من الفضائل والمناقب اسمى وألزم لنوع الانسان من تلك التي اقترنت باسم الحسين ( عليه السلام ) بعد مصرعه فيها ولولا الحسين وشقيقته زينب شريكته في الجهاد والتضحيات وبقية الائمة لم تكن تلك القباب الشامخة التي اصبحت رمزا للحق والعدالة والفضيلة ومقصدا لمئات الالوف من المسلمين في كل عام شيئاً مذكوراً .
  ومهما كان الحال فمرقد العقيلة زينب بنت علي وفاطمة مردد بنظر العلماء والباحثين بين المدينة المنورة والشام ومصر ، وكما ذكرنا ان مرقدها في المدينة لم يعد له وجود كغيره من مراقد الائمة وأعلام الصحابة والتابعين ، لان بناء المراقد وتعظيم من حل فيها على حد الشرك بالله بنظر حماة الحرمين ، اما المرقدين المنسوبين اليها في الشام ومصر فلا يزالان كعبة الوفاد في كل عام على مرور الشهور والأيام تقصدهما مئات الألوف للزيارة والتوسل بها وبأبيها وجدها لقضاء حوائجهم ، ولا أحسب ان الذين يتوافدون على زيارة ابيها وأخيها في كربلاء والنجف اكثر ممن يتوافدون على المرقدين المنسوبين اليها في الشام والقاهرة ، وجاء في جريدة الاهرام تاريخ 23 ـ 6 ـ 1972 مقال للإستاذ فتحي رضوان وزير الثقافة يومذاك يصف فيه الوافدين على حي السيدة زينب جاء فيه :
  ان مسجد السيدة زينب تشد إليه الرحال وكأنه الكعبة اكثر مما تشد الرحال الى المسجد الحسيني ، فالألوف الذين يقصدون هذا المسجد من فقراء الريف والحضر من النساء والرجال والمرضى وأصحاب الحاجات من المغلوب على امرهم والذين سدت في وجوههم الأبواب وتحطمت الآمال كانوا قد اطلقوا على صاحبة الضريح اسماء تدخل إلى قلوبهم العزاء وتبعث فيهم الرجاء وكانوا يهتفون حول قبرها : يا أم العواجز ويا أم هاشم ويا ابنة محمد والزهراء ، ومضى يقول : ولكم رأيت رجالا ونساء في مقتبل العمر وفي خريف الحياة قد وضعوا ايديهم على شباك ضريح السيدة

من وحي الثورة الحسينيّة _ 127 _

  زينب ورائحة البخور تملأ المسجد كله وراحوا يهمسون في ذهن أم العواجز وقد تمثلت لهم بشرا يسمع ويتنفس ويمد راحتيه ويضعهما بين أيد الزائرين والقاصدين واصوات الزائرين تتعالى يا أم العواجز ويا أم هاشم يا اخت الامام ويا بنت الإمام نظرة بحق جدك النبي .
  والآن ونحن بصدد الحديث عن مرقدها الشريف الذي تدعيه الاقطار الثلاثة ويتوافد عليه المسلمون من جميع الاقطار لا لشيء إلا لأنها وقفت إلى جانب اخيها من الطغاة والظالمين دفاعا عن الحق والعقيدة وكرامة الإنسان وبقيت في سجل الخالدين والخالدات لتكون القدرة الصالحة الغنية بالمثل والقيم للرجال والنساء في جميع نواحي الحياة .
  لا بد لنا ونحن بصدد البحث عن مرقدها ان نقف ولو قليلاً مع أدلة الأقوال الثلاثة في محاولة كشف ما أحيط بمرقدها من غموض لا يزال محل اخذ ورد بين الباحثين . لم يختلف احد من المؤرخين والمحدثين بأن السيدة زينب بنت علي وفاطمة تركت بيتها وزوجها ورافقت اخاها الحسين ( عليه السلام ) في رحلته إلى الشهادة التي لم يجد وسيلة غيرها لانقاذ شريعة جده مما كان يخططه لها الحزب الأموي الحاكم من تحريف وتشويه وأدت دورها خلال مواقفها في كربلاء والكوفة ومجلس بن ميسون في قصر الخضراء ،
  تلك المواقف التي جعلتها في طليعة الخالدين والخالدات من ابناء آدم وحواء ، كما لم يختلفوا في انها رجعت من الشام على رأس تلك القافلة من السبايا والاسرى الى مدينة جدها عاصمة الإسلام الاولى في الحجاز ، وان مسؤوليتها التاريخية كانت هي اثارة الرأي العام الإسلامي على حكومة يزيد وجلاديه واستطاعت خلال اشهر معدودات ان تلهب المشاعر وتقلب الدنيا على رؤوس الحاكمي حتى اصبحت المدينة التي كان الحاكمون يحسبون لها الف حساب وحساب بكل فئاتها الموالية لاهل البيت وغيرها

من وحي الثورة الحسينيّة _ 128 _

  تكيل اللعنات لأمية وأحفادها وترى ان من أقدس واجباتها مناهضة الحكم الأموي وأعلان موقفها المعادي منه مهما كلفها ذلك من تضحيات ، كل ذلك لم يخالف فيه احد من الباحثين والمؤرخين اما خروجها من المدينة بعد ان دخلت اليها حاملة لرسالة اخيها الى الشام مع زوجها بسبب المجاعة التي اجتاحت المدينة سنة 67 للهجرة او 74 كما جاء في رواية ثانية إلى قرية كان يملكها في الغوطة من ضواحي الشام وعند وصولها الى مشارف الشام عاودتها تلك اذكريات الاليمة المريرة وخيم عليها جو من الحزن والألم تسبب لها بمرض كانت به نهاية حياتها ودفنت في تلك الضيعة حيث مرقدها الان ، كما يدعي القائلون بأن المرقد الحالي لقد ضم رفاتها وهو لها لا لغيرها من الزينبيات العلويات اللواتي يحملن هذا الإسم فليس في التاريخ ما يبعث على الاطمئنان بصحته .
  وممن ذهب الى ذلك من الذين كتبوا على مرقدها المازندارني في الجزء الثاني من معالي السبطين والسيد حسن الصدر وصاحب الخيرات الحسان والسيد هبة الدين الشهرستاني عن ناسخ التواريخ لمؤلفه لسان الملك ، كما جاء في كتاب المرقد الزينبي للشيخ عمران القطيفي .
  والظاهر اتفاق جميع القائلين بأن الرقد الموجود في ضواحي الشام هو مرقدها على ان رجوعها إلى الشام كان بسبب المجاعة التي اصابت اهل المدينة وان زوجها عبدالله بن جعفر انتقل بها سنة 65 او 74 الى ضيعته بغوطة دمشق وتوفيت بها في النصف من رجب ذلك العام .
  لقد اختلف القائلون بأنها توفيت في ضواحي الشام وفي صاحيتها حيث المرقد الموجود الآن دفنت في تاريخ وفاتها بين 65 و74 واتفقوا على ان المجاعة التي اصابت اهل المدينة هي التي فرضت على زوجها الرحيل بها الى ذلك المكان ، في حين ان المجاعة التي تفرض على شخص كعبدالله بن جعفر كان واسع الثراء وكثير العطاء ويعرف ببحر الجود وتضطره على ان يرحل بزوجته وأولاده الى غوطة

من وحي الثورة الحسينيّة _ 129 _

  دمشق لا بد وأن يكون لها اثرها البالغ بالنسبة لعامة الناس وأن تفتك بالطبقات الكادحة الفقيرة ، وحدث من هذا النوع يصيب مدينة الرسول في تلك الفترة من التاريخ لا يتجاهله التاريخ ولا الذين كانوا يسجلون أحداث العالم الإسلامي صغيرها وكبيرها ، مع العلم ان المؤرخين لإحداث 65 و74 لم يتعرض احد منهم لحدث من هذا النوع وعلى تقدير صحة ذلك فلا بد وأن تكون المجاعة التي شردت بحر الجود وعقيلته الحوراء ابنة علي وفاطمة قد اصابت بقية العلويين والعلويات وتلك القافلة من النساء والاطفال التي كانت ترعاها وتحرسها عقيلة آل ابي طالب ، فالى اين ذهب العلويون بنسائهم وأطفالهم وعلى رأسهم الإمام علي بن الحسين زين العابدين ( عليه السلام ) الذي لم يفارق المدينة وبها كانت وفاته .
  ان التاريخ لم يتعرض لشيء من هذا النوع ، وهل يجوز على بحر الجود وعقيلته ان يتركا العلويين والطالبيين وأبناء الحسن والحسين يتجرعون مرارة الجوع ويفرا منها الى عاصمة الجلادين دمشق التي سيقت اليها بالامس القريب ابنة علي والزهراء على رأس تلك القافلة من الاسرى والرؤوس التي كانت يتقدمها رأس الحسين ( عليه السلام ) وكانت تتمنى الموت في كل مرحلة كان الحداة يسيرون بها وتفضله على ان تتعرض لاولئك الشامتين من اعداء جدها وأبيها ، فهل يجوز عليها مع ذلك كله وعلى ابن عمها بحر الجود ان يتركوا العلويين ونساءهم وأطفالهم يقاسون آلام الجوع ومرارته ويذهبا الى عاصمة معاوية لينعما بطيبات العيش ومتع الحياة ، لو جاز ذلك على اب المساكين كما كان يسميه اهل المدينة لا يجوز على من وهبت حياتها لخدمة اخيها وعائلته ورعايتها بعد مصرعه كما اوصاها بذلك .
  ان الذين رووا أسطورة خروج عبدالله من المدينة الى قريته بضواحيها مع زوجته عقيلة الطالبيين كلهم من متأخري المؤلفين ومن غير

من وحي الثورة الحسينيّة _ 130 _

  المعروفين ببعد النظر وتحري الحقائق ، ولم يسندوها الى احد المؤرخين القدامى ولا الى احد الرواة الذين كانوا يتتبعون أحداث تلك الفترة من تاريخ المسلمين .
  هذا بالإضافة الى ان سنة خمس وستين كانت سنة صراع على الخلافة بين الامويين انفسهم في بلاد الشام وكان قد تغلب على دمشق الشام الضحاك بن قيس بعد ان اتفق الأمويون على خلافة مروان وخالد بن يزيد من بعده ومن بعدهما عمرو بن سعيد بن العاص وبعد ان اتفق رأي الأمويين على التوجه إلى دمشق وكان الضحاك قد تغلب عليها ووقعت بينهم معارك طاحنة في مرج راهط وكان مع الضحاك جماعة من اهالي دمشق وفتيانهم الاشداء وأمده النعمان بن بشير عامل حمس بشر حبيل ابن ذي الكلاع في اهل حمص وزفر بن الحارث الكلابي بقيس بن طريف ابن حسان الهلالي وانتهت المعركة لصالح مروان بن الحكم والأمويين (1) ، ومن المستبعد والبلاد الإسلامية تموج بالفتن بسبب الصراع على الحكم والمعارك بين مروان بن الحكم ومعارضيه في ضواحي دمشق وعلى ابوابها ان يرحل بزوجته وأولاده الى قريته الواقعة في ضواح دمشق كما يدعي القائلون بذلك .
  اما القول بأنها هاجرت مع زوجها الى غوطة دمشق هربا من المجاعة سنة 74 هجرية فهو ابعد عن الواقع من القول الاول ذلك لان المسعودي في المجلد الثاني من مروجه يقول ان عبدالله بن جعفر توفي وله من العمر سبع وستون سنة ، ويدعي عبد العزيز سيد الأهل ان عبدالله بن جعفر كان له من العمر عشر سنوات عند وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن الجزء الثاني من معالي السبطي ولازم ذلك ان ولادته كانت في الحبشة كما هو مؤكد

---------------------------
(1) انظر تاريخ اليعقوبي الجزء الثالث ص 3 طبع النجف .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 131 _

  اما في السنة التي هاجر فيها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى المدينة او قبلها وهو اكبر اولاد جعفر الطيار ويروي الرواة عنه انه قال : لقد دخل علينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد موت ابي وقال : لا تبكوا على اخي بعد اليوم ودعا بالحلاق فحلق رؤوسنا ولابد وان يكون في السادسة او السابعة يومذاك على ابعد التقادير فلم يعد مجال للقول بأنه هاجر إلى ضيعته في ضواحي الشام سنة 74 لان وفاته تكون قبل هذا التاريخ بسبع سنوات تقريباً اذا لم يكن قد عاش اكثر من سبع وستين عاماً كما يدعي ذلك المسعودي وغيره .
  ومهما كان الحال فالقول بأن المرقد الزينبي الموجود في ضاحية دمش الذي يقصده مئات الألوف من المسلمين في كل عام للزيارة والتبرك ويبذلون في سبيله الملايين من النقود هو لزينب الكبرى عقيلة الهاشميين لا يعتمد على دليل مقبول ولا يؤيده المنطق ولا الدراسة بحال من الأحوال بل هو لاحدى العلويات بلا شك في ذلك وسيبقى تعيينها غامضاً لعدم توفر الادلة على هذا الأمر ، ولا يمنع ذلك من زيارة العقيلة في ذلك المكان ما دام يرمز الزائر يقصدها بالذات ، وما دامت الأعمال مرهونة بالنوايا .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 132 _

المرقد الزينبي في مصر
  بعد استقصاء أدلة القائلين بأن السيدة زينب توفيت في مصر ودفنت فيها في المرقد المنسوب الها بعد استقصاء تلك الادلة يبدو للمتتبع ولاول نظرة انها أسلم وأقرب الى المنطق من أدلة القائلين بأنها خرجت مع زوجها الى ضاحية من ضواحي الشام فرارا من المجاعة وتوفيت فيها كما تشير إلى ذلك رواية القائلين بأن مرقدها في محلة الفسطاط من القاهرة .
  لقد اعتمد القائلون بأنها توفيت في مصر ودفنت فيها على رواية ابن عساكر في تاريخه الكبير وابن طولون في كتابه الزينبيات ، ويدعي أنصار هذا الرأي انها بعد رجوعها من السبي مع عائلة الحسين وعائلات القتلى من آل ابي طالب والانصار كانت لا تدع البكاء والنحيب والحديث بما جرى للحسين ومن معه وتحاول اثارة الرأي العام على الأمويين وأنصارهم واستطاعت خلال اشهر معدودات ان تشحن النفوس بالحقد والكراهية ليزيد وأسرته وأصبحت المدينة كالبركان المهيأ للإنفجار بين لحظة وأخرى فكتب عمر بن سعيد الاشدق الى يزيد يخبره بتأزم

من وحي الثورة الحسينيّة _ 133 _

  الموقف وبمواقف العقيلة التي ألهبت المشاعر وهيجت عليه الرأي العام فكتب اليه كما جاء في ص 185 من زينب الكبرى للشيخ جعفر نقدي عن الطراز المذهب لعباس قلي خان فكتب اليه ابن معاوية يأمره بأن يفرق بينها وبين الناس ويخرجها من الحجاز فجاءها الوالي وعرض عليها كتاب يزيد بن مسيون وطلب منها ان تخرج من الحجاز الى حيث شاءت فرفضت طلب الوالي وأصرت على عدم خروجا من المدينة ، وقالت : لقد علم الله بما جرى علينا من القتل والسبي ، وكنا نساق كما تساق الانعام من بلد الى بلد على الاقتاب ، ومضت تقول : فوالله لا اخرج من مدينة جدي وان أهرقت دماؤنا على حد تعبير الراوي ، ولما أصر الوالي على اخراجها اجتمع عليها نساء بني هاشم في محاولة لاقناعها بالخروج من المدينة ، وقال لها زينب بنت عقيل : يا ابنة عماه لقد صدقنا الله وعده وأورثنا الارض تتبوأ منها حيث نشاء فطيبي نفساً وقري عينا وسيجزي الله الظالمين بما جنته ايديهم ، أتريدين بعد هذا هوانا ارحلي الى بلد آمن ، واتفق الرأي على خروجها فاختارت مصر وخرج معها من العلويات كل من سكينة وفاطمة ابنتي اخيها الحسين ، وكان ذلك سنة احدى وستين وفي شهر شعبان من تلك السنة وبعد مرور سبعة اشهر على مجزرة كربلاء وخمسة اشهر على رجوعها من السبي الى المدينة ، واستقبلها الوالي على مصر مسلمة بن مخلد الانصاري في جماعة معه وأنزلها جاره في الحمراء كما تدعي الرواية التي وصفت رحلتها فأقامت بها احد عشر شهراً وتوفيت في النصف من رجب سنة 62 هجرية ، ودفنت بالقرب من دار الوالي ومن بساتين عبد الرحمن بن عوف على حد تعبير جعفر نقدي عن النسابة العبيدلي ولم يرد في حديثه عن ملابسات رحلتها وعن سفرها ذكر لزوجها عبدالله بن جعفر ولا لاحد ممن بقي مع الاحياء من اولادها وأولاد اخوتها وغيرهم من الهاشميين

من وحي الثورة الحسينيّة _ 134 _

  وقالت الدكتورة بنت الشاطىء في ص 137 من كتابها بطلة كربلاء في وصف رحلتها الى مصر : لقد بزغ هلال شعبان من سنة احدى وستين في اللحظات التي وطأت فيها السيدة ارض النيل فاذا جموع من الناس قد احتشدت لاستقبالها وساروا في موكبها حتى بلغوا قرية بلبيس ، فقابلتهم هناك جموع آتية من عاصمة الوادي الأمين ومسلمة بن مخلدة الانصاري امير مصر في وفد من أعيان البلاد وعلمائها قد خرجوا لاستقبال ابنة الزهراء وأخت الإمام الشهيد ، فلما أطلت عليهم بطلعتها المشرقة بنور الاستشهاد والنبوة اجهشوا بالبكاء والنحيب ، ومضوا بركبها حتى اذا بلغوا العاصمة مضى بها مسلمة بن مخلد الى داره فأقامت بها قرابة عام لم تر خلاله الا عابدة متبتلة ، وكانت وفاتها عشية الاحد لاربع عشرة مضين من رجب عام 62 على أصح الأقوال على حد تعبير بنت الشاطىء .
  وأكثر الذين يدعون بأن المرقد الموجود في مصر هو مرقدها يدعون ان خروجها من المدينة كان بعد رجوعها من السبي اليها باشهر معدودات وفي الشطر الاخير من سنة 61 بالذات وأن يزيدا اخرجها من المدينة لان بقاءها بها كان يشكل خطرا على دولته وانها كانت تعمل لاعداء اهل المدينة وغيرهم من المسلمين للثورة ، ولم يسجلوا موقفا لزوجها ولا لاحد من اولادها والعلويين والطالبيين من رحلتها ولم يذكروا ان احدا منهم كان معها في منفاها .
  ويبدو بعد التتبع ان القائلين بأنها توفيت في مصر ودفنت فيها اكثر من القائلين بأن المرقد الموجود في ضاحية الشام هو مرقدها وان ابن عساكر في تاريخه الكبير وابن طولون الدمشقي في رسالته الزينبية كانا اول من تعرض لمرقدها على هذا النحو ودونه من بعدهما الشعراني في كتابه لواقح الأنوار والشيخ محمد الصبان في اسعاف الراغبين ، والشبلنجي في كتابه نور الابصار والشبراوي في الاتحاف ، الى غير ذلك ممن تأخر عنهما من المؤلفين ، في حين ان المؤلفين والمؤرخين القدامى

من وحي الثورة الحسينيّة _ 135 _

  الذين كانوا يتتبعون الاحداث كبيرها وصغيرها لم يتعرضوا لشيء من ذلك ، مع العلم بأن اخراجها من المدينة لو كان على النحو المذكور من المستبعد ان يتجاهله المؤرخون الذين كتبوا التاريخ والسير ولم يتجاهلوا شيئا مما حدث بين المسلمين وبخاصة ما كان منها في تلك الفترة من تاريخهم المشحون بالاحداث والاضطرابات .
  ومهما كان فالذي اراه ان حديث سفرها الى مصر وأسبابه ليس بأسلم من جميع جهاته من حديث سفرها الى ضواحي الشام ووفاتها بها ولا بأقرب الى الواقع منه ذلك لانهم لم يتعرضوا لزوجها عبدالله بن جعفر مع العلم بأنه كان حيا يرزق ومن أعلام المسلمين يومذاك ولا لأحد من أولادهم وأخوتها وآل ابي طالب من هذا الحادث ، وهل يجوز على رجل كعبدالله ابن جعفر الذي كان يتمتع بمكانة عالية بين اولاد المهاجرين والانصار ان يقف مكتوف اليدين من تسفير زوجته عقيلة آل ابي طالب ولايتدخل في انقاذها او يسافر معها ، وإذا جاز عليه ولو من باب الافتراض فهل يجوز ذلك على ابن اخيها السجاد وهي التي كانت ترعاه وتحرسه منذ خروجها من المدينة في ركب اخيها الى حين رجوعها اليها وقد تعرض للقتل اكثر من مرة ، ولكنها كانت تدافع عنه دفاع من لا يرى للحياة وزنا بدونه وتطلب من اولئك الجزارين ان يقتلوها قبله .
  ولماذا لم يخرج معها احد سوى فاطمة وسكينة كما تدعي الرواية واين منها اولادها وأولاد اخوتها وأحفاد عبد المطلب وأبو طالب والهاشميات من بنات ابي طالب .
  وهل كانت وحدها تحرض الناس على الثورة بعد مجزرة كربلاء وكل الدلائل تشير الى ان جميع مواقف العلويين والعلويات والطالبيات كانت تلهب المشاعر وتحث الجماهير المسلمة على الثورة والانتقام من يزيد وحزبه لمقتل الحسين .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 136 _

  ولم تكن مواقف الإمام علي بن الحسين ( عليه السلام ) بأقل تأثيرا على الرأي العام من مواقف عمته العقيلة ابنة علي والزهراء ان لم تكن اكبر تأثيراً منها .
  لقد بقي لسنوات عديدة وقيل اكثر من عشرين عاماً يبكي أباه وبقية القتلى من اخوته وابناء عمومته كلما ذكرهم ذاكر وعندما يقدم له طعامه يبله بدموع عينيه كما يدعي الرواة والمسلمون يتلوون لحاله ، وكان يدخل احيانا سوق القصابين ، ويوصيهم بأن يسقوا الذبيحة قبل ذبحها ثم يصيح : لقد ذبح أبو عبدالله عطشانا فيجتمع عليه الناس يبكون لبكائه ، ولم تكن ثورة المدينة وليدة انفعال طائش بل كانت مننتائج مواقف الإمام السجاد وعمته العقيلة والاحزان التي خيمت على اهل البيت ، بالإضافة الى تحسس المسلمين بوقع تلك الجريمة التي لم يحدث التاريخ بأسوأ منها ، فلماذا لم يأمر ابن مسيون باخراج السجاد من المدينة ، ولماذا ترك لها الخيار في الذهاب الى أي بلد شاءت ، ولم يعارض في اختيارها لمصر ، في حين ان وجودها في مصر يشكل عليه نفس الاخطار التي كان يتخوفها من بقائها في الحجاز ، لان المصريين كانوا اقرب الى العلويين من الحجازيين وفيها من الشيعة يومذاك أعداد كبيرة ، والذين رووا اسطورة خروجها الى مصر يدعون بأن المصريين تلقوها بالبكاء والعويل والنياحة كما ذكرنا .
  وإذا كان حفيد هند وأبي سفيان يحاذر من بقاء زينب ابنة علي في الحجاز ويتخوف ان يتسبب بقاؤها في الثورة عليه ، فكان من المفروض ان يضعها تحت رقابته وفي عاصمته او في الربذة كما كان يفعل ابن عفان مع من يخاف منهم ، فكان يرسلهم الى الشام ليكونوا تحت رقابة معاوية وعندما يعجز معاوية عن وضع حد لنشاطهم اما ان يضعهم في سجونه او يردهم الى المدينة ليحدد الخليفة مصيرهم ، وكانت الربذة ومن على شاكلتها من البراري المقفرة من أوفر الناس حظا بأولئك الاحرار كما فعل

من وحي الثورة الحسينيّة _ 137 _

  خليفة المسلمين مع الصحابي الجليل ابي ذر الغفاري حتى لا يرى احدا ولا يراه احد وبها كانت نهايته .
  هذا كله بالاضافة إلى ان يزيد بن معاوية بعد تلك النقمة العارمة عليه بسبب مجزرة كربلاء كان يتظاهر بالندم والتنصل من مسؤولياتها ويحاول تغطية نتائجها المريرة بالتقرب من العلويين والاحسان اليهم ، وقد اوصى مسلم بن عقبة عندما ارسله الى المدينة لقمع الثورة بعدم التعرض لاحد من العلويين والطالبيين والاحسان اليهم وجرت بينه وبين عبدالله بن العباس رحمه الله مراسلة اوردها اليعقوبي في تاريخ وغيره بعد تلك الجريمة النكراء التي ارتكبها مع اهل البيت ( عليهم السلام ) لم يترك بن عباس عيبا من العيوب الا وألصقه فيه ولا منقصة الا ووصفه فيها محتقراً له بكل ما في الاحتقار من معنى ، ومع ذلك لم يصدر منه ما يسيء اليه ولم يكن ذلك منه إلا لما تركته في نفسه تلك المجزرة الرهيبة من الخوف والقلق على مصيره ومصير اسرته ودولته بعد النقمة العامة التي شملت جميع الاوساط الإسلامية على اختلاف ميولها واتجاهاتها .
  ومهما كان الحال فان أسطورة نفي العقيلة الى مصر ووفاتها فيها ليست بأقرب إلى الواقع من خروجها من المدينة مع زوجها إلى الشام ووفاتها فيها ان لم تكن ابعد منها .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 138 _

اين مرقدها اذن
  بعد هذا العرض اليسير لآراء الفريقين القائلين بأنها دفنت في ضواحي دمشق والقائلين بأنها في محلة الفسطاط من القاهرة وما أبديناه من الملاحظات عليها اتي كما ارى تثير اكثر من الشفك في صحة ما يقال انها دفنت في احد هذين القطرين ، فلم يبق أمامنا سوى القول الذي يرجح قائلوه انها دفنت في مدينة جدها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد رجوعها من السبي بأشهر معدودات أو سنوات معدودات واثبات ذلك لا يحتاج الى مزيد من الاستدلال والبحث بعد العلم القطعي انها رجعت إلى المدينة على رأس تلك القافلة من السبايا والاسرى وتؤكد جميع المصادر انها بقيت في المدينة لمدة من الزمن تندب وتبكي وتتلوى هي والهاشميين والهاشميات على ما حل بأهلها واخوتها ويبكي لحالها القريب والبعيد والعدو والصديق واستمرت على ذلك حتى تاثرت المدينة بكل فئاتها بمواقفها ومواقف العلويين وأحزانهم وأصبحت بكل فئاتها كالبركان المهيأ للإنفجار بين لحظة وأخرى ، فرجوعها من الشام إلى المدينة لا يختلف

من وحي الثورة الحسينيّة _ 139 _

  فيه اثنان اما خروجها من المدينة بعد خمس سنوات على رجوعها اليها الى ضاحية من ضواحي الشام مع زوجها ووفاتها فيها كما يدعي القائلون بأن المرقد الزينبي الموجود في تلك الضاحية هو مرقدها ، او خروجها الى مصر بعد اشهر معدودات من رجوعها الى المدينة ووفاتها في مصر وفي محلة الفسطاط من القاهرة فلم يخرج عن دائرة الشك او الاحتمال لان الادلة التي اعتمدها انصار القولين لا تكفي لنقض اليقين السابق المتعلق بوجودها في المدينة ولا تفيد اكثر من احتمال خروجها منها ووفاتها في خارجها وما لم يوجد لدينا دليل يفيد العلم او الظن المعتبر شرعا يتعين الرجوع الى استصحاب بقائها في المدينة الى حين العلم بوفاتها .
  وهذا النوع من الاستصحاب ليس مثبتا كما تخيله بعض المؤلفين في هذا الموضوع لان المقصود منه اثبات عدم خروجها من المدينة الى زمان العلم بوفاتها فأحد جزئي الموضوع يثبت بالاستصحاب والثاني وهو وفاتها بالوجدان ، وهذا غير ما يسميه الاصوليون بالأصول المثبتة ويدعون ان أدلة الاستصحاب لا تشمل هذا النوع من الأصول التعبدية لان المقصود من الأصول المثبتة الأصل الذي يثبت امرا عاديا او علقيا لم يكن موضوعا للآثار الشرعية ، كاستصحاب حياة زيد لهذه المدة يكون حجة شرعية لناحية الآثار الشرعية المترتبة على حياته كبقاء زوجته في عصمته ووجوب الاتفاق عليها وعلى اولاده وعدم انتقال امواله الى ورثته ونحو ذلك ، أما نبات لحيته وزيادة طوله ووزنه مثلا فالاستصحاب لا يكون دليلا شرعيا بالنسبة لهذا النوع من الآثار ، ومن ذلك استصحاب بقاء زيد حيا الى زمن يلزمه بالقياس اليه ان يكون قد بلغ التسعين من عمره فان كونه من ذوي التسعين او المائة من اللوازم العقيلة او العادية لبقاء زيد حيا لسنة الثمانين فيما لو كانت ولادته سنة تسعين وحصل الشك في

من وحي الثورة الحسينيّة _ 140 _

  بقائه حيا سنة ثمانين من القرن الثاني مثلا فأدلة الاستصحاب لا تشمل هذا النوع من الآثار ، وما نحن بصدد اثباته بأصالة عدم خروجها من المدينة هو بقاؤها فيها الى زمان القطع بوفاتها ، ويرافق القطع بوفاتها القطع بأنها لم تنقل بعد وفاتها من البلد الذي توفيت فيه الى بلد اخر قد وقع عليه الاختيار ليكون مدفنا لها .
  وممن رجح انها دفنت بالمدينة في البقيع الى جوار مرقد زوجها عبدالله بن جعفر عباس قلي خان في كتابه الطراز المذهب عن كتاب بحر المصائب والشيخ ميثم البحراني كما نقل عنه الشيخ مهدي المازندراني في كتابه معالي السبطين والسيد محسن الامين في المجلد الثالث والثلاثين من أعيان الشيعة (1) .
  وجاء في المرقد الزينبي للشيخ فرج القطيفي ان لجنة الأوقاف الدينية في كربلاء اوردت في كتابها اجوبة المسائل الدينية بأن للإمام علي ( عليه السلام ) ثلاثة من البنات كل منهن تعرف بزينب وتكنى بأم كلثوم اولاهن زينب شقيقة الحسين ( عليهم السلام ) لأمه وابيه وهذه سقط عليها الحائط وتوفيت فصلى عليها الحسين ( عليه السلام ) ودفنها بالمدينة والثانية زينب الوسطى وهي من فاطمة ايضا وهذه تزوجها عبدالله بن جعفر وهي التي رافقت الحسين ( عليه السلام ) الى كربلاء مع ولديها محمد بن عبدالله وعون بن عبدالله وهي التي كانت تدير شؤون العائلة والسبايا ، ولما عادت الى المدينة سافرت مع زوجها الى ضواحي الشام على اثر مجاعة اصابت اهل المدينة وتوفيت فيها فدفنها في ضيعته واليها ينسب المرقد الزينبي الموجود هناك وتعرف بزينب الوسطى .
  والثالثة كانت تسمى بزينب الصغرى وتكنى بأم كلثوم ولكنها ليست من فاطمة الزهراء وأضافوا الى ذلك انها كانت من أشدهن بكاء ولوعة

---------------------------
(1) انظر المرقد الزينبي للشيخ عمران القطيف ص 87 وما بعدها .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 141 _

  على اخيها الحسين في كربلاء وغيرها من المواقف وبعد وقعة الحرة واستباحة المدينة كانت تقيم النياحات والمآتم على الحسين وتشنع على يزيد وجوره وهي التي نفاها عمرو بن سعيد الاشدق الى مصر وتوفيت فيها ودفنت في المكان الذي يقدسه المصريون ويتبركون به الى غير ذلك من الأقوال التي لا تعتمد على غير الحدث والظن الذي لا يغني عن الحق شيئا .
  ولقد تعرض الشيخ المفيد في ارشاده لأخوات الحسين ( عليهم السلام ) خلال حديثه عن اولاد امير المؤمنين وعد من نباته اللواتي ولدن له من غير فاطمة زينب الصغرى ، وخلال حديثه عن أحداث كربلاء وما رافقها من تقتيل وسلب وأسر وسبي لم يتعرض لغير زينب العقيلة شقيقة الحسين لأمه وابيه وأسهب في الحديث عنها وتعداد مواقفها وما تجرعته من آلام وغصص من اجل اخيها وعياله وأطفاله ، اما زينب الصغرى هذه فلم يتعرض هو وغيره من المؤلفين في مقتل الحسين لها ولم يسجلوا لها موقفها من المواقف خلال أحداث كربلاء وما تلاها من المواقف من الكوفة وقصر الحمراء وغيرهما وجميع أحاديثهم كانت عن العقيلة الحوراء .
  كما وان الذين كتبوا عن اهل البيت من أعلام الشيعة الأوائل كالكليني والصدوق والمرتضى والطوسي والحلي وغيرهم من المتقدمين لم يتعرضوا لزينب العقيلة وما جرى عليها بعد رجوعها من السبي الى المدينة بأكثر من انها كانت لا تدع البكاء والنحيب على اخيها ومن قتل معه ولا لمرقدها ومراقد غيرها من الزينبيات كما لم يتعرض لذلك أحد من المؤرخين القدامى ومن مجموع ذلك تبين ان اقرب الأقوال الى الواقع انها دفنت في المدينة وفي البقيع مقبرة المسلمين الأوائل ولم تخرج من المدينة بعد رجوعها اليها من السبي مع النساء والاطفال وابن اخيها السجاد ، واذا صح بأنه وجد على القبر الموجود في ضواحي الشام هذا

من وحي الثورة الحسينيّة _ 142 _

  قبر زينب الوسطى بنت علي بن أبي طالب كما يدعي الشيخ فرج القطيفي يمكن ان يكون القبر المذكور لاحدى بنات امير المؤمنين ( عليه السلام ) ولكن ذلك وحده لا يبعث على الاطمئنان بهذا الأمر ولا يمنع من ان تكون الصخرة وضعت على القبر بعد ذلك بمئات السنين حينما بني القبر وشيد بشكله الحالي اعتمادا على الشهرة او لأسباب اخرى . لعل أيدي الذي حكموا بلاد الشام من الشيعة ضالعة في ذلك .

المرقد الزينبي في القاهرة وضاحية الشام
  الظاهر ان هذين المرقدين كما لعله اقرب الاحتمالات وبخاصة بالنسبة الى المرقد المصري ، ان احدهما وهو الموجود في ضاحية الشام وفي المكان الذي يعرف حاليا بقرية الست هو لزينب بنت عبدالله الاصغر بن عقيل من زوجته أم كلثوم الصغرى بنت امير المؤمنين ومن غير فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) (1) ، والمرقد الزينبي الموجود في محلة الفسطاط عند قناطر السباع من القاهرة الذي يقدسه المصريون ويقصدونه من سائر الجهات ويبذلون الاموال الطائلة في سبيله تقريبا الى الله تعالى هو لزينب بنت يحيى المتوح بن الحسن الانور بن زيد بن الحسن السبط ( عليه السلام ) ولأجل وضع هذا الظن موضع الاعتبار والعناية وحتى لا يكون كغيره من

---------------------------
(1) لقد نص في تاريخ الخميس ص 286 من المجلد الثاني ان عبدالله الاصغر كان متزوجا من أم كلثوم الصغرى بنت امير المؤمنين ، وجاء في اهل البيت لابي علم ان زينب الشام هي ابنة أم كلثوم كما سنتعرض لذلك خلال هذا الفضل وهي غير أم كلثوم التي تزوجها ابن الخطاب ومات عنها .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 144 _

  الاقوال العابرة حول هذا الموضوع ، لا بد من المرور ببعض الجوانب عن حياة الحسن الانور وابنته السيدة نفسية المعروفة عند المصريين بكريمة الدارين .
  لقد ذكر جماعة من المؤلفين في احوال اهل البيت ومن بينهم المؤلف المصري توفيق ابو علم رئيس ادارة مسجد السيدة نفسية ووكيل وزارة العدل الصادر بتاريخ 1970 ، فلقد عد في كتابه المذكور كغيره من جملة اولاد الحسن زيد بن الحسن السبط ووصفه بكرم الطبع وجلالة القدر وكثرة البر والإحسان وان الناس كانوا يقصدونه من جميع الآفاق طمعا في بره واحسانه وانه كان يتولى صدقات رسول الله ( صلى الله عليه وآله السلام ) وبقيت في يده الى ان جاء للحكم سليمان بن عبد الملك فعزله عنها وأرجعها اليه عمر بن عبد العزيز الخليفة الاموي العادل ، ومضى يقول : ان محمد بن بشير الخارجي كان من جملة الشعراء الذين مدحوه وقال فيه :
                           اذا  نزل ابن المصطفى بطن iiتلعة        نفى جدبها واخضر بالنبت عودها
                           وزيـد ربيع الناس في كل iiشتوة        اذا  اخـفقت انـواؤها iiورعودها

  وقد توفى زيد بن الحسن وله من العمر تسعون عاما وبكاه الناس ورثاه عدد من الشعراء ، ومن اولاده الحسن الانور ، وكان من علماء اهل البيت المبرزين وولاه ابو جعفر المنصور العباسي سنة 150 هجرية امارة المدينة بعد ان عزل عنها جعفر بن سليمان وبقي على المدينة لسنة 65 فعزله عنها لوشاية عليه بأنه يساند الثوار العلويين لإعادة الخلافة اليهم ووضعه في حبسه الى ان جاء ولده المهدي الى الحكم فأخرجه من الحبس ، وكان معروفا بالصلاح والتقوى والبر والاحسان ومستجاب الدعاء على حد تعبير المؤلف .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 145 _

  وقد تخلف الحسن الانور كما يدعي توفيق ابو علم بتسعة ذكور وبنتين وهما نفيسة وأم كلثوم ومن اولاده الذكور يحيى المتوج ، واشتهرت نفيسة من بين اولاده بالزهد والصلاح والمعرفة وكانت تلقب بنفيسة الدارين ونفيسة العلم والطاهرة والعابدة ، ولما بلغت سن الزواج خطبها العلماء والاشراف من شباب العلويين وفتيانهم ، فكان والدها يأبى عليهم ويردهم ردا جميلا ، وحينما خطبها اسحاق المؤتمن ابن الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) زوجها اياه وذلك سنة 161 وكان من المعروفين بالفضل والصلاح والخير ومن المحيطين بأحاديث ابيه وأجداده كما وصفه المقريزي في خططه وأولدها ولدين القاسم وأم كلثوم ، ومن نسل القاسم السادة بنو زهرة في حلب ونواحيها (1) .
  ورحلت السيدة نفيسة الدارين مع زوجها من المدينة الى القاهرة وفي طريقها الى القاهرة مرت على دمشق الشام وزارت فيها بغوطة دمشق مقام السيدة زينب بنت ام كلثوم بنت امير المؤمنين وأم كلثوم هذه هي المعروفة بالصغرى من بنات امير المؤمنين ومن غير فاطمة الزهراء وكانت زوجة لعبدالله الاصغر بن عقيل بن ابي طالب كما جاء في ص 286 من المجلد الثاني تاريخ الخميس والظاهر ان زينب التي زارت قبرها نفيسة هي ابنتها لان أم كلثوم الكبرى ابنة الزهراء كانت زوجة لعمر بن الخطاب وقد اولدها ولداً سماه زيدا وبعد وفاة ابن الخطاب عنها تزوجها محمد بن عبدالله بن جعفر ولم تنجب منه كما جاء في تاريخ الخميس (2) .
  ثم زارت قبر عمتها فاطمة بنت الحسن بن علي ( عليه السلام ) وقبر فضة جارية الزهراء ( عليها السلام ) وقد استقبلها جمهور كبير من اهالي دمشق وعلمائها مرحبين بقدومها ، وبعد دخولها دمشق بأيام قليلة رحلت منها الى

---------------------------
(1) انظر ص 283 و284 و538 لتوفيق ابو علم .
(2) انظر ص 285 و286 .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 146 _

  القاهرة ودخلتها في شهر رمضان سنة 193 قبل ان يدخلها الشافعي بخمس سنين فاستقبلها المصريون رجالا ونساء احسن استقبال ونزلت دارا لاحد التجار الكبار وأخيرا استقرت في البيت الذي أعد لها مع زوجها وراح الناس بمختلف فئاتهم يترددون عليها وعلى زوجها يأخذون عنهما العلم والحديث واستفادوا من علمهما واستمر الناس يتدفقون عليهما وأصبحت رمزا للطهر والقداسة في تلك الديار .
  ولم يكن لاخيها يحيى المتوج سوى بنت واحدة تدعى زينب وكانت قد رحلت مع ابيها الى مصر وحينما دخلتها عمتها وغمرتها بعطفها وحنانها وعلقت بها وأبت ان تتزوج من احد بالرغم من توافد الخطاب على ابيها ولازمت عمتهاولاقت من عطف عمتها عليها والاحسان اليها ما جعلها تتفانى في خدمتها وتسهر على حوائجها لمدة طويلة من الزمن وبخاصة بعد ان بلغت من العمر سنا أقعدها عن القيام بأكثر حوائجها .
  وروى عنها ابو علم انها كانت تقول : لقد خدمت عمتي نفيسة اربعين سنة فما رأيتها تامت بليل ولا أفطرت في نهار الا في العيدين وأيام التشريق .
  ومضت تقول كما جاء في ص 540 من كتاب ابو علم وكيل وزارة العدل المصرية : كانت عمتي نفيسة تحفظ القرآن وتفسيره وتقرأه وتبكي وكنت اجد عندها ما لا يخطر بخاطري ولا اعلم من يأتيها به فكنت أتعجب من ذلك فتقولي لي : يا ابنة اخي من استقام مع الله كان الكون بيده وفي استطاعته .
  ويدعي توفيق ابو علم في كتابه اهل البيت بأن للسيدة نفيسة عشرات الكرامات التي لا تجوز على غير الانبياء والصديقين ومن عباده الصالحين وهي جائزة عقلا ومن جملة الممكنات التي لا تستحيل على القدرة الالهية وقد غمر الله سبحانه آل بنت نبيه بفضله وشملهم بفيوضاته حتى ظهرت

من وحي الثورة الحسينيّة _ 147 _

  على ايديهم الكرامات وتتابعت على الناس منهم البركات والنفحات من اجابة الدعوات وكشف الكربات وقضاء الحاجات ، وأضاف الى ذلك ان علماء اهل السنة قد اتفقوا على جوازها واختص بها الله من أحب من عباده وأوليائه وأصفيائه آل بيت نبيه الطاهرين .
  وبقيت السيدة نفيسة في القاهرة نحوا من عشرين سنة ولما جاء أجلها على اثر مرض ألمّ بها احتضنتها ابنة اخيها زينب بنت يحيى وتوفيت في حضنها سنة 208 وكانت قد أعدت لنفسها قبراً فدفنت فيه وراح الناس بعد ذلك يعدون قبورهم حولهاتبركا بمرقدها وفي سنة 544 أمر الحافظ لدين الله ببناء قبة على قبرها ولا تزال من اعظم المزارات عند المصريين ، وكان اخوها يحيى قد توفي قبلها في مصر وقبره لا يزال من المقدسات عند المصريين يتبركون به ويتوسلون الى الله في قضاء حوائجهم ، وبعدهما توفيت زينب بنت يحيى ودفنت بجوار قبر عمرو ابن العاص ، ومضى ابو علم يقول : وكان اهل مصر يأتون لزيارة قبرها من كل فج ، وحتى ان الظاهر الخليفة الفاطمي كان يأتي لزيارتها ماشيا على قدميه ومعه جمهور من الناس ، وأضاف الى ذلك ان النيل توقف في بعض السنين عن الجريان فتوسل المصريون بقبرها الى الله فجرى النيل على عادته ، الى غير ذلك مما جاء في كتابه عن نفيسة الدارين وابنة اخيها زينب .
  بعد هذه اللمحات عن حياة السيدة نفيسة حفيدة الحسن السبط ( عليه السلام ) يمكن القول بأن المرقد المنسوب لزينب العقيلة في مصر والذي لا يزال المصريون يقدسونه ويعظمونه هو لزينب بنت يحيى المتوج وبتعاقب العصور والاجيال اصبح ينسب لزينب العقيلة لانها اشتهرت من نساء العلويين الأوائل وأصبح اسمها مقرونا باسم اخيها الحسين ( عليه السلام ) بعد معركة الطف وتحدث الكتاب والمؤلفون عن مواقفها الخالدة من تلك المجزرة وما رافقها والالفاظ المشتركة تنصرف في الغالب الى أكمل الافراد

من وحي الثورة الحسينيّة _ 148 _

  وأكثرها شيوعا ، وبلا شك فان أكمل الزينبيات وأعلاهن شأنا هي زينب العقيلة ، كما يحتمل ان يكون للفاطميين ضلع في نسبة ذلك المرقد لها ونسبة المرقد الثاني لرأس اخيها الحسين وهم الذين اشاعوا بأن الرأس كان مدفونا في عسقلان ونقلوه الى القاهرة وراحوا يعظمون المرقدين لاسباب سياسية أو لغيرها .
  امام المرقد الموجود في ضاحية الشام وفي بلدة الست بالذات الذي زارته السيدة نفيسة في طريقها الى مصر فليس لزينب الكبرى عقيلة الطالبيين وبطلة كربلاء كما هو الراجح ، ومن الجائز ان يكون لزينب بنت عبدالله الاصغر بن عقيل من زوجته أم كلثوم الصغرى ابنة امير المؤمنين ( عليه السلام ) من غير الزهراء وهي ليست بأم كلثوم التي تزوجها عمر بن الخطاب وأولدها ولده زيدا ، وهذه قد تزوجت بعد ابن الخطاب من محمد بن جعفر ولم تنجب منه وهي شقيقة الحسين لأمه وأبيه .
  ومهما كان الحال فلا يمكن الجزم بشيء حول واقع تلك المراقد ، وأعود لأكرر ما ذكرته سابقا من ان المراقد التي يقدسها الشيعة وبقية المسلمين المعتدلين لا يقدسونها الا بصفتها رمزا لمن تنتسب اليه وتقديرا لما كان يتمتع به من القيم والمثل العليا والجهاد والتضحيات في سبيل المبدأ والعقيدة ، لا للبناء والأحجار المزخرفة والنفائس التي فيها ، وسواء كانت رفات ذلك الشخص صاحب تلك الفضائل في داخل ذلك المرقد او لم تكن في واقع الامر ، فمادام يرمز اليه فان زيارته والتوسل به الى الله سبحانه من الأمور الراجحة وتعظيما للدين وللقيم التي كان ذلك الشخص يجسدها ويستهين بحياته من اجلها .
  ان الزائر حينما يتجه الى المسجد الذي فيه مقام رأس الحسين في القاهرة ومقام السيدة زينب في ضاحية الشام وفي محلة الفسطاط من القاهرة انما يتجه بقلبه وأحاسيسه لمن ترمز اليه تلك القباب الشامخة اي لرأس الحسين وللسيدة زينب وان لم تكن في واقع الأمر قد ضمنت

من وحي الثورة الحسينيّة _ 149 _

  رفاتهما ، وليس بغريب على الله سبحانه اذا سبحانه اذا استجاب للموالين لأهل البيت علي والزهراء ومن تناسل منهما من الائمة الاطهار والصلحاء الابرار الذين عناهم النبي (ص) بقوله ، كما جاء في رواية ابي بكر بن ابي قحافة انه قال : رأيت رسول الله (ص) قد خيم خيمة وهو متكىء على قوس له عربية وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين وهو يقول : معاشر المسلمين انا سلم لمن سالم اهل هذه الخيمة وحرب لمن حاربهم وولي لمن والاهم لا يحبهم الا سعيد الجد طيب المولد ولا يبغضهم الا شقي الجد رديء الولادة (1) .
  ليس بغريب اذا اجار الله من استجار بمراقدهم واستجاب لمن توسل اليه بهم في قضاء حوائجه لانهم قد بذلوا انفسهم وكل ما يملكون في سبيل وتركوا الدنيا ومتعها ونعيمها بعد ان اصبحت تحت أقدامهم من اجل اعلاء كلمة الله وخير الناس أجمعين ، ورحم الله القائل في وصفهم :
هم القوم من أصفاهم الود مخلصا        تـمسك في اخراه بالسبب iiالاقوى
هـم الـقوم فاقوا العالمين مناقباً        مـحاسنهم  تحكى وآياتهم iiتروى
مـوالاتهم فـرض وحـبهم iiهدى        وطـاعـتهم ود وودهـم iiتـقوى

---------------------------
(1) اهل البيت لابو علم ص 8 .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 150 _

المآتم الحسينية
  لقد كانت العشرة الاولى من شهر المحرم ولا تزال مأتما سنويا للأحزان والآلام عند الشيعة منذ مجزرة كربلاء التي كان على رأس ضحاياها الحسين بن علي سبط الرسول وسيد شباب اهل الجنة في اليوم العاشر من المحرم سنة احدى وستين للهجرة فكان الشيعة ولا يزالون في مختلف انحاء دنيا الإسلام يجتمعون في مجالسهم وندواتهم يرددون مواقف اهل البيت وتضحياتهم في سبيل الحق والعدالة وكرامة الإنسان التي داستها أمية بأقدامها ، وما حل بهم من أحفاد أمية وجلاديهم من القتل والسبي والتشريد والاستخفاف بجدهم الاعظم الذي بعثة الله رحمة للعالمين .
  هذه الذكريات الغنية بالقيم والمثل العليا والتي تعلمنا كيف نعيش احرارا وكيف نموت في مملكة الجلادين سعداء منتصرين لو ادركنا اهداف تلك الثورة وأحسنا استغلالها هذه الذكريات قد اقترنت كما يبدو بعد الاحصاء الدقيق لتاريخها بتلك المجزرة الرهيبة التي ايقظت المسلمين على اختلاف فئاتهم وانتماءاتهم ونزعاتهم ، وأدركوا بعدها ان