عندما قبل إخواننا السنة أحاديث الرؤية وأمثالها تورطوا فيها ، وانقسموا في تفسيرها من القرن الأول إلى أربعة مذاهب وأكثر ، وقد وُلِدَتْ هذه المذاهب العقائدية قبل أن تولد مذاهبهم الفقهية بمدة طويلة ، وبقيت حاكمة على أئمة المذاهب الفقهية وأتباعهم إلى يومنا هذا !
المذهب الأول : مذهب التأويل الذي يوافق مذهب أهل البيت تقريباً ، ويجعل الأساس في تنزيه الله تعالى الآيات المحكمة في التوحيد مثل قوله تعالى : ليس كمثله شئ ، لا تدركه الأبصار . ويقول بتأويل كل نص يظهر منه التشبيه أو الرؤية بالعين ، لينسجم مع حكم العقل وبقية الآيات والأحاديث .
الوهابية والتوحيد _ 35 _
والظاهر أن المتأولين هم أكثرية علماء إخواننا السنة من مجموع القدماء والمتأخرين ، ومنهم عامة الفلاسفة والمعتزلة .
المذهب الثاني : مذهب التفويض وتحريم التأويل ، ومعناه الإمتناع عن تفسير آيات الصفات وأحاديثها بل تفويض معناها إلى الله تعالى ، وتحريم الكلام في معانيها مطلقاً ، وهو مذهب كثير من قدامى الرواة والمحدثين ، وقليل من المتأخرين .
المذهب الثالث : مذهب تفسيرها بالمعنى اللغوي الظاهر ، أي بالمعنى الحسي، والقول بأن الله تعالى له يد ووجه ورجل وجنب بالمعنى اللغوي الحسي ، وهو مذهب اليهود والنصارى ، وهو المذهب الذي تبنى نشره في المسلمين كعب الأحبار ووهب بن منبه ومن وافقهم من الصحابة ، ثم صار المذهب الرسمي الذي تعصب له الأمويون ، ثم صار مذهب من الحنابلة وقليل من الأشاعرة ، ثم حاول إحياءه ابن تيمية والوهابيون ، وألصقوه بالسلف وأهل السنة .
المذهب الرابع : مذهب المتنقلين بين المذاهب ، والمذبذبين ، والمتحيرين ، وهم أنواع ثلاثة ، وقد ذكرنا نماذج منهم في المجلدالأول من العقائد الإسلامية .
والظاهر أن لقب ( المتَاولة ) الذي يطلقونه على الشيعة في بلاد الشام وفلسطين ومصر ، جاء من هؤلاء المجسمة الذين كانوا يكفرون الشيعة وغيرهم من المسلمين المتأولين .
ومع أن أكثرية إخواننا السنة متأولة ، إلا أن نَبْزَ لقب ( المتَاولة ) وَسُبَّتَهُ كان من نصيب الشيعة المظلومين ، وبقيت كلمة ( مِتْوَالي ) بكسر الميم ، أسوأ في ذهن خصوم الشيعة من كلمة كافر !
وفيما يلي نعرض لهذه المذاهب بشيء من التفصيل :
احتج المتأولون وهم أكثرية العلماء بأن من الطبيعي في كل لغة أن نفسر ألفاظها بمعانيها المناسبة ، فنحمل اللفظ على معناه الحقيقي إلا إذا منع منه مانع لفظي أو عقلي فنحمله على معناه المجازي ، حسب أصول التخاطب التي يعرفها أهل الخبرة
بتلك اللغة .
وقد امتازت اللغة العربية على غيرها من اللغات بفصاحتها وبلاغتها لأنها استعملت أساليب متنوعة في التعبير منها : المجاز ، والكناية ، والإستعارة ، والتشبيه ... إلخ .
وعلى هذا الأساس تعامل الصحابة ومن عاصرهم مع ألفاظ القرآن الكريم والحديث الشريف ، وفهموا النصوص التي يخالف ظاهرها تنزيه الله تعالى بأنها تعابير مجازية من تشبيه المعقول بالمحسوس لتقريب صفاته تعالى وأفعاله إلى أذهان البشر ،
وحكموا بأن ظاهرها الحسي غير مراد ، فيجب تأويلها بالمعاني المجازية ، فعندما يقول سبحانه : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم، فلا يقصد باليد عضو اليد ولا شيئاً لله تعالى شبيهاً به ، بل يقصد أن الله تعالى هو طرف المبايعة وقدرته وهيمنته وجلاله أعلى من المبايعين .
الوهابية والتوحيد _ 37 _
وهذا أمر طبيعي في اللغة حتى في حياتنا اليومية ، فعندما يقول لك شخص : قرت عينك بعودة مسافرك ، فإنك تشكره لأنك تفهم أن ( قرت عينك ) تعبير مجازي ودعاء لك بالطمأنينة والهدوء المعنوي لا المادي ، ولا تقول له إنك دعوت علي بالموت وأن تقر عيني حسياً عن الحركة !
* قال النووي في شرح مسلم مجلد 3 جزء 5 ص 24 :
( قال القاضي عياض : لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء ليست على ظاهرها ، بل متأولة عند جميعهم ) .
* وقال في شرح مسلم مجلد 5 جزء 9 ص 117 : ( قال القاضي عياض قال المارزي : معنى يدنو : أي تدنو رحمته وكرامته لا دنو مسافة ومماسة ) .
* وقال في جامع الأحاديث القدسية من الصحاح : 1/74 :
الوهابية والتوحيد _ 38 _
( قال النووي : هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان وإن مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف أنها تتأول على ما يليق بحسب مواطنها ، فتأول مالك بن أنس معناه : تتنزل رحمته وأمره أو ملائكته ) .
* وقال في : 1/160 : ( إن أول ما يجب على المؤمن أن يعتقد تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه ، واعتقاد غير ذلك مخل بالإيمان ، واتفق العلماء من أئمة المسلمين قاطبة على أن ما ورد من الكتاب والسنة في ظاهره يوهم تشبيه الله تعالى ببعض خلقه يجب الإيمان بأن ظاهره غير مراد ، ولا يصح وصف الله تعالى بما يفيده هذا الظاهر من عمومه ) .
* وقال في : 1/167 : ( قال المازني في شرح الأحاديث : هذا ما يجب تأويله لأنها تتضمن إثبات الشمال فتقتضي التحديد والتجسيم ) .
* وقال الذهبي في سيره : 8/243 : ( وقال الطوفي : إتفق العلماء ومن يعتد بقوله أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته ، حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها ، ولهذا وقع في رواية : فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي ) ، انتهى .
وسيأتي قول الوهابيين أن التأويل ضلال وإلحاد ، فلا بد أنهم يحكمون بضلال كل هؤلاء الذين تأولوا ، ومنهم أيضاً إمام الوهابيين في التجسيم ابن خزيمة الذي يوصي المفتي ابن باز بقراءة كتبه .
روى إخواننا السنة أن النبي (ص) سمع شخصاً يقول لآخر قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك ، فقال له : لا تقبح وجهه فإن الله خلق آدم على صورته .
وقد تمسك بعض الصحابة بهذا القول وادعى أنه موافق لما عند اليهود من أن الله تعالى خلق آدم على صورته ، وأن الله تعالى على صورة البشر ! وروينا نحن عن أئمتنا (ع) أن مقصود النبي (ص) أن صورة أخيك هي الصورة التي اختارها الله تعالى لأبيك آدم (ع) ، فلا تقبحها ، فالضمير في ( صورته ) يرجع إلى المسبوب ، لا إلى الله تعالى .
وقد وافقنا عدد من علماء السنة في تفسير الحديث ، ومن أشهرهم ابن خزيمة صاحب الهجوم على عائشة الذي يسميه إخواننا إمام الأئمة ، والذي يقول برؤية الله تعالى بالعين ويتعصب لها !
* قال في كتابه التوحيد طبعة مكتبة الكليات الأزهرية ص 37 : ( قال أبو بكر ( يعني بذلك نفسه ) : توهم بعض من لم يتحر العلم أن قوله : على صورته يريد صورة الرحمن ، عز ربنا وجل عن أن يكون هذا معنى الخبر ، بل معنى قوله : خلق آدم على صورته ، الهاء في هذا الموضع كناية عن اسم المضروب والمشتوم ، أراد صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب ، والذي قبح وجهه فزجره صلى الله عليه وسلم أن يقول : ووجه من أشبه وجهك ، لأن وجه آدم شبيه وجه بنيه ، فإذا قال الشاتم لبعض بني آدم : قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك كان مقبحاً وجه آدم صلوات الله وسلامه عليه الذي وجوه بنيه شبيهة بوجه أبيهم، فتفهموا رحمكم الله معنى الخبر، لا تغلطوا ولا تغالطوا فتضلوا عن سواء السبيل ، وتحملوا على القول بالتشبيه الذي هو ضلال .
وقد رويت في نحو هذا لفظة أغمض معنى من اللفظة التي ذكرناها في خبر أبي هريرة ، وهو ما حدثنا يوسف بن موسى ، قال ثنا جرير ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقبحوا الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن ، وروى الثوري هذا الخبر مرسلاً غير مسند ، حدثناه أبو موسى محمد بن المثنى ، قال ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال ثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عطاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يقبح الوجه فإن ابن آدم خلق على صورة الرحمن ، قال أبو بكر : وقد افتتن بهذه اللفظة التي في خبر عطاء عالم ممن لم يتحر العلم ، وتوهموا أن إضافة الصورة إلى الرحمن في هذا الخبر من إضافة صفات الذات ، فغلطوا في هذا غلطاً بيناً وقالوا مقالة شنيعة مضاهية لقول المشبهة، أعاذنا الله وكل المسلمين من قولهم !
الوهابية والتوحيد _ 40 _
والذي عندي في تأويل هذا الخبر إن صح من جهة النقل موصولاً فإن في الخبر عللاً ثلاثاً ، إحداهن : أن الثوري قد خالف الأعمش في إسناده فأرسل الثوري ولم يقل عن ابن عمر ، والثانية أن الأعمش مدلس لم يذكر أنه سمعه من حبيب بن أبي ثابت ، والثالثة أن حبيب بن أبي ثابت أيضاً مدلس لم يعلم أنه سمعه من عطاء .
فإن صح هذا الخبر مسنداً بأن يكون الأعمش قد سمعه من حبيب بن أبي ثابت ، وحبيب قد سمعه من عطاء بن أبي رباح ، وصح أنه عن ابن عمر على ما رواه الأعمش ، فمعنى هذا الخبر عندنا أن إضافة الصورة إلى الرحمن في هذا الخبر إنما هو من إضافة الخلق إليه ، لأن الخلق يضاف إلى الرحمن إذ الله خلقه ، وكذلك الصورة تضاف إلى الرحمن لأن الله صورها ، ألم تسمع قوله عز وجل : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه ، فأضاف الله الخلق إلى نفسه إذ الله تولى خلقه إلى آخر كلامه ، وكذاك قوله عز وجل : هذه ناقة الله لكم آية ، فأضاف الله الناقة إلى نفسه وقال : تأكل في أرض الله ، وقال : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ، وقال : إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، فأضاف الله الأرض إلى نفسه ، إذ الله تولى خلقها فبسطها ، وقال : فطرة الله التي فطر الناس عليها ، فأضاف الله الفطرة إلى نفسه إذ الله فطر الناس عليها ، فما أضاف الله إلى نفسه على مضافين ( كذا ) إحداهما إضافة الذات والأخرى إضافة الخلق ، فتفهموا هذين المعنيين لا تغالطوا ، فمعنى الخبر إن صح من طريق النقل مسنداً : فإن ابن آدم خلق على الصورة التي خلقها الرحمن حين صور آدم ثم نفخ فيه الروح ، قال الله جل وعلا : ولقد خلقناكم ثم صورناكم .
الوهابية والتوحيد _ 41 _
والدليل على صحة هذا التأويل أن أبا موسى محمد بن المثنى قال : ثنا أبو عامر عبدالملك ابن عمر قال : ثناالمغيرة وهو ابن عبدالرحمن ، عن أبي الزناد ، عن موسى بن أبي عثمان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خلق الله آدم على صورته ، وطوله ستون ذراعاً ... إلخ ) ، انتهى .
ونحن نقبل منه تأويله لهذا الحديث لأنه موافق للمنطق وموافق لمذهبنا ، ولكن الوهابيين تبنوا الحديث الذي فيه ( على صورة الرحمن ) ونسبوا إلى الخليفة عمر بأنه قبل مقولة اليهود بأن الله تعالى خلق آدم على صورة الله سبحانه وتعالى !
وبذلك اختاروا أن يكون ( إلههم ) على صورة البشر !
* قال في شرح مسلم بهامش الساري : 2/116 : ( قوله : فلا يزال يدعو الله تعالى حتى يضحك الله تعالى منه ، قال العلماء : ضحك الله تعالى هو رضاه بفعل عبده ومحبته إياه وإظهار نعمته عليه ) .
* وقال بهامش الساري : 10/249 : ( وأما إطلاق اليدين الله تعالى فمتأول على القدرة ، وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه ) .
* وقال في شرح مسلم مجلد 2 جزء 3 ص 12 : ( عن أبي ذر قال سألت رسول الله ( ص ) هل رأيت ربك ؟ قال : نور ، أنى أراه ! ومعناه حجابه نور فكيف أراه ، ونقل عن القاضي عياض قوله : من المستحيل أن تكون ذات الله نوراً ، إذ النور من جملة الأجسام ، والله سبحانه وتعالى يجل عن ذلك ) .
الوهابية والتوحيد _ 42 _
* وقال في شرح مسلم مجلد 4 جزء 7 ص 6 : ( قوله ( ص ) : ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا ، هذا الحديث فيه مذهبان : أحدهما : وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى ، وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد ، مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق ، والثاني : أنه على الإستعارة ).
* وقال في شرح مسلم مجلد 4 جزء 7 ص 98 : ( قوله ( ص ) : إلا أخذها الرحمن بيمينه قال المازري : إن هذا الحديث وشبهه مما عبر به على ما اعتادوا في خطابهم ، فكنى هنا عن قبول الصدقة بأخذها في الكف ، ويتقدس الله سبحانه عن التجسيم ) .
* وقال في شرح مسلم مجلد 6 جزء 12 ص 212 : ( قال القاضي عياض : المراد بكونهم عن اليمين وكلتا يديه يمين ، الحالة الحسنة والمنزلة الرفيعة ، وقال ابن عرفة : يقال أتاه عن يمينه إذا جاءه من الجهة المحمودة ) .
* وقال في : 8/16 : ( إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يميناً ... إلخ ، قال ابن عرفة : وكلتا يديه يمين فتنبيه على أنه ليس المراد باليمين الجارحة ) .
الوهابية والتوحيد _ 43 _
* وقال في : 8/44 : ( قوله ( ص ) أغيظ رجل على الله ، قال الماوردي : أغيظ مصروف عن ظاهره لأن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بالغيظ ، فيتأول هنا الغيظ على الغضب ) .
* وقال في مجلد 9 جزء 17 ص 132 : ( في شرح حديث ابن عمر الآتي الذي ينص على التجسيد : قال القاضي : ونحن نؤمن بالله تعالى وصفاته ولا نشبه شيئاً به ، وقبض النبي ( ص ) أصابعه وبسطها تمثيل لقبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها وحكاية للمقبوض والمبسوط وهو السماوات والأرضون ، لا إشارة إلى القبض والبسط الذي هو صفة القابض والباسط سبحانه وتعالى ، إطلاق اليدين الله تعالى متأول على القدرة وكنى عن ذلك باليدين لأن أفعالنا باليدين فخوطبنا بما نفهمه ، هذا مختصر كلام المازري ) .
* وقال في مجلد 9 جزء 17 ص 60 : ( قوله ( ص ) : الله أشد فرحاً بتوبة عبده ، قال العلماء : فرح الله تعالى هو رضاه ، فعبر عن الرضا بالفرح تأكيداً لمعنى الرضا في نفس السامع ) .
وقال في مجلد 9 جزء 17 ص 182 : ( قوله ( ص ) : فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله ، هذا الحديث من مشاهير أحاديث الصفات والعلماء فيها على مذهبين : أحدهما : وهو قول جمهور السلف وطائفة من المتكلمين أنه لا يتكلم في تأويلها ولها معنى يليق بها ، وظاهرها غير مراد ، قال القاضي : أظهر التأويلات أنهم قوم استحقوها وخلقوا لها ، ولا بد من صرفها عن ظاهرها لقيام الدليل القطعي العقلي على استحالة الجارحة على الله تعالى ) .
* وقال في شرح مسلم بهامش الساري : 10/44 : ( قوله ( ص ) : فإن الله خلق آدم على صورته وهو من أحاديث الصفات ، وإن من العلماء من يمسك عن تأويلها ويقول نؤمن بأنها حق وأن ظاهرها غير مراد ، ولها معنى يليق بها ، وهذا مذهب جمهور السلف ، وهو أحوط وأسلم ، والثاني : أنها تتأول على حسب ما يليق بتنزيه الله تعالى ) .
الوهابية والتوحيد _ 44 _
* وقال في رياض الصالحين ص 200 : ( يقرب المؤمن يوم القيامة من ربه دنو كرامة وإحسان لا دنو مسافة ، إنه سبحانه منزه عن المسافة ) .
وأسقط الوهابيون النووي عن الإمامة
* لجنة الإفتاء الوهابية : 3/163 : السؤال الثاني عشر من الفتوى رقم 4264 : س : بالنسبة للإمام النووي بعض الإخوة يقول إنه أشعري في الأسماء والصفات ، فهل يصح هذا وما الدليل ، وهل يصح التكلم في حق العلماء بهذه الصورة ؟ ومنهم من قال : إن له كتاب يسمى بستان العارفين وهو صوفي فيه ، فهل يصح هذا الكلام ؟
ج : له أغلاط في الصفات سلك فيها مسلك المؤولين وأخطاء في ذلك فلا يقتدى به في ذلك ، بل الواجب التمسك بقول أهل السنة وهو إثبات الأسماء والصفات الواردة في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة المطهرة ، والإيمان بذلك على الوجه اللائق بالله جل وعلا من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ، عملا بقوله سبحانه : ليس كمثله شئ وهو السميع البصير ، وما جاء في معناها من الآيات .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ( بأسماء أعضائها )
* قال في إرشاد الساري : 4/235 : ( الغضب من المخلوقين شئ يداخل قلوبهم ، ولا يليق أن يوصف الباري تعالى بذلك ، فيؤول ذلك على ما يليق به تعالى ، فيحمل على آثاره ولوازمه) .
* وقال في إرشاد الساري : 5/319 : ( عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) أنه قال : خلق الله عز وجل آدم ( ع ) على صورته ، أي أن الله أوجزه على الهيئة التي خلقه الله عليها ، وعورض هذا التفسير بقوله في حديث آخر : خلق آدم على صورة الرحمن ! )
* وقال في : 7/36 : ( قوله ( ص ) : إن الله يضحك لرجلين ، قال القاضي : الضحك هنا استعارة في حق الله تعالى ، لأنه إنما يصح من الأجسام ، والله تعالى منزه عن ذلك ، وإنما المراد به الرضا ) .
الوهابية والتوحيد _ 45 _
* وقال في : 9/187 : ( عن مالك أنه أول النزول هنا بنزول رحمته تعالى وأمره أو ملائكته ، وقال البيضاوي : لما ثبت بالقواطع أنه تعالى منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الإنتقال ) .
* وقال في : 9/384 : ( قال النبي ( ص ) : لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه ، قيل فيه هم الذين قدمهم الله لها من شرار خلقه فهم قدم الله للنار ) .
* وقال في : 10/250 : ( وغضبه تعالى يراد به ما أراده من العقوبة ) .
* وقال في : 10/269 : ( قوله تعالى : يد الله فوق أيديهم ، يريد أن يد رسول الله ( ص ) التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله ، وهو سبحانه وتعالى منزه عن الجوارح وصفات الأجسام ، وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول ( ص ) كعقده مع الله ) .
* وقال في : 10/388 : ( جاء رجل إلى النبي ( ص ) فقال : إن الله يمسك السموات على إصبع والأرضين على إصبع فضحك النبي ( ص ) حتى بدت نواجذه ، وهذه الأوصاف في حق الله تعالى محال ) .
* وقال في : 10/391 : ( قوله تعالى : ثم استوى على العرش ، قول أهل السنة إن الله سبحانه وصف نفسه بـ ( على ) وهي صفة من صفات الذات ، وقال المعتزل : معناه الإستيلاء بالقهر والغلبة ، وقالت المجسمة : معناه الإستقرار ) .
* وقال في : 10/398 : ( قول النبي ( ص ) : إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا القمر لا تضامون ، أي لا تتزاحمون ولا تختلفون ، ومعناه لاتظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض فإنكم ترونه في جهاتكم كلها ، وهو متعال عن الجهة ، والتشبيه برؤية القمر للرؤية دون تشبيه المرئي ، قوله تعالى : إلى ربها ناظرة ، بلا كيفية ولا جهة ولا ثبوت مسافة ) .
* وقال في : 10/402 : ( قوله : فلا يزال يدعو حتى يضحك الله ، المراد لازم الضحك وهو الرضا) .
الوهابية والتوحيد _ 46 _
* وقال في : 10/420 : ( قوله تعالى : ثم استوى على العرش ، وتفسير العرش بالسرير والإستواء بالإستقرار كما يقول المشبه باطل ، لأنه تعالى كان قبل العرش ولا مكان ، وهو الآن كما كان ، والتغير من صفات الأكوان ) .
* وقال في : 10/435 : ( عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : يتنزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا أي ينزل ملك بأمره ، وتأوله ابن حزم بأنه فعل يفعله الله في سماء الدنيا كالفتح بطول الدعاء ، وعند ابن خزيمة فإذا طلع الفجر صعد إلى العرش ) ، انتهى .
وقصده أن ابن خزيمة يقول بالتجسيم ونزول الله تعالى بذاته ثم صعوده !!
وكثيرون ... وافقونا على لزوم التأويل
* قال ابن جزي في التسهيل : 3/283 : ( لا يبعد في الشرع وصفه سبحانه بالفوق على المعنى الذي يليق بساحته ، لا على المعنى الذي يسبق إلى الوهم من التحديد ) .
* وقال السهيلي في الروض الآنف : 3/15 : ( قال ابن اللبان : نسبة الأيدي إليه استعارة ، والله سبحانه وتعالى منزه عن الجارحة ) .
* وقال السهيلي في : 3/24 : ( إضافة الظل إليه سبحانه وتعالى إضافة تشريف والله تعالى منزه عن الظل لأنه من خواص الأجسام ، فالمراد ظل عرشه كما في حديث سلمان ) .
الوهابية والتوحيد _ 47 _
* وقال في : 3/48 : ( معنى ضحك الرب ، أي يرضيه غاية الرضا ) .
* وقال الرازي في المطالب العالية مجلد 1 جزء 1 ص 10 : ( الفلاسفة اتفقوا على إثبات موجودات ليست بمتحيزة ولاحالة في المتحيز ، مثل العقول والنفوس والهيولي ، إن جمعاً من أكابر المسلمين اختاروا هذا المذهب مثل معمر بن عباد من المعتزلة ، ومحمد بن النعمان من الرافضة ) ، انتهى ، ومحمد بن النعمان هو الشيخ المفيد أحد كبار مراجع الشيعة الذي نسب إليه خصومهم أنه يقول بالتجسيم ، وأنت ترى أن الفخر الرازي نقل قوله بوجود مخلوقات غير متحيزة لا تحتاج إلى مكان ، فكيف بخالقها سبحانه وتعالى !
* وقال ابن حزم الظاهري في الفصل مجلد 1 جزء 2 ص 167 : ( وكذلك صح عن رسول الله ( ص ) أنه قال : إن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ( الله ) فيها قدمه ، فمعنى القدم في أحاديث المذكور إنما هو كما قال الله تعالى : أن لهم قدم صدق عند ربهم ، يريد سالف صدق ، فمعناه أن الأمة التي تقدم في علمه تعالى أنه يملأ بها جهنم، وكذلك القول في الحديث الثابت : خلق الله آدم على صورته ، فهذه إضافة ملك ، يريد الصورة التي تخيرها الله سبحانه وتعالى ليكون آدم مصوراً عليها ) .
* قال في تفسير المنار : 3/220 ـ 221 : ( قال قائلون : لا يجوز أن يعتمد في هذا الباب إلا ما ورد في القرآن أو تواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم تواتراً يفيد العلم ، فأما أخبار الآحاد فلا تقبل فيه ولا نشتغل بتأويله عند من يميل إلى التأويل ولا بروايته عند من يقتصر على الرواية ، لأن ذلك حكم بالمظنون واعتماد عليه .
وما ذكروه ليس ببعيد لكنه مخالف لظاهر ما درج عليه السلف ! فإنهم قبلوا هذه الأخبار من العدول ورووها وصححوها ، فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن التابعين كانوا قد عرفوا من أدلة الشرع أنه لا يجوز اتهام العدل بالكذب لا سيما في صفات الله تعالى ، فإذا روى الصديق رضي الله عنه خبراً وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا ، فرد روايته تكذيب له ونسبة له إلى الوضع ، أو إلى السهو ، فقبلوه ، وقالوا قال أبو بكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا في التابعين ، فالآن إذا ثبت عندهم بأدلة الشرع أنه لا سبيل إلى اتهام العدل التقي من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، فمن أين يجب أن لا يتهم ظنون الآحاد وأن ينزل الظن منزلة نقل العدل مع أن بعض الظن إثم ، فإذا قال الشارع ما أخبركم به العدل فصدقوه واقبلوه وانقلوه وأظهروه ، فلا يلزم من هذا أن يقال ما حدثتكم به نفوسكم من ظنونكم فاقبلوه وأظهروه وارووا عن ظنونكم وضمائركم ونفوسكم ما قالته ، فليس هذا في معنى المنصوص .
الوهابية والتوحيد _ 49 _
ولهذا نقول : ما رواه غير العدل من هذا الجنس ينبغي أن يعرض عنه ولا يروى ، ويحتاط في المواعظ والأمثال وما يجري مجراها .
والجواب الثاني : أن تلك الأخبار روتها الصحابة لأنهم سمعوها يقيناً ، فما نقلوا إلا ما تيقنوه ، والتابعون قبلوه ورووه وما قالوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا بل قالوا قال فلان قال رسول الله كذا وكانوا صادقين ، وما أهملوا روايته ، لاشتمال كل حديث على فوائد سوى اللفظ الموهم عند العارف معنى حقيقياً يفهمه منه ليس ذلك ظنياً في حقه ، مثاله رواية الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول هل من داع فأستجيب له
، وهل من مستغفر فأغفر له ... الحديث ، فهذا الحديث سيق لنهاية الترغيب في قيام الليل وله تأثير عظيم في تحريك الدواعي للتهجد الذي هو أفضل العبادات ، فلو ترك هذا الحديث لبطلت هذه الفائدة العظيمة ولا سبيل إلى إهمالها ، وليس فيه إلا إيهام لفظ النزول عند الصبي والعامي الجاري مجرى الصبي ، وما أهون على البصير أن يغرس في قلب العامي التنزيه والتقديس عن صورة النزول بأن يقول له : إن كان نزوله إلى السماء الدنيا ليسمعنا نداءه وقوله فما أسمعنا ، فأي فائدة في نزوله ؟ ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك وهو على العرش أو على السماء العليا ، فهذا القدر يعرف العامي أن ظاهر النزول
باطل ، بل مثاله أن يريد من في المشرق إسماع شخص في المغرب ومناداته ، فتقدم إلى المغرب أقداماً معدودة وأخذ يناديه وهو يعلم أنه لا يسمع ، فيكون نقله الأقدام عملاً باطلاً وفعلاً كفعل المجانين ، فكيف يستقر مثل هذا في قلب عاقل ! بل يضطر بهذا القدر كل عامي إلى أن يتيقن نفي صورة النزول ، وكيف وقد علم استحالة الجسمية عليه ، واستحالة الإنتقال على غير الأجسام ، كاستحالة النزول من غير انتقال ، فإذن الفائدة في نقل هذه الأخبار عظيمة والضرر يسير ، فأنى يساوي هذا حكاية الظنون المنقدحة في الأنفس ! ) انتهى .
فانظر إلى هذا المفسر المثقف كيف هداه عقله إلى الحق وأن أمور العقائد الخطيرة لا يكفي لإثباتها خبر واحد يعلم الله ماذا حدث في سلسلة رواته ، ولكنه أخضع عقله لعمل ( السلف ) الذين حكموا بوجوب قبول رواية الصحابي الواحد حتى لو كانت
في العقيدة وحتى لو كانت مخالفة لمحكم القرآن وقبلوا لذلك أحاديث النزول والرؤية وهي أحاديث آحاد وأفتوا بأنه يجب قبول رواية فلان وفلان لأن الله تعالى أمر بقبولها ، وأوجبوا نفي تعمد الكذب عنه ، بل والخطأ والسهو !
وافترضوا أنه لا يوجد لرواية الصحابي رواية صحابي آخر تعارضها !
ثم أنظر كيف هون هذا المثقف من تأثير أحاديث النزول والتشبيه والتجسيم على عوام المسلمين بل وعلمائهم ، وكأنه لم يعرف ما سببته من تشويش في عقيدة المسلمين ، ومشاكل وصراعات بينهم ! وأنها كانت السبب في انتشار روايات اليهود والنصارى والمجوس عن تجسيم الله تعالى ، ورواج الأساطير بين المسلمين عن صورة الله تعالى وأوصافه ، وأنه ينزل راكباً على حماره ، وأنه شاب أمرد أجعد قطط ، وصار ( عبادهم وزهادهم ) يبحثون عنه بين الغلمان أصحاب هذه الصفات ، ويروون للناس القصص الكاذبة عن مشاهدتهم إياه ومصافحته ومعانقته ... !
الوهابية والتوحيد _ 50 _
إلى آخر هذا البلاء الذي وقف أهل البيت وعائشة ومن معهم من الصحابة في وجه من قدحوا شرارته ، وحذروا المسلمين من خطره ، وطلبوا منهم رده وتكذيبه !
ثم انظر إلى تسهيله إزالة آثار روايات التجسيم بقوله ( وما أهون على البصير أن يغرس في قلب العامي التنزيه والتقديس فهذا القدر يعرف العامي أن ظاهر النزول باطل ) ولو كان الأمر كما قال فلماذا عجز العلماء والفلاسفة عن إقناع أهل التشبيه والتجسيم بل استطاعوا أن يغرسوه في أذهان العوام ؟ !
وإذا كان الأمر بهذه السهولة فليتفضل عالم بصير ويغرس في قلب ابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن باز والألباني وأتباعهم التنزيه والتقديس ، ويعرفهم أن ظاهر النزول باطل !
وأخيراً ، كيف تَعَقَّل هذا المفسر المثقف أن الله تعالى يريد حث المسلمين على القيام والتهجد في الليل ، فاستعمل لذلك أسلوباً عجيباً فقال لعباده : إني أنزل كل ليلة إلى السماء الدنيا فقوموا في الليل ، فأوقعهم في الوهم في عقيدتهم به ، ليحثهم على عبادته ! !
لكن حقيقة المسألة عند رشيد رضا وأمثاله هي الدفاع عن شخصية الخليفة عمر الذي قال بالرؤية والنزول ، ولكن ماذا نصنع إذا كان الدفاع غير ممكن عن هذه الفكرة غير المعقولة التي أخذها الخليفة من ثقافة كعب الأحبار !
التأويل قلنا إن الصحابة ومن عاصرهم تعاملوا مع ألفاظ القرآن الكريم والحديث الشريف بحسب قواعد اللغة العربية ، فكانوا يحملون ألفاظها على معانيها المجازية عندما توجد قرينة عقلية أو لفظية توجب ذلك ، كما كانوا يرجعون إلى النبي (ص)
فيبين لهم معنى الآية والحديث الذي لا يعرفونه .
وأنت عندما تلاحظ أسئلتهم للنبي (ص) عن معاني ألفاظه وكلامه وكذا أسئلتهم لمن هو أفهم منهم من الصحابة وهي أسئلة كثيرة جداً يظهر لك أن بعضها كان استيضاحاً طبيعياً للمفهوم أو الحكم الشرعي ، وبعضها كان بسبب ميل السائل إلى تفسير كلام النبي بمعنى معين ، وبعضها كان بسبب انخفاض مستواهم الذهني أو جهلهم باللغة ... إلخ .
أما بعد النبي (ص) فقد عين لهم من يرجعون إليه فقال : إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ولكنهم لم يرجعوا إليهم من بعده ! فطرأت على المسلمين مشكلات فكرية متعددة بسبب تعدد المراجع في نصوص القرآن والحديث ، وكثرت الظنون والإحتمالات ، وتضاربت التفاسير والأحاديث من هذا الصحابي وذاك ، ثم من هذا التابعي وذاك ، وما لبثت أن ظهرت تفاسير متناقضة لآيات الصفات ، كما ظهرت أحاديث متناقضة منسوبة إلى النبي (ص) !
فاختار جماعة التأويل كما ذكرنا ، وأفتى بعض علماء إخواننا بوجوب السكوت عن تفسيرها احتياطاً لدينهم وخوفاً من الخطأ في هذا الموضوع الخطير ، وقالوا لمن يأخذ برأيهم من المسلمين : إقرؤوها كما هي ولا تفسروها ، وفوضوا أمرها إلى الله تعالى .
وهذا هو معنى التفويض أو مذهب الإمتناع عن التفسير ، الذي صار مذهباً رسمياً لكثير من المسلمين عندما راجت سوق التفاسير المتناقضة ، وكثرت رواية الأحاديث المؤيدة لهذا التفسير وذاك .
وأقدم نص وجدته عن التفويض وتحريم التأويل ما رواه السيوطي عن الإمام مالك وسفيان بن عيينة .
* قال في الدر المنثور : 3/91 : (وأخرج البيهقي عن عبد الله بن وهب قال : كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى ، كيف استواؤه ؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : الرحمن على العرش
استوى كما وصف نفسه ، ولا يقال له كيف ، وكيف عنه مرفوع ، وأنت رجل سوء صاحب بدعة ، أخرجوه قال فأخرج الرجل !
الوهابية والتوحيد _ 52 _
وأخرج البيهقي عن أحمد بن أبي الحواري قال سمعت سفيان بن عيينة يقول : كل ما وصف الله من نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه .
وأخرج البيهقي عن إسحق بن موسى قال سمعت ابن عيينة يقول : ما وصف الله به نفسه فتفسيره قراءته ، ليس لأحد أن يفسره إلا الله تعالى ورسله صلوات الله عليهم ) .
* وقال الذهبي في سيره : 8/466 : ( قال محمد بن إسحاق الصاغاني : حدثنا لوين قال : قيل لابن عيينة : هذه الأحاديث التي تروى في الرؤية ؟ قال : حق على ما سمعناها ممن نثق به ونرضاه .
وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي : حدثني أحمد بن نصر قال : سألت ابن عيينة وجعلت ألح عليه فقال : دعني أتنفس ، فقلت : كيف حديث عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله يحمل السماوات على إصبع ، وحديث : إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمان ، وحديث أن الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق ؟ فقال سفيان : هي كما جاءت نقر بها ونحدث بها بلا كيف ! )
* وقال الذهبي في سيره : 10/505 عن القاسم بن سلام : ( أخبرنا أبو محمد بن علوان ، أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، أخبرنا عبد المغيث بن زهير ، حدثنا أحمد بن عبيد الله ، حدثنا محمد بن علي العشاري ، أخبرنا أبو الحسن الدار قطني ،
أخبرنا محمد بن مخلد ، أخبرنا العباس الدوري، سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام وذكر الباب الذي يروى فيه الرؤية والكرسي موضع القدمين وضحك ربنا وأين كان ربنا ، فقال : هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض ، وهي عندنا حق لا نشك فيها ، ولكن إذا قيل كيف يضحك وكيف وضع قدمه ؟ قلنا : لا نفسر هذا ولا سمعنا أحداً يفسره ) ، انتهى .
من هذه النصوص الشرائح عن التفويض تتضح حقائق كثيرة ، أهمها الحقائق الخمسة التالية :
الأولى : أن مذهب التفويض متأخر عن مذهب التأويل .
الثانية : أن السلف بمعنى جيل الصحابة كانوا متكلين على وجود النبي (ص) وقد يسألونه وقد لا يسألونه ! ثم اتكلوا من بعده على الخليفة وما يقوله ، أو على الإمام من أهل البيت (ع) وما يقوله .
الثالثة : أن السلف بمعنى التابعين كان أكثرهم متأولين ، وقد يكون فيهم مفوضة ، أما تابعو التابعين والجيل الرابع فقد كثر فيهم المفوضة حتى صار التفويض هو المذهب الرسمي لأهل الحديث في مقابل الشيعة المتأولة ، ثم في مقابل المعتزلة
المتأولة أيضاً .
الرابعة : أن التفويض يكاد أن يكون محصوراً في صفات الذات الإلهية ، من نوع الإستواء على العرش والضحك والغضب ، أما صفات الأفعال فكان التأويل فيها أكثر .
الخامسة : أن كون الشخص مفوضاً لا يعني أنه لا يتأول ، فقد يكون مفوضاً في بعض الصفات ومتأولاً في بعضها ، وقد تقدم عن الإمام مالك من إرشاد الساري : 9/187 أنه أول النزول بنزول رحمته تعالى وأمره أو ملائكته ، وتقدم عنه من الدر المنثور : 3/91 التفويض في معنى الإستواء ، وهو الذي حاول المجسمة تحريفه والإستشهاد به لمذهبهم .
فالتفويض أو التأويل كان يتبع أحد أمرين :
الأول : معرفة الصحابي أو الراوي بمعنى الآية والحديث أو عدم معرفته .
والثاني : وجود حديث صحيح في نظره لا يمكنه رده ولا تفسيره بتفسير معقول .
الوهابية والتوحيد _ 54 _
شيخ الأزهر يرى أن كل المفوضة متأولة
فقد سمى الشيخ سليم البشري كل السلف المفوضة متأولين بالإجمال لأنهم نفوا الجهة والمعاني المادية عن صفات الله تعالى ولكن لم يحددوا المراد منها ، وسمى المتأخرين متأولين بالتفصيل لأنهم نفوا المعاني المادية الحسية وعينوا المراد بالآيات
والأحاديث المتشابهة .
قال في جواب رسالته الآتية في الفصل السابع ( ومثل هذه يجاب عنها بأنها ظواهر ظنية لا تعارض الأدلة القطعية اليقينية الدالة على انتفاء المكان والجهة ، فيجب تأويلها وحملها على محامل صحيحة لا تأباها الدلائل والنصوص الشرعية ، إما تأويلاً إجمالياً بلا تعيين للمراد منها كما هو مذهب السلف ، وإما تأويلاً تفصيلياً بتعيين محاملها وما يراد منها كما هو رأي الخلف ) .
نصَّ عدد من العلماء على أن سبب تفويض السلف وعدم تفسيرهم آيات الصفات وأحاديثها هو عجزهم العلمي وخوفهم من الخطأ في تفسيرها ، وهذا هو الموقف الطبيعي لكل عالم يحترم نفسه ، ويقف عند حدود علمه .
* قال جامع الأحاديث القدسية : 2/46 : (كل آيات الصفات وأحاديث الصفات علينا أن نؤمن بها ونعتقد بها ما قاله السلف ، وهو التفويض إلى الله تعالى مع إيماننا بالتنزيه ، وما قاله الخلف في التأويل يحتاج إلى علم أكثر فالأحسن مذهب السلف
لسلامته من الوقوع في الخطر ، وتأويل كلام الله أو كلام رسوله بما لا يكون مراداً لله خطر جسيم ) ، انتهى .
أما سبب هذا العجز العلمي فليس هو النقص في مستوى أولئك العلماء ، فإن فيهم أصحاب أذهان عميقة ، بل لأن روايات النزول والرؤية والتشبيه والتجسيم التي روجتها الدولة مناقضة للعقل والقرآن ، ومتناقضة فيما بينها ، فهي لا تقبل التفسير
المعقول !
الوهابية والتوحيد _ 55 _
ولكنهم اضطروا لقبولها لأنها صحيحة بمقاييسهم التي ألزموا أنفسهم بها ، فكان الحل عندهم أن اكتفوا بروايتها وتهربوا من تفسيرها ، وأوجبوا على المسلمين الإيمان بها بلا سؤال ! !
إنها ظاهرة ملفتة أن يقبل علماء إخواننا التناقض ويفرضوا على المسلمين الإيمان به ! ليس في هذه المفردة وحدها ، بل في مسائل كثيرة استلموها من السلف على تناقضها وسلموها كذلك إلى الأجيال ، وطلبوا منهم أن يقبلوها ويؤمنوا بها ، بلا تفسير
ولا سؤال ! !
وكل ذلك يرجع إلى مسألة تناقض الصحابة بعد النبي (ص) هو أساس كل تناقض يتراءى في مفاهيم الإسلام وأحكامه ، وقد أكده موقفهم الرسمي الذي اتخذوه إخواننا من الصحابة فقالوا : كلهم عدول ، ونتولاهم كلهم أجمعين ، أكتعين ، أبصعين !
ومن يتولى مجموعة متناقضة ، كيف لا يقع في التناقض ؟ !
ومن يسلم زمامه إلى شركاء متشاكسين ، كيف لا يتحير ؟ !
ولو أنهم قالوا إن الصحابة اختلفوا وكفَّر بعضهم بعضاً وقتل بعضهم بعضاً ، وقد أخبر النبي (ص) أن بعضهم من أهل النار ، ولا يراهم ولا يرونه بعد فراقه إياهم ، لأنهم سينقلبون من بعده ! فعلى المسلم أن يجتهد فيهم ويتولى من يعتقد صلاحه ويثق
بروايته ، ويكل أمر الباقين إلى الله تعالى .
لو قالوا ذلك لفتحوا الباب للمسلمين لحل التناقض ! لكنهم فرضوا الصحابة الذين يحبونهم بتناقضاتهم على الإسلام فرضاً ، وحرموا على المسلمين السؤال عنها تحريماً !
وغرضنا هنا أن نبين أمرين :
الأول : أن الخلاف في آيات الصفات ورواياته ، إنما هو ظاهر المسألة ، أما باطنها وواقعها فهو الخلاف في أخذ الدين من هذا الصحابي أو ذاك !
والثاني : أن المجسمة والمشبهة استغلوا السكوت في مذهب التفويض فزعموا أن سببه ليس عدم علم أولئك العلماء بمعنى آيات الصفات بل سببه عدم رغبتهم في إعلان تفسيرها الحسي ! !
وهو من أسوأ أنواع التحريف لأنه تفسير للسكوت بالكلام وتفسير للتفويض بعدم التفويض ، كما سترى ! !
وهو مذهب الذين حرَّموا تأويل الصفات ، وحرَّموا تفويض معناها إلى الله تعالى ، وأوجبوا حملها على ظاهر اللغة ، أي المعنى الحسي المادي .
وقد يبدو الفرق بينهم وبين المفوضين قليلاً ، ولكنه كبير ، لأن التفويض رأيٌ بالإمتناع عن تفسير الصفات ، والحمل على الظاهر تصويت بأن المراد منها معناها الحسي !
فكلمة ( يد الله ) عند المفوضين لا تعني القدرة كما يقول المتأولون ، ولا تعني الجارحة كما يقول الحسيون ، لأن معنى كونهم مفوضة أنهم متوقفون في معناها وممتنعون كلياً عن تفسيرها .
بل إن التفويض قد يجتمع مع نفي الظاهر الحسي منها واعتباره غير مراد ، وأن المعنى المراد منها مفوض إلى الله تعالى ، كما تقدم من قول النووي .
أما الحسيون فيقولون يجب حمل الكلمة على اليد الحقيقية لا المجازية !
وقد وصلت بهم الجرأة إلى أن أنكروا وجود المجاز في القرآن والحديث ، أي في اللغة العربية ، لأن القرآن والحديث إنما جاءا بهذه اللغة واستعملا ألفاظهما حسب قواعدها .
وإذا قلت لهم : تقصدون أن الله تعالى له جوارح ، يد ورجل وعين ، إلى آخره ؟
يقولون : نعم له يد ، ولكن لا نقول كيد الإنسان ! غير أنهم يقولون ذلك في نقاشهم معك فقط ! لأنهم يعتقدون أن الله تعالى على صورة الإنسان ، فتكون جوارحه كجوارحه ، كما عرفت وستعرف من كلماتهم .
إدعى بعض خصوم الشيعة أن هشاماً بن الحكم أول من قال بالتجسيم ، وهشام متكلم شيعي من تلاميذ الإمام جعفر الصادق (ع) توفي نحو سنة 200 هجرية ، كما سيأتي .
* فقد زعم المؤلف الوهابي الدكتور ناصر القفاري في كتابه أصول مذهب الشيعة الإمامية : 1/529 قائلاً : ( وقد حدد شيخ الإسلام ابن تيمية أول من تولى كبر هذه الفرية من هؤلاء فقال : وأول من عرف في الإسلام أنه قال إن الله جسم هو هشام بن الحكم ، منهاج السنة : 1/20 ) .
* وقال القفاري في 1 /530 ـ 531 : ( إذن تشبيه الله سبحانه بخلقه كان في اليهود وتسرب إلى التشيع ، لأن التشيع كان مأوى لكل من أراد الكيد للإسلام وأهله ، وأول من تولى كبره هشام بن الحكم ، ثم تعدى أثره إلى آخرين عرفوا بكتب الفرق
بمذاهب ضالة غالية ، ولكن شيوخ الإثني عشرية يدافعون عن هؤلاء الضلال الذين استفاض خبر فتنهم واستطار شرهم ، ويتكلفون تأويل كل بائقة منسوبة إليهم أو تكذيبها ، حتى قال المجلسي : ولعل المخالفين نسبوا إليهماهذين القولين معاندة.
وأقول : أما إنكار بعض الشيعة لذلك فقد عهد منهم التكذيب بالحقائق الواضحات ، والتصديق بالأكاذيب البينات ، وأما دفاعهم عن هؤلاء الضلال فالشئ من معدنه لا يستغرب ، فهم يدافعون عن أصحابهم ، وقد تخصص طغام منهم للدفاع عن شذاذ الآفاق ومن استفاض شره وتناقل الناس أخبار مروقه وضلاله ) ، انتهى .
ولو أن هذا الكاتب قرأ صحيح البخاري وغيره من مصادر الحديث ، لَلَمَس بيديه قبل عينيه أن مقولة التجسيم ظهرت في الناس في زمن عائشة كما تقدم ، أما أفكارها وأصلها فقد ظهر على يد كعب الأحبار وجماعته في زمن الخليفة عمر ، يعني قبل أن يولد جد هشام بن الحكم أو جد جده !
فقد روت مصادر إخواننا حديث أطيط العرش وصريره وأزيزه من ثقل الله تعالى بروايات صحيحة .
الوهابية والتوحيد _ 58 _
* منها : ما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد : 1/83 : ( عن عمر رضي الله عنه أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : أدع الله أن يدخلني الجنة ، فعظم الرب تبارك وتعالى وقال : إن كرسيه وسع السموات والأرض ، وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله ، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ) .
* وقال عنه في مجمع الزوائد : 10/159 : ( رواه أبو يعلى في الكبير ورجاله رجال الصحيح ، غير عبد الله بن خليفة الهمذاني وهو ثقة ) .
* وقال عنه في كنز العمال ص 373 : ( ع ، وابن أبي عاصم ، وابن خزيمة ، قط في الصفات ، طب في السنة ، وابن ردويه ، ص ) .
* وقال عنه في : 2/466 : ( ابن مردويه خط ص وج 6 ص 152 وقال : الخطيب من طريق أبي إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة الهمداني) .
* وقال السيوطي في الدر المنثور : 1/328 : ( وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي عاصم في السنة ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، والطبراني ، وابن مردويه ، والضياء المقدسي في المختارة ، عن عمر أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : أدع الله أن يدخلني الجنة فعظم الرب تبارك وتعالى وقال : إن كرسيه وسع السموات والأرض ، وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد إذا ركب من ثقله ، ما يفضل منه أربع أصابع ) .
* وقال الديلمي في فردوس الأخبار : 3/86 : ( عمر بن الخطاب : على العرش استوى ، حتى يسمع أطيط كأطيط الرحل ) .
* وقال الخطيب في تاريخ بغداد : 1/295 : ( عن عبد الله بن خليفة عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : على العرش استوى ، قال : حتى يسمع أطيط كأطيط الرحل ) .
* وقال في تاريخ بغداد : 4/39 : (عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله جهدت الأنفس وجاع العيال وهلكت الأموال فاستسق لنا ربك ، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سبحان الله سبحان الله، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال له : ويحك ما تدري ما الله ؟ إن شأنه أعظم من ذلك ، إنه لا يستشفع به على أحد ، إنه لفوق سماواته على عرشه ، وإنه عليه هكذا وأشار بيده مثل القبة ، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب ) ، انتهى .
* وقال الديلمي في فردوس الأخبار : 1/219 : ( ابن عمر : إن الله عز وجل ملأ عرشه ، يفضل منه كما يدور العرش أربعة أصابع ، بأصابع الرحمن عز وجل ) ، انتهى .
ويلاحظ أن عبد الله بن عمر جعل العرش أكبر من حجم الله تعالى بأربع أصابع بأصابع الله تعالى ، وبما أن آدم في رواياتهم الصحيحة مخلوق على صورة الله تعالى وطوله ستون ذراعاً وفي بعضها سبعون ذراعاً ، فتكون إصبع ( معبودهم ) أكثر من
متر !
الوهابية والتوحيد _ 59 _
* وروى أبو داود في سننه ص 418 : ( إن عرشه على سمواته لهكذا ، وقال بأصابعه مثل القبة عليه ، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب ، قال ابن بشار في حديثه : إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سماواته ، وساق الحديث .
وقال عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار عن يعقوب بن عتبة ، وجبير بن محمد بن جبير ، عن أبيه ، عن جده ، والحديث بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح ، وافقه عليه جماعة منهم يحيى بن معين وعلي بن المديني ، ورواه جماعة عن ابن إسحاق كما قال أحمد أيضاً وكان سماع عبد الأعلى وابن المثنى وابن بشار من نسخة واحدة فيما بلغني . وقال في هامشه : أط الرحل : صوت أي أصدر صوتاً هو كصوت الطقطقة ) .
* وقال ابن الأثير في النهاية : 1/54 : ( الأطيط : صوت الأقتاب ، وأطيط الإبل : أصواتها وحنينها ، أي أنه ليعجز عن حمله وعظمته ، إذ كان معلوماً أن أطيط الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله ) .
وفيما ذكرناه من حديث طقطقة العرش كفاية ، وقد روتها مصادر كثيرة مثل : فردوس الأخبار للديلمي : 1/220 ، ومجمع الزوائد : 10/398 ، وكنز العمال : 1/224 و : 2/73 و : 10/ 363 و367 و : 14/469 .
ومن الواضح لمن له أدنى اطلاع أن مقولات التجسيم وأحاديثه ظهرت بعد النبي (ص) وأن أصلها من يهود المدينة وكعب الأحبار ، ثم ظهرت من بعض الصحابة بصورة أحاديث نبوية ، ثم تعصب لها بعض إخواننا حتى جعلوها مذهباً .
وقد اختصت بروايتها وتصحيحها مصادر إخواننا السنة، ولم ترو مصادرنا منها شيئا ، بل روت رد أهل البيت (ع) لها واستنكارهم إياها !
فهل يعرف الدكتور القفاري من أين دخل التجسيم في الإسلام ؟ !
وقد اقترب الشيخ محمد زاهد الكوثري وهو باحث من علماء الأزهر من الحقيقة عند ما اعترف بأن جذور التشبيه والتجسيم إنما هي من رواة إخواننا السنة ، ولكنه حمل مسؤليتها لمجسمي التابعين ومن بعدهم ، ولم يجرأ على نسبة رواياتها إلى الصحابة ... قال في مقدمته لكتاب الأسماء والصفات للبيهقي : ( للمحدثين ورواة الأخبار منزلة عليا عند جمهرة أهل العلم ، لكن بينهم من تعدى طوره وألف فيما لا يحسنه ، فأصبح مجلبة
العار لطائفته بالغ الضرر لمن يسايره ويتقلد رأيه !
ومن هؤلاء غالب من ألف منهم في صفات الله سبحانه ، فدونك مرويات حماد بن سلمة في الصفات تجدها تحتوي على كثير من الأخبار التالفة يتناقلها الرواة طبقة عن طبقة ، مع أنه قد تزوج نحو مائة امرأة من غير أن يولد له ولد منهن ، وقد فعل
هذا التزواج والتنكاح في الرجل فعله بحيث أصبح في غير حديث ثابت البناني لا يميز بين مروياته الأصلية وبين ما دسه في كتبه أمثال ربيبه ابن أبي العوجاء وربيبه الآخر زيد المدعو بابن حماد ، بعد أن كان جليل القدر بين الرواة قوياً في اللغة ، فضل بمروياته الباطلة كثير من بسطاء الرواة .
ويجد المطالع الكريم نماذج شتى من أخباره الواهية في باب التوحيد من كتب الموضوعات المبسوطة ، وفي كتب الرجال ، وإن حاول أناس الدفاع عنه بدون جدوى ، وشرع الله أحق بالدفاع من الدفاع عن شخص ، ولا سيما عند تراكب التهم القاطعة
لكل عذر .
وفعلت مرويات نعيم بن حماد أيضاً مثل ذلك بل تحمسه البالغ أدى به إلى التجسيم كما وقع مثل ذلك لشيخ شيخه مقاتل بن سليمان .
الوهابية والتوحيد _ 60 _
ويجد آثار الضرر الوبيل في مروياتهما في كتب الرواة الذين كانوا يتقلدونها من غير معرفة منهم لما هنالك ، فدونك كتاب الإستقامة لخشيش بن أصرم ، والكتب التي تسمى السنة لعبد الله وللخلال ، ولأبي الشيخ ، وللعسال، ولأبي بكر بن عاصم، وللطبراني، والجامع، والسنة والجماعة لحرب بن إسماعيل السيرجاني ، والتوحيد لابن خزيمة ، ولابن مندة ، والصفات للحكم بن معبد الخزاعي ، والنقض لعثمان بن سعيد الدارمي ، والشريعة للآجري ، والإبانة لأبي نصر السجزي ، ولابن بطة ، ونقض التأويلات لأبي يعلي القاضي ، وذم الكلام والفاروق لصاحب منازل السائرين ...
تجد فيها ما ينبذه الشرع والعقل في آن واحد ولا سيما النقض لعثمان بن سعيدالدارمي السجزي المجسم فإنه أول من اجترأ من المجسمة بالقول إن الله لو شاء لاستقر على ظهربعوضة فاستقلت به بقدرته ، فكيف على عرش عظيم!!
وتابعه الشيخ الحراني ( ابن تيمية ) في ذلك كما تجد نص كلامه في غوث العباد المطبوع سنة 1351 بمطبعة الحلبي . وكم لهذا السجزي من طامات مثل إثبات الحركة له تعالى وغير ذلك !
وكم من كتب من هذا القبيل فيها من الأخبار الباطلة والآراء السافلة ما الله به عليم ، فاتسع الخرق بذلك على الراقع وعظم الخطب إلى أن قام علماء أمناء برأب الصدع نظراً ورواية وكان من هؤلاء العلماء الخطابي، وأبو الحسن الطبري ، وابن فورك ، والحليمي ، وأبو إسحاق الاسفرايني ، والأستاذ عبد القاهر البغدادي ، وغيرهم من السادة القادة الذين لا يحصون عدداً ) ، انتهى .
وهكذا يعترف المنصفون من علماء إخواننا السنة بأن ما في صحاحهم من أحاديث الرؤية والتشبيه والتجسيم ترجع كلها أو جلها إلى حماد بن سلمة ونعيم بن حماد ومقاتل بن سليمان ووهب بن منبه وأستاذهم جميعاً كعب الأحبار !
ولكنهم لا يجرأون على الصعود إلى الصحابة الذين تبنوا كعباً وأفكار كعب ونشروها بين المسلمين بل وألبسوها ثوباً إسلامياً ! !
* قال الشهرستاني في الملل والنحل : 1/ 93 طبع الحلبي القاهرة 1968 :
( إعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية : من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة والعظمة ، ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل ، بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك ، إلا أنهم يقولون هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها صفات خبرية ، ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون ، سمي السلف صفاتية ، والمعتزلة معطلة ، فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات ، واقتصر بعضهم على صفات دلت الأفعال عليها وما ورد به الخبر ، فاقترفوا فيه فرقتين ، فمنهم من أوله على وجه يحتمل اللفظ ذلك ، ومنهم من توقف في التأويل وقال عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شئ ، فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شئ منها وقطعنا بذلك ، إلا أنا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه ، مثل قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى ، ومثل قوله : خلقت بيدي ، ومثل قوله : وجاء ربك ، إلى غير ذلك ، ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها بل التكليف ورد بالإعتقاد بأن لا شريك له وليس كمثله شئ وذلك قد أثبتناه يقيناً .
ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف فقالوا : لا بد من إجرائها على ظاهرها ، والقول بتفسيرها كما وردت ، من غير تعرض للتأويل ولا توقف في الظاهر ، فوقعوا في التشبيه الصرف ، وذلك على خلاف ما اعتقده السلف ، ولقد كان التشبيه صرفاً خالصاً في اليهود لا في كلهم ، بل في القرائين منهم إذ وجدوا في التوراة ألفاظا تدل على ذلك ) ، انتهى .
هذا النص من الشهرستاني ( 469 ـ 548 ) يدل على أن المجسمة أخذوا شكل مذهب ولكنه كان محدوداً وطارئاً على علماء إخواننا السنة ، وأنهم ظهروا متأخراً وتجاوزوا ما رسمه القدماء من تحريم تفسير آيات الصفات وأحاديثها ، ففسروها بظاهر اللغة ووقعوا في التجسيم !
ولذلك شبههم بالقرائين اليهود الذين كان التشبيه فيهم خالصاً على حد قوله ، وهو يشير بذلك أن التجسيم في هؤلاء المسلمين كان مخلوطاً غير خالص ، وذلك لخوفهم من المسلمين !
وشهادة الشهرستاني هذه تتوافق مع شهادة ابن خلدون التالية وغيره ممن أرخ لنشوء هذا المذهب ، أو هذا الدين الذي آمن بمادية الله تعالى ! !
الوهابية والتوحيد _ 62 _
* قال ابن خلدون في مقدمته ص 462 : ( وذلك أن القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق الظاهر الدلالة من غير تأويل في آي كثيرة ، وهي سلوب كلها وصريحة في بابها فوجب الإيمان بها ، ووقع في كلام الشارع صلوات الله عليه وكلام الصحابة والتابعين تفسيرها على ظاهرها ، ثم وردت في القرآن آيٌ أخرى قليلة توهم التشبيه ، وقضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل ، وهذا معنى قول الكثير منهم إقرؤوها كما جاءت ، أي آمنوا بأنها من عند الله ولا تتعرضوا لتأويلها ولا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء ، فيجب الوقف والإذعان لها ، وشذ لعصرهم مبتدعة اتبعوا ما تشابه من الآيات وتوغلوا في التشبيه ، ففريق أشبهوا في الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملاً بظواهر وردت بذلك فوقعوا في التجسيم الصريح ومخالفة آي التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة ، لأن معقولية الجسم تقتضي النقص والإفتقار ، وتغليب آيات السلوب في التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية .
وجمع فريق بين الدليلين بتأويلهم ، ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم : جسم لا كالأجسام ، وليس ذلك بدافع عنهم ، لأنه قول متناقض وجمع بين نفي وإثبات إن كان بالمعقولية الواحدة من الجسم ، وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقولية المتعارفة فقد وافقونا في التنزيه ولم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم إسماً من أسمائه ، ويتوقف مثله على الإذن ، وفريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات كإثبات الجهة والاستواء والنزول والصوت والحرف وأمثال ذلك ، وآل قولهم إلى التجسيم فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم صوت لا كالأصوات ، جهة لا كالجهات ، نزول لا كالنزول ، يعنون من الأجسام ، واندفع ذلك بما اندفع به الأول ولم يبق في هذه الظواهر إلا اعتقادات السلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي ، لئلا يكر النفي على معانيها بنفيها ، مع أنها صحيحة ثابتة من القرآن ) ، انتهى .
وهكذا ترى أن مشكلة التجسيم في أصولها الفكرية ثم في شكلها المذهبي هي بنت يهودية سنية ، لا نسب لها عند أحد من الشيعة ، إلا ما اتهموا به هشام بن الحكم بدون دليل ! !