وهو المصطلح ويمكن ان يكون المراد هو النسخ بالمعنى الاعم ، على ما سيجئ في قوله تعالى : ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ) البقرة ـ 106 ، وهو الكثير في كلامهم ( عليهم السلام ) لتكون هذه الآية وآية القتال غير متحدتين موردا.
  ( وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ) ـ 89 ، ( بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) ـ 90 ، ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) ـ 91 ، ( وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ) ـ 92 ، ( أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ) ـ 93 .

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 222 _

  ( بيان )
  قوله تعالى : ولما جاءهم الخ ، السياق يدل على أن هذا الكتاب هو القرآن.
  وقوله : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ، على وقوع تعرض بهم من كفار العرب ، وأنهم كانوا يستفتحون أي يطلبون الفتح عليهم ببعثة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهجرته وأن ذلك الاستفتاح قد استمر منهم قبل الهجرة ، بحيث كان الكفار من العرب أيضا يعرفون ذلك منهم لمكان قوله : كانوا ، وقوله : فلما جاءهم ما عرفوا ، أي عرفوا أنه هو بإنطباق ما كان عندهم من الاوصاف عليه كفروا.
  قوله تعالى : بئسما إشتروا بيان لسبب كفرهم بعد العلم وأن السبب الوحيد في ذلك هوالبغي والحسد ، فقوله بغيا ، مفعول مطلق نوعي ، وقوله أن ينزل الله ، متعلق به ، وقوله تعالى : فبائوا بغضب على غضب ، أي رجعوا بمصاحبته أو بتلبس غضب بسبب كفرهم بالقرآن على غضب بسبب كفرهم بالتوراة من قبل ، والمعنى أنهم كانوا قبل البعثة والهجرة ظهيرا للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومستفتحا به وبالكتاب النازل عليه ، ثم لما نزل بهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونزل عليه القرآن وعرفوا أنه هو الذي كانوا يستفتحون به وينتظرون قدومه هاج بهم الحسد ، وأخذهم الاستكبار ، فكفروا وإنكروا ما كانوا يذكرونه كما كانوا يكفرون بالتوراة من قبل ، فكان ذلك منهم كفرا على كفر.
  قوله تعالى : ويكفرون بما ورائه ، أي يظهرون الكفر بما ورائه ، وإلا فهم بالذي أنزل إليهم وهو التوراة أيضا كافرون.
  قوله تعالى : قل فلم تقتلون ، الفاء للتفريع ، والسؤال متفرع على قولهم : نؤمن بما أنزل علينا ، أي لو كان قولكم : نؤمن بما أنزل علينا حقا وصدقا فلم تقتلون أنبياء الله ، ولم كفرتم بموسى بإتخاذ العجل ، ولم قلتم عند أخذ الميثاق ورفع الطور : سمعنا وعصينا.
  قوله تعالى : واشربوا في قلوبهم العجل ، الاشراب هو السقى ، والمراد بالعجل

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 223 _

  حب العجل ، وضع موضعه للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل وبه يتعلق قوله في قلوبهم ، ففي الكلام استعارتان أو استعارة ومجاز.
  قوله تعالى : قل بئسما يأمركم به إيمانكم ، بمنزلة أخذ النتيجة مما أورد عليهم من قتل الانبياء والكفر بموسى ، والاستكبار بإعلام المعصية ، وفيه معنى الاستهزاء بهم.
  ( بحث روائي )
  في تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق ) الآية قال ( عليه السلام ) : كانت اليهود تجد في كتبهم أن مهاجر محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما بين عير وأحد فخرجوا يطلبون الموضع ، فمروا بجبل يقال له حداد فقالوا حداد وأحد سواء ، فتفرقوا عنده ، فنزل بعضهم بتيما ، وبعضهم بفدك ، وبعضهم بخيبر ، فاشتاق الذين بتيما إلى بعض إخوانهم ، فمر بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه ، وقال لهم أمر بكم ما بين عير وأحد ، فقالوا له إذا مررت بهما فآذنا لهما ، فلما توسط بهم أرض المدينة ، قال ذلك عير وهذا احد فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا فكتبوا إليهم إنا قد إستقرت بنا الدار واتخذنا بها الاموال وما أقربنا منكم فإذا كان ذلك أسرعنا إليكم ، واتخذوا بأرض المدينة ، أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم آمنهم فنزلوا عليه فقال لهم إني قد إستطبت بلادكم ولا أراني إلا مقيما فيكم ، فقالوا : ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي ، وليس ذلك لاحد حتى يكون ذلك ، فقال لهم فاني مخلف فيكم من اسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره فخلف حيين تراهم : الاوس والخزرج ، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود ، فكانت اليهود تقول لهم أما لو بعث محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا فلما بعث الله محمدا آمنت به الانصار وكفرت به اليهود وهو قوله تعالى : ( وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 224 _

  كَفَرُوا ) إلى آخر الآية.
  وفي الدر المنثور أخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم ( في الدلائل ) عن إبن عباس أن اليهود كانوا يستفتحون على الاوس والخزرج برسول الله قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن أبي البراء وداود بن سلمة يا معشر اليهود إتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أصل شرك وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته ، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير ما جاءنا بشئ نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله : ولما جاءهم كتاب من عند الله الآية.
  وفي الدر المنثور أيضا أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن إبن عباس قال كانت يهود بني قريظة والنضير من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يستفتحون الله ، يدعون على الذين كفروا ويقولون : اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الامي إلا نصرتنا عليهم فينصرون فلما جائهم ما عرفوا يريد محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم يشكوا فيه كفروا به.
  أقول : وروي قريبا من هذين المعنيين بطرق أخرى أيضا ، قال بعض المفسرين بعد الاشارة إلى الرواية الاخيرة ونظائرها : إنها على ضعف رواتها ومخالفتها للروايات المنقولة شاذة المعنى بجعل الاستفتاح دعاء بشخص النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفي بعض بحقه وهذا غير مشروع ولا حق لاحد على الله فيدعى به إنتهى.
  وهذا ناش من عدم التأمل في معنى الحق وفي معنى القسم ، بيانه : أن القسم هو تقييد الخبر أو الانشاء بشئ ذي شرافة وكرامة من حيث أنه شريف أو كريم فتبطل شرافته أو كرامته ببطلان النسبة الكلامية ، فإن كان خبرا فببطلان صدقه وإن كان إنشاء أمرا أو نهيا فبعدم إمتثال التكليف ، فإذا قلت : لعمري إن زيدا قائم فقد قيدت صدق كلامك بشرافة عمرك وحياتك وعلقتها عليه بحيث لو كان حديثك كاذبا كان عمرك فاقدا للشرافة ، وكذا إذا قلت إفعل كذا وحياتي أو قلت أقسمك بحياتي أن تفعل كذا فقد قيدت أمرك بشرف حياتك بحيث لو لم يأتمر مخاطبك لذهب بشرف

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 225 _

  حياتك وقيمة عمرك.
  ومن هنا يظهر أولا : أن القسم أعلى مراتب التأكيد في الكلام كما ذكره أهل الادب.
  وثانيا : أن المقسم به يجب أن يكون أشرف من متعلقه فلا معنى لتأكيد الكلام بما هو دونه في الشرف والكرامة.
  وقد أقسم الله تعالى في كتابه باسم نفسه ووصفه كقوله : ( وَاللّهِ رَبِّنَا ) وكقوله : ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ ) وقوله : ( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ ) وأقسم بنبيه وملائكته وكتبه وأقسم بمخلوقاته كالسماء والارض والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار واليوم والجبال والبحار والبلاد والانسان والشجر والتين والزيتون ، وليس إلا أن لها شرافة حقة بتشريف الله وكرامة على الله من حيث إن كلا منها إما ذو صفة من أوصافه المقدسة الكريمة بكرامة ذاته المتعالية أو فعل منسوب إلى منبع البهاء والقدس ـ والكل شريف بشرف ذاته الشريفة ـ فما المانع للداعي منا إذا سئل الله شيئا أن يساله بشئ منها من حيث أن الله سبحانه شرفه وأقسم به ؟ وما الذي هون الامر في خصوص رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى أخرجه من هذه الكلية وإستثناء من هذه الجملة ؟.
  ولعمري ليس رسول الله محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأهون عند الله من تينه عراقية ، أو زيتونة شامية ، وقد أقسم الله بشخصه الكريم فقال : ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الحجر ـ 72 .
  ثم إن الحق ـ ويقابله الباطل ـ هو الثابت الواقع في الخارج من حيث انه كذلك كالارض والانسان وكل أمر ثابت في حد نفسه ومنه الحق المالي وسائر الحقوق الاجتماعية حيث أنها ثابتة بنظر الاجتماع وقد أبطل القرآن كل ما يدعي حقا إلا ما حققه الله وأثبته سواء في الايجاد أو في التشريع فالحق في عالم التشريع وظرف الاجتماع الديني هو ما جعله الله حقا كالحقوق المالية وحقوق الاخوان والوالدين على الولد وليس هو سبحانه محكوما بحكم أحد فيجعل عليه تعالى ما يلزم به كما ربما يظهر من بعض

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 226 _
  الاستدلالات الاعتزاليه غير انه من الممكن ان يجعل على نفسه حقا ، جعلا بحسب لسان التشريع ـ فيكون حقا لغيره عليه تعالى كما قال تعالى : ( كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ ) يونس ـ 103 ، وقال تعالى : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) الصافات ـ 171 و 172 و 173.
  والنصر كما ترى مطلق ، غير مقيد بشئ فالانجاء حق للمؤمنين على الله ، والنصر حق للمرسل على الله تعالى وقد شرفه الله تعالى حيث جعله له فكان فعلا منه منسوبا إليه مشرفا به فلا من القسم به عليه تعالى وهو الجاعل المشرف للحق والمقسم بكل أمر شريف.
  إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن لا مانع من إقسام الله تعالى بنبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو بحق نبيه وكذا إقسامه بأوليائه الطاهرين أو بحقهم وقد جعل لهم على نفسه حقا أن ينصرهم في صراط السعادة بكل نصر مرتبط بها كما عرفت ، وأما قول القائل : ليس لاحد على الله حق فكلام واه.
  نعم ليس على الله حق يثبته عليه غيره فيكون محكوما بحكم غيره مقهورا بقهر سواه ، كلام لاحد في ذلك ولا أن الداعي يدعوه بحق ألزمه به غيره بل بما جعله هو تعالى بوعده الذي لا يخلف هذا.
  ( إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ـ 94 ، ( وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ) ـ 95 ، ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدّ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 227 _
  ( أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) ـ 96 ، ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) ـ 97 ، ( مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ـ 98 ، ( وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ ) ـ 99 .
  ( بيان )
  قوله تعالى : قل إن كانت لكم إلخ ، لما كان قولهم : لن تمسنا النار إلا إياما معدودة ، و قولهم : نؤمن بما أنزل علينا في جواب ما قيل لهم : آمنوا بما أنزل الله يدلان بالالتزام على دعويهم أنهم ناجون في الآخرة دون غيرهم وأن نجاتهم وسعادتهم فيها غير مشوبة بهلاك وشقاء لانهم ليسوا بزعمهم بمعذبين إلا أياما معدودة وهي أيام عبادتهم للعجل قابلهم الله تعالى خطابا بما يظهر به كذبهم في دعويهم وانهم يعلمون ذلك من غير تردد وإرتياب فقال تعالى لنبيه : ( قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ ) أي سعادة تلك الدار فإن من ملك دارا فإنما يتصرف فيها بما يستحسنه ويحبه ويحل منها بأجمل ما يمكن وأسعده وقوله تعالى : ( عند الله ) أي مستقرا عنده تعالى وبحكمه وإذنه ، فهو كقوله تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ) آل عمران ـ 19 وقوله تعالى : ( خالصة ) أي غير مشوبة بما تكرهونه من عذاب أو هوان لزعمكم أنكم لا تعذبون فيها إلا أياما معدودة ، قوله تعالى : ( من دون الناس ) وذلك لزعمكم بطلان كل دين إلا دينكم ، وقوله تعالى : ( فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) وهذا كقوله تعالى : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) الجمعة ـ 6 ، وهذه مؤاخذه بلازم فطري بين الاثر في

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 228 _
  الخارج بحيث لا يقع فيه أدنى الشك وهو إن الانسان بل كل موجود ذي شعور إذا خير بين الراحة والتعب إختار الراحة من غير تردد وتذبذب وإذا خير بين حيوة وعيشة مكدرة مشوبة وأخرى خالصة صافية إختار الخالصة الهنيئة قطعا ولو فرض إبتلائه بما كان يميل عنه إلى غيره من حياة شقية ردية أو عيشة منغصة لم يزل يتمنى الاخرى الطيبة الهنيئة فلا ينفك عن التحسر له في قلبه وعن ذكره في لسانه وعن السعي إليه في عمله.
  فلو كانوا صادقين في دعويهم أن السعادة الخالصة الاخروية لهم دون غيرهم من الناس وجب أن يتمنوه جنانا ولسانا أركانا ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم من قتل الانبياء والكفر بموسى ونقض المواثيق والله عليم بالظالمين.
  قوله تعالى : بما قدمت أيديهم كناية عن العمل فإن معظم العمل عند الحس يقع بواسطة اليد فيقدم بعد ذلك إلى من ينتفع به أو يطلبه ففيه عنايتان نسبة التقديم إلى الايدي دون أصحاب الايدي وعد كل عملا للايدي.
  وبالجملة أعمال الانسان وخصة ما يستمر صدورن منه أحسن دليل على ما طوى عليه ضميره وارتكز في باطنه والاعمال الطالحة والافعال الخبثه لا يكشف إلا عن طوية خبيثة تأبى أن تميل إلى القاء الله والحلول في دار أوليائه.
  قوله تعالى : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ، كالدليل المبين لقوله تعالى : ولن يتمنوه أبدا أي ويشهد على أنهم لن يتمنوا الموت ، أنهم أحرص الناس على هذه الحيوة الدنيا التي لا حاجب ولا مانع عن تمني الدار الآخرة إلا الحرص عليها والاخلاد إليها ، والتنكير في قوله تعالى : على حيوة للتحقير كما قال تعالى : ( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت ـ 64.
  قوله تعالى : ومن الذين أشركوا الظاهر أنه عطف على الناس والمعنى ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا.
  قوله تعالى : وما هو بمز حزحه من العذاب أن يعمر ، الظاهر أن ما نافية وضمير

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 229 _
  هو إما للشأن والقصة وأن يعمر مبتدأ خبره قوله : بمزحزحه أي بمبعده ، وإما راجع إلى ما يدل عليه قوله : يود أحدهم ، أي وما الذي يوده بمزحزحه من العذاب ، وقوله تعالى : أن يعمر بيان له ومعنى الآية ولن يتمنوا الموت وأقسم لتجدنهم أحرص الناس على هذه الحيوة الحقيرة الردية الصارفة عن تلك الحيوة السعيدة الطيبة بل تجدهم أحرص على الحيوة من الذين أشركوا الذين لا يرون بعثا ولا نشورا يود أحدهم لو يعمر أطول العمر وليس أطول العمر بمبعده من العذاب لان العمر وهو عمر بالاخرة محدود منته إلى إمد وأجل.
  قوله تعالى : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ، أي اطول العمر وأكثره ، فالالف كناية عن الكثرة وهو آخر مراتب العدد بحسب الوضع الافرادي عند العرب والزائد عليه يعبر عنه بالتكرير والتركيب كعشرة آلاف ومائة الف وألف ألف.
  قوله تعالى : والله بصير بما يعملون ، البصير من أسمائه الحسنى ومعناه العلم بالمبصرات فهو من شعب إسم العليم.
  قوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك الخ ، السياق يدل على أن الآية نزلت جوابا عما قالته اليهود وأنهم تابوا واستنكفوا عن الايمان بما أنزل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وعللوه بأنهم عدو لجبريل النازل بالوحي إليه ، والشاهد على ذلك أن الله سبحانه يجيبهم في القرآن وفي جبريل معا في الآيتين وما ورد من شأن النزول يؤيد ذلك فأجاب عن قولهم : إنا لا نؤمن بالقرآن لعداوتنا لجبريل النازل به اولا : أن جبريل إنما نزل به على قلبك بإذن الله لا من عند نفسه فعداوتهم لجبريل لا ينبغي أن يوجب إعراضهم عن كلام نازل بإذن الله ، وثانيا : أن القرآن مصدق لما في ايديهم من الكتاب الحق ولا معنى للايمان بأمر والكفر بما يصدقه ، وثالثا ، أن القرآن هدى للمؤمنين به ، ورابعا أنه بشرى وكيف يصح لعاقل أن ينحرف عن الهداية ويغمض عن البشرى ولو كان الآتي بذلك عدوا له.
  وأجاب عن قولهم : إنا عدو جبريل أن جبريل ملك من الملائكة لا شأن له إلا إمتثال ما أمره به الله سبحانه كميكال وسائر الملائكة وهم عباد مكرمون لا يعصون

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 230 _
  الله فيما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وكذلك رسل الله لا شأن لهم إلا بالله ومن الله سبحانه فبغضهم وإستعدائهم بغض وإستعداء لله ومن كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو لهم ، وإلى هذين الجوابين تشير الايتان.
  وقوله تعالى : فإنه نزله على قلبك ، فيه إلتفات من التكلم إلى الخطاب وكان الظاهر أن يقال على قلبي ، لكن بدل من الخطاب للدلالة على أن القرآن كما لا شأن في إنزاله لجبريل وإنما هو مأمور مطيع كذلك لا شأن في تلقيه وتبليغه لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلا أن قلبه وعاء للوحي لا يملك منه شيئا وهو مأمور بالتبليغ.
  واعلم أن هذه الآيات في أواخرها ، أنواع الالتفات وإن كان الاساس فيها الخطاب لبني إسرائيل ، غير أن الخطاب إذا كان خطاب لوم وتوبيخ وطال الكلام صار المقام مقام إستملال للحديث مع المخاطب وإستحقار ، لشأنه فكان من الحري للمتكلم البليغ الاعراض عن المخاطبة تارة بعد أخرى بالالتفات بعد الالتفات للدلالة على أنه لا يرضى بخطابهم لردائة سمعهم وخسة نفوسهم ولا يرضى بترك خطابهم إظهارا لحق القضاء عليهم.
  قوله تعالى : عدو للكافرين ، فيه وضع الظاهر موضع المضمر والنكتة فيه الدلالة على علة الحكم كانه قيل : فإن الله عدو لهم لانهم كافرون والله عدو للكافرين.
  قوله تعالى : وما يكفر بها إلا الفاسقون ، فيه دلالة على علة الكفر وأنه الفسق فهم لكفرهم فاسقون ولا يبعد أن يكون اللام في قولة الفاسقون للعهد الذكري ، ويكون ذلك إشارة إلى ما مر في أوائل السورة من قوله تعالى : ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) الآية.
  وأما الكلام في جبريل وكيفية تنزيله القرآن على قلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكذا الكلام في ميكال والملائكة فسيأتي فيما يناسبه من المحل إن شاء الله.
  ( بحث روائي )
  في المجمع في قوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل الآيتان ، قال إبن عباس كان

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 231 _
  سبب نزول الآية ما روي أن ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المدينة سألوه فقالوا : يا محمد كيف نومك ؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان.
  فقال تنام عيناي وقلبي يقظان ، قالوا : صدقت يا محمد فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة ؟ فقال أما العظام والعصب والعروق فمن الرجل وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة ، قالوا : صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه وليس له من شبه أخواله شئ ؟ أو يشبه أخواله وليس فيه من شبه أعمامه شئ ؟ فقال أيهما علا مائه كان الشبه له قالوا صدقت يا محمد فأخبرنا عن ربك ما هو ؟ فأنزل الله سبحانه : قل هو الله أحد إلى آخر السورة ، فقال له إبن صوريا خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتبعتك ، ملك يأتيك بما ينزل الله عليك ؟ قال : فقال جبرئيل ، قال : ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب وميكائيل ينزل باليسر والرخاء فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك.
  أقول : قوله : تنام عيناى وقلبي يقظان ، قد استفاض الحديث من العامة والخاصة أنه كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تنام عينه ولا ينام قلبه ومعناه أنه كان لا يغفل بالنوم عن نفسه فكان وهو في النوم يعلم أنه نائم وأن ما يراه رؤيا يراها ليس باليقظة ، وهذا أمر بما يتفق للصالحين أحيانا عند طهارة نفوسهم وإشتغالها بذكر مقام ربهم وذلك أن إشراف النفس على مقام ربها لا يدعها غافلة عما لها من طور الحيوة الدنيوية ونحو تعلقها بربها ، وهذا نحو مشاهدة يبين للانسان أنه في عالم الحيوة الدنيا على حال النوم سواء معه النوم الذي يراه الناس نوما فقط وكذا اليقظة التي يراها الناس يقظة وأن الناس وهم معتكفون على باب الحس مخلدون إلى أرض الطبيعة ، رقود وان عدوا أنفسهم أيقاظا ، فعن علي عليه اسلام : الناس نيام فإذا ماتوا إنتبهوا الحديث ، وسيأتي زيادة استيفاء لهذا البحث وكذا الكلام في سائر فقرات هذا الحديث في مواضع مناسبة من هذا الكتاب إنشاء الله.
  ( أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 232 _
  يُؤْمِنُونَ ) ـ 100 ، ( وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) ـ 101.
  ( بيان )
  قوله تعالى : نبذه ، النبذ الطرح.
  قوله تعالى : ولما جاءهم رسول ، المراد به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا كل رسول كان يأتيهم مصدقا لما معهم ، لعدم دلالة قوله : ( ولما جائهم على الاستمرار بل إنما يدل على الدفعة ) ، والآية تشير إلى مخالفتهم للحق من حيث كتمانهم بشارة التوراة وعدم إيمانهم بمن يصدق ما معهم.
  ( وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ) ـ 102 ، ( وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 233 _
  واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ) ـ 103.
  ( بيان )
  قوله تعالى : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك ، الخ ، قد اختلف المفسرون في تفسير الآية إختلافا عجييا لا يكاد يوجد نظيره في آية من آيات القرآن المجيد ، فاختلفوا في مرجع ضمير قوله : إتبعوا ، أهم اليهود الذين كانوا في عهد سليمان ، أو الذين في عهد رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم أو الجميع ؟ واختلفوا في قوله : تتلوا ، هل هو بمعنى تتبع الشياطين وتعمل به إو بمعنى تقرأ ، أو بمعنى تكذب ؟ واختلفوا في قوله : الشياطين ، فقيل هم شياطين الجن وقيل شياطين الانس وقيل هما معا ، واختلفوا في قوله : على ملك سليمان ، فقيل معناه في ملك سليمان ، وقيل معناه في عهد ملك سليمان ، وقيل معناه على ملك سليمان بحفظ ظاهر الاستعلاء في معنى على ، وقيل معناه على عهد ملك سليمان ، واختلفوا في قوله : ولكن الشياطين كفروا ، فقيل إنهم كفروا بما إستخرجوه من السحر إلى الناس وقيل إنهم كفروا بما نسبوه إلى سليمان من السحر ، وقيل إنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر ، واختلفوا في قوله : يعلمون الناس السحر ، فقيل إنهم القوا السحر إليهم فتعلموه ، وقيل إنهم دلوا الناس على إستخراج السحر وكان مدفونا تحت كرسي سليمان فاستخرجوه وتعلموه ، واختلفوا في قوله : وما أنزل على الملكين فقيل ما موصولة والعطف على قوله : ما تتلوا ، وقيل ما موصولة والعطف على قوله : السحر أي يعلمونهم ما أنزل على الملكين ، وقيل ما نافية والواو إستينافية أي ولم ينزل على الملكين سحر كما يدعيه اليهود ، واختلفوا في معنى الانزال فقيل إنزال من السماء وقيل بل من نجود الارض وأعاليها ، واختلفوا في قوله : الملكين ، فقيل كانا من ملائكة السماء ، وقيل بل كانا إنسانين ملكين بكسر اللام إن قرأناه ، بكسر اللام كما قرئ كذلك في الشواذ ، أو ملكين بفتح اللام أي صالحين ، أو متظاهرين بالصلاح ، أن قرأناه على ما قرأ به المشهور ، وإختلفوا في قوله : ببابل ، فقيل هي بابل العراق وقيل بابل دماوند ، وقيل ، من نصيبين إلى رأس العين ، وإختلفوا في قوله : وما يعلمان ، فقيل علم بمعناه الظاهر ، وقيل علم بمعنى اعلم ، واختلفوا في قوله : فلا تكفر ، فقيل ، لا تكفر بالعمل بالسحر ، وقيل لا تكفر بتعلمه ، وقيل بهما معا ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 234 _
  واختلفوا في قوله : فيتعلمون منهما ، فقيل أي من هاروت وماروت ، وقيل أي من السحر والكفر ، وقيل بدلا مما علماه الملكان بالنهي إلى فعله ، واختلفوا في قوله : ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، فقيل أي يوجدون به حبا وبغضا بينهما ، وقيل إنهم يغرون أحد الزوجين ويحملونه على الكفر والشرك فيفرق بينهما إختلاف الملة والنحلة وقيل إنهم يسعون بينهما بالنميمة والوشاية فيؤل إلى الفرقة ، فهذه نبذة من الاختلاف في تفسير كلمات ما يشتمل على القصة من الآية وجملة ، وهناك إختلافات اخر في الخارج من القصة في ذيل الآية وفي نفس القصة ، وهل هي قصة واقعة أو بيان على سبيل التمثيل ؟ أو غير ذلك ؟ وإذا ضربت بعض الارقام التي ذكرناها من الاحتمالات في البعض الآخر ، ارتقى الحتمالات إلى كمية عجيبة وهي ما يقرب من الف الف ومائتين وستين الف احتمال (4 * 9 3 * 4 2) !.
  وهذا لعمر الله من عجائب نظم القرآن تتردد الآية بين مذاهب وإحتمالات تدهش العقول وتحير الالباب ، والكلام بعد متك على اريكة حسنه متجمل في أجمل جماله متحل بحلي بلاغته وفصاحته وسيمر بك نظيرة هذه الآية وهي قوله تعالى : ( أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً ) هود ـ 17.
  والذي ينبغي أن يقال : أن الآية بسياقها تتعرض لشأن آخر من شئون اليهود وهو تداول السحر بينهم ، وأنهم كانوا يستندون في أصله إلى قصة معروفة أو قصتين معروفتين عندهم فيها ذكر من أمر سليمان النبي والملكين ببابل هاروت وماروت ، فالكلام معطوف على ما عندهم من القصة التي يزعمونها إلا أن اليهود كما يذكره عنهم القرآن أهل تحريف وتغيير في المعارف والحقائق فلا يؤمنون ولا يؤمن من أمرهم أن يأتوا بالقصص التاريخية محرفة مغيرة على ما هو دأبهم في المعارف يميلون كل حين إلى ما يناسبه من منافعهم في القول والفعل وفيما يلوح من مطاوي جمل الآية كفاية ، وكيف كان فيلوح من الآية أن اليهود كانوا يتناولون بينهم السحر ينسبونه إلى سليمان زعما منهم أن سليمان ( عليه السلام ) انما ملك الملك وسخر الجن والانس والوحش والطير ، واتى بغرائب الامور وخوارقها بالسحر الذي هو بعض ما في أيديهم ، وينسبون بعضه الآخر إلى الملكين ببابل هاروت وماروت فرد عليهم القرآن بأن سليمان ( عليه السلام ) لم يكن يعمل

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 235 ـ
  بالسحر ، كيف والسحر كفر بالله وتصرف في الكون على خلاف ما وضع الله العادة عليه وأظهره على خيال الموجودات الحية وحواسها ؟ ولم يكفر سليمان ( عليه السلام ) وهو نبي معصوم ، وهو قوله تعالى : ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) وقوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ) فسليمان ( عليه السلام ) أعلى كعبا وأقدس ساحة من أن ينسب إليه السحر والكفر وقد استعظم الله قدره في مواضع من كلامه في عدة من السور المكية النازلة قبل هذه السورة كسورة الانعام والانبياء والنمل وسورة (ص) وفيها أنه كان عبدا صالحا ونبيا مرسلا آتاه الله العلم والحكمة ووهب له من الملك ما لا ينبغي لاحد من بعده فلم يكن بساحر بل هو من القصص الخرافية والاساطير التي وضعتها الشياطين وتلوها وقرؤها على أوليائهم من الانس وكفروا بإضلالهم الناس بتعليم السحر ، ورد عليهم القرآن في الملكين ببابل هاروت وماروت بأنه وإن انزل عليهما ذلك ولا ضير في ذلك لانه فتنة وامتحان إلهي كما ألهم قلوب بني آدم وجوه الشر والفساد فتنة وامتحانا وهو من القدر ، فهما وإن أنزل عليهما السحر إلا أنهما ما كانا يعلمان من أحد إلا ويقولان له إنما نحن فتنة فلا تكفر باستعمال ما تتعلمه من السحر في غير مورده كإبطال السحر والكشف عن بغي أهله وهم مع ذلك يتعلمون منهما ما يفسدون به اصلح ما وضعه الله في الطبيعة والعادة ، فيفرقون به بين المرء وزوجه إبتغاءا للشر والفساد ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم فقوله تعالى : واتبعوا أي اتبعت اليهود الذين بعد عهد سليمان بتوارث الخلف عن السلف ما تتلوا ، أي تضع وتكذب الشياطين من الجن على ملك سليمان والدليل على أن تتلوا بمعنى تكذب تعديه بعلى وعلى أن الشياطين هم الجن كون هؤلاء تحت تسخير سليمان ومعذبين بعذابه ، وبذلك كان ( عليه السلام ) يحبسهم عن الافساد ، قال تعالى : ( وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ) الانبياء ـ 82 ، وقال تعالى : ( فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) السبأ ـ 14
  قوله تعالى : وما كفر سليمان ، أي والحال أن سليمان لم يسحر حتى يكفر ولكن الشياطين كفروا ، والحال انهم يضلون الناس ويعلمونهم السحر.
  قوله تعالى : وما أنزل ، أي واتبعت اليهود ما انزل بالاخطار والالهام على

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 236 _
  الملكين ببابل هاروت وماروت ، والحال انهما ما يعلمان السحر من أحد حتى يحذراه العمل به ويقولا انما نحن فتنة لكم وامتحان تمتحنون بنا بما نعلمكم فلا تكفر باستعماله.
  قوله تعالى : فيتعلمون منهما أي من الملكين وهما هاروت وماروت ، ما يفرقون به أي سحرا يفرقون بعمله وتأثيره بين المرء وزوجه.
  قوله تعالى : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ، دفع لما يسبق إلى الوهم إنهم بذلك يفسدون أمر الصنع والتكوين ويسبقون تقدير الله ويبطلون أمره فدفعه بأن السحر نفسه من القدر لا يؤثر إلا بإذن الله فما هم بمعجزين ، وانما قدم هذه الجملة على قوله : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ، لان هذه الجملة أعني : ويتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وحدها مشتملة على ذكر التأثير فأردفت بأن هذا التأثير بإذن الله.
  قوله تعالى : ولقد علموا لمن اشتريه ما له في الآخرة من خلاق ، علموا ذلك بعقولهم لان العقل لا يرتاب في أن السحرأ شئم منابع الفساد في الاجتماع الانساني وعلموا ذلك أيضا من قول موسى فانه القائل : ( وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ) طه ـ 69.
  قوله تعالى : ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ، اي إنهم مع كونهم عالمين بكونه شرا لهم مفسدا لآخرتهم غير عالمين بذلك حيث لم يعملوا بما علموا فإن العلم إذا لم يهد حامله إلى مستقيم الصراط كان ضلالا وجهلا لا علما ، قال تعالى : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ) الجاثية ـ 23.
  فهؤلاء مع علمهم بالامر ينبغي أن يتمنى المتمني لهم العلم والهداية.
  قوله تعالى : ولو انهم آمنوا واتقوا ، الخ أي اتبعوا الايمان والتقوى ، بدل اتباع اساطير الشياطين ، والكفر بالسحر ، وفيه دليل على أن الكفر بالسحر كفر في مرتبة العمل كترك الزكوة ، لا كفر في مرتبة الاعتقاد ، ولو كان السحر كفرا في الاعتقاد لقال تعالى : ولو أنهم آمنوا لمثوبة ، الخ ، وإقتصر على الايمان ولم يذكر التقوى فاليهود آمنوا ولكن لما لم يتقوا ولم يرعوا محارم الله ، لم يعبأ بإيمانهم فكانوا كافرين.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 237 _
  قوله تعالى : لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون ، أي من المثوبات والمنافع التي يرومونها بالسحر ويقتنونها بالكفر هذا.
  ( بحث روائي )
  في تفسير العياشي والقمي في قوله تعالى : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان عن الباقر ( عليه السلام ) في حديث : فلما هلك سليمان وضع إبليس السحر وكتبه في كتاب ثم طواه وكتب على ظهره ، هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا وكذا فليعمل كذا وكذا ثم دفنه تحت سريره ثم استتاره لهم فقرأه فقال الكافرون : ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا ، وقال المؤمنون : بل هو عبد الله ونبيه ، فقال الله جل ذكره : وإتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان.
  اقول : إسناد الوضع والكتابة والقرائة إلى إبليس لا ينافي استنادها إلى سائر الشياطين من الجن والانس لانتهاء الشر كله إليه وإنتشاره منه لعنه الله ، إلى أوليائه بالوحي والوسوسة وذلك شائع في لسان الاخبار وظاهر الحديث أن كلمة تتلوه من التلاوة بمعنى القرائة وهذا لا ينافي ما استظهرناه في البيان السابق : إن تتلو بمعنى يكذب لان افادة معنى الكذب من جهة التضمين أو ما يشبهه ، وتقدير قوله : تتلوا الشياطين على ملك سليمان يقرؤنه كاذبين على ملك سليمان والاصل في معنى تلا يتلو رجوعه إلى معنى ولى لى ولاية وهو أن يملك الشئ من حيث الترتيب ووقوع جزء منه عقيب جزء آخر ، وسيأتي الكلام فيه في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ ) المائدة ـ 58.
  وفي العيون : في حديث الرضا ( عليه السلام ) مع المأمون واما هاروت وماروت فكانا ملكين علما الناس السحر ليتحرزوا به عن سحر السحرة ويبطلوا كيدهم وما علما أحدا من ذلك شيئا إلا قالا له إنما نحن فتنة فلا تكفر فكفر قوم باستعمالهم لما امروا بالاحتراز عنه وجعلوا يفرقون بما يعملونه بين المرء وزوجه ، قال الله تعالى : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 238 _
  وفي الدر المنثور أخرج إبن جرير عن ابن عباس ، قال : كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من شأنه أعطى الجرادخ وهي أمرأته خاتمه فلما أراد الله أن يبتلى سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذلك اليوم خاتمه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي فاخذه ولبسه فلما لبسه دانت له شياطين الجن والانس فجائها سليمان فقال : هاتي خاتمي فقالت كذبت لست سليمان فعرف أنه بلاء ابتلى به فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الايام كتبا فيها سحر وكفر ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ثم أخرجوها فقرؤوها على الناس فقالوا إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب فبرء الناس من سليمان واكفروه حتى بعث الله محمدا وأنزل عليه : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا.
  أقول : والقصة مروية في روايات اخرى وهي قصة طويلة من جملة القصص الواردة في عثرات الانبياء مذكورة في جملتها.
  في الدر المنثور أيضا وأخرج سعيد بن جرير والخطيب في تاريخه عن نافع قال : سافرت مع ابن عمر فلما كان في آخر الليل ، قال يا نافع : انظر هل طلعت الحمراء ؟ قلت لا ، مرتين أو ثلثا ثم قلت : قد طلعت ، قال : لا مرحبا بها ولا أهلا قلت : سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع ، قال ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قال : إن الملائكة قالت : يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب ؟ قال : إني أبليتهم وعافيتهم ، قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك ، قال فاختاروا ملكين منكم ، فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا هاروت وماروت فنزلا ، فألقى الله عليهما الشبق ، قلت : وما الشبق ؟ قال : الشهوة فجائت امرأة يقال لها الزهرة فوقعت في قلوبهما فجعل كل واحد منهما يخفى عن صاحبه ما في نفسه ثم قال أحدهما للآخر هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي ؟ قال : نعم ، فطالباها لانفسهما فقالت لا امكنكما حتي تعلماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء وتهبطان فأبيا ثم سئلاها أيضا فأبت ، ففعلا فلما استطيرت طمسها الله كوكبا وقطع أجنحتهما ثم سألا التوبة من ربهما فخيرهما فقال ان شئتما رددتكما إلى ما كنتما عليه ، فإذا كان يوم القيامة عذبتكما ، وان شئتما عذبتكما في الدنيا فإذا كان يوم القيامة رددتكما إلى ما كنتما عليه ، فقال احدهما لصاحبه إن عذاب الدنيا ينقطع ويزول فاختارا

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 239 _
  عذاب الدنيا على عذاب الآخرة فأوحى الله اليهما أن ائتيا بابل فانطلقا إلى بابل فخسف بهما فهما منكوسان بين السماء والارض معذبان إلى يوم القيامة.
  اقول : وقد روي قريب منه في بعض كتب الشيعة مرفوعا عن الباقر ( عليه السلام ) وروي السيوطي فيما يقرب من هذا المعنى في أمر هاروت وماروت والزهرة نيفا وعشرين حديثا ، صرحوا بصحة طريق بعضها.
  وفي منتهى أسنادها عدة من الصحابة كابن عباس وابن مسعود وعلي وأبي الدرداء وعمر وعائشة وابن عمر ، وهذه قصة خرافية تنسب إلى الملائكة المكرمين الذين نص القرآن على نزاهة ساحتهم وطهارة وجودهم عن الشرك والمعصية أغلظ الشرك وأقبح المعصية ، وهو : عبادة الصنم والقتل والزنا وشرب الخمر وتنسب إلى كوكبة الزهرة أنها امرأة زانية مسخت ـ وإنها اضحوكة ـ وهي كوكبة سماوية طاهرة في طليعتها وصنعها أقسم الله تعالى عليها في قوله : ( الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ) التكوير ـ 16 ، على أن علم الفلك أظهر اليوم هويتها وكشف عن عنصرها وكميتها وكيفيتها وسائر شئونها.
  فهذه القصة كالتي قبلها المذكورة في الرواية السابقة تطابق ما عند اليهود على ما قيل : من قصة هاروت وماروت ، تلك القصة الخرافية التي تشبه خرافات يونان في الكواكب والنجوم.
  ومن هيهنا يظهر للباحث المتأمل : أن هذه الاحاديث كغيرها الواردة في مطاعن الانبياء وعثراتهم لا تخلو من دس دسته اليهود فيها وتكشف عن تسربهم الدقيق ونفوذهم العميق بين أصحاب الحديث في الصدر الاول فقد لعبوا في رواياتهم بكل ما شاؤا من الدس والخلط وأعانهم على ذلك قوم آخرون.
  لكن الله عز اسمه جعل كتابه في محفظة الهية من هوسات المتهوسين من أعدائه كلما استرق السمع شيطان من شياطينهم إتبعه بشهاب مبين ، فقال عز من قائل : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) الحجر ـ 9 ، وقال و ( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) فصلت ـ 42 ، وقال : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا ) أسرى ـ 82 ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 240 _
  فأطلق القول ولم يقيد ، فما من خلط أو دس إلا ويدفعه القرآن ويظهر خسار صاحبه بالكشف عن حاله وإقراء صفحة تاريخة ، وقال رسول الله فيما رواه الفريقان : ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالفه فاتركوه ، فأعطى ميزانا كليا يوزن به المعارف المنقولة منه ومن أوليائه ، وبالجملة فبالقرآن يدفع الباطل عن ساحة الحق ثم لا يلبث أن يظهر بطلانه ويمات عن القلوب الحية كما اميت عن الاعيان ، تعالى : ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ ) الانبياء ـ 18 ، وقال تعالى : ( وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ) الانفال ـ 7 ، وقال تعالى : ( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) الانفال ـ 8 ولا معنى لاحقاق الحق ولا لابطال الباطل إلا إظهار صفتهما.
  وبعض الناس وخاصة من أهل عصرنا من المتوغلين في الابحاث المادية والمرعوبين من المدنية الغربية الحديثة استفادوا من هذه الحقيقة المذكورة سوء وأخذوا بطرح جميع ما تضمنته سنة رسول الله واشتملت عليه جوامع الروايات فسلكوا في ذلك مسلك التفريط ، قبال ما سلكه بعض الاخباريين وإصحاب الحديث والحرورية وغيرهم مسلك الافراط والاخذ بكل رواية منقولة كيف كانت ، وكما أن القبول المطلق تكذيب للموازين المنصوبة في الدين لتميز الحق من الباطل ونسبة الباطل واللغو من القول إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كذلك الطرح الكلي تكذيب لها وإلغاء وإبطال للكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو القائل جل ثنائه : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) الحشر ـ 7 ، وقوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) النساء ـ 64 ، إذ لو لم يكن لقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حجية أو لما ينقل من قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلينا معاشر الغائبين في عصره أو الموجودين بعد ارتحاله من الدنيا حجية لما استقر من الدين حجر على حجر ، والركون على النقل والحديث مما يعنوره البشر ويقبله في حيوتة الاجتماعية قبولا يضطر إليه بالبداهة ويهديه إلى ذلك الفطرة الانسانية لا غنى له عن ذلك ، وأما وقوع الدس والخلط في المعارف المنقولة الدينية فليس ببدع يختص بالدين كيف ورحى الاجتماع بجميع جهاتها وأركانها تدور على الاخبار الدائرة اليومية العامة والخاصة ، ووجوده الكذب والدس والخلط فيها أزيد وأيدي السياسات الكلية والجزئية بها ألعب ؟ ونحن على فطرتنا

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 241 _
  الانسانية لا نجري على مجرد قرع السمع في الاخبار المنقولة إلينا في نادي الاجتماع بل نعرض كل واحد واحد منها على ما عندنا من الميزان الذي يمكن أن يوزن به فإن وافقه وصدقه قبلناه وإن خالفه وكذبه طرحناه وإن لم يتبين شئ من أمره ولم يتميز حقه من باطله وصدقه من كذبه توقفنا فيه من غير قبول ولا رد على الاحتياط الذي جبلنا عليه في الشرور والمضار.
  هذا كله بشرط الخبرة في نوع الخبر الذي نقل إلينا ، وأما ما لا خبرة للانسان فيه من الاخبار بما يشتمل عليه من المضمون فسبيل العقلاء من أهل الاجتماع فيه الرجوع إلى أهل خبرته والاخذ بما يرون فيه ويحكمون به هذا.
  فهذا ما عليه بناؤنا الفطري في الاجتماع الانساني ، والميزان الديني المضروب لتمييز الحق من الباطل وكذا الصدق من الكذب ، لا يغاير ذلك بل هو هو بعينه ، وهو العرض على كتاب الله فإن تبين منه شئ أخذ به وإن لم يتبين لشبهة فالوقوف عند الشبهة ، وعلى ذلك أخبار متواترة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والائمة من أهل بيته ، هذا كله في غير المسائل الفقهية وأما هي فالمرجع في البحث عنها فن أصول الفقه.
  ( بحث فلسفي )
  من المعلوم وقوع أفعال خارقة للعادة الجارية للمشاهدة والنقل ، فقلما يوجد منا من لم يشاهد شيئا من خوارق الافعال أو لم ينقل إليه شئ من ذلك ـ قليل أو كثير إلا أن البحث الدقيق في كثير منها يبين رجوعها إلى الاسباب الطبيعية العادية ، فكثير من هذه الافعال الخارقة يتقوى بها أصحابها بالاعتياد و التمرين كأكل السموم وحمل الاثقال والمشي على حبل ممدود في الهواء إلى غير ذلك ، وكثير منها تتكي على أسباب طبيعية مخفية على الناس مجهولة لهم كمن يدخل النار ولا يحترق بها من جهة طلاية الطلق ببدنه أو يكتب كتابا لا خط عليه ولا يقرأه إلا صاحبه ، وإنما كتب بمايع لا يظهر إلا إذا عرض الكتاب على النار إلى غير ذلك.
  وكثير منها يحصل بحركات

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 242 _
  سريعة تخفي على الحس لسرعتها فلا يرى الحس إلا أنه وقع من غير سبب طبيعي كالخوارق التي يأتي بها أصحاب الشعبذة ، فهذه كلها مستندة إلى أسباب عادية مخفية على حسنا أو غير مقدورة لنا ، لكن بعض هذه الخوارق لا يحلل إلى الاسباب الطبيعية الجارية على العادة كالاخبار عن بعض المغيبات ، وخاصة ما يقع منها في المستقبل وكأعمال الحب والبغض والعقد والحل والتنويم والتمريض وعقد النوم والاحضار والتحريكات بالارادة مما يقع من أرباب الرياضات وهي امور غير قابلة للانكار ، شاهدنا بعضا منها ونقل الينا بعض آخر نقلا لا يطعن فيه ، وهو ذا يوجد اليوم من أصحابها بالهند وايران والغرب جماعة يشاهد منهم أنواع من هذه الخوارق والتأمل التام في طرق الرياضات المعطية لهذه الخوارق والتجارب العملي في أعمالهم وإرادتهم يوجب القول بانها مستندة ألى قوة إلارادة والايمان بالتأثير على تشتت أنواعها ، فالارادة تابعة للعلم والاذعان السابق عليه ، فربما توجد على اطلاقها وربما توجد عند وجود شرائط خاصة ككتابه شئ خاص بمداد خاص في مكان خاص في بعض أعمال الحب والبغض ، أو نصب المرآة حيال وجه طفل خاص عند إحضار الروح أو قراءة عوذة خاصة إلى غير ذلك ، فجميع ذلك شرائط لحصول الارادة الفاعلة ، فالعلم إذا تم علما قاطعا اعطى للحواس مشاهدة ما قطع به ، ويمكنك ان تختبر صحة ذلك بان تلقن نفسك أن شيئا كذا أو شخصا كذا حاضر عندك تشاهده بحاستك ثم تتخيله بحيث لا تشك فيه ولا تلتفت إلى عدمه ولا إلى شئ غيره فانك تجده امامك على ما تريد ، وربما توجد في الآثار معالجة بعض الاطباء الامراض المهلكة بتلقين الصحة على المريض.
  وإذا كان الامر على هذا فلو قويت الارادة أمكنها أن تؤثر في غير الانسان المريد نظير ما توجده في نفس الانسان المريد إما من غير شرط وقيد أو مع شئ من الشرائط.
  ويتبين بما مر امور : احدها : أن الملاك في هذا التأثير تحقق العلم الجازم من صاحب خرق العادة وأما مطابقة هذا العلم للخارج فغير لازم كما كان يعتقده أصحاب تسخير الكواكب من الارواح المتعلقة بالاجرام الفلكية ، ويمكن أن يكون من هذا القبيل الملائكة والشياطين الذين يستخرج اصحاب الدعوات والعزائم اسمائهم

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 243 _
  ويدعون بها على طرق خاصة عندهم ، وكذلك ما يعتقده أصحاب إحضار الارواح حضور الروح فلا دليل لهم على أزيد من حضورها في خيالهم أو حواسهم دون الخارج والا لرآه كل من حضر عندهم و للكل حس طبيعي ، وبه تنحل شبهة أخرى في احضار روح من هو حي في حال اليقظة مشغول بأمره من غير أن يشعر به والواحد من الانسان ليس له الا روح واحدة ، وبه تنحل أيضا شبهة اخرى وهي ان الروح جوهر مجرد لا نسبة له إلى زمان ومكان دون زمان ومكان ، وبه تنحل أيضا شبهة ثالثه ، وهي : أن الروح الواحدة ربما تحضر عند أحد بغير الصورة التي تحضر بها عند آخر ، وبه تنحل أيضا شبهة رابعة ، وهي : ان الارواح ربما تكذب عند الاحضار في أخبارها وربما يكذب بعضها بعضا ، فالجواب عن الجميع : أن الروح انما تحضر في مشاعر الشخص المحضر لا في الخارج منها على حد ما نحس بالاشياء المادية الطبيعية.
  ثانيها : أن صاحب هذه الارادة المؤثرة ربما يعتمد في ارادته على قوة نفسه وثبات إنيته كغالب أصحاب الرياضات في ارادتهم فتكون لا محالة محدودة القوة مقيدة الاثر عند المريد وفي الخارج ، وربما يعتمد فيه على ربه كالانبياء والاولياء من أصحاب العبودية لله وأرباب اليقين بالله فهم لا يريدون شيئا الا لربهم وبربهم ، وهذه ارادة طاهرة لا استقلال للنفس التي تطلع هذه الارادة منها بوجه ولم تتلون بشئ من ألوان الميول النفسانية ولا اتكاء لها الا على الحق فهي ارادة ربانية غير محدودة ولا مقيدة.
  والقسم الثاني : ان أثرت في مقام التحدي كغالب ما ينقل من الانبياء سميت آية معجزة وان تحققت في غير مقام التحدي سميت كرامة أو استجابة دعوة ان كانت مع دعاء ، والقسم الاول إن كان بالاستخبار والاستنصار من جن أو روح أو نحوه سمي كهانة وإن كان بدعوة أعزيمة أو رقية أو نحو ذلك سمي سحرا.
  ثالثها : أن الامر حيث كان دائرا مدار الارادة في قوتها وهي على مراتب من القوة والضعف أمكن أن يبطل بعضها أثر البعض كتقابل السحر والمعجزة أو ان لا يؤثر بعض النفوس في بعض إذا كانت مختلفة في مراتب القوة وهو مشهود في أعمال التنويم والاحضار ، هذا وسيأتي شطر من الكلام في ذلك.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 244_
  ( بحث علمي )
  العلوم الباحثة عن غرائب التأثير كثيرة والقول الكلي في تقسيمها وضبطها عسيرة جدا ، وأعرف ما هو متداول بين أهلها ما نذكره : منها : السيمياء ، وهو العلم الباحث عن تمزيج القوى الارادية مع القوى الخاصة المادية للحصول على غرائب التصرف في الامور الطبيعية ، ومنه التصرف في الخيال المسمى بسحر العيون وهذا الفن من أصدق مصاديق السحر ، ومنها الليمياء وهو العلم الباحث عن كيفية التأثيرات الارادية باتصالها بالارواح القوية العالية كالارواح الموكلة بالكواكب والحوادث وغير ذلك بتسخيرها أو باتصالها واستمدادها من الجن بتسخيرهم ، وهو فن التسخيرات ، ومنها : الهيمياء : وهو العلم الباحث عن تركيب قوى العالم العلوي مع العناصر السفلية للحصول على عجائب التأثير وهو الطلسمات ، فإن للكواكب العلوية والاوضاع السماوية ارتباطات مع الحوادث المادية كما ان العناصر والمركبات وكيفياتها الطبيعية كذلك ، فلو ركبت الاشكال السماوية المناسبة لحادثة من الحوادث كموت فلان ، وحيوة فلان ، وبقاء فلان مثلا مع الصورة المادية المناسبة أنتج ذلك الحصول على المراد وهذا معنى الطلسم ، ومنها : الريمياء ، وهو العلم الباحث عن استخدام القوى المادية للحصول على آثارها بحيث يظهر للحس أنها آثار خارقه بنحو من لانحاء وهو الشعبذة ، وهذه الفنون الاربعة مع فن خامس يتلوها وهو الكليميا الباحث عن كيفية تبديل صور العناصر بعضها إلى بعض كانت تسمى عندهم بالعلوم الخمسة الخفية ، قال شيخنا البهائي : أحسن الكتب المصنفة التي في هذه الفنون كتاب رأيته ببلدة هرات إسمه ( كله سر ) وقد ركب إسمه من أوائل إسماء هذه العلوم ، الكيميا ، والليميا ، والهيميا ، والسيميا ، و الريميا ، إنتهى ملخص كلامه.
  ومن الكتب المعتبرة فيها خلاصة كتب بليناس ورسائل الخسر وشاهي والذخيرة الاسكندرية والسر المكتوم للرازي والتسخيرات للسكاكي واعمال الكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي.
  ومن العلوم الملحقة بما مر علم الاعداد والاوفاق وهو الباحث عن ارتباطات

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 245 _
  الاعداد والحروف للمطالب ووضع العدد أو الحروف المناسبة للمطلوب في جداول مثلثة أو مربعة أو غير ذلك على ترتيب مخصوص ، ومنها : الخافية وهو تكسير حروف المطلوب أو ما يناسب المطلوب من الاسماء واستخراج اسماء الملائكة أو الشياطين الموكلة بالمطلوب والدعوة بالعزائم المؤلفة منها للنيل على المطلوب ومن الكتب المعتبرة فيها عندهم كتب الشيخ أبي العباس التوني والسيد حسين الاخلاطي وغيرهما.
  ومن الفنون الملحقة بها الدائرة اليوم التنويم المغناطيسي واحضار الارواح وهما كما مر من تأثير الارادة والتصرف في الخيال وقد ألف فيها كتب ورسائل كثيرة ، واشتهار أمرها يغني عن الاشارة إليها هينها ، والغرض مما ذكرنا على طوله إيضاح انطباق ما ينطبق منها على السحر أو الكهانة.
  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ـ 104 ، ( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) ـ 105.
  ( بيان )
  قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ، أول مورد في القرآن ورد فيه خطاب المؤمنين بلفظة يا أيها الذين آمنوا ، وهو واقع في القرآن خطابا في نحو من خمسة وثمانين موضعا والتعبير عن المؤمنين بلفظة الذين آمنوا بنحو الخطاب أو بغير الخطاب مما يختص بهذه الامة ، وأما الامم السابقة فيعبر عنهم بلفظة القوم كقوله : ( قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ ) وقوله : ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ ) الآية وقوله : ( أصحاب مدين وأصحاب الرس ) ، وبني إسرائيل ، ويا بني إسرائيل ، فالتعبير بلفظة الذين آمنوا

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 246 _
  مما يختص التشرف به بهذه الامة ، غير أن التدبر في كلامه تعالى يعطي أن التعبير بلفظة الذين آمنوا يراد به في كلامه تعالى غير ما يراد بلفظة المؤمنين كقوله تعالى : ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ) النور ـ 31 ، بحسب المصداق ، قال تعالى : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) المؤمن ـ 7 و 8 ، فجعل استغفار الملائكة وحملة العرش أولا للذين آمنوا ثم بدله ثانيا من قوله : للذين تابوا واتبعوا ، والتوبة هي الرجوع ، ثم علق دعائهم بالذين آمنوا وعطف عليهم آبائهم وذرياتهم ولو كان هؤلاء المحكي عنهم بالذين آمنوا هم أهل الايمان برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، كيف ما كانوا ، كان الذين آمنوا شاملا للجميع من الآباء والابناء والازواج ولم يبق للعطف والتفرقة محل وكان الجميع في عرض واحد ووقعوا في صف واحد ، ويستفاد هذا المعنى أيضا من قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) الطور ـ 21 ، فلو كان ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان مصداقا للذين آمنوا في كلامه تعالى لم يبق للالحاق وجه ، ولو كان قوله : ( واتبعتهم ذريتهم ) قرينة على ارادة اشخاص خاصة من الذين آمنوا وهم كل جمع من المؤمنين بالنسبة إلى ذريتهم ، المؤمنين لم يبق للالحاق أيضا وجه ، ولا لقوله ، وما ألتناهم من عملهم من شئ ، وجه صحيح الا في الطبقة الاخيرة التي لا ذرية بعدهم يتبعونهم بإيمان فهم يلحقون بآبائهم ، وهذا وان كان معنى معقولا الا أن سياق الآية وهو سياق التشريف يأبى ذلك لعود المعنى على ذلك التقدير إلى مثل معنى قولنا : المؤمنون بعضهم من بعض أو بعضهم يلحق ببعض وهم جميعا في صف واحد من غير شرافة للبعض على البعض ولا للمتقدم على المتأخر فإن الملاك هو الايمان وهو في الجميع واحد وهذا مخالف لسياق الآية الدال على نوع كرامة وتشريف للسابق بالحاق ذريته به ، فقوله : وإتبعتهم ذريتهم بايمان ، قرينة على إرادة أشخاص خاصة بقوله : الذين آمنوا ، وهم السابقون الاولون في الايمان برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المهاجرين والانصار في يوم العسرة فكلمة الذين آمنوا كلمة تشريف يراد بها هؤلاء ، ويشعر بذلك أيضا قوله تعالى :

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 247 _
  ( للفقراء المهاجرين ، إلى أن قال : والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم ، إلى أن قال : ( وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) الحشر ـ 10 ، فلو كان مصداق قوله : الذين آمنوا ، عين مصداق قوله : الذين سبقونا بالايمان ، كان من وضع الظاهر موضع المضمر من غير وجه ظاهر.
  ويشعر بما مر أيضا قوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تريهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، إلى أن قال : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ) الفتح ـ 29.
  فقد تحصل أن الكلمة كلمة تشريف تختص بالسابقين الاولين من المؤمنين ، ولا يبعد جريان نظير الكلام في لفظة الذين كفروا فيراد به السابقون في الكفر برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مشركي مكة وأترابهم كما يشعر به أمثال قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) البقرة ـ 6.
  فان قلت : فعلى ما مريختص الخطاب بالذين آمنوا بعدة خاصة من الحاضرين في زمان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع أن القوم ذكروا أن هذه خطابات عامة لزمان الحضور وغيره والحاضرين الموجودين في عصر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وغيرهم وخاصة بناء على تقريب الخطاب بنحو القضية الحقيقية.
  قلت : نعم هو خطاب تشريفي يختص بالبعض لكن ذلك لا يوجب اختصاص التكاليف المتضمن لها الخطاب بهم فان لسعة التكليف وصيقه أسبابا غير ما يوجب سعة الخطاب وصيقه من الاسباب ، كما أن التكاليف المجردة عن الخطاب عامة وسيعة من غير خطاب ، فعل هذا يكون تصدير بعض التكاليف بخطاب يا ايها الذين آمنوا من قبيل تصدير بعض آخر من الخطابات بلفظ يا أيها لنبي ، ويا أيا الرسول مبينا على التشريف ، والتكليف عام ، والمراد وسيع ، ومع هذا كله لا يوجب ما ذكرناه من الاختصاص التشريفي عدم إطلاق لفظة الذين آمنوا على غير هؤلاء المختصين بالتشريف أصلا إذا كانت هناك قرينة تدل على ذلك كقوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 248 _
  ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ) النساء ـ 137 ، وقوله تعالى : حكاية عن نوح : ( وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ ) هود ـ 29.
  قوله تعالى : لا تقولوا راعنا وقولوا أنظرنا ، أي بدلوا قول ( راعنا من قول ( انظرنا ) ولئن لم تفعلوا ذلك كان ذلك منكم كفرا وللكافرين عذاب أليم ففيه نهى شديد عن قول راعنا وهذه كلمة ذكرتها آية أخرى وبينت معناها في الجملة وهي قوله تعالى ( مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ) النساء ـ 46 ، ومنه يعلم ان اليهود كانت تريد بقولهم للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) راعنا نحوا من معنى قوله : اسمع غير مسمع ولذلك ورد النهي عن خطاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك وحينئذ ينطبق على ما نقل : أن المسلمين كانوا يخاطبون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك إذا القى إليهم كلاما يقولون راعنا يا رسول الله ـ يريدون أمهلنا وانظرنا حتى نفهم ما تقول ـ وكانت اللفظة تفيد في لغة اليهود معنى الشتم فاغتنم اليهود ذلك فكانوا يخاطبون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك يظهرون التأدب معه وهم يريدون الشتم ومعناه عندهم اسمع لا اسمعت فنزل : من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ، الآية ونهى الله المؤمنين عن الكلمة وأمرهم أن يقولوا ما في معناه وهو انظرنا فقال : لا تقولوا راعنا وتقولوا أنظرنا.
  قوله تعالى : وللكافرين عذاب أليم : يريد المتمردين من هذا النهى وهذا أحد الموارد التي أطلق فيها الكفر على ترك التكاليف الفرعية.
  قوله تعالى : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ، لو كان المراد بأهل الكتاب اليهود خاصة كما هو الظاهر لكون الخطابات السابقة مسوقة لهم فتوصيفهم بأهل الكتاب يفيد الاشارة إلى العلة ، وهو أنهم لكونهم أهل كتاب ما يودون نزول الكتاب على المؤمنين لاستلزامه بطلان اختصاصهم بأهلية الكتاب مع أن ذلك ضنة منهم بما لا يملكونه ، ومعارضة مع الله سبحانه في سعة رحمته وعظم فضله ، ولو كان المراد عموم أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهو تعميم بعد التخصيص لاشتراك الفريقين في بعض الخصائل ، وهم على غيظ من الاسلام ، وربما يؤيد هذا الوجه بعض

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 249 _
  الآيات اللاحقة كقوله تعالى : ( وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ) البقرة ـ 111 ، وقوله تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ) البقرة ـ 113.
  ( بحث روائي )
  في الدر المنثور أخرج أبو نعيم في الحلية عن إبن عباس قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما أنزل الله آية فيها ، يا ايها الذين آمنوا إلا وعلي رأسها وأميرها.
  اقول : والرواية تؤيد ما سننقله من الروايات الواردة في عدة من الآيات أنها في على أو في أهل البيت نظير ما في قوله تعالى : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) آل عمران ـ 110 ، وقوله تعالى : ( لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ) البقرة ـ 143 ، وقوله تعالى : ( وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) التوبة ـ 119.
  ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ـ 106 ، ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير ) ـ 107.
  ( بيان )
  الآيتان في النسخ ومن المعلوم أن النسخ بالمعنى المعروف عند الفقهاء وهو الابانة عن انتهاء أمد الحكم وانقضاء أجله اصطلاح متفرع على الآية مأخوذ منها ومن مصاديق ما يتحصل من الآية في معنى النسخ على ما هو ظاهر إطلاق الآية.
  قوله تعالى : ما ننسخ ، النسخ هو الازالة ، يقال : نسخت الشمس الظل إذا

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 250 _
  ازلته وذهبت به ، قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ) الحج ـ 51 ، ومنه أيضا قولهم : نسخت الكتاب إذا نقل من نسخة إلى اخرى فكأن الكتاب أذهب به وأبدل مكانه ولذلك بدل لفظ النسخ من التبديل في قوله تعالى : ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) النحل ـ 101 ، وكيف كان فالنسخ لا يوجب زوال نفس الآية من الوجود وبطلان تحققها بل الحكم حيث علق بالوصف وهو الآية والعلامة مع ما يلحق بها من التعليل في الآية بقوله تعالى : ألم تعلم ، إلخ أفاد ذلك أن المراد بالنسخ هو اذهاب اثر الآية ، من حيث أنها آية ، اعني إذهاب كون الشئ آية وعلامة مع حفظ أصله فبالنسخ يزول أثره من تكليف أو غيره مع بقاء أصله وهذا هو المستفاد من إقتران قوله : ننسها بقوله : ما ننسخ ، والانساء إفعال من النسيان وهو الا ذهاب عن العلم كما أن النسخ هو الا ذهاب عن العين فيكون المعنى ما نذهب بآية عن العين أو عن العلم نأت بخير منها أو مثلها.
  ثم إن كون الشئ آية يختلف باختلاف الاشياء والحيثيات والجهات ، فالبعض من القرآن آية لله سبحانه باعتبار عجز البشر عن اتيان مثله ، والاحكام والتكاليف الالهية آيات له تعالى باعتبار حصول التقوى والقرب بها منه تعالى ، والموجودات العينية آيات له تعالى باعتبار كشفها بوجودها عن وجود صانعها وبخصوصيات وجودها عن خصوصيات صفاته وأسمائه سبحانه ، وأنبياء الله واوليائه تعالى آيات له تعالى باعتبار دعوتهم إليه بالقول و الفعل وهكذا ، ولذلك كانت الآية تقبل الشدة والضعف قال الله تعالى : ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) النجم ـ 18.
  ومن جهة اخرى الآية ربما كانت في انها آية ذات جهة واحدة وربما كانت ذات جهات كثيرة ، ونسخها وإزالتها كما يتصور بجهته الواحدة كاهلاكها كذلك يتصور ببعض جهاتها دون بعض إذا كانت ذات جهات كثيرة ، كالآية من القرآن تنسخ من حيث حكمها الشرعي وتبقى من حيث بلاغتها وإعجازها ونحو ذلك.
  وهذا الذي استظهرناه من عموم معنى النسخ هو الذي يفيده عموم التعليل المستفاد من قوله تعالى : ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ، ألم تعلم أن الله له ملك السموات

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 251 _
  والارض ، وذلك إن الانكار المتوهم في المقام أو الانكار الواقع من اليهود على ما نقل في شأن نزول الآية بالنسبة إلى معنى النسخ يتعلق به من وجهين :
  احدهما : من جهة أن الآية إذا كانت من عند الله تعالى كانت حافظة لمصلحة من المصالح الحقيقية لا تحفظ ها شئ دونها ، فلو زالت الآية فاتت المصلحة ولن تقوم مقامها شئ تحفظ به تلك المصلحة ، ويستدرك به ما فات منها من فائدة الخلقة ومصلحة العباد ، وليس شأنه تعالى كشأن عباده ولا علمه كعلمهم بحيث يتغير بتغير العوامل الخارجية فيتعلق يوما علمه بمصلحة فيحكم بحكم ثم يتغير علمه غدا ويتعلق بمصلحة اخرى فاتت عنه بالامس ، فيتغير الحكم ، ويقضي ببطلان ما حكم سابقا ، وإتيان آخر لاحقا ، فيطلع كل يوم حكم ، ويظهر لون بعد لون ، كما هو شأن العباد غير المحيطين بجهات الصلاح في الاشياء ، فكانت أحكامهم وأوضاعهم تتغير بتغير العلوم بالمصالح والمفاسد زيادة ونقيصة وحدوثا وبقاء ، ومرجع هذا الوجه إلى نفي عموم القدرة وإطلاقها.
  وثانيهما : أن القدرة وإن كانت مطلقة إلا أن تحقق الايجاد وفعلية الوجود يستحيل معه التغير ، فان الشئ لا يتغير عما وقع عليه بالضرورة وهذا مثل الانسان في فعله الاختياري فان الفعل اختياري للانسان ما لم يصدر عنه فإذا صدر كان ضروري الثبوت غير اختياري له ، ومرجع هذا الوجه إلى نفي اطلاق الملكية و عدم جواز بعض التصرفات بعد خروج الزمام ببعض آخر كما قالت اليهود : يد الله مغلولة : فاشار سبحانه إلى الجواب عن الاول بقوله : ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير أي فلا يعجز عن إقامة ما هو خير من الفائت أو إقامه ما هو مثل الفائت مقامه وأشار إلى الجواب عن الثاني بقوله : إلم تعلم أن الله له ملك السموات والارض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ، أي إن ملك السموات والارض لله سبحانه فله أن يتصرف في ملكه كيف يشاء وليس لغيره شئ من الملك حتى يوجب ذلك انسداد باب من ابواب تصرفه سبحانه ، أو يكون مانعا دون تصرف من تصرفاته ، فلا يملك شئ شيئا ، لا ابتداء ولا بتمليكه تعالى ، فان التمليك الذي يملكه غيره ليس كتمليك بعضنا بعضا شيئا بنحو يبطل ملك الاول ويحصل ملك الثاني ، بل هو مالك

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 252 _
  في عين ما يملك غيره ما يملك ، فإذا نظرنا إلى حقيقة الامر كان الملك المطلق والتصرف المطلق له وحده ، وإذا نظرنا إلى ما ملكنا بملكه من دون استقلال كان هو الولي لنا وإذا نظرنا إلى ما تفضل علينا من ظاهر الاستقلال ـ وهو في الحقيقة فقر في صورة الغنى ، وتبعية في صورة الاستقلال ـ لم يمكن لنا أيضا أن ندبر امورنا من دون إعانته ونصره ، كان هو النصير لنا.
  وهذا الذي ذكرناه هو الذي يقتضيه الحصر الظاهر من قوله تعالى : « أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ » فقوله تعالى : « أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {البقرة/106} أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ » ، مرتب على ترتيب ما يتوهم من الاعتراضين ، ومن الشاهد على كونهما اعتراضين إثنين الفصل بين الجملتين من غير وصل ، وقوله تعالى : وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ، مشتمل على أمرين هما كالمتممين للجواب أي وإن لم تنظروا إلى ملكه المطلق بل نظرتم إلى ما عندكم من الملك الموهوب فحيث كان ملكا موهوبا من غير انفصال واستقلال فهو وحده وليكم ، فله أن يتصرف فيكم وفي ما عندكم ما شاء من التصرف ، وإن لم تنظروا إلى عدم إستقلالكم في الملك بل نظرتم إلى ظاهر ما عندكم من الملك والاستقلال وانجمدتم على ذلك فحسب ، فإنكم ترون أن ما عندكم من القدرة والملك والاستقلال لا تتم وحدها ، ولا تجعل مقاصدكم مطيعة لكم خاضعة لقصودكم وإرادتكم وحدها بل لا بد معها من إعانة الله ونصره فهو النصير لكم فله أن يتصرف من هذا الطريق فله سبحانه التصرف في أمركم من أي سبيل سلكتم هذا ، وقوله : وما لكم من دون الله ، جئ فيه بالظاهر موضع المضمر نظرا إلى كون الجملة بمنزلة المستقل من الكلام لتمامية الجواب دونه.
  فقد ظهر مما مر : اولا ، ان النسخ لا يختص بالاحكام الشرعية بل يعم التكوينيات أيضا.
  وثانيا : ان النسخ لا يتحقق من غير طرفين ناسخ ومنسوخ.
  وثالثا : ان الناسخ يشتمل على ما في المنسوخ من كمال أو مصلحة.
  ورابعا : ان الناسخ ينافي المنسوخ بحسب صورته وإنما يرتفع التناقض بينهما من

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 253 _
  جهة إشتمال كليهما على المصلحة المشتركة فإذا توفى نبي وبعث نبى آخر وهما آيتان من آيات الله تعالى أحدهما ناسخ للآخر كان ذلك جريانا على ما يقتضيه ناموس الطبيعة من الحياة والموت والرزق والاجل وما يقتضيه اختلاف مصالح العباد بحسب إختلاف الاعصار وتكامل الافراد من الانسان ، وإذا نسخ حكم ديني بحكم ديني كان الجميع مشتملا على مصلحة الدين وكل من الحكمين أطبق على مصلحت الوقت ، أصلح لحال المؤمنين كحكم العفو في أول الدعوة وليس للمسلمين بعد عدة ولا عدة ، وحكم الجهاد بعد ذلك حينما قوي الاسلام وأعد فيهم ما استطاعوا من قوة وركز الرعب في قلوب الكفار والمشركين ، والآيات المنسوخة مع ذلك لا تخلو من إيماء وتلويح إلى النسخ كما في قوله تعالى : « فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ » البقرة ـ 109 ، المنسوخ بأية القتال وقوله تعالى : « فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً » النساء ـ 14 ، المنسوخ بأية الجلد فقوله : حتى يأتي الله بأمره وقوله : « أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً » لا يخلو عن إشعار بأن الحكم موقت مؤجل سيلحقه نسخ.
  وخامسا : أن النسبة التي بين الناسخ والمنسوخ غير النسبة التي بين العام والخاص وبين المطلق والمقيد وبين المجمل والمبين ، فان الرافع للتنافي بين الناسخ والمنسوخ بعد استقراره بينهما بحسب الظهور اللفظي هو الحكمة والمصلحة الموجودة بينهما ، بخلاف الرافع للتنافي بين العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين فانه قوة الظهور اللفظي الموجود في الخاص والمقيد والمبين ، المفسر للعام بالتخصيص ، وللمطلق بالتقييد ، وللمجمل بالتبيين على ما بين في فن أصول الفقة ، وكذلك في المحكم والمتشابه على ما سيجئ في قوله : « مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ » آل عمران ـ 7.
  قوله تعالى : أو ننسها ، قرء بضم النون وكسر السين من الانساء بمعنى الا ذهاب عن العلم والذكر وقد مر توضيحه ، وهو كلام مطلق أو عام غير مختص برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بل غير شامل له أصلا لقوله تعالى : « سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ » الاعلى ـ 7 ، وهي آية مكية وآية النسخ مدنية فلا يجوز عليه النسيان بعد قوله تعالى :

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 254 _
  فلا تنسى وأما اشتماله على الاستثناء بقوله : إلا ما شاء الله فهو على حد الاستثناء الواقع في قوله تعالى : « خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ » هود ـ 109 ، جئ بها لاثبات بقاء القدرة مع الفعل على تغيير الامر ، ولو كان الاستثناء مسوقا لبيان الوقوع في الخارج لم يكن للامتنان بقوله : فلا تنسى معنى ، إذ كل ذي ذكر وحفظ من الانسان وسائر الحيوان كذلك يذكر وينسى وذكره نسيانه كلاهما منه تعالى وبمشيته ، وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كذلك قبل هذا الاقراء الامتناني الموعود بقوله : سنقرئك يذكر بمشية الله وينسى بمشية الله تعالى فليس معنى الاستثناء إلا إثبات إطلاق القدرة أي سنقرئك فلا تنسى ابدا والله مع ذلك قادر على إنسائك هذا ، وقرء قوله : ننسأها بفتح النون والهمزة من نسئ نسيئا إذا أخر تأخيرا فيكون المعنى على هذا : ما ننسخ من آية بأزالتها أو نؤخرها بتأخير إظهارها نأت بخير منها أو مثلها ولا يوجب التصرف الالهي بالتقديم والتأخير في آياته فوت كمال أو مصلحة والدليل على أن المراد بيان أن التصرف الالهة يكون دائما على الكمال والمصلحة هو قوله : بخير منها أو مثلها فأن الخيرية إنما يكون في كمال شئ موجود أو مصلحة حكم مجعول ففي ذلك يكون موجود مماثلا لآخر في الخيرية أو أزيد منه في ذلك فافهم.
  ( بحث روائي )
  قد تكاثرت روايات الفريقين عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وعن أئمة أهل البيت ( عليه السلام ) : ان في القرآن ناسخا ومنسوخا.
  وفي تفسير النعماني عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : بعد ذكر عدة آيات من الناسخ والمنسوخ قال ( عليه السلام ) : ونسخ قوله تعالى : وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون قوله : عزوجل ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم أي للرحمة خلقهم.
  أقول : وفيها دلالة على أخذه ( عليه السلام ) النسخ في الآية أعم من النسخ الواقع في التشريع فالآية الثانية تثبت حقيقة توجب تحديد الحقيقة التي تثبتها الآية الاولى

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 255 _
  وبعبارة واضحة : الآية الاولى تثبت للخلقة غاية وهي العبادة ، والله سبحانه غير مغلوب في الغاية التي يريدها في فعل من أفعاله غير أنه سبحانه خلقهم على إمكان الاختلاف فلا يزالون مختلفين في الاهتداء والضلال فلا يزالون مختلفين إلا من أخذته العناية الالهية ، وشملته رحمة الهداية ولذلك خلقهم أي ولهذه الرحمة خلقهم ، فالآية الثانية تثبت للخلقة غاية ، وهو الرحمة المقارنة للعبادة والاهتداء ولا يكون إلا في البعض دون الكل والآية الاولى كانت تثبت العبادة غاية للجميع فهذه العبادة جعلت غاية الجميع من جهة كون البعض مخلوقا لاجل البعض الاخر وهذا البعض أيضا لآخر حتى ينتهي إلى أهل العبادة وهم العابدون المخلوقون للعبادة فصح ان العبادة غاية للكل نظير بناء الحديقة وغرس الشجرة لثمرتها أو لمنافعها المالية فالآية الثانية تنسخ إطلاق الاية الاولى ، وفي تفسير النعماني أيضا عنه ( عليه السلام ) : قال : ونسخ قوله تعالى : ( وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ) قوله : ( الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ).
  اقول : ليست الآيتان من قبيل العام والخاص لقوله تعالى : كان على ربك حتما مقضيا ، والقضاء الحتم غير قابل الرفع ولا ممكن الابطال ويظهر معنى هذا النسخ مما سيجئ إنشاء الله في قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) الانبياء ـ 101.
  وفي تفسير العياشي عن الباقر ( عليه السلام ) : ان من النسخ البداء المشتمل عليه قوله تعالى : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) ، ونجاة قوم يونس.
  اقول : والوجه فيه واضح.
  وفي بعض الاخبار عن أئمة أهل البيت عد ( عليه السلام ) موت إمام وقيام إمام آخر مقامه من النسخ.
  اقول : وقد مر بيانه ، والاخبار في هذه المعاني كثيرة مستفيضة .
  وفي الدر المنثورا خرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 256 _
  قتادة قال : كانت الآية تنسخ الآية وكان نبي الله يقرأ الآية والسورة وما شاء الله من السورة ثم ترفع فينسيها الله نبيه فقال الله : يقص على نبيه ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ، يقول : فيها تخفيف ، فيها رخصة ، فيها أمر ، فيها نهى.
  أقول : وروى فيه أيضا في معنى الانساء روايات عديدة وجميعها مطروحة بمخالفة الكتاب كما مر في بيان قوله : أو ننسها
  ( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ) ـ 108 ، ( وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ـ 109 ، ( وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ـ 110 ، ( وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ـ 111 ، ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ـ 112 ، ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 257 _
  يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ـ 113 ، ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ـ 114 ، ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ـ 115.
  ( بيان )
  قوله تعالى : أم تريدون أن تسألوا رسولكم ، سياق الآية يدل على أن بعض المسلمين ـ ممن آمن بالنبي ـ سئل النبي امورا على حد سؤال اليهود نبيهم موسى ( عليه السلام ) والله سبحانه وبخهم على ذلك في ضمن ما يوبخ اليهود بما فعلوا مع موسى والنبيين من بعده ، والنقل يدل على ذلك.
  قوله تعالى : سواء السبيل أي مستوى الطريق.
  قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب ، نقل أنه حي بن الاخطب وبعض من معه من متعصبي اليهود.
  قوله تعالى : فاعفوا واصفحوا ، قالوا : أنها آية منسوخة بآية القتال.
  قوله تعالى : حتى يأتي الله بأمره ، فيه كما مر إيماء إلى حكم سيشرعه الله تعالى في حقهم ، ونظيره قوله تعالى : في الآية الآتية ( أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ ) ، مع قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) التوبة ـ 29 ، وسيأتي الكلام في معنى الامر في قوله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) أسرى ـ 85.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 258 _
  قوله تعالى : وقالوا : لن يدخل الجنة ، شروع في الحاق النصارى باليهود تصريحا وسوق الكلام في بيان جرائمهم معا .
  قوله تعالى : بلى من أسلم وجهه لله ، هذه كرة ثالثة عليهم في بيان أن السعادة لا تدور مدار الاسم ولا كرامة لاحد على الله إلا بحقيقة الايمان والعبودية ، اوليها قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا ) البقرة ـ 62 ، وثانيتها ، قوله تعالى : ( بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ) البقرة ـ 81 ، وثالثتها ، هذه الاية ويستفاد من تطبيق الآيات تفسير الايمان بإسلام الوجه إلى الله وتفسير الاحسان بالعمل الصالح.
  قوله تعالى : وهم يتلون الكتاب ، أي وهم يعملون بما أوتوا من كتاب الله لا ينبغي لهم أن يقولوا ذلك والكتاب يبين لهم الحق والدليل على ذلك قوله : ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ) فالمراد بالذين لا يعلمون غير أهل الكتاب من الكفار ومشركي العرب قالوا : إن المسلمين ليسوا على شئ أو أن اهل الكتاب ليسوا على شئ.
  قوله تعالى : ومن أظلم ممن منع ، ظاهر السياق أن هؤلاء كفار مكة قبل الهجرة فإن هذه الايات نزلت في اوائل ورود رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المدينة.
  قوله تعالى : ( أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ ) ، يدل على مضى الواقعة وإنقضائها لمكان قوله ، كان ، فينطبق على كفار قريش وفعالهم بمكة كما ورد به النقل أن المانعين كفار مكة ، كانوا يمنعون المسلمين عن الصلوة في المسجد الحرام والمساجد التي اتخذوها بفناء الكعبة.
  قوله تعالى : ( وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) ، المشرق والمغرب وكل جهة من الجهات حيث كانت فهي لله بحقيقة الملك التي لا تقبل التبدل والانتقال ، لا كالملك الذي بيننا معاشر أهل الاجتماع ، وحيث ان ملكه تعالى مستقر على ذات الشئ محيط بنفسه وأثره ، لا كملكنا المستقر على أثر الاشياء ومنافعها ، لا على ذاتها ، والملك لا يقوم من جهة انه ملك إلا بمالكه فالله سبحانه قائم على هذه الجهات محيط

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 259 _
  بها وهو معها ، فالمتوجه إلى شئ من الجهات متوجه إليه تعالى.
  ولما كان المشرق والمغرب جهتين إضافيتين شملتا ساير الجهات تقريبا إذ لا يبقى خارجا منهما إلا نقطتا الجنوب والشمال الحقيقتان ولذلك لم يقيد إطلاق قوله فأينما ، بهما بأن يقال : أينما تولوا منهما فكأن الانسان أينما ولى وجهه فهناك إما مشرق أو مغرب ، فقوله : ولله المشرق والمغرب بمنزلة قولنا : ولله الجهات جميعا وإنما اخذ بهما لان الجهات التي يقصدها الانسان بوجهه إنما تتعين بشروق الشمس وغروبها وسائر الاجرام العلوية المنيرة.
  قوله تعالى : فثم وجه الله ، فيه وضع علة الحكم في الجزاء موضع الجزاء ، والتقدير ـ والله أعلم ـ فأينما تولوا جاز لكم ذلك فإن وجه الله هناك ويدل على هذا التقدير تعليل الحكم بقوله تعالى : إن الله واسع عليم ، أي إن الله واسع الملك والاحاطة عليم بقصودكم أينما توجهت ، لا كالواحد من الانسان أو سائر الخلق الجسماني لا يتوجه إليه إلا إذا كان في جهة خاصة ، ولا أنه يعلم توجه القاصد إليه إلا من جهة خاصة كقدامه فقط ، فالتوجه إلى كل جهة توجه إلى الله ، معلوم له سبحانه.
  واعلم أن هذا توسعة في القبلة من حيث الجهة لا من حيث المكان ، والدليل عليه قوله : ولله المشرق والمغرب.
  ( بحث روائي )
  في التهذيب عن محمد بن الحصين قال : كتب إلى عبد صالح الرجل يصلي في يوم غيم في فلات من الارض ولا يعرف القبلة فيصلى حتى فرغ من صلوته بدت له الشمس فإذا هو صلى لغير القبلة يعتد بصلوته أم يعيدها ؟ فكتب يعيد ما لم يفت الوقت ، أو لم يعلم أن الله يقول : ـ وقوله الحق ـ فأينما تولوا فثم وجه الله.
  وفي تفسير العياشي عن الباقر ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : ولله المشرق والمغرب إلخ ، قال ( عليه السلام ) : أنزل الله هذه الآية في التطوع خاصة فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم ، وصلى رسول الله إيمائا على راحلته أينما توجهت به حين خرج إلى خيبر

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 260 _
  وحين رجع من مكة ، وجعل الكعبة خلف ظهره.
اقول : وروى العياشي أيضا قريبا من ذلك عن زرارة عن الصادق ( عليه السلام ) ، وكذا القمى والشيخ عن أبي الحسن ( عليه السلام ) ، وكذا الصدوق عن الصادق ( عليه السلام )
  وأعلم إنك إذا تصفحت أخبار أئمة أهل البيت حق التصفح ، في موارد العام والخاص والمطلق والمقيد من القرآن وجدتها كثيرا ما تستفيد من العام حكما ، ومن الخاص أعني العام مع المخصص حكما آخر ، فمن العام مثلا الاستحباب كما هو الغالب ومن الخاص الوجوب ، وكذلك الحال في الكراهة والحرمة ، وعلى هذا القياس ، وهذا أحد اصول مفاتيح التفسير في الاخبار المنقولة عنهم ، وعليه مدار جم غفير من أحاديثهم ، ومن هنا يمكنك أن تستخرج منها في المعارف القرآنية قاعدتين :
  احديهما : أن كل جملة وحدها ، وهي مع كل قيد من قيودها تحكي عن حقيقة ثابتة من الحقائق أو حكم ثابت من الاحكام كقوله تعالى : ( قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) الانعام ـ 91 ، ففيه معان أربع : الاول : قل الله ، والثاني : قل الله ثم ذرهم ، والثالث : قل الله ثم ذرهم في خوضهم ، والرابع : قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ، واعتبر نظير ذلك في كل ما يمكن.
  والثانية : ان القصتين أو المعنيين إذا اشتركا في جملة أو نحوها ، فهما راجعان إلى مرجع واحد ، وهذان سران تحتهما أسرار والله الهادي.
  ( وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) ـ 116 ، ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ـ 117.