متصلة بأمر الله الذي هو ان يقول لشئ أرادة : كن فيكون ، كمثل أقوالنا غير المتصلة إلا بالتخيل كان هو أيضا كمثلنا إذ قلنا لشئ كن فلا يكون ، فلا تأثير جزافي في الوجود.
  واما الثاني : فقوله كيف تحيي الموتى تدل على ان لكثرة الاموات وتعددها دخلا في السؤال ، وليس إلا ان الاجساد بموتها وتبدد أجزائها وتغير صورها وتحول أحوالها تفقد حالة التميز والارتباط الذي بينها فتضل في ظلمة الفناء والبوار ، وتصير كالاحاديث المنسية لا خبر عنها في خارج ولا ذهن فكيف تحيط بها القوة المحيية ولا محاط في الواقع.
  وهذا هو الذي أورده فرعون على موسى ( عليه السلام ) وأجاب عنه موسى بالعلم كما حكاه الله تعالى بقوله : ( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ) طه ـ 51.
  وبالجملة فأجابه الله تعالى بأن أمره بأن يأخذ أربعة من الطير ( ولعل اختيار الطير لكون هذا العمل فيها أسهل وأقل زمانا ) فيشاهد حياتها ويرى اختلاف أشخاصها وصورها ، ويعرفها معرفة تامة أولا ، ثم يقتلها ويخلط أجزائها خلطادقيقا ثم يجعل ذلك ابعاضا ، وكل بعض منها على جبل لتفقد التميز والتشخص ، وتزول المعرفة ، ثم يدعوهن يأتينه سعيا ، فإنه يشاهد حينئذ ان التميز والتصور بصورة الحياة كل ذلك تابع للدعوة التي تتعلق بأنفسها ، أي إن أجسادها تابعة لانفسها لا بالعكس ، فإن البدن فرع تابع للروح لا بالعكس ، بل نسبة البدن إلى الروح بوجه نسبة الظل إلى الشاخص ، فإذا وجد الشاخص تبع وجوده وجود الظل وإلى أي حال تحول الشاخص أو أجزائه تبعه فيه الظل حتى إذا انعدم تبعه في الانعدام ، والله سبحانه إذا أوجد حيا من الاحياء ، أو أعاد الحياة إلى أجزاء مسبوقة بالحياة فإنما يتعلق إيجاده بالروح الواجدة للحياة أولا ثم يتبعه أجزاء المادة بروابط محفوظة عند الله سبحانه لا نحيط بها علما فيتعين الجسد بتعين الروح من غير فصل ولا مانع ، وبذلك يشعر قوله تعالى : ( ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ) أي مسرعات مستعجلات
  وهذا هو الذي يستفاد من قوله تعالى : ( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 377 _
   خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) السجدة ـ 11 ، وقد مر بعض الكلام في الآية في البحث عن تجرد النفس ، وسيأتي تفصيل الكلام في محله إنشاء الله.
  فقوله تعالى : ( فخذ أربعة من الطير انما امر بذلك ليعرفها فلا يشك فيها عند إعاده الحياة إليها ولا ينكرها ) ، وليرى ما هي عليه من الاختلاف والتميز أولا وزوالهما ثانيا ، وقوله : فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزئا أي اذبحهن وبدد أجزائهن واخلطها ثم فرقها على الجبال الموجودة هناك لتتباعد الاجزاء وهي غير متميزة ، وهذا من الشواهد على ان القصة انما وقعت بعد مهاجرة ابراهيم من أرض بابل إلى سورية فإن أرض بابل لا جبل بها ، وقوله ثم ادعهن ، أي ادع الطيور يا طاووس ويافلان ويافلان ، ويمكن ان يستفاد ذلك مضافا إلى دلالة ضمير هن الراجعة إلى الطيور من قوله : ادعهن ، فإن الدعوة لو كانت لاجزاء الطيور دون أنفسها كان الانسب ان يقال : ثم نادهن فإنها كانت على جبال بعيدة عن موقفه ( عليه السلام ) واللفظ المستعمل في البعيد خاصة هوالنداء دون الدعاء ، وقوله : يأتينك سعيا ، أي يتجسدن والتصفن بالاتيان والاسراع اليك.
  قوله تعالى : ( وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ، أي عزيز لا يفقد شيئا بزواله عنه ، حكيم لا يفعل شيئا الا من طريقه اللائق به ، فيوجد الاجساد بإحضار الارواح وايجادها دون العكس.
  وفي قوله تعالى : واعلم ان الخ ، دون ان يقال ان الله الخ ، دلالة على أن الخطور القلبي الذي كان ابراهيم يسأل ربه المشاهدة ليطمئن قلبه من ناحيته كان راجعا إلى حقيقة معنى الاسمين : العزيز الحكيم ، فأفاده الله سبحانه بهذا الجواب العلم بحقيقتهما .
  ( بحث روائي )
  في الدر المنثور في قوله تعالى : ألم تر إلى الذي حاج ابراهيم في ربه الآية : اخرج الطيالسي وابن ابي حاتم عن علي بن ابي طالب قال : الذي حاج ابراهيم في ربه هو نمرود بن كنعان.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 378 _
  وفي تفسير البرهان : أبو علي الطبرسي قال : اختلف في وقت هذه المحاجة فقيل عند كسر الاصنام قبل القائه في النار ، عن مقاتل ، وقيل بعد القائه في النار وجعلها عليه بردا وسلاما ، عن الصادق ( عليه السلام ).
  اقول : الآية وان لم تتعرض لكونها قبل أو بعد لكن الاعتبار يساعد كونها بعد الالقاء في النار ، فان قصصه المذكورة في القرآن في بدو أمره من محاجته اباه وقومه وكسره الاصنام تعطي ان اول ما لاقى ابراهيم ( عليه السلام ) نمرود وكان حين رفع امره إليه في قضية كسر الاصنام مجرما عندهم ، فحكم عليه بالاحراق ، وكان القضاء عليه في جرمه شاغلا عن تكليمه في امر ربه : أهو الله أو نمرود ؟ ولو حاجه نمرود حينئذ لحاجه في امر الله وامر الاصنام دون امر الله وامر نفسه ؟
  وفي عدة من الروايات التي روتها العامة والخاصة في قوله تعالى : أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها الآية ان صاحب القصة أرميا النبي وفي عدة منها : انها عزير ، الا انها آحاد غير واجبة القبول ، وفي اسانيدها بعض الضعف ، ولا شاهد لها من ظاهر الآيات ، والقصة غير مذكورة في التوراة ، والتي في الروايات من القصة طويلة فيها بعض الاختلاف لكنها خارجة عن غرضنا من أرادها فليرجع إلى مظانها .
  وفي المعاني عن الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى : واذ قال ابراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى الآية في حديث قال ( عليه السلام ) : وهذه آية متشابهة ، ومعناها انه سأل عن الكيفية والكيفية من فعل الله عز وجل ، متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب ، ولا عرض في توحيده نقص ، الحديث.
  اقول : وقد اتضح معنى الحديث مما مر.
  وفي تفسير العياشي عن علي بن اسباط : ان أبا الحسن الرضا ( عليه السلام ) سئل عن قول الله : قال بلى ولكن ليطمئن قلبي أكان في قلبه شك قال لا ولكن اراد من الله الزيادة ، الحديث.
  اقول : وروي هذا المعنى في الكافي عن الصادق وعن العبد الصالح ( عليهما السلام ) وقد مر بيانه .
  وفي تفسير القمي عن ابيه عن ابن ابي أيوب عن ابي بصير عن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 379 _
  الصادق ( عليه السلام ) ، قال : ان إبراهيم نظر إلى جيفة على ساحل البحر تأكلها سباع البحر تأكاها سباع البحر ، ثم يثب السباع بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضا ، فتعجب إبراهيم فقال : يا رب أرني كيف تحيي الموتى ؟ فقال أو لم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال : فخذ اربعة من الطير فصرهن اليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزئا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم ان الله عزيز حكيم ، فأخذ ابراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب ، فقال الله عز وجل : فصرهن اليك أي قطعهن ثم اخلط لحمهن ، وفرقهن على عشرة جبال ، ثم دعاهن فقال : احيى بأذن الله فكانت تجتمع وتتألف لحم واحد وعظمه إلى رأسه ، فطارت إلى ابراهيم ، فعند ذلك قال ابراهيم ان الله عزيز حكيم.
  أقول : وروي هذا المعنى العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن الصادق ( عليه السلام ) ، وروي من طرق اهل السنة عن ابن عباس.
  قوله : ان ابراهيم نظر إلى جيفة إلى قوله فقال : يا رب أرني الخ ، بيان للشبهة التي دعته إلى السؤال وهى تفرق اجزاء الجسد بعد الموت تفرقا يؤدي إلى تغيرها وانتقالها إلى امكنة وحالات متنوعة لا يبقى معها من الاصل شئ .
  فإن قلت : ظاهر الرواية : ان الشبهة كانت هي شبهة الآكل والمأكول ، حيث اشتملت على وثوب بعضها على بعض ، وأكل بعضها بعضا ، ثم فرعت على ذلك تعجب ابراهيم وسؤاله.
  قلت : الشبهة شبهتان ـ احديهما ـ تفرق أجزاء الجسد وفناء اصلها من الصور والاعراض وبالجملة عدم بقائها حتى تتميز وتركبها الحياة ـ وثانيتهما ـ صيرورة أجزاء بعض الحيوان جزء من بدن بعض آخر فيؤدي إلى استحالة احياء الحيوانين ببدنيهما تأمين معا لان المفروض ان بعض بدن احدهما بعينه بعض لبدن الآخر ، فكل واحد منهما اعيد تاما بقي الآخر ناقصا لا يقبل الاعادة ، وهذه هي شبهة الآكل والمأكول.
  وما أجاب الله سبحانه به ـ وهو تبعية البدن للروح ـ وان كان وافيا لدفع الشبهتين جميعا ، الا ان الذي امر به ابراهيم على ما تحكيه الآية لا يتضمن مادة شبهة الآكل والمأكول ، وهو أكل بعض الحيوان بعضا ، بل انما تشتمل على تفرق الاجزاء واختلاطها وتغير صورها وحالاتها ، وهذه مادة الشبهة الاولى ، فالآية انما تتعرض لدفعها وان

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 380 _
  كانت الشبهتان مشتركتين في الاندفاع بما اجيب به في الآية كما مر ، وما اشتملت عليه الرواية من اكل البعض للبعض غير مقصود في تفسير الآية.
  قوله ( عليه السلام ) فأخذ ابراهيم الطاووس والديك والحمام والغراب ، وفي بعض الروايات ان الطيور كانت هي النسر والبط والطاووس والديك ، رواه الصدوق في العيون عن الرضا ( عليه السلام ) ونقل عن مجاهد وابن جريح وعطاء وابن زيد ، وفي بعضها انها الهدهد والصرد والطاووس والغراب ، رواه العياشي عن صالح بن سهل عن الصادق ( عليه السلام ) وفي بعضها : انها النعامة والطاووس والوزة والديك ، رواه العياشي عن معروف بن خربوذ عن الباقر ( عليه السلام ) ونقل عن ابن عباس ، وروي من طرق اهل السنة عن ابن عباس ايضا انها الغرنوق والطاووس والديك والحمامة ، والذي تشترك فيه جميع الروايات والا قوال : الطاووس.
  قوله ( عليه السلام ) : وفرقهن على عشرة جبال ، كون الجبال عشرة مما اتفقت عليه الاخبار المأثورة عن ائمة اهل البيت وقيل انها كانت اربعة وقيل سبعة.
  وفي العيون مسندا عن علي بن محمد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى فقال له المأمون : يا بن رسول الله أليس من قولك : ان الانبياء معصومون ؟ قال : بلى فسأله عن آيات من القرآن ، فكان فيما سأله ان قال له فأخبرني عن قول الله : رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ـ ولكن ليطمئن قلبي ، قال الرضا : ان الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى ابراهيم : اني متخذ من عبادي خليلا ان سألني احياء الموتى اجبته فوقع في قلب ابراهيم انه ذلك الخليل فقال : رب أرني كيف تحيي الموتى ؟ قال أو لم تؤمن ؟ قال بلى ولكن ليطمأن قلبي بالخلة ، الحديث.
  اقول : وقد تقدم في اخبار جنة آدم كلام في علي بن محمد بن الجهم وفي هذه الرواية التي رواها عن الرضا ( عليه السلام ) فارجع.
  واعلم : ان الرواية لا تخلو عن دلالة ما على ان مقام الخلة يستلزم استجابة الدعاء ، واللفظ يساعد عليه فإن الخلة هي الحاجة ، والخليل انما يسمى خليلا لان الصداقة إذا كملت رفع الصديق حوائجة إلى صديقه ، ولا معنى لرفعها مع عدم الكفاية والقضاء

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 381 _
  ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ـ 261 ، ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ـ 262 ، ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) ـ 263 ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ـ 264 ، ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ـ 265 ، ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ) ـ 266 ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) ـ 267 ، ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 382 _
  وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ـ 268 ، ( يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) ـ 269 ، ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) ـ 270 ، ( إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ـ 271 ، ( لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) ـ 272 ، ( لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) ـ 273 ، ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ـ 274.
  ( بيان )
  سياق الآيات من حيث اتحادها في بيان امر الانفاق ، ورجوع مضامينها واغراضها بعضها إلى بعض يعطي انها نزلت دفعة واحدة ، وهي تحث المؤمنين على الانفاق في سبيل الله تعالى ، فتضرب اولا مثلا لزيادته ونموه عند الله سبحانه : واحد بسبعمائة ، وربما زاد على ذلك بإذن الله ، وثانيا مثلا لكونه لا يتخلف عن شأنه على أي حال وتنهى عن الرياء في الانفاق وتضرب مثلا للانفاق ريائا لا لوجه الله ، وانه لا ينمو نمائا ولا يثمر أثرا ، وتنهي عن الانفاق بالمن والاذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم اجره ، ثم تأمر بأن يكون الانفاق من طيب المال لامن خبيثه بخلا وشحا ، ثم تعين

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 383 _
  المورد الذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله ، ثم تذكر ما لهذا الانفاق من عظيم الاجر عند الله.
  وبالجملة الآيات تدعو إلى الانفاق ، وتبين أولا وجهه وغرضه وهو ان يكون لله لا للناس ، وثانيا صورة عمله وكيفيته وهو ان لا يتعقبه المن والاذى ، وثالثا وصف مال الانفاق وهو ان يكون طيبا لا خبيثا ، ورابعا نعت مورد الانفاق وهو ان يكون فقيرا احصر في سبيل الله ، وخامسا ما له من عظيم الاجر عاجلا وآجلا .

( كلام في الانفاق )
  الانفاق من أعظم ما يهتم بأمره الاسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسل إليه بأنحاء التوسل ايجابا وندبا من طريق الزكاة والخمس والكفارات المالية وأقسام الفدية والانفاقات الواجبة والصدقات المندوبة ، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.
  وانما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة التي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد مالي من غيرهم ، ليقرب افقهم من افق اهل النعمة والثروة ، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله ايدي النمط الاوسط من الناس ، بالنهي عن الاسراف والتبذير ونحو ذلك.
  وكان الغرض من ذلك كله ايجاد حياة نوعية متوسطة متقاربة الا جزاء متشابهة الابعاض ، تحيى ناموس الوحدة والمعاضدة ، وتميت الارادات المتضادة واضغان القلوب ومنابت الاحقاد ، فإن القرآن يرى ان شأن الدين الحق هو تنظيم الحياة بشؤونها ، وترتيبها ترتيبا يتضمن سعادة الانسان في العاجل والاجل ، ويعيش به الانسان في معارف حقة ، واخلاق فاضلة ، وعيشة طيبة يتنعم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا ، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادة.
  ولا يتم ذلك إلا بالحياة الطيبة النوعية المتشابهة في طيبها وصفائها ، ولا يكون ذلك إلا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة ، ولا يكمل ذلك إلا بالجهات

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 384 _
  المالية والثروة والقنية ، والطريق إلى ذلك انفاق الافراد مما اقتنوه بكد اليمين وعرق الجبين ، فإنما المؤمنون إخوة ، والارض لله ، والمال ماله .
  وهذه حقيقة اثبتت السيرة النبوية على سائرها افضل التحية صحتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياته ( عليه السلام ) ونفوذ امره.
  وهي التي يتأسف عليها ويشكو انحراف مجريها أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) إذ يقول : وقد اصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا ، والشر فيه إلا اقبالا ، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعا ، فهذا أو ان قويت عدته وعمت مكيدته ـ وأمكنت فريسته ، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا؟ أو غنيا بدل نعمة الله كفرا ؟ أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا أو متمردا كأن باذنه عن سمع المواعظ وقرا ؟ ( نهج البلاغة ).
  وقد كشف توالي الايام عن صدق القرآن في نظريته هذه ـ وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالانفاق ومنع العالية عن الاتراف والتظاهر بالجمال ـ حيث ان الناس بعد ظهور المدنية الغربية استرسلوا في الاخلاد إلى الارض ، والافراط في استقصاء المشتهيات الحيوانية واستيفاء الهوسات النفسانية ، وأعدوا له ما استطاعوا من قوة ، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على ابواب اولي القوة والثروة ، ولم يبق بأيدي النمط الاسفل الا الحرمان ، ولم يزل النمط الاعلى يأكل بعضه بعضا حتى تفرد بسعادة الحياة المادية نزر قليل من الناس وسلب حق الحياة من الاكثرين وهم سواد الناس ، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقية من الطرفين ، كل يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر ، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين ، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين ، والتفاني بين الغني والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد ، ونشبت الحرب العالمية الكبرى ، وظهرت الشيوعية ، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الانساني ، وما يهدد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.
  ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الانفاق وانفتاح ابواب الرباء الذي سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الانفاق

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 385 _
  ويذكر ان في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم ، وقد كان جنينا أيام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الايام.
  وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ * فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ) الآيات الروم ـ 30 ـ 43 ، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والاسراء والانبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن ، سيأتي بيانها إنشاء الله.
  وبالجملة هذا هو السبب فيما يترائى من هذه الآيات أعني آيات الانفاق من الحث الشديد والتأكيد البالغ في أمره.
  قوله تعالى : ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ ) الخ ، المراد بسبيل الله كل أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض ديني فعل الفعل لاجله ، فإن الكلمة في الآية مطلقة ، وان كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله ، وكانت كلمة ، في سبيل الله ، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات ، فإن ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر .
  وقد ذكروا أن قوله تعالى : كمثل حبة أنبتت الخ ، على تقدير قولنا كمثل من زرع حبة أنبتت الخ فإن الحبة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الذي إنفق في سبيل

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 386 _
  الله لا مثل من إنفق وهو ظاهر .
  وهذا الكلام وإن كان وجيها في نفسه لكن التدبر يعطي خلاف ذلك فإن جل الامثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى : ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء ) البقرة ـ 171 ، فإنه مثل من يدعو الكفار لامثل الكفار ، وقوله تعالى : ( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ ) الآية يونس ـ 24 ، وقوله تعالى : ( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة ) النور ـ 35 ، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية : فمثله كمثل صفوان الآية : وقوله تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ) الآية إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.
  وهذه الامثال المضروبة في الآيات تشترك جميعا في أنها اقتصر فيها على مادة التمثيل الذي يتقوم بها المثل مع الاعراض عن باقي أجزاء الكلام للايجاز .
  توضيحه : أن المثل في الحقيقة قصة محققة أو مفروضة مشابهة لاخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصورها إلى كمال تصور الممثل كقولهم : لا ناقة لي ولا جمل ، وقولهم : في الصيف ضيعت اللبن من الامثال التي لها قصص محققة يقصد بالتمثيل تذكر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح ، ولذا قيل : إن الامثال لا تتغير ، وكقولنا : ( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ ) ، وهي قصة مفروضة خيالية .
  والمعنى الذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الذي يوزن به حال الممثل ربما كان تمام القصة التي هي المثل كما في قوله تعالى : ( وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ الآية ) إبراهيم ـ 26 ، وقوله تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة ـ 5 ، وربما كان بعض القصة مما يتقوم به غرض التمثيل وهو الذي نسميه مادة التمثيل ، وإنما جئ بالبعض الآخر لتتميم القصة كما في المثال الاخير ( مثال الانفاق والحبة ) فإن مادة التمثيل إنما هي الحبة المنبتة لسبعمأة حبة وإنما ضممنا إليها الذي زرع لتتميم القصة.
  وما كان من أمثال القرآن مادة التمثيل فيه تمام المثل فإنه وضع على ما هو عليه ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 387 _
  وما كان منها مادة التمثيل فيه بعض القصة فإنه اقتصر على مادة التمثيل فوضعت موضع تمام القصة لان الغرض من التمثيل حاصل بذلك ، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمرا ووجد انه أمرا آخر مقامه يفي بالغرض منه ، فهو هو بوجه وليس به بوجه ، فهذا من الايجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.
  قوله تعالى : ( أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ ) ، السنبل معروف وهو على فنعل ، قيل الاصل في معنى مادته الستر سمي به لانه يستر الحبات التي تشتمل عليها في الاغلفد.
  ومن اسخف الاشكال ما أورد على الآية أنه تمثيل بما لا تحقق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مأة حبة ، وفيه أن المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقق مضمونة في الخارج فالامثال التخيلية اكثر من ان تعد وتحصى ، على ان اشتمال السنبلة على مأة حبة وإنبات الحبة الواحدة سبعمأة حبة ليس بعزيز الوجود.
  قوله تعالى : والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ، أي يزيد على سبعمأة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدد لفضله كما قال تعالى : ( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ) البقرة ـ 245 ، فأطلق الكثرة ولم يقيدها بعدد معين .
  وقيل : إن معناه أن الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمأة ضعف غاية ما تدل عليه الآية ، وفيه ان الجملة على هذا يقع موقع التعليل ، وحق الكلام فيه حينئذ ان يصدر بإن كقوله تعالى : ( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ) المؤمن ـ 61 ، وأمثال ذلك.
  ولم يقيد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده ، فالمنفق بشيء من ماله وإن كان يخطر بباله ابتدائا أن المال قد فات عنه ولم يخلف بدلا ، لكنه لو تأمل قليلا وجد أن المجتمع الانساني بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الاسماء والاشكال لكنها جميعا متحدة في غرض الحياة ، مرتبطة من حيث الاثر والفائدة ، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحة والاستقامة ، وعى في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها ، وخسرانها في أغراضها

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 388 _
  فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهرا ، لكن الخلقة إنما جهز الانسان بالبصر ليميز به الاشياء ضوئا ولونا وقربا وبعدا فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الانسان لنفسه ، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه ، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الانسان ما يفوته من عامة فوائدها بسائر اعضائه فيقاسي أولا كدا وتعبا لا يتحمل عادة ، وينقص من أفعال سائر الاعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير ، وأما لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادخره لبعض الاعضاء الاخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع ، وعاد إليه من الفائدة الحقيقية أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافا ربما زاد على المآت والالوف بما يورث من إصلاح حال الغير ، ودفع الرذائل التي يمكنها الفقر والحاجة في نفسه ، وإيجاد المحبة في قلبه ، وحسن الذكر في لسانه ، والنشاط في عمله ، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة ، ولا سيما إذا كان الانفاق لدفع الحوائج النوعية كالتعليم والتربية ونحو ذلك ، فهذا حال الانفاق.
  وإذا كان الانفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلف ، فإن الانفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلا لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغني للفقير لدفع شره ، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه ، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه ، ربما أورث في نفس الفقير أثرا سيئا ، وربما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى ، لكن الانفاق الذي لايراد به إلا وجه الله ولا يبتغي فيه إلا مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثر إلا الجميل ولا يتعقبه إلا الخير .
  قوله تعالى : الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى الخ الاتباع اللحوق والالحاق ، قال تعالى : ( فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ ) الشعراء ـ 60 ، أي لحقوهم ، وقال تعالى : ( وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً ) القصص ـ 42 ، أي ألحقناهم.
  والمن هو ذكر ما ينغص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه : أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك ، والاصل في معناه على ما قيل القطع ، ومنه قوله تعالى : ( لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) فصلت ـ 8 ، أي غير مقطوع ، والاذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير ، والخوف توقع الضرر ، والحزن الغم الذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 389 _
  قوله تعالى : ( قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ) الخ المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة ، ويختلف باختلاف الموارد ، والاصل في معنى المغفرة هو الستر ، والغنى مقابل الحاجة والفقر ، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل .
  وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثم المقابلة يشهد بأن المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند رد السائل إذا لم يتكلم بما يسوء المسؤول عنه ، والستر والصفح إذا شفع سؤاله بما يسوئه وهما خير من صدقة يتبعها أذى ، فإن أذى المنفق للمنفق عليه يدل على عظم إنفاقه والمال الذي أنفقه في عينه ، وتأثره عما يسوئه من السؤال ، وهما علتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن ، فإن المؤمن متخلق بأخلاق الله ، والله سبحانه غني لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به ، حليم لا يتعجل في المؤاخذة على السيئة ، ولا يغضب عند كل جهالة ، وهذا معنى ختم الآية بقوله : ( وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ).
  قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم ) الخ تدل الآية على حبط الصدقة بلحوق المن والاذى ، وربما يستدل بها على حبط كل معصية أو الكبيرة خاصة لما يسبقها من الطاعات ، ولا دلالة في الآية على غير المن والاذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدم إشباع الكلام في الحبط.
  قوله تعالى : ( كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) ، لما كان الخطاب للمؤمنين ، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لانه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلق النهي بالرئاء كما علقه على المن والاذى ، بل انما شبه المتصدق الذي يتبع صدقته بالمن والاذى بالمرائي في بطلان الصدقة ، مع أن عمل المرائي باطل من رأس وعمل المان والمؤذي وقع أولا صحيحا ثم عرضه البطلان.
  واتحاد سياق الافعال في قوله : ينفق ماله ، وقوله : ولا يؤمن من دون أن يقال : ولم يؤمن يدل على أن المراد من عدم ايمان المرائي في الانفاق بالله واليوم الآخر عدم ايمانه بدعوة الانفاق الذي يدعو إليها الله سبحانه ، ويعد عليه جزيل الثواب ، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه ، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله ، وأحب واختار جزيل الثواب ، ولم يقصد به رئاء الناس ، فليس المراد من عدم ايمان المرائي عدم ايمانه بالله سبحانه رأسا.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 390 _
  ويظهر من الآية : ( ان الرياء في عمل يستلزم عدم الايمان بالله واليوم الآخر فيه ) ، قوله تعالى : ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ ) إلى آخر الآية ، الضمير في قوله : فمثله راجع إلى الذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له ، والصفوان والصفا الحجر الاملس وكذا الصلد ، والوابل : المطر الغزير الشديد الوقع.
  والضمير في قوله : لا يقدرون راجع إلى الذي ينفق رئائا لانه في معنى الجمع ، والجملة تبين وجه الشبه وهو الجامع بين المشبه والمشبه به ، وقوله تعالى : ( وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) بيان للحكم بوجه عام وهو ان المرائي في ريائه من مصاديق الكافر ، ( وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ، ولذلك أفاد معنى التعليل.
  وخلاصة معنى المثل : أن حال المرائي في إنفاقه رئائا وفي ترتب الثواب عليه كحال الحجر الاملس الذي عليه شيء من التراب إذا أنزل عليه وابل المطر ، فإن المطر وخاصة وابله هو السبب البارز لحياة الارض واخضر ارها وتزينها بزينة النبات ، إلا أن التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقر في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الذي لا يجذب الماء ، ولا يتربى فيه بذر لنبات ، فالوابل وإن كان من أظهر اسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحل صلدا يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.
  وهذا حال المرائي فإنه لما لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتب على عمله ثواب وإن كان العمل كالانفاق في سبيل الله من الاسباب البارزة لترتب الثواب ، فإنه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.
  وقد ظهر من الآية : أن قبول العمل يحتاج إلى نية الاخلاص وقصد وجه الله ، وقد روى الفريقان عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أنه قال : إنما الاعمال بالنيات .
  قوله تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ ) ، ابتغاء المرضات هو طلب الرضاء ، ويعود إلى إرادة وجه الله ، فإن وجه الشئ هو ما يواجهك ويستقبلك به ، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الذي امره بشيء واراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله ، فإن الآمر يستقبل المأمور اولا بالامر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه ، فمرضات الله عن العبد المكلف بتكليف هو وجهه إليه ، فابتغاء مرضاة

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 391 _
  الله هو ارادة وجهه عز وجل.
  واما قوله : وتثبيتا من انفسهم فقد قيل : إن المراد التصديق واليقين.
  وقيل : هو التثبت اي يتثبتون اين يضعون اموالهم ، وقيل : هو التثبت في الانفاق فإن كان لله امضى ، وان كان خالطه شيء من الرياء امسك ، وقيل : التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى ، وقيل : هو تمكين النفس في منازل الايمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله.
  وانت خبير بأن شيئا من الاقوال لا ينطبق على الآية إلا بتكلف .
  والذي ينبغي ان يقال ـ والله العالم ـ في المقام : هو ان الله سبحانه لما اطلق القول اولا في مدح الانفاق في سبيل الله ، وان له عند الله عظيم الاجر اعترضه ان استثنى منه نوعين من الانفاق لا يرتضيهما الله سبحانه ، ولا يترتب عليهما الثواب ، وهما الانفاق ريائا الموجب لعدم صحة العمل من رأس والانفاق الذي يتبعه من أو اذى فإنه يبطل بهما وان انعقد اولا صحيحا ، وليس يعرض البطلان ، لهذين النوعين الا من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس ، أو لزوال النفس عن هذه النية اعني ابتغاء المرضات ثانيا بعد ما كانت عليها اولا ، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصة من أهل الانفاق الخالصة بعد استثناء المرائين واهل المن والاذى ، وهم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ثم يقرون انفسهم على الثبات على هذه النية الطاهرة النامية من غير ان يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده .
  ومن هنا يظهر ان المراد بابتغاء مرضاة الله ان لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه مما يجعل النية غير خالصة لوجه الله ، وبقوله تثبيتا من انفسهم تثبيت الانسان نفسه على ما نواه من النية الخالصة ، وهو تثبيت ناش من النفس واقع على النفس.
  فقوله تثبيتا تميز وكلمة من نشوية وقوله انفسهم في معنى الفاعل ، وما في معنى المفعول مقدر .
  والتقدير تثبيتا من انفسهم لانفسهم ، أو مفعول مطلق لفعل من مادته .
  قوله تعالى : ( كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ ) إلى آخر الآية ، الاصل في مادة ربا الزيادة ، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الارض الجيدة التي تزيد وتعلو في نموها ، والاكل بضمتين ما يؤكل من الشئ والواحدة أكلة ، والطل اضعف المطر القليل الاثر.
  والغرض من المثل ان الانفاق الذي أريد به وجه الله لا يتخلف عن اثرها الحسن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 392 _
  البتة ، فإن العناية الالهية واقعة عليه متعلقة به لانحفاظ اتصاله بالله سبحانه وان كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النية في الخلوص ، واختلاف وزن الاعمال باختلافها ، كما ان الجنة التي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون ان تؤتي أكلها ايتائا جيدا البتة وإن كان ايتائها مختلفا في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطل.
  ولوجود هذا الاختلاف ذيل الكلام بقوله : ( وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) أي لا يشتبه عليه امر الثواب ، ولا يختلط عليه ثواب الاعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا .
  قوله تعالى : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) الخ ، الود هو الحب وفيه معنى التمني ، والجنة : الشجر الكثير الملتف كالبستان سميت بذلك لانها تجن الارض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه ، ولذلك صح ان يقال : تجري من تحتها الانهار ، ولو كانت هي الارض بما لها من الشجر مثلا لم يصح ذلك لافادته خلاف المقصود ، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الارض المعمورة : ( رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون ـ 50 ، وكرر في كلامه قوله : ( جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) فجعل المعين ( وهو الماء ) فيها لاجاريا تحتها .
  ومن في قوله : من نخيل وأعناب للتبيين ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب ، فإن الجنة والبستان وما هو من هذا القبيل إنما يضاف إلى الجنس الغالب فيقال جنة العنب أو جنة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتى ، ولذلك قال تعالى ثانيا : له فيها من كل الثمرات.
  والكبر كبر السن وهو الشيخوخة ، والذرية الاولاد ، والضعفاء جمع الضعيف ، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرية الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعية إلى الجنة المذكورة مع فقدان باقي الاسباب التي يتوصل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة ، فإن صاحب الجنة لو فرض شابا قويا لامكنه ان يستريح إلى قوة يمينه لو أصيبت جنته بمصيبة ، ولو فرض شيخا هرما من غير ذرية ضعفاء لم يسوء حاله تلك المسائة لانه لا يرى لنفسه إلا أياما قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها ، ولو فرض ذا كبر وله اولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة امكنهم ان يقتاتوا بما يكتسبونه ، وان يستغنوا عنها بوجه ! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرية

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 393 _
  الضعفاء ، واحترقت الجنة انقطعت الاسباب عنهم عند ذلك ، فلا صاحب الجنة يمكنه ان يعيد لنفسه الشباب والقوة أو الايام الخالية حتى يهيئ لنفسه نظير ما كان قد هيأها ، ولا لذريته قوة على ذلك ، ولا لهم رجاء ان ترجع الجنة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والاثمار.
  والاعصار الغبار الذي يلتف على نفسه بين السماء والارض كما يلتف الثوب على نفسه عند العصر.
  وهذا مثل ضربه الله للذين ينفقون أموالهم ثم يتبعونه منا وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى اعادة العمل الباطل إلى حال صحته واستقامته ، وانطباق المثل على الممثل ظاهر ، ورجا منهم التفكر لان امثال هذه الافاعيل المفسدة للاعمال انما تصدر من الناس ومعهم حالات نفسانية كحب المال والجاه والكبر والعجب والشح ، لا تدع للانسان مجال التثبت والتفكر وتميز النافع من الضار ، ولو تفكروا لتبصروا .
  قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ) الخ ، التيمم هو القصد والتعمد ، والخبيث ضد الطيب ، وقوله : منه ، متعلق بالخبيث ، وقوله : تنفقون حال من فاعل لاتيمموا ، وقوله : ولستم بآخذيه حال من فاعل تنفقون ، وعامله الفعل ، وقوله ان تغمضوا فيه في تأويل المصدر ، واللام مقدر على ما قيل والتقدير إلا لاغماضكم فيه ، أو المقدر باء المصاحبة والتقدير إلا بمصاحبة الاغماض.
  ومعنى الآية ظاهر ، وإنما بين تعالى كيفية مال الانفاق ، وانه ينبغي ان يكون من طيب المال لا من خبيثه الذي لا يأخذه المنفق إلا بإغماض ، فإنه لا يتصف بوصف الجود والسخاء ، بل يتصور بصورة التخلص ، فلا يفيد حبا للصنيعة والمعروف ولا كمالا للنفس ، ولذلك ختمها بقوله : واعلموا ان الله غني حميد أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيب المال ، أو انه غني محمود لا ينبغي ان تواجهوه بما لا يليق بجلاله جل جلاله .
  قوله تعالى : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء إقامة للحجة على ان اختيار خبيث المال للانفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيبه فإنه خير لهم ، ففي النهى مصلحة أمرهم كما ان في المنهى عنه مفسدة لهم ، وليس إمساكهم عن انفاق طيب

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 394 _
  المال وبذله إلا لما يرونه مؤثرا في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الاقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه ، وهذا من تسويل الشيطان يخوف أوليائه من الفقر ، مع ان البذل وذهاب المال والانفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مر ، مع ان الذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال ، قال تعالى : ( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ) النجم ـ 48.
  وبالجملة لما كان إمساكهم عن بذل طيب المال خوفا من الفقر خطأ نبه عليه بقوله : الشيطان يعدكم الفقر ، غير انه وضع السبب موضع المسبب ، أعني انه وضع وعد الشيطان موضع خوف انفسهم ليدل على انه خوف مضر لهم فإن الشيطان لا يأمر إلا بالباطل والضلال إما ابتدائا ومن غير واسطة ، وإما بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه انه حق .
  ولما كان من الممكن ان يتوهم ان هذا الخوف حق وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله : الشيطان يعدكم الفقر بقوله : ويأمركم بالفحشاء أولا ، فإن هذا الامساك والتثاقل منهم يهيئ في نفوسهم ملكة الامساك وسجية البخل ، فيؤدي إلى رد أوامر الله المتعلقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم ، ويؤدي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الاعسار والفقر والمسكنة التي فيه تلف النفوس وانهتاك الاعراض وكل جناية وفحشاء ، قال تعالى : ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون إلى ان قال : ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) التوبة ـ 79.
  ثم بإتباعه بقوله : ( وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ثانيا ، فإن الله قد بين للمؤمنين : ان هناك حقا وضلالا لا ثالث لهما ، وان الحق وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه ، وان الضلال من الشيطان ، قال تعالى : ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ) يونس ـ 32 ، وقال تعالى : ( قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ) يونس ـ 35 ، وقال تعالى في الشيطان : ( إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ) القصص ـ 15 ، والآيات جميعا مكية ، وبالجملة نبه تعالى بقوله : والله يعدكم ، بأن هذا الخاطر الذي يخطر ببالكم من جهة الخوف

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 395 _
  ضلال من الفكر فإن مغفرة الله والزيادة التي ذكرها في الآيات السابقة انما هما في البذل من طيبات المال.
  فقوله تعالى : والله يعدكم الخ ، نظير قوله : الشيطان يعدكم الخ ، من قبيل وضع السبب موضع المسبب ، وفيه القاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان ، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو اصلح لبالهم منهما .
  فحاصل حجة الآية : ان اختياركم الخبيث على الطيب انما هو لخوف الفقر ، والجهل بما يستتبعه هذا الانفاق ، أما خوف الفقر فهو القاء ، شيطاني ، ولا يريد الشيطان بكم الا الضلال والفحشاء فلا يجوز ان تتبعوه ، واما مايستتبعه هذا الانفاق فهو الزيادة والمغفرة اللتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة ، وهو استتباع بالحق لان الذي يعدكم استتباع الانفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حق ، وهو واسع يسعه ان يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئا ولا حالا من شيء فوعده وعد عن علم.
  قوله تعالى : يؤتي الحكمة من يشاء ، الايتاء هو الاعطاء ، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدل على نوع المعنى فمعناه النوع من الاحكام والاتقان أو نوع من الامر المحكم المتقن الذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور ، وغلب استعماله في المعلومات العقلية الحقة الصادقة التي لا تقبل البطلان والكذب البتة.
  والجملة تدل على ان البيان الذي بين الله به حال الانفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الاثر الصالح في حقيقة حياة الانسان هو من الحكمة ، فالحكمة هي القضايا الحقة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الانسان كالمعارف الحقة الالهية في المبدأ والمعاد ، والمعارف التي تشرح حقائق العالم الطبيعي من جهة مساسها بسعادة الانسان كالحقائق الفطرية التي هي أساس التشريعات الدينية.
  قوله تعالى : ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، المعنى ظاهر ، وقد أبهم فاعل الايتاء مع ان الجملة السابقة عليه تدل على انه الله تبارك وتعالى ليدل الكلام على ان الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبس بها يتضمن الخير الكثير ، لامن جهة انتساب اتيانه إليه تعالى ، فإن مجرد انتساب الاتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 396 _
  قال تعالى في قارون ( وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) إلى آخر الآيات القصص ـ 76 ، وانما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقا ، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الامر لان الامر مختوم بعناية الله وتوفيقه ، وامر السعادة مراعي بالعاقبة والخاتمة.
  قوله تعالى : ( وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) ، اللب هو العقل لانه في الانسان بمنزلة اللب من القشر ، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن ، وكأن لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الاسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنما استعمل منه الافعال مثل يعقلون.
  والتذكر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدماتها ، أو من الشئ إلى نتائجها ، والآية تدل على أن اقتناص الحكمة يتوقف على التذكر ، وأن التذكر يتوقف على العقل ، فلا حكمة لمن لا عقل له ،وقد مر بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الادراك المستعملة في القرآن الكريم.
  قوله تعالى : ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ ) ، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه ، ففيه إيماء إلى التهديد ، ويؤكده قوله تعالى : وما للظالمين من أنصار.
  وفي هذه الجملة أعني قوله : وما للظالمين من أنصار ، دلالة اولا : على أن المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الامساك عن الانفاق عليهم ، وحبس حقوقهم المالية ، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية فإن في مطلق المعصية أنصارا ومكفرات وشفعاء كالتوبة ، والاجتناب عن الكبائر ، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى ، قال تعالى : لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إلى ان قال : ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ ) الزمر ـ 54 ، وقال تعالى : ( إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُم )النساء ـ 31 ، وقال تعالى : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) الانبياء ـ 28 ، ومن هنا يظهر : وجه اتيان الانصار بصيغة الجمع فإن في مورد مطلق الظلم أنصارا.
  وثانيا : أن هذا الظلم وهو ترك الالنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 397 _
  لقبله فهو من الكبائر ، وأنه لا يقبل التوبة ، ويتأيد بذلك ما وردت به الروايات : أن التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلا برد الحق إلى مستحقه ، وأنه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدل عليه قوله تعالى : ( إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ) إلى أن قال : ( فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) المدثر ـ 48.
  وثالثا : أن هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلا لمن ارتضى الله دينه كما مر بيانه في بحث الشفاعة ، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى : ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله ، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.
  ورابعا : أن الامتناع من أصل انفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة ، وقد عد تعالى الامتناع عن بعض أقسامه كالزكاة شركا بالله وكفرا بالآخرة ، قال تعالى : ( وَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ) فصلت ـ 7 ، والسورة مكية ولم تكن شرعت الزكاة المعروفة عند نزولها.
  قوله تعالى : إن تبدوا الصدقات فنعما هي الخ ، الابداء هو الاظهار ، والصدقات جمع صدقة ، وهي مطلق الانفاق في سبيل الله أعم من الواجب والمندوب وربما يقال : إن الاصل في معناها الانفاق المندوب.
  وقد مدح الله سبحانه كلا من شقى الترديد ، لكون كل واحد من الشقين ذا آثار صالحة ، فأما اظهار الصدقة فإن فيه دعوة عملية إلى المعروف ، وتشويقا للناس إلى البذل والانفاق ، وتطييبا لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أن في المجتمع رجالا رحماء بحالهم ، وأموالا موضوعة لرفع حوائجهم ، مدخرة ليوم بؤسهم فيؤدي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم ، وحصول النشاط لهم في أعمالهم ، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الاغنياء المثرين ، وفي ذلك كل الخير ، وأما اخفائها فإنه حينئذ يكون أبعد من الرياء والمن والاذى ، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلة ، وصون لماء وجوههم عن الابتذال ، وكلائة لظاهر كرامتهم ، فصدقة العلن أكثر نتاجا ، وصدقة السر أخلص طهارة .
  ولما كان بناء الدين على الاخلاص وكان العمل كلما قرب من الاخلاص كان أقرب

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 398 _
  من الفضيلة رجح سبحانه جانب صدقة السر فقال : وان تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم فإن كلمة خير أفعل التفضيل ، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ في تمييز الخير من غيره ، وهو قوله تعالى : ( وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ).
  قوله تعالى : ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ، في الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكأن ما كان يشاهده رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من فعال المؤمنين في صدقاتهم من اختلاف السجايا بالاخلاص من بعضهم والمن والاذى والتثاقل في إنفاق طيب المال من بعض مع كونهم مؤمنين أوجد في نفسه الشريفة وجدا وحزنا فسلاه الله تعالى بالتنبيه على أن أمر هذا الايمان الموجود فيهم والهدى الذي لهم إنما هو إلى الله تعالى يهدي من يشاء إلى الايمان وإلى درجاته ، وليس يستند إلى النبي لا وجوده ولا بقائه حتى يكون عليه حفظه ، ويشنق من زواله أو ضعفه ، أو يسوئه ما آل إليه الكلام في هذه الآيات من التهديد والايعاد والخشونة.
  والشاهد على ما ذكرناه قوله تعالى : ، هداهم ، بالتعبير بالمصدر المضاف الظاهر في تحقق التلبس.
  على أن هذا المعنى أعني نفى استناد الهداية إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإسناده إلى الله سبحانه حيث وقع في القرآن وقع في مقام تسلية النبي وتطييب قلبه .
  فالجملة أعني قوله : ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء جملة معترضة اعترضت في الكلام لتطييب قلب النبي بقطع خطاب المؤمنين والاقبال عليه صلى الله عليه وآله ، نظير الاعتراض الواقع في قوله تعالى : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) الآيات القيمة ـ 17 ، فلما تم الاعتراض عاد إلى الاصل في الكلام من خطاب المؤمنين.
  قوله تعالى : ( وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ ) إلى آخر الآية رجوع إلى خطاب المؤمنين بسياق خال عن التبشير والانذار والتحنن والتغيظ معا ، فإن ذلك مقتضى معنى قوله تعالى : ( وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء ) كما لا يخفى ، فقصر الكلام على الدعوة الخالية بالدلالة على أن ساحة المتكلم الداعي منزهة عن الانتفاع بما يتعقب هذه الدعوة من المنافع ، وإنما يعود نفعه إلى المدعوين ، وما تنفقوا من خير فلانفسكم لكن لا مطلقا بل في حال لاتنفقون إلا ابتغاء وجه الله ، فقوله : ( وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ ) حال ، من ضمير الخطاب وعامله متعلق الظرف أعني قوله :

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 399 _
  فلانفسكم .
  ولما أمكن ان يتوهم ان هذا النفع العائد إلى أنفسهم ببذل المال مجرد اسم لا مسمى له في الخارج ، وليس حقيقته إلا تبديل الحقيقة من الوهم عقب الكلام بقوله : وما تنفقوا من خير يوف اليكم وانتم لا تظلمون ، فبين ان نفع هذا الانفاق المندوب وهو ما يترتب عليه من مثوبه الدنيا والآخرة ليس امرا وهميا ، بل هو أمر حقيقي واقعي سيوفيه الله تعالى اليكم من غير ان يظلكم بفقد أو نقص .
  وإبهام الفاعل في قوله : يوف اليكم ، لما تقدم أن السياق سياق الدعوة فطوي ، ذكر الفاعل ليكون الكلام ابلغ في النصح وانتفاء غرض الانتفاع من الفاعل كأنه كلام لا متكلم له ، فلو كان هناك نفع فلسامعه لا غير.
  قوله تعالى : ( لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) إلى آخر الآية ، الحصر هو المنع والحبس ، والاصل في معناه التضييق ، قال الراغب في المفردات : والحصر والاحصار المنع من طريق البيت ، فالاحصار يقال : في المنع الظاهر كالعدو ، والمنع الباطن كالمرض ، والحصر لا يقال ، إلا في المنع الباطن ، فقوله تعالى : فإن أحصرتم فمحمول على الامرين وكذلك قوله : ( لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) ، وقوله عز وجل : ( أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ) ، أي ضاقت بالبخل والجبن ، انتهى ، والتعفف التلبس بالعفة ، والسيماء العلامة ، والالحاف هو الالحاح في السؤال.
  وفي الآية بيان مصرف الصدقات ، وهو أفضل المصرف ، وهم الفقراء الذين منعوا في سبيل الله وحبسوا فيه بتأدية عوامل واسباب إلى ذلك : اما عدو اخذ ما لهم من الستر واللباس أو منعهم التعيش بالخروج إلى الاكتساب أو مرض أو اشتغال بما لا يسعهم معه الاشتغال بالكسب كطالب العلم وغير ذلك.
  وفي قوله تعالى يحسبهم الجاهل اي الجاهل بحالهم اغنياء من التعفف دلالة على انهم غير متظاهرين بالفقر إلا ما لا سبيل لهم إلى ستره من علائم الفقر والمسكنة من بشرة أو لباس خلق أو نحوهما.
  ومن هنا يظهر : ان المراد بقوله : لا يسألون الناس إلحافا انهم لا يسألون الناس اصلا حتى ينجر إلى الالحاف والاصرار في السؤال ، فإن السؤال أول مره يجوز للنفس

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 400 _
  الجزع من مرارة الفقر فيسرع إليها ان لا تصبر وتهم بالسؤال في كل موقف ، والالحاف على كل أحد ، كذا قيل ، ولا يبعد ان يكون المراد نفى الالحاف لا اصل السؤال ، ويكون المراد بالالحاف ما يزيد على القدر الواجب من إظهار الحاجة ، فإن مسمى الاظهار عند الحاجة المبرمة لا بأس به بل ربما صار واجبا ، والزائد عليه وهو الالحاف هو المذموم.
  وفي قوله تعالى : تعرفهم بسيماهم دون ان يقال تعرفونهم نوع صون لجاههم وحفظ لسترهم الذي تستروا به تعففا من الانهتاك فإن كونهم معروفين بالفقر عند كل أحد لا يخلو من هوان امرهم وظهور ذلهم، وأما معرفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحالهم بتوسمه من سيماهم ، وهو نبيهم المبعوث إليهم الرؤوف الحنين بهم فليس فيه كسر لشأنهم ، ولا ذهاب كرامتهم ، وهذا ـ والله أعلم ـ هو السر في الالتفات عن خطاب المجموع إلى خطاب المفرد.
  قوله تعالى : ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) إلى آخر الآية ، السر والعلانية متقابلان وهما حالان من ينفقون والتقدير مسرين ومعلنين ، واستيفاء الازمنة والاحوال في الانفاق للدلالة على اهتمام هؤلاء المنفقين في استيفاء الثواب ، وإمعانهم في ابتغاء مرضاة الله ، وإرادة وجهه ، ولذلك تدلى الله سبحانه منهم فوعدهم وعدا حسنا بلسان الرأفة والتلطف فقال : لهم أجرهم عند ربهم الخ.
  ( بحث روائي )
  في الدر المنثور في قوله تعالى : ( والله يضاعف لمن يشاء ) الآية ، اخرج ابن ماجه عن الحسن بن علي بن أبي طالب وابي الدرداء وابي هريرة وابي امامة الباهلي و عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله انه قال : ح ، واخرج ابن ماجه وابن ابي حاتم عن عمران بن حصين عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )قال : من ارسل بنفقة في سبيل الله واقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة الف درهم ثم تلا هذه الآية : ( وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء ).