الوارث المعروف لابن تيمية هو ابن قيم الجوزي ، ولكن الذهبي وارث خفي لم يسلط الضوء عليه ، لذلك رجحنا أن نخصه بالبحث .
* قال السبكي في طبقات الشافعية في :2/13 واصفاً ميل الذهبي إلى التجسيم والمجسمة :
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 82 _
( ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح في العقيدة فجرحه لذلك ، وإليه أشار الرافعي بقوله : وينبغي أن يكون المزكون براء من الشحناء والعصبية في المذهب خوفاً من أن يحملهم ذلك على جرح جدل
أو تزكية فاسق ، وقد وقع هذا لكثير من الأئمة جرحوا بناء على معتقدهم وهم المخطئون والمجروح مصيب ، وقد أشار شيخ الإسلام سيد المتأخرين تقي الدين ابن دقيق العيد في كتابه الإقتراح إلى هذا وقال : أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس : المحدثون والحكام . ومن ذلك قول بعض المجسمة في أبي حاتم بن حبان : لم يكن له كبير دين ، نحن أخرجناه من سجستان لأنه أنكر الحد لله !
فيا ليت شعري من أحق بالإخراج من يجعل ربه محدوداً أو من ينزهه عن الجسمية ؟ ! وأمثلة هذا تكثر ، وهذا شيخنا الذهبي من هذا القبيل له علم وديانة وعنده على أهل السنة تحمل مفرط ، فلا يجوز أن يعتمد عليه ) .
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 83 _
* وقال السقاف في شرح العقيدة الطحاوية ص 315 : ( الغريب أن المبتدعة يقولون : لا نصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه ثم يقولون : استوى على العرش بذاته ، فمن أين جاءوا بلفظة ( بذاته ) هذه ! وأين وردت في الكتاب والسنة !
وهي لفظة تفيد التجسيم صراحة ، وتؤيد قول أئمتهم ( بجلوس معبودهم على العرش حتى يفضل منه مقدار أربع أصابع ) !
وقد وقع ذلك للخلال فنقل في كتابه ( السنة ) عن مجاهد بسند ضعيف أكثر من خمسين مرة تفسير المقام المحمود الوارد في قوله تعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ، بجلوس الرب تعالى عما يقولون على العرش وإجلاسه سيدنا محمداً صلى
الله عليه وسلم بجنبه في الفراغ المقدر عندهم بأربع أصابع !
وقد أنكر الحافظ الذهبي الذي تعدل مزاجه فيما بعد شبابه ورجع عما أسلف في كتابه سير أعلام النبلاء على من زاد لفظة ( بذاته ) بعد العلو أو الإستواء ونحوهما فقال هنالك ما نصه ( قد ذكرنا أن لفظة بذاته لا حاجة إليها وهي تشغب النفوس ) ،
انتهى .
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 84 _
ولكن الباحث السقاف لم يلتفت إلى أن الذهبي لم ينف ولو مرة واحدة نزول الله تعالى بذاته !
* ويتضح ذلك من مراجعة كلام الذهبي في سيره : 19/605 قال : ( أبو الحسن بن الزاغوني الإمام العلامة شيخ الحنابلة ، قال ابن الجوزي : صحبته زماناً وسمعت منه وعلقت عنه الفقه والوعظ ، ومات في سابع عشر المحرم سنة سبع وعشرين وخمس مئة ، وكان الجمع يفوق الاحصاء قال ابن الزاغوني في قصيدة له :
إني سأذكر عقد ديني صادقاً نهج ابن حنبل الإمام الأوحد
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 85 _
منها :
عال على العرش الرفيع بذاته سبحانه عن قول غاوٍ ملحد
قد ذكرنا أن لفظة بذاته لا حاجة إليها وهي تشغب النفوس ، وتركها أولى والله أعلم ) ، انتهى .
ولو سلمنا أن هذه العبارة من كلام الذهبي فلابد أن نفسرها بما يتناسب مع مذهبه ، ومذهبه هو الجلوس الحسي لله تعالى على العرش ونزوله الحسي إلى السماء الدنيا !
غاية الأمر أنه يرى أن ترك الكلام في لوازم مذهبه أولى ، لأن كلمة بذاته ثقيلة على نفوس المسلمين فلا ( ينبغي ) أن تقال ، بل يجب أن تبقى من أسرار المذهب وتقال لأهلها فقط !
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 86 _
ويدل على ذلك أن الذهبي ساق ترجمة الزاغوني شيخ الحنابلة وذكر تكفيره فيها للمسلمين غير المجسمة ، ولم ينكر عليه ذلك ، بل كأنه ارتضاه !
* ويؤيد ذلك ما قاله الذهبي في سيره : 20 /331 : ( ومسألة النزول فالإيمان به واجب وترك الخوض في لوازمه أولى وهو سبيل السلف ، فما قال هذا نزوله بذاته إلا إرغاماً لمن تأوله وقال نزوله إلى السماء بالعلم فقط ، نعوذ بالله من المراء في الدين !
وكذا قوله : وجاء ربك ونحوه ، فنقول جاء وينزل ، وننهى عن القول ينزل بذاته ، كما لا نقول ينزل بعلمه ، بل نسكت ولا نتفاصح على الرسول صلى الله عليه وسلم بعبارات مبتدعة ! ) انتهى .
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 87 _
فقد رد الذهبي تأويل النزول بغير ذاته ، وفي نفس الوقت اعتبر أن الذي قال بذاته معذور لأنه قاله إرغاماً لمن تأوله وجادله وماراه في الدين ، وهذا يدل على أنه يتبنى نزول الله بذاته ، ولكنه نهى جماعته المجسمة عن القول ( نزل بذاته ) حتى لا
يثيروا الآخرين عليهم !
ويكمن مذهب الذهبي في قوله ( وترك الخوض في لوازمه أولى ) فهو يعرف أن للنزول الحسي لوازم وهو يؤمن بها ، ولكن عدم ذكرها أولى ! أما إذا قال ذلك أحد مضطراً في مقابل خصمه فهو معذور ولا بأس به !
ويؤيد ذلك ما قاله في ترجمة المجسم المسمى ( كوتاه ) الذي هجره شيخه لأنه كان يقول ( نزل بذاته ) واستقبله المجسمة في الشام ، قال في تذكرة الحفاظ : 4/13 : ( كوتاه ـ كلمة فارسية بمعنى قصير ـ الحافظ الإمام المفيد أبو مسعود عبد الجليل بن
محمد قال أبو موسى المديني : أوحد وقته في علمه مع حسن طريقته وتواضعه ، وهو من مقدمي أصحاب شيخنا إسماعيل الحافظ ، حضرت مجلس أماليه وسمعت أبا القاسم الحافظ بدمشق يثني عليه ثناء حسنا ويفخم أمره ويصفه بالحفظ والإتقان !
قلت : وسمع بنيسابور من عبد القاهر الشيروي وببغداد من طائفة ، وكان يقول ينزل بذاته فهجره شيخه إسماعيل لإطلاق هذه العبارة ، وقد روى عنه الحافظ ابن عساكر والحافظ يوسف الشيرازي ) ، انتهى .
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 88 _
ويؤيد ذلك أيضاً دفاعه ومدحه للحافظ عبد الغني المشهور بالتجسيم !
* قال في سيره : 21/ 463 : ( قلت : وذكر أبو المظفر الواعظ في مرآة الزمان قال : كان الحافظ عبد الغني يقرأ الحديث بعد الجمعة قال : فاجتمع القاضي محيي الدين ، والخطيب ضياء الدين ، وجماعة فصعدوا إلى القلعة وقالوا لواليها : هذا قد أضل الناس ، ويقول بالتشبيه، فعقدوا له مجلساً فناظرهم ، فأخذوا عليه مواضع : منها قوله : لا أنزهه تنزيها ينفي حقيقة النزول ، ومنها : كان الله ولا مكان ، وليس هو اليوم على ما كان .
ومنها : مسألة الحرف والصوت ، فقالوا : إذا لم يكن على ما كان فقد أثبت له المكان ، وإذا لم تنزهه عن حقيقة النزول فقد جوزت عليه الإنتقال ، وأما الحرف والصوت فلم يصح عن إمام ك ـ ( ابن حنبل ) وإنما قال إنه كلام الله ، يعني غير مخلوق ،
وارتفعت الأصوات ، فقال والي القلعة الصارم برغش : كل هؤلاء على ضلالة وأنت على الحق ؟ قال : نعم فأمر بكسر منبره ، قال :
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 89 _
وخرج الحافظ إلى بعلبك ، ثم سافر إلى مصر ، إلى أن قال : فأفتى فقهاء مصر بإباحة دمه ، وقالوا : يفسد عقائد الناس ، ويذكر التجسيم ، فكتب الوزير بنفيه إلى المغرب ، فمات الحافظ قبل وصول الكتاب .
وقال أيضاً : وفي ذي القعدة سنة ست وتسعين وخمس مئة كان ما اشتهر من أمر الحافظ عبد الغني وإصراره على ماظهر من اعتقاده وإجماع الفقهاء على الفتيا بتكفيره ، وأنه مبتدع لا يجوز أن يترك بين المسلمين ، فسأل أن يمهل ثلاثة أيام لينفصل
عن البلد فأجيب .
قلت : قد بلوت على أبي المظفر ( ابن الجوزي ) المجازفة وقلة الورع فيما يؤرخه والله الموعد ، وكان يترفض ، رأيت له مصنفاً في ذلك فيه دواه ، ولو أجمعت الفقهاء على تكفيره كما زعم لما وسعهم إبقاؤه حياً ، فقد كان على مقالته بدمشق أخوه
الشيخ العماد والشيخ موفق الدين ، وأخوه القدوة الشيخ أبو عمر ، والعلامة شمس الدين البخاري ، وسائر الحنابلة ، وعدة من أهل الأثر ، وكان بالبلد أيضاً خلق من العلماء لا يكفرونه ، نعم ولا يصرحون بما أطلقه من العبارة لما ضايقوه ( ؟ ) ولو كف
عن تلك العبارات ، وقال بما وردت به النصوص لاجاد ولسلم فهو ( الأولى ) فما في توسيع العبارات الموهمة خير ، وأسوأ شئ قاله أنه ضلل العلماء الحاضرين ، وأنه على الحق ، فقال كلمة فيها شر وفساد وإثارة للبلاء ، رحم الله الجميع وغفر لهم ، فما قصدهم إلا تعظيم الباري عز وجل من الطرفين ، ولكن الأكمل في التعظيم والتنزيه الوقوف مع ألفاظ الكتاب والسنة ، وهذا هو مذهب السلف رضي الله عنهم ، وبكل حال فالحافظ عبد الغني من أهل الدين والعلم والتأله والصدع بالحق ، ومحاسنه كثيرة ، فنعوذ بالله من الهوى والمراء والعصبية والإفتراء ، ونبرأ من كل مجسم ومعطل ) ، انتهى .
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 90 _
وقد كان الذهبي بارعاً في محاولته إلصاق مذهبه ومذهب أستاذه ابن تيمية بمفوضة السلف ، حيث استغل سكوتهم وفسره بأنه تبن للتفسير الحسي !
* قال في سيره : 10/505 : ( قلت قد فسر علماء السلف المهم من الألفاظ وغير المهم وما أبقوا ممكناً ، وآيات الصفات وأحاديثها لم يتعرضوا لتأويلها أصلاً وهي أهم الدين ، فلو كان تأويلها سائغاً أو حتماً لبادروا إليه ، فعلم قطعاً أن قراءتها
وإقرارها على ما جاءت هو الحق ، لا تفسير لها غير ذلك ، فنؤمن بذلك ونسكت اقتداء بالسلف ) ، انتهى .
وقد ارتكب في هذا النص تحريفاً وألبسه ثوب الإستدلال ! وهي جرأة قلما توجد عند أسلافه من المجسمة !
ويتضح ذلك بالمثال التالي : إذا كان عندنا مادة قانونية وكان لها تفسير بالظاهر الحقيقي وتفسير آخر بالمجاز ، وامتنع شخص عن تفسيرها ، فقال أنا متوقف وأفوض معناها إلى مدون القانون ، فهل تجرؤ أنت أن تقول له : ما دمت توقفت عن تفسيرها
فأنت تفسرها بالظاهر مثلي قطعاً ؟
بالطبع لا تجرؤ على ذلك ، لأنه سيقول لك : يا أخي أنا متوقف ، يعني ممتنع عن كل تفسير ، فكيف تلصق بي تفسيرها بالظاهر ؟ !
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 91 _
ولكن الذهبي يجرؤ ويقول ( فعلم قطعاً أن قراءتها وإقرارها على ما جاءت هو الحق ، لا تفسير لها غير ذلك ! ) يعني غير الظاهر الحسي !
ثم قال ( فنؤمن بذلك ونسكت اقتداء بالسلف ) يعني نؤمن بحملها على الظاهر المادي ثم نسكت عن لوازم المذهب اقتداء بالمفوضة ! !
وقد راجعت كلمات قدماء علماء السنة فوجدتها كلها تقول ( أقروها كما وردت ، أمروها كما هي ، إقرؤوها كما وردت ، أجروها على ما وردت اسكتوا عنها) وكلها بمعنى لا تفسروها وفوضوا معناها إلى الله تعالى ورسوله ، ولم أجد أحداً منهم قال
إحملوها على ظاهرها ، فمن أين جاء المجسمة بمقولة ( وإجراء الظواهر على مواردها ) وألصقوها بالسلف المفوضين ؟ !
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 92 _
على أنه لا يبعد أن يكون تعبير إمرارها بالميم تصحيفاً لإقرارها بالقاف ، فالإقرار يستعمل للثابت والإمرار للمتحرك ، ولم ألحظ التعبير بالإمرار عن النصوص في كلام القدماء ولا المتأخرين في غير هذا الموضع ، لأنه ليس فصيحاً إلا لشئ له
حركة مرور تطلب عدم إيقافها ، كقولك عن الغنم المارة : أمرها، بمعنى أتركها تمر ولا تتعرض لها ، أما الساكن كالنص فتقول ( أقره ) بالقاف ... وهذه نماذج من كلمات قدماء السلف :
* قال المزي تهذيب الكمال : 1/ 514 : ( عن أحمد بن نصر قال سألت سفيان بن عيينة : القلوب بين إصبعين وإن الله يضحك ممن يذكره في الأسواق ؟ فقال :
أمروها كما جاءت بلا كيف ).
* وقال الذهبي في سيره : 5/162 : ( قال الأوزاعي : كان الزهري ومكحول يقولان : أمروا هذه الأحاديث كما جاءت ) .
* وقال في : 5/337 : ( وروى الأوزاعي عنه قال : أمروا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاءت ) .
* وروى في تذكرة الحفاظ 1/ 304 عن الوليد بن مسلم قال :
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 93 _
( سألت مالكاً والأوزاعي والثوري والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي فيها الصفة ، فقالوا أمروها كما جاءت بلا كيف ) .
* وقال في سيره : 7/274 : ( وسئل سفيان عن أحاديث الصفات فقال : أمروها كما جاءت ، وقال أبو نعيم عنه : وددت أني أفلت من الحديث كفافاً ، وقال
أبو أسامة قال سفيان : وددت أن يدي قطعت ولم أطلب حديثاً ) ، انتهى .
والقولان الأخيران يشيران إلى أن السبب في تفويضهم تخوفهم من أن يؤدي تفسيرها إلى التجسيم فيؤثموا .
وفي سير أعلام النبلاء : 8 /162 : ( أخبرنا الوليد بن مسلم قال : سألت مالكاً والثوري والليث والأوزاعي عن الأخبار التي في الصفات فقالوا : أمروها كما جاءت ، وقال أبو عبيد : ما أدركنا أحدا يفسر هذه الأحاديث ، ونحن لا نفسرها .
قلت : قد صنف أبو عبيد كتاب غريب الحديث وما تعرض لأخبار الصفات الإلهية بتأويل أبداً ، ولا فسر منها شيئاً وقد أخبر بأنه ما لحق أحداً يفسرها ، فلو كان والله تفسيرها سائغاً أو حتماً ، لأوشك أن يكون اهتمامهم بذلك فوق اهتمامهم بأحاديث
الفروع والآداب فلما لم يتعرضوا لها بتأويل وأقروها على ماوردت عليه علم أن ذلك هو الحق الذي لاحيدة عنه) انتهى ، وفي قول أبي عبيد : ما أدركنا أحداً يفسرها ، نفي لادعاء من يدعي أنهم فسروها بالظاهر ، ونفي لادعاء ابن تيمية في تفسيره :
6/386 بأن أبا عبيد قد فسر الإستواء بالصعود !
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 94 _
وفي كلام الذهبي الأخير محاولة لجعل إمرارها تفسيراً لها بالظاهر ، وحمل مذهبه ومذهب أستاذه ابن تيمية على رقاب المفوضة كما تقدم !
* وقال في سيره : 8/467 : ( وحديث : إن الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق ، فقال سفيان : هي كما جاءت نقر بها ونحدث بها بلا كيف ) .
* وقال في : 9/165 : ( وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي : سمعت وكيعاً يقول : نسلم هذه الأحاديث كما جاءت ، ولا نقول كيف كذا ولا لم كذا ، يعني مثل حديث : يحمل السماوات على إصبع ) .
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 95 _
* وقال في : 15/86 : ( قلت : رأيت لأبي الحسن أربعة تواليف في الأصول يذكر فيها قواعد مذهب السلف في الصفات ، وقال فيها : تمر كما جاءت ، ثم قال : وبذلك أقول وبه أدين ولا أتأول ) ، انتهى ... إلى عشرات النصوص التي رواها الذهبي وغيره عن قدماء السلف ، وهي تدل على أن مذهب عدد من السلف السنيين هو التفويض ، ومذهب عدد آخر التأويل .
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 96 _
أما مذهب الحمل على الظاهر فهو مذهب المجسمة ، وهم الحشوية وبعض الحنابلة ، وقلة من الأشاعرة ، وقد نقل الذهبي نفسه نص بعضهم على أنها ثلاثة مذاهب لا اثنين ، فقال في إحدى ترجماته في سير أعلام النبلاء : 19/582 : ( وسألته يوماً عن أحاديث الصفات فقال : اختلف الناس فيها : فمنهم من تأولها ، ومنهم من أمسك ، ومنهم من اعتقد ظاهرها ، ومذهبي أحد هذه المذاهب الثلاثة ) ، انتهى .
وكذلك نص ابن خلدون على تميز مذهب التفويض عن مذهب الحمل على الظاهر ، كما رأيت في كلامه المتقدم ، بل نص بعض المتأخرين كالنووي على أن مذهب قدماء السلف من السنيين هو التفويض مع الحكم بأن ظاهرها غير مراد ، وهو أمر غريب ، لأن التفويض يجتمع مع نفي تفسيرها بالظاهر ولا يجتمع مع التفسير به ، لأنك إذا فسرتها بالظاهر لم تفوضها ، بينما إذا نفيت بعض محتملاتها لم يضر ذلك بتفويضك .
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 97 _
* قال السيد شرف الدين في كتابه أبو هريرة : 1/57 : ( قال الإمام النووي : وإن من العلماء من يمسك عن تأويل هذه الأحاديث كلها ويقول: نؤمن بأنها حق وأن ظاهرها غير مراد ولها معان تليق بها ، قال : وهذا مذهب جمهور السلف وهو أحوط وأسلم ، إلى آخر كلامه ، فراجعه في شرح صحيح مسلم وهو مطبوع في هامش شرحي البخاري ، وما نقلناه عنه هنا موجود في ص 18 ) ، انتهى .
من الواضح أن الأساس التنظيري الذي قام عليه مذهب المجسمة القدماء والجدد ، هو مقولة : ضرورة حمل الألفاظ على ظاهرها ، فهذه هي كل الأساس التنظيري لمذهبهم ، والظاهر أنهم أخذوها في فترة متأخرة من المذهب الظاهري الذي أسسه داود الإصفهاني ، وروج له في المغرب وبقيت آثاره في مؤلفات ابن حزم الأندلسي .
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 99 _
وبما أن وجود التجسيم كأفكار ومذهب كان قبل المذهب الظاهري ، فيكون الأساس العلمي الذي تبنوه لمذهبهم مولوداً بعد المذهب !
وبالتعبير العلمي ( أساساً التقاطياً ) شبيهاً بالمذهب الشيوعي الذي ولد أولا وتعصب له أتباعه ، وبعد مدة تبنوا التنظير له بالمادية التاريخية
( الديالكتيك ) فالتقطوها وجعلوها ( أساساً علمياً ) للشيوعية !
* قال السمعاني في الأنساب : 4/99 عن المذهب الظاهري : ( هذه النسبة إلى أصحاب الظاهر ، وهم جماعة ينتحلون مذهب داود بن علي الإصبهاني صاحب الظاهر ، فإنهم يجرون النصوص على ظاهرها ، وفيهم كثرة ، منهم أبو الحسين محمد بن الحسين البصري الظاهري ، كان على مذهب داود ) .
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 100 _
ولكن المجسمة ( أبناء ) المذهب الظاهري خرجوا على آبائهم الظاهريين ولم يراعوا أصلهم ولا قاعدتهم ... فإن داوداً الظاهري وابن حزم يأخذان بالظاهر إلى حدود ثم يتأولان عندما يمنع مانع من الحمل على الظاهر ، فهما عالمان متأولان ،
وهما بفتوى المجسمة ضالان ملحدان ، لأنهما غير ظاهريين !!
* قال ابن حزم في الفصل مجلد 1 جزء 2 ص 122 : ( قال أبو محمد ( ابن حزم ) : قول الله تعالى يجب حمله على ظاهره ما لم يمنع من حمله على ظاهره نص آخر أو إجماع أو ضرورة حس وقد علمنا أن كل ما كان في مكان فإنه شاغل له ... وهذه كلها صفات الجسم فلما صح ما ذكرنا علمنا أن قوله ( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) ... هو التدبير والإحاطة به فقط ) .
* وقال في نفس الجزء ص 166 : ( الكلام في الوجه واليد والعين ... قال أبو محمد ( ابن حزم ) : قال الله عز وجل ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) فذهبت المجسمة إلى الاحتجاج بهذا في مذهبهم ، وقال الآخر : وجه الله تعالى إنما يراد
به الله عز وجل ، وقال أبو محمد : وهذا هو الحق الذي قام البرهان بصحته ... إن المراد بكل ما ذكرنا ( من اليد والعين والوجه وغيرهما في الله ) الله عز وجل لا شئ غيره ) .
وعرفت من هم أهل البيت (ع) _ 101 _
* وقال في مجلد 1 جزء 2 ص 167 : ( وكذلك صح عن رسول الله ( ص )
أنه قال إن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ( الله ) فيها قدمه ... فمعنى القدم في الحديث المذكور إنما هو كما قال الله تعالى ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) يريد سالف صدق ، فمعناه أن الأمة التي تقدم في علمه تعالى أنه يملأ بها جهنم وكذلك القول في
الحديث الثابت ( خلق الله آدم على صورته ) فهذه إضافة ملك يريد الصورة التي تخيرها الله سبحانه وتعالى ليكون آدم مصوراً عليها ) .
* وقال في نفس الجزء ص 140 : ( أجمع المسلمون على القول لما جاء به نص القرآن من أن الله تعالى سميع بصير ، ثم اختلفوا فقالت طائفة من السنة والأشعرية وجعفر بن حرب من المعتزلة وهشام بن الحكم وجميع المجسمة : نقطع أن الله
تعالى سميع بسمع و بصير ببصر ... وذهبت طوائف من أهل السنة منهم الشافعي إلى أن الله تعالى سميع بصير ولا نقول بسمع ولا ببصر لأن الله تعالى لم يقله ولكن سميع بذاته وبصير بذاته ... وبهذا نقول في سميع بصير إنه سميع بذاته وبصير بذاته ولا يجوز إطلاق سمع ولا بصر حيث لم يأت به نص ) ، انتهى .