وحيث كان الاجتماع متكئا في وجوده على الطبيعة جرى فيه أيضا نظير القانونين : أعني : قانوني تنازع البقاء ، والانتخاب وبقاء الامثل.
  فالاجتماع الكامل وهو الاجتماع المبني على اساس الاتحاد الكامل المحكم المرعي فيه حقوق الافراد : الفردية والاجتماعية أحق بالبقاء ، وغيره أحق بالفناء والانقراض ، والتجارب قاض ببقاء الامم الحية المراقبة لوظائفها الاجتماعية المحافظة على سلوك صراطها الاجتماعي ، وانقراض الامم بتفرق القلوب ، وفشو النفاق وشيوع الظلم والفساد وإتراف الكبراء وانهدام بنيان الجد فيهم ، والاجتماع يحاكي في ذلك الطبيعة كما ذكر.
  فالبحث في الآثار الارضية يوصلنا إلى وجود أنواع من الحيوان في العهود الاولية الارضية هي اليوم من الحيوانات المنقرضة الانواع كالحيوان المسمى برونتوساروس أو التي لم يبق من أنواعها إلا انموذجات يسيرة كالتمساح والضفدع ولم يعمل في إفنائها وانقراضها الا تنازع البقاء ، والانتخاب الطبيعي وبقاء الامثل ، وكذلك الانواع الموجودة اليوم لا تزال تتغير تحت عوامل التنازع والانتخاب ، ولا يصلح منها للبقاء إلا الامثل والاقوى وجودا ، ثم يجره حكم الوراثة إلى استمرار الوجود وبقاء النوع ، وعلى هذه الوتيرة كانت الانواع والتراكيب الموجودة في أصل تكونها فإنما هي أجزاء المادة المنبثة في الجو حدثت بتراكمها وتجمعها الكرات والانواع الحادثة فيها ، فما كان منها صالحا للبقاء بقي ثم توارث الوجود ، وما كان منها غير صالح لذلك لمنازعة ما هو أقوى منه معه فسد وانقرض ، فهذا ما ذكره علماء الطبيعة والاجتماع.
  وقد ناقضه المتأخرون بكثير من الانواع الضعيفة الوجود الباقية بين الانواع حتى اليوم ، وبكثير من اصناف الانواع النباتية والحيوانية فإن وقوع التربية بتأهيل كثير من انواع النبات والحيوان واخراجها من البرية والوحشية ، وسيرها بالتربية إلى جودة الجنس وكمال النوع مع بقاء البري والوحشي منها على الردائة ، وسيرهما إلى الضعف يوما فيوما ، واستقرار التوارث فيها على تلك الصفة ، كل ذلك يقضي بعدم اطراد القاعدتين أعني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي.
  ولذلك علل بعضهم هذه الصفة الموجودة بين الطبيعيات بفرضية اخرى ، وهي تبعية المحيط فالمحيط الموجود وهو مجموع العوامل الطبيعية تحت شرائط خاصة زمانية

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 302 _
  ومكانية يستدعي تبعية الموجود في جهات وجوده له ، وكذلك الطبيعة الموجودة في الفرد توجب تطبيق وجوده بالخصوصيات الموجودة في محيط حياته ، ولذلك كانت لكل نوع من الانواع التي تعيش في البر أو البحر أو في مختلف المناطق الارضية القطبية أو الاستوائية وغير ذلك ، من الاعضاء والادوات والقوى ما يناسب منطقة حياته وعيشته ، فمحيط الحياة هو الذي يوجب البقاء عند انطباق وجود الموجود بمقتضياته والزوال والفناء عند عدم انطباقه بمقتضياته ، فالقاعدتان ينبغي ان تنتزعا من هذا القانون أعنى : ان الاصل في قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي هو تبعية المحيط ، ففيما لا اطراد للقاعدتين لا ميحط مؤثر يوجب التأثير ، ولكن لقاعدة تبعية المحيط من النقض في اطرادها نظير ما للقاعدتين ، وقد فصلوها في مظانها .
  ولو كان تبعية المحيط تامة في تأثيرها ومطردة في حكمها كان من الواجب ان لا يوجد نوع أو فرد غير تابع ، ولا ان يتغير محيط في نفسه كما ان القاعدتين لو كانتا تامتين مطردتين في حكمهما وجب ان لا يبقى شيء من الموجودات الضعيفة الوجود مع القوية منها ولا ان يجري حكم التوارث في الاصناف الردية من النبات والحيوان.
  فالحق كما ربما اعترفت به الابحاث العلمية ان هذه القواعد على ما فيها من الصحة في الجملة غير مطردة .
  والنظر الفلسفي الكلي في هذا الباب : ان أمر حدوث الحوادث المادية سواء كان من حيث أصل وجودها أو التبدلات والتغيرات الحادثة في اطراف وجودها يدور مدار قانون العلية والمعلولية ، فكل موجود من الموجودات المادية بما لها من الصورة الفعالة لنفع وجوده يوجه أثره إلى غيره ليوجد فيه صورة تناسب صورة نفسه ، وهذه حقيقة لا محيص عن الاعتراف بها عند التأمل في حال الموجودات بعضها مع بعض ، ويستوجب ذلك ان ينقص كل من كل لنفع وجود نفسه فيضم ما نقصه إلى وجود نفسه بنحو ، ولازم ذلك ان يكون كل موجود فعالا لابقاء وجوده وحياته ، وعلى هذا صح ان يقال : إن بين الموجودات تنازعا في البقاء ، وكذلك لازم التأثير العلي ان يتصرف الاقوى في الاضعف بإفنائه لنفع نفسه أو بتغييره بنحو ينتفع به لنفسه ، وبذلك يمكن ان يوجه القانونان أعني : الانتخاب الطبيعي وتبعية المحيط ، فإن النوع لما كان تحت

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 303 _
  تأثير العوامل المضادة فإنما يمكنه ان يقاومها إذا كان قوي الوجود قادرا على الدفاع عن نفسه ، وكذلك الحال في افراد نوع واحد ، إنما يصلح للبقاء منها ما قوي وجوده قبال المنافيات والاضداد التي تتوجه إليه ، وهذا هو الانتخاب الطبيعي وبقاء الامثل ، وكذا إذا اجتمعت عدة كثيرة من العوامل ثم اتحدت اكثرها أو تقاربت من حيث العمل فلا بد ان يتأثر منها الموجود الذي توسط بينها الاثر الذي يناسب عملها ، وهذا هو تبعية المحيط.
  ومما يجب ان يعلم : ان أمثال هذه النواميس أعني : تبعية المحيط وغيرها إنما يؤثر فيما صح ان يؤثر ، في عوارض وجود الشئ ولواحقه ، واما نفس الذات بأن يصير نوعا آخر فلا ، لكن القوم حيث كانوا لا يقولون بوجود الذات الجوهري بل يبنون البحث على ان كل موجود مجموع من العوارض المجتمعة الطارئة على المادة ، وبذلك يمتاز نوع من نوع ، وبالحقيقة لانوع جوهرة يباين نوعا جوهريا آخر ، بل جميع الانواع تتحلل إلى المادة الواحدة نوعا المختلفة بحسب التراكيب المتنوعة ، ومن هنا تراهم يحكمون بتبدل الانواع وبتبعية المحيط أو تأثير سائر العوامل الطبيعية ولا يبالون بتبدل الذات فيها ، وللبحث ذيل ممتد سيمر بك انشاء الله تفصيل القول فيه.
  ونرجع إلى أول الكلام فنقول : ذكر بعض المفسرين : ان قوله تعالى ، ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ) الآية اشارة إلى قانوني تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي.
  قال : ويقرر ذلك قوله تعالى : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) الحج ـ 41 ، فهذا ارشاد إلى تنازع البقاء والدفاع عن الحق ، وانه ينتهى ببقاء الامثل وحفظ الافضل.
  ومما يدل على هذه القاعدة من القرآن المجيد قوله تعالى : ( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 304 _
  أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) الرعد ـ 17 ، فهو يفيد ان سيول الحوادث وميزان التنازع تقذف زبد الباطل الضار في الاجتماع وتدفعه وتبقى ابليز (1) الحق النافع الذي ينمو فيه العمران ، وابريز المصلحة التي يتحلى به الانسان ، انتهى.
  أقول : أما ان قاعدة تنازع البقاء وكذا قاعدة الانتخاب الطبيعي ( بالمعنى الذي مر بيانه ) حق في الجملة ، وان القرآن يعتني بهما فلا كلام فيه ، لكن هذين الصنفين الذين أوردهما من الآيات غير مسوقين لبيان شيء من القاعدتين ، فإن الصنف الاول من الآيات مسوق لبيان ان الله سبحانه غير مغلوب في أرادته ، وان الحق وهو الذي يرتضيه الله من المعارف الدينية غير مغلوب ، وان حامله إذا حمله على الحق والصدق لم يكن مغلوبا ألبتة ، وعلى ذلك يدل قوله تعالى أولا : ( بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ) ، وقوله تعالى ثانيا : ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) ، فان الجملتين في مقام بيان ان المؤمنين سيغلبون اعدائهم لا لمكان التنازع وبقاء الامثل الاقوى ، فإن الامثل والاقوى عند الطبيعة هو الفرد القوي في تجهيزه الطبيعي دون القوي من حيث الحق والامثل بحسب المعنى ، بل سيغلبون لانهم مظلومون ظلموا على قول الحق والله سبحانه حق وينصر الحق في نفسه ، بمعنى ان الباطل لا يقدر على ان يدحض حجة الحق إذا تقابلا ، وينصر حامل الحق إذا كان صادقا في حمله كما ذكره الله بقوله : ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ ) الخ ، أي هم صادقون في قولهم الحق وحملهم إياه ثم ختم الكلام بقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) ، يشير به إلى عدة آيات تفيد ان الكون يسير في طريق كماله إلى الحق والصدق والسعادة الحقيقية ، ولاريب أيضا في دلالة القرآن على ان الغلبة لله ولجنده البتة كما يدل عليه قوله : ( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة ـ 21 ، وقوله تعالى : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ

--------------------
(1) الابليز : الطين الذي يأتي به النيل في ايام الطغيان ، والابريز الذهب الخالص المصفى وهما كلمتان معربتان أصلهما آب أو ليز أو آب ليس د ، وآب ريز.


الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 305 _
  الْغَالِبُونَ ) الصافات ـ 173 ، وقوله تعالى : ( والله غالب على أمره ) يوسف ـ 21.
  وكذا الآية الثانية التي أوردها أعني قوله تعالى : أنزل من السماء مائا فسالت أودية بقدرها ( الخ ) ، مسوقة لبيان بقاء الحق وزهوق الباطل سواء كان على نحو التنازع كما في الحق والباطل الذين هما معا من سنخ الماديات والبقاء بينهما بنحو التنازع ، أو لم يكن على نحو التنازع ، والمضادة كما في الحق والباطل الذين هما بين الماديات والمعنويات فإن المعنى ، ونعني به الموجود المجرد عن المادة ، مقدم على المادة غير مغلوب في حال اصلا ، فالتقدم والبقاء للمعنى على الصورة من غير تنازع ، وكما في الحق والباطل الذين هما معا من سنخ المعنويات والمجردات ، وقد قال تعالى : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) طه ـ 111 ، وقال تعالى : ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) البقرة ـ 116 ، وقال تعالى : ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) النجم ـ 42 ، فهو تعالى ، غالب على كل شيء ، وهو الواحد القهار.
  وأما الآية التي نحن فيها أعني قوله تعالى : ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ) الآية ، فقد عرفت انها في مقام الاشارة إلى حقيقة يتكى عليه الاجتماع الانساني الذي به عمارة الارض ، وباختلاله يختل العمران وتفسد الارض ، وهي غريزة الاستخدام الذي جبل عليه الانسان ، وتأديتها إلى التصالح في المنافع أعني التمدن والاجتماع التعاوني ، وهذا المعنى وإن كان بعض أعراقه واصوله التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعي ، لكنه مع ذلك هو السبب القريب الذي يقوم عليه عمارة الارض ومصونيتها عن الفساد ، ( فينبغي ان تحمل ) الآية التي تريد إعطاء السبب في عدم طروق الفساد على الارض عليه لا على ما ذكر من القاعدتين.
  وبعبارة أخرى واضحة : القاعدتان وهما التنازع في البقاء والانتخاب الطبيعي توجبان انحلال الكثرة وعودتها إلى الواحدة فإن كلا من المتناز عين يريد بالنزاع إفناء الآخر وضم ما له من الوجود ومزاياه إلى نفسه ، والطبيعة بالانتخاب تريد ان يكون الواحد الذي هو الباقي منهما أقويهما وأمثلهما فنتيجة جريان القاعدتين فساد الكثرة وبطلانها وتبدلها إلى واحد أمثل ، وهذا أمر ينافي الاجتماع والتعاون والاشتراك في الحياة الذي يطلبه الانسان بفطرته ويهتدي إليه بغريزته وبه عمارة الارض بهذا النوع ، لا إفناء قوم منه قوما ، وأكل بعضهم بعضا ، والدفع الذي تعمر به الارض ويصان

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 306 _
  عن الفساد هو الدفع الذي يدعو إلى الاجتماع والاتحاد المستقر على الكثرة والجماعة دون الدفع الذي يدعو إلى إبطال الاجتماع وإيجاد الوحدة المفنية للكثرة ، فالقتال سبب لعمارة الارض وعدم فسادها من حيث أنه يحيى به حقوق اجتماعية حيوية لقوم مستهلكين مستذلين لا من حيث يتشتت به الجمع ويهلك به العين ويمحى به الاثر فافهم.

( بحث في التاريخ وما يعتنى به القرآن منه )
  التاريخ النقلي ونعني به ضبط الحوادث الكلية والجزئية بالنقل والحديث مما لم يزل الانسان من أقدم عهود حياته وأزمان وجوده في الارض مهتما به ، ففي كل عصر من الاعصار على ما نعلمه عدة من حفظته أو كتابه والمؤلفين فيه ، وآخرون يعتورون ما ضبطه أولئك ويأخذون ما اتحفوهم به ، والانسان ينتفع به في جهات شتى من حياته كالاجتماع والاعتبار والقص والحديث والتفكه وامور اخرى سياسية أو اقتصادية أو صناعية وغير ذلك.
  وإنه على شرافته وكثرة منافعه لم يزل ولا يزال يعمل فيه عاملان بالفساد يوجبان انحرافه عن صحة الطبع وصدق البيان إلى الباطل والكذب :
  أحدهما : انه لا يزال في كل عصر محكوما للحكومة الحاضرة التي بيدها القوة والقدرة يميل إلى اظهار ما ينفعها ويغمض عما يضرها ويفسد الامر عليها ، وليس ذلك إلا ما لانشك فيه ان الحكومات المقتدرة في كل عصر تهتم بإفشاء ما تنتفع به من الحقائق وستر ما تستضر به أو تلبيسها بلباس تنتفع به أو تصوير الباطل والكذب بصورة الحق والصدق ، فإن الفرد من الانسان والمجتمع منه مفطوران على جلب النفع ودفع الضرر بأي نحو أمكن ، وهذا أمر لا يشك فيه من له أدنى شعور يشعر به الاوضاع العامة الحاضرة في زمان حياته ويتأمل به في تاريخ الامم الماضية والبعيدة.
  وثانيهما : ان المتحملين للاخبار والناقلين لها والمؤلفين فيها جميعهم لا يخلون من اعمال الاحساسات الباطنية والعصبيات القومية فيما يتحملون منها أو يقضون فيها ، فإن حملة الاخبار في الماضين ، والحكومة في أعصارهم حكومة الدين ، كانوا منتحلين بنحلة ومتدينين كل بدين ، وكانت الاحساسات المذهبية فيهم قوية والعصبيات القومية

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 307 _
  شديدة فلا محالة كانت تداخل الاخبار التاريخية من حيث اشتمالها على احكام وأقضية كما ان العصبية المادية والاحساسات القوية اليوم للحرية على الدين وللهوى على العقل يوجب مداخلات من اهل الاخبار اليوم نظير مداخلات القدماء فيما ضبطوه أو نقلوه ، ومن هنا انك لا ترى أهل دين ونحلة فيما ألف أو جمع من الاخبار أودع شيئا يخالف مذهبه فما ضبطه اهل كل مذهب موافق لاصول مذهبه ، وكذا الامر في النقل اليوم لا ترى كلمة تاريخية عملته أيديهم الا وفيه بعض التأييد للمذهب المادي.
  على ان هيهنا عوامل اخرى تستدعي فساد التاريخ ، وهو فقدان وسائل الضبط والاخذ والتحمل والنقل والتأليف والحفظ عن التغير والفقدان سابقا وهذه النقيصة وان ارتفعت اليوم بتقارب البلاد وتراكم وسائل الاتصال وسهولة نقل الاخبار والانتقال والتحول لكن عمت البلية من جهة اخرى وهي : ان السياسة داخلت جميع شؤن الانسان في حياته ، فالدنيا اليوم تدور مدار السياسة الفنية ، وبحسب تحولها تتحول الاخبار من حال إلى حال ، وهذا مما يوجب سوء الظن بالتاريخ حتى كاد ان يورده مورد السقوط ، ووجود هذه النواقص أو النواقض في التاريخ النقلي هو السبب أو عمدة السبب في اعراض العلماء اليوم عنه إلى تأسيس القضايا التاريخية على اساس الآثار الارضية ، وهذا وان سلمت عن بعض الاشكالات المذكورة كالاول مثلا ، لكنها غير خالية عن الباقي ، وعمدته مداخلة المؤرخ بما عنده من الاحساس والعصبية في الاقضية ، وتصرف السياسة فيها افشائا وكتمانا وتغييرا وتبديلا ، فهذا حال التاريخ وما معه من جهات الفساد الذي لا يقبل الاصلاح أبدا.
  ومن هنا يظهر : ان القرآن الشريف لا يعارض في قصصه بالتاريخ إذا خالفه ، فإنه وحي الهي منزه عن الخطأ مبرئ عن الكذب ، فلا يعارضه من التاريخ مالا مؤمن له يؤمنه من الكذب والخطأ ، فاغلب القصص القرآنية ( كنفس هذه القصة قصة طالوت ) يخالف ما يوجد في كتب العهدين ، ولا ضير فيه فإن كتب العهدين لا تزيد على التواريخ المعمولة التي قد علمت كيفية تلاعب الايدي فيها وبها ، على ان مؤلف هذه القصة وهي قصة صموئيل وشارل بلسان العهدين ، غير معلوم الشخص أصلا ، وكيف كان فلا نبالي بمخالفة القرآن لما يوجد منافيا له في التواريخ وخاصة في كتب العهدين ، فالقرآن هو الكلام الحق من الحق عز اسمه.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 308 _
  على ان القرآن ليس بكتاب تاريخ ولا أنه يريد في قصصه بيان التاريخ على حدما يرومه كتاب ، التاريخ وإنما هو كلام إلهي مفرغ في قالب الوحي يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، ولذلك لا تراه يقص قصة بتمام أطرافها وجهات وقوعها ، وإنما يأخذ من القصة نكات متفرقة يوجب الامعان والتأمل فيها حصول الغاية من عبرة أو حكمة أو موعظة أو غيرها ، كما هو مشهود في هذه القصة قصة طالوت وجالوت حيث يقول تعالى : ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل ، ثم يقول : وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا ( الخ ) ، ثم يقول : وقال لهم نبيهم : إن آية ملكه ، ثم يقول : فلما فصل طالوت ( الخ ) ، ثم يقول فلما برزوا لجالوت ، ومن المعلوم ان اتصال هذه الجمل بعضها إلى بعض في تمام الكلام يحتاج إلى قصة طويلة ، وقد نبهناك بمثله فيما مر من قصة البقرة وهو مطرد في جميع القصص المقتصة في القرآن ، لا يختص بالذكر منها إلا مواضع الحاجة فيها ، من عبرة وموعظة وحكمة أو سنة إلهية في الايام الخالية والامم الدارجة ، قال تعالى : ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ) يوسف ـ 111 ، وقال تعالى : ( يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ) النساء ـ 26 ، وقال تعالى : ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) آل عمران ـ 138 ، إلى غير ذلك من الآيات.
  ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ـ 254.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 309 _
  ( بيان )
  سياق هاتين الآيتين لا يبعد كل البعد من سياق الآيات السابقة التي كانت تأمر بالجهاد وتندب إلى الانفاق ثم تقص قصة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون ، وقد ختمت القصة بقوله تعالى : وانك لمن المرسلين الآية ، وافتتحت هاتان الآيتان بقوله : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ، ثم ترجع إلى شأن قتال أمم الانبياء بعدهم ، وقد قال في القصة السابقة أعني : قصة طالوت : ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى ، فأتى بقوله : من بعد موسى ، قيدا ، ثم ترجع إلى الدعوة إلى الانفاق من قبل ان يأتي يوم ، فهذا كله يؤيد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات السابقة ، والجميع نازلة معا .
  وبالجملة الآية في مقام دفع ما ربما يتوهم : ان الرسالة وخاصة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البينات الدالة على حقية الرسالة ينبغي ان يختم بها بلية القتال : إما من جهة أن الله سبحانه لما أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية والاخروية بارسال الرسل وإيتاء الآيات البينات كان من الحري أن يصرفهم عن القتال بعد ، ويجمع كلمتهم على الهداية فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الانبياء في أممهم وخاصة بعد انتشار دعوة الاسلام الذي يعد الاتحاد والاتفاق من أركان أحكامه واصول قوانينه ؟ وإما من جهة أن إرسال الرسل وإيتاء بينات الآيات للدعوة إلى الحق لغرض الحصول على ايمان القلوب ، والايمان من الصفات القلبية التي لا توجد في القلب عنوة وقهرا فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوة ؟ وهذا هو الاشكال الذي تقدم تقريره والجواب عنه في الكلام على آيات القتال.
  والذي يجيب تعالى به : أن القتال معلول الاختلاف الذي بين الامم إذ لولا وجود الاختلاف لم ينجر أمر الجماعة إلى الاقتتال ، فعلة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم ولو شاء لله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأسا ، ولو شاء لاعقم هذا السبب بعد وجوده لكن الله سبحانه يفعل ما يريد ، وقد أراد جري الامور على سنة الاسباب ، فوجد الاختلاف فوجد القتال فهذا إجمال ما تفيده الآية.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 310 _
  قوله تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) ، إشارة إلى فخامة امر الرسل وعلو مقامهم ولذلك جئ في الاشارة بكلمة تلك الدالة على الاشارة إلى بعيد ، وفيه دلالة على التفضيل الالهي الواقع بين الانبياء ( عليهم السلام ) ففيهم من هو افضل وفيهم من هو مفضل عليه ، وللجميع فضل فإن الرسالة في نفسها فضيلة وهي مشتركة بين الجميع ، ففيما بين الرسل أيضا اختلاف في المقامات وتفاوت في الدرجات كما أن بين الذين بعدهم اختلافا على ما يدل عليه ذيل الآية إلا ان بين الاختلافين فرقا ، فإن الاختلاف بين الانبياء اختلاف في المقامات وتفاضل في الدرجات مع اتحادهم في أصل الفضل وهو الرسالة ، واجتماعهم في مجمع الكمال وهو التوحيد ، وهذا بخلاف الاختلاف الموجود بين امم الانبياء بعدهم فإنه اختلاف بالايمان والكفر ، والنفى والاثبات ، ومن المعلوم أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف ، ولذلك فرق تعالى بينهما من حيث التعبير فسمى ما للانبياء تفضيلا ونسبه إلى نفسه ، وسمى ما عند الناس بالاختلاف ونسبه إلى أنفسهم ، فقال في مورد الرسل فضلنا ، وفي مورد أممهم اختلفوا.
  ولما كان ذيل الآية متعرضا لمسألة القتال مرتبطا بها والآيات المتقدمة على الآية أيضا راجعة إلى القتال بالامر به والاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه القطعة من الكلام أعني قوله تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا إلى قوله بِرُوحِ الْقُدُسِ مقدمة لتبيين ما في ذيل ) الآية من قوله : ( وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم ) إلى قوله تعالى : ولكن الله يفعل ما يريد .
  وعلى هذا فصدر الآية لبيان أن مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل ( عليهم السلام ) مقام تنمو فيه الخيرات والبركات ، وتنبع فيه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى كالتكليم الالهي وإيتاء البينات والتأييد بروح القدس ، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم.
  وبعبارة أخرى محصل معنى الآية أن الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام تنمو فيه الخيرات كلما انعطفت إلى جانب منه وجدت فضلا جديدا ، وكلما ملت إلى نحو من انحائه ألفيت غضا طريا ، وهذا المقام على ما فيه من البهاء والسناء والاتيان بالآيات البينات لايتم به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر والايمان ، فإن هذا الاختلاف إنما يستند إلى انفسهم ، فهم انفسهم اوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى في موضع

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 311 _
  آخر : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) آل عمران ـ 19 ، وقد مر بيانه في قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة ـ 213 ، ولو شاء الله لمنع من هذا القتال الواقع بعدهم منعا تكوينيا ، لكنهم اختلفوا فيما بينهم بغيا وقد اجرى الله في سنة الايجاد سببية ومسببية بين الاشياء والاختلاف من علل التنازع ، ولو شاء الله تعالى لمنع من هذا القتال منعا تشريعيا أو لم يأمر به ؟ ولكنه تعالى أمر به وأراد بأمره البلاء والامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن الكاذبين.
  وبالجملة القتال بين أمم الانبياء بعدهم لا مناص عنه لمكان الاختلاف عن بغي ، والرسالة وبيناتها إنما تدحض الباطل وتزيل الشبه.
  وأما البغي واللجاج وما يشابههما من الرذائل فلا سبيل إلى تصفية الارض منها ، وإصلاح النوع فيها إلا القتال ، فإن التجارب يعطي ان الحجة لم تنجح وحدها قط إلا إذا شفع بالسيف ، ولذلك كان كلما اقتضت المصلحة امر الله سبحانه بالقيام للحق والجهاد في سبيل الله كما في عهد إبراهيم وبني إسرائيل ، وبعد بعثة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد مر بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير آيات القتال سابقا .
  قوله تعالى : ( مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) ، في الجملتين التفات من الحضور إلى الغيبة ، والوجه فيه ـ والله اعلم ـ ان الصفات الفاضلة على قسمين : منها ما هو بحسب نفس مدلول الاسم يدل على الفضيلة كالآيات البينات ، وكالتأييد بروح القدس كما ذكر لعيسى ( عليه السلام ) فإن هذه الخصال بنفسها غالية سامية ، ومنها : ما ليس كذلك ، وإنما يدل على الفضيلة ويستلزم المنقبة بواسطة الاضافة كالتكليم ، فإنه لا يعد في نفسه منقبة وفضيلة إلا أن يضاف إلى شيء فيكتسب منه البهاء والفضل كإضافته إلى الله عز اسمه ، وكذا رفع الدرجات لا فضيلة فيه بنفسه إلا ان يقال : رفع الله الدرجات مثلا فينسب الرفع إلى الله ، إذا عرفت هذا علمت : أن هذا هو الوجه في الالتفات من الحضور إلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث حيث قال تعالى : فمنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات ، فحول وجه الكلام من التكلم إلى الغيبة في الجملتين الاوليين حتى إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الاول وهو التكلم فقال تعالى : ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ).

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 312 _
  وقد اختلف المفسرون في المراد من الجملتين من هو ؟ فقيل المراد بمن كلم الله : موسى ( عليه السلام ) لقوله تعالى : ( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) النساء ـ 164 ، وغيره من الآيات ، وقيل المراد به رسول الله محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما كلمه الله تعالى ليلة المعراج حيث قربه إليه تقريبا سقطت به الوسائط جملة فكلمة بالوحي من غير واسطة ، قال تعالى : ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) النجم ـ 10 ، وقيل المراد به الوحي مطلقا لان الوحي تكليم خفي ، وقد سماه الله تعالى تكليما حيث قال : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ) الآية الشورى ـ 51 ، وهذا الوجه لا يلائم من التبعيضية التي في قوله تعالى : منهم من كلم الله.
  والاوفق بالمقام كون المراد به موسى ( عليه السلام ) لان تكليمه هو المعهود من كلامه تعالى النازل قبل هذه السورة المدنية ، قال تعالى : ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه إلى أن قال : قال يا موسى : ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي ) الاعراف ـ 143 ، وهي آية مكية فقد كان كون موسى مكلما معهودا عند نزول هذه الآية.
  وكذا في قوله : ورفع بعضهم درجات ، قيل المراد به محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لان الله رفع درجته في تفضيله على جميع الرسل ببعثته إلى كافه الخلق كما قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ ) السباء ـ 28 ، وبجعله رحمة للعالمين كما قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الانبياء ـ 107 ، وبجعله خاتما للنبوة كما قال تعالى : ( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) الاحزاب ـ 40 ، وبإيتائه قرآنا مهيمنا على جميع الكتب وتبيانا لكل شيء ومحفوظا من تحريف المبطلين ، ومعجزا باقيا ببقاء الدنيا كما قال تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ) المائدة ـ 48 ، وقال تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) النحل ـ 89 ، وقال تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر ـ 9 ، وقال تعالى : ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الاسراء ـ 88 ، وباختصاصه بدين قيم يقوم على جميع مصالح الدنيا والآخرة ، قال تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ) الروم ـ 43 ، وقيل المراد به ما رفع الله من درجة غير واحد من الانبياء كما يدل عليه قوله تعالى في نوح : ( سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) الصافات ـ 79 ، وقوله تعالى في ابراهيم ( عليه السلام ) : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 313 _
  فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) البقرة ـ 124 ، وقوله تعالى فيه ( وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) الشعراء ـ 84 ، وقوله تعالى في إدريس ( عليه السلام ) ( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا ) مريم ـ 57 ، وقوله تعالى في يوسف : ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء ) يوسف ـ 76 ، وقوله في داود ( عليه السلام ) : ( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) النساء ـ 163 إلى غير ذلك من مختصات الانبياء.
  وكذا قيل : إن المراد بالرسل في الآية هم الذين اختصوا بالذكر في سورة البقرة كإبراهيم وموسى وعيسى وعزير وأرميا وشموئيل وداود ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد ذكر موسى وعيسى من بينهم وبقي الباقون ، فالبعض المرفوع الدرجة هو محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالنسبة إلى الباقين ، وقيل : ( لما كان المراد بالرسل في ) الآية هم الذين ذكرهم الله قبيل الآية في القصة وهم موسى وداود وشموئيل ومحمد ، وقد ذكر ما اختص به موسى من التكليم ثم ذكر رفع الدرجات وليس له إلا محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويمكن أن يوجه التصريح باسم عيسى على هذا القول : بأن يقال : أن الوجه فيه عدم سبق ذكره ( عليه السلام ) فيمن ذكر من الانبياء في هذه الايات.
  والذي ينبغى أن يقال : أنه لا شك أن ما رفع الله به درجة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مقصود في الآية غير أنه لا وجه لتخصيص الآية به ، ولا بمن ذكر في هذه الآيات أعني أرميا وشموئيل وداود ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولا بمن ذكر في هذه السورة من الانبياء فإن كل ذلك تحكم من غير وجه ظاهر ، بل الظاهر من إطلاق الآية شمول الرسل لجميع الرسل ( عليهم السلام ) وشمول البعض فيقوله تعالى : ورفع بعضهم درجات : لكل من انعم الله عليه منهم برفع الدرجة.
  وما قيل : أن الاسلوب يقتضي كون المراد به محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لان السياق في بيان العبرة للامم التي تقتتل بعد رسلهم مع كون دينهم دينا واحدا ، والموجود منهم اليهود والنصارى والمسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر ، وقد ذكر منهم موسى وعيسى بالتفصيل في الآية ، فتعين أن يكون البعض الباقي محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  فيه : أن القرآن يقضي بكون جميع الرسل رسلا إلى جميع الناس ، قال تعالى : ( لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ) البقرة ـ 136 ، فإتيان الرسل جميعا بالآيات البينات كان

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 314 _
  ينبغي أن يقطع دابر الفساد والقتال بين الذين بعدهم لكن اختلفوا بغيا بينهم فكان ذلك اصلا يتفرع عليه القتال فأمر الله تعالى به حين تقتضيه المصلحة ليحق الحق بكلماته ويقطع دابر المبطلين ، فالعموم وجيه في الآية.

( كلام في الكلام )
  ثم إن قوله تعالى : منهم من كلم الله ، يدل على وقوع التكليم منه لبعض الناس في الجملة أي أنه يدل على وقوع أمر حقيقي من غير مجاز وتمثيل وقد سماه الله في كتابه بالكلام ، سواء كان هذا الاطلاق اطلاقا حقيقيا أو اطلاقا مجازيا ، فالبحث في المقام من جهتين :
  الجهة الاولى : أن كلامه تعالى يدل على أن ما خص الله تعالى به أنبيائه ورسله من النعم التي تخفى على ادراك غيرهم من الناس مثل الوحي والتكليم ونزول الروح والملائكة ومشاهدة الآيات الالهية الكبرى ، أو أخبرهم به كالملك والشيطان واللوح والقلم وسائر الآيات الخفية على حواس الناس ، كل ذلك أمور حقيقية واقعية من غير مجاز في دعاويهم مثل أن يسموا القوى العقلية الداعية إلى الخير ملائكة ، وما تلقيه هذه القوى إلى ادراك الانسان بالوحي ، والمرتبة العالية من هذه القوى وهي التي تترشح منها الافكار الطاهرة المصلحة للاجتماع الانساني بروح القدس والروح الامين ، والقوى الشهوية والغضبية النفسانية الداعية إلى الشر والفساد بالشياطين والجن ، والافكار الرديئة المفسدة للاجتماع الصالح أو الموقعة لسيئ العمل بالوسوسة والنزعة ، وهكذا.
  فإن الآيات القرآنية وكذا ما نقل الينا من بيانات الانبياء الماضين ظاهرة في كونهم لم يريدوا بها المجاز والتمثيل ، بحيث لا يشك فيه الامكابر متعسف ولا كلام لنا معه ، ولو جاز حمل هذه البيانات إلى أمثال هذه التجوزات جاز تأويل جميع ما أخبروا به من الحقائق الالهية من غير استثناء إلى المادية المحضد النافية لكل ما وراء المادة ، وقد مر بعض الكلام في المقام في بحث الاعجاز.
  ففي مورد التكليم الالهي لا محالة أمر حقيقي متحقق يترتب عليه من الآثار ما يترتب على التكلمات الموجودة فيما بيننا .
  توضيح ذلك : أنه سبحانه عبر عن بعض أفعاله بالكلام والتكليم كقوله تعالى :

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 315 _
  ( وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ) النساء ـ 163 ، وقوله تعالى : ( مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ ) الآية ، وقد فسر تعالى هذا الاطلاق المبهم الذي في هاتين الآيتين وما يشبههما بقوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء ) الشورى ـ 51 ، فإن الاستثناء في قوله تعالى : الاوحيا الخ ، لايتم الا إذا كان التكليم المدلول عليه بقوله : ان يكلمه الله ، تكليما حقيقة ، فتكليم الله تعالى للبشر تكليم لكن بنحو خاص ، فحد اصل التكليم حقيقة غير منفي عنه.
  والذي عندنا من حقيقة الكلام : هو أن الانسان لمكان احتياجه إلى الاجتماع والمدنية يحتاج بالفطرة إلى جميع ما يحتاج إليه هذا الاجتماع التعاوني ، ومنها التكلم ، وقد ألجأت الفطرة الانسان أن يسلك إلى الدلالد على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم ، ويجعل الاصوات المؤلفة والمختلطة إمارات دالة على المعاني المكنونة في الضمير التي لا طريق إليها إلامن جهة العلائم الاعتبارية الوضعية ، فالانسان محتاج إلى التكلم من جهة انه لا طريق له إلى التفهيم والتفهم إلا جعل الالفاظ والاصوات المؤتلفة علائم جعلية وأمارات وضعية ، ولذلك كانت اللغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة ، أعني : الاحتياجات التي تنبه لها الانسان في حياته الحاضرة ، ولذلك ايضا كانت اللغات لا تزال تزيد وتتسع بحسب تقدم الاجتماع في صراطه ، وتكثر الحوائج الانسانية في حياته الاجتماعية.
  ومن هنا يظهر : أن الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالاصوات المؤتلفة الدالة عليه بالوضع والاعتبار إنما يتم في الانسان وهو واقع في ظرف الاجتماع ، وربما لحق به بعض أنواع الحيوان مما لنوعه نحو اجتماع وله شيء من جنس الصوت ، ( على ما نحسب ) واما الانسان في غير ظرف الاجتماع التعاوني فلا تحقق للكلام معه ، فلو كان ثم انسان واحد من غير أي اجتماع فرض لم تمس الحاجة إلى التكلم قطعا لعدم مساس الحاجة إلى التفهيم والتفهم ، وكذلك غير الانسان مما لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعي والحياة المدنية كالملك والشيطان مثلا.
  فالكلام لا يصدر منه تعالى على حد ما يصدر الكلام منا أعني بنحو خروج الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمة إليه ، الدلالة الاعتبارية

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 316 _
  الوضعية فانه تعالى أجل شأنا وأنزه ساحد أن يتجهز بالتجهيزات الجسمانية ، أو يستكمل بالدعاوي الوهمية الاعتبارية وقد قال تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) الشورى ـ 11.
  لكنه سبحانه فيما مر من قوله : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ) الشورى ـ 51 ، يثبت لشأنه وفعله المذكور حقيقة التكليم وان نفى عنه المعنى العادي المعهود بين الناس ، فالكلام بحده الاعتباري المعهود مسلوب عن الكلام الالهي لكنه بخواصه وآثاره ثابت له ، ومع بقاء الاثر والغاية يبقى المحدود في الامور الاعتبارية الدائرة في اجتماع الانسان نظير الذرع والميزان والمكيال والسراج والسلاح ونحو ذلك ، وقد تقدم بيانه .
  فقد : ظهر أن ما يكشف به الله سبحانه عن معنى مقصود إفهامه للنبي كلام حقيقة ، وهو سبحانه وإن بين لنا اجمالا انه كلام حقيقة على غير الصفة التي نعدها من الكلام الذي نستعمله ، لكنه تعالى لم يبين لنا ولا نحن تنبهنا من كلامه ان هذا الذي يسميه كلاما يكلم به انبيائه ما حقيقته؟ وكيف يتحقق؟ غير أنه على أي حال لا يسلب عنه خواص الكلام المعهود عندنا ويثبت عليه آثاره وهي تفهيم المعاني المقصودة والقائها في ذهن السامع.
  وعلى هذا فالكلام منه تعالى كالاحياء والاماتة والرزق والهداية والتوبة وغيرها فعل من أفعاله تعالى يحتاج في تحققه إلى تمامية الذات قبله لا كمثل العلم والقدرة والحياة مما لا تمام للذات الواجبة بدونه من الصفات التي هي عين الذات ، كيف ولافرق بينه وبين سائر أفعاله التي تصدر عنه بعد فرض تمام الذات ! وربما قبل الانطباق على الزمان قال تعالى : ( وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ) الاعراف ـ 143 ، وقال تعالى ( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) مريم ـ 9 ، وقال تعالى : ( فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ) البقرة ـ 243 ، وقال تعالى : ( نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) الانعام ـ 151 ، وقال تعالى : ( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) طه ـ 50 ، وقال تعالى : ( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ ) التوبة ـ 118 ، فالآيات كما ترى تفيد زمانية الكلام كما تفيد زمانية غيره من الافعال كالخلق والاماتة والاحياء والرزق والهداية والتوبة على حد سواء.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 317 _
  فهذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى ، والبحث التفسيري المقصور على الآيات القرآنية في معنى الكلام ، أما ما يقتضيه البحث الكلامي على ما اشتغل به السلف من المتكلمين أو البحث الفلسفي فسيأتيك نبأه .
  واعلم : ان الكلام أو التكليم مما لم يستعلمه تعالى في غير مورد الانسان ، نعم الكلمة أو الكلمات قد استعملت في غير مورده ، قال تعالى : ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ) النساء ـ 171 ، اريد به نفس الانسان ، وقال تعالى : ( وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا ) التوبة ـ 41 ، وقال تعالى : ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ) الانعام ـ 155 ، وقال تعالى : ( مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ) لقمان ـ 27 ، وقد اريد بها القضاء أو نوع من الخلق على ما سيجئ الاشارة إليه.
  وأما لفظ القول فقد عم في كلامه تعالى الانسان وغيره فقال تعالى في مورد الانسان : ( فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِك ) طه ـ 117 ، وقال تعالى في مورد الملائكة : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) البقرة ـ 30 ، وقال أيضا : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ ) ص ـ 71 ، وقال في مورد ابليس قال ( يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ص ـ 75 ، وقال تعالى في غير مورد أولي العقل : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) فصلت ـ 11 ، وقال تعالى : ( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) الانبياء ـ 69 ، وقال تعالى : ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي ) هود ـ 44 ، ويجمع الجميع على كثرة مواردها وتشتتها قوله تعالى : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ) يس ـ 82 ، وقوله تعالى : ( إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) مريم ـ 35.
  الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى ( حيث يستعمل القول في الموارد المذكورة مما له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالانسان مثلا ، ومما سبيله التكوين وليس له سمع وادراك بالمعنى المعهود عندنا كالارض والسماء ، وحيث ان الآيتين الاخيرتين بمنزلة التفسير لما يتقدمهما من الآيات ) ان القول منه تعالى ايجاد امر يدل على المعنى المقصود.
  فأما في التكوينيات فنفس الشئ الذي أوجده تعالى وخلقه هو شيء مخلوق

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 318 _
  موجود ، وهو بعينه قول له تعالى لدلالته بوجوده على خصوص إرادته سبحانه فإن من المعلوم انه إذا أراد شيئا فقال له كن فكان ليس هناك لفظ متوسط بينه تعالى وبين الشئ ، وليس هناك غير نفس وجود الشئ ، فهو بعينه مخلوق وهو بعينه قوله ، كن ، فقوله في التكوينيات نفس الفعل وهو الايجاد وهو الوجود وهو نفس الشئ.
  وأما في غير التكوينيات كمورد الانسان مثلا فبإيجاده تعالى أمرا يوجب علما باطنيا في الانسان بأن كذا كذا ، وذلك إما بإيجاد صوت عند جسم من الاجسام ، أو بنحو آخر لا ندركه ، أو لا ندرك كيفية تأثيره في نفس النبي بحيث يوجد معه علم في نفسه بأن كذا كذا على حد ما مر في الكلام.
  وكذلك القول في قوله تعالى للملائكة أو الشيطان ، لكن يختص هذان النوعان وما شابههما لو كان لهما شبيه بخصوصية ، وهي ان الكلام والقول المعهود فيما بيننا إنما هو باستخدام الصوت أو الاشارة بضميمة الاعتبار الوضعي الذي يستوجبه فينا فطرتنا الحيوانية الاجتماعية ، ومن المعلوم ( على ما يعطيه كلامه تعالى ) ان الملك والشيطان ليس وجودهما من سنخ وجودنا الحيواني الاجتماعي وليس في وجودهما هذا التكامل التدريجي العلمي الذي يستدعي وضع الامور الاعتبارية.
  ويظهر من ذلك : ان ليس فيما بين الملائكة ولا فيما بين الشياطين هذا النوع من التفهيم والتفهم الذهني المستخدم فيه الاعتبار اللغوي والاصوات المؤلفة الموضوعة للمعاني ، وعلى هذا فلا يكون تحقق القول فيما بينهم أنفسهم نظير تحققه فيما بيننا أفراد الانسان بصدور صوت مؤلف تأليفا لفظيا وضعيا من فم مشقوق ينضم إليه أعضاء فعالة للصوت من واحد ، والتأثر من ذلك بإحساس أذن مشقوق ينضم إليها أعضاء آخذة للصوت المقروع من واحد آخر وهو ظاهر ، لكن حقيقة القول موجودة فيما بين نوعيهما بحيث يترتب عليه أثر القول وخاصته وهو فهم المعنى المقصود وإدراكه فبين الملائكة أو الشياطين قول لا كنحو قولنا ، وكذا بين الله سبحانه وبينهم قول لا بنحو إيجاد الصوت واللفظ الموضوع وإسماعه لهم كما سمعت.
  وكذلك القول في ما ينسب إلى نوع الحيوانات العجم من القول في القرآن الكريم كقوله تعالى : ( قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ) النمل ـ 18 ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 319 _
  وقال تعالى : ( فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ) النمل ـ 22 ، وكذا ما يذكر فيه من قول الله تعالى ووحيه إليهم كقوله تعالى : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) النحل ـ 68.
  وهناك ألفاظ أخر ربما استعمل في معنى القول والكلام أو ما يقرب من معناهما كالوحي ، قال تعالى : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ) النساء ـ 163 ، والالهام ، قال تعالى : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) الشمس ـ 8 ، والنبأ ، قال تعالى : ( قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ) التحريم ـ 3 ، والقص ، قال تعالى : ( يَقُصُّ الْحَقَّ ) الانعام ـ 57 ، والقول في جميع هذه الالفاظ من حيث حقيقة المعنى هو الذي قلناه في أول الكلام من لزوم تحقق أمر حقيقي معه يترتب عليه أثر القول وخاصته سواء علمنا بحقيقة هذا الامر الحقيقي المتحقق بالضرورة أو لم نعلم بحقيقته تفصيلا ، وفي الوحي خاصة كلام سيأتي التعرض له في سورة الشورى انشاء الله.
  واما اختصاص بعض الموارد ببعض هذه الالفاظ مع كون المعنى المشترك المذكور موجودا في الجميع كتسمية بعضها كلاما وبعضها قولا وبعضها وحيا مثلا لا غير فهو يدور مدار ظهور انطباق العناية اللفظية على المورد ، فالقول يسمى كلاما نظرا إلى السبب الذي يفيد وقوع المعنى في الذهن ولذلك سمي هذا الفعل الالهي في مورد بيان تفضيل الانبياء وتشريفهم كلاما لان العناية هناك انما هو بالمخاطبة والتكليم ، ويسمى قولا بالنظر إلى المعنى المقصود إلقائه وتفهيمه ولذلك سمي هذا الامر الالهي في مورد القضاء والقدر والحكم والتشريع ونحو ذلك قولا كقوله تعالى : ( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ ) ص ـ 85 ، ويسمى وحيا بعناية كونه خفيا عن غير الانبياء ولذلك عبر في موردهم ( عليهم السلام ) بالوحي كقوله : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ) النساء ـ 163.
  الجهة الثانية : وهي البحث من جهة كيفية الاستعمال فقد عرفت ان مفردات اللغه انما انتقل الانسان إلى معانيها ووضع الالفاظ بحذائها واستعملها فيها في المحسوسات من الامور الجسمانية ابتدائا ثم انتقل تدريجا إلى المعنويات ، وهذا وان اوجب كون استعمال اللفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالا مجازيا ابتدائا لكنه سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال وحصول التبادر ، وكذلك ترقي الاجتماع وتقدم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 320 _
  الانسان في المدنية والحضارة ، يوجب التغير في الوسائل التي ترفع حاجته الحيوية ، والتبدل فيها دائما مع بقاء الاسماء فالاسماء لا تزال تتبدل مصاديق معانيها مع بقاء الاغراض المرتبة وذلك كما أن السراج في أول ما تنبه الانسان لامكان رفع بعض الحوائج به كان مثلا شيئا من الدهن أو الدهنيات مع فتيلة متصلة بها في ظرف يحفظها فكانت تشتعل الفتيلة للاستضائة بالليل ، فركبته الصناعة على هذه الهيئة أولا وسماه الانسان بالسراج ، ثم لم يزل يتحول طورا بعد طور ، ويركب طبقا عن طبق ، حتى انتهت إلى هذه السرج الكهربائية التي لا يوجد فيها ومعها شيء من أجزاء السراج المصنوع أولا ، الموضوع بحذائه لفظ السراج من دهن وفتيلة وقصعة خزفية أو فلزية ، ومع ذلك نحن نطلق لفظ السراج عليها وعلى سائر أقسام السراج على حد سواء ، ومن غير عناية ، وليس ذلك إلا ان الغاية والغرض من السراج أعني الاثر المقصود منه المترتب على المصنوع أولا يترتب بعينه على المصنوع أخيرا من غير تفاوت ، وهو الاستضائة ، ونحن لا نقصد شيئا من وسائل الحياة ولا نعرفها الا بغايتها في الحياة وأثرها المترتب ، فحقيقة السراج ما يستضاء بضوئه بالليل ، ومع بقاء هذه الخاصة والاثر يبقى حقيقة السراج ويبقى اسم السراج على حقيقة معناه من غير تغير وتبدل ، وان تغير الشكل أحيانا أو الكيفية أو الكمية أو أصل أجزاء الذات كما عرفت في المثال ، وعلى هذا فالملاك في بقاء المعنى الحقيقي وعدم بقائه بقاء الاثر المطلوب من الشئ على ما كان من غير تغير ، وقلما يوجد اليوم في الامور المصنوعة ووسائل الحياة ـ وهي ألوف والوف ـ شيء لم يتغير ذاته عما حدث عليه أولا ، غير أن بقاء الاثر والخاصة أبقى لكل واحد منها اسمه الاول الذي وضع له .
  وفي اللغات شيء كثير من القسم الاول وهو اللفظ المنقول من معنى محسوس إلى معنى معقول يعثر عليه المتتبع البصير.
  فقد تحصل أن استعمال الكلام والقول فيما مر مع فرض بقاء الاثر والخاصة استعمال حقيقي لا مجازي .
  فظهر من جميع ما بيناه : ان إطلاق الكلام والقول في مورده تعالى يحكي عن أمر حقيقي واقعي ، وانه من مراتب المعنى الحقيقي لهاتين اللفظتين وإن اختلف من حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام ، كما ان سائر الالفاظ المشتركة الاستعمال بيننا وبينه تعالى كالحياة والعلم والارادة والاعطاء كذلك.
  واعلم : ان القول في معنى رفع الدرجات من قوله تعالى : ( ورفع بعضهم درجات ) ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 321 _
  من حيث اشتماله على أمر حقيقي واقعي غير اعتباري كالقول في معنى الكلام بعينه فقد توهم أكثر الباحثين في المعارف الدينية : ان ما اشتملت عليه هذه البيانات امور اعتبارية ومعاني وهمية نظير ما يوجد بيننا معاشر أهل الاجتماع من الانسان من مقامات الرئاسة والزعامة والفضيلة والتقدم والتصدر ونحو ذلك ، فلزمهم ان يجعلوا ما يرتبط بها من الحقائق كمقامات الآخرة من جنة ونار وسؤال وغير ذلك مرتبطة مترتبة نظير ترتب الآثار الخارجية على هذه المقامات الاجتماعية الاعتبارية ، أي إن الرابطة بين المقامات المعنوية المذكورة وبين النتائج المرتبة عليها رابطة الاعتبار والوضع ، ولزمهم ـ اضطرارا ـ كون جاعل هذه الروابط وهو الله تعالى وتقدس ، محكوما بالآراء الاعتبارية ومبعوثا عن الشعور الوهمي كالانسان الواقع في عالم المادة ، والنازل في منزل الحركة والاستكمال ، ولذلك تراهم يستنكفون عن القول باختصاص المقربين من أنبيائه وأوليائه بالكمالات الحقيقية المعنوية التي تثبتها لهم ظواهر الكتاب والسنة إلا ان تنسلخ عن حقيقتها وترجع إلى نحو من الاعتباريات.
  قوله تعالى : ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ، رجوع إلى أصل السياق وهو التكلم دون الغيبة كما مر .
  والوجه في التصريح باسم عيسى مع عدم ذكر غيره من الرسل في الآية : ان ما ذكره له ( عليه السلام ) من جهات التفضيل وهو إيتاء البينات ، والتأييد بروح القدس مشترك بين الرسل جميعا ليس مما يختص ببعضهم دون بعض ، قال تعالى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ ) الحديد ـ 25 ، وقال تعالى : ( يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ ) النمل ـ 2 ، لكنهما في عيسى بنحو خاص فجميع آياته كإحياء الموتى وخلق الطير بالنفخ وإبراء الاكمه والابرص ، والاخبار عن المغيبات كانت أمورا متكئة على الحياة مترشحة عن الروح ، فلذلك نسبها إلى عيسى ( عليه السلام ) وصرح باسمه إذ لولا التصريح لم يدل على كونه فضيلة خاصة كما لو قيل : وآتينا بعضهم البينات وأيدناه بروح القدس ، إذ البينات وروح القدس كما عرفت مشتركة غير مختصة ، فلا يستقيم نسبتها إلى البعض بالاختصاص إلا مع التصريح باسمه ليعلم انها فيه بنحو خاص غير مشترك تقريبا ، على ان في اسم عيسى ( عليه السلام ) خاصة اخرى وآية بينة وهي

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 322 _
  انه ابن مريم لا أب له ، قال تعالى : ( وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الانبياء ـ 91 ، فمجموع الابن والام آية بينة إلهية وفضيلة اختصاصية اخرى.
  قوله تعالى : ( وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) ، العدول إلى الغيبة ثانيا لان المقام مقام إظهار ان المشية والارادة الربانية غير مغلوبة ، والقدرة غير باطلة ، فجميع الحوادث على طرفي إثباتها ونفيها غير خارجة عن السلطنة الالهية ، وبالجملة وصف الالوهئ هي التي تنافي تقيد القدرة وتوجب إطلاق تعلقها بطرفي الايجاب والسلب فمست حاجة المقام إلى اظهار هذه الصفة المتعالية أعني الالوهية للذكر فقيل : ولو شاء الله ما اقتتل ، ولم يقل : ولو شئنا ما اقتتل ، وهذا هو الوجه أيضا في قوله تعالى في ذيل الآية ولو شاء الله ما اقتتلوا ، وقوله : ولكن الله يفعل ما يريد وهو الوجه ايضا في العدول عن الاضمار إلى الاظهار.
  قوله تعالى : ( وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ ) ، نسب الاختلاف إليهم لا إلى نفسه لانه تعالى ذكر في مواضع من كلامه : ان الاختلاف بالايمان والكفر وسائرالمعارف الاصلية المبينة في كتب الله النازلة على انبيائه انما حدث بين الناس بالبغى ، وحاشا ان ينتسب إليه سبحانه بغى أو ظلم.
  قوله تعالى : ( وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ) ، أي ولو شاء الله لم يؤثر الاختلاف في استدعاء القتال ولكن الله يفعل ما يريد وقد أراد أن يؤثر هذا الاختلاف في سوقه الناس إلى الاقتتال جريا على سنة الاسباب.
  ومحصل معنى الآية والله العالم : ان الرسل التي ارسلوا إلى الناس عباد لله مقربون عند ربهم ، مرتفع عن الناس أفقهم وهم مفضل بعضهم على بعض على مالهم من الاصل الواحد والمقام المشترك ، فهذا حال الرسل وقد اتوا للناس بآيات بينات اظهروا بها الحق كل الاظهار وبينوا طريق الهداية أتم البيان ، وكان لازمه ان لا ينساق الناس بعدهم الا إلى الوحدة والالفة والمحبة في دين الله من غير اختلاف وقتال لكن كان هناك سبب آخر أعقم هذا السبب ، وهو الاختلاف عن بغي منهم وانشعابهم إلى مؤمن وكافر ، ثم التفرق بعد ذلك في سائر شؤون الحياة والسعادة ، ولو شاء الله لاعقم هذا السبب أعني الاختلاف فلم يوجب الاقتتال وما اقتتلوا ، ولكن لم يشأ وأجرى هذا

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 323 _
  السبب كسائر الاسباب والعلل على سنة الاسباب التي أرادها الله في عالم الصنع والايجاد ، والله يفعل ما يريد.
  قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ ) الخ ، معناه واضح وفي ذيل الآية دلالة على ان الاستنكاف عن الانفاق كفر وظلم.
  ( بحث روائي )
  في الكافي عن الباقر ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : تلك الرسل فضلنا الخ ، في هذا ما يستدل به على ان اصحاب محمد قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن ومنهم من كفر.
  وفي تفسير العياشي عن اصبغ بن نباتة ، قال : كنت واقفا مع امير المؤمنين علي بن أبي طالب( عليه السلام ) يوم الجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال : يا أمير المؤمنين كبر القوم وكبرنا ، وهلل القوم وهللنا ، وصلى القوم وصلينا ، فعلى ما نقاتلهم ؟ ! فقال ( عليه السلام ) : على هذه الآية تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم ـ فنحن الذين من بعدهم ـ ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد فنحن الذين آمنا وهم الذين كفروا فقال الرجل : كفر القوم ورب الكعبة ثم حمل فقاتل حتى قتل ـ رحمه الله ـ .
  أقول : وروي هذه القصة المفيد والشيخ في أماليهما والقمي في تفسيره ، والرواية تدل على انه ( عليه السلام ) أخذ الكفر في الآية بالمعنى الاعم من الكفر الخاص المصطلح الذي له أحكام خاصة في الدين ، فإن النقل المستفيض وكذا التاريخ يشهدان انه ( عليه السلام ) ما كان يعامل مع مخالفيه من اصحاب الجمل واصحاب صفين والخوارج معاملة الكفار من غير أهل الكتاب ولا معاملة أهل الكتاب ولا معاملة أهل الردة من الدين ، فليس إلا انه عدهم كافرين على الباطن دون الظاهر ، وقد كان ( عليه السلام ) يقول : اقاتلهم على التأويل دون التنزيل.
  وظاهر الآية يساعد هذا المعنى ، فإنه يدل على ان البينات التي جائت بها الرسل لم تنفع في رفع الاقتتال من الذين من بعدهم لمكان الاختلاف المستند إليهم انفسهم فوقوع

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 324 _
  الاختلاف مما لا تنفع فيه البينات من الرسل بل هو مما يؤدي إليه الاجتماع الانساني الذي لا يخلو عن البغى والظلم ، فالآية في مساق قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس ـ 19 ، وقوله تعالى : كان الناس امة واحدة ـ إلى أن قال ـ : ( وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ) البقرة ـ 213 ، وقوله تعالى : ( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ) هود ـ 119 ، كل ذلك يدل على ان الاختلاف في الكتاب ـ وهو الاختلاف في الدين ـ بين أتباع الانبياء بعدهم مما لا مناص عنه ، وقد قال تعالى في خصوص هذه الامة : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ) البقرة ـ 214 ، وقال تعالى حكاية عن رسوله ليوم القيمة : ( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ) الفرقان ـ 30 ، وفي مطاوى الآيات تصريحات وتلويحات بذلك .
  واما ان ذيل هذا الاختلاف منسحب إلى زمان الصحابة بعد الرحلة فالمعتمد من التاريخ والمستفيض أو المتواتر من الاخبار يدل على ان الصحابة انفسهم كان يعامل بعضهم مع بعض في الفتن والاختلافات الواقعة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذه المعاملة ، من غير ان يستثنوا انفسهم من ذلك استنادا إلى عصمة أو بشارة أو اجتهاد أو استثناء من الله ورسوله ، الزائد على هذا المقدار من البحث لا يناسب وضع هذا الكتاب.
  وفي أمالي المفيد عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : لم يزل الله جل اسمه عالما بذاته ولا معلوم ، ولم يزل قادرا بذاته ولا مقدور ، قلت : ـ جعلت فداك ـ فلم يزل متكلما ؟ قال : الكلام محدث ، كان الله عز وجل وليس بمتكلم ثم أحدث الكلام.
  وفي الاحتجاج عن صفوان بن يحيى ، قال : سأل أبو قرة المحدث عن الرضا ( عليه السلام ) فقال : أخبرني ـ جعلت فداك ـ عن كلام الله لموسى فقال : الله أعلم بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية فأخذ أبو قرة بلسانه فقال : إنما اسألك عن هذا اللسان فقال : أبو الحسن ( عليه السلام ) : سبحان الله عما تقول ومعاذ الله ان يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون ولكنه سبحانه ليس كمثله شيء ولا كمثله قائل فاعل ، قال : كيف ؟ قال :

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 325 _
  كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق ، ولا يلفظ بشق فم ولسان ، ولكن يقول له كن فكان ، بمشيته ما خاطب به موسى من الامر والنهى من غير تردد في نفس ـ الخبر ـ.
  وفي نهج البلاغة في خطبة له ( عليه السلام ) : متكلم لابروية ، مريد لابهمة ، الخطبة.
  وفي النهج أيضا في خطبة له ( عليه السلام ) : الذي كلم موسى تكليما ، وأراه من آياته عظيما ، بلا جوارح ولا ادوات ولا نطق ولالهوات ، الخطبة.
  اقول : والاخبار المروية عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة ، وهي مطبقة على ان كلامه تعالى الذي يسميه الكتاب والسنة كلاما صفة فعل لا صفة ذات.
  ( بحث فلسفي )
  ذكر الحكماء : أن ما يسمى عند الناس قولا وكلاما وهو نقل الانسان المتكلم ما في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلفة موضوعة لمعنى فإذا قرع سمع المخاطب أو السامع نقل المعنى الموضوع له الذي في ذهن المتكلم إلى ذهن المخاطب أو السامع ، فحصل بذلك الغرض منه وهو التفهيم والتفهم ، قالوا : وحقيقة الكلام متقومة بما يدل على معنى خفي مضمر ، واما بقية الخصوصيات ككونه بالصوت الحادث في صدر الانسان ومروره من طريق الحنجرة واعتماده على مقاطع الفم وكونه بحيث يقبل أن يقع مسموعا لاازيد عددا أو أقل مما ركبت عليه أسماعنا فهذه خصوصيات تابعة للمصاديق وليست بدخيلة في حقيقة المعنى الذي يتقوم بها الكلام.
  فالكلام اللفظي الموضوع الدال على ما في الضمير كلام ، وكذا الاشارة الوافية لارائه المعنى كلام كما ان إشارتك بيدك : ان اقعد أو تعال ونحو ذلك أمر وقول ، وكذا الوجودات الخارجية لما كانت معلولة لعللها ، ووجود المعلول لمسانخته وجود علته وكونه رابطا متنزلا له يحكي بوجوده وجود علته ، ويدل بذاته على خصوصيات ذات علته الكاملة في نفسها لو لا دلالة المعلول عليها. فكل معلول بخصوصيات وجوده كلام لعلته تتكلم به عن نفسها وكمالاتها ، ومجموع تلك الخصوصيات بطور اللف كلمة من كلمات علته ، فكل واحد من الموجودات بما ان وجوده مثال لكمال علته الفياضة ،