( بيان )
قوله تعالى : ولما جاءهم الخ ، السياق يدل على أن هذا الكتاب هو القرآن.
وقوله : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ، على وقوع تعرض بهم من كفار العرب ، وأنهم كانوا يستفتحون أي يطلبون الفتح عليهم ببعثة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهجرته وأن ذلك الاستفتاح قد
استمر منهم قبل الهجرة ، بحيث كان الكفار من العرب أيضا يعرفون ذلك منهم لمكان قوله : كانوا ، وقوله : فلما جاءهم ما عرفوا ، أي عرفوا أنه هو بإنطباق ما كان عندهم من الاوصاف عليه كفروا.
قوله تعالى : بئسما إشتروا بيان لسبب كفرهم بعد العلم وأن السبب الوحيد في ذلك هوالبغي والحسد ، فقوله بغيا ، مفعول مطلق نوعي ، وقوله أن ينزل الله ، متعلق به ، وقوله تعالى : فبائوا بغضب على غضب ، أي رجعوا بمصاحبته أو بتلبس غضب بسبب كفرهم بالقرآن على غضب بسبب كفرهم بالتوراة من قبل ، والمعنى أنهم كانوا قبل البعثة والهجرة ظهيرا للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومستفتحا به وبالكتاب النازل عليه ، ثم لما نزل بهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونزل عليه القرآن وعرفوا أنه هو الذي كانوا يستفتحون به وينتظرون قدومه هاج بهم الحسد ، وأخذهم الاستكبار ، فكفروا وإنكروا ما كانوا يذكرونه كما كانوا يكفرون بالتوراة من قبل ، فكان ذلك منهم كفرا على كفر.
قوله تعالى : ويكفرون بما ورائه ، أي يظهرون الكفر بما ورائه ، وإلا فهم بالذي أنزل إليهم وهو التوراة أيضا كافرون.
قوله تعالى : قل فلم تقتلون ، الفاء للتفريع ، والسؤال متفرع على قولهم : نؤمن بما أنزل علينا ، أي لو كان قولكم : نؤمن بما أنزل علينا حقا وصدقا فلم تقتلون أنبياء الله ، ولم كفرتم بموسى بإتخاذ العجل ، ولم قلتم
عند أخذ الميثاق ورفع الطور : سمعنا وعصينا.
قوله تعالى : واشربوا في قلوبهم العجل ، الاشراب هو السقى ، والمراد بالعجل
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 223 _
حب العجل ، وضع موضعه للمبالغة كأنهم قد أشربوا نفس العجل وبه يتعلق قوله في قلوبهم ، ففي الكلام استعارتان أو استعارة ومجاز.
قوله تعالى : قل بئسما يأمركم به إيمانكم ، بمنزلة أخذ النتيجة مما أورد عليهم من قتل الانبياء والكفر بموسى ، والاستكبار بإعلام المعصية ، وفيه معنى الاستهزاء بهم.
( بحث روائي )
في تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق ) الآية قال ( عليه السلام ) : كانت اليهود تجد في كتبهم أن مهاجر محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما بين عير وأحد فخرجوا يطلبون الموضع ، فمروا بجبل يقال له حداد فقالوا حداد وأحد سواء ، فتفرقوا عنده ، فنزل بعضهم بتيما ، وبعضهم بفدك ، وبعضهم بخيبر ، فاشتاق الذين بتيما إلى بعض إخوانهم ، فمر بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه ، وقال لهم أمر بكم ما بين عير وأحد ، فقالوا له إذا مررت بهما فآذنا لهما ، فلما توسط بهم أرض المدينة ، قال ذلك عير وهذا احد فنزلوا عن ظهر إبله وقالوا له قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت وكتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك وخيبر أنا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا فكتبوا إليهم إنا قد إستقرت بنا الدار واتخذنا بها الاموال وما أقربنا منكم فإذا كان ذلك أسرعنا إليكم ، واتخذوا بأرض المدينة ، أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ ذلك تبع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم آمنهم فنزلوا عليه فقال لهم إني قد إستطبت بلادكم ولا أراني إلا مقيما فيكم ، فقالوا : ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي ، وليس ذلك لاحد حتى يكون ذلك ، فقال لهم فاني مخلف فيكم من اسرتي من إذا كان ذلك ساعده ونصره فخلف حيين تراهم : الاوس والخزرج ، فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود ، فكانت اليهود تقول لهم أما لو بعث محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا فلما بعث الله محمدا آمنت به الانصار وكفرت به اليهود وهو قوله تعالى :
( وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 224 _
كَفَرُوا ) إلى آخر الآية.
وفي الدر المنثور أخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم ( في الدلائل ) عن إبن عباس أن اليهود كانوا يستفتحون على الاوس والخزرج برسول الله قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن أبي البراء وداود بن سلمة يا معشر اليهود إتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أصل شرك وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته ، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير ما جاءنا بشئ نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله : ولما جاءهم كتاب من عند الله الآية.
وفي الدر المنثور أيضا أخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن إبن عباس قال كانت يهود بني قريظة والنضير من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يستفتحون الله ، يدعون على الذين كفروا ويقولون : اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الامي إلا نصرتنا عليهم فينصرون فلما جائهم ما عرفوا يريد محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم يشكوا فيه كفروا به.
أقول : وروي قريبا من هذين المعنيين بطرق أخرى أيضا ، قال بعض المفسرين بعد الاشارة إلى الرواية الاخيرة ونظائرها : إنها على ضعف رواتها ومخالفتها للروايات المنقولة شاذة المعنى بجعل الاستفتاح دعاء بشخص النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفي بعض بحقه وهذا غير مشروع ولا حق لاحد على الله فيدعى به إنتهى.
وهذا ناش من عدم التأمل في معنى الحق وفي معنى القسم ، بيانه : أن القسم هو تقييد الخبر أو الانشاء بشئ ذي شرافة وكرامة من حيث أنه شريف أو كريم فتبطل شرافته أو كرامته ببطلان النسبة الكلامية ، فإن كان خبرا فببطلان صدقه وإن كان إنشاء أمرا أو نهيا فبعدم إمتثال التكليف ، فإذا قلت : لعمري إن زيدا قائم فقد قيدت صدق كلامك بشرافة عمرك وحياتك وعلقتها عليه بحيث لو كان حديثك كاذبا كان عمرك فاقدا للشرافة ، وكذا إذا قلت إفعل كذا وحياتي أو قلت أقسمك بحياتي أن تفعل كذا فقد قيدت أمرك بشرف حياتك بحيث لو لم يأتمر مخاطبك لذهب بشرف
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 225 _
حياتك وقيمة عمرك.
ومن هنا يظهر أولا : أن القسم أعلى مراتب التأكيد في الكلام كما ذكره أهل الادب.
وثانيا : أن المقسم به يجب أن يكون أشرف من متعلقه فلا معنى لتأكيد الكلام بما هو دونه في الشرف والكرامة.
وقد أقسم الله تعالى في كتابه باسم نفسه ووصفه كقوله :
( وَاللّهِ رَبِّنَا ) وكقوله :
( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ ) وقوله :
( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ ) وأقسم بنبيه وملائكته وكتبه وأقسم بمخلوقاته كالسماء والارض والشمس والقمر والنجوم والليل والنهار واليوم والجبال والبحار والبلاد والانسان والشجر والتين والزيتون ، وليس إلا أن لها شرافة حقة بتشريف الله وكرامة على الله من حيث إن كلا منها إما ذو صفة من أوصافه المقدسة الكريمة بكرامة ذاته المتعالية أو فعل منسوب إلى منبع البهاء والقدس ـ والكل شريف بشرف ذاته الشريفة ـ فما المانع للداعي منا إذا سئل الله شيئا أن يساله بشئ منها من حيث أن الله سبحانه شرفه وأقسم به ؟ وما الذي هون الامر في خصوص رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى أخرجه من هذه الكلية وإستثناء من هذه الجملة ؟.
ولعمري ليس رسول الله محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأهون عند الله من تينه عراقية ، أو زيتونة شامية ، وقد أقسم الله بشخصه الكريم فقال :
( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الحجر ـ 72 .
ثم إن الحق ـ ويقابله الباطل ـ هو الثابت الواقع في الخارج من حيث انه كذلك كالارض والانسان وكل أمر ثابت في حد نفسه ومنه الحق المالي وسائر الحقوق الاجتماعية حيث أنها ثابتة بنظر الاجتماع وقد أبطل القرآن كل ما يدعي حقا إلا ما حققه الله وأثبته سواء في الايجاد أو في التشريع فالحق في عالم التشريع وظرف الاجتماع الديني هو ما جعله الله حقا كالحقوق المالية وحقوق الاخوان والوالدين على الولد وليس هو سبحانه محكوما بحكم أحد فيجعل عليه تعالى ما يلزم به كما ربما يظهر من بعض
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 226 _