لا يزال حديث الاجيال بعد ان رأى ذلك وسمع ما احدثه موكب السبايا في نفوس الناس وقلوبهم وبخاصة بعد ان عرف الناس في عاصمته وخارجها ان هذا الموكب لآل الرسول وبناته جعل يتنصل من تلك الجريمة ويحمل أوزارها لابن زياد ومعاونيه ، لقد كان باستطاعة يزيد ومعاونيه لو لم يتعرض لأسر النساء والاطفال وسبيهن من بلد إلى بلد ان يموه على الناس ويقول لهم لقد نازعني الحسين ملكي وقاتلني فقتلته ، ولكنه بعد ان صنع مع النساء والاطفال ما صنع من الاسر والسبي والامتهان ضاقت عليه الحجج والذرائع ولم يعد امامه إلا ان يتنصل منها ويضع مسؤوليتها على غيره حيث لا يجديه التنصل ولا تستره الاعذار وقد أيقن بعدها الكثير من الناس بأنه كان في عمله هذا مسيرا لامويته الحاقدة على بيت محمد ورسالته ، ولو انه ترك النساء والاطفال بعد تلك المجزرة وشأنهم ولم يعاملهم بتلك المعاملة التي لم يعامل المسلمون بها اسرى المشركين ونسائهم لم يكن لجريمته كل ذلك الصدى الذي هز العالم الإسلامي بكل فئاته وطبقاته .
  لقد كان الحسين يرى من وراء الغيب بأن شهادته وحدها لا تعطي النتائج المطلوبة ولا تحقق له جميع اهدافه ما لم تقترن بسبي النساء والاطفال والطواف بهن من بلد إلى بلد ليتاح لشقيقته العقيلة ان تؤدي دورها ورسالتها فقال لاخيه ابن الحنفية وهو يتململ بين يديه باكياً حزيناً : لقد شاء الله ان يراني قتيلاً وأن يرى نسائي وأطفالي سبايا وكان على أمية وحفيدها يزيد بن ميسون لو كانت تملك ذرة من الوفاء والشرف ان تعود إلى الوراء قليلاً لترى ما فعله جد زينب والحسين وبقية العلويين والعلويات مع ابي سفيان وزوجته هند بنت عتبة التي مثلت بعمه الحمزة وأكلت من كبده وكيف عاملهما بالعفو والصفح وجعل لهما ما لم يجعله

من وحي الثورة الحسينيّة _ 52 _

  لاحد من مشركي مكة وطواغيتها ، ورحم الله بعض الشعراء الذي ذهب يعاتب الامويين بقوله :
                    وعـليك خـزي يـا أمـية دائم        يـبقى  كـما في النار دام iiبقاك
                    لقـد  حـملت مـن الآثام جهالة        ما  عنه ضاق لمن دعـاك iiدعاك
                    هلا صفحت عن الحسين ورهطه        صـفح  الـوصي ابيه عن iiأباك
                    وعـففت  يـوم الطف عفة iiجده        الـمبعوث يوم الفتح عن iiطلقاك
                    أفـهل  يـد سلبت اماءك iiمثلما        سـلبت كـريمات الطفوف iiيداك
                    ام  هـل برزن بفتح مكة iiحسرا        كـنسائه يـوم الـطفوف iiنساك

  ورحم الله القائل في وصف السبايا :
وزاكية  لم تلق في النوح iiمسعدا        سوى  انها بالسوط يزجرها iiزجر
ومـذعورة  اضحت وخفاق قلبها        تـكاد  شـظاياه يطير بها iiالذعر
ومذهولة من دهشة الخيل ابرزت        عـشية لا كـهف لديها ولا iiخدر
تـجاذبها أيـدي الـعدو iiخمارها        فـتستر  بالأيدي إذا أعوز iiالستر

من وحي الثورة الحسينيّة _ 53 _

سرت  تتراماها العداة iiسوافرات        يروح بها مصر ويغدو بها مصر
تطوف بها الاعداء في كل iiمهمة        فـيجذبها قـفر ويـقذفها قـفر

من وحي الثورة الحسينيّة _ 54 _

( بطولات الشباب في كربلاء )
  إذا كانت مطامح الشباب عيشا رغيدا ومستقبلا سعيدا حافلا بكل ألوان النعيم كما نشاهد ونرى فشباب كربلاء كانت كل امانيهم ومطامحهم صموداً في الأهوال وصبراً في البأساء واستشهاداً بحد السيوف ، ولم يكن لتلك الفتوة الغضة والصبا الريان ان تهتم او تفكر بما أعد لها من غضارة الدنيا وما ينتظرها من صفو الحياة ولهوها ومتعها بل كان كل همهم التطلع إلى أي سبيل من سبل الشهادة يعبرون وأي موقف من مواقف البطولات يقفون .
  هناك وعلى مشارف العراق وفي الطريق إلى كربلاء كان الحسين ( عليه السلام ) يسير على رأس قافلة الشباب الابطال متحديا اقوى سلطة وأبشع طغيان وأسوأ من عرفه التاريخ من الحاكمين متحديا كل ذلك بسبعين من الرجال والشباب ليحطم بهذا العدد القليل قوى الشر والطغيان ومعاقل البغي والعدوان وليعلم ابناء آدم كيف يموتون في سبيل العزة والكرامة .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 55 _

  كان يسير ابو عبدالله على رأس تلك القافلة ممن اصطفاهم الله إلى الشهادة التي لم يجد وسيلة غيرها تحفظ لشريعة جده مما كان يخططه لها الحزب الاموي الحاكم الذي سخر جميع طاقات الامة وامكانياتها وفئاتها للقضاء عليها .
  كان يسير إلى الشهادة ومن حوله عشرون شابا او اكثر من بنيه واخوته وأبناء أخيه الحسن السبط ( عليه السلام ) وأبناء اخته بطلة كربلاء وشريكته في الجهاد والتضحيات وأحفاد عمه عقيل بن أبي طالب وما اسرع ان كبّر قائلا : الله اكبر ، ولم يكن الموقف موقف تكبير فلا بد وأن يكون تكبيرة لأمر ما أو لهم من همومه أراد ان يستنجد عليه بالله سبحانه وإذا كان للتكبير روعته مهما كانت دوافعه وأسبابه فما احسب أن تكبيراً في تلك الساعة كان له من الروعة ما كان لتكبير الحسين ( عليه السلام ) وهو منطلق في تلك الصحراء المديدة إلى الهدف الاسمى والغاية العليا تحت سماء العراق الصافية ، على رأس ذلك الركب كبّر الحسين فكانت تكبيرة لم يعرف التاريخ تكبيراً اكثر منها دويا ، تكبيرة اقتحمت تلك البيداء ومضت من صعيد إلى صعيد تهز النفوس وتثير الضمائر الحية وتحض على الظالمين والعابثين بتراث محمد ورسالته .
  وما كان لعلي الاكبر ابن العشرين الذي كان يسير الى جنب ابيه إلا ان يسأل أبال لم كبّرت يا أبتاه ؟ فقال له : لقد خفقت خفقة فعنّ لي هاتف وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا تسير في اثرهم فعلمت ان نفوسنا نعيت الينا .
  لقد كان جواب الحسين لولده موجزا وبكلمة واحدة لا مواربة فيها ولا تمويه انه الموت ينتظرنا على الطريق وسوف نموت ولا نستسلم للطغاة ولا نهادن الجور والتسلط على عباد الله والمستضعفين في الأرض ، مع انه لا سبيل لنا إلى استنهاض ثورة عارمة تدك عروش اولئك الطغاة

من وحي الثورة الحسينيّة _ 56 _

  بقوتها المادية تنتصر عليهم بقوة السلاح وكثرة الرجال ، ان سبيلنا الوحيد هو بين أيدينا ورهن ارادتنا وهو ان نكون وحدنا الثورة ومن غير المعقول ان نتغلب بهؤلاء السبعين على ألوفهم ونهزم بهم سبعين الفا من رجالهم ولكن باستطاعتنا ان نقلب الدنيا على رؤوسهم إذا ضحينا وقتلنا في سبيل الإسلام ورسالته .
  وكان الحسين ( عليه السلام ) وهو يلقي كلماته هذه على ولده علي الأكبر ابن العشرين وأشبه الناس بجده الرسول الأمين خَلقا وخُلقا يريد ان يسمع رأي ولده الأكبر ولم ينتظر الإمام طويلاً حتى سمع جواب الشاب الذي بادره بقوله : يا أبتاه لا أراك الله سوء أولسنا على الحق ، هذا هو القول الفصل عند علي بن أبي طالب وأبنائه شيوخاً وشباباً والقرار الأولوالأخير انهم يسعون إلى الحق ويعملون من اجله ويحاربون الباطل وحيث يكون الحق فهو هدفهم وغايتهم مهما كلفهم ذلك من جهود وتضحيات .
  أولسنا على الحق يا أبتاه ؟ هكذا كان جواب الأكبر ابن العشرين لابيه ، وكان رد الحسين عليه السلام : بلى والذي إليه مرجع العباد ، ورد عليه ولده بقوله : اذن لا نبالي بالموت ما دمنا نموت محقين .
  ان الحسين ( عليه السلام ) لم يكن ينتظر من ولده غير هذا الجواب ولكنه لم يتمالك إلا ان يزهو بمثل هذه الروح التي يحملها شاب في مطلع شبابه فرد عليه قائلا : جزاك الله من ولد خير ما جزي ولداً عن والده .
  ان علي الأكبر بكلماته هذه لم يكن يعبر عن نفسه وروحه خاصة بل كان يتكلم باسم الشباب العشرين من أحفاد ابي طالب وكان يعلن قرارهم الاخير الذي هاجروا من المدينة لاجله وكان في طليعة اولئك الشباب العشرين العباس بن علي اكبرهم سنا وكان الحسين يحبه حب الأخ لأخيه والوالد لولده الوحيد وللعباس من المؤهلات والصفات الفاضلة ما جعله

من وحي الثورة الحسينيّة _ 57 _

  محببا لكل عارفيه ، وكما تكل الأكبر باسم الطالبيين جميعاً فقد تكلم العباس باسمهم بمناسبة اخرى وبنفس الروح والعزيمة والاستهانة بالحياة التي كان يحملها الأكبر وذلك عندما عرض عليه ابن ذي الجوشن الأمان لاتصال أمه أم البنين بنسبه فرد عليه العباس بعد أن أمره الحسين بالرد عليه قائلا : لعنك الله ولعن امامك أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له ، ولقد كرروا تصميمهم على التضحية في سبيل الحق الذي يمثله الحسين مرة أخرى وذلك عندما جمع الحسين أنصاره وأهل بيته وأذن لهم بالإنصراف وقال :
  ان القوم لا يريدون غيري وقد اذنت لكم بالإنصراف في ظلمة هذا الليل فاتخذوه جملاً وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، وكان أول المتكلمين باسمهم جميعاً العباس بن علي فقال : ولم نفعل ذلك لنبقى بعدك يا ابا عبدالله لا أراني الله ذلك ابدا ، وتتابعوا جميعاً على الكلام بنفس الروح واللغة التي تكلم بها العباس .
  وفي اليوم العاشر من المحرم اليوم الحاسم الرهيب كان الشباب أحفاد ابي طالب يتسابقون إلى الموت بأرواحهم الطيبة السخية بالبذل والفداء في سبيل الحسين ، وكما كان الأكبر يتكلم باسمهم ويعبر عما في نفوسهم وضمائرهم فقد كان اول شهيد من اولئك الشباب الابطال وحينما اقبل على المعركة قال :
انا علي بن الحسين بن علي        نـحن وبيت الله أولى iiبالنبي

والله لا يحكم فينا ابن الدعي
  وتناولته السيوف والرماح بعد ان فتك بهم فتكا ذريعاً وقتل نحوا من مائتين من فرسانهم وأبطالهم الاشداء وأدى للبطولة حقها وللشهادة كرامتها وتتابع الطالبيون من بعده شاباً بعد شاب دفاعا عن الحق

من وحي الثورة الحسينيّة _ 58 _

  والعقيدة وكرامة الإنسان ومبادئ الإسلام مطمئنين بالمصير الذي أعد لهم والنصر المبين ، عشرون شاباً من نسل ابي طالب وأحفاد محمد بن عبدالله رفضوا الذل والهوان ومشوا إلى الموت بأنوف شامخة ورؤوس مرفوعة عالية لحماية الإسلام من الوثنية والجاهلية الرعناء التي حمل لوائها يزيد بن ميسون بعد أبيه معاوية وجده ابي سفيان عدو الإسلام الأكبر الذي ارغمه الإسلام على الإستسلام عام الفتح ووقف بين يدي محمد بن عبدالله ذليلاً يستجديه العفو والصفح .
  مشوا إلى الموت يرددون مقالة جدهم ابي طالب وهو يخاطب ابا سفيان وحزبه يوم كانوا يطاردون النبي في مكة ويسومونه كل أنواع العسف والجور ويساومون ابا طالب ليتخلى عنه وهو يقول لهم :
كذبتم وبيت الله نخلي محمداً        ولما  نطاعن دونه iiونناضل
وننصره  حتى نصرع iiحوله        نـذهل عن ابنائنا iiوالحلائل
  ان ابا طالب حينما أنشد هذين البيتين لم يقصد بهما نفسه ولا جيله من الهاشميين والطالبيين بل كان يقصد بهما كل هاشمي من نسله ويناشد كل جيل من أحفاده ان يضحي بنفسه وبكل ما لديه عندما يرى رسالة محمد معرضة للتحريف والتزوير والاستغلال كان يخاطبهم من وراء الغيب أينما وجدوا ليكونوا حماة لرسالة محمد ونهجه ، وهكذا كان فلقد نفذوا جميع وصاياه وناضلوا وضحوا بأنفسهم من اجلها حتى استشهدوا حوا الحسين تاركين للعالم وللتاريخ صوراً ناصعة من الوفاء ودروساً غنية بالعطاء والمثل العليا تستلهم منها الاجيال كل معاني الخير والنبل والفضيلة .
  لقد نفذ احفاد ابي طالب كل وصاياه ووقفوا في وجه اولئك الجلادين والفراعنة أحفاد ابي سفيان يناضلون ويدافعون عن رسالة محمد وتعاليم محمد بنفس الروح والعزيمة التي كان جدهما ابا طالب يدافع ويناضل بهما ويقول لابن اخيه :
والله لن يصلوا اليك بجمعهم        حتى  اوسد في التراب iiدفينا
ولقد  علمت بأن دين iiمحمد        مـن  خير اديان البرية iiدينا
  ان ابا طالب الذي وقف إلى جانب الدعوة ودافع وناضل عنها وعن صاحبها بكل ما لديه من مال وجاه وقوة منذ ان بزغ فجرها ولم يتنازل عن مواقفه منها بالرغم من مغريات قريش وجبروتها وفي الوقت ذاته كان يعلن بكل مناسبة بأن دين محمد من خير أديان البرية ويأمر بنيه ذويه بالسير على خطا باعثها وحاميها واعتناق الإسلام ، ان ابا طالب صاحب هذه المواقف الكريمة الخالدة لقد مات كافرا وفي ضحضاح من نار عند اخواننا اهل السنة ومعاوية وأبا سفيان اللذين لم يفارقا الأصنام ولم يتنازلا عن وثنيتهما لحظة واحدة كما تؤكد ذلك مواقفهما من الإسلام وحماة الإسلام في عشرات المناسبات ، ماتا مسلمين مؤمنين ومن عدول الصحابة ، وعشرات الشواهد تدل على ان ابا طالب سلام الله عليه لا ذنب له عند الامويين ورواتهم ومحدثيهم إلا انه والد الإمام علي بن ابي طالب الذي ضعضع كبريائهم وداس عنصريتهم ووثنيتهم بقدميه في بدر وأحد والأحزاب ، وفضح مخططاتهم في سيرته وسلوكه وسياسته ، ولو استطاعوا ان يلصقوا به الشرك لم يقصروا ، ومع ذلك فقد وضع لهم ابو هريرة وابن جندب وكعب الأحبار والزبيريون وابن شهاب الزهري عشرات الأحاديث في ذمه وتجريحه ولعنوه على منابرهم نحواً من مائة عام

من وحي الثورة الحسينيّة _ 60 _

  ولكنهم كانوا بما اقترفوه في حقه كأنهم يأخذون بضبعه إلى السماء وكأنهم كانوا ينشرون جيف الحمير فيما وضعوه من الأحاديث في فضل بعض الصحابة والأمويين على حد تعبير الشعبي وعبدالله بن عروة لولديهما .
  ومهما كان الحال فستبقى مواقف انصار الحسين وشباب كربلاء بالذات في سبيل الحق والمبدأ والعقيدة مثلا كريماً لكل ثائر على الظلم والجور والطغيان إلى حيث يشاء الله وسلام الله عليهم وعلى جدهم ابي طالب حين ولدوا وحين استشهدوا وحين يبعثون مع الأنبياء والصديقين وشهداء بدر وأحد ورحمته وبركاته .
  ونتمنى على شبابنا الذين ينشدون التحرر من الاستغلال والاستعباد وتسلط الحاكمين ان يرجعوا إلى تعاليم الإسلام وسيرة اهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم من وثنية الأمويين وعنصريتهم ومن كل ما هو غريب عن الإسلام وبعيد عنه ونتمنى عليهم ان يرجعوا ايضاً إلى مدرسة كربلاء ليقتدوا بشبابها الذين كانوا ثورة عارمة على الظلم والتسلط والاستغلال واستعباد الانسان لأخيه الانسان وسيجدون فيها وفي الإسلام ما يغنيهم عن تلك المبادئ المستوردة من هنا وهناك والتي تنطوي على اسوأ انواع التسلط واستعباد الشعوب باسم الحرية والعدالة والديمقراطية وما إلى ذلك من الشعارات البراقة الجوفاء التي يتاجرون فيها لتضليل الشعوب والبريئين من الناس ومنه سبحانه نستمد لهم الهداية والوعي السليم ليدركوا ما تنطوي عليه تلك المبادئ من تضليل وهدم للقيم والأخلاق واستغلال للضعفاء انه قريب مجيب .
  لقد اوصى الحسين اهل بيته بالصبر بعد ما استشهد جميع اصحابه ولم يبق معه إلا اولئك الشباب من ولده وولد علي وجعفر وعقيل والحسن السبط فاجتمعوا يودع بعضهم بعضاً وهم في مطلع شبابهم

من وحي الثورة الحسينيّة _ 61 _

  كالأسود الضواري واثبت من الجبال الرواسي :
كـرام  بـأرض الفاخرية iiعرسوا        فـطابت  بـهم أرجاء تلك المنازل
اقاموا  بها كالمزن فاخضر iiوعدها        وأعـشب  مـن اكنافها كل iiماحل
زهـت ارضها من شر كل iiشمردل        طـويل  نجاد السيف جلو iiالشمائل
كـأن لـعزرائيل قـد قـال iiسيفه        لك  السلم موفوراً ويوم الكفاح iiلي
حـموا بالظبي دين النبي iiوطاعنوا        ثـباتا وخـاضت جردهم iiبالجحافل
ولـما  دنـت اجـالهم رحبوا iiبها        كـأن لـهم بـالموت بـلغة iiآمل
عطاشي بجنب النهر والماء حولهم        يـباح  إلـى الوراد عذب iiالمناهل
فـلم تـفجع الايام من قبل iiيومهم        بـأكـرم مـقـتولاً لالأم iiقـاتـل

  ورحم الله من قال في وصفهم :
هـم الـقوم مـن عليا لوي بن iiغالب        بـهم  تـكشف الـجلى ويستدفع الضر
يـحـيون  هـندي الـسيوف iiبـأوجه        تـهلل  مـن لـئلاء طـلقها iiالـبشير
يـلـفون احــاد الالــوف iiبـمثلها        اذا حـل مـن مـعقود رايـاتها نـشر
بـيـوم بـه وجـه الـمنون iiمـقطب        وحـد  الـمواضي بـاسم الـثغر iiيفتر
إذا  اسـود يـوم الـنقع اشرقن iiبالبها        لـهم  اوجـه والـشوس الوانها iiصفر
ومـا  وقـفوا فـي الحرب إلا iiليعبروا        إلـى  الـموت والخطي من دونه iiجسر
يـكرون  والابـطال نـكسا iiتـقاعست        مـن  الـخوف والأسـاد شيمتها iiالكر
إلـى  ان ثـووا تـحت العجاج iiبمعرك        هـو الـحشر لا بل دون موقفه iiالحشر
ومـاتوا كـراما تـشهد الـحرب iiانهم        ابــاة إذا الـوى بـهم حـادث iiنـكر
إبــا  حـسن شـكوي الـيك وانـها        لـواعج  أشـجان يـجيش بها iiالصدر
أتـدري  بـما لاقـت من الكرب iiوالبلا        وما واجهت بالطف ابناؤك ابن اؤك الغر

من وحي الثورة الحسينيّة _ 62 _

  
أعـزيك  فـيهم انـهم وردوا iiالردى        بـأفـئدة مــا بـل غـلتها iiقـطر
فـكم  نـكأت مـنكم أمـية iiقـرحة        إلى الحشر لا يأتي على جرحها السبر
فـمن  صـبية قـد أرضـعتها iiأمية        ضـروع الـمنايا والـدماء لـها iiدر
فـها هـي صرعى والسهام iiعواطف        حـنوا عـليها والـرمال لـها iiحجر
وزاكـية لـم تـلق في النوح iiمسعداً        سـوى  انـها بالسوط يزجرها iiزجر
ومـذهولة مـن دهشة الخيل iiابرزت        عـشية لا كـهف لـديها ولا iiخـدر
تـجـاذبها  أدي الـعـدو iiخـمارها        فـتستر بـالأيدي اذا اعـوز iiالـستر
سـرت  تـتراماها الـعداة iiسـوافراً        يـروح  بـها مصر ويغدوا بها مصر
تـطوف  بـها الاعداء في كل iiمهمه        فـيـجذبها  قـفـر ويـقذفها iiقـفر

من وحي الثورة الحسينيّة _ 63 _

بطلة كربلاء زينب بنت علي ( عليها السلام )
  لقد تحدث الناس عن البطولات والأبطال من النساء والرجال المعروفين بالجرأة والشجاعة ومقارعة الفرسان في المعارك التي كانت المرأة تقف فيها إلى جانب الرجل وتؤدي دورها الكامل بنفس الروح والعزيمة التي كان الأبطال يخوضون المعارك فيها ، وبلا شك فان اهل البيت ( عليهم السلام ) يأتون في الطليعة بين أبطال التاريخ ، وان زينب ابنة علي وفاطمة تأتي في الطليعة بعد ابيها واخوتها كما يشهد لها تاريخها الحافل بكل انواع الطهر والفضيلة والجرأة والصبر في الشدائد .
  وليس بغريب على تلك الذات العملاقة التي التقت فيها الأنوار الثلاثة : نور محمد وعلي وفاطمة ومن تلك الأنوار تكونت شخصيتها ان تجسد بمواقفها خصائص النبوة والامامة وأمها الزهراء التي امتازت بفضلها على نساء العالمين .
  ان اللسان ليعجز وان اللغة على سعة مفرداتها لتضيق عن وصفها وعن التعبير عما ينطوي عليه الإنسان من الشعور نحو المرأة الكبيرة والقدوة

من وحي الثورة الحسينيّة _ 64 _

  العظيمة ابنة علي والزهراء التي عز نظيرها بين نساء العرب والمسلمين بعد أمها البتول سيدة نساء التي ابتسمت للموت حين بشرها به الرسول الامين في الساعات الاخيرة من حياته وقال لها : انت اول اهل بيتي لحوقا بي .
  ان الالمام بحياة بطلة كربلاء في عهود الطفولة والصبا والامومة وكيف نشأت طفلة وشابة برعاية امها الزهراء وأبيها الوصي وفي بيت زوج كريم من كرام أحفاد ابي طالب ، وبعد ان اصبحت أما لأسرة غذتها بتعاليم الإسلام وأخلاق امها وأبيها يضطرنا الى التطويل الذي يعرض القارىء للملل في الغالب ، وفي الوقت ذاته فان الحديث عن بطولاتها التي لا تزال حديث الاجيال والتي تجلت في رحلتها مع اخيها تاركة بيتها تحث الخطا خلفه في رحلته الى الشهادة لتعلم الرجال والنساء كيف يموتون في مملكة الجلادين يضع بين يدي القراء صورة كريمة عن ذلك الغرس الطيب وعن مراحل نموه حتى بلغ الى هذا المستوى من النضوج والقدرة على الثبات والصمود في وجه تلك الإحداث التي لا يقوى على تحملها احد من الناس .
  ومهما كان الحال فلعلنا بعد هذا الفصل نتوقف لإعطاء فكرة كافية عن ذلك الغرس الطيب وكيف نما وتكامل نموه حتى بلغ أشده ونهض بأعباء المسؤولية العظمى وأدى دوره الكامل عندما وقعت تلك المأساة الكبرى التي حلت بالعلويين والطالبيين رجالاً ونساء على تراب كربلاء ، وكيف استطاعت ان تتحمل تلك الصدمة وتقوم بدورها الكامل بالحكمة والصبر الجميل ذلك الدور الذي يمثل اسمى درجات البطولة وأغناها بالقيم والمثل العليا ، لعلنا بعد هذه اللمحات عن مواقفها في كربلاء تتحدث في فضل مستقل عن مراحل حياتها التي أهلتها لتلك المواقف التي لا تزال حديث الاجيال .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 65 _

  لقد ثبتت في ذلك الموقف كالطود الشامخ تاركة على تراب كربلاء آثار مسيرتها ومواقفها بين تلك الضحايا التي لا تزال حديث الاجيال ومثلا كريما لكل ثائر على الظالم والجور وللمرأة التي تعترضها الخطوب والشدائد خلال مسيرتها في هذه الحياة .
  لقد كان عويل النساء وصراخ الصبية وضجيج المنطقة كلها بالبكاء والنياحة كفيلا بأن يهد اقوى الاعصاب ويخرس أفصح الالسنة والخطباء ويقعد بأكبر الرجال ولو لم يكن يتصل بتلك الضحايا بنسب او سبب ، فكيف بمن رأى ما حل بأهله وبنيه واخوته وأبناء اخوته وعمومته وأحس بثقل المسؤولية وجسامتها ، ولكن ابنة علي ذلك الطود الاشم الذي كان أثبت من الجبال الرواسي في الشدائد كانت تجسد مواقف ابيها في كل موقف تتزلزل فيه أقدام الابطال وبقيت ليلة العاشر من المحرم ساهرة العين تجول بين خيام اخوتها وأصحابهم وتنتقل من خيمة الى خيمة وهم يستعدون لمقابلة ثلاثين الف مقاتل قد اجتمعوا لقتال اخيها وبنيه وأنصاره ورأت اخاها العباس جالساً بين اخوته وأحفاد ابي طالب وهو يقول لهم : اذا كان الصباح علينا ان تتقدم للمعركة قبل ان يتقدم اليها الانصار لان الحمل الثقيل لا ينهض به إلا اهله .
  وفي طريقها الى خيام الانصار سمعت حبيب بن مظاهر يوصيهم بأن يتقدموا إلى المعركة حتى لا يرون هاشمياً مضرجاً بدمه ، وسمعت الانصار يقولون : ستجدنا كما تريد وتحسب يا ابن مظاهر ، فانطلقت نحو خيمة اخيها الحسين ( عليه السلام ) وهي تبتسم وقد غمرها السرور وطفا منه على وجهها اثر رد عليه لمحة من بهائه وصفائه ومضت تريد اخاها الحسين لتخبره بما رأت وسمعت من اخوتها والأنصار وما هي إلا خطوات حتى رأته مقبلاً فابتسمت له وتلقاها مرحباً وقال لها : منذ ان خرجنا من المدينة ما رأيتك مبتسمة ولا ضاحكة فما الذي رأيت ، فقصت عليه ما سمعته من

من وحي الثورة الحسينيّة _ 66 _

  الهاشميين وأنصارهم وظلت الععقيلة ليلتها تلك ساهرة العين تنتقل من خيمة الى خيمة ومن خباء الى خباء بين النساء والأطفال واخواتها حتى إذا اقبلت ضحوة النهار وسقط اكثر انصار اخيها ومن معه من بنيه واخوته وابناء عمه على ثرى الطف ، ورجع الحسين للوداع الاخير وزينب على جانبه كالمذهولة قال لها : مهلا اخيه لاتشقي علي جيبا ولا تخمشي علي وجها ولا تشمتي بناء الاعداء ، وأوصاها بالنساء والاطفال ، فقالت له : طب نفسا وقر عينا فانك ستجدني كما تحب ان شاء الله .
  ولما سقط عن جواده صريعا اسرعت على مصرعه وصاحت تستغيث بجدها وأبيها وأوشكت الصرخة ان تنطلق من حشاها اللاهب عندما رأت رأسه مفصولا عن بدنه والسيوف والسهام قد عبثت بجسمه وقلبه ورأت اخوتها وبنيها وأبناء عمومتها من حوله كالاضاحي ومعها قافلة من النساء والاطفال وأمامها صفوف الاعداء تملأ صحراء كربلاء فرفعت يديها في تلك اللحظات الحاسمة نحو السماء لتند عن فمها عبقة من فيض النبوة والخلود تناجي ربها وتتضرع اليه قائلة : اللهم تقبل منا هذا القربان .
  وهكذا كان على العقيلة ان تنفذ وصية اخيها وتثبت في وجه تلك الاهوال وأن تحمل قلبا كقلب ابيها في غمار جولاته وتقف كالطود الشامخ في وجه اولئك الذين وقفوا إلى جانب يزيد بن ميسون وجلاديه الممعنين في انتهاك الحرمات والمقدسات والذين باعوا ضمائرهم لاولئك الطغاة الجناة بأبخس الاثمان .
  ويقطع الحادي الطريق من كربلاء إلى الكوفة والسبايا على اقتاب الجمال تتقدمهم رؤوس سبعين من الانصار وعشرين من أحفاد ابي طالب بينهم رأس الحسين سيد شباب اهل الجنة ، وما ان أطل موكب السبايا والرؤوس ودنت طلائعه من مداخل الكوفة حتى ازدحم الناس في الطرقات ومن على المشارف والنساء على سطوح المنازل ولم يكن نبأ

من وحي الثورة الحسينيّة _ 67 _

  مصرع الحسين قد انتشر في جميع اوساط الكوفيين وأشرفت امرأة من على سطح بيتها فرأت نساء كالعاريات لولا أسمال من الثياب تقنعن بها فظنت المرأة انهن من سبايا الروم او الديلم وأرادت ان تستوثق لنفسها من الظن فطالما كانت ترى مواكب من سبايا الروم والترك تمر بالكوفة لم تر مثل ما رأت على هذا الموكب من الحزن واللوعة ، ولم تر قبل اليوم اسرى مع تلك المواكب من الصبيان يشدون بالحبال على اقتاب الجمال كما رأت في هذا الموكب فأدنت المرأة رأسها من احدى السبايا وقالت لها : من أي الاسارى انتن ؟ فردت عليها والالم يقطع أحشاءها : نحن اسارى آل بيت محمد رسول الله .
  وما كادت المرأة تسمع قولها حتى خرجت مولولة معولة وكادت ان تسقط من على سطحها من هول الصدمة والتفتت إلى النساء اللواتي على سطوحهن وقالت : انهن نساء اهل البيت ، فتعالى الصياح عند ذلك من كل جانب حتى ارتجت الكوفة بأهلها ولفت نواحيها صرخات متتالية كأنها العواصف في أرجائها والتف النسوة بالموكب يقذفن عليه الارز والمقانع ليتسترن بها بنات علي وفاطمة عن أعين الناس وغصت الطرقات بالنساء والرجال يبكون ويندبون فالتفتت ابنة علي وفاطمة اليهم ببصرها النافذ وقالت :
  يا اهل الكوفة يا اهل الغدر والختل والمكر أتبكون فلا رفأت الدمعة ولا هدأت الرنة انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً وهل فيكم إلا الصلف وملق الاماء وغمز الاعداء الا ساء ما قدمت لكم انفسكم ان سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها بعد ان قتلتم سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب اهل الجنة .
  ويسير الموكب متخطياً تلك الحشود من الرجال والنساء إلى قصر

من وحي الثورة الحسينيّة _ 68 _

  الامارة ليضمها مجلس ابن مرجانة فتجلس متنكرة مطرقة يحف بها موكب النسوة في ذلك المجلس الذميم وهو ينظر اليها ببسمة الشامت المنتصر ويسأل من هذه المتنكرة فلا ترد عليه احتقاراص وازدراء لشأنه ، وأعاد السؤال ثانيا وثالثاً فأجابته بعض امائها : هذه زينب ابنة علي ، فانطلق عند ذلك بكلمات تنم عن لؤمة وحقده وخسته قائلا : الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم ، فردت عليه غير هيابة لسلطانه ولا لجبروته قائلة : الحمد لله الذي اكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا ثكلتك امك يا بن مرجانة .
  فقال لها وقد استبد به الحقد والغضب : كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك ؟ قالت : ما رأيت إلا جميلاً ، اولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم وتختصمون عنده وستعلم لمن الفلج ثكلتك امك يا بن مرجانة .
  ويأبى له حقده وصلفه الا ان يتناول قضيباً كان الى جانبه ليضربها به ، ولكن عمرو بن حريث احد جلاوزته نظر الى الوجوه قد تغيرت على ابن مرجانة وايقن ان عملاً من هذا النوع سيلهب المشاعر لاسيما وان النفوس قد اصبحت مشحونة بالحقد والكراهية ومهيأة للإنفجار بين الحين والآخر لما حل بالحسين وبنيه وأصحابه فحال بين ابن مرجانة وما اراد فرمى القضيب من يده وعاد يخاطبها بلغة الشامت الحاقد ويقول لها : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعتاة المردة من اهل بيتك ، فبكت عند ذلك وقالت : لعمري لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت اصلي فان يكن في ذلك شفاؤك فقد اشتفيت .
  ثم يأتيه البريد بكتاب يزيد يأمره ان يحمل السبايا والرؤوس والاطفال الى قصر الخضراء في دمشق عاصمة الجلادين ، ويسير الحداة بموكب السبايا الى حيث ابن ميسون في اعتساف وارهاق في الليل

من وحي الثورة الحسينيّة _ 69 _

  والنهار ليقطع موكب الرؤوس والسبايا مسافة ثلاثين يوما في عشرة ايام ، ويضم العقيلة مجلس يزيد ورأس الحسين بن علي والزهراء بين يديه ينكث ثناياه بمخصرته ويتمثل بقول القائل :
لـيت اشـياخي ببدر iiشهدوا        جزع الخزرج من وقع الاسل
لأهـلوا  واسـتهلوا iiفـرحاً        ثـم قـالوا يـا يزيد لا iiتشل
لـعبت هـاشم بـالملك iiفلا        خـبر جـاء ولا وحـي نزل
لـست من خندق ان لم أنتقم        مـن  بني احمد ما كان iiفعل
  وكان على زينب وقد رأته بتلك الحالة فرحا مسروراً يتمثل بهذه الابيات التي تعبر عن حقده وتعصبه لجاهلية جده وأبيه ووثنيتهما ويعبث بثنايا ابي عبدالله الحسين بمخصرته ان تتكلم بين تلك الحشود المجتمعة في مجلسه لتحرق دنيا سروره وفرحه بكلماتها التي كانت أشد وقعا عليه من الصواعق والتضع الكثيرين ممن كانوا يجهلون مكانة الاسى ولا يعرفون عنهم شيئا في جو تلك الاحداث وافتتحت كلامها بعد حمد الله بقولها :
  أظننت يا يزيد حيث اخذت علينا أقطار الارض وآفاق السماء وأصبحنا نساق كما تساق الاسارى ان بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة ، ومضت في حديثها وأبصار تلك الحشود المحيطة بيزيد شاخصة اليها تذكرهم بمنطق ابيها ومواقفه بين المعسكرين في صفين حينما كان يخاطب معاوية وحزبه ويناشدهم الرجوع عن غيهم وضلالهم الى حظيرة الاسلام وعدالته السمحاء .
  ومضت تقول : أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك اماءك وحرائرك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدو اليهن الاعداء من بلد الى بلد ويستشرفهن اهل المناهل والمعاقل

من وحي الثورة الحسينيّة _ 70 _

  يتصفح وجوههن القريب والبعيد والدني والشريف وتتمنى حضور آباءك قائلا :
لـيت اشـياخي ببدر iiشهدوا        جزع الخزرج من وقع الاسل
لأهـلوا  واسـتهلوا iiفـرحا        ثـم قـالوا يـا يزيد لا iiتشل
  منحنيا على ثنايا ابي عبدالله سيد شباب اهل الجنة تنكثها بمخصرتك وستردن وشيكا موردهم وتودن انك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت ، ومضت في خطابها توجه اليه اسوأ انواع التحقير والتقريع حتى سيطرت على المجلس بمنطقها وأسلوبها الرائع ، وراح الناس يتهامسون ويتلاومون وبكى بعضهم لهول المصاب وجسامته .
  واستطردت العقيلة تقول : ولئن جرت على الدواهي مخاطبتك اني لأستصغر قدرك توبيخك ، ألا فالعجب العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء .
  لقد دخلت زينب ابنة على وفاطمة الى عاصمة الجلادين برسالتها رافعة صوتها الى كل من لهم عهد مع اهل هذا البيت وكل من آمنوا برسالة محمد في عصر وجيل وأرض ووراءها قافلة من الاسرى وصفوف العداء من امامها تملأ الافق وتسد طريقها وكانت مسؤوليتها التاريخية الكبرى هي اكمال الرسالة واتمام المسيرة ولسانا لمن قطعت ألسنتهم سيوف الجلادين ودخلت مدينة الجريمة عاصمة القهر والبطش والتنكيل بالابرياء وهناك رفعت صوتها المدوي في أعماق التاريخ لتقول لابن ميسون مستخفة به بكل ما في الاستخفاف والاحتقار من معنى .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 71 _

( ولئن جرت على الدواهي مخاطبتك اني لاستصغر قدرك )
  انها الدواهي التي لا تترك للإنسان رأيا ولا اختياراً وتسيطر على كل مشاعره وأحاسيسه هي التي فرضت عليّ ان أخاطبك يا بن ميسون ويا ربيب الشرك والوثنية ولولا تلك الدواهي الجسام لما خاطبتك ولا يمكن لذكرك ان يمر في خاطري ولو بما هو فيك ما صلف وخسة ونزق ووحشية .
  هذا الذي تعنيه بطلة كربلاء بقولها لذلك الجبار الاحمق الذي تمنى حضور أشياخه من أمية ومشركي مكة ليشاهدوا رأس الحسين بين يديه وليشاطروه الفرح والسرور وهو ينكث ثناياه بمخصرته ، هذا الذي كانت تعنيه من قولها ولئن جرت على الدواهي مخاطبتك وحضور مجلسك .
  ان مأساة العقيلة ابنة علي والزهراء تشكل الشطر الثاني من مأساة اخيها الحسين فمن صبر لا يطيقه احد من الناس الى رعاية تلك القافلة من السبايا والايتام ونضال دون البقية الباقية من آل الرسول واحتجاج

من وحي الثورة الحسينيّة _ 72 _

  وخطب واستنكار لسحق القيم وكرامة الانسان ومحو الرسالة من الاذهان ومتابعة المسيرة التي قام بها اخوها الحسين وبهذا وذاك لقد ألبت المسلمين على الطغاة والظالمين وضعضعت كبرياء الحاكمين المستبدين وخلدت ذكرى تلك المعركة التي اقلقت آل أمية وغيرهم من الظلمة وفراعنة العصور وخطت هي واخوتها بأحرف من النور الوهاج الذي يبدد ظلمات الليل البهيم على تراب كربلاء وفي كل موقف وقفوه مع اولئك الجبابرة والجلادين .

( ان دولة الباطل ساعة ودولة الحق الى قيام الساعة )
  لقد شاركت اخاها الحسين في جميع مواقفه من الظالمين ورجعت من كربلاء حاملة لرسالة ابيها وأخيها لتبلغها للأجيال من الرجال والنساء من الاجيال في كل ارض وزمان بالرغم من ضجيج الجلادين ووعيدهم وكانت القدوة التي تعلم الاجيال من سيرتها وبطولاتها معاني الرجولة ، وتعلم النساء كيف يتخلصن من فتن الاغراءات الخبيثة التي تدلهم من حولهن ومن دهاليز الحضارة الجديدة التي تقتحم العصور بمفاتنها ومغرياتها لتستل منها اخلاقها ومعتقداتها وأعرافها .
  فأين من زينب وأخوات زينب نساءنا وبناتنا الضائعات في تلك المتاهات ايمانا وعزيمة وصبراً في الشدائد والاهوال وتمسكا بالقيم وتعاليم الإسلام والاخلاق الكريمة الفاضلة .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 73 _

  وأين من الحسين وأنصاره من يدعون التشيع للحسين وأبيه وأبنائه ، وقد باعوا انفسهم لمن يحملون روح يزيد ومعاوية بأبخس الاثمان كما باعها أسلافهم لمعاوية وأمثال معاوية من الحاكمين والجلادين من قبل .
  ان الاحداث الجسام التي اعترضت حياة العقيلة ابنة علي والزهراء في معركة كربلاء وما تلاها من المواقف ألفتت اليها الانظار وجعلتها في طليعة الابطال ومن شركاء الحسين ( عليه السلام ) في جميع مواقفه من اولئك الطغاة ، فتحدث عنها المؤرخون وأصحاب السير في مجاميعهم والكتاب المحدثون في مؤلفاتهم ، وأشاد الخطباء بفضلها ومواقفها من على المنابر ونظم الكثير من الشعراء القصائد الرنانة في وصف احزانها وأشجانها وصبرها وثباتها ونذكر على سبيل المثال ما جاء في وصف حالتها من قصيدة لأحد شعراء الطف السيد محمد حسين الكشوان رحمه الله يقول فيها :
اهوت على جسم الحسين iiوقلبها        المصدوع كاد يذوب من حسراتها
وقـعت  عليه تشم موضع iiنحره        وعـيونها  تـنهل فـي iiعبراتها
تـرتاع من ضرب السياط iiفتنثني        تـدعو  سـرايا قومها iiوحماتها
ايـن  الـحفاظ وهـذه iiأشلاؤكم        بـقيت ثـلاثاً فـي هجير iiفلاتها
ايـن  الـحفاظ وهـذه iiفـتياتكم        حـملت على الاقتاب بين iiعداتها
ومـخدرات  مـن عـقائل iiاحمد        هـجمت  عليها الخيل في iiابياتها
حـملت  برغم الدين وهي iiثواكل        عـبرى  تـردد بالشجى زفراتها
  وله من قصيدة اخرى في وصفها عندما شاهدت اخاها صريعا على

من وحي الثورة الحسينيّة _ 74 _

  ثرى الطف وقد عبثت سيوف الاعداء ورماحهم بجسمه وأعضائه :
وهـاتفة  مـن جانب الخدر ثاكل        بدت وهي حسرى تلطم الخد iiباليد
يـؤلمها  قـرع الـسياط iiفتنثني        تـحن فـيشجي صوتها كل iiجلمد
وسيقت على عجف المطايا اسيرة        يـطاف  بها في مشهد بعد مشهد
سـرت  تـنهاداها عـلوج iiأمية        فـمن  ملحد تهدي الى شر iiملحد
  ورحم الله هاشم الكعبي الذي هيمن عليه الولاء لأهل البيت وانتقل به من عالمه ودنياه الى عالم الثواكل في كربلاء فشعر بشعورهن وأحس بأحاسيسهن حتى اصبح مثلهن ثاكلاً يندب وينوح بعبرات تحيي الثرى وزفرات تدع الرياض همودا فقال في وصف زينب وأخواتها بعد ان انجلت المعركة عن تلك المجزرة الرهيبة :
وثواكل  في النوح تسعد iiمثلها        أرأيـت  ذا ثـكل يكون iiسعيداً
نـاحت فـلم تر مثلهن نوائحا        اذ  لـيس مـثل فقيدهن iiفقيدا
لا  العيس تحكيها اذا حنت iiولا        الورقاء تحسن عندها iiالترديداً
ان  تنع اعطت كل قلب iiحسرة        او تـدع صدعت الجبال iiالميدا
عبراتها تحي الثرى لو لم iiتكن        زفـراتها تدع الرياض iiهمودا
وغذت اسيرة خدرها ابنة فاطم        لـم تلق غير اسيرها مصفودا
تـدعو بلهفة ثاكل لعب الاسى        بـفؤاده  حـتى انطوى iiمفؤدا

من وحي الثورة الحسينيّة _ 75 _

تخفي الشجا جلداً فان غلب الاسى        ضـعفت  فأبدت شجوها iiالمكمودا
نـادت  فـقطعت القلوب بشجوها        لـكـنما انـتظم الـبنيان فـريدا
انـسان  عـيني يـا حسين iiاخي        يـا  املي وعقد جماني iiالمنضودا


ما بعد مجزرة كربلاء
  لقد احدثت تلك المجزرة هزة عنيفة في العالم الاسلامي لم يعرف المسلمون في تاريخهم الحافل بالاحداث أعنف منها او مثلها ولا حادثا من الاحداث كان له من الآثار العميقة في النفوس والعقائد والحياة السياسية والاجتماعية والادبية ما كان لمجزرة كربلاء .
  لقد تركت تلك المجزرة صدمة في نفوس المسلمين لم يحدث التاريخ بمثلها وألهبت مشاعر المسلمين ولا تزال ذكراها تلهب المشاعر وتثير الاحاسيس حتى يومنا الحالي وستبقى لها تلك الآثار ما دام التاريخ وأصبح التشيع بعدها عقيدة ممزوجة بالدماء متغلفة في النفوس بعد ان كان عقيدة هامدة تنقصها الحامس وشتان بين العقيدة الهامدة والعقيدة الممزوجة بالحماس والدماء ، وغدت ذكرى تلك المجزرة الرهيبة الملطخة بدماء آل بيت الرسول كافية لان تثير عاطفة الحماس والحزن في قلوب الناس في مختلف العصور ومنبعاً لكل ما يلهب النفوس وحتى للأخيلة والاقاصيص .
  ولا احسب ان في كل ذلك شيئا من الغلو والغرابة لان المسلمين على