تأليف
علي الشهرستاني


  إلى روَّاد التدوين من السلف الصالح
  إلى من يسير على هديهم فكراً ونهجاً ومعتقداً
  إلى رجال الشريعة ... طلبة وأساتذة وباحثين
  إلى كلّ متطلّع إلى الحقيقة ومتحرِّر من قيود التقليد والجمود
  وإلى كلّ عقل حرّ ، وفطرة سليمة ، وفكر أصيل
  أهدي دراستي هذه

  المؤلّف

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 7 _

بسم الله الرحمن الرحيم

  الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد خاتم النبيّين وإمام المرسلين وعلى آله الطيّبين وصحبه المنتجبين إلى قيام يوم الدين ، وبعد:
  إنّ ممّا لا ريب فيه هو : أن الاَديان السماويّة جميعاً كانت تبتني على أُسس فكريّة ومبانٍ تشريعيّة وأُصول محكمة في طرحها النظريّ والعمليّ لمسألة الدين وما فيه صلاح للبشر .
  ولا يخفى أنّ الدين الاِسلاميّ الحنيف كان في طليعة الاَديان السماويّة ، وأكثرها احتكاكاً بالحياة ، وأنجحها تطبيقاً لمبادئه على الصعيد العمليّ ، باعتبار تصدّيه لريادة وقيادة
  مختلف الاَُمم على مدى عصور متتالية .
  فمن المنطقيّ إذاً أن يمتلك هذا الدين الرصيد الاَعلى من الاَُسس والمباني والاَُصول في تفكيره وطرحه ، فكان الكتاب العزيز والسنّة النبويّة الشريفة هما أول وأكبر منهلين استُلهِمت منهما بيانات وأحكام الدينالاِسلاميّ.
  وقد انفرد هذا الدين العظيم عن الاَديان السماويّة بأن تكفّل الله سبحانه وتعالى حفظ كتابه من الضياع والاندثار والتحريف ، فقال سبحانه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (1) فلم يكن مصير القرآن المجيد مصير التوراة والاِنجيل وباقي الكتب السماويّة التي طالتها يدُ التحريف والتزييف والتبديل.
  إلاّ أنّ المصدر التشريعيّ الثاني أعني سنّة رسول الله قد مُني بالوضع والتحريف من لدن عهده (ص) ، وقد نبّه (ص) على ذلك فقال : ( مَن كذب عَلَيَّ متعمّداً فليتبوَّأ مقعده من النار) ولاَجله نراهم يقولون عن السنّة النبويّة: إنّها

------------------
(1) الحجر : 9.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 8 _

  ظنّيّة الصدور!
  وقد أثّرت تلك الاختلافات التي ابتُليت بها السنّة النبويّة على باقي مصادر التشريع ، فصار كلّ فريق يفسّر ويُؤَوِّل الآيات بما يطابق مرويّاته ، ويدّعي أنّ ذلك هو المراد منها ، وربّما نحى بعض آخر منحىً سلبيّاً حين ظنّ أنّ ما يقنّنه من أُصول وقواعد وكليّات يغني عن المرويّات ويحلّ محلّ اختلافاتها ، وبذلك تشعّب الخلاف وامتدت جذوره في أغلب الاَُصول والفروع.
  وانشعبت الاَُمّة الاِسلاميّة إلى مذاهب وفرق ، كلّ تدّعي أنّها تسير على هدى القرآن ونهج الرسول ، وأنّ الحقّ بجانبها ، وأنّ السنّة بأنقى صورها عندها.
  فهل يمكن تصديق الجميع والقول بأنّ اتّجاهات جميع الطوائف صحيحة وإنَّ الله ورسوله مَنَحاها الحجّيّة ، أم أنّ الحقّ واحد يجب العثور عليه ؟!
  وهل يصحّ ما قالته كلّ فرقة عن الاَُخرى أم لا ؟
  وهكذا ظلّ النزاع يدور في حلقة مفرغة من الاَخذ والردّ عند الاتّجاهات المختلفة ، والعقل السليم لا يمكنه أمام مثل هذه النزعات إلاّ أن يرجّح أحدها أو يميل إليه ، إذ من غير المعقول أن تصحَّح جميعاً ، ولا أن تُغلَّط جميعاً ، لاَنّ الحقّ واحد ، وأنّ الفرقة الناجية ما هي إلاّ واحدة فقط ، وعليه فلا مفرّ للمسلم من وجوب البحث للعثور على السنّة الصحيحة الموصلة إلى الواقع الذي جاء به النبيّ (ص).
  وهنا يكون مدارُ البحث لا عن حجّيّة السنّة النبويّة ، لاَنّ حجّيّتها لايختلف فيه اثنان من المسلمين ، وإنّما البحث عن (ما هو الحجّة) أي البحث في طرق الاِثبات لا الحجّيّة ، و بتعبير آخر: أيّ نقل من النقول النبويّة هو الحجّة ؟!
  ربّما يقال في الاِجابة: إنّ ما صحّ من الاَحاديث الواردة في شتّى الموضوعات طبقاً للقواعد الرجاليّة ، هو الصحيح ، وما لم يصحّ فهو غير ذلك ، ولاسبيل سوى طرحه وعدم العمل به.
  وهذا الكلام قد يبدو صحيحاً لاَوّل وهلة ، لكنّ البصير بأُمور الشريعة يعلم بأنّ الاَُصول المرسومة في معرفة الحديث لم تقتصر على الاِسناد ، فهناك

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 9 _

  ضوابط ومعايير يلزم مراعاتها في المتن كذلك.
  على أنّ بعض الاَُصول والمقاييس الرجاليّة قد قنّن طبق موازين خاصّة وأنّ المعايير العلميّة والاَُصول القرآنيّة لم تكن الحاكمة فيه ، بل نجد الاختلاف والتضارب واضحاً في توثيق أو تجريح الراوي الواحد بل جرحهم لاَئمّة المذاهب ادّعاءً (1) وبعد هذا فلا يقف الباحث إلاّ على ركام هائل وضباب كثيف من الموازين والمقاييس يغلب عليها الحسّ المذهبيّ السياسيّ ، فكم من راوٍ وثّقوه وعدّلوه فلم يكن كما قالوا فيه ، طبقاً لما دلّت عليه نصوص أُخرى.
  وكم من راوٍ جرحوه فلم يُصيبوا الغرض ، وكم من رواية صحّحت سنداً لكنّها دلّت متناً على خلاف الواقع ، وأُخرى أُسقطت سنداً لكنّها بلحاظ الواقع دلّت على أكبر رصيد من الصحّة.
  وعلى هذا ، وبملاحظة ما مرّ من أدوار وجدنا أنّه لا بُدّ من دراسة السنّة النبويّة دراسة تمحيصيّة ، طبق منهج أكثر جدّة وجدّيّة ، انطلاقاً من الاَُصول الثابتة في الشريعة والتاريخ والعقل والفطرة ، عبر دراسة أطراف الحدث المرتبط بالحديث والاَجواء الحاكمة وما أُريد لها من أهداف.
  وهذا لا يعني ، أنّا نريد إلغاء دور السند في معرفة الحديث ، بل الذي نريده هو الاستعانة بشواهد وقرائن أُخرى لتصحيح منحى بعض الاَخبار التي لمتُعطَ حقّها من قبل بعض المسلمين.
  وعلى كلّ حال فقد آل الاَمر اليوم إلى أن نرى مجموعة من المسانيد

------------------
(1) إذ خدش ابن معين وأحمد بن صالح في الاِمام الشافعيّ (انظر هامش تهذيب الكمال 24:380) ، وذكر الخطيب البغداديّ أسماء الذين ردّوا على الاِمام أبي حنيفة (تاريخ بغداد 13 :370 وفيه اسم 35 رجلاً) وقال الرازي في رسالة ترجيح مذهب الشافعيّ ما يظهر أنّ البخاريّ عدّ أبا حنيفة من الضعفاء في حين لم يذكر الشافعيّ هناك ، وقال السبكيّ في طبقاته : إنّ أبا على الكرابيسيّ كان يقدح في الاِمام أحمد (طبقات الشافعيّة 1:251) ، وقد قدح العراقيّ (شيخ ابن حجر) في ابن حنبل ومسنده (انظر فيض القدير 1:26) ، وذكر الخطيب في تاريخه عدّة أسماء قد خدشوا في الاِمام مالك (تاريخ بغداد 1 : 224 ، تهذيب الكمال 24 : 415 ، طبقات الشافعيّة 1 : 189) ، وقد خدشوا في الاِمام البخاريّ والنسائيّ وغيرهم.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 10 _

  الحديثيّة تسمّى : بـ( الصحاح الستّة) يعمل بها فريق ضخم من المسلمين ولايرتضون سواها ولو كان إكسيراً مجرّباً ، ونرى في جانب آخر مسانيد أُخرى تسمّى بـ( الكتب الاَربعة) يعمل بها فريق آخر من المسلمين ويذهبون إلى أنّها من أصحّ الاَحاديث وأنّها أبعد شيء عن الوضع والتحريف والتأثّر بالمؤثّرات الخارجيّة ، فما هو الصحيح ؟ واين هو ؟
  وهل جميع أحاديث الصحاح الستّة صحيحة حقّاً ؟ أم أنّ بينها ما هو الضعيف والمرسل وو ... ممّا يجب التوقّف عنده ؟
  وكيف نرى النقل عن أهل البيت ، هل جميعه صحيح ؟ أم أنّ بينه المدسوس والضعيف ؟
  من الضروري الاِجابة عن هذه التساؤلات ، وذلك بعد عرض جذور القضيّة المبحوث عنها في النصوص التاريخيّة والحديثيّة.
  ولعلّ أهمّ وأبرز حدث أثَّر في السنّة النبويّة ـ نصاً ومعنىـ هو منع الشيخين التدوين والتحديث عن رسول الله ودورهما في تطبيق هذه الرؤية واستمراره في عهد الخليفة عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان ، ثمّ اتّخذه الخلفاء من بعدُ منهجاً يُعمل به عليه حتّى أوقفه الخليفة عمربن عبدالعزيز وأمر بتدوين الحديث.
  على أنّ هناك جماعة من كبار الصحابة والتابعين قد اتّخذوا التدوين مسلكاً ومنهجاً حتّى على عهد الخليفة عمر بن الخطّاب الذي عُرف بشدّته وقسوته على من يخالفه في آرائه ، ومن أُولئك: عليّ بن أبي طالب ، ومعاذبن جبل ، وأُبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدريّ ، وفاطمة الزهراء ، وأبو ذرّ وغيرهم.
  فترى هؤلاء يدوّنون ويحدّثون ولا يرون مبرّراً للمنع ، ولا يعيرون لرأي الشيخين ـ ومن مَنَع تبعاً لهماـ القدسيّة التي لا يمكن معها من مناقشتهما .
  كما أنّهم لم يخشوا ما خشيه آخرون ، ومن هنا حدث التخالف في الرأي بين النهجين ، هذا يُحَدِّث ويدوّن ، وذلك يقول بالاِقلال أو منع التحديث وعدمالتدوين ، وارتسمت أُصول الطرفين الفكريّة.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 11 _

  فلابدّ إذاً من إمعان النظر في المدرستين الحديثيّتين للتعرّف على أيّهما ألصق بالواقع وأبعد عن الدوافع ، ولا ينبغي أن يكون هذا الاِمعان والتقييم لمناهج المدرستين تخرّصاً وتقوّلاً بقدر ما يكون دراسة للظروف الحاكمة آنذاك ، وتجسيماً لنفسيّة الرجال المعنيّين في الدراسة على مختلف أصعدة حياتهم ، فنحن لانذهبُ إلى كفاية الاقتصار على مجرد إطلاق لفظ العدالة والوثاقة و ... أو معاكساتها دون إلمام بكلّ ما يتعلّق بهذا الشأن ، لاَنَّ الكثير من الصحابة ـ كما صرّحواـ كانوا يروون الرواية مع عدم العلم بأنّ مفادها منسوخ أم لا ؟
  أو أنَّ النصّ الذي قاله النبيّ هو من القرآن ، أم من كلامه (ص) ؟
  أو أنَّ الحكم الوارد مخصوص به (ص) أو بشخص معيّن أم هو حكم عامّ لجميع المسلمين ؟
  ومثل ذلك إفتاؤهم ببعض الآراء مع تصريحهم بأنَّ ما يقولونه لا مستند له من الشرع! فإن أصابوا فمن الله وإن أخطأوا فمنهم ومن الشيطان.
  فبسبب كلّ هذا رأينا من الضروريّ القيام بدراسة شموليّة نوضّح فيها المجمل والمبهم من الاَُمور التي لابَسَت السنّة النبويّة ومنقولاتها ، وندرسه وفق المنهجيّة العلميّة الجديدة للوقوف على الواقع ، لاَنّ القيام بدراسة مثلها يمكن أن يوقفنا على حقائق كثيرة.
  وسيتّضح من خلال الدراسة تخالفُ مرويّات المانعين ، مع مرويّات المدوّنين المحدّثين عن رسول الله ، كما تتّضح أُمور كثيرة في التشريع ، وفقه الصحابة ، والاتّجاهات الفقهيّة التي كانت آنذاك ، والدوافع التي تكمن وراء هذا الاتّجاه أو ذاك ، كما تبيّن (ما هو الحجّة) من المرويّات في الصحاح الستّة والكتب الاَربعة وباقي المسانيد الحديثيّة.
  وهنا نسير سويّة لنرى أثر منع التدوين على السنّة النبويّة وفي طيّاته أثر بل آثار منع التحديث أيضاً وما آلت إليه أُمور المسلمين الفقهيّة من خلال السنّة النبويّة المباركة.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 13 _


منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 15 _

  إنَّ موضوع نهي الشيخين عن تدوين حديث رسول الله ، وأمر عمربن الخطّاب الصحابة بالاِقلال من حديث رسول الله ـ كما في حديث قرضةبن كعب الاَنصاريّ (1) لحريّ بالبحث والدراسة ، لاَنّه يرتبط بتاريخ ثاني مصدر من مصادر التشريع الاِسلاميّ ، وإنّ دراستنا هذه وإن كانت دراسة تخصّصيّة تهمّ الباحثين ، لكنّها في الوقت نفسه تعطي للمطالع صورة واضحة عن أهمّ قضيّة في تاريخ التشريع ، وإنَّ توضيح مسألة كهذه كفيلة بأن تحلّ لنا كثيراً من القضايا والاَُمور المطروحة في مسائل الخلاف وتساعدنا على تفهّم واقع الاختلاف وجذوره.
  وأهمّ الاَسباب المذكورة في ذلك هي :
  السبب الاَوّل: هو ما نُقل عن الخليفة أبي بكر.
  السبب الثاني: هو ما نُقل عن الخليفة عمر بن الخطّاب.
  السبب الثالث: ما ذهب إليه ابن قتيبة وابن حجر.
  السبب الرابع: ما نقله الاَُستاذ أبو زهو والشيخ عبد الخالق عبدالغني.
  السبب الخامس: ما ذهب إليه الخطيب البغداديّ وابن عبد البرّ.
  السبب السادس: ما ذهب إليه بعض المستشرقين.
  السبب السابع: ما ذهب إليه غالب كتّاب الشيعة.
  السبب الاَخير: ما توصّلنا إليه.

------------------
(1) الطبقات الكبرى 6 : 7 ، جامع بيان العلم وفضله 2 : 120 ، تذكرة الحفّاظ 1:7 ، كنز العمّال 2 : 284|4017 ، سنن الدارمي 1 : 85 .

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 16 _

  هذا ، وإنّ مناقشتنا لهذه الاَسباب جاءت لتفهّم واقع التشريع الاِسلاميّ وملابساته ، ولم نقصد به التعريض بمكانة أحد ، إذ الميدان ميدان بحث ومناقشة ، والعصر عصر منطق ودليل ، فطرح رأي أحدٍ لا يعني التجاوز على حدود ذلك والمساس بكرامته ، بل الاَقوال كلّها قيد البحث والمناقشة حتّى أنّنا لانرى قولنا يبتعد عن هذا الاَصل ، لاَن الوصول إلى الحقائق ـ والحقائق الدينيّة على نحوٍ خاصـ يظل هو الهدف السامي للاِنسان الذي يهمّه أمر المعرفة الصالحة ، ويهمّه كذلك أمرُ تديّنه والاستعداد للقاء الله تعالى على بصيرة ويقين.
  إنّ عالم الحضور بين يدي الله عزّ وجلّ في الآخرة يقوم على الحقّ والصدق.
  ومن هنا كان على من يفكِّر جادَّاً في ذالكم الحضور الجليل المهيب أن يسعى للخروج من موازين دار الوهم والاشتباه إلى موازين دار الفضل والحقّ ، والله جلّ جلاله المستعان ، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

  ويستنتج ذلك من نصّين :
  أ ـ ورد عن عائشة أنَّها قالت : (جَمَع أبي الحديث عن رسول الله (ص) وكانت خمسمائة حديث ، فبات ليلته يتقلّب كثيراً.
  قالت : فغمّني ، فقلت : أتتقلّب لشكوى أو لشيء بَلَغك ؟ فلمّا أصبح قال: أي بُنيّة ، هَلُمِّي الاَحاديث التي عندك.
  فجئته بها ، فدعا بنار فحرقها .
  فقلت : لِمَ أحرقتها ؟
  قال : خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنتُه ووثقتُ [به] ، ولم يكن كما حدّثني فأكون نقلت ذلك) (1).
   ب ـ جاء في تذكرة الحفّاظ: ومن مراسيل ابن أبي مُليكة : (أنّ الصدِّيق جمع الناس بعد وفاة نبيّهم ، فقال : إنَّكم تحدّثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً ، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه) (2).
  وقبل مناقشة النصّين ، لنا استفهامان لا بدّ من الاِجابة عنهما:
  الاَوّل: هل جمع الخليفة الاَوّل أحاديثه في زمن الرسول الاَعظم ، وبأمر منه (ص) ، أم أنّه قد جمعها بعده نظراً للظروف السياسيّة والحاجة الاجتماعيّة ؟

------------------
(1) تذكرة الحفّاظ 1: 5 ، الاعتصام بحبل الله المتين 1: 30 ، حجّيّة السنّة: 394.
(2) تذكرة الحفّاظ 1: 2 3 ، حجّيّة السنّة: 394.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 18 _

  الثاني: هل وقع المنع من التحديث وتدوين السنّة الشريفة في زمن متأخّر ، أم أنّ رسول الله (ص) قد نهى عن التدوين في عهده (ص) ، كما نُقل عن أبي سعيد الخدريّ ، عنه (ص): (ومَن كَتَبَ عنّي غير القرآن فَلْيَمْحُه) (1)؟
  من خلال تعبير النصّ الاَوّل (جمع أبي الحديث) يمكن أن نستشم أنَّ تدوين الحديث من قبل الخليفة جاء لاحقاً ، خصوصاً حينما عرفنا أنّه أخذها من بعض الرجال ، لقوله (خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل إئتمنته ووثقت ، ولم يكن كما حدّثني ، فأكون قد نقلت ذلك).
  فخشية الخليفة من نسبة تلك الاَحاديث إلى رسول الله لقوله (ولميكن كما حدّثني فاكون قد نقلت ذلك) لا يتلاءم مع فرض وقوع عمليّة الجمع في عهده (ص) ، إذ لو كان الجمع في عهده (ص) لاَمكن للخليفة عرض المنقول على رسول الله (ص) للتثبّت من المشكوك فيه.
  فإن قيل : إنّه فات عليه أن يعرض ما سمعه بواسطةٍ على رسول الله (ص) للتأكد من صحّته أو عدمها ، قلنا : إنّنا لا نعقل أن يخفى ذلك على أبي بكر مع قربه من النبيّ واستحكام الشكّ في نفسه ، كما نستبعد أن يكون قد ترك هذا الاَمر المهمّ وسوّف فيه حتّى كادت تدركه الوفاة ، مع أنّ الصحابة كان لايخفى عليهم ضرورة أن يسألوا النبيّ (ص) في أبسط المسائل وعند أدنى شكّ.
  وأمّا إحراق الاَحاديث وتخوّفه من انتسابها إلى رسول الله (ص): لقوله : (فأكون قد نقلت ذلك) وتقارب ذلك مع موت الخليفة: (خشيت أن أموت) فإنّها توضَّح أنّ الخليفة قد جمعها في آواخر عهده ، وأنّه لم يسمع منها حديثاً واحداً عن رسول الله (ص) مباشرة ، وإلاّ فكيف يبيح لنفسه حرق ما سمعه شفاهاً من رسول الله (ص) ؟!
  مضافاً إلى ذلك : أنّ الخليفة لو كان قد جمع تلك المرويّات في عهد النبيّ (ص) لذكر ذلك المؤرِّخون وأصحاب السِّيَر ، ولما تقَّلبَ ليلته!
  ولَمَا شكّ في جواز التدوين وعدمه بعد ذلك!

------------------
(1) شرح صحيح مسلم ، للنوويّ 17 ـ 18: 340 كتاب الزهد ب 16 ح 12 ، مسند أحمد 3:12 ، 21 ، 39 باختلاف يسير ، تقييد العلم: 29.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 19 _

  ولَجَاءَ في كلام عائشة: (إنّ أبي قد جمع الحديث في زمن رسول الله (ص)) أو (أملى رسول الله (ص) على أبي ، فكتب) أو ما شابه ذلك.
  نعم ، إنّ الخليفة كان قد كتب لاَنس بن مالك حينما كان عامله على البحرين كتاباً فيه فرائض الصدقة (1) ، وقد كتب إلى عمرو بن العاص كذلك (2).
  وهذا لا ينافي ما نُقل عنه من إحراقه صحيفته ، لاَنّ ما كتبه لاَنس كان عبارة عن تدوين أمر الصدقة وجباية الاَموال ، وهو ممّا يقوّم أمر الدولة ولايمكن للخليفة أن يتناساه ، وقد جاء عن عمرو بن حزم أنّه دوّن كتاباً فيه الصدقات عن رسول الله ، وللخليفة عمر بن الخطّاب كتاباً في نفس الاَمر كذلك ، كان موجوداً عند حفصة ثمّ عند آل أبي الخطّاب ، فالكتابة بما يقوّم أمر الدولة شيء وما عُلِّل في منع التدوين شيء آخر.
  أمّا الاستفهام الثاني: فيمكن الاِجابة عنه بجلاءٍ من خلال فعل الشيخين وسيرة المسلمين ، فقد جمع الخليفة الاَوّل خمسمائة حديث ، وهذا دليل كافٍ على عدم ورود نهي منه (ص) فيه ، إذ لو كان قد صدر نهي سابق لما دوّن الخليفة ما دوّن من أحاديث.
  وهكذا الحال بالنسبة إلى الخليفة الثاني ، إذ لو كان التدوين محظوراً من قبل لما جمع الصحابة واستشارهم بالاَمر ، ولما أرشدوه إلى التدوين (3).
  ولو تنزّلنا وقلنا بورود المنع عن التدوين عموماً وعن السنّة خصوصاً ، فما معنى ما صحَّ عنه (ص) من أنّه أمَر المسلمين بكتابة (الاَحكام التي قالها يوم فتح مكّة) (4) ، أو أنّه ـ بعد هجرته من المدينة ـ أمر بكتابة أحكام الزكاة ومقاديرها ، فكُتب في صحيفتين وبِقيَتا محفوظَتين في بيت أبي بكر الصدّيق وأبي بكر بن عمر بن حزم (5).
  وما معنى ما ثبت من قوله (ص) (اكتُبوا ولاحرج)

------------------
(1) تقييد العلم 87 ، السنن الكبرى 4: 84.
(2) موطّأ مالك: 1|5 ، ألف ، كما في الدراسات: 94.
(3) تقييد العلم: 49 ، حجّيّة السنّة: 395.
(4) صحيح البخاريّ 1: 39 باب كتابة العلم.
(5) تاريخ الفقه الاِسلاميّ ، للدكتور محمّد يوسف: 173.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 20 _

  وما ساوقها من العبارات الصريحة في الحثّ على تدوين الاَحكام والسنّة النبويّة.
  وبهذا ندرك أنَّ التدوين لم يكن محظوراً في عهد رسول الله (ص) ، وأنّ الشيخين لم يدوّنا حديثه (ص) في أيّام حياته ، بل إنّ الخليفة الاَوّل دوّنها بعد وفاته (ص).
  وإنّ الكتابة ، وتدوين العلم كان ممّا أكّد عليه القرآن الحكيم بقوله: ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) (1) و (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (2) و (وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا ) (3) (و(فاكْتُبوه (4) و (عِلْمُها عند ربِّي في كتاب) (5) .
  وإنّ العرب كانوا يُجِلُّون الكتّاب ، ويميلون إلى الكتابة ، وقد ذكر ابن حبيب البغداديّ قائمة بأسماء الاَشراف المتعلّمين وفقهائهم في العصر الجاهليّ وصدر الاِسلام (6) .
  قال ابن سعد: (كان الكامل عندهم في الجاهليّة وأوّل الاِسلام: الذي يكتب بالعربيّة ويُحسن العوم والرمي) (7) .
  وفي مكّة (8) … والمدينة (9) والطائف (10) والاَنبار (11) والحيرة (12) ودومة

------------------
(1) القلم: 1.
(2) العلق: 4.
(3) البقرة: 282.
(4) البقرة: 282.
(5) طه : 52.
(6) انظر المحبر: 475 477.
(7) الطبقات الكبرى: 3|2|91 طبعة ليدن 1904 ـ 1940 تحقيق سخاو.
(8) الدراسات ، للاَعظميّ ص : 44 عن مصادر الشعر الجاهليّ: 52 ، القصد والاَُمم لابن عبدالبرّ: 22.
(9) فتوح البلدان ، للبلاذريّ: 583.
(10) فتوح البلدان ، للبلاذريّ: 579.
(11) عيون الاَخبار 1 : 43 ، القصد والاَُمم: 22.
(12) فتوح البلدان: 579 ، القصد والاَُمم: 22.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 21 _

  الجندل (1) كانت تعقد الكتاتيب للدراسة ، وجاء عن رسول الله (ص) أنّه أنشأ في مسجده صُفّة كان عبد الله بن سعيد بن العاصّ يعلِّم فيها الراغبين الكتابة والخطّ (2).
  قال الدكتور أحمد أمين: إنّ الاَُمّيّة لم تكن متفشّية بين العرب بالشكل الذي يتصوّره بعض الكتّاب والمستشرقين ، وبخاصّة عرب الحيرة وبادية الشام ، لاَنّهم عاشوا زمناً طويلاً مع جيرانهم الفرس والروم ، وبحكم الظروف التي كانت تحيط بهم والمراحل التي مرّوا بها مع تلك الاَُمم المتحضّرة ليس من البعيد عليهم أن يتعلّموا الكتابة ، وأن يأخذوا عنهم العلوم والعادات التي تمسّ حياتهم وتسهل لهم سبل العيش والحياة الحرّة الكريمة (3).
  فإذا كان القرآن يشرّع الكتابة والتدوين ، والسنّة تُعنى بأمر الكتابة حتّى تجعل فداء أسرى بدر من المشركين في مقابل تعليم كلّ واحد منهم عشرة من أولاد المسلمين القراءة والكتابة (4) ، فلا معنى إذَن للقول بمنع تدوين السنّة الشريفة من قبل رسول الله (ص).
  ثمّ ألاَ يلفت أنظارنا عتاب الرسول لاَقوام ، وقوله لهم: (ما بال أقوام لايُفَقّهون جيرانهم ، ولا يعلّمونهم ولا يعظونهم ، ولا يأمرونهم ولاينهونهم ؟! وما بال أقوام لا يتعلّمون من جيرانهم ولا يتفقّهون ولا يتّعظون ؟!...) (5). وقد سأل رسول الله (ص) وفد عبد القيس: (كيف رأيتم كرامة إخوانكم لكم وضيافتهم إيّاكم ؟
  قالوا : خير إخوان ، ألانُوا فراشنا ، وأطابوا مطعمنا ، وباتوا وأصبحوا يعلّموننا كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا (ص).
  فأعجب النبيّ (ص) وفرح بنا ، ثمّ أقبل علينا رجلاً رجلاً يعرضنا على ما

------------------
(1) المحبر: 475.
(2) انظر الاستيعاب ، لابن عبد البرّ 2: 374.
(3) فجر الاِسلام: 13 14.
(4) الطبقات ، لابن سعد 2: 22 ، سيرة ابن هشام ، للسهيليّ 2: 92.
(5) مجمع الزوائد 1: 164.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 22 _

  تعلّمنا وعلّمنا ...) (1).
  وروى حذيفة أنّ رسول الله (ص) ، قال: (اكتبوا لي من تلفّظ بالاِسلام من الناس ، فكتبنا له ألفاً وخمسمائة رجل) (2).
  وقد دوّن أصحاب السير أنّ رسول الله (ص) كان له ثلاثة وأربعون أو خمسة وأربعون كاتباً للوحي .
  فإذا ضممنا هذا التأكيد على التعليم والتعلّم والقراءة والكتابة ، إلى ما أسلفنا من أمر النبيّ بالتدوين وممارسة الصحابة له على عصره (ص) وبعده بمدّة ـ حتّى نهى أبو بكر عنهـ علمنا أنّ نسبة منع التدوين والتحديث إلى رسول الله ما هو إلاّ مغالطة يهدف منها تصوير الاِسلام بصورة مشوّهة ، صارت مبرّراً لاَعداء الاِسلام في القول:
  بأنّ المسلمين يخالفون العلم ، ولايرتضون التحديث عن رسول الله (ص) وتدوين السنّة ، لاَنّا نراهم ينقضون موقفهم ويذهبون إلى تدوينه لاحقاً ؟! فلو كان جائزاً فلماذا منعوه ، وإن كان ممنوعاً فَلِمَ دوّنوه ؟!
  نعم ، إنّ القول بمنع التدوين يناقض ما ورد عنه (ص) ، من قوله: (اكتبوا) (3) و (قيّدوا) (4) وقوله: (اكتب فوالذي نفس حقّ (5) ، أو (استعن على حفظك بيمينك) (6).
  ومثل هذا كثير ممّا لانريد الاِطالة فيه ، وإذا اتّضح ذلك ، فلنناقش النصّ الاَوّل متسائلين:
  لماذا بات ليلته يتقلّب كثيراً ؟ ألِعِلَّةٍ كان يشكو منها ، أم أنّ شيئاً خطيراً من أمر الخلافة وشؤون المسلمين قد أرَّقه وأذهب عنه النوم ؟

------------------
(1) مسند أحمد 4: 206.
(2) صحيح البخاريّ 4: 87.
(3) سنن الترمذيّ 4: 146|2805.
(4) مستدرك الحاكم 1: 106.
(5) المستدرك على الصحيحين 1|5 106 ، تقييد العلم: 80 81 ، مسند أحمد 2: 162 ، جامع بيان العلم 1: 71.
(6) سنن الترمذيّ 4: 145|2804.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 23 _

  لقد وقفت سابقاً على كلام عائشة: (أتتقلّب لشكوى ، أو لشيء بلغك؟) ، واستمعت لتعليل الخليفة.
  ترى هل يصحّ هذا التعليل الذي ورد عن الخليفة: (لم يكن كما حدّثني) ؟
  وهل يسوّغ تعليله إحراق ما جمعه ؟
  ولماذا يحرقه ولا يميثه بالماء ، أو يدفنه في الاَرض مثلاً ؟!
  أمّا السؤال الاَوّل: فبقرينة (فلمّا أصبح قال: أي بُنيّة ، هلمّي الاَحاديث التي عندك ، فجئته ...) نعرف سبب تقلّب الخليفة وأنّه لم يكن لعلّةٍ كان يشكو منها أو لاَمر يتعلّق بالغزوات والحروب ، بل إنّه بات ليلته يتقلّب بسبب ما كان في هذه الصحيفة من أحاديث ، حتّى بات يعتقد أنّ نقل الحديث عن رسول الله (ص) مدعاة للاختلاف ، من دون فرق بين المفردات المحدَّث بها ، وبدون تمييز بين ما سُمِعَ مباشرة عن النبيّ أو بواسطة ، لقوله في مرسلة ابن أبي مُليكة : (لا تُحدّثوا شيئاً) في حين ثبت أنّ الخليفة كان لايذهب إلى ذلك في بادىَ الاَمر.
  وأمّا تعليله لاِحراق الاَحاديث بقوله : (خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ، ووثقت [به] ، ولم يكن كما حدّثني ، فأكون نقلت ذلك) ... فإنّ عدّة مؤاخذات ترد عليه:
  الاَولى: كيف انقلب المؤتمن الثقة إلى غير موثوق ومؤتمن ؟
  ثمّ أيحتاج أبو بكر أن تكون بينه وبين رسول الله في الحديث واسطة ؟!
  إنّ ما يقال من ملازمة أبي بكر للنبيّ طيلة حياته لا يتلاءم مع احتياجه في النقل عنه (ص) إلى بواسطة ، إذ إنّ ملازمته للنبيّ تنفي الحاجة إلى الواسطة في النقل ، وخصوصاً لمن يقال إنّه أوّل من أسلم.
  الثانية: إذا كان ناقل الخبر ثقة مأموناً لقوله (ائتمنته ووثقته) ، فهل يمكن أن نسقط مرويّاته عن الاعتبار ولا نأخذ بها ، بمجرّد احتمال الكذب أو السهو ؟
  ألم يكن لازم هذا القول إنكار حجّيّة خبر الثقة ، ولا يمكننا بعده أن نعتمد على خبر أيّ ناقل لاِمكان احتمال الكذب فيه ؟

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 24 _

  روى رافع بن خديج ، قال : مرّ علينا رسول الله (ص) يوماً ، ونحن نتحدّث ، فقال : ما تحدّثون ؟
  فقلنا : ما سمعنا منك يا رسول الله.
  قال : تحدّثوا ، وليتبوّأ مقعده ـ من كذب عليّ من جهنّم!
  ومضى لحاجته ، وسكت القوم ، فقال (ص): ما شأنهم لا يتحدّثون ؟!
  قالوا : الذي سمعناه منك يا رسول الله!
  قال : إنّي لم أُرِدْ ذلك ، إنّما أردتُ من تعمّد ذلك ، فتحدّثنا.
  قال : قلتُ : يا رسول الله! إنّا نسمع منك أشياء ، أفنكتبها ؟
  قال : اكتبوا ، ولا حرج (1).
  وهذا النصّ صريح فيما قلناه ، من أنّ التحديث والتدوين كانا أمراً جائزاً مشروعاً في عهد النبيّ (ص) ، وأنّ جملة (تحدّثوا) تؤكد جواز التحديث مع لزوم التثبّت فيه حتّى لا يقع أحد في الكذب عليه (ص) ، وأنّ احتمال كذب الراوي ، أو التخوّف من الكذب لا يسوّغ للخليفة إهمال الحديث.
  بل إنّ رسول الله (ص) دعا إلى التثبّت في نقل الرواية ، لمعرفة صحيحها من سقيمها ، ولم يُشرّع (ص) سدّ باب الرواية والتحديث ، فكان على الخليفة أن يصحّح الاَحاديث ، إن كان فيها شيء مكذوب حذفه ، وإن كان فيها ما يوجب التوضيح وضّحه ، وإن كان فيها أمر آخر أشار إليه ، لا أن يُبيد ما جمعه ، بفرض الشكّ والاحتمال.
  إنّ العلم عموماً ممّا لا يستساغ محوه ، فكيف بكلام النبيّ الكريم ؟! وعلى هذا فالمرويّات ممّا لا يجوز إحراقها بحال من الاَحوال خصوصاً وأنّ أكثرها ممّا فيه اسم الله وأحكامه التي لا يجوز إهانتها بتاتاً.
  وإنّه إذا أراد إتلافها كانت أمامه سبل أُخرى لا غبار عليها ، مثل محوها بالماء ، أو دفنها في الاَرض أو...
  ثمّ إنّ المسلمين أحسّوا بالترابط الجذريّ بين التحديث والتدوين ـ وذلك يدلّ على وعيهم وثقافتهمـ فسألوا النبيّ (ص) عن جواز كتابة أحاديثه إذ

------------------
(1) تقييد العلم: 73 ، الكامل لابن عديّ 1: 36.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 25 _

  احتملوا أن يمنع أو أن يقيّده النبيّ (ص) بقيود أو يشترط في كتابته شروطاً ، فأجابهم النبيّ (ص) بجواب (أكتبوا ولا حرج).
  فنفى الضير في الكتابة ورفَعَ الحرج ، إذ على المسلم أن يتثبّت ممّا يدوّنه عن الرسول وأن لايدوّن المكذوب ، وليس بعد هذا شرط.
  الثالثة: لو اعتقدنا أنّ احتمال الكذب يُسقط الرواية من الاعتبار كما قال الخليفة للزم طرح جميع ما روي عن رسول الله في الصحاح والمسانيد ، لاِمكان ورود مثل هذا الاحتمال فيها ، وهذا ممّا لا يقول به أحدٌ ، لاَنّ القول بذلك من شأنه أن يُسِقط أصلاً من أُصول التشريع الاِسلاميّ ، وأن يقضي على السنّة النبويّة الشريفة قضاءً تامّاً ، وأن يُلغي كلّ الاَحكام الفرعيّة المسلّمة من الاَحاديث.
  ترى ، كيف يقول الخليفة بهذا ؟ أخفي عليه أنّ النبيّ (ص) كان يعمل بإخبار الصحابة العدول فيما يتّصل بالتهيّؤ والاِعداد للغزوات والحروب ؟! وما مفهوم آية النبأ وآيات أُخرى إلاّ دليلٌ على أنّ المسلمين كانوا يعملون بخبر العدول ، ويتوقّفون عند خبر الفسّاق.
  بل إنّ السيرة العقلائيّة قاضية بالاَخذ بخبر الثقة العدل ويبقى مجرّد احتمال الكذب أو الخطأ أو السهو أو... مرفوعاً بأصالة العدم في الجميع.
  وعليه ، يكون ما ذهب إليه ابن حجر من أنّ الله قد نفى عن الصحابة: الكذب ، والسهو ، والريب ، والفخر ... مخالفاً لشهادة الخليفة بما علمت ، حيث ظنّ ببعض الصحابة ظنّاً ـ يتناول فيهم هذه الاحتمالات ـ ويرتقي إلى درجة الكذب ، وأبو بكر أدرى بحال الصحابة من ابن حجر بداهةً.
  ولو سلّمنا جدلاً أنّ مجرّد الشكّ والاحتمال يسقط الخبر عن الحجّيّة عند الشاكّ ، فلا نسلّم سقوط الخبر عن الحجّيّة عند الآخرين غير الشاكّين في المرويّات ، فكان على الخليفة أن ينقل المرويّات ويشير إلى شكّه فيمن شكّ فيه لعدم مطابقة إخباره للواقع ، لاَيّ سبب كان .
  وللمخبَر بالخبر أن يعمل به ، أو لايعمل وفقاً لما يفرضه عليه الدِّين.
  والثابت أنّ هذا التبرير ـ لو سلم ـ لا يوجب منع غيره ، فالخليفة بمنعه كان

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 26 _

  يهدف المنع من التحديث مطلقاً لقوله في النصّ الثاني: (فلا تحدّثوا عن رسول الله).
  فلو كان التدوين جائزاً فما معنى النهي ؟ ولو صحّ النهي عنه (ص) فلماذا جمع أبو بكر خمسمائة حديث (1)؟!
  إنّ منع الخليفة من تناقل حديث رسول الله ، وحرقه لما جمعه من أحاديث عنه (ص) لا يستند إذَن إلى أصل شرعيّ.
  أمّا النصّ الثاني: فإنّه يجسِّم حال الاَُمّة بعد رسول الله (ص) ، وأنّ الخليفة أرجع سبب اختلافهم إلى اختلاف النقل عنه (ص) ، لقوله: (إنَّكم تحدّثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً).
  فمهما يكن الاَمر ، فإنّ الحاجة إلى التحديث من جهة ووجود الاختلاف في المرويّات من جهة أُخرى ، كان أمراً مهمّاً قائماً لابُدّ من حلِّه بطريقة ما.
  وقد نحا الخليفة الاَوّل منحى المنع من التحديث ، والاقتصار على القرآن كحلّ لهذه الاَزمة التي ظهرت بوضوح بعد فقد النبيّ (ص) ، تخلّصاً من الروايات المختلفة التي يبدو أنّ الخليفة عجز عن الجمع بينها ، ممّا اضطرّه إلى منعها جميعاً دون استثناء ، خصوصاً مع علمه بتوسّع دائرة الخلاف بتطاول الاَزمان في الحديث عن النبيّ (ص).
  وموقف الخليفة أبي بكر ، في منعه للتحديث ، يثير عدّة تساؤلات:
  أوّلها: إنّ النبيّ (ص) كان يبعث أعيان الصحابة معلّمين للناس ، ومنذرين.
  وكان يأمر الناس بالاَخذ عنهم ، والتفقّه على أيديهم ، خصوصاً بعد (آية الاِنذار).
  ومنع الصحابيّ من رواية ما سمعه والعمل به ، يعني إلغاء وظيفة العالِم الشرعيّة في تعليم الناس وتبصيرهم ، وأمّا حدوث التقوّل والافتراء من قبل بعض الصحابة ، فهو يستدعي ردع المتقوّل ومنع المفتري ذاته من التحديث ، ولامعنى لمنع الجميع.

------------------
(1) كما مرّ في ص17.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 27 _

  وأمّا إذا استعصى حكم ولم يُهتَد فيه إلى وجه الصواب ، فبالاِمكان الرجوع إلى النبيّ (ص) ما دام حيّاً ، والرجوع بعد وفاته إلى مشاورة سائر الصحابة ممّن سمع في ذلك أثراً عن النبيّ (ص) للاطمئنان وللتأكُّد من صحّة النقل ، وهو ما رأيناه عند بعض الصحابة.
  ثانيها : إنّه كان بإمكان الخليفة جمع الصحابة ضمن لجنة ، والاستماع إلى منقولاتهم ، وتثبيت ما هو الصحيح ، وحذف المشكوك فيه؛ توحيداً للمنقول عنه (ص).
  وكان ذلك الاَمر سهلاً يسيراً ، لاَنّ الصحابة لم يذهبوا بعدُ في أقطار الارض للغزو والفتح كما حدث بعدئذٍ في زمن عمر ولم يفصل بينهم زمن طويل عن زمان النبيّ (ص) ، ممّا يعني قلّة نسيانهم وندرة خطئهم ، ووجود فرصة ذهبيّة لتوحيد نقولاتهم بأيسر سبيل ، خصوصاً مع إمكان التعرّف على حال الراوي من قريب دون تعدّد الوسائط في النقل ، إذ إنَّ أغلبهم ما يزال في المدينة على قيد الحياة.
  ثالثها: إنّ المنع من التحديث ، وبتطاول الاَمد ، سيضاعف من عدد الاَحكام المجهولة عند المسلمين ، وذلك ما يحدو بهم أن يستنبطوها من المسلّمات والمرويّات العامّة ، وبذلك تختلف وجوه الاستنباط وتتعدّد وجهات النظر ، بينما ينتفي كلّ هذا الاختلاف لو كان التحديث محكماً والتدوين جارياً ، ونظراً لالتفات الخليفة إلى نقطة:
  (الناس بعدكم أشدّ اختلافاً) كان لزاماً عليه أن لايترك الناس يتخبّطون في الجهالة فيما يتّصل بالاَحكام الشرعيّة ، أو يرتكسون في اختلاف أدهى وأمرّ ، بسبب ظهور حالة تعدّد وجهات النظر الشخصيّة لكلّ مستنبط .
  وقد اقتضى هذا المنع أنّ الخليفة الاَوّل رغم سابقته في الاِسلام ، وقربه من الرسول ـ لم يُرْوَ عنه إلاّ مائة واثنتان وأربعون روايةـ كما قال ابن حزم (1).
  فلو قيست المرويّات المجموعة مع ما قد أُتلف منها لاستبان أنّ ما أُتلف وأُبيد كان كثرة كاثرة.
  رابعها: إنّه لا يمكن منع التحديث بالاَحاديث مع العلم القطعيّ باحتوائها أُمّهات المسائل ممّا يحتاجه المسلمون في حياتهم الدينيّة والدنيويّة ، إذ إنّ

------------------
(1) راجع كتاب أسماء الصحابة ، وما لكلّ واحد منهم من العدد لابن حزم الاَندلسيّ.

منع تدوين الحديث اسباب ونتائج _ 28 _

  إضاعة الاَحكام وإبادتها يدخل في دائرة المحرّم والممنوع؛ لاَنّه يؤول إلى إضاعة معالم الدين وأحكامه ، فكان الموقف المناسب أن تُوَحَّد المرويّات وفقاً لمقياس ما يتّخذه الخليفة ، وأن يلجم الكذّابين ويمنعهم من التحديث ، وأن يرفع الخلاف الظاهريّ بعرض الروايات على القرآن أو منقولات الصحابة الآخرين المثبتين ، إلى غير ذلك من سبل ضبط الحديث ، والاَخذ به ممّا يتّبعه المسلمون اليوم.
  ثمّ إنّ أمر الخليفة الصحابة أن يقولوا لمن يسألهم عن مسألة ما : (بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحِلّوا حلاله ، وحرِّموا حرامه) ... ففيه مسامحة واضحة ، إذ كيف يمكن معرفة الاَحكام الشرعيّة من القرآن وحده دون الرجوع إلى السنّة الشريفة ؟ ثمّ ألم يكن القرآن حَمّال أوجه ، منه المجمل ومنه المبيّن ، والمحكم والمتشابه ، والعامّ والخاصّ ، والناسخ والمنسوخ ؟ فكيف يمكن الوقوف على حلال الله وحرامه من القرآن وحده ؟! ثمّ كيف يكِلُ الناسَ إلى القرآن وهو القائل عن الكلالة: أقول فيها برأيي فإن كان صحيحاً فمن الله وإن كان خطأً فمن نفسي!!
  ولماذا تمنّى أن يسأل الرسول (ص) عن ميراث الجدّ والجدّة بعد موته(ص) إذا كان ما ورد في القرآن من حلال وحرام يكفيه ؟!
  ولو صحّ قول الخليفة ، فَبِمَ نفسِّر كلام رسول الله (ص) في حديث الثقلين ، حيث رسم أصلَين للتشريع الاِسلاميّ هما (الكتاب والسنّة) أو (الكتاب والعترة) كما في روايات أُخرى ؟
  ألا يعني ذلك أنّ العتِرة أو السنّة ماثلان حاضران بين المسلمين ، ولذلك تراه يقول (ص): (تركتُ فيكم) ؟
  وهذا يعني أنّه لابُدّ من وجود مفسّرٍ للقرآن من سنّة أو عترة ، استناداً إلى كلام النبيّ (ص) ، وهذا يعني مرّة أُخرى أنّه لا يمكن فهم أحكام الله من القرآن وحده.
  ولابدّ أنّ رسول الله قد أرشد المسلمين إلى سنّة واضحه وعترة شاخصة حين أرجع أُمّته إليها.