من ستر عليه أبو عبيد :
  قول أبي عبيد صريح في أن اعتقاد التحريف بعد زمن الصحابة والتابعين كان موجودا بين أهل السنة ، فحتى في زمن الإمام أبي عبيد المتوفى سنة 210 ه‍ كان منهم من يقول بوقوع التحريف في القرآن :
  ( وقال أبو عبيد : لم يزل صنيع عثمان رضي الله عنه في جمعه القرآن يعتد له بأنه من مناقبه العظام ، وقد طعن عليه فيه بعض أهل الزيغ فانكشف عوراه ووضحت فضائحه ) (1) .
  ولا يقال إن العالم السابق وأتباعه الذين ظهروا في زمن ابن الأنباري هم الذين عناهم أبو عبيد لأن ابن الأنباري توفي عن سبع وخمسين سنة عام 328 ه‍ ، وأبو عبيد توفي سنة 210 ه‍ فلم ير ابن الأنباري أبا عبيد وما أدرك زمانه ، فمن تكلم عنهم أبو عبيد أسبق زمنا من ذاك العالم الذي تحدث عنه ابن الأنباري .

--------------------
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج1ص84.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 702 _
بعض من ستر عليهم القرطبي :
  الحق أن كثيرا من هذه الإشارات موجودة في كتب أهل السنة ولكنهم عرفوا كيف يتسترون على مثل هؤلاء الأعلام فأخفوا أسماءهم ونكروهم ، فهاهو القرطبي يحكي لنا عن بعض أعيانـهم أنه ادعى أن في القرآن غلطاً وتحريفًا حصل من كتّاب المصحف : ( وقال بعض من تعسف في كلامه : إن هذا غلط من الكـتّاب حين كتبوا مصحف الإمام ، قال : والدليل على ذلك ما روي عن عثمان أنه نظر في المصحف ، فقال : أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها ، وهكذا قال : في سورة النساء (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ) وفي سورة المائدة (وَالصَّابِئُونَ) ) (1) .
  وذكر القرطبي في موضع آخر ما ادعاه عالم آخر من علمائهم حيث أنكر قرآنية المعوذتين ، وقد احتج له بأن من روى قرآنية المعوذتين هو عقبة بن عامر وهو ضعيف ، قال القرطبي :
  ( فحذار من الوقوع في أحد منهم ، كما فعل من طعن في الدين ، فقال : إن المعوذتين ليستا من القرآن ، وما صح حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تثبيتهما ودخولهما في جملة التنـزيل إلا عن عقبة بن عامر ، وعقبة بن عامر ضعيف لم يوافقه غيره عليها فروايته مطرحة ) (2) .
  وهذا السني المطلع على علم الرجال وطرق الرواية هو واحد ممن تغلب على لـهيب التنكيل وسياط التبديع وعبر عما بداخله مع كل هذه الضغوط ، فما بالك بمن سكت وأضمر خوفا من تلك المواجهة ؟! .
  وكما قلنا سابقا إن أهل السنة عرفوا كيف يتسترون على علمائهم الذين قالوا بتحريف القرآن فتعمدوا عدم ذكر أسمائهم ، ولا نقول إلا اللهم استر ولا تنشر !
  هذا مع العلم أن الكتب القديمة لم تصل إلينا وكثير من مصنفات أهل السنة بادت وضاعت ، وعليه فالقول إن أحدا من أهل السنة لم يؤلف ما يثبت فيه تحريف القرآن رمي للكلام على عواهنه ورجم بالغيب لا برهان لـهم به .

--------------------
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج2ص240.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج16ص298.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 703 _
ملاحظة ‍‍!
  السمة البارزة فيمن قال بتحريف القرآن من أهل السنة كونـهم قريبي العهد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بالأحرى من الحوادث التي طرأت على القرآن ، كالصحابة والتابعين وعلماء السلف من أهل السنة الذين عايشوا أحداث جمع القرآن وتحريق المصاحف وادعاءات عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك وغيرهم ، وما اعترض به على جمع القرآن والصيحات المنهالة على عثمان والمستنكرة لما آلت إليه عدد آيات السور القرآنية بعد جمع عثمان للمصاحف من ابن مسعود تارة ومن عائشة تارة أخرى ، وأمورا أخرى كثيرة كانت بمجموعها أرضية خصبة تجعل إدعاء وقوع التحريف في القرآن من أي شخص آنذاك أمرا ليس بالغريب ولا بالمستهجن لما في تلك الأوضاع والحوادث من قابلية لمثل هذه الأقوال ، فلم تكن في تلك الأزمنة هذه الحساسية الشدبدة الموجودة بيننا والتي نواجه بـها اليوم من يدعي تحريف القرآن .
  وعليه فلا يلتفت لاستغراب بعض العوام حينما ينقل له قول عالم أو صحابي أو تابعي في نقص القرآن لأن هذا الاستغراب إنما هو نتاج الحالة التي نحن فيها من الأخذ المسلّم للمصحف وعدم المقتضي لإثارة مسألة وقوع التحريف في كتاب الله عز وجل بأيدي الجامعين له سهوا أو عمدا ، ناهيك عن الانعزال التام عن الظروف التي كانت تحيط بالقضية في زمن هذا الصحابي أو التابعي ، فنعلم أن الحكم بكفر من أنكر سورة من القرآن أو آية واحدة أو حتى حرفا واحدا أمر مستحدث لم يكن موجودا بين الصحابة ، وهذا هو سبب عدم وجود راوية واحدة عن أي صحابي يكفر فيها من أنكر نص القرآن ، وكيف لا ؟! ومنهم من جاهر بوقوع التحريف في القرآن كعمر وعائشة وابن عباس وابن مسعود ؟! ، بل أن ابن مسعود نفسه قد وقع أمامه تكذيب رجل لكتاب الله عز وجل فما كفره ولا حكم بارتداده ، وإنما أقام عليه الحد لأنه شرب المسكر ولم يقل له : يا كافر ، لم كذبت القرآن ؟! ، قال في نيل الأوطار :
  ( وعن علقمة قال : كنت بحمص فقرأ ابن مسعود سورة يوسف فقال رجل : ما هكذا أنزلت ؟! فقال عبد الله : والله لقرأتـها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : أحسنت ، فبينما هو يكلمه إذ وجد منه ريح الخمر ، فقال : أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب ؟! فضربه الحد ، متفق عليه ) (1) .
  فلو أن حكم الكفر والارتداد لمن أنكر حرفا من القرآن كان واضحا ومعلوما عند الصحابة لما تركه ابن مسعود دون أن يحكم بارتداده وكفره ، فما بالك بمن لم ينكر القرآن الثابت وإنما أنكر كون

--------------------
(1) نيل الأوطار ج7ص327، مصنف عبد الرزاق ج9ص231ح17041، المعجم الكبير ج9ص344ح9712ح9713.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 704 _
  المصحف المجموع قد حوى كل آيات القرآن فهذا لا يحكم الصحابة بكفره بالأولوية ، مع العلم أن وجوه الصحابة قد قالوا وجاهروا به أيضا كما مر أيضا ، وعليه يتضح أن إطلاق الكفر على كل من أنكر حرفا من القرآن لم يكن موجودا بين الصحابة فضلا عمن أنكر شمول المصحف لكل القرآن .
الخلاصة
  هذه جموع سلفهم الصالح من الصحابة بل من أكابر الصحابة ومن التابعين بل من أكابر التابعين وبعض من علماء أهل السنة قد جاهروا بوقوع التحريف في القرآن الكريم ونقلناها من كتب أهل السنة أنفسهم ، وسيأتي في المبحث التالي إن شاء الله تعالى شهادات واعترافات من علماء أهل السنة المتأخرين على أن هؤلاء المتقدمين بأسمائهم وأعيانـهم قد قالوا بتحريف القرآن ودانوا به .
  ومع كل هذا يأتينا بعض صبيان الوهابية ك‍ ( عثمان الخميس ) ليقولوا : نريد أي عالم بل شبه عالم من أهل السنة يقول بالتحريف ، ويطلقون القول تغريرا بعوامهم وضحكا على عقولهم ، فيقولون : إن من قال بالتحريف كافر مرتد عن ملة الإسلام كائنا من كان ! .
  وهؤلاء أعلام أهل السنة وكلماتـهم أمامنا فإن كانوا صادقين ليكفروهم ، ولن نتبع أساليبهم الملتوية وغير العلمية ، بل نطالبهم بتكفير كل من صحت له النسبة وصح الإسناد إليه ، بل نتنازل ولا نطالبهم إلا بتكفير البعض منهم كابن مسعود وعائشة وابن عباس وابن عمر ومجاهد وسفيان الثوري وابن أبي مليكة وأبي عمرو بن العلاء ، بل نتنازل أكثر وأكثر ونريد منهم تكفير من سيعترف ابن تيمية وابن الجوزي والقرطبي والطبري وابن قتيبة وابن كثير وابن حجر العسقلاني والقسطلاني وغيرهم بأنـه قال بتحريف القرآن كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، بل نتنازل ونتنازل ونقبل منهم تكفير واحد من هؤلاء ، فهل يفعلون ؟! ، (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ) (الصف/3) .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 705 _
اعترافات علماء أهل السنة بأن من أكابر الصحابة والتابعين من كان يدين لله بتحريف القرآن
  كلمات هؤلاء الأعلام ليست كل ما في الباب ، وإنما هي ما يسره الله عز وجل لي من المصادر في المكتبات العامة ، ولعل الله يتم البحث على يد علماء أفاضل (1) .

--------------------
(1) لا بأس بالتنبيه هنا إلى أن كاتب هذه الأوراق ليس من علماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، وقد طرقت هذا المجال لأن علماءنا حفظهم الله تعالى استحقروا السخافات التي يفتريها الوهابية وينسبونـها لمذهب أهل البيت عليهم السلام فآثروا الترفع وعدم الخوض في سخافاتـهم ـ وهذا من حقهم ـ فكان من اللازم علي في هذه الأوراق أن أثبت للوهابية عمليا أن أحد عوام الشيعة ومن هو في أوائل العقد الثاني من عمره قادر على الرد عليهم وكشف كذبـهم ، وعلى أي حال فكل ما يوجد في هذه الأوراق مما لا ينطبق مع الموازين العلمية ينسب لشخص الكاتب لا أكثر من ذلك ، وهذه الأخطاء لا تضر شيئا لأن بيت القصيد هو هذا المبحث المطروح هنا ، إذ أن إثبات قول بعض الصحابة والتابعين بتحريف القرآن بكلمات علماء أهل السنة ينهي القضية .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 706 _
اعترافات علماء أهل السنة :
( الحافظ شيخ الحرم ابن جريج المكي )
  الحافظ ابن جريج (1) يقول إن من الصحابة من كان يرى القنوت سورتين كغيرهما من سور القرآن :
  ( أخرج البيهقي أن عمر بن الخطاب قنت بعد الركوع فقال : ( بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك … ) قال ابن جريج : حكمة البسملة أنـهما سورتان في مصحف بعض الصحابة ) (2) .

--------------------
(1) سير أعلام النبلاء للذهبي ج6ص352ح138 : ( الإمام ، العلامة ، الحافظ ، شيخ الحرم ، أبو خالد ، وأبو الوليد القرشي الأموي ، المكي ، صاحب التصانيف ، وأول من دون العلم بمكة ، قال عبد الله بن أحمد : قلت لأبي : من أول من صنف الكتب ؟ قال : ابن جريج ، وابن أبي عروبة .
  وروى علي بن المديني ، عن عبد الوهاب بن همام ، عن ابن جريج قال : أتيت عطاء وأنا أريد هذا الشأن ، وعنده عبد الله بن عبيد بن عمير ، فقال لي ابن عمير : قرأت القرآن ؟ قلت : لا ، قال : فاذهب فاقرأه ثم اطلب العلم ، فذهبت ، فغبت زمانا حتى قرأت القرآن ، ثم جئت عطاء ، وعنده عبد الله ، فقال : قرأت الفريضة ؟ قلت : لا ، قال : فتعلم الفريضة ، ثم اطلب العلم ، قال : فطلبت الفريضة ، ثم جئت ، فقال : الآن فاطلب العلم ، فلزمت عطاء سبع عشرة سنة ، قلت –الذهبي- : من يلزم عطاء هذا كله ، يغلب على الظن أنه قد رأى أبا الطفيل الكناني بمكة ، لكن لم نسمع بذلك ، ولا رأينا له حرفا عن صحابي .
  وروى عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : اختلفت إلى عطاء ثماني عشرة سنة ، وكان يبيت في المسجد عشرين سنة ، قال ابن عيينة : سمعت ابن جريح يقول : ما دون العلم تدويني أحد ، وقال : جالست عمرو بن دينار بعد ما فرغت من عطاء تسع سنين .
  وروى حمزة بن بـهرام ، عن طلحة بن عمرو المكي ، قال : قلت لعطاء : من نسأل بعدك يا أبا محمد ؟ قال : هذا الفتى إن عاش يعني ابن جريج ، وروى إسماعيل بن عياش ، عن المثنى بن الصباح وغيره ، عن عطاء بن أبي رباح قال : سيد شباب أهل الحجاز ابن جريج ، وسيد شباب أهل الشام سليمان بن موسى ، وسيد شباب أهل العراق حجاج بن أرطاة ، قال علي بن المديني : نظرت فإذا الإسناد يدور على ستة ، فذكرهم ، ثم قال : صار علمهم إلى أصحاب الأصناف ، ممن صنف العلم منهم من أهل مكة ابن جريج يكنى أبا الوليد ، لقي ابن شهاب ، وعمرو بن دينار ، يريد من الستة المذكورين .
  قال الوليد بن مسلم : سألت الأوزاعي ، وسعيد بن عبد العزيز ، وابن جريج : لمن طلبتم العلم ؟ كلهم يقول : لنفسي : غير أن ابن جريج فإنه قال : طلبته للناس ، قلت : ما أحسن الصدق ! واليوم تسأل الفقيه الغبي : لمن طلبت العلم ؟ فيبادر ويقول : طلبته لله ، ويكذب إنما طلبه للدنيا ، ويا قلة ما عرف منه ، قال علي : سألت يحيى بن سعيد : من أثبت من أصحاب نافع ؟ قال : أيوب ، وعبيد الله ، ومالك ، وابن جريج أثبت من مالك في نافع .
  وروى صالح بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، قال : عمرو بن دينار ، وابن جريج أثبت الناس في عطاء ، وروى أبو بكر بن خلاد ، عن يحيى بن سعيد قال : كنا نسمي كتب ابن جريج كتب الأمانة ، وإن لم يحدثك ابن جريج من كتابه لم تنتفع به .
  وروى الأثرم ، عن أحمد بن حنبل قال : إذا قال ابن جريج : قال فلان وقال فلان ، وأخبرت ، جاء بمناكير ، وإذا قال : أخبرني ، وسمعت فحسبك به .
  وروى الميموني عن أحمد إذا قال ابن جريج : ( قال ) فاحذره ، وإذا قال : ( سمعت أو سألت ) ، جاء بشيء ليس في النفس منه شئ ، كان من أوعية العلم ، قال عبد الرزاق : قدم أبو جعفر يعني الخليفة مكة ، فقال : اعرضوا علي حديث ابن جريج ، فعرضوا فقال : ما أحسنها لولا هذا الحشو يعني قوله : (بلغني) ، و (حدثت) ، قال أحمد بن سعد بن أبي مريم ، عن يحيى بن معين : ابن جريج ثقة في كل ما روي عنه من الكتاب .
  وقال أبو زرعة الدمشقي ، عن أحمد بن حنبل قال : روى ابن جريج عن ست عجائز من عجائز المسجد الحرام ، وكان صاحب علم ، وقال جعفر ابن عبد الواحد ، عن يحيى بن سعيد قال : كان ابن جريج صدوقا ، فإذا قال : حدثني فهو سماع ، وإذا قال : أنبأنا أو أخبرني ، فهو قراءة ، وإذا قال : (قال) ، فهو شبه الريح ، وقال عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان : أعياني ابن جريج أن أحفظ حديثه ، فنظرت إلى شئ يجمع فيه المعنى ، فحفظته ، وتركت ما سوى ذلك ، قال سليمان بن النضر الشيرازي ، عن مخلد بن الحسين قال : ما رأيت خلقا من خلق الله أصدق لـهجة من ابن جريج .
  وروى أحمد بن حنبل ، عن عبد الرزاق قال : ما رأيت أحدا أحسن صلاة من ابن جريج ، حدثنا عبد الرزاق قال : أهل مكة يقولون : أخذ ابن جريج الصلاة من عطاء ، وأخذها عطاء من ابن الزبير ، وأخذها ابن الزبير من أبي بكر ، وأخذها أبو بكر من النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ، قلت : وكان ابن جريج يروي الرواية بالإجازة ، وبالمناولة ويتوسع في ذلك ، ومن ثم دخل عليه الداخل في رواياته عن الزهري ، لأنه حمل عنه مناولة ، وهذه الأشياء يدخلها التصحيف ، ولا سيما في ذلك العصر لم يكن حدث في الخط بعد شكل ولا نقط ، قال أبو غسان زنيج : سمعت جريرا الضبي يقول : كان ابن جريج يرى المتعة ، تزوج بستين امرأة ، وقيل : إنه عهد إلى أولاده في أسمائهن لئلا يغلط أحد منهم ويتزوج واحدة مما نكح أبوه بالمتعة ، قال عبد الوهاب بن همام ، قال ابن جريج : كنت أتتبع الأشعار العربية والأنساب ، فقيل لي : لو لزمت عطاء ، فلزمته .
  وقال يحيى القطان : لم يكن ابن جريج عندي بدون مالك في نافع ، وقال علي بن عبد الله : لم يكن في الارض أحد أعلم بعطاء من ابن جريج ، قال عبيد الله العيشي ، حدثنا بكر بن كلثوم السلمي قال : قدم علينا ابن جريج البصرة ، فاجتمع الناس عليه فحدث عن الحسن البصري بحديث ، فأنكره عليه الناس ، فقال : ما تنكرون علي فيه ؟ قد لزمت عطاء عشرين سنة فربما حدثني عنه الرجل بالشيء لم أسمعه منه ، ثم قال العيشي : سمى ابن جريج في ذلك اليوم محمد بن جعفر غندرا ، وأهل الحجاز يسمون المشغب غندرا .
  قال ابن معين : لم يلق ابن جريج وهب بن منبه ، وقال أحمد بن حنبل : لم يلق عمرو بن شعيب في زكاة مال اليتيم ، ولا أبا الزناد ، قلت ـ الذهبي ـ : الرجل في نفسه ثقة ، حافظ ، لكنه يدلس بلفظة (عن) و (قال) قد كان صاحب تعبد وتـهجد وما زال يطلب العلم حتى كبر وشاخ ، وقد أخطأ من زعم أنه جاوز المئة ، بل ما جاوز الثمانين ، وقد كان شابا في أيام ملازمته لعطاء .
  وقد كان شيخ الحرم بعد الصحابة : عطاء ، ومجاهد ، وخلفهما : قيس بن سعد ، وابن جريج ، ثم تفرد بالإمامة ابن جريج ، فدون العلم ، وحمل عنه الناس ، وعليه تفقه مسلم بن خالد الزنجي ، وتفقه بالزنجي الإمام أ بو عبد الله الشافعي ، وكان الشافعي بصيرا بعلم ابن جريج ، عالما بدقائقه ، وبعلم سفيان بن عينة .
  وروايات ابن جريج وافرة في الكتب الستة ، وفي مسند أحمد ، ومعجم الطبراني الأكبر ، وفي الإجزاء ، قال عبد الرزاق : كنت إذا رأيت ابن جريج ، علمت أنه يخشى الله ، قال أبو عاصم النبيل : كان ابن جريج من العباد ، كان يصوم الدهر سوى ثلاثة أيام من الشهر ، وكان له امرأة عابدة ، قال محمد بن عبد الله بن الحكم ، سمعت الشافعي يقول : استمتع ابن جريج بتسعين امرأة ، حتى إنه كان يـحتقن في الليل بأوقية شيرج طلبا للجماع ، وروي عن عبد الرزاق قال : كان ابن جريج يخضب بالسواد ، ويتغلّى بالغالية ، وكان من ملوك القراء ، خرجنا معه وأتاه سائل ، فناوله دينارا .
  وبه قال أبو إسحاق ، قال ابن جريج : ما دون هذا العلم تدويني أحد جالست عمرو بن دينار بعد ما فرغت من عطاء سبع سنين ، وقال : لم يغلبني على يسار عطاء عشرين سنة أحد ، فقيل له : فما منعك عن يمينه ؟ قال : كانت قريش تغلبني عليه ، قتل : قد قدم عبد الملك بن جريج إلى العراق قبل موته ، وحدث بالبصرة وأكثروا عنه ).
(2) الإتقان في علوم القرآن ج1ص65 ط الحلبي الثالثة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 707 _
( إمام أئمة الحديث سفيان الثوري )
  اعترف إمامهم سفيان الثوري – مرت ترجمته - في تفسيره أن ابن عباس كان يرى وقوع التحريف في هذه الآية الكريمة (لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا ) (النور/27)، حيث قال الثوري : ( قال ابن عباس : أخطأ الكاتب ( حتى تستأذنوا ) ) (1) .
  وذكر ابن جرير الطبري اعتراف الثوري في تفسيره : ( قال سفيان : وبلغني أن ابن عباس كان يـقرؤها ( حتى تستأذنوا وتسلموا ) ، وقال : إنـها خطأ من الكاتب ) (2) ، وهذا اعتراف صريح من الثوري بأن حبر الأمة ابن عباس كان يرى وقوع التحريف في القرآن .

--------------------
(1) تفسير سفيان الثوري ص183 ط الهند سنة 1965م.
(2) تفسير الطبري ج18ص10 ط دار المعرفة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 708 _
( حافظ العصر سفيـان بن عييـنة )
  سفيان بن عيينة أشهر من النار على المنار والشمس في رائعة النهار ولا شك أن قوله مستند قوي وشهادة لا تـهمل بحال ، على جلالة قدره وسمو مقامه ورفعة منـزلته عندهم (1) ، وقد اعترف سفيان بن عيينة أن ابن مسعود أنكر قرآنية المعوذتين : ( ليستا في مصحف ابن مسعود ، كان يرى رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم يعوّذ بـهما الحسن والحسين ولم يسمعه يقرأ بـهما في شيء من صلاته ، فظن أنـهما معوذتان فأصر على ظنه وتحقق الباقون كونـهما من القرآن فأودعوهما ) (2) .

--------------------
(1) سير أعلام النبلاء ج8 ص454ت120 ( سفيان بن عيينة ، الإمام الكبير ، حافظ العصر ، شيخ الإسلام ، طلب الحديث وهو حدث بل غلام ، ولقي الكبار وحمل عنهم علما جما ، وأتقن ، وجود ، وجمع ، وصنف ، وعمر دهرا ، وازدحم الخلق عليه ، وانتهى إليه علو الإسناد ، ورحل إليه من البلاد ، وألحق الأحفاد بالأجداد ، ولقد كان خلق من طلبة الحديث يتكلفون الحج ، وما المحرك لهم سوى لقي سفيان بن عيينة لإمامته وعلو إسناده ، وجاور عنده غير واحد من الحفاظ ، ومن كبار أصحابه المكثرين عنه : الحميدي ، والشافعي ، وابن المديني ، وأحمد ، وإبراهيم الرمادي .
  قال الإمام الشافعي : لولا مالك وسفيان بن عيينة لذهب علم الحجاز ، وعنه قال : وجدت أحاديث الأحكام كلها عند ابن عيينة سوى ستة أحاديث ووجدتـها كلها عند مالك سوى ثلاثين حديثا ، فهذا يوضح لك سعة دائرة سفيان في العلم ، وذلك لأنه ضم أحاديث العراقيين إلى أحاديث الحجازيين ، وارتحل ولقي خلقا كثيرا ما لقيهم مالك ، وهما نظيران في الإتقان ، ولكن مالكا أجل وأعلى ، فعنده نافع ، وسعيد المقبري ، قال عبد الرحمن بن مهدي : كان ابن عيينة من أعلم الناس بحديث الحجاز .
  وقال أبو عيسى الترمذي : سمعت محمدا يعني البخاري يقول : ابن عيينة أحفظ من حماد بن زيد ، قال حرملة : سمعت الشافعي يقول : ما رأيت أحدا فيه من آلة العلم ما في سفيان بن عيينة ، وما رأيت أكف عن الفتيا منه ، قال : وما رأيت أحدا أحسن تفسيرا للحديث منه ، قال عبد الله بن وهب : لا أعلم أحدا أعلم بتفسير القرآن من ابن عيينة ، وقال : أحمد بن حنبل أعلم بالسنن من سفيان ، قال وكيع : كتبنا عن ابن عيينة أيام الأعمش ، قال علي بن المديني : ما في أصحاب الزهري أحد أتقن من سفيان بن عيينة ، قال ابن عيينة : حج بي أبي وعطاء بن أبي رباح حي ، وقال أحمد بن عبد الله العجلي : كان ابن عيينة ثبتا في الحديث ، وكان حديثه نحوا من سبعة آلاف ، ولم تكن له كتب ، قال بهز بن أسد : ما رأيت مثل سفيان بن عيينة ، فقيل له : ولا شعبة ؟ قال : ولا شعبة ، قال يحيى بن معين : هو أثبت الناس في عمرو بن دينار ، وقال ابن مهدي : عند ابن عيينة من معرفته بالقرآن وتفسير الحديث ، ما لم يكن عند سفيان الثوري .
  أخبرنا أبو يعلى الخليلي ، سمعت البويطي ، سمعت الشافعي يقول : أصول الأحكام نيف وخمس مئة حديث ، كلها عند مالك إلا ثلاثين حديثا ، وكلها عند ابن عيينة إلا ستة أحاديث ، رواته ثقات ، سمعت أحمد بن النضر الهلالي ، سمعت أبي يقول : كنت في مجلس سفيان بن عيينة ، فنظر إلى صبي ، فكأن أهل المسجد تـهاونوا به لصغره ، فقال سفيان : كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم ، ثم قال : يا نضر لو رأيتني ولي عشر سنين ، طولي خمسة أشبار ، ووجهي كالدينار ، وأنا كشعلة نار ، ثيابي صغار ، وأكمامي قصار ، وذيلي بمقدار ، ونعلي كآذان الفار ، أختلف إلى علماء الأمصار ، كالزهري وعمرو بن دينار ، أجلس بينهم كالمسمار ، محبرتي كالجوزة ، ومقلمتي كالموزة ، وقلمي كاللوزة ، فإذا أتيت ، قالوا : أوسعوا للشيخ الصغير ، ثم ضحك ، في صحة هذا نظر ، وإنما سمع من المذكورين وهو ابن خمس عشرة سنة أو أكثر .
  قال أحمد بن حنبل : دخل سفيان بن عيينة على معن بن زائدة يعني أمير اليمن ولم بكن سفيان تلطخ بعد بشيء من أمر السلطان ، فجعل يعظه ، قال علي بن حرب الطائي : سمعت أبي يقول : أحب أن تكون لي جارية في غنج سفيان بن عيينة إذا حدث ، قال رباح خالد الكوفي : سألت ابن عيينة فقلت : يا أبا محمد ، إن أبا معاوية يحدث عنك بشيء ليس تحفظه اليوم ، وكذلك وكيع ، فقال : صدقهم ، فإني كنت قبل اليوم أحفظ مني اليوم ، قال محمد بن المثنى العنزي : سمعت ابن عيينة يقول ذلك لرباح في سنة إحدى وتسعين ومئة ، قال حامد بن يحيى البلخي : سمعت ابن عيينة يقول : رأيت كأن أسناني سقطت ، فذكرت ذلك للزهري ، فقال : تموت أسنانك ، وتبقي أنت ، قال : فمات أسناني وبقيت أنا ، فجعل الله كل عدو لي محدثا ، قلت : قال هذا من شدة ما كان يلقى من ازدحام أصحاب الحديث عليه حتى يبرموه ، قال غياث بن جعفر : سمعت ابن عيينة يقول : أول من أسندني إلى الاسطوانة مسعر بن كدام ، فقلت له : إني حدث ، قال : إن عندك الزهري ، وعمرو بن دينار .
  قال أبو محمد الرامهرمزي : حدثنا موسى بن زكريا ، حدثنا زياد ابن عبد الله بن خزاعي ، سمعت سفيان بن عيينة يقول : كان أبي صيرفيا بالكوفة ، فركبه دين فحملنا إلى مكة ، فصرت إلى المسجد ، فإذا عمرو بن دينار ، فحدثني بثمانية أحاديث ، فأمسكت له حماره حتى صلى ، وخرج ، فعرضت الأحاديث عليه ، فقال : بارك الله فيك .
  وروى أبو مسلم المستملي : قال ابن عيينة : سمعت من عمرو ما لبث نوح في قومه ، يعني تسع مئة وخمسين سنة ، قال مجاهد بن موسى : سمعت ابن عيينة يقول : ما كتبت شيئا إلا حفظته قبل أن أكتبه ، قال ابن المبارك : سئل سفيان الثوري عن سفيان بن عيينة ، فقال : ذاك أحد الأحدين ، ما أغربه ، وقال ابن المديني : قال لي يحيى القطان ، ما بقي من معلمي أحد غير سفيان بن عيينة ، وهو إمام منذ أربعين سنة ، وقال علي : سمعت بشر بن المفضل يقول : ما بقي على وجه الأرض أحد يشبه ابن عيينة ، وحكى حرملة بن يحيى أن ابن عيينة قال له وأراه خبز شعير : هذا طعامي منذ ستين سنة ، الحميدي ، سمع سفيان يقول : لا تدخل هذه المحابر بيت رجل إلا أشقى أهله وولده ، وقال سفيان مرة لرجل : ما حرفتك ؟ قال : طلب الحديث ، قال : بشر أهلك بالإفلاس .
  وروى علي بن الجعد عن ابن عيينة قال : من زيد في عقله ، نقص من رزقه ، ونقل سنيد بن داود عن ابن عيينة قال : من كانت معصيته في الشهوة فارج له ، ومن كانت معصيته في الكبر فاخش عليه ، فإن آدم عصى مشتهيا فغفر له ، وإبليس عصى متكبرا فلعن ، ومن كلام ابن عيينة قال : الزهد : الصبر ، وارتقاب الموت ، وقال : العلم إذا لم ينفعك ، ضرك ، قال عثمان بن زائدة : قلت لسفيان الثوري : ممن نسمع ؟ قال : عليك بابن عيينة ، وزائدة ، قال نعيم بن حماد : ما رأيت أحدا أجمع لمتفرق من سفيان بن عيينة .
  وقال علي بن نصر الجهضمي : حدثنا شعبة بن الحجاج قال : رأيت ابن عيينة غلاما ، مع ألواح طويلة عند عمرو بن دينار ، وفي أذنه قرط ، أو قال : شنف، وقال ابن المديني : سمعت ابن عيينة يقول : جالست عبد الكريم الجزري سنتين ، وكان يقول لأهل بلده : انظروا إلى هذا الغلام يسألني وأنتم لا تسألوني ، قال ذؤيب بن عمامة السهمي : سمعت ابن عيينة يقول : سمعت من صالح مولى التوأمة هكذا وهكذا ، وأشار بيديه يعني كثرة سمعت منه ، ولعابه يسيل ، فقال عبد الرحمن بن أبي حاتم : فلا نعلمه روى عنه شيئا ، كان منتقدا للرواة ، قال علي : سمعت سفيان يقول : عمرو بن دينار أكبر من الزهري ، سمع من جابر ، وما سمع الزهري منه .
  قال أحمد بن سلمة النيسابوري : حدثنا سليمان بن مطر ، قال : كنا على باب سفيان بن عيينة ، فاستأذنا عليه ، فلم يأذن لنا ، فقلنا : ادخلوا حتى نـهجم عليه ، قال : فكسرنا بابه ، ودخلنا وهو جالس ، فنظر إلينا ، فقال : سبحان الله ، دخلتم داري بغير إذني ، وقد حدثنا الزهري عن سهل ابن سعد أن رجلا اطلع في جحر ، من باب النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم ، ومع النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم مدري يحك به رأسه ، فقال : لو علمت أنك تنظرني ، لطعنت بـها في عينك ، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر ، قال : فقلنا له : ندمنا يا أبا محمد ، فقال : ندمتم ؟
  حدثنا عبد الكريم الجزري عن زياد ، عن عبد الله بن معقل ، عن عبد الله بن مسعود ، أن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم قال : الندم توبة ، اخرجوا فقد أخدتم رأس مال ابن عيينة ، قال محمد بن يوسف الفريابي : كنت أمشي مع ابن عيينة ، فقال لي : يا محمد ، ما يزهدني فيك إلا طلب الحديث ، قلت : فأنت يا أبا محمد ، أي شئ كنت تعمل إلا طلب الحديث ؟ فقال : كنت إذ ذاك صبيا لا أعقل ، قلت : إذا ـ كان ـ مثل هذا الإمام يقول هذه المقالة في زمن بات من اطلع في بيت قوم فقؤوا عينه ، التابعين أو بعدهم بيسير ، وطلب الحديث مضبوط بالاتفاق ، والأخذ عن الأثبات الأئمة ، فكيف لو رأى سفيان رحمه الله طلبة الحديث في وقتنا ، وما هم عليه من الهنات والتخبيط ، والأخذ عن جهلة بني آدم ، وتسميع ابن شهر .
أما الخيام فإنـها كخيامهم * وأرى نساء الحي غير نسائها .
الى هنا   قال عبد الرحمن بن يونس : حدثنا ابن عيينة قال : أول من جالست عبد الكريم أبا أمية وأنا ابن خمس عشرة سنة ، قال : وقرأت القرآن وأنا ابن أربع عشرة سنة ، قال يحيى بن آدم : ما رأيت أحدا يختبر الحديث إلا ويخطئ ، إلا سفيان بن عيينة ، حدثنا سفيان قال : قال حماد بن أبي سليمان ، ولم أسمعه منه ، إذا قال لامرأته : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، بانت بالأولى ، وبطلت الاثنتان ، قال سفيان : رأيت حمادا قد جاء إلى طبيب على فرس .
  قال أبو حاتم الرازي : سفيان بن عيينة إمام ثقة ، كان أعلم بحديث عمرو بن دينار من شعبة ، قال : وأثبت أصحاب الزهري ، هو ومالك ، وقال عبدالرزاق : ما رأيت بعد ابن جريج مثل ابن عيينة في حسن المنطق .
  وروى إسحاق الكوسج عن يحيى : ثقة ، وعن ابن عيينة قال : الورع طلب العلم الذي به يعرف الورع ، روى سليمان بن أيوب ، سمعت سفيان بن عيينة يقول : شهدت ثمانين موقفا .
  ويروى أن سفيان كان يقول في كل موقف : اللهم لا تجعله آخر العهد منك ، فلما كان العام الذي مات فيه لم يقل شيئا ، وقال : قد استحييت من الله تعالى ، وقد كان سفيان مشهورا بالتدليس ، عمد إلى أحاديث رفعت إليه من حديث الزهري ، فيحذف اسم من حدثه ، ويدلسها ، إلا أنه لا يدلس إلا عن ثقة عنده ، فأما ما بلغنا عن يحيى بن سعيد القطان ، أنه قال : اشهدوا أن ابن عيينة اختلط سنة سبع وتسعين ومئة ، فهذا منكر من القول ولا يصح ولا هو بمستقيم فإن يحيى القطان مات في صفر من سنة ثمان وتسعين مع قدوم الوفد من الحج ، فمن الذي أخبره باختلاط سفيان ، ومتى لحق أن يقول هذا القول وقد بلغت التراقي ؟ وسفيان حجة مطلقا ، وحديثه في جميع دواوين الإسلام ، ووقع لي كثير من عواليه ، بل وعند عبد الرحمن سبط الحافظ السلفي من عواليه جملة صالحة ، وكان سفيان رحمه الله صاحب سنة واتباع .
  حدثنا محمد بن منصور الجواز ، قال : رأيت سفيان بن عيينة سأله رجل : ما تقول في القرآن ؟ قال : كلام الله ، منه خرج ، وإليه يعود ، وقال محمد بن إسحاق الصاغاني : حدثنا لوين ، قال : قيل لابن عيينة : هذه الأحاديث التي تروى في الرؤية ؟ قال : حق على ما سمعناها ممن نثق به ونرضاه .
  حدثني أحمد بن نصر قال : سألت ابن عيينة وجعلت ألح عليه ، فقال : دعني أتنفس ، فقلت : كيف حديث عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم : إن الله يحمل السماوات على إصبع ، وحديث : إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن ، وحديث : إن الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق ، فقال سفيان : هي كما جاءت نقر بـها ونحدث بـها بلا كيف .
  حدثني عبيد بن جناد ، سمعت ابن عيينة ، وسألوه أن يحدث ، فقال : ما أراكم للحديث موضعا ، ولا أراني أن يؤخذ عني أهلا ، وما مثلي ومثلكم إلا ما قال الأول : افتضحوا فاصطلحوا ، قال إبراهيم بن الأشعث : سمعت ابن عيينة يقول : من عمل بما يعلم ، كفي ما لم يعلم ، وعن سفيان بن عيينة قال : من رأى أنه خير من غيره فقد استكبر ، ثم ذكر إبليس ، وقال أحمد بن أبي الحواري : قلت لسفيان بن عيينة : ما الزهد في الدنيا ؟ قال : إذا أنعم عليه فشكر ، وإذا ابتلي ببلية فصبر ، فذلك الزهد ، قال علي ابن المديني : كان سفيان إذا سئل عن شئ يقول : لا أحسن ، فنقول : من نسأل ؟ فيقول : سل العلماء ، وسل الله التوفيق ، قال إبراهيم بن سعيد الجوهري : سمعت ابن عيينة يقول : الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص .
  الطبراني : حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا الحميدي : قيل لسفيان ابن عيينة : إن بشرا المريسي يقول : إن الله لا يرى يوم القيامة ، فقال : قاتل الله الدويبة ، ألم تسمع إلى قوله تعالى : ( كلا إنـهم عن ربـهم يومئذ لـمحجوبون ) فإذا احتجب عن الأولياء والأعداء ، فأي فضل للأولياء على الأعداء ؟
  وقال أبو العباس السراج في تاريخه : حدثنا عباس بن أبي طالب ، حدثنا أبو بكر عبد الرحمن بن عفان ، سمعت ابن عيينة في السنة التي أخذوا فيها بشرا المريسي بمنى ، فقام سفيان في المجلس مغضبا ، فقال : لقد تكلموا في القدر والاعتزال ، وأمرنا باجتناب القوم ، رأينا علماءنا ، هذا عمرو بن دينار ، وهذا محمد بن المنكدر ، حتى ذكر أيوب بن موسى ، والأعمش ، ومسعرا ، ما يعرفونه إلا كلام الله ، ولا نعرفه إلا كلام الله ، فمن قال غير ذا ، فعليه لعنة الله مرتين ، فما أشبه هذا بكلام النصارى فلا تجالسوهم ، قال المسيب بن واضح : سئل ابن عيينة عن الزهد : قال : الزهد فيما حرم الله ، فأما ما أحل الله فقد أباحكه الله ، فإن النبيين قد نكحوا ، وركبوا ، ولبسوا ، وأكلوا ، لكن الله نـهاهم عن شيء ، فانتهوا عنه ، وكانوا به زهادا ، وعن ابن عيينة قال : إنما كان عيسى ابن مريم لا يريد النساء ، لأنه لم يخلق من نطفة .
  قال أحمد بن حنبل : حدثنا سفيان قال : لم يكن أحد فيما نعلم أشد تشبها بعيسى ابن مريم من أبي ذر ، وروى علي بن حرب ، وسمعت سفيان بن عيينة في قوله : ( والشهداء والصالحين )قال : الصالحون : هم أصحاب الحديث ، وروى أحمد بن زيد بن هارون ، حدثنا إبراهيم بن المنذر ، سمعت ابن عيينة يقول : أنا أحق بالبكاء من الخطيئة ، هو يبكي على الشعر ، وأنا أبكي على الحديث .
  قال شيخ الإسلام ـ أراد ابن تيمية ـ عقيب هذا : أراه قال هذا حين حصر في البيت عن الحديث ، لأنه اختلط قبل موته بسنة ، قلت ـ الذهبي ـ : هذا لا نسلمه فأين إسنادك به ؟! ، قال محمود بن والان : سمعت عبد الرحمن بن بشر ، سمعت ابن عيينة يقول : غضب الله الداء الذي لا دواء له ، ومن استغنى بالله ، أحوج الله إليه الناس ) .
(2) تفسير سفيان بن عيينة ص349 جمع وتحقيق أحمد صالح محابري ،نقلا عن مسند أحمد ج5ص 130 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 709 _
  لاحظ أن ابن جريج وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة من أعلم الناس وأوثقهم وأقربـهم من عهد الصحابة في نظر أهل السنة ، ولا أفضل عندهم من هؤلاء ليخبروهم بواقع حال صحابتهم .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 710 _
( شيخ الإسلام يزيد بن هارون )
  ذكر الإمام يزيد بن هارون (1) في مجمع كُفرَ من أنكر قرآنية المعوذتين ، فقال له بعض ممن حوله إن ابن مسعود أنكر قرآنيتهما ! ، فقال مستقلا لرأي ابن مسعود أنه لم يكن يحفظ القرآن كله ! فلم ينكر ما نسبه السائل لابن مسعود من تحريف للقرآن بل أقره وتخلص من الإشكال الذي سببه رأي ابن مسعود بقول تافه ! ، قال يزيد بن هارون : ( المعوّذتان بمنـزلة البقرة وآل عمران من زعم أنـهما ليستا من القرآن فهو كافر بالله العظيم ، فقيل له : فقول عبد الله بن مسعود فيهما ؟ فقال : لا خلاف بين المسلمين في أن عبد الله بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كله ) (2) .

--------------------
(1) تذكرة الحفاظ ج1ص317ت298 : ( يزيد بن هارون بن زاذى الحافظ ، القدوة ، شيخ الإسلام ، قال ابن المديني : ما رأيت أحفظ من يزيد بن هارون ، وقال يحيى بن يحيى : يزيد أحفظ من وكيع ، وقال أحمد : كان يزيد حافظا متقنا ، وقال زياد بن أيوب : ما رأيت ليزيد كتابا قط ، وقال علي بن شعيب : سمعت يزيد يقول أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بالإسناد ولا فخر ، وأحفظ للشاميين عشرين ألفا لا أسأل عنها ، وقال أحمد : يزيد كان له فقه ما كان وافهمه ، وقال أحمد بن سنان : ما رأيت أحسن صلاة منه لم يكن يفتر من الصلاة ، وعن عاصم بن علي قال : كان يزيد يقوم الليل وصلى الصبح بوضوء العتمة نيفا وأربعين سنة ، قال يحيى بن أبي طالب : سمعت من يزيد ببغداد وكان يقال في مجلسه سبعون ألفا ، قال العجلي : يزيد ثقة ثبت متعبد حسن الصلاة جدا يصلى الضحى ست عشرة ركعة بـها من الجودة غير قليل وكان قد عمي ، قال ابن أبي شيبة : ما رأينا أتقن حفظا من يزيد ، وقال أبو حاتم : يزيد ثقة إمام لا يسأل عن مثله ، وقال هشيم : ما بالمصريين مثل يزيد بن هارون ، وقال يزيد : ما دلست قط إلا في حديث فما بورك لي فيه .
  وروى أحمد بن زهير عن أبيه قال : كان يعاب على يزيد حيث ذهب بصره انه ربما سئل عن حديث لا يعرفه فيأمر جارية له فتحفظه إياه من كتابه ، قلت : ما بـهذا من بأس فيزيد حجة حافظ بلا مثنوية ، قال محمد بن رافع سمعت يحيى بن يحيى كان بالعراق أربعة من الحفاظ شيخان يزيد بن زريع وهشيم وكهلان وكيع ويزيد ، قال الأبار سمعت أحمد بن خالد يقول : سمعت يزيد يقول : سمعت حديث ألفتون مرة فحفظته وأحفظ عشرين ألفا فمن شاء فليدخل فيها حرفا ، قلت ـ الذهبي ـ حديث الفتون سبع ورقات سمعناه ، قال زياد بن أيوب : ما رأيت ليزيد بن هارون كتابا قط .
  حدثني ابن أكثم قال : قال لنا المأمون : لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت أن القرآن مخلوق ، فقيل : ومن يزيد حتى يتقى ؟! قال : أخاف أن أظهرته فيرد علي فيختلف الناس وتكون فتنة ، قال : فخرج رجل ألا واسط فجاء إلى يزيد ، فقال : أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك أريد أن أظهر القرآن مخلوق ، فقال : كذبت على أمير المؤمنين فإنه لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه وذكر الحكاية وإسنادها صحيح ).
  الجرح والتعديل ج9ص295ت1257: ( سمعت أبا طالب قال : قال أحمد بن حنبل : كان يزيد بن هارون حافظا متقنا للحديث صحيح الحديث عن حجاج بن أرطأة قاهرا لها حافظا لها ، عن يحيى بن معين أنه قال : يزيد بن هارون ثقة ، قال على بن المديني : يزيد بن هارون من الثقات ، قال عفان : أخذ يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة حفظا وهي صحاح بـها من الاستواء غير قليل ومدحها ، قال : انتخب أحمد بن حنبل على يزيد بن هارون بعض حديثه ، سألت أبى ـ ابن حنبل ـ عن يزيد بن هارون فقال : ثقة إمام صدوق في الحديث لا يسأل عن مثله ).
  سير أعلام النبلاء ج9ص358 : ( الإمام ، القدوة ، شيخ الإسلام ، الحافظ ، وكان رأسا في العلم والعمل ثقة حجة كبير الشأن ، أكثر إلى الغاية عن محدثي الشام ابن عياش وبقية وكان ذاك نازلا عنده وإنـما حسن سماع ذلك من أصحابـهما في أيام أحمد بن حنبل ونحوه ، قال الفضل بن زياد سمعت أبا عبد الله وقيل له : يزيد بن هارون له فقه ؟ قال : نعم ما كان أذكاه وأفهمه وأفطنه ، قال أبو حاتم الرازي : يزيد ثقة إمام لا يسأل عن مثله ، وقال محمد بن إسماعيل الصائغ نزيل مكة قال رجل ليزيد بن هارون : كم جزؤك ؟ قال : وأنام من الليل شيئا ؟! إذا لا أنام الله عيني ، وقال يحيى بن أبي طالب : سمعت من يزيد ببغداد وكان يقال إن في مجلسه سبعين ألفا ، قلت : احتفل محدثو بغداد وأهلها لقدوم يزيد وازدحموا عليه لجلالته وعلو إسناده ، قال أحمد بن سنان كان يزيد وهشيم معروفين بطول صلاة الليل والنهار ، وقال يعقوب بن شيبة : كان يزيد يعد من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر .
  عن شاذ بن يحيى سمع يزيد بن هارون يقول : من قال القرآن مخلوق فهو زنديق ، وقد كان يزيد رأسا في السنة معاديا للجهمية منكرا تأويلهم في مسألة الاستواء ، قال محمد بن رافع : سمعت يحيى بن يحيى يقول : كان بالعراق أربعة من الحفاظ شيخان يزيد زريع وهشيم وكهلان وكيع ويزيد بن هارون ويزيد أحفظهما الأبار سمعت أحمد بن خالد يقول سمعت يزيد بن هارون يقول سمعت حديث الصور مرة فحفظته وأحفظ عشرين ألفا فمن شاء فليدخل فيها ، حدثنا عبد الوهاب بن الحكم قال : كان المأمون يسأل عن يزيد بن هارون يقول ما مات وما امتحن الناس حتى مات ، عن يزيد بن هارون أخبرنا زكريا عن عطية العوفي عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي ، سمعت أحمد بن سنان يقول : كان يزيد يكره قراءة حمزة كراهة شديدة ).
  تاريخ بغداد ج14ص339 : ( قال علي بن المديني : لم أر أحفظ من يزيد بن هارون وقال في موضع آخر ما رأيت أحدا أحفظ عن الصغار والكبار من يزيد بن هارون ، قال : سمعت أحمد بن أبي الطيب يقول : سمعت يزيد بن هارون وقيل له : إن هارون المستملي يريد أن يدخل عليك يعني في حديثك فتحفظ ، فبينا هو كذلك إذ دخل هارون : فسمع يزيد نغمته ، فقال : يا هارون ! بلغني إنك تريد أن تدخل علي في حديثي فاجهد جهدك لا أرعى الله عليك إن أرعيت احفظ ثلاثة وعشرين ألف حديث ولا بغى لا أقامني الله إن كنت لا أقوم بحديثي ، حدثنا الفضل يعني بن زياد قال سمعت أبا عبد الله – أحمد بن حنبل - وقيل له : يزيد بن هارون له فقه ؟ قال : نعم ، ما كان أفطنه وأذكاه وأفهمه ، قيل له : فابن علية ؟ فقال : كان له فقه إلا أني لم أخبره خبري يزيد بن هارون ما كان أجمع أمر يزيد صاحب صلاة حافظ متقن للحديث صرامة وحسن مذهب .
  حدثني أبي قال : يزيد بن هارون واسطي سلمي يكنى أبا حذيفة ثبت في الحديث وكان متعبدا حسن الصلاة جدا وكان قد عمى كان يصلي الضحى ست عشرة ركعة بـها من الجودة غير قليل وقال ما أحب أن أحفظ القرآن حتى لا أخطئ فيه شيئا لئلا يدركني ما قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم في الخوارج : يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية (!) ، سمعت الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي يقول : رأيت يزيد بن هارون بواسط وهو من أحسن الناس عينين ثم رأيته بعين واحدة ثم رأيته وقد ذهبت عيناه ، فقلت : يا أبا خالد ! ما فعلت العينان الجميلتان ؟ قال : ذهب بـهما بكاء الأسحار (!)، قال سمعت إسماعيل بن عبيد وهو بن أبي كريمة قال : سمعت يزيد بن هارون يقول : القرآن كلام الله لعن الله جهما ومن يقول بقوله كان كافرا جاحدا ، سمعت أبا بكر يحيى بن أبي طالب يقول : كنا في مجلس يزيد يعني بن هارون فألـحوا عليه من كل جانب يسألونه عن شيء وهو ساكت لا يجيب حتى إذا سكتوا ، قال يزيد : إنا واسطيون ، يعني ما قيل تغافل كأنك واسطي .
  حدثني أبو نافع بن بنت يزيد بن هارون قال : كنت عند أحمد بن حنبل وعنده رجلان وأحسبه قال شيخان قال : فقال أحدهما : يا أبا عبد الله رأيت يزيد بن هارون في المنام ، فقلت له : يا أبا خالد ما فعل الله بك ؟ قال غفر لي وشفعني وعاتبني ، قال : قلت غفر لك وشفعك قد عرفت ، ففيم عاتبك ؟ قال : قال لي : يا يزيد أتحدث عن جرير بن عثمان ؟ قال : قلت : يا رب ما علمت إلا خيرا ! قال : يا يزيد إنه كان يبغض أبا حسن علي بن أبي طالب ، قال : وقال الآخر : أنا رأيت يزيد بن هارون في المنام ، فقلت له : هل أتاك منكر ونكير ؟ قال : أي والله ، وسألاني من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ قال : فقلت : ألمثلي يقال هذا ! وأنا كنت أعلم الناس بـهذا في دار الدنيا ؟! فقالا لي : صدقت ، فنم نومة العروس لا بؤس ، حدثنا وهب بن بيان قال : رأيت يزيد بن هارون في المنام ، فقلت : يا أبا خالد ، أليس قد مت ؟ قال : أنا في قبري وقبري روضة من رياض الجنة ).
(2) الجامع لأحكام القرآن ج1ص53.


إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 711 _
  نلاحظ هنا كيف كان رأي ابن مسعود مشهورا ومعلوما بين الناس في عهد التابعين وتابعيهم فما كان أحد منهم ينكر ذلك ، ونلاحظ أيضا كيف تقف أفعال الصحابة وما ثبت عنهم من تحريف للقرآن عقبة كؤودا لا يمكن تجاوزها أمام من يدعي كفر من اعتقد تحريف القرآن بالزيادة أو النقيصة .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 712 _
( إمام المحدثين ابن جرير الطبري )
  وهو أوحد مفسري السلف ، صاحب المصنفات الذائعة الصيت الشائعة الذكر ، فقد اعترف بأن بعض السلف قالوا بتحريف القرآن وهذا نص قوله :
  ( ثم اختلف قائلو ذلك في سبب مخالفة إعرابـهم إعراب (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) وهما من صفة نوع من الناس فقال بعضهم : ذلك غلط من الكاتب ، وإنما هو ( لكن الراسخون في العلم منهم و المقيمون الصلاة ) ، ذكر من قال ذلك :
  حدثني المثنى قال ثنا الحجاج بن المنهال قال ثنا حماد بن سلمة عن الزبير قال : قلت لأبان بن عثمان ما شأنـها كتبت (لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ ) (النساء/162) ؟ قال : إن الكاتب لما كتب ( لَكِنْ الرَّاسخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) حتى إذا بلغ قال : ما أكتب ؟ قيل له : أكتب (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ) ، فكتب ما قيل له .
  حدثنا ابن حميد قال ثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه أنه سأل عائشة عن قوله (وَالْمُقِيمِينَ ) (النساء/162) وعن قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) (المائدة/69)، وعن قوله (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) (طه/63)، فقالت : يا ابن أختي هذا عمل الكُـتّاب أخطئوا في الكِتاب ، وذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود ( والمقيمون الصلاة ) ) (1) .
  واعترف في موضع آخر من تفسيره حيث قال : ( القول في تأويل قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النور/27)، اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم تأويله ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا ) ذكر من قال ذلك :
  حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ثنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقرأ ( لا تدخلوا بيوتا عير بيوتكم حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها ) قال : وإنما (تَسْتَأْنِسُوا) .
  حدثنا ابن بشار قال ثنا محمد بن جعفر قال ثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية (لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) وقال : إنـما هي خطأ من الكاتب ( حتى تستأذنوا وتسلموا ) .

--------------------
(1) جامع البيان للطبري ج6ص18 ط دار الحديث .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 713 _
  حدثنا ابن المثنى قال ثنا وهب بن جرير قال ثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير بمثله غير أنه قال : إنما هي ( حتى تستأذنوا ) ولكنها سقط من الكاتب .
  حدثنا أبو كريب قال ثنا ابن عطية قال ثنا معاذ بن سليمان عن جعفر بن إياس عن سعيد عن ابن عباس (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ) قال : أخطأ الكاتب ، وكان ابن عباس يقرأ ( حتى تستأذنوا وتسلموا ) وكان يقرؤها على قراءة أبي بن كعب .
  حدثنا ابن بشار قال ثنا أبو عامر قال ثنا سفيان عن الأعمش أنه كان يقرؤها ( حتى تستأذنوا وتسلموا ) قال سفيان : وبلغني أن ابن عباس كان يـقرؤها ( حتى تستأذنوا وتسلموا ) وقال : إنـها خطأ من الكاتب ).
  ( قال ثنا هشيم قال أخبرنا جعفر بن إياس عن سعيد عن ابن عباس : أنه كان يقرؤها ( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا ) قال : وإنما ( تَسْتَأْنِسُوا ) ) (1) .
  وهنا اعتراف آخر للطبري بأن بعض سلفهم الصالح كان يرى وقوع التحريف في القرآن : ( اختلف أهل التأويل فيمن أخذ ميثاقه بالإيمان بمن جاءه من رسل الله مصدقا لما معه فقال بعضهم إنما أخذ الله بذلك ميثاق أهل الكتاب دون أنبيائهم … ذكر من قال ذلك :
  ( حدثني محمد بن عمرو قال ثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ) (آل عمران/81)، قال : هي خطأ من الكاتب ، وهي في قراءة ابن مسعود ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ) ).
  ( حدثني المثنى قال ثنا أبو حذيفة قال ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله )
  ( حدثني المثنى قال ثنا إسحاق قال ثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع في قوله (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ ميثاقَ النَّبِيّينَ) يقول : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ) وكذلك كان يقرؤها الربيع ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ) إنما هي أهل الكتاب ، قال : وكذلك كان يقرؤها أبي بن كعب ، قال الربيع : ألا ترى أنه يقول (ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ) (آل عمران/81) يقول : لتؤمنن بمحمد ولتنصرنه ، قال : هم أهل الكتاب ) (2) .
  فهذه اعترافات وشهادات من إمامهم الطبري على أن بعض سلفهم الصالح من الصحابة والتابعين كان يقول بتحريف القرآن فذكر هنا ابن عباس وعائشة وأبان بن عثمان بن عفان ومجاهد والربيع ، فلا أدري لماذا لم يكفرهم الطبري ؟!

--------------------
(1) ن.م ج18ص10.
(2) ن.م ج3ص331.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 714 _
( الإمام البخاري صاحب الصحيح )
  وهذا صاحب أصح كتاب بعد القرآن عندهم قد اعترف أن ابن مسعود كان يحك المعوذتين من مصحفه لأنـهما ليستا من كتاب الله برأيه ، أخرج البخاري في تفسير سورة الفلق :
  ( عن زر قال : سألت أبي بن كعب قلت : يا أبا المنذر ! إن أخاك ابن مسعود يقول : كذا وكذا (1) ، فقال أبي : سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ، فقال لي : قيل لي ، فقلت ، قال : فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ) (2) .
  وعلى رعونة الوهابية نقول : حيث أن البخاري لم يكفر الكافر فهو كافر ، وحيث أن أهل السنة لم يكفروا البخاري فهم كفرة ، وهلم جرا !

--------------------
(1) قد مر سابقا نقل كلمات علماء أهل السنة من أن المراد من (كذا وكذا) في رواية البخاري التستر وعدم التصريح بما كان يفعله ابن مسعود ، وواضح أن التستر شيء والإنكار من الأساس وعدم نقله كصحيحة ثابتة شيء آخر ، والبخاري أخرجها مرتين في صحيحه .
(2) صحيح البخاري ج4ص1904ح4693 ، ح4692.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 715 _
( الإمام الحافظ ابن أبي حاتم الرازي )
  قد التزم الرازي في أول تفسيره بنقل ما صح عنده من روايات بل على أصحها سندا وأشبهها متنا وهذا كلامه في أول تفسيره :
  ( سألني جماعة من إخواني إخراج تفسير القرآن مختصرا بأصح الأسانيد ، وحذف الطرق والشواهد والحروف والروايات وتنـزيل السور … فتحريت إخراج ذلك بأصح الأخبار إسنادًا وأشبهها متنًا … وإذا وجدته عن الصحابة فإن كانوا متفقين ذكرته عن أعلاهم درجة بأصح الأسانيد وسيمت موافقيهم بحذف الإسناد ).
  وعليه فقد سجل ابن أبي حاتم اعترافه بأن ابن عباس كان يرى وقوع تحريف للقرآن في خصوص هذه الآية (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) (الإسراء/23) ، حيث قال :
  ( قوله (وَقَضَى رَبُّكَ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أنزل الله هذا الحرف على لسان نبيكم صلى الله عليه (وآله) وسلم ( ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) فالتصقت إحدى الواوين بالصاد فقرأ الناس (وَقَضَى رَبُّكَ) ! ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد ! ) (1) .

--------------------
(1) تفسير القرآن العظيم ج 7 ص 2323 تحقيق أسعد محمد الطيب ، ط مكتبة نزار مصطفى الباز – الرياض .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 716 _
( إمام العربية أبو زكريا الفراء )
  اعترف الإمام أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء (1) في تفسيره المسمى بمعاني القرآن باعتقاد بعض السلف من الصحابة وغيرهم تحريف بعض المقاطع من القرآن ، قال الفراء :
  ( وقوله (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) قد اختلف فيه القراء ، فقال بعضهم : هو لـحن ، ولكنا نمضي عليه لئلا نـخالف الكتاب ، حدثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدثني أبو معاوية الضرير عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة أنـها سُئلت عن قوله في النساء (لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ … وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ) وعن قوله في المائدة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) وعن قوله (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) فقالت : يا ابن أخي هذا كان خطأ من الكاتب .
  وقرأ أبو عمرو ( إن هذين لساحران ) واحتج أنه بلغه عن بعض أصحاب محمد (2) صلى الله عليه (وآله) وسلم أنه قال : إن في المصحف لـحناً وستقيمه العرب) (3) .
  واعترف في موضع آخر : ( وقوله (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ ) (الإسراء/23) كولك : أمر ربك وهي في قراءة عبد الله ( وأوصى ربك ) وقال ابن عباس : هي ( ووصّى ) التصقت واوها ) (4) .

--------------------
(1) سير أعلام النبلاء ج10ص118ت12 : ( الفراء ، العلامة ، صاحب التصانيف ، أبو زكريا ، يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسدي مولاهم الكوفي النحوي ، صاحب الكسائي ، وكان ثقة ، ورد عن ثعلب أنه قال : لولا الفراء ، لما كانت عربية ، ولسقطت ، لأنه خلصها ، ولأنـها كانت تتنازع ويدعيها كل أحد .
  ونقل أبو بديل الوضاحي أن المأمون أمر الفراء أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو ، وأفرد في حجرة ، وقرر له خدما وجواري ، ووراقين ، فكان يملي في ذلك سنين ، قال : ولما أملى كتاب : معاني القرآن اجتمع له الخلق ، فكان من جملتهم ثمانون قاضيا ، وأمل الحمد في مئة ورقة ، وكان المأمون قد وكل بالفراء ولديه يلقنهما النحو ، فأراد القيام ، فابتدرا إلى نعله ، فقدم كل واحد فردة ، فبلغ ذلك المأمون ، فقال : لن يكبر الرجل عن تواضعه لسلطانه وأبيه ومعلمه ، ولم يذكره المزي في ( التهذيب ) مع أنه قد علق له البخاري في موضعين من ( صحيحه ) في تفسير الحديد والعصر .
  قال ابن الانباري : لو لم يكن لأهل بغداد والكوفة من النحاة إلا الكسائي والفراء لكفى ، وقال بعضهم : الفراء أمير المؤمنين في النحو ، وعن هناد قال : كان الفراء يطوف معنا على الشيوخ ولا يكتب ، فظننا أنه كان يحفظ ، وقال محمد بن الجهم : ما رأيت مع الفراء كتابا قط إلا كتاب يافع ويفعة .
  وعن ثمامة بن أشرس : رأيت الفراء ، ففاتشته عن اللغة ، فوجدته بحرا ، وعن النحو فشاهدته نسيج وحده ، وعن الفقه فوجدته عارفا باختلاف القوم ، وبالطب خبيرا ، وبأيام العرب والشعر والنجوم ، فأعلمت به أمير المؤمنين ، فطلبه ، وللفراء كتاب البهي في حجم الفصيح لثعلب ، وفيه أكثر ما في الفصيح غير أن ثعلبا رتبه على صورة أخرى ، ومقدار تواليف الفراء ، ثلاثة آلاف ورقة ، وقال سلمة : أمل الفراء كتبه كلها حفظا ، وقيل : عرف بالفراء لأنه كان يفري الكلام ، وقال سلمة : إني لأعجب من الفراء كيف يعظم الكسائي وهو أعلم بالنحو منه )
  راجع ترجمته في مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي ص86 طبقات الزبيدي ص143 ، أخبار النحويين البصريين للسيرافي ص51 ، فهرست ابن النديم ص73،74 ، تاريخ بغداد ج14ص146، الأنساب ج9ص247، نزهة الألباء ص98 ، معجم الادباء ج20ص9، إنباء الرواة ت (814) ، وفيات الأعيان ج6ص176 ـ 182 ، المختصر في أخبار البشر ج2ص30 ، تذكرة الحفاظ ج1ص372 ، تذهيب التهذيب ج4/ 153 / 2 ، العبر ج1ص354 ، مرآة الجنان ج2ص38 ـ 41 ، البداية والنهاية ج10ص261 ، غاية النهاية ج2ص371 ، تـهذيب التهذيب ج11ص212 ، روضات الجنات ج4ص235 ـ 239 ، بغية الوعاة ج2ص333 ، خلاصة تذهيب الكمال ت423 ، مفتاح السعادة ج1ص178 ـ 180.
(2) عثمان بن عفان ، هكذا كتب في هامشه .
(3) معاني القرآن للفراء ج2ص483 ط عالم الكتب . (4) ن.م ج2ص120 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 717 _
( الإمام العلامة أبو جعفر النحّاس )
  اعترف الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه معاني القرآن أن ابن عباس كان يقول بوقوع التحريف في القرآن الكريم ، قال :
  ( وقوله جل وعز (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) (النور/27) ، قال عبد الله بن عباس : إنـما هو ( حتى تستأذنوا ) ) (1) .

( الإمام أبو عبيدة معمر بن المثنى )
  اعترف الإمام أبو عبيدة في كتابه مجاز القرآن باعتقاد بعض سلف أهل السنة تحريف القرآن ، فقال :
  ( (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) (طه/63) قال أبو عمرو وعيسى ويونس : ( إن هذين لساحران ) في اللفظ وكُـتب ( هَذَانِ ) كما يزيدون وينقصون في الكتاب ، واللفظ صواب ) (2) .

( الإمام الحافظ أبو الحسين بن المنادي )
  اعترف الإمام ابن المنادي بأن ابن مسعود حذف المعوذتين وزاد أبي بن كعب في مصحفه سورتي الخلع والحفد فقال :
  ( جميع سور القرآن في تأليف زيد بن ثابت على عهد الصديق وذي النورين مائة وأربع عشرة سورة ، فيهن الفاتحة والتوبة والمعوذتين وذلك هو الذي في أيدي أهل قبلتنا ، وجملة سوره على ما ذكر عن أبي بن كعب رضي الله عنه مائة وست وعشرين سورة ، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يُسقط المعوذتين ، فنقصت جملته سورتين عن جملة زيد ، وكان أبي بن كعب يُلحقهما ويزيد إليهما سورتين وهما الـحَفدة والخَلع ) (3) .
  ومع ذلك لم يكفرهما ، وهكذا بقية علماء أهل السنة ، فتنبه لذلك .

--------------------
(1) معاني القرآن ج4ص516 بتحقيق محمد علي الصابوني .
(2) مجاز القرآن ج2ص21 لأبي عبيدة المتوفى 210ه‍ ، ط دار الفكر ، وعنه في تفسير كتاب الله العزيز للشيخ هود بن محكَّم الهواري ج3ص42 .
(3) فنون الأفنان في عيون علوم القرآن لابن الجوزي ص235 ، تحقيق حسن عتر ، ط دار البشائر .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 718 _
( الإمام أبو بكر ابن الأنباري )
  اعترف الإمام أبو بكر بن الأنباري بتحريف عمر بن الخطاب وادعائه خطأ القرآن ، ولكنه اعتذر لسيده ابن الخطاب أن الخلل كان في ذاكرته ! ، قال ابن الأنباري :
  ( وقد احتج من خالف المصحف بقراءة عمر وابن مسعود ، وأن خرشة بن الحر قال : رآني عمر ومعي قطعة فيها (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) (الجمعة/9) فقال لي عمر : من أقرأك هذا ؟! قلت أبي ، فقال : إن أبيا أقرؤنا للمنسوخ ، ثم قرأ عمر ( فامضوا إلى ذكر الله ).
  حدثنا إدريس قال حدثنا خلف قال حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم عن خرشة ، فذكره ، وحدثنا محمد بن يحيى أخبرنا محمد وهو ابن سعدان قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : ما سمعت عمر يقرأ قط إلا ( فامضوا إلى ذكر الله )، وأخبرنا إدريس قال حدثنا خلف قال حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم : أن عبد الله بن مسعود قرأ ( فامضوا إلى ذكر الله ) وقال : لو كانت (فَاسْعَوْا) لسعيت حتى يسقط ردائي .
قال أبو بكر : فاحتج عليه بأن الأمة أجمعت على (فَاسْعَوْا) برواية ذلك عن الله رب العالمين ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فأما عبد الله بن مسعود فما صح عنه ( فامضوا ) لان السند غير متصل ، إذ إبراهيم النخعي لم يسمع عن عبد الله بن مسعود شيئا ، وإنـما ورد ( فأمضوا ) عن عمر ، فإذا انفرد أحد بـما يخالف الآية والجماعة كان ذلك نسيانا منه ) (1) .

--------------------
(1) تفسير القرطبي ج81ص102.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 719 _
  ولا ندري من أين جاء بـهذه النظرية الخطيرة ؟! أي لماذا إذا انفرد أحد بما يخالف القرآن والجماعة كان ذلك نسيانا منه ؟! لماذا لا يكون عمدا منه ؟! ، طبعا لأنه معصوم ! (1) ، مع أن كلام عمر واعتراضه على القارئ لا يدل ولا يشعر بأي شيء من النسيان أو السهو ! وعلى أي حال فهذا اعتراف منه بأن ابن الخطاب اعتقد تحريف القرآن ، ولو نسيانا بزعمه ، فأما الاعتراف فحسي نافذ وأما زعم النسيان فادعاء حدسي يحتاج إلى دليل .
( الإمام المفسر ابن عطية الأندلسي )
  ذكر الإمام ابن عطية في تفسيره ـ الذي يعتز به ابن تيمية ـ كلاما قصيرا ذا فائدة عظيمة ، وكما قيل خير الكلام ما قل ودل ، فهاهو ابن عطية الأندلسي يعترف ويقر بأن جماعة من السلف الصالح منهم عائشة وأحد القراء السبعة أبو عمرو ابن العلاء كانوا يقولون بوقوع تحريف القرآن في هذا المقطع (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) (طه/63) ، قال ابن عطية :
  ( وقالت جماعة منهم عائشة ، وأبو عمرو : هذا مـمّا لَـحَنَ الكاتب فيه ) (2) .
  ولا ندري من هم بقية الجماعة ، (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (المائدة/52).
  واعترف بكل صراحة عند تفسيره لقوله تعالى (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ) (النساء/162) بأن عائشة وأبان بن عثمان بن عفان كانا يقولان بتحريف القرآن ، قال :
  ( واختلف الناس في معنى قوله (وَالْمُقِيمِينَ) وكيف خالف إعرابـها ما تقدم وتأخر ، فقال أبان بن عثمان وعائشة : ذلك من خطأ كاتب المصحف .
  وروي أنـها في مصحف ابن مسعود ( والمقيمين ) وكذلك روى غصمة عن الأعمش وكذلك قرأ سعيد بن جبير وكذا قرأ عمرو بن عبيد الجحدري وعيسى بن عمر ومالك بن دينار وكذلك روى يونس وهارون عن أبي عمرو ) (3) .
  ولا ندري لماذا لم يكفر ابن عطية عائشة وأبانا وأبا عمرو ؟! ، ولماذا لم يكفر الوهابيون ابن عطية ؟! ، ولماذا لم يكفروا ابن تيمية الذي لم يكفر ابن عطية ؟!

--------------------
(1) أهل السنة يقولون إن عمر بن الخطاب ليس بمعصوم ولكن عند تقييم أفعاله يفترضون عصمته مسبقا !
(2) تفسير ابن عطية ج10ص50 ط قطر .
(3) ن.م ج4ص290 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 720 _
( العلامة الراغب الأصفهاني )
  اعترف الراغب في كتابه المحاضرات باعتقاد بعض سلفهم الصالح تحريف القرآن وقد عنون ذلك التحريف في كتابه ، قال :
  ( ( ما ادعي أنه من القرآن مما ليس في المصحف وما أدعي أنه منه وليس فيه ) : أثبت زيد بن ثابت سورتي القنوت في القرآن (1) ، وأثبت ابن مسعود في مصحفه : لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب .
  وروي أن عمر (رض) قال : لولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله تعالى لأثبت في المصحف ، فقد نزلت الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله شديد العقاب .
  وقالت عائشة : لقد نزلت آية الرجم ورضاع الكبير وكانتا في رقعة تحت سريري ، وشغلنا بشكاة (2) رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فدخلت داجن فأكلته .
  وقال علقمة : أتيت الشام فجاء رجل فقعد إلى جنبي فقيل لي : هو أبو الدرداء ، فقال : ممن أنت ؟ فقلت : من الكوفة ، قال : أو لم يكن فيكم صاحب السواك والنعلين والمطهرة ؟ يعني ابن مسعود ، قلت : نعم ، فقال : أتحفظ كيف كان يقرأ : ( والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى ) ؟ قلت : نعم هكذا أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وفوه إلى فيّه فمازال هؤلاء بي حتى كادوا يردونني عنهما ، وأثبت ابن مسعود بسم الله في سورة براءة .
  وقالت عائشة : كانت الأحزاب تقرأ في زمن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم مائة آية ، فلما جمعه عثمان لم يجد إلا ما هو الآن وكان فيه آية الرجم ، وأسقط ابن مسعود من مصحفه أم القرآن والمعوذتين ).

--------------------
(1) يقصد قرآن زيد الخاص به .
(2) أصل الرواية ( بوفاة ) .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 721 _
  وقال : ( ( ما سد منه لحناً ) : سألت عائشة عن لـحن القرآن عن قوله (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) (طه/63) ، وعن قوله (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) (النساء/162) ، وعن قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) (المائدة/69) ، فقالت : يا ابن أختي هذا عمل الكُـتّاب أخطئوا في الكِتابة ) (1) .
( المفسر العلامة ابن جزي الكلبي )
  اعترف العلامة الكلبي في تفسيره أن عائشة بنت أبي بكر كانت تقول بتحريف القرآن بسبب خطأ كتاب المصحف في كتابته ، قال :
  ( (وَالصَّابِئُونَ)، قراءة السبعة بالواو ، وهي مشكلة ، حتى قالت عائشة : هو من لـحن كتّاب المصحف ) (2) .
  وكذلك اعترف بقوله : ( (وَالْمُقِيمِينَ) منصوب على المدح بإضمار فعل ، وهو جائز كثيرا في الكلام ، وقالت عائشة : هو من لـحن كتاّب المصحف ، وفي مصحف ابن مسعود : ( والمقيمون ) على الأصل ) (3) .
  وقال بقوله أيضا : ( (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) قرئ : ( إنّ هذين ) بالياء ، ولا إشكال في ذلك … وقالت عائشة : هذا مـمّا لـحن فيه كـتّاب المصحف ) (4) .
( الإمام ابن عادل الدمشقي الحنبلي )
  واعترف الإمام الدمشقي الحنبلي في اللباب في علوم القرآن باعتقاد ابن مسعود تحريف القرآن وإنكاره لدخول المعوذتين فيه : ( وزعم ابن مسعود أنـهما دعاء وليستا من القرآن ، وخالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت ) (5) .
  وكذا اعترف باعتقاد جماعة منهم عائشة وأبي عمرو بن العلاء بوقوع تحريف في القرآن عندما أخطأ الكاتب في كتابة هذه الآية فكتبها بـهذا الشكل (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) (طه/63) ، قال :

--------------------
(1) محاضرات الأدباء ج2ص434 ـ 435 ط دار مكتبة الحياة .
(2) التسهيل لعلوم التنـزيل ج1ص173 .
(3) ن.م ج1ص164 .
(4) ن.م ج3ص15 .
(5) اللباب في علوم القرآن ج20ص568 تحقيق د.محمد سعد رمضان ، ط دار الكتب العلمية .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 722 _
  ( وذهب جماعة منهم عائشة وأبو عمر إلى أن هذا مما لَحَن فيه الكاتب ، وأفهم بالصواب يعنون أنه كان من حقه أن يكتبه بالياء فلم يفعل ، فلم يقرأه على الناس إلا بالياء على الصواب ) (1) .
  وكذا أقر الحنبلي اعتقاد بعض منهم تحريف القرآن اعتمادا على معتقد عائشة وأبان بن عثمان في أن الكاتب لَـحَن وأخطأ في كتابة المصحف ، فقال عند تفسير قوله تعالى (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) (النساء/162) : ( وقد زعم قوم أنـها لـحن ، وقد نقلوا عن عائشة وأبان بن عثمان أنـها خطأ من جهة غلط كاتب المصحف ) (2) .

--------------------
(1) ن.م ج13ص296 .
(2) ن.م ج7ص123.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 722 _
( العلامة الإمام ابن جُزَي الغرناطي )
  أقر الغرناطي عند تفسيره لآية (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) (النساء/162) بأن عائشة قالت إن الكاتب أخطأ ولـحن في كتابة المصحف ، فقال :
  ( (وَالْمُقِيمِينَ) منصوب على المدح بإضمار فعل ، وهو جائز كثيرا في الكلام ، وقالت عائشة هو من لـحن كُـتّاب المصحف ، وفي مصحف ابن مسعود (والمقيمون) على الأصل ) (1) .
  وكذا اعترف في تفسير قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى) (المائدة/69) باعتقاد عائشة تحريف القرآن ، فقال :
  ( (وَالصَّابِئُونَ) قراءة السبعة بالواو وهي مشكلة حتى قالت عائشة : هي من لـحن كاتب المصحف ) (2) .
  وكذا في تفسير قوله تعالى (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) (طه/63) ، قال إن عائشة قالت بوقوع التحريف في هذا الموضع وأن الكاتب لـحن وأخطأ في كتابة الآية ، قال :
  ( وقالت عائشة هذا مـما لـحن فيه كُـتّاب المصحف ) (3) .

--------------------
(1) التسهيل لعلوم التنـزيل للإمام الغرناطي ج1ص217 ط دار الأرقم تحقيق عبد الله الخالدي .
(2) ن.م ج1ص239.
(3) ن.م ج2ص10.

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 723 _
( سلطان العلماء العز بن عبد السلام )
  اعترف الإمام العز بن سلام بإنكار ابن مسعود للمعوذتين وأنـهما في نظره ليستا من كتاب الله ، قال :
  ( وهي والتي بعدها معوذتا الرسول صلى الله عليه (وآله) وسلم حيث سرحته اليهودية وكان يقال لهما المشقشقتان أي تبرآن من النفاق ، وخالف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه الإجماع بقوله هما عوذتان وليستا من القرآن الكريم ) (1) .
( الإمام أبو الحسن الماوردي )
  اعترف الإمام الماوردي بإنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين :
  ( وزعم ابن مسعود أنـهما دعاء تعوذ به وليستا من القرآن وهذا قول خالف به الإجماع من الصحابة وأهل البيت ) (2) .
( الإمام الـقُـشَـيْري )
  نقل القرطبي في الجامع لأحكام القرآن اعتراف الإمام القشيري بأن ابن عباس كان يعتقد وقوع التحريف في القرآن :
  ( وقرأ علي وابن عباس ( أفلم يتبيّن الذين آمنوا ) من البيان . قال القشيري : وقيل لابن عباس المكتوب (أَفَلَمْ يَيْئَسْ) ! قال : أظن الكاتب كتبها وهو ناعس ، أي زاد بعض الحروف حتى صار ييئس ) (3) .

--------------------
(1) تفسير القرآن ج3ص509 تحقيق د. عبد الله الوهيبي ، توزيع دار ابن حزم
(2) النكت والعيون المعروف بتفسير الماوردي ج4ص570 ط دار الصفوة .
(3) الجامع لأحكام القرآن ج9 ص320 .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 724 _
( العلامة الإمام شمس الدين الكرماني )
  اعترف الإمام الكرماني بإنكار ابن مسعود لقرآنية المعوذتين عند شرحه لما أخرجه البخاري في صحيحه وهو : ( عن زر بن حبيش قال : سألت أبي بن كعب عن المعوذتين ، فقال : سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال : قيل لي ، فقلت ، فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ) ، فقال العلامة الكرماني شارحا لمفردات الحديث :
  ( و ( المعوذتين ) بكسر الواو ، فإن قلت : ما معنى السؤال عنهما ؟ قلتُ : كان ابن مسعود يقول إنـهما ليستا من القرآن ، فسأل عنهما من هذه الجهة ) (1) .
( الإمام العلامة بدر الدين العيني )
  وكذا اعترف العلامة العيني شارح الصحيح أن ابن مسعود أنكر قرآنية المعوذتين ، حيث قال شارحا الحديث السابق :
  ( قوله ( عن المعوذتين ) بكسر الواو ، ومعنى السؤال عنهما لأجل قول ابن مسعود أن المعوذتين ليستا من القرآن ، فسأل عنهما من أُبي من هذه الجهة ).
  وعند شرحه لحديث آخر أخرجه البخاري وهو : ( حدثنا عاصم عن زر قال : سألت أبي بن كعب ، قلت : يا أبا المنذر ! إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا ! فقال أبي : سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم فقال : قيل لي فقلت ، قال : فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ) ، قال الإمام العيني : ( قوله ( إن أخاك ) يعني في الدين ، قوله ( كذا وكذا ) يعني أنـهما ليستا من القرآن ، قوله ( قيل لي ) أي أنـهما من القرآن ، وهذا كان مما اختلف فيه الصحابة ، ثم ارتفع الخلاف ووقع

--------------------
(1) الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري للكرماني ج18ص218 ـ 219 ( تفسير قل أعوذ برب الفلق ) ط البهية في مصر .

إعلام الخَلف بمن قال بتحريف القرآن من أعلام السّلف _ 725 _
  الإجماع عليه فلو أنكر اليوم أحد قرآنيتهما كفر (1) ، وقال بعضهم : ما كانت المسألة في قرآنيتهما بل في صفة من صفاتـهما وخاصة من خاصتها ولا شك أن هذه الرواية تحتملهما فالحمل عليها أولى والله أعلم .
  فإن قلتَ : قد أخرج أحمد وابن حبان من رواية حماد بن سلمة عن عاصم بلفظ : أن ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه . وأخرج عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال : كان عبد الله بن مسعود يحك المعوذتين من مصاحفه ، ويقول : أنـهما ليستا من القرآن أو من كتاب الله تعالى .
  قلتُ ـ أي العيني ـ : قال البزار لم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة وقد صح عن النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم أنه قرأها في الصلاة وهو في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر ) (2) .
  وواضح أن الرواية الثانية التي تحكي قول وفعل ابن مسعود لا يمكن تأويلها ، فهي نص على أنه أنكر قرآنية المعوذتين ، لذا ذكر اعتراف البزار .

--------------------
(1) هذه الجملة دائما يكررونـها ، وقد نقلناها سابقا من كلام الشوكاني وعلقنا عليها ، واعترافهم أن بعض الصحابة قد أنكر سورتين من القرآن كاف لإثبات اعتقاد بعض الصحابة تحريف القرآن وهو مرادنا ، وأما وقوع الاتفاق اليوم على قرآنيتهما وأن من أنكر شيئا منها فقد كفر فهذا غير صحيح لما سيأتي من نقل علامتهم البروسوي كلام بعض علماء الحنفية الذين ذهبوا إلى عدم تكفير من أنكر قرآنية المعوذتين لإنكار ابن مسعود لها ، وكذا ما ذكره البيهقي في سننه الكبرى ، وما ذكره العلامة ابن نجيم المصري زين بن إبراهيم في البحر الرائق عن اختلاف العلماء في كفر من أنكر المعوذتين .
(2) عمدة القاري شرح صحيح البخاري ج20ص10 ـ 11 ط المنيرية .