله سكينته

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 442 _
  على رسوله وعلى المؤمنين ) الفتح ـ 26 ، وقوله تعالى : ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا ) التحريم ـ 8.
  قوله تعالى : كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، تفصيل للاجمال الذي تدل عليه الجملة السابقة ، فان ما أنزل إلى رسول الله يدعو إلى الايمان وتصديق الكتب والرسل والملائكة الذين هم عباد مكرمون ، فمن آمن بما أنزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد آمن بجميع ذلك ، كل على ما يليق به .
  قوله تعالى : لا نفرق بين أحد من رسله ، حكاية لقولهم من دون توسيط لفظ القول ، وقد مر في قوله تعالى : ( وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت وإسمعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) البقرة ـ 127 ، النكتة العامة في هذا النحو من الحكاية ، وأنه من أجمل السياقات القرآنية ، والنكتة المختصة بالمقام مضافا إلى أن فيه تمثيلا لحالهم وقالهم أن هذا الكلام إنما هو كلام منتزع من خصوص حالهم في الايمان بما أنزل الله تعالى ، فهم لم يقولوه إلا بلسان حالهم ، وان كانوا قالوه فقد قاله كل منهم وحده وفي نفسه ، وأما تكلمهم به لسانا واحدا فليس الا بلسان الحال.
  ومن عجيب أمر السياق في هذه الآية ما جمع بين قولين محكيين منهم مع التفرقة في نحو الحكاية أعني قوله تعالى : لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا الخ ، حيث حكى البعض من غير توسيط القول والبعض الآخر بتوسيطه ، وهما جميعا من قول المؤمنين في اجابة دعوة الداعي.
  والوجه في هذه التفرقة أن قولهم : لا نفرق الخ مقول لهم بلسان حالهم بخلاف قولهم : سمعنا وأطعنا.
  وقد بدء تعالى بالاخبار عن حال كل واحد منهم على نعت الافراد فقال : كل آمن بالله ثم عدل إلى الجمع فقال : لا نفرق بين أحد إلى آخر الآيتين ، لان الذي جرى من هذه الامور في أهل الكتاب كان على نعت الجمع كما أن اليهود فرقت بين موسى وبين عيسى ومحمد ، والنصارى فرقت بين موسى وعيسى ، وبين محمد فانشعبوا شعبا وتحزبوا أحزابا وقد كان الله تعالى خلقهم امة واحدة على الفطرة ، وكذلك المؤاخذة والحمل والتحميل الواقع عليهم إنما وقعت على جماعتهم ، وكذلك ما وقع في آخر الآية من سؤال النصرة على الكافرين ، كل ذلك أمر مرتبط بالجماعة دون الفرد ، بخلاف الايمان

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 443 _
  فإنه أمر قائم بالفرد حقيقة .
  قوله تعالى : ( وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) ، قولهم سمعنا وأطعنا ، إنشاء وليس باخبار وهو كناية عن الاجابة إيمانا بالقلب وعملا بالجوارح ، فإن السمع يكني به لغة عن القبول والاذعان.
  والاطاعة تستعمل في الانقياد بالعمل فمجموع السمع والاطاعة يتم به أمر الايمان.
  وقولهم سمعنا وأطعنا إيفاء لتمام ما على العبد من حق الربوبية في دعوتها.
  وهذا تمام الحق الذي جعله الله سبحانه لنفسه على عبده : أن يسمع ليطيع ، وهو العبادة كما قال تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ) الذاريات ـ 57 ، وقال تعالى : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي ) يس ـ 61.
  وقد جعل سبحانه في قبال هذا الحق الذي جعله لنفسه على عبده حقا آخر لعبده على نفسه وهو المغفرة التي لا يستغني عنه في سعادة نفسه أحد : الانبياء والرسل فمن دونهم فوعدهم ان يغفر لهم ان أطاعوه بالعبودية كما ذكره اول ما شرع الشريعة لآدم وولده فقال : ( قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) البقرة ـ 38 ، وليس الا المغفرة.
  والقوم لما قالوا : سمعنا وأطعنا وهو الاجابة بالسمع والطاعة المطلقين من غير تقييد فأوفوا الربوبية حقها سألوه تعالى حقهم الذي جعله لهم وهو المغفرة فقالوا عقيب قولهم سمعنا وأطعنا : غفرانك ربنا وإليك المصير ، والمغفرة والغفران : الستر ، ويرجع مغفرته تعالى إلى دفع العذاب وهو ستر على نواقص مرحلة العبودية ، ويظهر عند مصير العبد إلى ربه ، ولذلك عقبوا قولهم : غفرانك ربنا بقولهم : واليك المصير.
  قوله تعالى لا يكلف الله نفسا الا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، الوسع هو الجدة والطاقة ، والاصل في الوسع هو السعة المكانية ثم يتخيل لقدرة الانسان شبه الظرفية لما يصدر عنه من الافعال الاختيارية ، فما يقدر عليه الانسان من الاعمال كأنه تسعه قدرته ، وما لا يقدر عليه لا تسعه فانطبق عليه معنى الطاقة ، ثم سميت الطاقة وسعا فقيل وسع الانسان أي طاقته وظرفية قدرته.
  وقد عرفت : أن تمام حق الله تعالى على عبده : ان يسمع ويطيع ، ومن البين

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 444 _
  أن الانسان إنما يقول : سمعا فيما يمكن ان تقبله نفسه بالفهم ، وأما ما لا يقبل الفهم فلا معنى لاجابته بالسمع والقبول.
  ومن البين أيضا ان الانسان انما يقول : طاعة فيما يقبل مطاوعة الجوارح وأدوات العمل ، فإن الاطاعة هي مطاوعة الانسان وتأثر قواه وأعضائه عن تأثير الآمر المؤثر مثلا ، وأما ما لا يقبل المطاوعة كأن يؤمر الانسان ان يسمع ببصره ، أو يحل بجسمه أزيد من مكان واحد ، أو يتولد من أبويه مره ثانية فلا يقبل إطاعة ولا يتعلق بذلك تكليف مولوي ، فإجابة داعي الحق بالسمع والطاعة لاتتحقق الا في ما هو اختياري للانسان تتعلق به قدرته ، وهو الذي يكسب به الانسان لنفسه ما ينفعه أو يضره ، فالكسب نعم الدليل على أن ما كسبه الانسان إنما وجده وتلبس به من طريق الوسع والطاقة.
  فظهر مما ذكرنا ان قوله : لا يكلف الله ، كلام جار على سنة الله الجارية بين عباده : ان لا يكلفهم ما ليس في وسعهم من الايمان بما هو فوق فهمهم والاطاعة لما هو فوق طاقة قواهم ، وهي ايضا السنة الجارية عند العقلاء وذوي الشعور من خلقه ، وهو كلام ينطبق معناه على ما يتضمنه قوله حكاية عن الرسول والمؤمنين : سمعنا وأطعنا من غير زيادة ولا نقيصة .
  والجملة أعني قوله : لا يكلف الله نفسا ، متعلقة المضمون بما تقدمها وما تأخر عنها من الجمل المسرودة في الآيتين.
  أما بالنسبة إلى ما تقدمها فإنها تفيد : أن الله لا يكلف عباده بأزيد مما يمكنهم فيه السمع والطاعة وهو ما في وسعهم ان يأتوا به .
  وأما بالنسبة إلى ما تأخر عنها فإنها تفيد أن ما سئله النبي والمؤمنون من عدم المؤاخذة على الخطأ والنسيان ، وعدم حمل الاصر عليهم ، وعدم تحميلهم ما لاطاقه لهم به ، كل ذلك وإن كانت أمورا حرجية لكنها ليست من التكليف بما ليس في الوسع ، فإن الذي يمكن أن يحمل عليهم مما لا طاقة لهم به ليس من قبيل التكليف ، بل من قبيل جزاء التمرد والمعصية ، وأما المؤاخذة على الخطأ والنسيان فإنهما وان كانا بنفسهما غير اختياريين لكنهما اختياريان من طريق مقدماتهما. فمن الممكن ان يمنع عنهما مانع بالمنع عن مقدماتهما أو بأيجاب التحفظ عنهما ، وخاصة إذا كان ابتلاء الانسان بهما مستندا إلى سوء الاختيار ، ومثله الكلام في حمل الاصر فإنه إذا استند

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 445 _
  إلى التشديد على الانسان جزائا لتمرده عن التكاليف السهلة بتبديلها مما يشق عليه ويحترج منه ، فإن ذلك ليس من التكليف المنفي عنه تعالى غير الجائز عند العقل لانها مما اختاره الانسان لنفسه بسوء اختياره فلا محذور في توجيهه إليه.
  قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا أو أخطانا ، لما قالوا في مقام اجابة الدعوة سمعنا وأطعنا وهو قول ينبئ عن الاجابة المطلقة من غير تقييد ثم التفتوا إلى ما عليه وجودهم من الضعف والفتور ، والتفتوا أيضا إلى ما آل إليه ، امر الذين كانوا من قبلهم وقد كانوا أمما امثالهم استرحموا ربهم وسألوه ان لا يعاملهم معاملة من كان قبلهم من المؤاخذة والحمل والتحميل لانهم علموا بما علمهم الله ان لاحول ولا قوة إلا بالله ، وان لا عاصم من الله إلا رحمته.
  والنبى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإن كان معصوما من الخطأ والنسيان لكنه إنما يعتصم بعصمة الله ويصان به تعالى فصح له ان يسأل ربه ما لا يأمنه من نفسه ، ويدخل نفسه لذلك في زمرة المؤمنين.
  قوله تعالى : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ، الاصر هو الثقل على ما قيل ، وقيل هو حبس الشئ بقهره ، وهو قريب من المعنى الاول فإن في الحبس حمل الشئ على ما يكرهه ويثقل عليه.
  والمراد بالذين من قبلنا : هم أهل الكتاب وخاصة اليهود على ماتشير السورة إلى كثير من قصصهم ، وعلى ما يشير إليه قوله تعالى ، ( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) الاعراف ـ 157.
  قوله تعالى : ربنا ولا تحملنا مالا طاقه لنا به ، المراد بما لا طاقة لنا به ليس هو التكليف الابتدائي بما لا يطاق ، إذ قد عرفت ان العقل لا يجوزه أبدا ، وان كلامه تعالى أعني ما حكاه بقوله : وقالوا سمعنا وأطعنا يدل على خلافه بل المراد به جزاء السيئات الواصلة إليهم من تكليف شاق لا يتحمل عادة ، أو عذاب نازل ، أو رجز مصيب كالمسخ ونحوه.
  قوله تعالى : واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ، العفو محو أثر الشئ ، والمغفرة ستره ، والرحمة معروفة ، وأما بحسب المصداق فاعتبار المعاني اللغوية يوجب ان يكون سوق الجمل الثلاث من قبيل التدرج من الفرع إلى الاصل ، وبعبارة أخرى من الاخص

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 446 _
  فائدة ألى الاعم ، فعليها يكون العفو منه تعالى هو إذهاب اثر الذنب وإمحائه كالعقاب المكتوب على المذنب ، والمغفرة هي إذهاب ما في النفس من هيئة الذنب والستر عليه ، والرحمة هي العطية الالهية التي هي الساترة على الذنب وهيئته.
  وعطف هذه الثلاثة أعني قوله : واعف عنا واغفر لنا وارحمنا على قوله : ( رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) على ما للجميع من السياق والنظم يشعر : بأن المراد من العفو والمغفرة والرحمة ما يتعلق بذنوبهم من جهة الخطأ والنسيان ونحوها .
  ومنه يظهر ان المراد بهذه المغفرة المسؤولة هيهنا غير الغفران المذكور في قوله : غفرانك ربنا فإنه مغفرة مطلقة في مقابلة الاجابة المطلقة على ما تقدم وهذه مغفرة خاصة في مقابل الذنب عن نسيان أو خطأ ، فسؤال المغفرة غير مكرر .
  وقد كرر لفظ الرب في هذه الادعية أربع مرات لبعث صفة الرحمة بالايماء والتلويح إلى صفة العبودية فإن ذكر الربوبيه يخطر بالبال صفة العبودية والمذلة.
  قوله تعالى : ( أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) ، استيناف ودعاء مستقل ، والمولى هو الناصر لكن لاكل ناصر بل الناصر الذي يتولى أمر المنصور فإنه من الولاية بمعنى تولى الامر ، ولما كان تعالى وليا للمؤمنين فهو موليهم فيما يحتاجون فيه إلى نصره ، قال تعالى : ( وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران ـ 68 ، وقال تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ ) : محمد ـ 11.
  وهذا الدعاء منهم يدل على انهم ما كان لهم بعد السمع والطاعة لاصل الدين هم الا في إقامتة ونشره والجهاد لاعلان كلمة الحق ، وتحصيل اتفاق كلمة الامم عليه ، قال تعالى : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يوسف ـ 108 ، فالدعوة إلى دين التوحيد هو سبيل الدين وهو الذي يتعقب الجهاد والقتال والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وسائر أقسام الدعوة والانذار ، كل ذلك لحسم مادة الاختلاف من بين هذا النوع ، ويشير إلى ما به من الاهمية في نظر شارع الدين قوله تعالى : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) الشورى ـ 13 ، فقولهم انت مولينا فانصرنا يدل على جعلهم الدعوة العامة في الدين أول ما يسبق إلى أذهانهم بعد عقد القلب على السمع والطاعة ، والله اعلم.
  والحمد لله