النور 36
  التمثيل السادس والثلاثون
  ( وَالّذينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَمآنُ ماءً حَتّى إذَا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيئاً وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ فَوفّاهُ حِسَابَهُ وَالله سَرِيعُ الحِسَابِ ). (1)
  تفسير الآية
  ( السراب ) : ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنّه ماء يجري ، و( القيعة ) : بمعنى القاع أو جمع قاع ، وهو المنبسط المستوي من الأرض ، والظمآن هو العطشان.
  يشبه سبحانه أعمال الكفار تارة بالسراب كما في هذه الآية ، وأخرى بالظلمات كما في التمثيل الآتي ، ولعلّ المشبه في الأوّل هو حسناتهم ، وفي الثاني قبائح أعمالهم.
  وإليك توضيح التمثيل الوارد في الآية :
  قال سبحانه : ( وَالّذِينَ كَفَرُوا أَعمالهم ) أي ما يعملون من الطاعات ويقدمون من قرابين وأذكار يتقربون بها إلى آلهتهم ، مثلها ك‍ ( سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ).

--------------------
(1) النور : 39.

الأمثال في القرآن الكريم _ 212 _

  فقد وصف الظمآن بصفات عديدة :
  الاَُولى : حسبان السراب ماءً ، كما قال سبحانه : ( كَسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ).
  الثانية : إذا وصل إلى السراب لم يجده شيئاً نافعاً ، كما قال سبحانه ( حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً ) وإنّما خصّ الظمآن به مع أنّ السراب يتراءى ماء لكلّ راءٍ ، لأن المقصود هو مجيء الرائي إلى السراب ، ولا يجيئه إلاّ الظمآن ليرتوي ويرفع عطشه.
  الثالثة : عند ما يشرف على السراب لا يجد فيه ماءً ، ولكن يجد الله سبحانه عنده ، كما قال سبحانه : ( وَوَجد الله عنده ).
  وهذا خبر عن الظمآن ، ولكن المقصود منه في هذه الجملة هو الكافر ، والمعنى وجد أمر الله ووجد جزاء الله ، وذلك عند حلول أجله واشرافه على الآخرة ، فالكافر يتصوّر أنّ ما يقدم من قرابين وأذكار سوف ينفعه عند موته وبعده ، وسوف تقوم الآلهة بالشفاعة له ، ولكن يتجلّـى له خلاف ذلك وانّ الأمر أمر الله لا أمر غيره فلا يجدون أثراً من ألوهية آلهتهم.
  فعند ذلك يجدون جزاء أعمالهم ، كما يقول سبحانه : ( فَوَفّاهُمُ اللهُ حسابهم ).
  ثمّ إنّه سبحانه يصف نفسه بقوله : ( وَاللهُ سريع الحساب ).
  وبذلك تبين انّ الآية المباركة لبيان حال الظمآن الحقيقي إلى قوله : ( لم يجده شيئاً ) ، كما أنّها من قوله ( ووجد ... ) يرجع إلى الظمآن لكن بالمعنى المجازي وهو الكافر.

الأمثال في القرآن الكريم _213_

  وحاصل التمثيل هو انّ الطاعة والعبادة والقربات كلها لله تبارك وتعالى ، فمن قدمها إليه وقام بها لأجله فقد بذر بذرة في أرض خصبة سوف ينتفع بها في لقائه سبحانه.
  وأمّا من عبد غيره وقدم إليه القربات راجياً الانتفاع به ، فهو كرجاء الظمآن الذي يتصوّر السراب ماءً فيجيئه لينتفع به ولكنّه سرعان ما يرجع خائباً.
  إلى هنا تمَّ ما يشترك فيه الظمآن والكافر ، أي المشبه به والمشبه ، ولكن المشبه ، أعني : الكافر الذي شبه بالظمآن فهو يختص بأُمور أخرى.
  أولاً : انّه عند مجيئه إلى الانتفاع بأعماله يجد الله هو المجازي لا غير.
  وثانياً : انّه سبحانه يجزيه بأعماله.
  وثالثاً : فيوفيه حسابه.
  وما ذلك إلاّ لأنّ الله سريع الحساب.
  وعلى ضوء ما ذكرنا فقد أُريد من الظمآن الاسم الظاهر الظمآن الحقيقي ، وأُريد من الضمائر الثلاثة في( وجد )( وفّاه )( حسابه ) الظمآن المجازي أعني الكافر الخائب.

الأمثال في القرآن الكريم _ 214_

النور 37
  التمثيل السابع والثلاثون
  ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاها وَمَنْ لَمْ يَجعلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ). (1)
  تفسير الآية
  ( اللجيّ ) : منسوب إلى اللجّة ، وهي في اللغة البحر الواسع العميق ، ولكنّه استخدم في لازم معناه وهو تردد أمواجه ، فانّ البحر كلما كان عميقاً وواسعاً تزداد أمواجه ، وعلى ذلك فيكون المراد من قوله ( بحرٍ لجيّ ) أي بحر متلاطم ، و( السحاب ) : عبارة عن الغيوم الممطرة ، بخلاف الغيم فهو أعم ، وانّما استخدم كلمة السحاب ليكون سبباً لازدياد الظلم.
  هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية ، وأمّا المقصود فهو كالتالي.
  انّه سبحانه شبه في الآية السابقة أعمال الكافرين ، لأجل عدم الانتفاع بها بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء ، ولكنّه تعالى شبّه أعمالهم في هذه الآية بالظلمة وخلوّها من نور الحق ببحر لجيّ فوقه سحابة سوداء ممطرة ويعلو ماءه

--------------------
(1) النور : 40.

الأمثال في القرآن الكريم _ 215 _

  موج فوق موج ، فراكب هذا البحر تغمره ظلمة دامسة لا يرى أمامه شيئاً حتى لو أخرج يده فانّه لا يراها مع قربها منه.
  هذا هو المشبه به ، وأمّا المشبه فالأعمال التي يقوم بها الكافر باطلة محضة ليس فيها من الحقّ شيء مثل هذا البحر اللجي المحيط به عتمة الظلام الذي ليس فيه نور.
  ثمّ إنّ الآية تشير إلى ظـلمات ثلاث.
  الاَُولى : ظلمة البحر المحجوب من النور.
  لثانية : ظلمة الأمواج المتلاطمة.
  لثالثة : السحاب الأسود الممطر.
  تراكم هذه الظلمات يحجب كلّ نور من الوصول ، وهكذا الحال في الكافر ففي أعماله ظلمات ثلاث يمكن بيانها بأنحاء مختلفة :
  النحو الأوّل : ظلمة الاعتقاد ، ظلمة القول ، ظلمة العمل.
  النحو الثاني : ظلمة القلب ، ظلمة البصر ، ظـلمة السمع.
  النحو الثالث : ظلمة الجهل ، ظلمة الجهل بالجهل ، ظلمة تصوّر الجهل علماً. (1).
  ويمكن أن تكون هذه الظلمات المتراكمة إشارة إلى أمر آخر وهو إصرار الكافر المتزايد على كفره وقبائح أعماله.
  ولذلك يصفه سبحانه بقوله : ( ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ).

--------------------
(1) انظر تفسير الفخر الرازى : 24 / 8 ـ 9.

الأمثال في القرآن الكريم _216_
  إيقاظ
  ثمّ إنّ بعض المؤلفين في أمثال القرآن ذكروا الآية التالية واعتبروها من الأمثال ، قال سبحانه : ( وَقَالُوا ما لِهذا الرَّسُول يَأكُلُ الطَّعام وَيَمْشي فِي الأسْواقِ لَوْلاَ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأكُلُ مِنْها وَقالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثال فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ). (1)
  ولكن الآية رغم ما جاء فيها من لفظ الأمثال ليست من قبيل التمثيل ، وإنّما هي بصدد نقل ما وصف به النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في لسان الكفّار ، حيث وصفوه بأنّه يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ، فلا يصلح للرسالة.
  ثمّ نقموا منه بأنّا سلمنا انّه رسول ، ولكنّه لماذا لا ينزل إليه ملك فيكون معه نذيراً ليتصل إنذاره بالغيب بتوسط الملك ؟
  ثمّ نقموا منه أيضاً بأنّه لماذا لم يُلقَ إليه كنز من السماء حتى يصرفه في حوائجه المادية ، أو لماذا لا تكون له جنّة يأكل منها ، ثمّ في الختام وصفوه بأنّه مسحور.
  فقال سبحانه اعتراضاً وتنديداً بوصفهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إيجاباً وسلباً بقوله ( انظر كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثال ) أي انظر كيف وصفوك تارة بأنّك تأكل وتمشي في الأسواق ، وأخرى بعدم اقترانك بملك ، وثالثة بالفقر ، ورابعة بكونك مسحوراً بتخيّل انّه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة والكتاب.
  وليس هاهنا مشبه ولا مشبه به ولا تمثيل ليبين موقف الرسول ، ولأجل ذلك صرّحنا في المقدمة انّه ليس من الأمثال القرآنية.

--------------------
(1) الفرقان : 7 ـ 9.

الأمثال في القرآن الكريم 217
العنكبوت 38
  التمثيل الثامن والثلاثون
  ( مَثَلُ الّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَولياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإنّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُون * إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيم * وَتِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ وَما يَعْقِلُهَا إلاّ العالِمُون ) . (1)
   تفسير الآيات
  ضرب سبحانه لآلهة المشركين مثلاً بالذباب تارة ، وبيت العنكبوت أخرى ، أمّا الأوّل فقد مضى البحث عنه ، وأمّا الثاني فهو ما تتضمنه الآية من تشبيه آلهة المشركين ومعبوداتهم المزيفة بأوهن البيوت وهو بيت العنكبوت.
  وقد مرّ انّ التشبيه يترك تأثيراً بالغاً في النفوس مثل تأثير الدليل والبرهان ، فتارة ينهى عن الغيبة ويقول : لا تغتب فانّه يوجب العذاب ويورث العقاب ، وأخرى يمثل عمله بالمثل التالي : وهو انّ مثل من يغتاب مثل من يأكل لحم الميت ، لأنّك نلت من هذا الرجل وهو غائب لا يفهم ما تقول ولا يسمع حتى يجيب ، فكان نيلك منه كعمل من يأكل لحم الميت وهو لا يعلم ما يفعل به ولا

--------------------
(1) العنكبوت : 41 ـ 43.

الأمثال في القرآن الكريم _ 218_
  يقدر على الدفع.
  ثمّ إنّ الغرض من تشبيه الآلهة المزيفة بهوام وحشرات الأرض كالبعوض والذباب والعنكبوت هو الحط من شأنها والاستهزاء بها.
  إنّ العنكبوت حشرة معروفة ذكورها أصغر أجساداً من إناثها ، وهي تتغذى من الحشرات التي تصطادها بالشبكة التي تمدها على جدران البيوت ، فتصنع تلك الشبكة من مادة تفرزها لها غدد في باطنها محتوية على سائل لزج تخرجه من فتحة صغيرة ، فيتجدد بمجرد ملامسته للهواء ويصير خيطاً في غاية الدقة ، وما أن تقع الفريسة في تلك الشبكة حتى تنقض عليها وتنفث فيها سمـاً يوقف حركاتها ، فلا تستطيع الدفاع عن نفسها. (1)
  ومع ذلك فما نسجته بيتاً لنفسها من أوهن البيوت ، بل لا يليق أن يصدق عليه عنوان البيت ، الذي يتألف من حائط هائل ، وسقف مظلٍّ ، وباب ونوافذ ، وبيتها يفقد أبسط تلك المقومات هذا من جانب ، ومن جانب آخر فانّ بيتها يفتقد لأدنى مقاومة أمام الظواهر الجوية والطبيعية ، فلو هبّ عليه نسيم هادئ لمزق النسيج ، ولو سقطت عليه قطرة من ماء لتلاشى ، ولو وقع على مقربة من نار لاحترق ، ولو تراكم عليه الغبار لمزق .
  هذا هو حال المشبه به ، والقرآن يمثل حال الآلهة المزيفة بهذا المثل الرائع، وهو انّها لا تنفع ولا تضرّ ، لا تخلق ولاترزق ، ولا تقدر على استجابة أي طلب.
  بل حال الآلهة المزيفة الكاذبة أسوأ حالاً من بيت العنكبوت ، وهو انّ العنكبوت تنسج بيتها لتصطاد به الحشرات ولولاه لماتت جوعاً ، ولكن الأصنام والأوثان لا توفر شيئاً للكافر.

--------------------
(1) انظر دائرة معارف القرن الرابع عشر : 6 / 772.

الأمثال في القرآن الكريم _ 219 _
   وبذلك تقف على عظمة التمثيل الوارد في قوله : ( وَإنّ أَوهن البُيُوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوت لَو كانُوا يَعْلَمُون ) .
  ثمّ إنّ قوله : ( لو كانوا يعلمون ) ليس قيداً لقوله : ( أَوهن البُيُوت لَبَيْتُ العَنْكَبُوت ) ، لأنّه من الواضح لكلّ أحد انّ بيت العنكبوت في غاية الوهن ، وانّما هو من متمّمات قوله : ( اتخذوا ) أي لو علموا انّ عبادة الآلهة كاتخاذ العنكبوت بيتاً سخيفاً ، ربما أعرضوا عنها.
  ثمّ إنّه سبحانه أردف المثل بآية أخرى ، وقال : ( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يدعُونَ مِنْ دُونِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيم ) والظاهر انّ( ما ) في قوله : ( ما يدعون ) موصولة ، أي انّه يعلم ما يعبد هؤلاء الكفار وما يتخذونه من دونه أرباباً، ولكن علمهم لا يضر إذ هو العزيز الذي لا يغالب فيما يريد والحكيم في جميع أفعاله.
  ثمّ قال سبحانه : ( وَتِلْكَ الأمْثال نَضْرِبها لِلنّاس وما يعقلها إلاّ العالمون ) أي نذكر تلك الأمثال ، وما يفهمها إلاّ العلماء العاقلون.

الأمثال في القرآن الكريم _ 220 _
الروم 39
  التمثيل التاسع والثلاثون
   ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّموات وَالأرْضِ كُلّ لَهُ قانِتُون * وَهُوَ الّذي يَبْدَوَُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأعْلى فِي السَّموات وَالأرضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيم * ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً من أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَومٍ يعْقِلُون ). (1)
  ( القانت ) : هو الخاضع ، الطائع ، فقوله : ( كلّ له قانتون ) أي خاضعون وطائعون له في الحياة والبقاء والموت والبعث ، وبالجملة كلّ ما في الكون مقهور لله سبحانه.
  ثمّ إنّ هذه الآيات تتضمن برهاناً على إمكان المعاد وتمثيلاً على بطلان الشرك في العبادة ، أمّا البرهان فقوله سبحانه : ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّموات وَالأرْض كُلّ لَهُ قانِتُون ) واللام في قوله( وله ) للملكية ، والمراد منه الملكية التكوينية ، كما أنّ قنوطهم وخضوعهم كذلك ، ومفاد الآية انّ زمام ما في الكون بيده سبحانه ، والكل مستسلمون لمشيئته سبحانه دون فرق بين الصالحين والطالحين ، وذلك لأنّه سبحانه

--------------------
(1) الروم : 26 ـ 28.

الأمثال في القرآن الكريم _221_
  هو الخالق الذي يدبر العالم كيفما يشاء ، والمربوب مستسلم لربه، ثمّ إنّه سبحانه رتَّب على ذلك مسألة إمكان المعاد ، بقوله : ( وَهُوَ الّذي يَبْدَوَُا الخَلْق ثُمَّ يُعيدهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه ).
  وحاصل البرهان : انّـه سبحانـه قادر على الخلق من العدم ـ كما هو المفروض ـ فالقادر على ذلك قادر على الإعادة ، إذ ليس هو إعادة من العدم ، بل إعادة لصورة الأجزاء المتماسكة وتنظيم المتفرقة ، فالخالق من لا شيء أولى من أن يكون خالقاً من شيء.
  ثمّ إنّ هذه الأولوية حسب تفكيرنا ورؤيتنا ، وإلاّ فالاَُمور الممكنة أمام مشيئته سواء ، قال على ( عليه السلام ) :
  وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقوى والضعيف في خلقه إلاّ سواء. (1)
  ولأجل توضيح هذا المعنى ، قال سبحانه : ( وَلَهُ المَثَلُ الأعلى فِي السَّمواتِ وَالأرْض وَهُوَ الْعَزيزُ الحَكيم ) والمراد من المثل الوصف ، والمراد من المثل الأعلى هو الوصف الأتم والأكمل ، الذي له سبحانه ، فهو علم كله ، قدرة كله ، حياة كله ، ليس لأوصافه حد.
  إلى هنا تمَّ ما ذكره القرآن من البرهان على إمكانية قيام المعاد بحشر الأجسام.
  وإليك بيان الأمر الثاني وهو التنديد بالشرك في العبادة من خلال التمثيل الآتي.

--------------------
(1) نهج البلاغة : الخطبة 185.

الأمثال في القرآن الكريم _222_
  ألقى سبحانه المثل بصورة الاستفهام الإنكاري ، وحاصله : هل ترضون لأنفسكم أن تكون عبيدكم وإماؤكم شركاء لكم في الأموال التي رزقناكم إيّاها على وجه تخشون التصرف فيها بغير إذن هؤلاء العبيد والإماء ورضاً منهم ، كما تخشون الشركاء الاَحرار.
  والجواب : لا ، أي لا يكون ذلك أبداً ولا يصير المملوك شريكاً لمولاه في ماله ، فعندئذٍ يقال لكم : كيف تجوزون ذلك على الله ، وأن يكون بعض عبيده المملوكين كالملائكة والجن شركاء له ، امّا في الخالقية أو في التدبير أو في العبادة.
  والحاصل : انّ العبد المملوك وضعاً لا يصحّ أن يكون في رتبة مولاه على نحو يشاركه في الأموال ، فهكذا العبد المملوك تكويناً لا يمكن أن يكون في درجة الخالق المدبر فيشاركه في الفعل ، كأن يكون خالقاً أو مدبراً ، أو يشاركه في الصفة كأن يكون معبوداً.
  فالشىء الذي لا ترضونه لأنفسكم ، كيف ترضونه لله سبحانه ، وهو ربّ العالمين ؟ وإلى ذلك المثل أشار ، بقوله :
  ( ضَرَبَ الله لَكُم مَثلاً مِنْ أَنْفُسكُم ) أي ضرب لكم مثلاً متخذاً من أنفسكم منتزعاً من حالاتكم ( هَل لَكُمْ من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم ) فقوله : ( هل لكم ) شروع في المثل المضروب ، والاستفهام للإنكار ، وقوله( ما ) في ( مما ملكت ) إشارة إلى النوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد والاِماء.
  فقوله : ( من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء ) مبين للشركة ، فقوله شركاء مبتدأ والظرف بعده خبره ، أي شركاء فيما رزقناهم على وجه تكونون فيه سواء ، وعلى ذلك يكون من في شركاء ، زائدة.

الأمثال في القرآن الكريم _ 223_
  فقوله : ( تخافونهم كخيفتكم أنفسكم ) بيان للشركة ، أي يكون العبيد كسائر الشركاء الأحرار ، فكما أنّ الشريك يخاف من شركائه الأحرار ، كذلك يخاف من عبده الذي يعرف أنّه شريك كسائر الشركاء.
  ثمّ إنّه يتم الآية ، بقوله : ( كَذلك نُفصّل الآيات لقوم يعقلون ) ، وعلى ذلك فالمشبه هو جعل المخلوق في درجة الخالق ، والمشبه به جعل المملوك وضعاً شريكاً للمالك.

الأمثال في القرآن الكريم _ 224 _
فاطر 40
  التمثيل الأربعون
   ( وَما يَسْتَوي البَحْران هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمن كُلّ تَأْكُلُون لَحْماً طَريّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِليةً تَلْبَسُونَها وَتَرى الفُلكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ). (1)
  تفسير الآية
   الفرات ) : الماء العذب ، يقال للواحد والجمع ، قال سبحانه : ( وأَسْقَيناكُمْ ماءً فُراتاً ) ، وعلى هذا يكون عذب قيداً توضيحياً.
  ( الاَُجاج ) : هو شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار.
  ( مواخر ) من مخر ، يقال مخرت السفينة مخراً ، إذا شقت الماء بجؤجئها مستقبلة له.
  فالآية بصدد ضرب المثل في حقّ الكفر والإيمان ، أو الكافر والمؤمن ، وحاصل التمثيل : انّ الإيمان والكفر متمايزان لا يختلط أحدهما بالآخر ، كما أنّ الماء العذب الفرات لا يختلط بالملح الاَُجاج.
  وفي الوقت نفسه لا يتساويان في الحسن والنفع ، قال سبحانه : ( وَما يَسْتَوي البَحْران هذا عَذبٌ فُراتٌ سائِغٌ شرابهُ وَهذا مِلحٌ أجاج ) بل ان

--------------------
(1) فاطر : 12.

الأمثال في القرآن الكريم _ 225 ـ
  الكافر أسوأ حالاً من البحر الاَُجاج الذي يشاطر البحر الفرات في أمرين :
  أ : يستخرج من كلّ منهما لحماً طرياً يأكله الإنسان ، كما قال سبحانه : ( وَمن كلٍّ تأكُلون لَحماً طَرياً ) .
  ب : يستخرج من كلّ منهما اللآلئ التي تخرج من البحر بالغوص وتلبسونها وتتزينون بها.
  إلى هنا تمَّ التمثيل ، ثمّ إنّه سبحانه شرع لبيان نعمه التي نزلت لأجلها السورة ، وقال :
  ( وَتَرى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله لعلّكم تشكرون ) ، والدليل على أنّه ليس جزء المثل تغير لحن الكلام ، حيث إنّ المثل ابتدأ بصيغة الماضي ، وقال : ( وَما يستوى البحران ) ولكن ذيله جاء بصيغة المخاطب ( وترى الفلك ) وهذا دليل على أنّه ليس جزء المثل.
  مضافاً إلى أنّ مضمون الجملة جاء في سورة النحل ، وقال : ( وَهُوَ الّذي سَخَّرَ البَحْرَ لتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) . (1)
  وبذلك يظهر انّ وزان الآية ، وزان قوله سبحانه : ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوُبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهى كَالحِجارة أَو أَشَدُّ قَسوةً وانّ مِنَ الحِجارةِ لَمَا يَتفجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ وَإنّ مِنْها لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنهُ الماءُ وإِنّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَما اللهُ بِغافلٍ عَمّا تعْمَلُون ) . (2)
  فكما أنّ الحجارة ألين من قلوبهم ، فهكذا الملح الاَُجاج أفضل من الكافر ، حيث إنّه يفيد.

--------------------
(1) النحل : 14.
(2) البقرة : 74.

الأمثال في القرآن الكريم _ 226_
فاطر 41
  التمثيل الواحد والأربعون
  ( وَما يَسْتَوِي الأعْمى وَالبَصِير * وَلا الظُّلُماتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِلُّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَما يَسْتَوِي الاَحْياءُ وَلاَ الأمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمعٍ مَنْ فِي الْقُبُور ). (1)
  تفسير الآيات
  ( الحرور ) : شدة حرّ الشمس ، وقيل : هو السموم. وقال الراغب : الحرور : الريح الحارة.
  هذا تمثيل للكافر والمؤمن ، أمّا الكافر فقد شبّهه بالصفات التالية :
  1 ـ الأعمى ، 2 ـ الظلمات ، 3 ـ الحرور ، 4 ـ الأموات.
  كما شبّه المؤمن بأضدادها التالية :
  1 ـ البصير ، 2 ـ النور ، 3 ـ الظل ، 4 ـ الأحياء.
  وما ذلك إلاّ لأنّ الكافر لأجل عدم إيمانه بالله سبحانه وصفاته وأفعاله ، فهو أعمى البصر تغمره ظلمة دامسة لا يرى ما وراء الدنيا شيئاً ، وتحيط به نار ،

--------------------
(1) فاطر : 19 ـ 22.

الأمثال في القرآن الكريم _227 _
  قال سبحانه : ( انّ جَهَنّم لَمُحيطَةٌ بِالكافِرين ) (1) وظاهر الآية انّ النار محيطة بهم في هذه الدنيا وإن لم يشعروا بها ، كما أنّه ميت لا يسمع نداء الأنبياء وإن كان حياً يمشي ، وهذا بخلاف المؤمن فانّه يبصر بنور الله يغمره نور زاهر ، يرى دوام الحياة إلى ما بعد الموت ، فهو في ظلّ ظليل رحمته ، وانّه يسمع نداء الأنبياء ويؤمن به.
  بعبارة واضحة : الكافر مجالد مكابر ، والمؤمن واعٍ متدبر.

--------------------
(1) التوبة : 49.

الأمثال في القرآن الكريم _228 _
يس 42
  التمثيل الثاني والأربعون
   ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقْتَدراً ). (1) وسيوافيك بيانها في محلها.
  ويقرب من هذا ما في سورة الحديد ، قال سبحانه :
  ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولَهْو وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ في الأمْوالِ وَالأولادِ كَمَثلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهيج فَتَراهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إلاّ مَتاعُ الغُرُور ). (2)

--------------------
(1) الكهف : 45.
(2) الحديد : 20.

الأمثال في القرآن الكريم _229 _
  تفسير الآيات
  ( التعزيز ) : النصرة مع التعظيم ، يقول سبحانه في وصف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( فَالّذينَ آمَنُوا بهِ وَعَزّروه وَنَصَرُوه ) (1)
  ( طيّـر ) : تطير فلان وإطيّـر ، أصله التفاوَل بالطير ، ثمّ يستعمل في كلّ ما يتفاءل به ويتشاءم ، فقوله ( إِنّا تطيرنا بِكُمْ ) أي تشاءمنا بكم.
  وبذلك يظهر معنى قوله : ( إِنّما طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ) أي انّ الذي ينبغي أن تتشاءموا به هو معكم ، أعني : حالة إعراضكم عن الحق الذي هو التوحيد وإقبالكم على الباطل.
  ( الرجم ) : الرمي بالحجارة.
  ( الصيحة ) : رفع الصوت.
  هذا التمثيل تمثيل إخباري يشرح حال قوم بعث الله إليهم الرسل ، فكذبوهم وجادلوهم بوجوه واهية.
  ثمّ أقبل إليهم رجل من أقصى المدينة يدعوهم إلى متابعة الرسل بحجة انّ رسالتهم رسالة حقّة ، ولكنّ القوم ما أمهلوه حتى قتلوه ، وفي هذه الساعة عمّت الكاذبين الصيحة فأهلكتهم عامة ، فإذا هم خامدون.
  هذا إجمال القصة وأمّا تفصيلها :
  فقد ذكر المفسرون انّ المسيح ( عليه السلام ) بعث إلى قرية انطاكية رسولين من الحواريّين باسم : شمعون ويوحنّا ، فدعيا إلى التوحيد وندّدا بالوثنية ، وكان القوم وملكهم غارقين في الوثنية.

--------------------
(1) الأعراف : 158.

الأمثال في القرآن الكريم _ 230_
   وناديا أهل القرية بانّا إليكم مرسلون ، فواجها تكذيب القوم وضربهما ، فعززهما سبحانه برسول ثالث ، واختلف المفسرون في اسم هذا الثالث ، ولا يهمنا تعيين اسمه ، وربما يقال انّه( بولس ). فعند ذلك أخذ القوم بالمكابرة والمجادلة والعناد ، محتجين بوجوه واهية :
  أ : انّكم بشر مثلنا ولا مزية لكم علينا ، وما تدعون من الرسالة من الرحمن ادّعاء كاذب ، فأجابهم الرسل بأنّه سبحانه يعلم انّا لمرسلون إليكم ، وليس لنا إلاّ البلاغ كما هو حق الرسل.
  ب : انّا نتشاءم بكم ، وهذه حجة العاجز التي لا يستطيع أن يحتج بشيء ، فيلوذ إلى اتهامهم بالتشاؤم والتطيّر.
  ج : التهديد بالرجم إذا أصرّوا على إبلاغ رسالتهم والدعوة إلى التوحيد والنهي عن عبادة الأوثان ، وقد أجاب الرسل بجوابين :
  الأوّل : انّ التشاؤم والتطير معكم ، أي أعمالكم وأحوالكم ، وابتعادكم عن الحق ، وانكبابكم على الباطل هو الذي يجر إليكم الويل والويلات.
  الثاني : انكم قوم مسرفون ، أي متجاوزون عن الحد، كان الرسل يحتجون بدلائل ناصعة وهم يردون عليهم بما ذكر ، وفي خضمِّ هذه الاَجواء جاء رجل من أقصى المدينة نصر وعزّز قول الرسل ودعوتهم محتجاً بأنّ هؤلاء رسل الحقّ ، وذلك للاَُمور التالية :
  أوّلاً : انّ دعوتهم غير مرفقة بشيء من طلب المال والجاه والمقام ، وهذا دليل على إخلاصهم في الدعوة ، وقد تحمّلوا عناء السفر وهم لا يسألون شيئاً.
  ثانياً : انّ اللائق بالعبادة من يكون خالقاً أو مدبراً للعالم ، ومن بيده مصيره

الأمثال في القرآن الكريم _231_
  في الدنيا والآخرة وليس هو إلاّ الله سبحانه الذي ينفعني ، فكيف أترك عبادة الخالق الذي بيده كلّ شيء ، وأتوجه إلى عبادة المخلوق( الآلهة المزيفة ) التي لا تستطيع أن تدفع عني ضراً ولا تنفعني شفاعتهم ؟! فلو اتخذت إلهاً غيره سبحانه كنت في ضلال مبين ، فلمّا تم حجاجه مع القوم وعزز الرسل وبين برهان لزوم اتباعهم ، أعلن ، وقال : أيّها النّاس : ( إنّي آمنت بربّكم فاسمَعُون ).
  ثمّ يظهر من القرائن انّ القوم هجموا عليه وقتلوه ، ولكنّه سبحانه جزاه ، فأدخله الجنة ، وهو فرح مستبشر يودّ لو علم قومه بمصيره عند الله.
  فلمّا تبيّن عناد القوم وقتل من احتج عليهم بحجج قوية نزل عذابه سبحانه ، فعمَّتهم صيحة واحدة أخمدت حياتهم وصيّرتهم جماداً.
  ففي هذه اللحظة الحاسمة التي يختار الإنسان الضلالة على الهداية ، والباطل على الحقّ ، يصح أن يخاطبهم سبحانه ، ويقول :
  ( يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يسْتهزءون ).
  هذه حقيقة القصة استخرجناها بعد الاِمعان في الآيات ، وقد أطنب المفسرون في سرد القصة ، نقلاً عن مستسلمة أهل الكتاب الذين نشروا الأساطير بين المسلمين ، نظراء وهب بن منبّه ، فلا يمكن الاعتماد على كلّ ما جاء فيها. (1)
  ثمّ إنّ في الآيات نكات جديرة بالمطالعة :
  الاَُولى : يذكر المفسرون انّ الرسولين لم يكونا مبعوثين من الله مباشرة ، وانّما بعثا من قبل المسيح ( عليه السلام )، مثل الرسول الثالث ، ولما كان بعث المسيح بأمر من الله سبحانه ، نسب فعل المسيح إليه سبحانه ، وقال : ( إذْ أرسلنا إليهم اثنين ).

--------------------
(1) لاحظ مجمع البيان : 4 / 418 ـ 420.

الأمثال في القرآن الكريم _232_
   الثانية : لقد وقفت على أنّ القوم قاموا بالجدال والعناد ، فقالوا : ما أنتم إلاّ بشر مثلنا ، والجملة تحتمل وجهين :
  الوجه الأوّل : أنتم أيّـهـا الرسل بشر ، والبشر لا يكون رسولاً من الله ، وعلى هذا فالمانع من قبول رسالاتهم كون أصحابها بشراً.
  الوجه الثاني : انّ المانع من قبول دعوة الرسالة هي عدم توفر أي مزية في الرسل ترجحهم ، ويشعر بذلك قوله : ( مثلنا ) وإلاّ فلو كان الرسل مزودين بشيء آخر ربما لم يصح لهم جعل المماثلة عذراً للربّ.
  الثالثة : انّ القصة تنمُّ عن أنّ منطق القوة كان منطق أهل اللجاج ، فالقوم لما عجزوا عن رد برهانهم التجأوا إلى منطق القوة ، بقتل دعاة الحق وصلحائه ، وقالوا : ( لئن لم تنتهوا لنرجمنَّكم ).
  الرابعة : انّ التطير كان سلاح أهل العناد والمكابرة ، ولم يزل هذا السلاح بيد العتاة الجاحدين للحق ، فيتطيرون بالعابد ، وغير ذلك.
  الخامسة : يظهر من صدر الآيات انّ الرسل بعثوا إلى القرية ، وقد تطلق غالباً على المجتمعات الكبيرة والصغيرة ، ولكن قوله : ( وجاء من أقصى المدينة رجل ) يعرب انّها كانت مدينة ومجتمعاً كبيراً لا صغيراً.
  السادسة : انّه سبحانه يصف الرجل الرابع الذي قام بدعم موقف الرسل بأنّه كان من أقصى المدينة ، وما هذا إلاّ لأجل الإشارة إلى عدم الصلة والتواطئ بينه وبين الرسل ، ولذلك قدّم لفظ أقصى المدينة على الفاعل ، أعني : ( رجل ) ، وقال : ( وجاء من أقصى المدينة ).
  السابعة : انّ قوله : ( ومالي لا أعبد الذي فطرني ) دليل على أنّ العبادة هي

الأمثال في القرآن الكريم _233_
  الخضوع النابع عن الاعتقاد بخالقية المعبود ومدبريته ، وماله من الأوصاف القريبة من ذلك ، ولذلك يرى أنّه يعلل إيمانه وتوحيده ، بقوله : ( ما لي لا أعبد الذي فطرني ).
  كما أنّه يعلل حصر عبادته له وسلبها عن غيره ، بعجزهم عن رد ضرّ الرحمن بعدم الجدوى في شفاعتهم.
  الثامنة : قلنا أنّ القرائن تشهد بأنّ من قام بالدعوة إلى طريق الرسل من القوم ، قتل عند دعوته وجازاه الله سبحانه بأن أدخله الجنة ، والمراد من الجنة هو عالم البرزخ لا جنة الخلد التي لا يدخلها الإنسان إلاّ بعد قيام الساعة.
  التاسعة : كما أنّ في كلام الرجل المقتول ، بقوله : ( يا لَيْت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي ) دليلاً على وجود الصلة بين الحياة البرزخية والمادية ، حيث أبلغ بلاغاً إلى قومه ، وتمنى أن يقفوا على ما أنعم الله عليه بعد الموت ، حيث قال : ( قيل ادخل الجنّة قال يا ليت قومي يعلمون ).

الأمثال في القرآن الكريم _234_
يس 43
  التمثيل الثالث والأربعون
   ( أَوَ لَمْ يَرَ الاِِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِين * وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحيِي العِظام وَهِيَ رَمِيم * قُلْ يُحْييها الّذي أَنْشَأَها أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيم ) . (1)
  تفسير الآيات
  روى المفسرون أنّ أُبي بن خلف ، أو العاص بن وائل جاء بعظم بالٍ متفتت ، وقال : يا محمد أتزعم انّ الله يبعث هذا ، فقال : نعم ، فنزلت الآية ( أَوَ لم يَرَ الإنْسان ) .
  فضرب الكافر مثلاً ، وقال : كيف يحيي الله هذه العًام البالية ؟ وضرب سبحانه مثلاً آخر ، وهو انّه يحييها من أنشأها أوّلاً ، فمن قدر على إنشائها ابتداءً يقدر على الإعادة ، وهي أسهل من الإنشاء والابتداء ، وقد عرفت أنّ إطلاق لفظ الأسهلية إنّما هو من منظار الإنسان ، وأمّا الحقّ جلّ وعلا فكل الأشياء أمامه سواء.
  قال سبحانه : ( وَضَرَبَ لَنا مثلاً ) أي ضرب مثلاً في إنكار البعث بالعظام

--------------------
(1) يس : 77 ـ 79.

الأمثال في القرآن الكريم _235_
  البالية ، واستغرب ممن يقول انّ الله يحيي هذه العظام ونسي خلقه ( قال من يحيي العظام وهي رميم ) ومثل سبحانه بالرد عليه بمثال آخر ، وقال : ( قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرة وهو بكلّ خلق عليم ) من الابتداء والاعادة ، وقد مرّ هذا المثل بعبارة أخرى في قوله : ( وَهُوَ الّذِي يَبْدَوَُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) . (1)


--------------------
(1) الروم : 27.

الأمثال في القرآن الكريم _236 _
الزمر 44
  التمثيل الرابع والأربعون
  ( وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ في هذا القُرآن مِنْ كُلّ مَثَل لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون * قُرآناً عَربياً غَيرَ ذي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُون * ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُركاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَويانِ مَثلاً الحمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُون ). (1)
  ( الشكس ) : السيء الخلق ، يقال : شركاء متشاكسون ، أي متشاجرون لشكاسة خلقهم.
  ( سلماً ) : أي خالصاً لا يملكه إلاّ شخص واحد ولا يخدم إلاّ إياه.
  هذه الآيات تمثل حالة الكافر والمؤمن ، فهناك مشبه ومشبه به.
  أمّا المشبّه به ، فهو عبارة عن عبد مملوك له شركاء سيئى الخلق متنازعون فيه ، فواحد يأمره وآخر ينهاه ، وكلّ يريد أن يتفرّد بخدمته ، في مقابل عبد مملوك لرجل يطيعه ويخدمه ولا يشرك في خدمته شخصاً آخر فهذان المملوكان لا يستويان ، وأمّا المشبه فحال الكافر هو حال المملوك الذي فيه شركاء متشاكسون ،

--------------------
(1) الزمر : 27 ـ 29.

الأمثال في القرآن الكريم _237 _
  فهو يعبد آلهة مختلفة لكلّ أمره ونهيه وخدمته ، ولا يمكن الجمع بين الآراء والأهواء المختلفة ، بخلاف المؤمن فانّه يأتمر بأمر الخالق الحكيم القادر الكريم.
  وهذا المثل وإن كان مثلاً واضحاً ساذجاً مفهوماً لعامة الناس ، ولكن له بطن لا يقف عليه إلاّ أهل التدبر في القرآن ، فهو سبحانه بصدد البرهنة على توحيده الذي أشار إليه في قوله : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلاّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُون ). (1)
  وقال سبحانه : ( ءَأَربابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار ). (2)

--------------------
(1) الأنبياء : 22.
(2) يوسف : 39.

الأمثال في القرآن الكريم _238 _
الزخرف 45
  التمثيل الخامس والأربعون
  ( وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأوّلِينَ * وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبيٍّ إلاّ كانوا بِهِ يَسْتَهْزءُون * فَأَهْلَكْنا أَشدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمضى مَثَلُ الأوّلِين ). (1)
  فسير الآيات ( البطش ) : تناول الشيء بصولة ، وربما يراد منه القوة والمنعة ، يذكر سبحانه في هذه الآيات الأمم الماضية التي بعث الله سبحانه رسله إليهم ، فكفروا بأنبيائه وسخروا منهم لفرط جهالتهم وغباوتهم فأهلكهم الله سبحانه بأنواع العذاب مع ما لهم من القوة والنجدة.
  هذا هو حال المشبه به ، والمشبه عبارة عن مشركي عصر الرسالة الذين كانوا يستهزئون بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيوعدهم سبحانه بما مضى على الأوّلين ، بأنّه سبحانه أهلك من هو أشد قوة ومنعة من قريش وأتباعهم فليعتبروا بحالهم ، يقول سبحانه : ( كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الاََوّلين ) أي الأمم الماضية ( وما يأتيهم من نبي إلاّ كانوا به يستهزءُون ) فكانت هذه سيرة الأمم الماضية ، ولكنه سبحانه لم يضرب عنهم صفحاً فأهلكهم ، كما قال : ( فأهلكنا أشدّ منهم بطشاً ومضى مثل الأوّلين ). أي

--------------------
(1) الزخرف : 6 ـ 8.

الأمثال في القرآن الكريم _239 _
  مضى في القرآن ـ في غير موضع منه ـ ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تصير مسير المثل.
  وبعبارة أخرى : انّ كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثلما نزل بالأمم الغابرة ، فقد ضربنا لهم مثَلَهم ، كما قال تعالى : ( وَكُلاً ضَرَبنا لَهُمُ الأمْثال ). (1)
  إيقاظ
  ثمّ إنّه ربما عدّ من أمثال القرآن ، قوله سبحانه : ( وَإذا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيم ). (2)
  كان المشركون في العصر الجاهلي يعدّون الملائكة إناثاً وبناتاً لله تبارك وتعالى ، يقول سبحانه : ( وَجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ) فردّ عليهم بقوله : ( أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون ). وقال سبحانه : ( وَيَجْعَلُونَ للهِ البَناتِ سُبحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُون ) (3)
  فعلى ذلك فالملائكة عند المشركين بنات الله سبحانه.
  ثمّ إنّ الآية تحكي عن خصيصة المشركين بأنّـهم إذا رزقوا بناتاً ظلّت وجوههم مسودة يعلوها الغيظ والكظم ، قال سبحانه : ( وَإذا بشّر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ) أي وصف الله به ، وقد عرفت انّهم وصفوه بأنّ الملائكة بنات الله.

--------------------
(1) الفرقان : 39.
(2) الزخرف : 17.
(3) النحل : 57.

الأمثال في القرآن الكريم _240_
   ( ظلّ وجهه مسودّاً وهو كظيم ) فليست الآية من قبيل المثل الاخباري ولا الانشائي ، وإنّما هي بمعنى الوصف ، أي وصفوه بأنّه صاحب بنات ، وهم كاذبون في هذا الوصف ، فلا يصح عدّ هذه الآية من آيات الأمثال.

الأمثال في القرآن الكريم _241_
الزخرف 46
  التمثيل السادس والأربعون
   ( فَاسْتَخَفَّ قوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِين * فَلَمّا آسفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقناهُمْ أَجْمَعِين * فَجَعَلْناهُمْ سلفاً وَمَثَلاً للآخِرِين ). (1)
  تفسير الآيات
  ( آسفونا ) : مأخوذ من أسف أسفاً إذا اشتد غضبه.
  وقال الراغب : الآسف : الحزن والغضب معاً ، وقد يقال لكلّ واحد منهما على الانفراد ، والمراد في الآية هو الغضب.
  السلف : المتقدم.
  انّه سبحانه يخبر عن انتقامه من فرعون وقومه ، ويقول : فلمّا آسفونا ، أي أغضبونا ، وذلك بالاِفراط في المعاصي والتجاوز عن الحد ، فاستوجبوا العذاب ، كما قال سبحانه : ( انتقمنا منهم ) ثمّ بين كيفية الانتقام ، وقال : ( فَأَغْرَقناهم أجمعين ) فما نجا منهم أحد ( فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين ) ، أي جعلناهم عبرة وموعظة لمن يأتى من بعدهم حتى يتّعظوا بهم.
  فالمشبه به هو قوم فرعون واستئصالهم ، والمشبه هو مشركو أهل مكة وكفّارهم ، فليأخذوا حال المتقدمين نموذجاً متقدماً لمصيرهم.

--------------------
(1) الزخرف : 54 ـ 56.

الأمثال في القرآن الكريم _242 _
الزخرف 47
  التمثيل السابع والأربعون
   ( وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصُدُّونَ * وَقالُوا ءالِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُون * إِنْ هُوَ إلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ * وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيم ) (1)
  تفسير الآيات
   ( الصدّ ) : بمعنى الانصراف عن الشيء ، قال سبحانه : ( يصدّون عنك صدوداً ) ، ولكن المراد منه في الآية هو ضجة المجادل إذا أحس الانتصار.
  ( تمترُنَّ ) : من المرية وهي التردد بالاَمر.
  ذكر المفسرون في سبب نزول الآيات انّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما قرأ : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُون * لَوْ كانَ هوَُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلّ فِيها خالِدُونَ * لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ ). (2)

--------------------
(1) الزخرف : 57 ـ 61.
(2) الأنبياء : 98 ـ 100.

الأمثال في القرآن الكريم _243 _
   امتعضت قريش من ذلك امتعاضاً شديداً ، فقال عبد الله بن الزبعرى : يا محمد أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم ).
  فقال : خصمتك وربّ الكعبة ، ألست تزعم انّ عيسى بن مريم نبي وتثني عليه خيراً ، وعلى أُمّه ، وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما ، وعزير يعبد ، والملائكة يعبدون ، فإن كان هؤلاء في النار ، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، ففرحوا وضحكوا. (1)
  وإلى فرحهم وضجّتهم ، يشير سبحانه بقوله : ( إذا قومك منه يصدّون ) حيث زعموا انّهم وجدوا ذريعة للرد عليه وإبطال دعوته ، فنزلت الآية إجابة عن جدلهم الواهي ، قال سبحانه :
   ( ولمّا ضرب ابن مريم مثلاً ) أي لما وصف المشركون ابن مريم مثلاً وشبهاً لآلهتهم ( إذا قومك منه يصدون ) أي أحس قومك في هذا التمثيل فرحاً وجذلاً وضحكاً لمّا حاولوا إسكات رسول الله بجدلهم ، حيث قالوا في مقام المجادلة : ( وقالوا ءآلهتنا خير أم هو ) يعنون آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى ، فإذا كان عيسى من حصب النار كانت آلهتنا هيناً.
  وبذلك يعلم انّ المشركين هم الذين ضربوا المثل حيث جعلوا المسيح شبهاً ومثلاً لآلهتهم ، ورضوا بأن تكون آلهتهم في النار إذا كان المسيح كذلك ازداد فرح المشركين وظنوا انّهم التجأوا إلى ركن ركين أمام منطق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
   ثمّ إنّه سبحانه يشير في الآيات السابقة إلى القصة على وجه الاِجمال ، ويجيب

--------------------
(1) الكشاف : 3 / 100.لاحظ سيرة ابن هشام : 1 / 385 ، وقد ذكرت القصة بتفصيل.

الأمثال في القرآن الكريم _244_
  على استدلال ابن الزبعرى.
  أوّلاً : انّهم ما أرادوا بهذا التمثيل إلاّ المجادلة والمغالبة لا لطلب الحق ، وذلك لأنّ طبعهم على اللجاج والعناد ، يقول سبحانه : ( ما ضربوه لك إلاّ جدلاً بل هم قوم خصمون ).
  وثانياً : انّهم ما تمسكوا بهذا المثل إلاّ جدلاً وهم يعلمون بطلان دليلهم ، إذ ليس كلّ معبود حصب جهنم ، بل المعبود الذي دعا الناس إلى عبادته كفرعون لا كالمسيح الذي كان عابداً لله رافضاً للشرك ، فاستدلالهم كان مبنياً على الجدل وإنكار الحقيقة ، وهذا هو المراد من قوله : ( ما ضربوه لك إلاّ جدلاً بل هم قوم خصمون ).
   ولذلك بدأ سبحانه يشرح موقف المسيح وعبادته وتقواه وانّه كان آية من آيات الله سبحانه ، وقال : ( إِنْ هُوَ إلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثلاً لِبَني إِسرائيل )، أي آية من آيات الله لبني إسرائيل ، فولادته كانت معجزة ، وكلامه في المهد معجزة ثانية وإحياوَه الموتى معجزة ثالثة ، فلم يكن يدعو قطُّ إلى عبادة نفسه.
  ثمّ إنّه سبحانه من أجل تحجيم شبهة حاجته إلى عبادة الناس ، يقول : ( وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَة في الأرض يخلفُون )أي يطيعون الله ويعبدونه ، فليس الاِصرار على عبادتكم وتوحيدكم إلاّ طلباً لسعادتكم لا لتلبية حاجة الله ، وإلاّ ففي وسعه سبحانه أن يخلقكم ملائكة خاضعين لاَمره.
  ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى خصيصة من خصائص المسيح ، وهي انّ نزوله من السماء في آخر الزمان آية اقتراب الساعة.

الأمثال في القرآن الكريم _245 _
  إلى هنا تم تفسير الآية ، وأمّا التمثيل فقد تبين ممّا سبق حيث شبهوا آلهتهم بالمسيح ورضوا بأن تكون مع المسيح في مكان واحد وإن كان هو النار. فالذي يصلح لأن يكون مثلاً إنّما هو قوله : ( ولما ضرب ابن مريم مثلاً ) وقد عرفت انّ الضارب هو ابن الزبعرى ، وأمّا قوله : ( وَجَعَلناه مثلاً لبني إِسرائيل ) فالمثل فيه بمعنى الآية.
  إيقاظ :
  بما عُدّت الآية التالية من الأمثال القرآنية : ( وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحاتِ وَآمنُوا بِما نُزّلَ على مُحمّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ * ذلِكَ بِأَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وَأَنَّ الّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنّاسِ أَمْثالَهُمْ )(1) والظاهر انّ المثل في الآية بمعنى الوصف لا بمعنى التمثيل المصطلح ، أي تشبيه شيء بشيء ويعلم ذلك من خلال تفسير الآيات.
  تفسير الآيات
  ( بال ) البال : الحال التي يكترث بها ، ولذلك يقال : ما باليت بكذا بالةً أي ما اكترثت به ، قال : ( كفّر عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالهُم ) ، وقال : ( فَما بال القُرون الأولى )أي حالهم وخبرهم ، ويعبَّر بالبال عن الحال الذي ينطوي عليه الإنسان ، فيقال خطر كذا ببالي. (2)

--------------------
(1) محمد : 2 ـ 3.
(2) مفردات الراغب : 67 مادة بال.

الأمثال في القرآن الكريم _246 _
  إنّ هذه الآيات بشهادة ما تليها تبين حال كفّار قريش ومشركي مكة الذين أشعلوا فتيل الحرب في بدر ، فقال : ( انّ الّذين كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبيلِ الله ) أي منعوا الآخرين من الاهتداء بهدى الإسلام ، فهؤلاء أضلّ أعمالهم ، أي أحبط أعمالهم وجعلها هباءً منثوراً ، فلا ينتفعون من صدقاتهم وعطياتهم إشارة إلى غير واحد من صناديد قريش الذين نحروا الاِبل في يوم بدر وقبله.
  فيقابلهم المؤمنون كما قال : ( وَالّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات وَآمنوا بِما نزّل على محمّد وَهُوَ الحَقّ مِنْ رَبّهِمْ ) .
  فلو انّه سبحانه أضلّ أعمال الكافرين وأحبط ما يقومون به من صدقات ، لكنّه سبحانه من جهة أخرى جعل صالح أعمال المؤمنين كفارة لسيئاتهم وأصلح بالهم.
  فشتّان ما بين كافر وصادّ عن سبيل الله ، يحبط عمله.
  وموَمن بالله وبما نزّل على محمد ، يكفّر سيئاته بصالح أعماله.
  ومن هذا التقابل علم مكانة الكافر والمؤمن ، كما علم نتائج أعمالهما.
  ثمّ إنّه سبحانه يدلّل على ذلك بأنّ الكافرين يقتفون أثر الباطل ولذلك يضل أعمالهم ، وأمّا المؤمنون فيتبعون الحقّ فينتفعون بأعمالهم ، وقال : ( ذلك بأَنَّ الّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الباطِلَ وَأَنَّ الّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الحَقَّ مِنْ رَبّهِمْ ) .
  وفي ختام الآية الثانية ، قال : ( كذلِكَ يضرب الله للنّاس أمثالهم ) أي كذلك يبين حال المؤمن والكافر ونتائج أعمالهما وعاقبتهما.
  وعلى ذلك فالآية ليست من قبيل التمثيل ، بل بمعنى الوصف ، أي كذلك يصف سبحانه للناس حال الكافر والمؤمن وعاقبتهما ، فليس هناك أي تشبيه

الأمثال في القرآن الكريم _247_
  وتنزيل ، وإنّما الآيات سيقت لبيان الحقيقة ، فالآية الاُولى تشير إلى الكافر ونتيجة عمله ، والآية الثانية تشير إلى المؤمن ومصير عمله ، والآية الثالثة تذكر علة الحكم ، وهو انّ الكافر يستقي من الماء العكر حيث يتبع الباطل والمؤمن ينهل من ماء عذب فيتبع الحقّ.

الأمثال في القرآن الكريم _248 _
محمد 48
  التمثيل الثامن والأربعون
   ( مَثَلُ الْجَنَّةِ الّتِي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَير آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذّةٍ لِلشّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصفىً وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمعاءَهُمْ ) . (1)   تفسير الآية
  ( آسن ) يقال : أسن الماء ، يأسن : إذا تغير ريحه تغيراً منكراً ، وماء غير آسن : أي غير نتن.
  ( الحميم ) : الماء الشديد الحرارة.
  قوله : ( مثل الجنة ) أي وصفها وحالها ، وهو مبتدأ خبره محذوف ، أي جنة فيها أنهار، فلو أردنا أن نجعل الآية من آيات التمثيل فلابدّ من تصور مشبه وهو الجنة الموعودة ، ومشبه به وهو جنة الدنيا بما لها من الخصوصيات.
  ولكن الظاهر انّ الآية صيغت لبيان حال الجنة ووصفها وسماتها ، وهي كالتالي :

--------------------
(1) محمد : 15.

الأمثال في القرآن الكريم _249 _
  1 ـ فيها أنهار أربعة وهي عبارة عن :
  أ : ( أنهار من ماء غير آسن ) أي الماء الذي لا يتغير طعمه ورائحته ولونه لطول البقاء.
  ب : ( أنهار من لبن لم يتغير طعمه ) ، ولا يعتريها الفساد بمرور الزمان.
  ج : أنهار من خمر لذة للشاربين ، فتقييد الخمر بكونه لذة للشاربين احتراز عن خمر الدنيا ، وقد وصف القرآن الكريم خمر الجنة في آية أخرى ، وقال : ( يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأسٍ مِنْ مَعِين * بَيضاءَ لَذّةٍ للشّارِبينَ * لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُون )، (1) فقوله : ( لذّة للشاربين ) أي ليس فيها ما يعتري خمر الدنيا من المرارة والكراهة ، فقوله : ( لا فيها غول ) ، أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها ، وقوله : ( ولا هم عنها ينزفون ) أي يسكرون ، وبذلك يمتاز خمر الآخرة على خمر الدنيا.
  د : أنهار من عسل مصفّى وخالص من الشمع.
  وهذه الأنهار الاَربعة لكلّ غايته وغرضه : فالماء للارتواء ، والثاني للتغذّي ، والثالث لبعث النشاط والروح ، والرابع لإيجاد القوة في الإنسان.
  2 ـ وفيها وراء ذلك من كلّ الثمرات ، كما قال سبحانه : ( وَلَهُمْ فيها مِنْ كُلّ الثَّمرات ) فالفواكه المتنوعة تحت متناول أيديهم لا عين رأتها ولا أُذن سمعتها ولا خطرت على قلب بشر.
  3 ـ وفيها وراء هذه النعم المادية ، نعمة معنوية يشير إليها بقوله : ( وَمَغْفِرة مِنْ رَبّهِم ).

--------------------
(1) الصافات : 45 ـ 47.

الأمثال في القرآن الكريم _250 _
   وبذلك تبيّن لنا وصف الجنة وحال المتقين فيها ، بقي الكلام في تبيين حال أهل الجحيم ومكانهم ، فأشار إليه بقوله :
  ( كمن هُوَ خالِدٌ في النّار ) هذا وصف أهل الجحيم ، وأمّا ما يرزقون فهو عبارة عن الماء الحميم لا يشربونه باختيارهم وإنّما يسقون ، ولذلك يقول سبحانه : ( وسقوا ماءً حميماً ) الذي يقطّع أمعاءهم كما قال : ( فقطّع أمعاءهم ) .
  وعلى كلّ تقدير ، فلو قلنا : إنّ الآية تهدف إلى تشبيه جنة الآخرة بجنة الدنيا التي فيها كذا وكذا فهو من قبيل التمثيل ، وإلاّ فالآية صيغت لبيان وصف جنة الآخرة وانّ فيها أنهاراً وثماراً ومغفرة ، والظاهر هو الثاني ، فالأولى عدم عدّ هذه الآية من الأمثال القرآنية وإنّما ذكرناها تبعاً للآخرين.

الأمثال في القرآن الكريم _251 _
الفتح 49
  التمثيل التاسع والأربعون
  ( هُوَ الّذي أرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدّينِ كُلّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهيداً * مُحَمّدٌ رَسُولُ الله وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ على الكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضواناً سيماهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِى الاِِنْجِيلِ كَزَرعٍ أَخْرَجَ شطأهُ فَآزره فَاسْتَغْلَظَ فَاستَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفّارَ وَعَدَ اللهُ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجراً عَظِيماً ). (1)
   تفسير الآيات
   ( السيماء ) : العلامة ، فقوله : ( سيماهم في وجوههم ) ، أي علامة إيمانهم في وجوههم.
  شطأ الزرع : فروخ الزرع ، وهو ما خرج منه ، وتفرع في شاطئيه أي في جانبيه وجمعه إشطاء ، وهو ما يعبر عنه بالبراعم.
   ( الأزر ) : القوة الشديدة ، آزره أي أعانه وقوّاه.
  ( الغلظة ) : ضد الرقة.

--------------------
(1) الفتح : 28 ـ 29.

الأمثال في القرآن الكريم _252 _
  ( السوق ) : قيل هو جمع ساق.
  القرآن يتكلم في هاتين الآيتين عن النبي تارة وأصحابه أخرى :
  أمّا الأوّل فيعرّفه بقوله : ( هُوَ الّذي أرسَلَ رَسُولهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدّينِ كُلّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهيداً ) والضمير ( ليظهره ) يرجع إلى دين الحقّ لا الرسول ، لأنّ الغاية ظهور دين على دين لا ظهور شخص على الدين ، والمراد من الظهور هو الغلبة في مجال البرهنة والانتشار ، وقد تحقّق بفضله سبحانه وسوف تزداد رقعة انتشاره فيضرب الإسلام بجرانه في أرجاء المعمورة ، ولا سيما عند قيام الإمام المهدي المنتظر ( عليه السلام ).
  يقول سبحانه في هذا الصدد : ( محمّد رسول الله ) أي الرسول الذي سوف يغلب دينه على الدين كله ، وقد صرح باسمه في هذه الآية ، إلاّ أنّه أجمل في الآية الأولى ، وقال : ( أرسل رسوله ).
  إلى هنا تمّ بيان صفات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسماته ، وأمّا صفات أصحابه فجاء ذكرهم في التوراة والإنجيل.
  أمّا التوراة فقد جاء فيها وصفهم كالتالي :
  1 ـ ( والّذين معه أشداء على الكفّار ) ، الذين لا يفهمون إلاّ منطق القوة ، فلذلك يكونون أشداء عليهم.
  2 ـ( رُحماء بَينهم ) فهم رحماء يعطف بعضهم على بعض ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. (1)

--------------------
(1) مسند أحمد بن حنبل : 4 / 270 و 268 و 274.

الأمثال في القرآن الكريم _253 _
  3 ـ ( تراهم ركّعاً سُجّداً ) ، هذا الوصف يجسّد ظاهر حالهم وانّهم منهمكون في العبادة ، فلذلك يقول : ( تراهم ركعاً سجداً ) ، أي تراهم في عبادة ، التي هي آية التسليم لله سبحانه.
  ومع ذلك لا يبتغون لعبادتهم أجراً وإنّما يأملون فضل الله ، كما يقول : ( يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ) ، ولعل القيد الأخير إشارة إلى أنّ الحافز لأعمالهم هوكسب رضاه سبحانه.
   ومن علائمهم الأخرى انّ أثر السجود في جباههم ، كما يقول : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) فسيماهم ووجوههم تلمح إلى كثرة عبادتهم وسجودهم وخضوعهم لله سبحانه ، وهذه الصفات مذكورة أيضاً في الاِنجيل.
  إنّ أصحاب محمد لم يزالوا يزيدون باطّراد في العدة والقوة وبذلك يغيظون الكفار ، فهم كزرع قوي وغلظ وقام على سوقه يعجب الزارعين بجودة رشده.
  ولم يزالوا في حركة دائبة ونشيطة ، فمن جانب يعبدون الله مخلصين له الدين بلا رياء ولا سمعة ، ومن جانب آخر يجاهدون في سبيل الله بغية نشر الإسلام ورفع راية التوحيد في أقطار العالم.
  فعملهم هذا يغيظ الكفار ويسرّ المؤمنين ، قال سبحانه : ( ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفّار ) .
  فالمجتمع الاِسلامي بإيمانه وعمله وجهاده وحركته الدؤوبة نحو التكامل يثير إعجاب الأخلاّء وغيظ الألدّاء.
  ثمّ إنّه سبحانه وعد طائفة خاصة من أصحاب محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مغفرة وأجراً