ينبغي صدوره من المؤمن. وقد قال تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ إلى أن قال وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) المؤمنون ـ 3.
  قوله تعالى : ( لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ) الخ ، الايلاء من الالية بمعنى الحلف ، وغلب في الشرع في حلف الزوج أن لا يأتي زوجته غضبا واضرارا ، وهو المراد في الآية ، والتربص هو الانتظار ، والفئ هو الرجوع.
  والظاهر أن تعدية الايلاء بمن لتضمينه معنى الابتعاد ونحوه فيفيد وقوع الحلف على الاجتناب عن المباشرة ، ويشعر به تحديد التربص بالاربعة أشهر فإنها الامد المضروب للمباشرة الواجبة شرعا ، ومنه يعلم أن المراد بالعزم على الطلاق العزم مع ايقاعه ، ويشعر به أيضا تذييله بقوله تعالى : ( فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ، فإن السمع انما يتعلق بالطلاق الواقع لا بالعزم عليه.
  وفي قوله تعالى : فإن الله غفور رحيم ، دلالة على أن الايلاء لا عقاب عليه على تقديرالفئ .
  واما الكفارة فهي حكم شرعي لا يقبل المغفرة ، قال تعالى : ( لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ) الآية المائدة ـ 89.
  فالمعنى ان من آلى من امرأته يتربص له الحاكم اربعة اشهر فإن رجع إلى حق الزوجية وهو المباشرة وكفر وباشر فلا عقاب عليه وان عزم الطلاق واوقعه فهو المخلص الآخر ، والله سميع عليم.
  ( بحث روائي )
  في تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ( وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ ) الآية ، قال ( عليه السلام ) : هو قول الرجل : لا والله وبلى والله.
  وفيه أيضا عن الباقر والصادق ( عليهما السلام ) في الآية : يعني الرجل يحلف أن لا يكلم اخاه وما اشبه ذلك أو لا يكلم أمه.
  وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) في الآية ، قال : إذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل على يمين ان لاافعل.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 227 _
  اقول : والرواية الاولى كما ترى تفسر الآية بأحد المعنيين ، والثانية والثالثة بالمعنى الآخر ، ويقرب منهما ما في تفسير العياشي أيضا عن الباقر والصادق ( عليهما السلام ) قالا : هو الرجل يصلح بين الرجل فيحمل ما بينهما من الاثم الحديث ، فكأن المراد انه ينبغي ان لا يحلف بل يصلح ويحمل الاثم والله يغفر له ، فيكون مصداقا للعامل بالآية.
  وفي الكافي عن مسعدة عن الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ( لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُم ) الآية ، قال : اللغو قول الرجل : لا والله وبلى والله ولا يعقد على شئ.
  اقول : وهذا المعنى مروي في الكافي عنه ( عليه السلام ) من غير الطريق ، وفي المجمع عنه وعن الباقر ( عليه السلام ).
  وفي الكافي أيضا عن الباقر والصادق ( عليهما السلام ) انهما قالا : إذا آلى الرجل ان لا يقرب امرأته فليس لها قول ولا حق في الاربعة اشهر ، ولا إثم عليه في الكف عنها في الاربعة اشهر ، فإن مضت الاربعة اشهر قبل ان يمسها فما سكتت ورضيت فهو في حل وسعة فإن رفعت أمرها قيل له : إما ان تفئ فتمسها وإما ان تطلق ، وعزم الطلاق ان يخلي عنها ، فإذا حاضت وطهرت طلقها ، وهو أحق برجعتها ما لم يمض ثلاثة قروء ، فهذا الايلاء الذي انزل الله في كتابه وسنه رسول الله.
  وفيه ايضا عن الصادق ( عليه السلام ) في حديث : والايلاء ان يقول : والله لا اجامعك كذا وكذا أو يقول : والله لاغيظنك ثم يغاظها ، الحديث.
  اقول : وفي خصوصيات الايلاء وبعض ما يتعلق به خلاف بين العامة والخاصة ، والبحث فقهي مذكور في الفقه.
  ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 228 _
   دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ * الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 229 _
  بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ * لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 230 _
  لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ـ 242

( بيان )

  الآيات في احكام الطلاق والعدة وإرضاع المطلقة ولدها ، وفي خلالها شيء من احكام الصلاة.
  قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ) ، اصل الطلاق التخلية عن وثاق وتقييد ثم استعير لتخلية المرئة عن حبالة النكاح وقيد الزوجية ثم صار حقيقة في ذلك بكثرة الاستعمال.
  والتربص هو الانتظار والحبس ، وقد قيد بقوله تعالى : بأنفسهن ، ليدل على معنى التمكين من الرجال فيفيد معنى العدة اعني عدة الطلاق ، وهو حبس المرئة نفسها عن الازدواج تحذرا عن اختلاط المياه ، ويزيد على معنى العدة الاشارة إلى حكمة التشريع ، وهو التحفظ عن اختلاط المياه وفساد الانساب ، ولا يلزم اطراد الحكمة في جميع الموارد فإن القوانين والاحكام إنما تدور مدار المصالح والحكم الغالبة دون العامة ، فقوله تعالى يتربصن بأنفسهن بمنزلة قولنا : يعتددن احترازا من اختلاط المياه وفساد النسل بتمكين الرجال من أنفسهن ، والجملة خبر أريد به الانشاء تأكيدا.
  والقروء جمع القرء ، وهو لفظ يطلق على الطهر والحيض معا ، فهو على ما قيل من الاضداد ، غير ان الاصل في مادة قرء هو الجمع لكن لا كل جمع بل الجمع الذي يتلوه الصرف والتحويل ونحوه ، وعلى هذا فالاظهر ان يكون معناه الطهر لكونه حاله جمع الدم ثم استعمل في الحيض لكونه حالة قذفه بعد الجمع ، وبهذه العناية اطلق على الجمع بين الحروف للدلالة على معنى القرائه ، وقد صرح أهل اللغة بكون معناه هو الجمع ، ويشعر بأن الاصل في مادة قرء الجمع ، قوله تعالى : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) القيامة ـ 18 ، وقوله تعالى : ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ) بني إسرائيل ـ 106 ، حيث عبر تعالى في الآيتين بالقرآن ، ولم يعبر بالكتاب أو الفرقان أو مايشبههما ، وبه سمي القرآن قرآنا .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 231 _
  قال الراغب في مفرداته : والقرء في الحقيقة اسم للدخول في الحيض عن طهر ولما كان اسما جامع للامرين : الطهر والحيض المتعقب له أطلق على كل واحد لان كل اسم موضوع لمعنيين معا يطلق على كل واحد منهما إذا انفرد ، كالمائدة للخوان والطعام ، ثم قد يسمى كل واحد منهما بانفراده به ، وليس القرء اسما للطهر مجردا ولا للحيض مجردا ، بدليل ان الطاهر التي لم تر أثر الدم لا يقال لها : ذات قرء ، وكذا الحائض التي استمر بها الدم لا يقال لها : ذلك ، انتهى.
  قوله تعالى : ( وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) ، المراد به تحريم كتمان المطلقة الدم أو الولد استعجالا في خروج العدة أو إضرارا بالزوج في رجوعه ونحو ذلك ، وفي تقييده بقوله : إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر مع عدم اشتراط اصل الحكم بالايمان نوع ترغيب وحث لمطاوعة الحكم والتثبت عليه لما في هذا التقييد من الاشارة إلى ان هذا الحكم من لوازم الايمان بالله واليوم الآخر الذي عليه بناء الشريعة الاسلامية فلا استغناء في الاسلام عن هذا الحكم ، وهذا نظير قولنا : أحسن معاشرة الناس ان أردت خيرا ، وقولنا للمريض : عليك بالحمية إن أردت الشفاء والبرء.
  قوله تعالى : ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحًا ) ، البعولة جمع البعل وهو الذكر من الزوجين ماداما زوجين وقد استشعر منه معنى الاستعلاء والقوة والثبات في الشدائد لما ان الرجل كذلك بالنسبة إلى المرأة ثم جعل اصلا يشتق منه الالفاظ بهذا المعنى فقيل لراكب الدابة بعلها ، وللارض المستعلية بعل ، وللصنم بعل ، وللنخل إذا عظم بعل ونحو ذلك.
  والضمير في بعولتهن للمطلقات إلا ان الحكم خاص بالرجعيات دون مطلق المطلقات الاعم منها ومن البائنات ، والمشار إليه بذلك التربص الذي هو بمعنى العدة ، والتقييد بقوله ان ارادوا اصلاحا ، للدلالة على وجوب ان يكون الرجوع لغرض الاصلاح لا لغرض الاضرار المنهي عنه بعد بقوله : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ، الآية.
  ولفظ أحق اسم تفضيل حقه ان يتحقق معناه دائما مع مفضل عليه كأن يكون للزوج الاول حق في المطلقة ولسائر الخطاب حق ، والزوج الاول احق بها لسبق

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 232 _
  الزوجية ، غير ان الرد المذكور لا يتحقق معناه الا مع الزوج الاول.
  ومن هنا يظهر : ان في الآية تقديرا لطيفا بحسب المعنى ، والمعنى وبعولتهن أحق بهن من غيرهم ، ويحصل ذلك بالرد والرجوع في ايام العدة ، وهذه الاحقية انما تتحقق في الرجعيات دون البائنات التي لا رجوع فيها ، وهذه هي القرينة على ان الحكم مخصوص بالرجعيات ، لا ان ضمير بعولتهن راجع إلى بعض المطلقات بنحو الاستخدام أو ما أشبه ذلك ، والآية خاصة بحكم المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل ، واما غير المدخول بها والصغيرة واليائسة والحامل فلحكمها آيات أخر.
  قوله تعالى : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) ، المعروف هو الذي يعرفه الناس بالذوق المكتسب من نوع الحياة الاجتماعية المتداولة بينهم ، وقد كرر سبحانه المعروف في هذه الآيات فذكره في اثنى عشر موضعا اهتماما بأن يجري هذا العمل اعني الطلاق وما يلحق به على سنن الفطرة والسلامة ، فالمعروف تتضمن هداية العقل ، وحكم الشرع ، وفضيلة الخلق الحسن وسنن الادب.
  وحيث بنى الاسلام شريعته على اساس الفطرة والخلقة كان المعروف عنده هو الذي يعرفه الناس إذا سلكوا مسلك الفترة ولم يتعدوا طور الخلقة ، ومن احكام الاجتماع المبني على اساس الفطرة ان يتساوى في الحكم افراده واجزائه فيكون ما عليهم مثل مالهم الا ان ذلك التساوي انما هو مع حفظ ما لكل من الافراد من الوزن في الاجتماع والتأثير والكمال في شؤون الحياة فيحفظ للحاكم حكومته ، وللمحكوم محكوميته ، وللعالم علمه ، وللجاهل حاله ، وللقوي من حيث العمل قوته ، وللضعيف ضعفه ثم يبسط التساوي بينها باعطاء كل ذي حق حقه ، وعلى هذا جرى الاسلام في الاحكام المجعولة للمراة وعلى المراة فجعل لها مثل ما جعل عليها مع حفظ ما لها من الوزن في الحيوة الاجتماعية في اجتماعها مع الرجل للتناكح والتناسل. والاسلام يرى في ذلك ان للرجال عليهن درجة ، والدرجة المنزلة.
  ومن هنا يظهر : ان قوله تعالى : وللرجال عليهن درجة ، قيد متمم للجملة السابقة ، والمراد بالجميع معنى واحد وهو : ان النساء أو المطلقات قد سوى الله بينهن وبين الرجال مع حفظ ما للرجال من الدرجة عليهن ، فجعل لهن مثل ما عليهن من الحكم ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 233 _
  وسنعود إلى هذه المسألة بزيادة توضيح في بحث علمي مخصوص بها.
  قوله تعالى : ( الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) ، المرة بمعنى الدفعة مأخوذة من المرور للدلالة على الواحد من الفعل كما ان الدفعة والكرة والنزلة مثلها وزنا ومعنى واعتبارا.
  والتسريح أصله الاطلاق في الرعى مأخوذ من سرحت الابل وهو ان ترعيه السرح ، وهو شجر له ثمر يرعاه الابل وقد استعير في الآية لاطلاق المطلقة بمعنى عدم الرجوع إليها في العدة ، والتخلية عنها حتى تنقضي عدتها على ما سيجئ.
  والمراد بالطلاق في قوله تعالى : الطلاق مرتان ، الطلاق الذي يجوز فيه الرجعة ولذا أردفه بقوله بعد : فإمساك الخ ، واما الثالث فالطلاق الذي يدل عليه قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره الآية.
  والمراد بتسريحها بإحسان ظاهرا التخلية بينها وبين البينونة وتركها بعد كل من التطليقتين الاوليين حتى تبين بانقضاء العدة وإن كان الاظهر انه التطليقة الثالثة كما هو ظاهر الاطلاق في تفريع قوله : فإمساك الخ ، وعلى هذا فيكون قوله تعالى بعد : فإن طلقها الخ بيانا تفصيليا للتسريح بعد البيان الاجمالي.
  وفي تقييد الامساك بالمعروف والتسريح بالاحسان من لطيف العناية مالا يخفى ، فإن الامساك والرد إلى حبالة الزوجية ربما كان للاضرار بها وهو منكر غير معروف ، كمن يطلق امرأته ثم يخليها حتى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثم يطلق ثم يرجع كذلك ، يريد بذلك إيذائها والاضرار بها وهو اضرار منكر غير معروف في هذه الشريعة منهي عنه ، بل الامساك الذي يجوزه الشرع ان يرجع إليها بنوع من انواع الالتيام ، ويتم به الانس وسكون النفس الذي جعله الله تعالى بين الرجل والمرأة.
  وكذلك التسريح ربما كان على وجه منكر غير معروف يعمل فيه عوامل السخط والغضب ، ويتصور بصورة الانتقام ، والذي يجوزه هذه الشريعة ان يكون تسريحا بنوع يتعارفه الناس ولا ينكره الشرع ، وهو التسريح بالمعروف كما قال تعالى في الآية الآتية فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، وهذا التعبير هو الاصل في إفادة المطلوب الذي ذكرناه ، واما ما في هذه الآية أو تسريح بإحسان ، حيث قيد

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 234 _
  التسريح بالاحسان وهو معنى زائد على المعروف فذلك لكون الجملة ملحوقة بما يوجب ذلك أعني قوله تعالى : ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئا.
  بيانه : ان التقييد بالمعروف والاحسان لنفى ما يوجب فساد الحكم المشرع المقصود ، والمطلوب بتقييد الامساك بالمعروف نفي الامساك الواقع على نحو المضارة كما قال تعالى : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ، والمطلوب في مورد التسريح نفى ان يأخذ الزوج بعض ما آتاه زوجته واخذه ربما لم ينكره التعارف الدائر بين الناس فزيد في تقييده بالاحسان في هذه الآية دون الآية الآتية ليستقيم قوله تعالى : ولا يحل لكم ان تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ، وليتدارك بذلك ما يفوت المرأة من مزية الحياة التي في الزوجية والالتيام النكاحي ، ولو قيل : أو تسريح بمعروف ولا يحل لكم الخ ، فاتت النكتة.
  قوله تعالى : ( إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ) ، الخوف هو الغلبة على ظنهما ان لا يقيما حدود الله ، وهي أوامره ونواهيه من الواجبات والمحرمات في الدين ، وذلك إنما يكون بتباعد أخلاقهما وما يستوجبه حوائجهما والتباغض المتولد بينهما من ذلك.
  قوله تعالى : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) ، العدول عن التثنية إلى الجمع في قوله : خفتم ، كانه للاشارة إلى لزوم ان يكون الخوف خوفا يعرفه العرف والعادة ، لاما ربما يحصل بالتهوس والتلهي أو بالوسوسة ونحوها ، ولذلك عدل أيضا عن الاضمار فقيل ألا يقيما حدود الله ، ولم يقل فإن خفتم ذلك لمكان اللبس.
  وأما نفى الجناح عنهما مع ان النهي في قوله : ولا يحل لكم ان تأخذوا الخ ، إنما تعلق بالزوج فلان حرمة الاخذ على الزوج توجب حرمة الاعطاء على الزوجة من باب الاعانة على الاثم والعدوان إلا في طلاق الخلع فيجوز توافقهما على الطلاق مع الفدية ، فلا جناح على الزوج ان يأخذ الفدية ، ولاجناح على الزوجة ان تعطي الفدية وتعين على الاخذ فلا جناح عليهما فيما افتدت به.
  قوله تعالى : ( تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ ) الخ ، المشار

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 235 _
  إليه هي المعارف المذكورة في الايتين وهي احكام فقهية مشوبة بمسائل اخلاقية ، وأخرى علمية مبتنية على معارف اصلية ، والاعتداء والتعدي هو التجاوز.
  وربما استشعر من الآية عدم جواز التفرقة بين الاحكام الفقهية والاصول الاخلاقية ، والاقتصار في العمل بمجرد الاحكام الفقهية والجمود على الظواهر والتقشف فيها ، فإن في ذلك إبطالا لمصالح التشريع وإماتة لغرض الدين وسعادة الحياة الانسانية ، فإن الاسلام كما مر مرارا دين الفعل دون القول ، وشريعة العمل دون الفرض ، ولم يبلغ المسلمون إلى ما بلغوا من الانحطاط والسقوط إلا بالاقتصار على اجساد الاحكام والاعراض عن روحها وباطن أمرها ، ويدل على ذلك ما سيأتي من قوله تعالى : ( وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) الآية البقرة ـ 231.
  وفي الآية التفات عن خطاب الجمع في قوله : ولا يحل لكم ، وقوله : فإن خفتم إلى خطاب المفرد في قوله : تلك حدود الله ، ثم إلى الجمع في قوله : فلا تعتدوها ، ثم إلى المفرد في قوله : فاولئك هم الظالمون ، فيفيد تنشيط ذهن المخاطب وتنبيهه للتيقظ ورفع الكسل في الاصغاء.
  قوله تعالى : ( فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) إلى آخر الآية ، بيان لحكم التطليقة الثالثة وهو الحرمة حتى تنكح زوجا غيره ، وقد نفى الحل عن نفس الزوجة مع ان المحرم إنما هو عقدها أو وطئها ليدل به على تعلق الحرمة بهما جميعا ، وليشعر قوله تعالى : حتى تنكح زوجا غيره ، على العقد والوطئ جميعا ، فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليهما أي على المرأة والزوج الاول ان يتراجعا إلى الزوجية بالعقد بالتوافق من الجانبين ، وهو التراجع ، وليس بالرجوع الذي كان حقا للزوج في التطليقتين الاوليين ، وذلك إن ظنا ان يقيما حدود الله.
  ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى : وتلك حدود الله ، لان المراد بالحدود غير الحدود.
  وفي الآية من عجيب الايجاز مايبهت العقل ، فإن الكلام على قصره مشتمل على أربعة عشر ضميرا مع اختلاف مراجعها واختلاطها من غير ان يوجب تعقيدا في الكلام ، ولا إغلاقا في الفهم.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 236 _
  وقد اشتملت هذه الآية والتي قبلها على عدد كثير من الاسماء المنكرة والكنايات من غير ردائة في السياق كقوله تعالى : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، أربعة اسماء منكرة ، وقوله تعالى : مما آتيتموهن شيئا كني به عن المهر ، وقوله تعالى : فإن خفتم ، كني به عن وجوب كون الخوف جاريا على مجرى العادة المعروفة ، وقوله تعالى : فيما افتدت به ، كني به عن مال الخلع ، وقوله تعالى : فإن طلقها ، اريد به التطليقة الثالثة ، وقوله تعالى : فلا تحل له ، أريد به تحريم العقد والوطئ ، وقوله تعالى : حتى تنكح زوجا غيره ، أريد به العقد والوطئ معا كناية مؤدبة ، وقوله تعالى : ان يتراجعا ، كني به عن العقد.
  وفي الآيتين حسن المقابلة بين الامساك والتسريح ، وبين قوله ان يخافا ان لا يقيما حدود الله وبين قوله : إن ظنا ان يقيما حدود الله ، والتفنن في التعبير في قوله : فلا تعتدوها وقوله : ومن يتعد.
  قوله تعالى : ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ) إلى قوله : لتعتدوا ، المراد ببلوغ الاجل الاشراف على انقضاء العدة فإن البلوغ كما يستعمل في الوصول إلى الغاية كذلك يستعمل في الاقتراب منها ، والدليل على ان المراد به ذلك قوله تعالى : فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ، إذ لا معنى للامساك ولا التسريح بعد انقضاء العدة : وفي قوله تعالى : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ، نهى عن الرجوع بقصد المضارة كما نهى عن التسريح بالاخذ من المهر في غير الخلع.
  قوله تعالى : ( وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) إلى آخر الآية إشارة إلى حكمة النهي عن الامساك للمضارة فإن التزوج لتتميم سعادة الحياة ، ولا يتم ذلك إلا بسكون كل من الزوجين إلى الآخر وإعانته في رفع حوائج الغرائز ، والامساك خاصة رجوع إلى الاتصال والاجتماع بعد الانفصال والافتراق ، وفيه جمع الشمل بعد شتاته ، وأين ذلك من الرجوع بقصد المضارة.
  فمن يفعل ذلك أي امسك ضرارا فقد ظلم نفسه حيث حملها على الانحراف عن الطريقة التي تهدي إليها فطرته الانسانية.
  على انه اتخذ آيات الله هزوا يستهزء بها فإن الله سبحانه لم يشرع ما شرعه لهم

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 237 _
  الاحكام تشريعا جامدا يقتصر فيه على اجرام الافعال أخذا وإعطائا وإمساكا وتسريحا وغير ذلك ، بل بناها على مصالح عامة يصلح بها فاسد الاجتماع ، ويتم بها سعادة الحياة الانسانية ، وخلطها بأخلاق فاضلة تتربى بها النفوس ، وتطهر بها الارواح ، وتصفو بها المعارف العالية : من التوحيد والولاية وسائر الاعتقادات الزاكية ، فمن اقتصر في دينه على ظواهر الاحكام ونبذ غيرها وراء ظهره فقد اتخذ آيات الله هزوا.
  والمراد بالنعمة في قوله تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم ، نعمة الدين أو حقيقة الدين وهي السعادة التي تنال بالعمل بشرائع الدين كسعادة الحياة المختصة بتألف الزوجين ، فإن الله تعالى سمى السعادة الدينية نعمة كما في قوله تعالى : ( وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) المائدة ـ 3 ، وقوله تعالى : ( وليتم نعمته عليكم ) المائدة ـ 6 ، وقوله تعالى : ( فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) آل عمران ـ 103.
  وعلى هذا يكون قوله تعالى بعده : وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به ، كالمفسر لهذه النعمة ، ويكون المراد بالكتاب والحكمة ظاهر الشريعة وباطنها أعني أحكامها وحكمها.
  ويمكن أن يكون المراد بالنعمة مطلق النعم الالهية ، التكوينية وغيرها فيكون المعنى : اذكروا حقيقة معنى حياتكم وخاصة المزايا ومحاسن التألف والسكونة بين الزوجين وما بينه الله تعالى لكم بلسان الوعظ من المعارف المتعلقة بها في ظاهر الاحكام وحكمها فإنكم إن تأملتم ذلك أوشك أن تلزموا صراط السعادة ، ولا تفسدوا كمال حياتكم ونعمة وجودكم ، واتقوا الله ولتتوجه نفوسكم إلى أن الله بكل شيء عليم ، حتى لا يخالف ظاهركم باطنكم ، ولاتجترؤوا على الله بهدم باطن الدين في صورة تعمير ظاهره.
  قوله تعالى : ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ) ، العضل المنع ، والظاهر أن الخطاب في قوله : فلا تعضلوهن ، لاوليائهن ومن يجري مجراهم ممن لايسعهن مخالفته ، والمراد بأزواجهن ، الازواج قبل الطلاق ، فالآية تدل على نهي الاولياء ومن يجري مجراهم عن منع المرأة ان تنكح زوجها ثانيا بعد انقضاء العدة سخطا ولجاجا كما يتفق كثيرا ، ولا دلالة في ذلك على أن العقد لا يصح إلا بولي .

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 238 _
  اما اولا : فلان قوله : فلا تعضلوهن ، لو لم يدل على عدم تأثير الولاية في ذلك لم يدل على تأثيره.
  واما ثانيا : فلان اختصاص الخطاب بالاولياء فقط لادليل عليه بل الظاهر أنه أعم منهم ، وأن النهى نهي إرشادي إلى ما يترتب على هذا الرجوع من المصالح والمنافع كما قال تعالى : ذلكم ازكى لكم وأطهر.
  وربما قيل : إن الخطاب للازواج جريا على ما جرى به قوله : وإذا طلقتم النساء ، والمعنى : وإذا طلقتم النساء يا أيها الازواج فانقضت عدتهن فلا تمنعوهن أن ينكحن أزواجا يكونون أزواجهن ، وذلك بأن يخفي عنهن الطلاق لتضار بطول العدة ونحو ذلك.
  وهذا الوجه لا يلائم قوله تعالى : أزواجهن ، فإن التعبير المناسب لهذا المعنى أن يقال : ان ينكحن أو ان ينكحن أزواجا وهو ظاهر.
  والمراد بقوله تعالى : فبلغن أجلهن : انقضاء العدة ، فإن العدة لو لم تنقض لم يكن لاحد من الاولياء وغيرهم ان يمنع ذلك وبعولتهن احق بردهن في ذلك. على أن قوله تعالى : ان ينكحن ، دون ان يقال : يرجعن ونحوه ينافي ذلك.
  قوله تعالى : ( ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) ، هذا كقوله فيما مر : ( وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) الآية ، وإنما خص الموردان من بين الموارد بالتقييد بالايمان بالله واليوم الآخر ، وهو التوحيد ، لان دين التوحيد يدعو إلى الاتحاد دون الافتراق ، ويقضي بالوصل دون الفصل.
  وفي قوله تعالى : ذلك يوعظ به من كان منكم ، التفات إلى خطاب المفرد عن خطاب الجمع ثم التفات عن خطاب المفرد إلى خطاب الجمع ، والاصل في هذا الكلام خطاب المجموع اعني خطاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وامته جميعا لكن ربما التفت إلى خطاب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحده في غير جهات الاحكام كقوله : تلك حدود الله فلا تعتدوها ، وقوله فاولئك هم الظالمون ، وقوله : وبعولتهن احق بردهن في ذلك ، وقوله : ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله ، حفظا لقوام الخطاب ، ورعاية لحال من هو ركن في هذه

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 239 _
  المخاطبة وهو رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإنه هو المخاطب بالكلام من غير واسطة ، وغيره فخاطب بوساطته ، واما الخطابات المشتملة على الاحكام فجميعها موجهة نحو المجموع ، ويرجع حقيقة هذا النوع من الالتفات الكلامي إلى توسعة الخطاب بعد تضييقه وتضييقه بعد توسعته فليتدبر فيه.
  قوله تعالى : ( ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) ، الزكاة هو النمو الصالح الطيب ، وقد مر الكلام في معنى الطهارة ، والمشار إليه بقوله : ذلكم عدم المنع عن رجوعهن إلى ازواجهن ، أو نفس رجوعهن إلى ازواجهن ، والمال واحد ، وذلك ان فيه رجوعا من الانثلام والانفصال إلى الالتيام والاتصال ، وتقوية لغريزة التوحيد في النفوس فينمو على ذلك جميع الفضائل الدينية ، وفيه تربية لملكة العفة والحياء فيهن وهو استر لهن واطهر لنفوسهن ، ومن جهة أخرى فيه حفظ قلوبهن عن الوقوع على الاجانب إذا منعن عن نكاح ازواجهن.
  والاسلام دين الزكاة والطهارة والعلم ، قال تعالى : ( وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) آل عمران ـ 164 ، وقال تعالى : ( وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ ) المائدة ـ 7.
  قوله تعالى : ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ، اي إلاما يعلمكم كما قال تعالى : ( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) آل عمران ـ 164 ، وقال تعالى : ( وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ) البقرة ـ 255 ، فلا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى : وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون الآية اي يعلمون بتعليم الله.
  قوله تعالى : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ). الوالدات هن الامهات ، وإنما عدل عن الامهات إلى الوالدات لان الام اعم من الوالدة كما ان الاب اعم من الوالد والابن اعم من الولد ، والحكم في الآية مشروع في خصوص مورد الوالدة والولد والمولود له ، واما تبديل الوالد بالمولود له ، ففيه اشارة إلى حكمة التشريع فإن الوالد لما كان مولودا للوالد ملحقا به في معظم أحكام حياته لافي جميعها كما سيجئ بيانها في آية التحريم من سورة النساء إنشاء الله كان عليه ان يقوم بمصالح حياته ولوازم تربيته ، ومنها كسوة امه التي ترضعه ، ونفقتها ، وكان على أمه ان لا تضار والده لان الولد مولود له.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 240 _
  ومن أعجب الكلام ما ذكر بعض المفسرين : أنه إنما قيل : المولود له دون الوالد : ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهن لان الاولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الامهات ، وأنشد المأمون بن الرشيد :

وإنما أمهات الناس أوعية      مستودعات  وللآباء iiأبناء
  انتهى ملخصا ، وكأنه ذهل عن صدر الآية وذيلها حيث يقول تعالى : أولادهن ويقول : بولدها ، وأما ما أنشده من شعر المأمون فهو وأمثاله أنزل قدرا من أن يتأيد بكلامه كلام الله تعالى وتقدس.
  وقد اختلط على كثير من علماء الادب امر اللغة ، وامر التشريع ، حكم الاجتماع وامر التكوين فربما استشهدوا باللغة على حكم اجتماعي ، أو حقيقة تكوينية.
  وجملة الامر في الولد ان التكوين يلحقه بالوالدين معا لاستناده في وجوده اليهما معا ، والاعتبار الاجتماعي فيه مختلف بين الامم : فبعض الامم يلحقه بالوالدة ، وبعضهم بالوالد والآية تقرر قول هذا البعض ، وتشير إليه بقوله : المولود له كما تقدم ، والارضاع إفعال من الرضاعة والرضع وهو مص الثدي بشرب اللبن منه ، والحول هو السنة سميت به لانها تحول ، وإنما وصف بالكمال لان الحول والسنة لكونه ذا اجزاء كثيرة ربما يسامح فيه فيطلق على الناقص كالكامل ، فكثيرا ما يقال : اقمت هناك حولا أو حولين إذا أقيم مدة تنقص منه اياما.
  وفي قوله تعالى : لمن اراد ان يتم الرضاعة ، دلالة على ان الحضانة والارضاع حق للوالدة المطلقة موكول إلى اختيارها ، والبلوغ إلى آخر المدة ايضا من حقها فإن شاءت إرضاعه حولين كاملين فلها ذلك وان لم تشأ التكميل فلها ذلك ، واما الزوج فليس له في ذلك حق الا إذا وافقت عليه الزوجة بتراض منهما كما يشير إليه قوله تعالى فإن ارادا فصالا الخ.
  قوله تعالى : ( وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ) ، المراد بالمولود له هو الوالد كما مر ، والرزق والكسوة هما النفقة واللباس ، وقد نزلهما الله تعالى على المعروف وهو المتعارف من حالهما ، وقد علل ذلك بحكم عام آخر رافع للحرج ، وهو قوله تعالى : لا تكلف نفس الا وسعها ، وقد فرع عليه حكمين

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 241 _
  آخرين ، احدهما : حق الحضانة والارضاع الذي للزوجة وما اشبهه فلا يحق للزوج ان يحول بين الوالدة وولدها بمنعها عن حضانته أو رؤيته أو ما أشبه ذلك فإن ذلك مضارة وحرج عليها ، وثانيهما : نفي مضارة الزوجة للزوج بولده بأن تمنعه عن الرؤية ونحو ذلك ، وذلك قوله تعالى : لاتضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ، والنكتة في وضع الظاهر موضع الضمير أعني في قوله : بولده دون ان يقول به رفع التناقض المتوهم ، فإنه لو قيل : ولا مولود له به رجع الضمير إلى قوله ولدها وكان ظاهر المعنى : ولا مولود له بولد المرأة فأوهم التناقض لان إسناد الولادة إلى الرجل يناقض إسنادها إلى المرأة ، ففي الجملة مراعاة لحكم التشريع والتكوين معا أي إن الولد لهما معا تكوينا فهو ولده وولدها ، وله فحسب تشريعا لانه مولود له.
  قوله تعالى : ( وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ، ظاهر ) الآية : ان الذى جعل على الوالد من الكسوة والنفقة فهو مجعول على وارثه إن مات ، وقد قيل في معنى الآية أشياء أخر لا يوافق ظاهرها ، وقد تركنا ذكرها لانها بالبحث الفقهي أمس فلتطلب من هناك ، والذي ذكرناه هو الموافق لمذهب أئمة أهل البيت فيما نقل عنهم من الاخبار ، وهو الموافق أيضا لظاهر الآية.
  قوله تعالى : ( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ ) إلى آخر الآية ، الفصال : الفطام ، والتشاور : الاجتماع على المشورة ، والكلام تفريع على الحق المجعول للزوجة ونفي الحرج عن البين ، فالحضانة والرضاع ليس واجبا عليها غير قابل التغيير ، بل هو حق يمكنها أن تتركه.
  فمن الجائز ان يتراضيا بالتشاور على فصال الولد من غير جناح عليهما ولا بأس ، وكذا من الجائز ان يسترضع الزوج لولده من غير الزوجة الوالدة إذا ردت الولد إليه بالامتناع عن ارضاعه ، أو لعلة أخرى من انقطاع لبن أو مرض ونحوه إذا سلم لها ما تستحقها تسليما بالمعروف بحيث لا يزاحم في جميع ذلك حقها ، وهو قوله تعالى : وإن أردتم أن تسترضعوا اولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف.
  قوله تعالى : ( وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ، أمر بالتقوى وان

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 242 _
  يكون هذا التقوى بإصلاح صورة هذه الاعمال ، فإنها أمور مرتبطة بالظاهر من الصورة ولذلك : ( وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ، وهذا بخلاف ما في ذيل قوله تعالى السابق : ( وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ) الآية من قوله تعالى : ( وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ، فان تلك الآية مشتملة على قوله تعالى : ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ، والمضارة ربما عادت إلى النية من غير ظهور في صورة العمل إلا بحسب الاثر بعد.
  قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) ، التوفي هو الاماتة ، يقال : توفاه الله إذا اماته فهو متوفى بصيغة اسم المفعول ، ويذرون مثل يدعون بمعنى يتركون ولا ماضي لهما من مادتهما ، والمراد بالعشر الايام حذفت لدلالة الكلام عليه.
  قوله تعالى : ( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ المراد ببلوغ الاجل انقضاء العدة ) ، وقوله : فلا جناح الخ كناية عن إعطاء الاختيار لهن في افعالهن فإن اخترن لانفسهن الازدواج فلهن ذلك ، وليس لقرابة الميت منعهن عن شيء من ذلك استنادا إلى بعض العادات المبنية على الجهالة والعمى أو الشح والحسد فإن لهن حقا في ذلك معروفا في الشرع وليس لاحد ان ينهي عن المعروف.
  وقد كانت الامم على أهواء شتى في المتوفى عنها زوجها ، بين من يحكم بإحزاق الزوجة الحية مع زوجها الميت أو إلحادها وإقبارها معه ، وبين من يقضي بعدم جواز ازدواجها ما بقيت بعده إلى آخر عمرها كالنصارى ، وبين من يوجب اعتزالها عن الرجال إلى سنة من حين الوفاة كالعرب الجاهلي ، أو ما يقرب من السنة كتسعة أشهر كما هو كذلك عند بعض الملل الراقية ، وبين من يعتقد أن للزوج المتوفى حقا على الزوجة في الكف عن الازدواج حينا من غير تعيين للمدة ، كل ذلك لما يجدونه من أنفسهم أن الازدواج للاشتراك في الحياة والامتزاج فيها ، وهو مبني على أساس الانس والالفه ، وللحب حرمة يجب رعايتها ، وهذا وان كان معنى قائما بالطرفين ، ومرتبطا بالزوج والزوجة معا فكل منهما أخذته الوفاة كان على الآخر رعاية هذه الحرمة بعد صاحبه ، غير أن هذه المراعاة على المرأة أوجب وألزم ، لما يجب عليها من مراعاة جانب الحياء والاحتجاب والعفة ، فلا ينبغي لها أن تبتذل فتكون كالسلعة المبتذلة الدائرة تعتورها الايدي واحدة بعد واحدة ، فهذا هو الموجب لما حكم به هذه

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 243 _
  الاقوام المختلفة في المتوفى عنها زوجها ، وقد عين الاسلام هذا التربص بما يقرب من ثلث سنة ، أعني اربعة أشهر وعشرا.
  قوله تعالى : ( وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) ، لما كان الكلام مشتملا على تشريع عدة الوفاة وعلى تشريع حق الازدواج لهن بعدها ، وكان كل ذلك تشخيصا للاعمال مستندا إلى الخبرة الالهية كان الانسب تعليله بأن الله خبير بالاعمال مشخص للمحظور منها عن المباح ، فعليهن أن يتربصن في مورد وأن يخترن ما شئن لانفسهن في مورد آخر ، ولذا ذيل الكلام بقوله : ( وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
  قوله تعالى : ( لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ التعريض هو الميل بالكلام إلى جانب ليفهم المخاطب أمرا مقصودا للمتكلم لا يريد التصريح به ) ، من العرض بمعنى الجانب فهو خلاف التصريح.
  والفرق بين التعريض والكناية ان للكلام الذي فيه التعريض معنى مقصودا غير ما اعترض به كقول المخاطب للمرأة : إني حسن المعاشرة واحب النساء ، اي لو تزوجت بي سعدت بطيب العيش وصرت محبوبة ، بخلاف الكناية إذ لا يقصد في الكناية غير المكنى عنه كقولك : فلان كثير الرماد تريد انه سخي.
  والخطبة بكسر الخاء من الخطب بمعنى التكلم والمراجعة في الكلام ، يقال : خطب المرأة خطبة بالكسر إذا كلمها في أمر التزوج بها فهو خاطب ولايقال : خطيب ويقال خطب القوم خطبة بضم الخاء إذا كلمهم ، وخاصة في الوعظ فهو خاطب من الخطاب وخطيب من الخطباء.
  والاكنان من الكن بالفتح بمعنى الستر لكن يختص الاكنان بما يستر في النفس كما قال : أو أكننتم في انفسكم ، والكن بما يستر بشيء من الاجسام كمحفظة أو ثوب أو بيت ، قال تعالى : ( كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ ) الصافات ـ 49 ، وقال تعالى : ( كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ) الواقعة ـ 23 ، والمراد بالآية نفى البأس عن التعريض في الخطبة أو إخفاء أمور في القلب في امرها.
  قوله تعالى : ( عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ) ، في مورد التعليل لنفي الجناح عن

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 244 _
  الخطبة والتعريض فيها ، والمعنى : ان ذكركم إياهن امر مطبوع في طباعكم والله لاينهي عن امر تقضي به غريزتكم الفطرية ونوع خلقتكم ، بل يجوزه ، وهذا من الموارد الظاهرة في ان دين الاسلام مبني على اساس الفطرة.
  قوله تعالى : ( وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) ، العزم عقد القلب على الفعل وتثبيت الحكم بحيث لا يبقى فيه وهن في تأثيره الا ان يبطل من رأس ، والعقدة من العقد بمعنى الشد، وفي الكلام تشبيه علقة الزوجية بالعقدة التي يعقد بها أحد الخيطين بالآخر بحيث يصيران واحدا بالاتصال ، كأن حبالة النكاح تصير الزوجين واحدا متصلا ، ثم في تعليق عقدة النكاح بالعزم الذي هو امر قلبي اشارة إلى ان سنخ هذه العقدة والعلقة أمر قائم بالنية والاعتقاد فإنها من الاعتبارات العقلائية التي لا موطن لها إلا ظرف الاعتقاد والادراك ، نظير الملك وسائر الحقوق الاجتماعية العقلائية كما مر بيانه في ذيل قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) الآية البقرة ـ 213 ، ففي الآية استعارة وكناية ، والمراد بالكتاب هو المكتوب أي المفروض من الحكم وهو التربص الذي فرضه الله على المعتدات.
  فمعنى الآية : ولاتجروا عقد النكاح حتى تنقضي عدتهن ، وهذه الآية تكشف أن الكلام فيها وفي الآية السابقة عليها أعني قوله تعالى : لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء الآية إنما هو في خطبة المعتدات وفي عقدهن ، وعلى هذا فاللام في قوله : النساء للعهد دون الجنس وغيره.
  قوله تعالى : ( وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ ) الخ ايراد ما ذكر من صفاته تعالى في الآية ، اعني العلم والمغفرة والحكم يدل على أن الامور المذكورة في الآيتين وهي خطبة المعتدات والتعريض لهن ومواعدتهن سرا من موارد الهلكات لا يرتضيها الله سبحانه كل الارتضاء وإن كان قد أجاز ما أجازه منها.
  قوله تعالى : ( لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ) ، المس كناية عن المواقعة ، والمراد بفرض الفريضة تسمية المهر ، والمعنى : ان عدم مس الزوجة لا يمنع عن صحة الطلاق وكذا عدم ذكر المهر.
  قوله تعالى : ( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ) ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 245 _
  التمتيع إعطاء ما يتمتع به ، والمتاع والمتعة ما يتمتع به ، ومتاعا مفعول مطلق لقوله تعالى : ومتعوهن ، اعترض بينهما قوله تعالى : على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ، والموسع اسم فاعل من أوسع إذا كان على سعة من المال وكأنه من الافعال المتعدية التي كثر استعمالها مع حذف المفعول اختصارا حتى صار يفيد ثبوت أصل المعنى فصار لازما والمقتر اسم فاعل من أقتر إذا كان على ضيق من المعاش ، والقدر بفتح الدال وسكونها بمعنى واحد.
  ومعنى الآية : يجب عليكم ان تمتعوا المطلقات عن غير فرض فريضة متاعا بالمعروف وإنما يجب على الموسع قدره أي ما يناسب حاله ويتقدر به وضعه من التمتيع ، وعلى المقتر قدره من التمتيع ، وهذا يختص بالمطلقة غير المفروضة لها التي لم يسم مهرها ، والدليل على أن هذا التمتيع المذكور مختص بها ولا يعم المطلقة المفروضة لها التي لم يدخل بها ما في الآية التالية من بيان حكمها.
  قوله تعالى : ( حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) ، اي حق الحكم حقا على المحسنين ، وظاهر الجملة وان كان كون الوصف اعني الاحسان دخيلا في الحكم ، وحيث ليس الاحسان واجبا استلزم كون الحكم استحبابيا غير وجوبي ، إلا ان النصوص من طرق اهل البيت تفسر الحكم بالوجوب ، ولعل الوجه فيه ما مر من قوله تعالى : الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح باحسان الآية فأوجب الاحسان على المسرحين وهم المطلقون فهم ـ المحسنون ، وقد حق الحكم في هذه الآية على المحسنين وهم المطلقون ، والله اعلم.
  قوله تعالى : ( وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُن ) الخ ، أي وان اوقعتم الطلاق قبل الدخول بهن وقد فرضتم لهن فريضة وسميتم المهر فيجب عليكم تأدية نصف ما فرضتم من المهر إلى أن يعفون هؤلاء المطلقات أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح من وليهن فيسقط النصف المذكور ايضا ، أو الزوج فان عقدة النكاح بيده أيضا ، فلا يجب على الزوجة المطلقة رد نصف المهر الذي أخذت ، والعفو على أي حال أقرب للتقوى لان من أعرض عن حقه الثابت شرعا فهو عن الاعراض عما ليس له بحق من محارم الله سبحانه اقوى وأقدر.
  قوله تعالى : ( وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ) الخ الفضل هو الزيادة كالفضول غير )

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 246 _
  الفضل هو الزيادة في المكارم والمحامد والفضول هو الزيادة غير المحمودة على ما قيل ، وفي الكلام ذكر الفضل الذي ينبغي ان يؤثره الانسان في مجتمع الحياة فيتفاضل به البعض على بعض ، والمراد به الترغيب في الاحسان والفضل بالعفو عن الحقوق والتسهيل والتخفيف من الزوج للزوجة وبالعكس ، والنكتة في قوله تعالى : ( إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ) ، كالنكتة فيما مر في ذيل قوله تعالى : ( وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُن ) الآية.
  قوله تعالى : ( حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ ) إلى آخر الآية ، حفظ الشئ ضبطه وهو في المعاني أعني حفظ النفس لما تستحضره أو تدركه من المعاني أغلب ، والوسطى مؤنث الاوسط ، والصلاة الوسطى هي الواقعة في وسطها ، ولا يظهر من كلامه تعالى ما هو المراد من الصلاة الوسطى ، وإنما تفسيره السنة ، وسيجئ ما ورد من الروايات في تعيينه.
  واللام في قوله تعالى : قوموا لله ، للغاية ، والقيام بأمر كناية عن تقلده والتلبس واللام في قوله تعالى : قوموا لله ، للغاية ، والقيام بأمر كناية عن تقلده والتلبس بفعله ، والقنوت هو الخضوع بالطاعة ، قال تعالى : ( كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) البقرة ـ 116 ، وقال تعالى : ( وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ) الاحزاب ـ 31 ، فمحصل المعنى : تلبسوا بطاعة الله سبحانه بالخضوع مخلصين له ولاجله.
  قوله تعالى : ( فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ) إلى آخر الآية عطف الشرط على الجملة السابقة يدل على تقدير شرط محذوف أي حافظوا إن لم تخافوا ، وإن خفتم فقدروا المحافظة بقدر ما يمكن من الصلاة راجلين وقوفا أو مشيا أو راكبين ، والرجال جمع راجل والركبان جمع راكب ، وهذه صلاة الخوف.
  والفاء في قوله تعالى : فإذا أمنتم ، للتفريع أي ان المحافظة على الصلاة أمر غير ساقط من اصله بل إن لم تخافوا شيئا وأمكنت لكم وجبت عليكم وإن تعسر عليكم فقدروها بقدر ما يمكن لكم ، وإن زال عنكم الخوف بتجدد الامن ثانيا عاد الوجوب ووجب عليكم ذكر الله سبحانه.
  والكاف في قوله تعالى : كما علمكم ، للتشبيه ، وقوله : ما لم تكونوا تعلمون من قبيل وضع العام موضع الخاص دلالة على الامتنان بسعة النعمة والتعليم ، والمعنى على

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 247 _
  هذا : فاذكروا الله ذكرا يماثل ما علمكم من الصلاة المفروضة المكتوبة في حال الامن في ضمن ما علمكم من شرائع الدين.
  قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم ) ، وصية مفعول مطلق لمقدر ، والتقدير ليوصوا وصية ينتفع به أزواجهم ويتمتعن متاعا إلى الحول بعد التوفي.
  وتعريف الحول باللام لا يخلو عن دلالة على كون الآية نازلة قبل تشريع عدة الوفاة ، أعني الاربعة أشهر وعشرة أيام فإن عرب الجاهلية كانت نسائهم يقعدن بعد موت أزواجهن حولا كاملا ، فالآية توصي بأن يوصي الازواج لهن بمال يتمتعن به إلى تمام الحول من غير إخراجهن من بيوتهن ، غير ان هذا لما كان حقا لهن والحق يجوز تركه كان لهن ان يطالبن به ، وان يتركنه فإن خرجن فلا جناح للورثة ومن يجري مجراهم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ، وهذا نظير ما أوصى الله به من حضره الموت ان يوصي للوالدين والاقربين بالمعروف ، قال تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) البقرة ـ 180.
  ومما ذكرنا يظهر ان الآية منسوخة بآية عدة الوفاة وآية الميراث بالربع والثمن.
  قوله تعالى : ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين ) ، الآية في حق مطلق المطلقات ، وتعليق ثبوت الحكم بوصف التقوى مشعر بالاستحباب.
  قوله تعالى : ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ، الاصل في معنى العقل العقد والامساك وبه سمي إدراك الانسان إدراكا يعقد عليه عقلا ، وما أدركه عقلا ، والقوة التي يزعم انها إحدى القوى التي يتصرف بها الانسان يميز بها بين الخير والشر والحق والباطل عقلا ، ويقابله الجنون والسفه والحمق والجهل باعتبارات مختلفة .
  والالفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الادراك كثيرة ربما بلغت العشرين ، كالظن ، والحسبان ، والشعور ، والذكر ، والعرفان ، والفهم ، والفقه ، والدراية ، واليقين ، والفكر ، والرأى ، والزعم ، والحفظ ، والحكمة ، والخبرة ، والشهادة ، والعقل ، ويلحق بها مثل القول ، والفتوى ، والبصيرة ونحو ذلك.
  والظن هو التصديق الراجح وإن لم يبلغ حد الجزم والقطع ، وكذا الحسبان ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 248 _
  غير ان الحسبان كأن استعماله في الادراك الظني استعمال استعاري ، كالعد بمعنى الظن وأصله من نحو قولنا : عد زيدا من الابطال وحسبه منهم أي ألحقه بهم في العد والحساب.
  والشعور هو الادراك الدقيق مأخوذ من الشعر لدقته ، ويغلب استعماله في المحسوس دون المعقول ، ومنه إطلاق المشاعر للحواس.
  والذكر هو استحضار الصورة المخزونة في الذهن بعد غيبته عن الادراك أو حفظه من ان يغيب عن الادراك.
  والعرفان والمعرفة تطبيق الصورة الحاصلة في المدركة على ما هو مخزون في الذهن ولذا قيل : إنه إدراك بعد علم سابق.
  والفهم : نوع انفعال للذهن عن الخارج عنه بانتقاش الصورة فيه.
  والفقه : هو التثبت في هذه الصورة المنتقشة فيه والاستقرار في التصديق.
  والدراية : هو التوغل في ذلك التثبت والاستقرار حتى يدرك خصوصية المعلوم وخباياه ومزاياه ، ولذا يستعمل في مقام تفخيم الامر وتعظيمه ، قال تعالى : ( الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ ) الحاقة ـ 2 ، وقال تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) القدر ـ 2.
  واليقين : هو اشتداد الادراك الذهني بحيث لا يقبل الزوال والوهن.
  والفكر نحو سير ومرور على المعلومات الموجودة الحاضرة لتحصيل ما يلازمها من المجهولات.
  والرأي : هو التصديق الحاصل من الفكر والتروي ، غير انه يغلب استعماله في العلوم العملية مما ينبغي فعله وما لا ينبغي دون العلوم النظرية الراجعة إلى الامور التكوينية ، ويقرب منه البصيرة ، والافتاء ، والقول ، غير ان استعمال القول كأنه استعمال استعاري من قبيل وضع اللازم موضع الملزوم لان القول في شيء يستلزم الاعتقاد بما يدل عليه.
  والزعم : هو التصديق من حيث أنه صورة في الذهن سواء كان تصديقا راجحا أو جازما قاطعا.
  والعلم كما مر : هو الادراك المانع من النقيض

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 249 _
  والحفظ : ضبط الصورة المعلومة بحيث لا يتطرق إليه التغيير والزوال.
  والحكمة : هي الصورة العلمية من حيث إحكامها وإتقانها.
  والخبره : هو ظهور الصورة العلمية بحيث لا يخفي على العالم ترتب أي نتيجة على مقدماتها.
  والشهادة : هو نيل نفس الشئ وعينه إما بحس ظاهر كما في المحسوسات أو باطن كما في الوجدانيات نحو العلم والارادة والحب والبغض وما يضاهي ذلك.
  والالفاظ السابقة على ما عرفت من معانيها لا تخلو عن ملابسة المادة والحركة والتغير ، ولذلك لا تستعمل في مورده تعالى غير الخمسة الاخيرة منها أعني العلم والحفظ والحكمة والخبرة والشهادة ، فلا يقال فيه تعالى : انه يظن أو يحسب أو يزعم أو يفهم أو يفقه أو غير ذلك.
  واما الالفاظ الخمسة الاخيرة فلعدم استلزامها للنقص والفقدان تستعمل في مورده تعالى ، قال سبحانه : ( وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) النساء ـ 75 ، وقال تعالى : ( وربك على كل شئ حفيظ ) سبأ ـ 21 ، وقال تعالى : ( وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) البقرة ـ 234 ، وقال تعالى : ( هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) يوسف ـ 83 ، وقال تعالى : ( أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) فصلت ـ 53.
  ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول : لفظ العقل على ما عرفت يطلق على الادراك من حيث ان فيه عقد القلب بالتصديق ، على ما جبل الله سبحانه الانسان عليه من إدراك الحق والباطل في النظريات ، والخير والشر والمنافع والمضار في العمليات حيث خلقه الله سبحانه خلقة يدرك نفسه في اول وجوده ، ثم جهزه بحواس ظاهرة يدرك بها ظواهر الاشياء ، وباخرى باطنة يدرك معاني روحية بها ترتبط نفسه مع الاشياء الخارجة عنها كالارادة ، والحب والبغض ، والرجاء ، والخوف ، ونحو ذلك ، ثم يتصرف فيها بالترتيب والتفصيل والتخصيص والتعميم ، فيقضي فيها في النظريات والامور الخارجة عن مرحلة العمل قضاء نظريا ، وفي العمليات والامور المربوطة بالعمل قضاء عمليا ، كل ذلك جريا على المجرى الذي تشخصه له فطرته الاصلية ، وهذا هو العقل.

الميزان في تفسير القران (الجزء الثاني)_ 250 _
  لكن ربما تسلط بعض القوى على الانسان بغلبته على سائر القوى كالشهوة والغضب فأبطل حكم الباقي أو ضعفه ، فخرج الانسان بها عن صراط الاعتدال إلى أودية الافراط والتفريط ، فلم يعمل هذا العامل العقلي فيه على سلامته ، كالقاضي الذي يقضي بمدارك أو شهادات كاذبة منحرفة محرفة ، فإنه يحيد في قضائه عن الحق وإن قضى غير قاصد للباطل ، فهو قاض وليس بقاض ، كذلك الانسان يقضي في مواطن المعلومات الباطلة بما يقضي ، وإنه وإن سمي عمله ذلك عقلا بنحو من المسامحة ، لكنه ليس بعقل حقيقة لخروج الانسان عند ذلك عن سلامة الفطرة وسنن الصواب.
  وعلى هذا جرى كلامه تعالى ، فإنه يعرف العقل بما ينتفع به الانسان في دينه ويركب به هداه إلى حقائق المعارف وصالح العمل ، وإذا لم يجر على هذا المجرى فلا يسمى عقلا ، وإن عمل في الخير والشر الدنيوي فقط ، قال تعالى ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) الملك ـ 10.
  وقال تعالى : ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) الحج ـ 46 ، فالآيات كما ترى تستعمل العقل في العلم الذي يستقل الانسان بالقيام عليه بنفسه ، والسمع في الادراك الذي يستعين فيه بغيره مع سلامة الفطرة في جميع ذلك ، وقال تعالى : ( وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ) البقرة ـ 130 ، وقد مر ان الآية بمنزلة عكس النقيض لقوله ( عليه السلام ) : العقل ما عبد به الرحمن الحديث.
  فقد تبين من جميع ما ذكرنا : ان المراد بالعقل في كلامه تعالى هو الادراك الذي يتم للانسان مع سلامه فطرته ، وبه يظهر معنى قوله سبحانه : كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ، فبالبيان يتم العلم ، والعلم مقدمة للعقل ووسيلة إليه كما قال تعالى : ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُون ) العنكبوت ـ 43.
  ( بحث روائي )
  في سنن أبي داود عن اسماء بنت يزيد بن السكن الانصارية ، قالت : طلقت على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل حين طلقت العدة للطلاق :