* قال ابن باز في فتاويه : 4/131 : ( التأويل في الصفات منكر ولا يجوز ، بل يجب إقرار الصفات كما جاءت على ظاهرها اللائق بالله جل وعلا ، بغير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ، وعلى هذا سار أهل العلم من أصحاب النبي (ص) ومن بعدهم أئمة المسلمين كالأوزاعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق ) ، انتهى .
وليت الشيخ ابن باز سمى لنا واحداً من الصحابة أجرى الصفات على ظاهرها الحسي ، وليته ذكر نصاً عن واحد من التابعين أو تابعي التابعين الذين سماهم ، فقد تتبعنا أقوالهم في الصفات وذكرنا عدداً منها في فصل تجسيم الذهبي ، ولم نجد
فيها مسألة الحمل على الظاهر الحسي !
وسوف تعرف إن شاء الله تعالى عدم صحة تسترهم بالإمام مالك في الحمل على الظاهر ، وعدم صحة ما نسبوه إليه ، فلم يبق عندهم إلا قدماء المجسمة مثل كعب الأحبار ووهب ومقاتل ومن قلدهم !
وقد حشر أحد المسلمين مرجعهم في الحديث الشيخ ناصر الدين الألباني عندما وجه إليه السؤال التالي الذي ورد في فتاوي الألباني ص 509 : ( سؤال : هل العقيدة التي يحملها السلفيون هي عقيدة الصحابة ؟ وإن هناك من الناس من يزعم إن كانت عقيدة الصحابة
فأتونا ولو بصحابي واحد يقول في الصفات نؤمن بالمعنى ونفوض الكيف .
جواب : هل هناك صحابي تأول تأويل الخلف ، نريد مثالاً أو مثالين ؟ !
الوهابية والتوحيد _ 103 _
وقال البغوي في تفسير قوله : ثم استوى على العرش ، قال الكلبي ومقاتل : استقر ، وقال أبو عبيدة صعد ، وأولت المعتزلة الإستواء بالإستيلاء ، وأما أهل السنة فيقولون : الإستواء على العرش صفة الله بلا كيف يجب على الرجل الإيمان به ويكل
العلم فيه إلى الله ، وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله : الرحمن على العرش استوى ، كيف استوى ؟ فأطرق مالك رأسه ملياً وعلاه الرحضاء ثم قال : الإستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة وما أراك إلا ضالاًّ ، ثم أمر به فأخرج ) ، انتهى .
فانظر إلى جواب هذا العالم الوهابي لهذا السائل العادي ، فهو يناقش سائله بأنك إن قلت لا يوجد صحابي حمل الصفات على الظاهر الحسي كالوهابيين ، فإنه لا يوجد صحابي وافق مذهب المتأولين !
وللسائل أن يجيبه : ما دام الصحابة لم يوافقوا الوهابيين ولا المتأولين ، فالصحيح إذن هو مذهب التفويض ؟ !
ثم كيف ينكر الألباني تأويل الصحابة كعائشة وابن عباس وابن مسعود ، فضلاً عن أهل البيت (ع) ، وتأويل التابعين الذي ذكرنا منه نماذج في المذهب الأول ، ومنه تأويل أبي سعيد لنزول الله تعالى بنزول رحمته كما تقدم ، وتأويل مالك لذلك
بنزول أمره ، كما سيأتي .
وأخيراً ، لم يجد الألباني مؤيدا لمذهبه الوهابي إلا مقاتلاً الفارسي المجوسي تلميذ اليهود المجسمين ، وابن الكلبي المشهود عليه من الجميع بعدم الوثاقة !
فانظر إلى بؤس هذا المذهب الذي يدعي أنه وارث السلفية وحامل رايتها والضارب وجوه المسلمين بسيفها ، كيف فتش مرجعه في الحديث وبحث في المصادر وطرق أبواب السلف من الصحابة والتابعين ، فلم يجد أحداً منهم يؤيد رأيه إلا أمثال هذه النظائر ... مقاتل وابن الكلبي ، هذان كل السلف !!
الوهابية والتوحيد _ 104 _
وقال الألباني في فتاويه ص 516 : ( سؤال : هل أن مذهب السلف هو التفويض في الصفات ؟
جواب : قال ابن حجر العسقلاني وهو أشعري : إن عقيدة السلف فهم الآيات على ظاهرها دون تأويل ودون تشويش ، إذا آمنا برب موجود لكن لا نعرف له صفة من الصفات ... وحينئذ كفرنا برب العباد حينما أنكرنا الصفات بزعم التفويض ) ، انتهى .
ويلاحظ أن سؤال السائل عن تفويض السلف ، وينبغي أن يكون الجواب بذكر رأي أحد من السلف يفسر الصفات بالظاهر ولا يفوضها ، ولو كان شخصاً واحداً ، ولكن الألباني لم يأت له بمثال من السلف ، لأنه لا يوجد كما رأيت في نصوصهم !
وجاء بدل ذلك بشهادة ادعاها لأحد علماء خلف ... الخلف ، لأن ابن حجر متوفى سنة ( 582 ) يعني في أواخر القرن السادس !
الوهابية والتوحيد _ 105 _
ثم من حقنا أن نطالب الألباني بنص شهادة ابن حجر ومصدرها ! فقد ذكرها بلا مصدر وخلطها بكلامه ! وسيأتي رأي ابن حجر المخالف لماذكره عنه الألباني وسترى حملته الشديدة على أجداد الألباني من الحنابلة المجسمين .
هذا عن أكبر عالمين عند الوهابيين في عصرنا ، وسنذكر المزيد من نصوصهم عن مذهبهم في التجسيم . * ?
أما إمام الوهابيين فلم أطلع له على بحث معمق في التوحيد أو الصفات ، وكتابه ( التوحيد ) يبدو أنه ألفه على عجل ، حيث سرد فيه أحاديث في موضوعات متعددة تتعلق بموضوعات متنوعة من التوحيد ، ووضع بعد كل حديث أو أكثر فهرساً
مختصراً لما استفاده من أفكار ، وسمى ذلك ( مسائل ) ولم أجد فيه حول الصفات إلا موردين فقط ولكنهما كافيان لإثبات أن معبوده مادي أعاذنا الله !
المورد الأول في ص 130 ، ونذكر نصه كاملاً لإختصاره ، قال : ( باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات وقول الله تعالى : وهم يكفرون بالرحمن ... الآية ، قال البخاري في صحيحة علي : حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله ، وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس أنه رأى رجلاً انتفض حين سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك فقال : ما فرق
هؤلاء ، يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه ) ، انتهى .
الوهابية والتوحيد _ 106 _
ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم ( وهم يكفرون بالرحمن ) ، فيه مسائل :
الأولى : عدم الإيمان بجحد شئ من الأسماء والصفات .
الثانية : تفسير آية الرعد .
الثالثة : ترك التحديث بما لا يفهم السامع .
الرابعة : ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر.
الخامسة : كلام ابن عباس لمن استنكر شيئاً من ذلك وأنه أهلكه ) . انتهى كلام إمام الوهابيين .
ويبدو بالنظرة الأولى أن استشهاده بحديث علي(ع) وحديث ابن عباس كان أمراً عادياً ، ولكن المطلع على عقائد المجسمين واستدلالهم يطمئن بأنه يقصد التجسيم المحض الوارد في خبر أم الطفيل ، الذي حكم بكذبه عدد من علماء الجرح والتعديل من
إخواننا السنة ، وبعضهم صححه فتأوله أو فوضه ، ولكن المجسمة صححوه واعتبروه من العلم الذي يكتم عن العامة ، ويبقى محصوراً بين خاصة الخاصة ! !
* قال الذهبي في سيره : 10/602 : ( فأما خبر أم الطفيل ، فرواه محمد بن إسماعيل الترمذي وغيره : حدثنا نعيم ، حدثنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال أن مروان بن عثمان حدثه عن عمارة بن عامر ، عن أم الطفيل
امرأة أبي بن كعب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أنه رأى ربه في صورة كذا ، فهذا خبر منكر جداً ، أحسن النسائي حيث يقول : ومن مروان بن عثمان حتى يصدق على الله ! وهذا لم ينفرد به نعيم ، فقد رواه أحمد بن صالح المصري الحافظ ، وأحمد بن عيسى التستري ، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، عن ابن وهب قال أبو زرعة النصري : رجاله
معروفون .
الوهابية والتوحيد _ 107 _
قلت : بلا ريب قد حدث به ابن وهب وشيخه وابن أبي هلال ، وهم معروفون عدول، فأما مروان ، وما أدراك ما مروان ؟
فهو حفيد أبي سعيد بن المعلى الأنصاري ، وشيخه هو عمارة بن عامر بن عمرو بن حزم الأنصاري ، ولئن جوزنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أدرى بما قال ، ولرؤياه في المنام تعبير لم يذكره صلى الله عليه وسلم ، ولا نحن نحسن أن
نعبره ، فأما أن نحمله على ظاهره الحسي فمعاذ الله أن نعتقد الخوض في ذلك بحيث أن بعض الفضلاء قال : تصحف الحديث ، وإنما هو : رأي رئية بياء مشددة ، وقد قال علي رضي الله عنه : حدثوا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون .
وقد صح أن أبا هريرة كتم حديثاً كثيراً مما لا يحتاجه المسلم في دينه ، وكان يقول : لو بثثته فيكم لقطع هذا البلعوم ، وليس هذا من باب كتمان العلم في شئ ، فإن العلم الواجب يجب بثه ونشره ويجب على الأمة حفظه ، والعلم الذي في فضائل
الأعمال مما يصح إسناده يتعين نقله ويتأكد نشره ، وينبغي للأمة نقله ، والعلم المباح لا يجب بثه ولا ينبغي أن يدخل فيه إلا خواص العلماء ) ، انتهى.
وما قاله الذهبي هو الذي يقصده إمام الوهابيين ، فقد عقد الباب تحت عنوان ( باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات ) ليقول إن الإيمان بكل صفات الله تعالى واجب وإنكار شئ منها كفر ، وبما أن عدداً من صفات الله تعالى على مذهبه يلزم منها التجسيم ، لذا تحدث عن وجوب كتمان ذلك إلا عن أهله ، واستشهد بروايتين عن علي (ع) وابن عباس تجوزان كتمان هذا العلم ! !
وهو أيضاً نفس ما قاله الذهبي عن ( العلم المباح ) أي المحظور ، من تسمية الشئ بضده ، ثم أفتى الذهبي بوجوب حصره بأهله وهم خواص العلماء بزعمه فقال ( والعلم المباح لايجب بثه ولا ينبغي أن يدخل فيه إلا خواص العلماء ) !
وذلك شبيهاً بالعلم الذي يحصره اليهود والنصارى برؤساء الإكليروس أي كبار الكرادلة والحاخامات ! !
والنتيجة التي يهدفون إليها من توظيف هذه الأحاديث أن النبي (ص) وعلياًّ (ع) ، وابن عباس ، وأبا هريرة ، كلهم مجسمون كالوهابيين وأنهم كانوا يكتمون صفات الله تعالى ويأمرون بكتمانها ! !
ومن الواضح لمن له إطلاع على الحديث والتاريخ أن الأحاديث الثلاثة التي استشهد بها إمام الوهابيين والذهبي لا يصلح شئ منها شاهداً .
الوهابية والتوحيد _ 108 _
أما حديث أبي هريرة فقال عنه الناشر في هامش سير أعلام النبلاء في نفس الموضع : ( أخرجه البخاري 1/191 ـ 192 ( وفي طبعتنا : 1/8 ) في العلم : ( باب حفظ العلم ، من طريق إسماعيل بن أبي أويس ، حدثني أخي ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم ، قال الحافظ : وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم ، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ، ولا يصرح به خوفاً على نفسه منهم ، كقوله : أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان ، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية ، لأنها كانت سنة ستين للهجرة ، واستجاب الله دعاء أبي هريرة فمات قبلها بسنة ) ، انتهى.
فقصد أبي هريرة بشهادة ابن حجر وشهادة النصوص الأخرى المشابهة والقرائن ، أنه كان يكتم ما قاله النبي (ص) في انحراف الأمة من بعده ، وسبب كتمانه خوفه من السلطة !
وأين هذا من كتمان صفات الله الحسية إلا عن خواص العلماء كم زعموا ؟!!
وأما حديث علي (ع) فقد علق عليه في هامش سير النبلاء أيضاً بقوله : أخرجه عنه البخاري في صحيحه 1/199 ( وفي طبعتنا : 1/41 ) في العلم : ( باب حفظ العلم ، في العلم : باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا ، من طريق عبيد الله بن موسى ، عن معروف بن خربوذ ، عن أبي الطفيل ، عن علي ) ، انتهى .
ورواه أيضاً في كنز العمال : 10/247 و 301 و 304 ، وهو يقرر قاعدة عامة هي أن التعليم والمخاطبة ينبغي أن يكونا متناسبين مع مستوى المخاطبين
، ولا دلالة فيه ولا إشارة على ارتباطه بصفات الله تعالى أو بغيرها من المواضيع ، وإن كنت أرجح أيضاً أن معناه قريب من معنى الحديث المتقدم ... فمن أين حكموا أن علياً (ع) يقصد كتمان الصفات ، وأنه كان وهابياً مجسماً يكتم لوازم مذهبه عن المسلمين كما يفعلون ! !
الوهابية والتوحيد _ 109 _
وأما حديث ابن عباس فقد تفرد به عبد الرزاق في مصنفه : 11/422 ، ولم أجده في أي مصدر غيره على كثرة ما راجعت ، ورواه بعد حديث أبي هريرة في قصة المناظرة المزعومة بين الجنة والنار ، قال : ( عن معمر ، عن همام بن منبه أنه سمع
أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، وقالت الجنة : فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعرتهم ؟ فقال الله للجنة : إنما أنت رحمتي ، أرحم بك من أشاء
من عبادي ، وقال للنار : إنما أنت عذابي ، أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فأما النار فإنهم يلقون فيها وتقول هل من مزيد ، فلا تمتلئ حتى يضع رجله أو قال قدمه فيها ، فتقول : قط ، قط ، قط ، فهنالك تملأ وتنزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحداً ، وأما الجنة فإن الله ينشئ لها ما شاء .
أخبرنا عبدالرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاووس عن أبيه قال : سمعت رجلاً يحدث ابن عباس بحديث أبي هريرة هذا ، فقام رجل فانتقض ، فقال ابن عباس : ما فرق من هؤلاء يجدون عند محكمه ، ويهلكون عند متشابهه ) ، انتهى ما في مصنف عبد الرزاق بلفظه ، ولكن عبارة إمام الوهابية هي ( عن ابن عباس أنه رأى رجلاً انتفض حين سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك فقال ) وقصده بالصفات أن الرجل المستمع لم يؤمن بأن الله تعالى له رجل ويضعها في النار واستنكر ذلك فوبخه ابن عباس! فمن أين له العلم بذلك ، فقد يكون الرجل صحابياً جليلاً استنكر على راوي الحديث هذا
التجسيم ، وقام من المجلس اعتراضاً .
ثم إن قول ابن عباس مجمل لا يدل على أنه قصد بالهلاك ذلك الرجل الذي انتفض أو تأفف ونكت ثيابه تبرأ ! فقد يكون قصد بعض رواة الحديث.
وهل يستحق صحابي أو تابعي الحكم بالهلاك والكفر لأنه نهض ونكت ثيابه حتى لا يتحمل مسئولية حديث يراه كاذباً أو يشك فيه ؟ !
ثم إن عبارة ابن عباس التي في مصنف عبد الرزاق فيها كلمة ( من ) وليس فيها كلمة ( رقة ) التي نقلها إمام الوهابيين ، ولو قلنا إن أصلها (يجدون رقة ) لم يستقم المعنى أيضاً ، لأن مقتضى مقابلتها بقوله ( ويهلكون عند متشابهه ) أن يقول ( يرقون عند محكمه ) لا أن يقول ( يجدون رقة عند محكمه ) .
كما أنه لا معنى مفهوماً لقوله ( ما فرق من هؤلاء ) ... إلخ ، فإن في كلام ابن عباس تصحيفاً وإبهاماً .
ولكن مع ذلك ينبغي أن نشهد لإمام الوهابيين بأنه في هذا الموضوع أذكى من الذهبي ، لأن حديث ابن عباس الذي استشهد به أكثر قرباً من هدفه ، وإن كان لا دلالة فيه عليه !
الوهابية والتوحيد _ 110 _
المورد الثاني : تبنى إمام الوهابيين عدداً من أحاديث التجسيم خاصة حديث الحاخام ، الذي ادعت بعض مصادر إخواننا أن النبي (ص) صدقه ، وقد أوردها ابن عبد الوهاب في آخر كتابه التوحيد وعقد لها باباً خاصاً فقال : ( عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء على إصبع ، والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ، فيقول : أنا الملك ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ، ثم قرأ ( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ) الآية .
وفي رواية لمسلم والجبال والشجر على إصبع ، ثم يهزهن فيقول أنا الملك أنا الله ، وفي رواية للبخاري (يجعل السموات على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ) إلى آخره ) ، انتهى .
وراجع إن شئت في المجلد الثاني من العقائد الإسلامية روايات هذه القصة المزعومة التي تدعي أن أحد حاخامات اليهود علم نبينا (ص) التجسيم ! !
وقد تبنى إمام الوهابية هذه الأحاديث وتعمق في الغوص على معانيها ، واستخراج لآليها ، فاستنبط منها تسع عشرة مسألة عقائدية ، قدمها إلى المسلمين ليوحدوا الله تعالى على أساسها فقال : فيه مسائل :
الأولى : تفسير قوله : والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة .
الثانية : أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه ( ص ) لم ينكروها ولم يتأولوها .
الثالثة : أن الحبر لما ذكر ذلك للنبي (ص) صدقه ، ونزل القرآن بتقرير ذلك !
الرابعة : وقوع الضحك الكثير من رسول الله ( ص ) عنده ، لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم .
الخامسة : التصريح بذكر اليدين ، وأن السموات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى .
السادسة : التصريح بتسميتها الشمال .
السابعة : ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك .
الثامنة : قوله كخردلة في كف أحدهم .
التاسعة : عظمة الكرسي بنسبته إلى السماوات .
العاشرة : عظمة العرش بنسبته إلى الكرسي .
الحادية عشرة : أن العرش غير الكرسي والماء .
الثانية عشرة : كم بين كل سماء إلى سماء .
الثالثة عشرة : كم بين السماء السابعة والكرسي .
الرابعة عشرة : كم بين الكرسي والماء .
الخامسة عشرة : أن العرش فوق الماء .
السادسة عشرة : أن الله فوق العرش .
السابعة عشرة : كم بين السماء والأرض .
الوهابية والتوحيد _ 111 _
الثامنة عشرة : كثف كل سماء خمسمائة سنة .
التاسعة عشرة : أن البحر الذي فوق السموات بين أسفله وأعلاه مسيرة خمسمائة سنة ) ، انتهى .
وهكذا أصدر إمام الوهابية حكمه بأن علوم اليهود هذه عن تجسيم الله تعالى بقيت سليمة لم تنلها يد التحريف ، وأن النبي (ص) ضحك كثيراً لهذا العلم العظيم ، وأن الله تعالى أنزل بتصديقه قرآناً ، وقد يكون الله تعالى ضحك أيضاً مثل رسوله تصديقاً
للحبر اليهودي ، وارث هذا العلم المخزون العظيم ومبلغه إلى خاتم النبيين ! !
والنتيجة عنده : أن الله تعالى له يدان وأصابع بالمعنى المادي الحسي ، وأن النبي (ص) أقر هذا المعنى المادي ليدي الله تعالى وأصابعه ولم يتأوله ، وأن الله تعالى موجود في منطقة فوق العالم على عرشه ، وأن المسافة بيننا وبينه محددة بكذا سنة من السير مشياً على الأقدام ! !
بل يمكن لنا بناء على رأي إمام الوهابية أن نحسب المسافة إلى عرش الله تعالى ومكان وجوده بالكيلومتر ونرسل إليها سفينة فضائية ! !
ونترك الفتوى في ذلك إلى مفتي الوهابية الشيخ ابن باز ؟ !
من هذين النصين لإمامهم ابن عبد الوهاب والنصوص الكثيرة لاتباعه ، يطمئن الباحث بأن مذهبهم في التوحيد هو نفس مذهب مجسمة اليهود ، ثم مجسمة الحنابلة وابن تيمية والذهبي ، فهم :
أولاً : يرفضون التأويل لأنه لا مجاز بزعمهم في القرآن والسنة ، فكل الألفاظ يجب أن تحمل على معناها اللغوي المادي ولا يجوز أن تحمل على معان مجازية ، أو تؤول أو تشوش على حد تعبيرهم !
فعندما يقول القرآن أو الحديث ( يد الله وعين الله ووجه الله ) فمعناه عندهم أن الله تعالى له يد وعين ووجه حقيقةً لا مجازاً!
وعندما يقول (كل شئ هالك إلا وجهه ) فمعناه عندهم أن الله يفنى ويبقى وجهه فقط ، كما سيأتي ! !
* قال الشيخ ابن باز في فتاويه : 4/382 : ( الصحيح الذي عليه المحققون ( ؟ ) أنه ليس في القرآن مجاز على الحد الذي يعرفه أصحاب فن البلاغة ، وكل ما فيه فهو
حقيقة في محله ) ، انتهى .
الوهابية والتوحيد _ 112 _
وما أدري كيف يجرؤ عالم على إنكار وجود المجاز في القرآن ، أي في اللغة العربية ، التي نزل بها القرآن ، ثم ينسب ذلك إلى المحققين الذين نرجوه أن يذكر لنا نصف واحد منهم !
بل كيف يستطيع أن يعيش مع الناس ومع عائلته إذا حمل كلامهم كله على الحقيقة ، وماذا يفعل بمن يقول له : قرت عينك ؟
فهل يفتي بجلده لأنه دعا عليه بسكون عينه والموت ؟ !
وغاية ما وصلت إليه أساليبهم الجدلية في الإستدلال على نفي المجاز في القرآن ما تقدم من كلام ابن تيمية ، ومفاده أن ظاهر الآية إن كان غير مراد فهو باطل، ولا يجوز أن نقول إن ظاهر القرآن باطل ، فلابد أن يكون مراداً!!
ولكنها مغالطة مكعبة ، في معنى الظاهر ، ومعنى البطلان ، ومعنى الوجود في القرآن ! وذلك لأنا بقولنا ظاهر الآية غير مراد نكون نفينا هذا المعنى عن القرآن فكيف يكون موجوداً فيه ؟ !
ولأن الباطل هو تصورنا الخاطئ لمعنى الآية وليس شيئاً موجوداً في القرآن .
ولأن الظاهر المنفي بقرينة لفظية أو عقلية لا يبقى ظاهراً ، بل يصير خيالاً ، بل إن الظاهر الحقيقي للكلام هو المعنى المتبادر المستقر ، أما الظاهر بنظرة أولى الذي يزول بالقرينة فهو كالفجر الكاذب الذي ما يلبث أن يزول ويعم الظلام ثم يظهر الفجر الصادق ، فالقرينة اللفظية أو العقلية ذات دور مصيري في تعيين ماهو الظاهر المستقر .
وهذه النقطة مهمة في معرفة الخلل عندهم في فهم الظاهر والحمل على الظاهر ، ولكن المسكونين بالظاهر الحسي والفهم المادي يستعملون لإثبات مزاعمهم الجدل المكعب ، بل قد يستعملون المسدس ، كما يفعلون في الباكستان !
ثانياً : أنهم يحرِّمون السكوت عن تفسير هذه الصفات وتفويض أمرها إلى الله تعالى ، لأن ذلك يؤدي بزعمهم إلى التعطيل والإلحاد ، وقد تقدم قول ابن تيمية ( فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد ) !
الوهابية والتوحيد _ 113 _
وهذا معناه أنهم يحرمون أي تأويل أو تفسير معنوي لآيات الصفات ، ويحرمون تفويضها أيضاً ويوجبون على المسلمين تفسيرها بالمعنى الحسي المادي ! !
وهذا الإصرار العجيب يفتح على الوهابيين بابين كبيرين من الإشكالات :
الباب الأول : باب الآيات والأحاديث التي تخالف مذهبهم : فعندما يلتزمون بوجوب التفسير بالظاهر وحرمة التأويل ، ويفسرون قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، بأن الله وجود منظور مرئي تنظر إليه العيون وتراه ، فمن حقنا أن نسألهم : ماذا تصنعون بمثل قوله تعالى : لا تدركه الأبصار ، وقوله تعالى : لن تراني ، وقوله تعالى : ليس كمثله شئ ؟
ولكنهم يجيبونك بأن المسألة سهلة ، لأنا نتحول هنا إلى متأولين ولكن بطرق ملتوية لا يكون فيها ممسك علينا بأنا صرنا متأولة ، فنؤول كل ما يخالف مذهبنا بغير ظاهره ، ونحرم تفسيره بالظاهر ! فنقول إن الأبصار لا تدركه ، يعني لا تحيط به
، أو لا تدركه لصغر حجمنا وكبر حجمه ، فلا نرى إلا جزءاً منه أو نقول : إن المنفي بقوله تعالى ليس كمثله شئ ، هو المثل وليس الشبيه ، ونحن ننفي المثل والند والكفؤ ولا يجب علينا نفي الشبيه لله تعالى لا بنقل ولا بعقل ، على حد تعبير إمامهم
ابن تيمية !
الوهابية والتوحيد _ 114 _
وإذا قلت لهم : إذا فسرتم قوله تعالى : استوى على العرش ، بأن الله تعالى موجود جالس على العرش ، فماذا تصنعون بقوله تعالى : وهو معكم أينما كنتم ؟ فإن هذه الآية تنقض مقولتكم بأنه تعالى موجود في مكان محدد من الكون ، وتدل على أن
وجوده من نوع آخر غير نوع الكون !
بل كما قال علي (ع) : مع كل شئ لا بملامسة ، وغير كل شئ لا بمباينة .
فيقولون لك : المسألة سهلة ، نهرب من الإعتراف بالمعية ومن تأويلها معاً ، ونتهم الذين يحتجون بها بأنهم ينكرون علو الله تعالى على عرشه ويريدون إثبات سفوله ... وهذا ما فعله مفتيهم الشيخ ابن باز فقال في فتاويه : 2/89 : ( والذي عليه أهل السنة في ذلك أن الله سبحانه موصوف بالمعية على الوجه الذي يليق بجلاله ، مع إثبات استوائه على عرشه وعلوه فوق جميع خلقه وتنزيهه عن مخالطته للخلق ، ولما كانت الجهمية والمعتزلة يحتجون بآيات المعية على إنكار العلو ويزعمون أنه سبحانه بكل مكان ، أنكر عليهم السلف ذلك وقالوا : إن هذه المعية تقتضي علمه بأحوال عباده وإطلاعه
عليهم ، مع كونه فوق العرش ) ، انتهى .
وقد تَعَلَّمَ ابن باز المناورة من الذهبي وابن تيمية فأول صفة المعية بالعلم ، وحمل مسؤوليتها للسلف حتى لا يسجل أحد عليه أنه صار متأولاً ، ثم برر تأويل السلف بأنهم اضطروا إلى ارتكاب التأويل الحرام ، ليردوا على الذين أنكروا علو الله تعالى وأرادوا إثبات سفوله ! !
بل لقد توفق المفتي هنا فوجد هنديا فحمله مسؤولية تأويل الآية التي تنافي مذهبهم ! وهذا الشخص اسمه ( الطلمنكي ) فتمسك به ابن باز واحترمه وأكرمه ولبسه تأويل الآية في عنقه .
* قال في فتاويه : 1/ 148 : ( ... وإذا تبين هذا فإنه لا يؤخذ من قوله ( وهو معكم ) وما جاء في معناها في الآيات ، أنه مختلط وممتزج بالمخلوقات ، لا
ظاهر ولا حقيقة ، ولا تدل لفظ ( مع ) على هذا بوجه من الوجوه ، وغاية ما تدل عليه المصاحبة والموافقة ، والمقارنة في أمر من الأمور وهذا الإقتران في كل موضع بحسبه ، قال أبو عمر الطلمنكي : أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى ( وهو معكم أين ما كنتم ) ونحو ذلك من القرآن أنه علمه وأن الله فوق السماوات بذاته مستوٍ على عرشه كما نطق به كتابه ) ، انتهى .
الوهابية والتوحيد _ 115 _
وهكذا حل ابن باز مشكلة الآية فلم تمس يده التأويل ، بل وجد شخصاً يؤول له وارتضى تأويله والحمد لله ، وهو الطلمنكي !
ثم أيد فتواه بالإجماع الذي نقله الطلمنكي على أن جميع المسلمين من أهل السنة يعتقدون بأن الله تعالى وجود محسوس قاعد فوق عرشه ! أي كما يقول اليهود بلا أدنى فرق !
وإذا تكلم الطلمنكي الذي قدمه الشيخ ابن باز إلى العالم الإسلامي فعلى الجميع أن يقبلوا ويسكتوا ويغمضوا عيونهم عن آراء جميع العلماء وألوف المصادر ! !
والباب الثاني من الإشكالات أكبر وأعظم ، وهو باب التجسيم :
فعندما يقولون إن الله تعالى له يد وعين ووجه ، وهو جالس على عرشه بهذه الصفات المادية ، فقد جعلوه جسماً وصاروا عابدين لجسم !
يقولون لك : لا ، نحن لسنا مشبهة ولا نشبه الله تعالى بخلقه ، لأنه من شبهه بخلقه فقد جسمه وقد كفر !
تقول لهم : ما دمتم رفضتم التأويل ، والتفويض ، والمجاز ، وأوجبتم التفسير بظاهر اللغة الحسي ، فقد وقعتم في التشبيه والتجسيم ، شئتم أم أبيتم !
يقولون : لا ، نحن مصرون على تفسير صفات الله تعالى بالمعنى الظاهري الحسي ، وفي نفس الوقت نرفض التجسيم الذي تقولون إنه يلزم من هذا التفسير ، لأن الله تعالى ليس كمثله شئ !
تسألهم : بالله عليكم أرشدونا كيف تؤمنون برب جالس على كرسي وله يد ورجل ووجه وعين ، وينزل إلى السماء الدنيا بذاته ، ويفرح ويضحك ويغضب ، وخلق آدم على صورته فهو على صورة آدم ... إلى آخر الصفات التي تعدونها ، وكل ذلك بالمعنى الظاهر الحسي ، ثم لا يكون شبيهاً بالموجودات المادية المحسوسة المحدودة بزمان ومكان !
الوهابية والتوحيد _ 116 _
يقولون لك : الأمر سهل نضيف إلى كل صفة عبارة ( كما يليق بجلاله ) فنقول : له عين بالمعنى المادي الظاهر ولكن ليست مثل عيون مخلوقاته بل كما يليق بجلاله !
وله يد ورجل ووجه ، وكلها بالمعنى الظاهر الحسي ، ولكن ليست مثل جوارحنا ، بل كما يليق بجلاله !
وهكذا يتصورون أن حل الإشكالات العلمية والفلسفية يتم بمسحة المسيح بقولهم كما يليق بجلاله ، كما حلوا التأويل بالطلمنكي !
ولكن أي جلال أبقوا لمعبودهم الذي جعلوا له أعضاء مادية ، وجعلوه محدوداً بزمان ومكان وحركة ، بل قالوا إنه يفنى إلا وجهه ؟ ! سبحانه وتعالى عما يصفون .
على هذا الأساس استحق الوهابيون أن يقال عنهم : إن مذهبهم مبني على أساس هش ومغالطة تسمى في علم المنطق : (قبول المقدمات ورفض النتيجة ) ، وتسمى في علم الكلام : ( عدم الإلتزام بلوازم المذهب ) ، وتسمى في لغة عصرنا : ( تبني التشبيه والتجسيم والفرار من اسمه ) .
وهكذا يستعمل الوهابيون التقية من المسلمين فلا يصرحون بصفات معبودهم ، ثم تراهم يشنعون على الشيعة لاستعمالهم التقية من السلطات في مسألة الإمامة والصحابة !
إن الباحث في توحيد الوهابيين يرى نفسه بين أمرين : إما أن يحكم على علمائهم بعدم الفهم ، أو يحكم عليهم بأنهم يستعملون التقية في الإفصاح عن معبودهم ، ولكنه يرى أن ابن عبد الوهاب وبعض تلاميذه المعاصرين مثل ابن باز والألباني ،
وأسلافهم كالذهبي وابن تيمية ومجسمة الحنابلة ، يفهمون معنى الحمل على الظاهر وما يستلزمه من تجسيم ، ولكنهم يدافعون عن أنفسهم أمام المسلمين بنفي هذه اللوازم ، بينما يظهر التجسيم في كلماتهم وما يسرونه للخاصة من أتباعهم ! مما يكتم
تفسيره على حد قول ابن تيمية !
أو بالقول إن ما ورد في القرآن والسنة هو نفي الند والمثل والكفء أما الشبيه فلم يرد فيه نفي فلا مانع من القول به لا عقلاً ولا شرعاً ، كما تقدم من كلامه ! !
وأحياناً تظهر عقيدتهم في معبودهم صريحة في فلتات ألسنتهم وأفعالهم ، كما ظهرت من ابن تيمية على منبر دمشق ! !
ويكفي للباحث عن حقيقة مذهبهم قول الذهبي المتقدم إن ذلك من ( العلم المباح لا يجب بثه ، ولا ينبغي أن يدخل فيه إلا خواص العلماء ) !
الوهابية والتوحيد _ 118 _
* وقوله في سيره :20/331 : ( ومسألة النزول فالإيمان به واجب وترك الخوض في لوازمه أولى ) ، انتهى .
وكلمة (تركه أولى) تعبير فقهي معناه أن قوله جائز ولكن الأحسن تركه ، فهو ملتفت إلى أن لوازم مذهبه التجسيم وملتزم بها ، ولكنه يفضل عدم الكلام فيها حتى لا يكون ذلك ممسكاً عليه عند المنزهين !
وأما عوام الوهابيين فهم عوام أقحاح لا يعرفون إلا مدح مذهبهم بأنه مذهب التوحيد ومذهب السلف الصالح من الأمة ، ولا يعرفون معنى التأويل والتفويض والحقيقة والمجاز .
وأما طلبتهم وأكثر خريجيهم فيتصورون أن حمل آيات الصفات على الظاهر الحسي هو مذهب جمهور الأمة وسلفها الصالح ، لكثرة ما لقنوهم ذلك في كتبهم الدراسية ووسائل إعلامهم ، ولا يكاد أحدهم يعرف معنى الحمل على الظاهر ولا لوازمه !
تقول لأحدهم : إن قول علمائك بأن الله تعالى جالس على عرشه ، وإنه ينزل إلى الأرض كما نزل ابن تيمية عن درج المنبر في الشام ، يلزم منه تحديد الله تعالى بالمكان والزمان وصفات المكين والزمين !
فيجيبك : كلا ، لا يلزم من ذلك التشبيه والتجسيم ! لأنه يجلس كما يليق بجلاله ، وينزل كما يليق بجلاله ... !
ويتصور هذا الطالب المسكين أنه إذا لقلق لسانه بقوله ( كما يليق بجلاله ) فقد حل المشكلة العلمية ، أو دحا باب خيبر ! فمثله كمثل الذي يأكل ويشرب في وضح النهار، ثم يصر على أنه صائم لم يذق شيئاً ! لأنه صام كما يليق بصيامه ، وأكل كما يليق بجنابه ! مع أنه لم يبق شيئاً حسناً يليق بجنابه !
الوهابية والتوحيد _ 119 _
ومثله كمثل الذي قالوا له عن أستاذه وإمامه : رأيناه يشرب الخمر ، فقال : لا ، إنه بمجرد أن يلمس كأسها تصير شراباً طهوراً من الجنة ، فقالوا له : رأيناه دخل إلى بيت زانية ! فقال : لا ، إنه بمجرد أن يلمسها تتحول إلى حوراء عيناء من الجنة !
ولكن الحقيقة لا تتغير بلمسة ذلك الشخص ، ولا بقول هؤلاء ، ولا بقول الطلمنكي !
ويدل النص التالي للسبكي أن التقية كانت معروفة عن أسلاف الوهابيين ، وأن بعض علماء السنة المنزهين قد بين سببها !
* قال في طبقات الشافعية : 8/222 : ( قال الشيخ بن عبدالسلام : والحشوية المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه ضربان :
أحدهما لايتحاشى من إظهار الحشو ، ويحسبون أنهم على شئ !
والآخر يتستر بمذهب السلف لسحت يأكله أو حطام يأخذه ) ، انتهى !
!
وقال الوهابيون معبودهم يفنى إلا وجهه
من معجزات القرآن أنه يسد الطريق على الإنحرافات العقيدية والفكرية لمن يتأمل فيه ، وفيه آية تكفي وحدها لكشف زيف عقيدة الوهابيين في حمل الصفات على ظاهرها الحسي ، وهي قوله تعالى ( كل شئ هالك إلا وجهه ) فماذا يقول فيها الوهابيون وأسلافهم المجسمة ؟
الوهابية والتوحيد _ 120 _
هل يقولون كما قال أكثر المسلمين إن كلمة ( وجهه ) هنا مجازية بمعنى ذاته ، أو بمعنى رسله وأوصيائهم ؟ أم يصرون على أن معنى الوجه هو الوجه الحقيقي المادي ويلتزمون بأن كل الله تعالى يفنى ويهلك إلا وجهه ؟ ! سبحانه وتعالى عما يصفون .
هنا تقف سفينة الوهابيين وكل المجسمين ، وتتعطل محركاتها بالكامل ، وتعصف بهم العواصف ، ويغرقون إلى الأذقان ، ولكنهم مع ذلك يصرون على منطقهم مهما كانت النتيجة !
لقد قالوا ونعوذ بالله مما قالوا : إن الله تعالى يفنى إلا وجهه ، ولا بد أنهم يحلون المشكلة بقولهم : يفنى فناء يليق بجلاله ، ويهلك هلاكاً يليق بجلاله !!
ولم يقفوا عند هذا الحد ، بل أنكروا أن أحداً من السلف يؤول ( وجهه ) في الآية بذاته أو رسله ، وأنكروا ما هو موجود في البخاري ! ! حتى لا يظهر زيف عقيدتهم ، ولا يثبت عندهم ضلال البخاري وكفره ! ! وإليكم القصة :
* قال الألباني في فتاويه ص 522 : ( سؤال : يا شيخ لي عدة أسئلة ، ولكن قبل أن أبدأ أقول أنا بالأمس قد ذكرت مسألة أو غفلت عن ذكر هذه المسألة ، وهي
عندما قلت إن الإمام البخاري ترجم في صحيحه عن معنى قوله تعالى ( كل شئ هالك إلا وجهه ) قال إلا ملكه ، بصراحة أنا نقلت هذا الكلام عن كتاب اسمه ( دراسة تحليلية لعقيدة ابن حجر ) كتبه أحمد عصام الكاتب ، وكنت معتقداً أن هذا الرجل إن شاء الله نقله صحيح ، ولا زلت أقول ممكن نقله صحيح ، ولكن أريد أن أقرأ عليك علامة في هذا الكتاب فهو يقول : قد تقدم ترجمة البخاري في سورة القصص ( كل شئ هالك إلا وجهه ) إلا ملكه ويقال إلا ما أريد به وجه الله، وقوله إلا ملكه ، قاله الحافظ في رواية النسفي ، وقال معمر فذكره ، ومعمر هذا هو أبو عبيدة بن المثنى ، وهذا كلامه في كتابه مجاز القرآن لكن
بلفظ إلا هو ، فأنا طبعاً اليوم رجعت إلى الفتح نفسه فلم أجد ترجمة للبخاري بهذا الشئ ورجعت لصحيح البخاري دون الفتح أيضاً لم أجد هذا الكلام للإمام البخاري ولكنه هنا كأنه يشير إلى أن هذا الشيء موجود في رواية النسفي عن رواية البخاري ، فما أعرف جوابكم ؟
الوهابية والتوحيد _ 121 _
جواب : جوابي قد سلف .
السائل : أنا طبعاً أردت أن أبين هذا ، مخافة أن أقع في كلام عن الإمام البخاري .
الألباني : نعم جزاك الله خيراً .
السائل : أنت سمعت مني الشك في أن يقول البخاري هذه الكلمة لأنه
( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) أي ملكه .
الألباني : يا أخي هذا لا يقوله مسلم مؤمن !
السائل : وقلت أيضاً إن كان هذا موجوداً فقد يكون في بعض النسخ .
الألباني : فإذن الجواب مقدم سلفاً وأنت جزاك الله خيراً لأن بهذا الكلام الذي ذكرته تؤكد أن ليس في البخاري مثل هذا التأويل الذي هو عين التعطيل .
السائل : شيخنا على هذه كأنه موجود في الفتح نحو من هذه العبارة ، وأنا أذكر أني راجعت هذه العبارة باستدلال أحدهم فكأني وجدت مثل نوع هذا الإستدلال ، يعني موجود وهو في بعض النسخ ، لكن أنا قلت له لا يوجد إلا الله عز وجل وإلا مخلوقات
الله عز وجل ما في غير هذا ، وإذا كان كل شئ هالك إلا وجهه ، أي إلا ملكه إذا ما هو الشئ الهالك ؟
الوهابية والتوحيد _ 122 _
الألباني : هذا يا أخي ما يحتاج إلى تدليل على بطلانه ، لكن المهم أن ننزه الإمام البخاري أن يؤول هذه الآية، وهو إمام في الحديث وفي الصفات ، وهو سلفي العقيدة والحمد لله ) ، انتهى كلام الألباني أعلم علماء الوهابيين بالحديث .
ونلاحظ أن جنابه لا مشكلة عنده في تفسير ( وجهه ) بالوجه الحسي لله تعالى ، فهو يلتزم بأن كل شئ يهلك حتى يد معبوده وقدمه وجنبه وحقوه وكل بدنه ! ويبقى وجهه فقط ! !
هذه المقولة الفظيعة والمصيبة العظيمة التي يقولها الألباني ولا يجد من يوافقه عليها حتى مجسمة اليهود والنصارى الذين ما زالت بقيتهم عنده في الشام ... ليست هي المشكلة في نظر هذا العالم الوهابي !
إنما المشكلة عنده أنه يريد تنزيه صاحبه البخاري عن تأويل الصفات ، لأن التأويل عمل حرام وهو من شر أقوال أهل البدع والإلحاد كما يقول إمامه ابن تيمية ! وهو على حد تعبير الألباني عين التعطيل والضلال ولا يقوله مسلم مؤمن ، والبخاري
مسلم مؤمن ! !
لقد شككت في كلام الألباني عن البخاري ! فرجعت إلى البخاري فوجدت أن ما نفاه هذا ( المحدث الخبير ، الحافظ ، مدرس صحيح البخاري ) ونزه عنه البخاري موجود في صحيح البخاري : 6/17 وفيه بدل التأويل للآية تأويلات !
الوهابية والتوحيد _ 123 _
* قال البخاري في تفسير سورة القصص : ( كل شئ هالك إلا وجهه : إلا ملكه . ويقال إلا ما أريد به وجه الله ، وقال مجاهد : الأنباء الحجج ) ، انتهى .
* وقال ابن حجر في فتح الباري : 9/410 : ( قوله : إلا وجهه : إلا ملكه . في رواية النسفي وقال معمر فذكره ، ومعمر هذا هو أبو عبيدة بن المثنى ، وهذا كلامه في كتابه مجاز القرآن لكن بلفظ إلا هو ، كذا نقله الطبري عن بعض أهل العربية ،
وكذا ذكره الفراء .
وقال ابن التين : قال أبو عبيدة : إلا وجهه أي جلاله ، وقيل إلا إياه ، تقول أكرم الله وجهك أي أكرمك الله .
قوله : ويقال إلا ما أريد به وجهه ، نقله الطبري أيضاً عن بعض أهل العربية ووصله ابن أبي حاتم من طريق خصيف عن مجاهد مثله ، ومن طريق سفيان الثوري قالا : إلا ما ابتغى به وجه الله من الأعمال الصالحة .
الوهابية والتوحيد _ 124 _
ويتخرج هذان القولان على الخلاف في جواز إطلاق شئ على الله ، فمن أجازه قال الإستثناء متصل والمراد بالوجه الذات ، والعرب تعبر بالأشرف عن الجملة ، ومن لم يجز إطلاق شئ على الله قال هو منقطع ، أي لكن هو تعالى لم يهلك ، أو متصل
والمراد بالوجه ما عمل لأجله ) ، انتهى .
فالعبارة موجودة في البخاري وقد أكد ذلك شراحه ، ومحاولة نسبتها إلى معمر مردودة بالأصل ، وبشهادة الطبري أن عبارة معمر بلفظ ( إلا هو ) ! !
لذلك فإن نصيحتنا للألباني وابن باز ومن عندهم شئ من الإنصاف من الوهابيين أن يختاروا التأويل ، حتى لا يضطروا إلى الحكم بفناء معبودهم حتى عنقه ما عدا وجهه ! ! وحتى لا يضطروا إلى الحكم بضلال البخاري أو كفره لارتكابه تأويل
الصفات ! فهل يفعلون ؟
يظهر أن المجسمين واجهوا مشكلة هذه الآية قديماً ، فعندما فسروا ( وجه الله ) بالجارحة كما يقتضيه مذهبهم في الحمل على الظاهر الحسي ، صفعت هذه الآية وجوههم وتحيروا في تفسيرها !
ويظهر أن المشكلة بقيت عندهم بلا حل لإصرارهم على عدم التأويل كما فعل الألباني ، فكابروا وقالوا بفناء معبودهم ما عدا وجهه والعياذ بالله ! !
* قال السهيلي في الروض الآنف : 2/179 : ( ذهب الأشعري في قوله تعالى : ويبقى وجه ربك ، في معنى الوجه إلى ما ذهب فيه من معنى العين واليد وأنها صفات الله تعالى لم تعلم من جهة العقول ولا من جهة الشرع المنقول ) ! !
* قال الشاطبي في الإعتصام : 2/330 واصفاً تفسير المجسمة للآية : ( قول من قال : إن كل شئ فإن حتى ذات الباري ما عدا الوجه ، بدليل : كل شئ هالك إلا وجهه ) ، انتهى !
الوهابية والتوحيد _ 126 _
ومن نتائج تفسيرهم السئ للآية أن الفقه الحنبلي لم يبحث اليمين بوجه الله فلم أعثر عليه في مصدر فقهي حنبلي على كثرة كتبهم الفقهية ! لأنه عند المجسمين منهم يمين بجزء من الله وليس بالله تعالى كله فلا يكون يمينا ً !
بينما بحثه الأحناف وأفتى بعضهم بأنه يكون يميناً شرعياً لأن وجه الله تعالى تعبير مجازي عن ذاته ، إلا أن يكون الحالف مجسماً فلا ينعقد !
* قال الكاشاني في بدائع الصنائع : 3/6 : ( ولو قال : ووجه الله ، فهو يمين ، كذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة ، لأن الوجه المضاف إلى الله تعالى يراد به الذات ، قال تعالى : كل شئ هالك إلا وجهه ، أي ذاته ، وقال عز وجل :
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، أي ذاته ، وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن الرجل إذا قال : ووجه الله لا أفعل كذا ، ثم فعل أنها ليست بيمين ! وقال ابن شجاع إنها ليست من أيمان الناس إنما هي حلف السفلة ! ) ، انتهى .
ونحن نميل إلى أن فتوى أبي حنيفة بأنها ليست يمينا أقرب إلى فكره لأنه بعد أن ترك مذهبه الزيدي وتاب إلى الحاكم العباسي وقبل توبته ووظفه مسؤلاً عن بناء مسجد كبير في بغداد ... صار يميل إلى معاداة أهل البيت (ع) ويميل إلى التجسيم
، وقد كان البعد عن أهل البيت والقرب من التجسيم أمرين متلازمين تقريباً ... ولكنا نتغاضى ونقبل من تلاميذ أبي حنيفة روايتهم الأولى عنه .
* وقال في بدائع الصنائع : 3/143 : ( والوجه يذكر ويراد به الذات ، قال الله سبحانه وتعالى : كل شئ هالك إلا وجهه ، أي إلا هو ، ومن كفل بوجه فلان يصير كفيلاً بنفسه ، فيثبت أن هذه الأعضاء يعبر بها عن جميع البدن ، فكان ذكرها ذكر للبدن
كأنه قال أنت طالق ، وكذا إذا أضاف إلى وجهها) .
الوهابية والتوحيد _ 127 _
* وقال السرخسي في المبسوط : 8/133 : ( فإن قال : ووجه الله ، روي عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنه يمين لأن الوجه يذكر بمعنى الذات ، قال الله تعالى : ويبقي وجه ربك ، قال الحسن وهو هو ، وعلى قول أبي حنيفة لا يكون يميناً ، قال أبو شجاع في حكايته عن أبي حنيفة هو من أيمان السفلة يعني الجهلة الذين يذكرونه بمعنى الجارحة ، وهذا دليل على أنه لم يجعله يميناً ) ، انتهى .
وَوَصْفُ ابن شجاع للحالفين بوجه الله بأنهم سفلة يشير إلى أن المجسمة كانوا قلة ! وهو يدل على أن التجسيم كان منتشراً في عصر أبي حنيفة أي في أوائل القرن الثاني !
بل تدل الأحاديث عن أهل البيت (ع) على أن التجسيم كان منتشراً في المخالفين لهم من القرن الأول فقد رد الإمام محمد الباقر(ع) تفسيرهم للآية ، قال ابن بابويه في كتابه الإمامة والتبصرة ص 92 : ( عن أبي حمزة : عن أبي جعفر (ع) : قال
قلت له : قول الله تعالى : كل شئ هالك إلا وجهه ، قال : يا فلان فيهلك كل شئ ويبقى الوجه ؟ ! الله أعظم من أن يوصف ) !
* وروى الكليني في الكافي :1/143 : ( عن الحارث بن المغيرة النصري قال : سئل أبو عبد الله الإمام الصادق (ع) عن قول الله تبارك وتعالى : كل شئ هالك إلا وجهه ، فقال : ما يقولون فيه ؟ قلت : يقولون : يهلك كل شئ إلا وجه الله ! فقال : سبحان
الله لقد قالوا قولاً عظيماً ، إنما عنى بذلك وجه الله الذي يؤتى منه ) ، انتهى .
وقد يحاول بعضهم أن يتخلص من الإشكال بدعوى أن كلمة ( هالك ) في الآية ليست بمعنى فان ، ولكن الراغب في المفردات ص 544 فسر معنى الهلاك هنا فقال : ( والرابع : بطلان الشيء من العالم وعدمه رأسا وذلك المسمى فناء ، المشار إليه
بقوله : كل شئ هالك إلا وجهه ) ، انتهى .
وقد حاول مقاتل بن سليمان وهو أحد أئمة المجسمين ، أن يتخلص من إشكال الآية بتأويل العموم في ( كل شئ ) وجعله نسبياً ، ولكن ذلك لا ينفع الوهابيين ، ولا يصح على إطلاقه ...
* قال المزي في تهذيب الكمال : 28/ 437 : ( وقال مكي بن إبراهيم عن يحيى بن شبل : قال لي عباد بن كثير : ما يمنعك من مقاتل ؟ قال قلت إن أهل بلادنا كرهوه ، قال : فلا تكرهنه فما بقي أحد أعلم بكتاب الله منه !
عن يحيى بن شبل : كنت جالساً عند مقاتل بن سليمان فجاء شاب فسأله : ما تقول في قول الله تعالى كل شئ هالك إلا وجهه ؟
فقال مقاتل : هذا جهمي ، قال : ما أدري ما جهمي ، إن كان عندك علم فيما أقول وإلا فقل لا أدري، فقال : ويحك إن جهماً والله ما حج هذا البيت ولا جالس العلماء ، إنما كان رجلا أعطي لساناً ، وقوله تعالى : كل شئ هالك إلا وجهه ، إنما كل شئ
فيه الروح ، كما قال لملكة سبأ : وأوتيت من كل شئ ، لم تؤت إلا ملك بلادها ، وكما قال : وآتيناه من كل شئ سبباً ، لم يؤت إلا ما في يده من الملك ، ولم يدع في القرآن كل شئ وكل شئ إلا سرد علينا ) ، انتهى .
الوهابية والتوحيد _ 129 _
ولكن تفسير مقاتل الذي أعجب الراوي لا ينفع الوهابيين لأنه تأويل والتأويل عندهم حرام ، والواجب في مذهبهم حمل ( كل شئ ) على ظاهرها وعمومها لكل الموجودات حتى الله تعالى والعياذ بالله ! ! فإن أخذوا بتفسير مقاتل فقد تنازلوا عن أساس مذهبهم كما فعل جدهم مقاتل عندما أحرجه السائل !
ومن جهة أخرى فإن تفسير مقاتل غير صحيح أيضاً ، لأن كلمة ( كل شئ ) المستعملة في القرآن الكريم في المخلوقات قد تكون للعموم الإستغراقي الكامل وقد تكون للعموم النسبي ، ويعرف ذلك بالقرائن العقلية من مناسبات الحكم والموضوع ...
فمثلاً قوله تعالى في سورة الأحقاف آية 24 ـ 25 : ( بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ) ، تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لايرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم
المجرمين ) ، لايمكن تفسيرها بالعموم الإستغراقي لأن هياكل مساكنهم لم تدمرها الريح بنص الآية.
أما قوله تعالى في سورة البقرة الآية 106 : ( ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير ) ونحوه في آيات عديدة أخرى ، فلا يمكن أن نقول فيه بالعموم النسبي ونستثني منه شيئاً لا يعلمه الله تعالى .
لكن في نفس الوقت يمكن القول بالعموم النسبي فيه من جهة أخرى وأن المقصود بكل شئ هنا الشئ القابل لأن يوجد ويقدر عليه ... إلخ .
الوهابية والتوحيد _ 130 _
أما في موضوعنا وهو قوله تعالى في آخر سورة القصص ( كل شئ هالك إلا وجهه ) فلا يصح فيه العموم النسبي الذي أراده مقاتل ، لأن الهلاك في الآية إذا كان خاصاً بذوات الأرواح كما زعم فهو يشمل الله تعالى لأنه ذو روح ، فلماذا استثنت الآية
منه وجه الله فقط دون بقية جوارحه المزعومة !
ثم ما دام مقاتل وتلاميذه تأولوا ( كل شئ ) في الآية بالعموم النسبي لذوات الأرواح ، ليحلوا بذلك الإشكال الموجه إليهم ، فلماذا لا يؤولون
(وجهه) في الآية بذاته ويحلون الإشكال من أساسه ؟ فالعموم الحقيقي ظاهر ، والمعنى الحسي بزعمهم ظاهر ! فلماذا صار تأويل أحدهما حلالاً ، والآخر حراماً ؟ !
والإنصاف أن موضوع الآية هو ( هلاك العالم قبل يوم القيامة ) ومناسبة الحكم والموضوع تقضي أولاً بالعموم الحقيقي وعدم صحة استثناء شئ إلا ما استثناه الله تعالى ، وتقضي ثانياً بأن الله تعالى خارج تخصصاً عن موضوع الآية لأن موضوعها
هلاك المخلوقات لا الخالق ، وهذا يوجب تفسير وجهه ببعض مخلوقاته ، أو القول بأن المقصود به ذاته تعالى وأن الإستثناء في الآية منقطع .
وهكذا لم يستطع مقاتل وارث تجسيم اليهود ، أن يلائم بجدله بين تجسيمه وبين الآية ، ولم يتوفق في محاولته سلب العموم الإستغراقي عن ( كل شئ ) في القرآن وحصر معناها هنا بذات الأرواح !
لم يفسر علماء السنة ( وجهه ) في الآية بالجارحة كما قال المجسمون ، بل قالوا إن معنى وجهه هنا : ذاته عز وجل ، ووافقهم بعض علماء الشيعة .
* قال الشاطبي في الإعتصام : 2/303 : ( فهذه الأدلة تدل على أن بعض اللغة يعزب عن علم بعض العرب ، فالواجب السؤال كما سألوا فيكون كما كانوا عليه ، وإلا
زل في الشريعة برأيه لا بلسانها ... ولنذكر لذلك ستة أمثلة ... والرابع : قول من قال ... وقصد هذا القائل ما يتجه لغة ولا معنى ، وأقرب قول لقصد هذا المسكين أن يراد به ذوالوجه كما تقول فعلت هذا لوجه فلان أي لفلان فكان معنى الآية: كل شئ هالك إلا هو ... ) .
* وقال الفخر الرازي في تفسيره مجلد 3 جزء 6 ص 437 : ( إلا وجهه : إلا إياه ، والوجه يعبر به عن الذات ) .
* وقال في مجلد 13 جزء 26 ص 22 : ( اختلفوا في قوله : كل شئ هالك ، فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم ، والمعنى أن الله تعالى يعدم كل شئ سواه ، ومنهم من فسر الهلاك بإخراجه عن كونه منتفعاً به ، إما بالإماتة أو بتفريق الأجزاء وإن كانت
أجزاؤه باقية ، فإنه يقال هلك الثوب وهلك المتاع ولا يريد به فناء أجزائه بل خروجه عن كونه منتفعاً به ، ومنهم من قال معنى كونه هالكاً كونه قابلاً للهلاك في ذاته ، فإن كل ما عداه ممكن الوجود لذاته ، وكل ما كان ممكن الوجود كان قابلاً للهلاك فأطلق عليه الهلاك نظراً إلى هذا الوجه ) ، انتهى ، ويبدو أن الرازي يرجح هذا الوجه الأخير .
الوهابية والتوحيد _ 132 _
* وقال في نفس الجزء ص 24 : ( استدلت المجسمة بهذه الآية على أن الله تعالى جسم من وجهين :
الأول : قالوا الآية صريحة في إثبات الوجه ، وذلك يقتضي الجسمية .
والثاني : قوله وإليه ترجعون ، وكلمة إلى لانتهاء الغاية ، وذلك لا يعقل
إلا في الأجسام .
والجواب : لو صح هذا الكلام يلزم أن يفنى جميع أعضائه وأن لا يبقى منه إلا الوجه ! وقد التزم ذلك بعض المشبهة من الرافضة وهو بيان بن سمعان ، وذلك لا يقول به عاقل ! ) ، انتهى .
والظاهر أن الرازي اقتصر على نسبة هذه المقالة الشائنة إلى ابن سمعان وأتباعه ، وتحاشى نسبتها إلى مجسمة الحنابلة والأشعرية ، مع أن ذلك مذكور عنهم في المصادر! وقد رأيت أن هذا هو التفسير الذي يقول به مجسمة عصرنا مثل الألباني
وابن باز وأتباعهم ! !
أما بيان بن سمعان الذي نسبه الرازي إلى الشيعة الرافضة فهو حلولي كافر ملعون في مصادر الشيعة ، وقد ادعى له الألوهية أبوه سمعان وقبلها هو !
* قال في طرائف المقال : 2/231 : ( قال بيان بن سمعان التميمي النهدي : الله على صورة إنسان ، ويهلك كله إلا وجهه ، وروح الله حلت في علي (ع) ثم في ابنه محمد بن الحنفية ثم في ابنه أبي هاشم ، ثم في بيان ابنه ، لعنه الله ) ، انتهى .
* وذكر نحوه النوبختي في الفرق بين الفرق فقال في ص 216 : ( في ذكر البيانية من الغلاة : وهم الذين زعموا أن الإمامة صارت من محمد بن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم عبد الله بن محمد ، ثم صارت من أبي هاشم إلى بيان بن سمعان بوصيته
إليه ، واختلف هؤلاء في بيان زعيمهم ، فمنهم من زعم أنه كان نبياً ، وأنه نسخ بعض شريعة محمد ( ص ) ومنهم من زعم كان إلهاً ... ثم إنه زعم أن الإله رجل من نور وأنه يضئ كله غير وجهه ... وهذه الفرقة خارجة عن جميع فرق الإسلام لدعواها إلهية زعيمها بيان ) ، انتهى .
ولا نلوم الرازي على جعله ( بيان بن سمعان ) من الشيعة ، فقد فرض علينا إخواننا السنة في مصادرهم عشرات الملحدين والملاعين وباعوهم لنا جبراً وحاسبونا على مقولاتهم وما زالوا ، مع أن مصادرنا تنادي بالبراءة منهم ولعنهم ! !
وهناك تفسير آخر لعلماء السنة للآية حيث فسروا ( وجهه ) فيها بالأعمال التي يراد بها وجه الله تعالى ، وقد وافقهم بعض علماء الشيعة أيضاًَ.
الوهابية والتوحيد _ 133 _
* قال الراغب في المفردات ص 513 : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ، قيل ذاته ، وقيل أراد بالوجه ها هنا التوجه إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة ، وقال :
فأينما تولوا فثم وجه الله ، كل شئ هالك إلا وجهه ، يريدون وجه الله ، إنما نطعمكم لوجه الله ، قيل إن الوجه في كل هذا ذاته ويعني بذلك كل شئ هالك إلا هو ، وكذا في أخواته.
وروي أنه قيل ذلك لأبي عبد الله بن الرضا ، فقال : سبحان الله لقد قالوا قولاً عظيماً ، إنما عنى الوجه الذي يؤتى منه ، ومعناه كل شئ من أعمال العباد هالك وباطل إلا ما أريد به الله ، وعلى هذا الآيات الأخر ، وعلى هذا قوله : يريدون وجهه ،
يريدون وجه الله ) ، انتهى .
والصحيح : أبو عبد الله جعفر بن محمد أي الإمام جعفر الصادق (ع) ، وليس أبا عبد الله بن الرضا ، والظاهر أن الراغب أخذه حديث الكافي المتقدم ، وأن الذي دفع هذا اللغوي إلى ترجيح هذا الوجه أن الله تعالى خارج تخصصاً عن موضوع الآية
، وأن الإستثناء فيها متصل كما أشرنا.