يراني قتيلا وشاء ان يرى حرمي وعيالي سبايا ، لقد اعطى الحسين للعالم كله بشهادته دروساً مليئة بالحياة غنية بالقيم وروعة الجمال وأصبح هو ومن معه من طفله إلى اخوته وأنصاره وغلمانه القدوة الغنية بمعطياتها للعالم في كل زمان ومكان يعلمون الأبطال كيف يموتون في مملكة الجلادين الذين ذهبت ضحية سيوفهم آمال أجيال من الشباب وتلوت تحت سياطهم جنوب النساء وأبادوا وأجاعوا واستعبدوا رجالاً ونساء ومؤذنين ومعلمين ومحدثين .
لقد ترك الحسين واخوته وأصحابه وحتى غلمانه دروساً سخية بالعطاء والقيم حافلة بالعبر والمثل التي تنير العقول وتبعث في النفوس والقلوب قوة الإيمان بالمثل العليا والمبادئ السامية التي دعا إليها وضحى بكل ما يملك من أجلها ولا تزال الاجيال تستلهم منها كل معاني الخير والنبر والفضيلة وسيبقى الحسين وأنصاره مثلا كريما لكل ثائر على الظلم والجور والطغيان إلى حيث يشاء الله .
لقد هاجر من مدينة جده إلى ارض الشهادة والخلود ليقدم دمه الزكي ودماء اخوته وأنصاره الخالدين ثمنا لإحياء شريعة جده الرسول الأعظم وانقاذها من مخالب الكفر والانحراف ، ولكي يضع حدا لسياسة البطش والتنكيل واراقة الدماء وليعلن بصوته المدوي الذي لا يزال صداه يقض مضاجع الظالمين ان الإسلام فوق ميول الحاكمين وان المثل والقيم فوق مستوى مطامعهم الرخيصة وان الحرية والكرامة من حقوق الإنسان في حياته ولا سلطان للحكام والطغاة عليها .
أجل ان رسالة الحسين ( عليه السلام ) كانت ولا تزال امتدادا لرسالة جده وجهاده امتدادا لجهاد جده وأبيه امير المؤمنين بطل الإسلام الخالد الذي تام الإسلام وانتشر بسيفه وجهاده ، وكما خيبت هجرة الرسول مساعي المتآمرين على قتله بخروجه من
مكة إلى يثرب بعد ان بات على فراشه بطل الإسلام الخالد ليدرأ عنه خطر الاعداء ويفيده بنفسه من مؤامرة ابي سفيان وحزبه كذلك خيبت شهدة سبطه الثائر العظيم آمال أمية وأمانيها ومما يطمح إليه حفيدها يزيد بن معاوية من تحطيم الإسلام وعودة الجاهلية والاصنام آلهة آبائه وأجداده وسجلت اتنصاراً حطم اولئك الجبابرة الطغاة ودولتهم الجائرة العاتية التي قابلها الحسين وقضى عليها بشهادته ودمه الزكي الطاهر بالرجال والعتاد والأموال .
ولرب نصر عاد بشر هزيمة تركت بيوت الظالمين iiطلولا |
لقد قاتل مع الحسين ( عليه السلام ) اثنان وسبعون شخصاً من اخوته وأبنائه وانصاره الأبطال الذين امتحن الله قلوبهم بالإيمان فقاتلوا دفاعاً عن الحق والعقيدة ورسالة الإسلام وأرخصوا حياتهم لإعلاء كلمة الله في الارض وكانوا مع قلة عددهم وكثرة الحشود التي اجتمعت لقتالهم يكرون على تلك الحشود بقلوبهم العامرة بالتقوى ونفوسهم المطمئنة الى المصير الذي أعده الله للمجاهدين في سبيله فيفرون من بين أيدهم فرار المعزا اذا شدت عليها الذئاب ورحم الله السيد حيدر الحلي القائل :
جاءوا بسبعين الف سل بقيتهم هـل قابلونا وقد جئنا iiبسبعين |
لقد ترك لنا الحسين وجد الحسين والأئمة من ذرية الحسين من اقوالهم وسيرتهم وسلوكهم وجهادهم مدرسة غنية بكل ما نحتاجه في الحرب والسلم والشدة والرخاء والفقر والغنى وكل نواحي الحياة فما اولانا ونحن ندعي الإسلام والتشيع لهم ان نرجع إلى سيرتهم ونسير على خطاهم ونصنع من ميراث أمتنا وقادتنا خير أمة اخرجت للناس .
ولو نظرنا ومع الاسف الشديد إلى مبادئ التشيع التي تجسد الإسلام بكل فصوله وخطوطه وقارنا بينها وبين ما نحن عليه من تخاذل وتراجع واذلال وانحراف عن الإسلام ومبادئه وقيمه وجدنا انفسنا من ابعد الناس عن علي وبنيه وعن الحسين بالذات الذي نحتفل في كل عام بذكراه ونبكيه ونردد بألسنتنا يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً ، وأنا لا اشك بأن الحسين لو وجد في زماننا هذا لصنع من القدس وجنوب لبنان كربلاء ثانية وسوف لا يناصره ممن يدعون الإسلام والتشيع ومن يتباكون على القدس والجنوب ويتاجرون بهما في البيانات والخطب وعلى صفحات الجرائد اكثر من العدد الذي ناصره في كربلاء الاولى .
ان بكاء الباكين وتباكيهم على الحسين وعلى القدس والجنوب لم يكن إلا لأنه يلتقي مع مصالحهم او لبعض الحالات الطبيعية التي تسيطر على الإنسان احياناً ، فهل هؤلاء مع الحسين ومبادئه ومع القدس القبلة الأولى للمسلمين وفلسطين التي اغتصبتها وشردت اهاليها قوى الشر والعدوان ، ومع جنوب لبنان الذي عبثت فيه الأهواء والاطماع ومزقته إلى احزاب وشيع لا تحصى حتى ولو تعارض ذلك مع مصالحهم وأهوائهم ، فعشرات الشواهد والأرقام تؤكد ان مصالحنا وأهوائنا إذا تعارضت مع الحسين وجميع القيم ومع القدس والجنوب وجميع المظلومين والمعذبين لم نعد نتعرف على الحسين ولا على مبادئه وقيمه ولا على القدس والجنوب ولا على المظلومين والمعذبين ولو خرج من يحمل مبادئ الحسين في زماننا هذا لحاربناه كما حاربه اولئك بالأمس ولقطعنا رأسه ورؤوس من يناصره وأهديناها لمن يحمل روح يزيد وابن زياد وما اكثرهم في زماننا هذا .
لقد بكى عمر بن سعد على الحسين في كربلاء وسالت دموعه على لحيته عندما رآه يجود بنفسه والدماء تنزف من جسده وفي نفس الوقت
من وحي الثورة الحسينيّة
_ 40 _
أمر اصحابه بقتله وقال لهم : انزلوا اليه وأريحوه ، والانسان في الغالب قد يتأثر وينفعل من غير قصد واختيار كما يتنفس ويتألم ويفرح ويحزن وسرعان ما يتغير وكأنه انسان آخر ، وبذلك نستطيع ان نفسر بكاء اكثر الباكين على الحسين من المحبين والمجرمين القسادة وهم يستمعون إلى حديث كربلاء وما حل بها من الفجائع على أهل البيت عليهم السلام .
وجاء عن بعض العلويات انها قالت : حين استشهد اخي الحسين هجم العدو على خيامنا المسلب والنهب ودخل خيمتي رجل ازرق العينين فأخذ ما في الخيمة ونظر إلى زين العابدين وهو على نطع وكان مريضاً فجذبه من تحته ورماه إلى الأرض والتفت الي وأخذ القناع عن رأسي وقرطين كانا في أذني وجعل يعالجهما ويبكي حتى انتزعهما ، فقلت له : تسلبني وأنت تبكي ؟ فقال : ابكي لمصابكم اهل البيت .
وبلا شك فان الكثيرين من الذين يبكون لمصاب اهل البيت وما حل بهم في كربلاء يحملون روح هذا المجرم ازرق العينين ، ولو تسنى لهم ان يسلبوا الحوراء او غيرها خمارها اذا اقتضت مصلحتهم ذلك لا يقصرون ولا يتورعون ، وأي فرق بين ازرق العينين الذي اقتحم خيام الحسين وأخذ النطع من تحت الإمام السجاد وانتزع القرطين من أذني الحوراء وبين من يدعون التشيع والإسلام في زماننا هذا ويعتدون على أموال الناس وحقوق الناس وكرامتهم غير مكترثين بالأديان ولا بالأخلاق والأعراف التي لا تقر الاساءة لاحد من الناس .
ان هؤلاء لا فرق بينهم وبين عمر بن سعد وأزرق العينين ولو وجدت العقيلة الحوراء في زماننا هذا لا يتورعون عن انتزاع قرطها ولا عن قتل اخيها وأبيها إذا اقتضت مصلحتهم ذلك ، وفي الوقت ذاته يتأثرون وينفعلون وقد يبكون عندما يستمعون إلى حديث كربلاء وما فعله ازرق
من وحي الثورة الحسينيّة
_ 41 _
العينين ، وسلام الله على الحسين وأنصاره شيوخاً وشبانا الذين لا تزال ذكراهم حية تثير الاسى والشجن في نفوس المحبين وحتى في نفوس الكثيرين في زماننا هذا من أمثال ابن سعد وأزرق العينين ، ولكن ذلك الاسى سرعان ما يتبخر ولا يعلق من تلك الذكرى وأهدافها السامية في النفوس والعقول إلا صوراً لا تتجاوز عالمها ومحيطها ثم تتبخر وكأنها لم تكن .
وأعود لأكرر بأن المسلمين لو استغلوا ذكراك يا ابا عبدالله وتضحياتك الجسام في سبيل الإسلام وخير الإنسانية ، واستغلوا مولد الرسول وسيرته العطرة الغنية بمعطياتها الذي يحتفلون به في هذه الأيام من كل عام من على منابرهم وبالهتاف والتصفيق في شوارعهم لبضع ساعات ثم يعودون مسرعين إلى نوادي القمار والخمور والبغاء وخدمة اعداء الإسلام بأموالهم وجميع طاقاتهم ، لو استغلوا ذكرى سيد الشهداء ومولد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لمرضاة الله ورسوله ولصالح الإسلام والمسلمين وبث الوعي ورص الصفوف في مقابل الغزاة من أعداء الإسلام والمسلمين لا لاشاعة الجهل والتفريق والاتجار بالدين وعواطف الناس لكانوا من افضل الأمم وأقواها في مشرق الدنيا ومغربها وسلام الله على الحسين الذي لم يحدث عن مثله التاريخ :
فيا ايها الوتر في الخالدين فـذا إلـى الان لـم يشفع ويا واصلا من نشيد الخلود خـتام الـقصيدة iiبالمطلع ويـا بن التي لم يقع مثلها كـمثلك حملاً ولم iiترضع تعاليت من مفزع iiللحتوف وبـورك قبرك من iiمفزع تـمر الـدهور فمن iiيسجد عـلى جـانبيه ومن iiركع |
من وحي الثورة الحسينيّة
_ 42 _
ورحم الله من قال في وصفه :
اضـمير غـيب الله كـيف لك iiالفنا نـفـذت وراء حـجابه iiالـمخزون وتـصك جـبهتك الـسيوف iiوانـها لــولا عـينيك لـم تـكن iiلـيمين ما كنت حين صرعت مضعوف القوى فـأقول لـم تـرفد بـنصر iiمـعين امــا وشـيـبتك الـخضيبة iiانـها لا يــركـل الــيـة iiويـمـيـن لـو كـنت تـستام الحياة iiلارخصت مـنـها لـك الاقـدار كـل ثـمين اوشـئت مـحو عـداك حتى لا iiيرى مـنهم عـلى الغبراء شخص iiقطين لاخــذت افــاق الـبلاد عـليهم وشـحنت قـطريها بـجيش iiمـنون حـتى إذا لـم تـبق نـافخ iiحـزمة مـنـهم بـكل مـفاوز iiوحـصون لـكن دعـتك لـبذل نـفسك iiعصبة حـان انـتشار ضـلالها iiالـمدفون فـرأيـت ان لـقـاء ربـك بـاذلا لـلنفس افـضل مـن بـقاء iiضنين |
من وحي الثورة الحسينيّة
_ 43 _
( ما أروع يومك يا أبا الشهداء )
شموخ مع التاريخ وصمود مع الاجيال يتجلى بكل وضوح في أفق الحياة الواسع ومع سير الزمن السرمدي لا يطويه دوران الايام ولا تنسيه الدهور والأعوام يجدد الآلام ويثير الاحزان والاشجان بالرغم من مرور المئات من الأعوام ذلك هو يومك الخالد يا ابا عبدالله الذي ضربت فيه أمثالا بلغت اقصى حدود السمو في التضحية والفداء وأوضحت المعالم البارزة للسبل التي يجب ان تكون منهجاً لعبور العقبات الصعاب في هذه الحياة فما اروع هذا الخلود وما اسمى معانيه لو برزت بوضوح حقائقها ورسمت دقائق خطوط اهدافها لترفع المشع الوهاج للاجيال المتعاقبة وتلتهم ثمرات تلك المآثر السامية وتستلهم منها الصبر والعقيدة لتحقيق الاهداف التي دعا اليها الاسلام وكافح من اجلها دعاته الوفياء لتطهير الارض المقدسة من دنس الظالمين والغاصبين .
ما اروع يومك يا ابا عبدالله ويا ابا الشهداء ذلك اليوم الذي وقفت فيه تخاطب انصارك وأهل بيتك قائلا : اما بعد فقد نزل بنا من الأمر ما
من وحي الثورة الحسينيّة
_ 44 _
قد علمتم وان الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الاناء وخسيس عيش كالمرعي الوبيل ألا ترون إلى الحق لا يعمل به والى الباطل لا تناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا فاني لا ارى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما .
فكانت التضحية وكان الداء الذي ادمى القلوب ومزقها وكان النصر حليفه فلقد استقامت بشهادتك يا ابا عبدالله أركان الإسلام وتبين الرشد من الغي وظلت كلمة لا إلا الله محمد رسول الله التي حاربها الحزب الأموي مدوية في الفضاء خالدة في أجوائه خلود يومك .
لقد اراد لها يزيد بن ميسون الفناء بقتلك وأراد الله لك ولها البقاء فبقيت وبقيت مع التاريخ تستنير الاجيال بذكراك ويستلهم منها المخلصون سبل الثورة على الظلم والطغيان وبقي ذكر اولئك الطغاة عارا تتبرأ منه الاحفاد والاجيال وتتبعهم اللعنات ما دام التاريخ .
فما أصبرك يا ابا عبدالله وما اروع يومك حينما وقفت في ارض المعركة وحيداً لا ناصر لك ولا معين تتلفت يمينا وشمالا فلا ترى سوى اصحابك وبنيك واخوتك صرعى على ثرى الطف المديد والاعداء تحيط بك من كل نواحيك تحدق في خيامك الخالدة إلا من النساء والاطفال والصراخ يتعالى من هنا وهناك وأنت تتلوى لهول ذلك المشهد وتلك الحشود الهائلة وقد شهرت أسنة رماحها في وجهك فتغمض عينيك من هول ذلك المنظر ومما حل ببيت الرسالة وأحفاد الرسول فلا تجد من يأويهم ويكفلهم من بعدك .
ثم تتلفت إلى أنصارك فلا ترى سوى الجثث المبعثرة من حولك فما أهوله من منظر وما ارزأها من مصيبة لم يحدث التاريخ بمثلها ومع كل ذلك فلم تلن لأولئك الطغاة ومضيت في ثورتك على الباطل ثورة الإيمان بكل معانيه وأبعاده على الكفر بكل اباطيله تقول : والله لا اعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أقر لكم اقرار العبيد وبقيت خالداً خلود الدهر .
من وحي الثورة الحسينيّة
_ 45 _
لقد تمخضت مواقف الحسين بن علي ( عليه السلام ) يوم عاشوراء ذلك اليوم التاريخي من خلال ما ارتسم فيها من البطولات والصمود امام تلك الجحافل العاتية عن جلائل المعاني السامية وتجلت من سطورها الدامية روائع من صفحات الإيمان الثابت والعقيدة المخلصة وطفقت تحمل في مشاعلها نزعة الانعتاق من ربقة الاستغلال والاستعباد واندفعت تخط للإجيال أبعاد الكفاح الثوري وترسم للعصور سمات للصمود والثبات وتدفع بالمناضلين المكافحين إلى تعلقهم بما يرسمونه من تخطيط لمعتقداتهم الفكرية وما ينتهجونه من تحديد لمنطلقاتهم النضالية في المسار النضالي وما يحددونه من مواقف جريئة امام تحديات الحاكمين واستغلالهم لخيرات الشعوب وأرزاق العباد .
ان المسار الثوري الذي حفلت به ثورة الحسين ( عليه السلام ) لقد عزز الكثير من طموح الشعوب المستغلة من اجل انهاض هذه الشعوب وايقاد فتيل الثورة للاطاحة بالنظم المستبدة وايجاد المجتمعات السليمة التي تحقق للشعوب حريتها وكرامتها وطموحاتها في التخلص من الاستغلال وتطوير الحياة وما يضمن لتلك الشعوب أمنها ورفاهيتها .
ان ثورة الحسين تركت في دروب الاحرار المجاهدين والصامدين علامات مضيئة تنير مسالك الكفاح وتمهد الطريق الذي يمكن كل ثائر إذا اعتمد في الدرجة الاولى على نزعة السخاء بالأرواح وبذل الأنفس من اجل العقيدة الثابتة ومن اجل مواقع الصمود للوصول إلى النصر .
ان طرح الحسين الخالد لهذا السخاء العظيم بتقديمه نفسه وذويه وصحبه واستشهادهم إلى جانبه مكن هذه الثورة من الديمومة والبقاء لتكون المنار لكل الثائرين الصامدين عبر مسيرات الانتفاضات الشعبية التي تحدث هنا وهناك ومكن لها الانتصار إذا اقترنت بالنزاهة والاخلاص وبمثل ذلك السخاء الذي قدمه الحسين وأنصاره من اجل الانسان وكرامته ، لقد انتصر الحسين ( عليه السلام ) باستشهاده انتصاراً لم يسجل
من وحي الثورة الحسينيّة
_ 46 _
التاريخ انتصاراً اوسع منه ولا فتحا كان ارضى لله منه ، وكان واثقاً من هذا الانتصار ومن هذا الفتح كما كان واثقاً من هزيمته عسكرياً كما يبدو ذلك من كتابه الذي كتبه الى الهاشميين وهو في طريقه إلى العراق فقد قال فيه : اما بعد فانه من لحق بي استشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح .
وكان ذكرنا فالفتح الذي يعنيه الحسين من كتابه إلى الهاشميين هو ما احدثته ثورته من النقمة العامة على الأمويين وما رافقها من الانتفاضات التي اطاحت بدولتهم .
من وحي الثورة الحسينيّة
_ 47 _
( لقد شاء الله ان يراهُن سبايا )
لقد كان محمد بن الحنفية شقيق الحسين في طليعة اولئك الذين حاولوا مع الحسين ( عليه السلام ) ان لا يستجيب لأهل العراق وأن يبقى بعيداً عنهم وقد ذكره مع من ذكروه بمواقفهم مع أبيه وأخيه وكان قد اشار عليه ان يذهب إلى اليمن أو بعض نواحي البر ولا يذهب إلى الكوفة فوعده الحسين ( عليه السلام ) ان ينظر في الأمر وفي مطلع الفجر من تلك الليلة اخبر ابن الحنفية ان الحسين ( عليه السلام ) قد تهيأ للخروج مع اخوته وبني عمومته ونسائه إلى العراق فأقبل عليه وقد اشرف موكبه على التحرك فأخذ بزمام ناقته وهو يبكي واقل له :
ألم تعدني النظر فيما سألتك فما حداك على الخروج عاجلا ؟ فرد عليه الحسين قائلا : لقد جاءني رسول الله بعد ما فارقتك وقال لي : لقد شاء الله ان يراك قتيلاً فاسترجع ابن الحنفية وقال : إذا كان الأمر كما تقول ، فما معنى حملك للنساء وأنت تخرج لهذه الغاية ، فقال له : لقد شاء الله ان يراهن سبايا .
بهذا الجواب القصير وبهاتين الكلمتين بما لهما من المدلول الواسع
من وحي الثورة الحسينيّة
_ 48 _
وبدون مواربة او تمويه اجاب الحسين اخاه محمد بن الحنفية وعيناه تنهمر بالدموع والالم يحز في قلبه ونفسه ، وكما قال ابو عبدالله ( عليه السلام ) لقد شاء الله ان يراهن سبايا كما شاء ان يراه قتيلا موزع الاشلاء هو ومن معه من اسرته وأصحابه على ثرى الطف ، لان سبيهن بعده من بلد إلى بلد لم يكن أقل اثرا على تلك الدولة الجائرة وعلى تلك الاسرة التي تكيد للإسلام من شهادته ان لم يكن أشد وقعاً على نفوس المسلمين من استشهاده .
لقد كان لسبي النساء والاطفال والطواف بهن من بلد إلى بلد اثراً من اسوأ الآثار على الأمويين ودولتهم وكان الجزء المتمم للغاية التي ارادها الحسين من نهضته فلقد أثار الاحزان والأشجان في نفوس المسلمين وكشف اسرار الامويين وواقعهم السيىء للقاصي والداني وأظهر قبائحهم ومخازيهم للعالم والجاهل وأوضح للمسلمين في كل مكان وزمان ان الأمويين من ألد اعداء الاسلام يبطنون الكفر والالحاد ويتظاهرون بالإسلام رياء ودجلا ونفاقاً ، وفي الوقت ذاته فلقد كان سبيهم من جملة الوسائل لنشر الدعوة الى العلويين ومبدأ التشيع لأهل البيت ولعن من شايع وتابع وبايع على قتل الحسين ، وقد أشارت إلى ذلك العقيلة الكبرى في قولها ليزيد بن ميسون في مجلسه بقصر الخضراء : فوالله ما فريت إلا جلدك وما حززت إلا لحمك .
لقد حملهم معه وهو على يقين بأن الأمويين سيطوفون بهم في البلدان إلى ان يصلوا بهن إلى عاصمتهم الشام وسيراهم كل انسان مكشفات الوجوه وفي أيديهم الاغلال والسلاسل وأكثر الناس سيقابلون ذلك بالنقمة على الأمويين والأسف والحزن لآل بيت نبيهم الذي بعث رحمة للعالمين .
وجاء في كتاب المنتخب ان عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي
من وحي الثورة الحسينيّة
_ 49 _
الجوشن وشبث بن ربعي وعمرو بن الحجاج وضم اليهم الف فارس وأمرهم بايصال السبايا والرؤوس إلى الشام .
ويدعي ابو مخنف انهم مروا بهم بمدينة تكريت وكان اغلب اهلها من النصارى فلما اقتربوا منها وأرادوا دخولها اجتمع القسيسون والرهبان في الكنائس وضربوا النواقيس حزنا على الحسين وقالوا : انا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت نبيهم فلم يجرأوا على دخول البلدة وباتوا ليلتهم خارجها في البرية .
وهكذا كانوا يقابلون بالجفاء والاعراض والتوبيخ كلما مروا بدير من الاديرة او بلد من بلاد النصارى ، وحينما دخلوا مدينة لينيما وكانت عامرة يومذاك تظاهر اهلها رجالاً ونساء وشيباً وشبانا وهتفوا بالصلاة والسلام على الحسين وجده وأبيه ولعن الأمويين وأشياعهم وأتباعهم وأخرجوهم من المدينة وتعالى الصراخ من كل جانب ، وأرادوا الدخول إلى جهينة من بلاد سورياً فتجمع اهلها لقتالهم فعدلوا عنها واستقبلتهم معرة النعمان بالترحاب بلدة المعري الذي يقول :
أليس قريشكم قتلت حسيناً وصار على خلافتكم iiيزيد |
وقال : وعلى الافق من دماء الشهيدين علي ونجله شاهدان .
وحينما اشرفوا على مدينة كفرطاب أغلق أهلها الأبواب في وجوههم فطلبوا منهم الماء ليشربوا فقالوا لهم : والله لا نسقيكم قطرة من الماء بعد ان منعتم الحسين وأصحابه منه ، واشتبكوا مع أهالي حمص وكان أهلها يهتفون قائلين : اكفرا بعد ايمان وضلالا بعد هدي ، ورشقوهم بالحجارة فقتلوا منهم 26 فارساً ولم تستقبلهم سوى مدينة بعلبك كما جاء في الدمعة الساكبة فدقت الطبول وقدموا لهم الطعام والشراب .
من وحي الثورة الحسينيّة
_ 50 _
وجاء عن سبط بن الجوزي عن جده انه كان يقول : ليس العجب ان يقتل ابن زياد حسينا وانما العجب كل العجب ان يضرب يزيد ثناياه بالقضيب ويحمل نساءه سبايا على أعقاب الجمال .
قد رأى الناس في السبايا من الفجيعة اكثر مما رأوه في قتل الحسين وهذا ما اراده الحسين ( عليه السلام ) من الخروج بالنساء والصبيان ، ولو لم يخرج بهن لما حصل السبي الذي ساهم مساهمة فعالة في الهدف الذي أراده الحسين من نهضته وهو انهيار تلك الدولة الجائرة .
ولو افترضنا ان السيدة الكبرى زينب بنت علي وفاطمة بقيت في المدينة وقتل اخوها في كربلاء فما عساها تصنع وأي عمل تستطيعه غير البكاء والنحيب واقامة العزاء ؟ وهل كان يتسنى لها الدخول على ابن زياد لتقول له بحضور حشد من الناس : الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه محمد وطهرنا من الرجس تطهيراً انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا ثكلتك امك يا ابن مرجانة ، وهل كان بامكانها ان تدخل مجلس يزيد في قصر الخضراء وهو مزهو بملكه وسلطانه وتلقى تلك الخطب التي اعلنت فيها فسقه وفجوره ولعنت فيها آبائه وأجداده وقالت له فيما قالت : أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك اماءك وحرائرك وسوقك بنات رسول الله من بلد إلى بلد ، ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك اني لاستصغر قدرك وأستعظم تقريعك ، إلى غير ذلك من كلماتها التي كانت تنهال عليه كالصواعق وغيرت اتجاه الرأي العام نحوه ونحو بيته مما اضطره لان يتنصل من تلك الجريمة ويلعن ابن زياد ويحاول ان يحمله مسؤوليتها بعد ان بلغته آثار تلك المأساة في المدن والقرى التي مر بها موكب السبايا واللعنات التي كانت تنهال عليه وعلى اهل بيته ، وبعد ان رأى الوجوه تغيرت عليه حين وقفت في مجلسه ذلك الموقف التاريخي الذي