الفهرس العام

الفصل الثامن : من بحوث الفلاسفة والمتكلمين في نفي الجسمية والجهة


بحث للعلامة الحلي في نفي الجسمية والجهة
بحث للفخر الرازي في نفي الجسمية
بحث للجرجاني في نفي الجهة

بحث للعلامة الحلي في نفي الجسمية والجهة

  قال في كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص 154 : ( قال : ولكل جسم مكان طبيعي يطلبه عند الخروج على أقرب الطرق .
  أقول : كل جسم على الإطلاق فإنه يفتقر إلى مكان يحل فيه ، لاستحالة وجود جسم مجرد عن كل الأمكنة ، ولا بد أن يكون ذلك المكان طبيعياً له ، لأنا إذا جردنا الجسم عن كل العوارض فإما أن لا يحل في شئ من الأمكنة وهو محال ، أو يحل في الجميع وهو أيضاًً باطل بالضرورة ، أو يحل في البعض فيكون ذلك البعض طبيعياً ، ولهذا إذا أخرج عن مكانه عاد إليه ، وإنما يرجع إليه على أقرب الطرق وهو الإستقامة .

الوهابية والتوحيد _ 168 _

  قال : ولو تعدد انتفى ، أقول : يريد أن يبين أن المكان الطبيعي واحد ، لأنه لو كان لجسم واحد مكانان طبيعيان لكان إذا حصل في أحدهما كان تاركاً للثاني بالطبع ، وكذا بالعكس فلا يكون واحد منهما طبيعياً له ، فلهذا قال فلو تعدد يعني الطبيعي انتفى ، ولم يكن له مكان طبيعي ) .
  * وقال في كشف المراد ص 317 : ( المسألة العاشرة : في أنه تعالى غير مركب ، قال : والتركيب بمعانيه ، أقول : هذا عطف على الزائد ، بمعنى أن وجوب الوجود يقتضي نفي التركيب أيضاً ، والدليل على ذلك أن كل مركب فإنه مفتقر إلى أجزائه لتأخره وتعليله بها ، وكل جزء من المركب فإنه مغاير له ، وكل مفتقر إلى الغير ممكن ، فلو كان الواجب تعالى مركباً لكان ممكناً ، هذا خلف ، فوجوب الوجود يقتضي نفي التركيب .

الوهابية والتوحيد _ 169 _

  واعلم أن التركيب قد يكون عقلياً وهو التركيب من الجنس والفصل ، وقد يكون خارجياً كتركيب الجسم من المادة والصورة وتركيب المقادير وغيرها ، والجميع منتفٍ عن الواجب تعالى ، لاشتراك المركبات في افتقارها إلى الأجزاء ، فلا جنس له ولا فصل له ولا غيرهما من الأجزاء الحسية العقلية .
  المسألة الثالثة عشرة : في أنه تعالى ليس بحال في غيره ، قال : والحلول .
  أقول : هذا عطف على الزائد فإن وجوب الوجود يقتضي كونه تعالى ليس حالاً في غيره ، وهذا حكم متفق عليه بين أكثر العقلاء ، وخالف فيه بعض النصارى القائلين بأنه تعالى حال في المسيح ، وبعض الصوفية القائلين بأنه تعالى حال في بدن العارفين ، وهذا المذهب لا شك في سخافته لأن المعقول من الحلول قيام موجود بموجود آخر على سبيل التبعية بشرط امتناع قيامه بذاته ، وهذا المعنى منتف في حقه تعالى لاستلزامه الحاجة المستلزمة للإمكان .
  المسألة الرابعة عشرة : في نفي الاتحاد عنه تعالى ، قال : والإتحاد .
  أقول : هذا عطف على الزائد فإن وجوب الوجود ينافي الإتحاد ، لأنا قد بينا أن وجوب الوجود يستلزم الوحدة ، فلو اتحد بغيره لكان ذلك الغير ممكناً فيكون الحكم الصادق على الممكن صادقاً على المتحد به ، فيكون الواجب ممكناً ، وأيضاً لو اتحد بغيره لكان بعد الإتحاد إما أن يكونا موجودين كما كانا فلا اتحاد ، وإن عدما أو عدم أحدهما فلا اتحاد أيضاً ، ويلزم عدم الواجب فيكون ممكناً ، هذا خلف .

الوهابية والتوحيد _ 170 _

  المسألة الخامسة عشرة : في نفي الجهة عنه تعالى ، قال : والجهة ، أقول : هذا حكم من الأحكام اللازمة لوجوب الوجود وهو معطوف على الزائد ، وقد نازع فيه جميع المجسمة فإنهم ذهبوا إلى أنه في جهة ، وأصحاب أبي عبد الله بن الكرام اختلفوا فقال محمد بن هيثم أنه تعالى في جهة فوق العرش لا نهاية لها ، والبعد بينه وبين العرش أيضاً غير متناه ، وقال بعضهم البعد متناه ، وقال قوم منهم إنه تعالى على العرش كما يقول المجسمة ، وهذه المذاهب كلها فاسدة ، لأن كل ذي جهة فهو مشار إليه ومحل للأكوان الحادثة ، فيكون حادثاًً فلا يكون واجباًً ) .

الوهابية والتوحيد _ 171 _

بحث للفخر الرازي في نفي الجسمية

  * المطالب العالية مجلد 2 جزء 2 ص 25 : ( الفصل الثالث في إقامة الدلائل على أنه تعالى يمتنع أن يكون جسماً .
  لأهل العلم في هذا الباب قولان : فالجمهور الأعظم منهم اتفقوا على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن الجسمية والحصول في الحيز ، وقال الباقون : إنه متحيز وحاصل في الحيز وهؤلاء هم المجسمة .
  ثم القائلون بأنه جسم اختلفوا في أشياء فالأول : أنهم في الصورة على قولين ، منهم من قال إنه على صورة الإنسان ومنهم من لا يقول به .
  أما الأول فالمنقول عن مشبهة المسلمين أنه تعالى على صورة إنسان شاب ، والمنقول عن مشبهة اليهود أنه على صورة إنسان شيخ ، وأما الذين يقولون إنه ليس على صورة الإنسان فهم يقولون : إنه على صورة نور عظيم .
  وذكر أبو معشر المنجم أن سبب إقدام الناس على عبادة الأوثان أن الناس في الدهر الأقدم كانوا على مذهب المجسمة وكانوا يعتقدون أن إله العالم نور عظيم وأن الملائكة أنوار إلا أنهم أصغر جثة من النور الأول ، ولما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثناً وهو أكبر الأوثان على صورة الإله ، وأوثاناً أخرى أصغر من ذلك الوثن على صور مختلفة وهي صور الملائكة ، واشتغلوا بعبادتها على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة ، فثبت أن دين عبدة الأصنام كالفرع على قول المشبهة .

الوهابية والتوحيد _ 172 _

  والموضع الثاني : من مواضع الإختلافات أن المجسمة اختلفوا في أنه هل يصح عليه الذهاب والمجيء والحركة والسكون ، فأباه بعض الكرامية وأثبته قوم منهم ، وجمهور الحنابلة يثبتونه .
  والموضع الثالث : القائلون بأنه نور ينكرون الأعضاء والجوارح مثل الرأس واليد والرجل ، وأكثر الحنابلة يثبتون هذه الأعضاء والجوارح .
  الموضع الرابع : اتفق القائلون بالجسمية والحيز على أنه في جهة فوق ، ثم إن هذا المذهب يحتمل وجوهاً ثلاثة ( لأنه تعالى ) إما أن يكون ملاقياً للعرش أو مبايناً للعرش ببعد متناه أو مبايناً عنه ببعد غير متناه ، وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الأقسام ذاهب .
  الموضع الخامس : أن القائلين بالجسمية والحيز اتفقوا على أنه متناه من جهة التحت فأما في سائر الجهات الخمس فقد اختلفوا ، فمنهم من قال إنه متناه من كل الجهات ، ومنهم من قال إنه متناه من جهة التحت وغيرمتناه من سائر الجهات ، ومنهم من قال أنه ( غير ) متناه من جهة الفوق ( وغير ) متناه من سائر الجهات .

الوهابية والتوحيد _ 173 _

  الموضع السادس : أنه تعالى حاصل في ذلك الحيز المعين لذاته أو لأجل معنى قائم به يقتضي حصوله في الجهة المعينة ، وهو مثل اختلافهم في أنه تعالى عالم لذاته أو عالم بالعلم ، وهذا هو التنبيه على مواضع الخلاف والوفاق .
  الموضع السابع : أن العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام حالة في جميع أجزاء ذلك الجسم بالسوية ، أو يكون لكل واحد من هذه الصفات جزء معين من ذلك الجسم يكون ذلك الحيز محلاًّ لتلك الصفة بعينها ، ذهب إلى كل واحد من هذين القولين ذاهب ، والذي يدل على أنه تعالى منزه عن الجسمية والحجمية وجوه :
  الحجة الأولى : لا شئ من واجب الوجود لذاته بممكن الوجود لذاته ، وكل متحيز فإنه ممكن الوجود لذاته ، ينتج فلا شئ من واجب الوجود لذاته بمتحيز ( أما الصغرى فبديهية ، وأما الكبرى فلأن كل متحيز مركب وكل مركب ممكن لذاته ، ينتج أن كل متحيز ممكن لذاته ) .
  وإنما قلنا إن كل متحيز مركب لوجوه
  الأول : أن كل متحيز فإن يمينه مغاير ليساره ، وكل ما كان كذلك فهو مركب ، ينتج أن كل متحيز مركب ، وتمام القول فيه مقرر بالدلائل المذكورة في نفي الجوهر الفرد .

الوهابية والتوحيد _ 174 _

  والثاني : قالت الفلاسفة : كل جسم فهو مركب من الهيولى والصورة .
  الثالث : ( كل متحيز ) فإنه يشارك سائر المتحيزات في كونه متحيزاً ويخالفها بتعينه ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فوجب أن يكون كل فرد من أفراد المتحيزات مركباً من عموم التحيز الذي به المشاركة ومن ذلك التعين الذي به المخالفة ، فيثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن كل متحيز مركب ، أما بيان أن كل مركب فهو ممكن ، فلأن كل مركب فإنه مفتقر إلى حيزه وحيزه غيره ، فكل مركب فإنه مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته ، ينتج أن كل مركب ممكن لذاته ...
  الحجة الثانية : لو كان متحيزاً لكان مثلاً لسائر المتحيزات (في تمام الماهية ) وهذا محال فذاك محال .
  بيان الأول : أنه لو كان متحيزاً لكان مساوياً لسائر المتحيزات في كونه متحيزاً ، ثم بعد هذا لا يخلو أما أن يقال إنه يخالف سائر الأجسام في شئ من مقومات ماهيته ، وإما أن لا يكون كذلك ، والأول باطل فيبقى الثاني .
  وإنما قلنا إن الأول باطل لأنه إذا كان مساوياً لسائر المتحيزات في كونه متحيزاً ومخالفاً لها في شئ من مقومات تلك الماهية ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة فكان عموم كونه متحيزاً مغايراً لتلك الخصوصية التي وقعت بها المخالفة .

الوهابية والتوحيد _ 175 _

  إذا ثبت هذا فنقول : هذان الأمران إما أن يكون كل واحد منهما صفة للآخر ، وإما أن لا يكون كل واحد منهما صفة للآخر ، وإما أن يكون ما به المخالفة موصوفاً وما به المشاركة يكون صفة ، والأقسام الثلاثة الأولى باطلة ، فبقي الرابع ، وذلك يفيد القول بأن الأجسام متماثلة في تمام الماهية .
  وإنما قلنا إن القسم الأول باطل ، لأن ذلك يقتضي أن يكون كل واحد منهما ذاتاً مستقلة بنفسها ، ومع ذلك فيكون صفة مفتقرة إلى غيرها وذلك باطل .
  وإنما قلنا إن القسم الثاني باطل ، لأنه على هذا التقدير يكون كل واحد منهما ذاتاً مستقلة بنفسها ولا يكون ( لواحد منها ) تعلق بالآخر ، وكلامنا ليس في الذات الواحدة .

الوهابية والتوحيد _ 176 _

  وإنما قلنا إن القسم الثالث باطل ، لأنا إذا فرضنا أن ما به المخالفة هو الذات وما به المشاركة وهو التحيز هو الصفة ، فنقول : إن الذي به المخالفة إما أن يكون مختصاً بالحيز والجهة وإما أن لا يكون ، فإن كان الأول فهو جسم متحيز فيلزم أن يكون جزء ماهية الجسم جسماً وهو محال .
  وإن كان الثاني امتنع حصول المتحيز فيه ، لأن ذلك الشيء لا حصول له في شئ من الأحياز ، والمتحيز واجب الحصول في الحيز ، وحصول ما يكون واجب الحصول في الحيز ، في شئ يكون ممتنع الحصول في الحيز ، ذلك من محالات العقول ، فيثبت بما ذكرنا فساد الأقسام الثلاثة ، فلم يبق إلا الرابع وهو أن يكون ما به المشاركة وهو المتحيز ذاتاً وما به المخالفة صفة ، فإذا كان المفهوم من المتحيز مفهوماً واحداً فحينئذ تكون المتحيزات متماثلة في تمام الماهية والذات ، فيثبت بما ذكرنا أنه لو كان متحيزاً لكان مثلاً لسائر المتحيزات في تمام الماهية والذات .
  وإنما قلنا إن ذلك محال لوجوه : الأول : أن المتماثلات في تمام الماهية يجب استواؤها في اللوازم والتوابع ، فإما أن تكون جميع الأجسام غنية عن الفاعل ، وإما أن تكون جميعها محتاجة إلى الفاعل (والأول باطل لأنا دللنا على أن العالم محدث محتاج إلى الفاعل) فيتعين الثاني .
  فيثبت أن كل متحيز فهو محتاج إلى الفاعل ، فخالق الكل يمتنع أن يكون متحيزاً .

الوهابية والتوحيد _ 177 _

  الثاني : أن اختصاص ذلك الجسم بالعلم والقدرة والإلهية إما أن يكون من الواجبات أو من الجائزات ، والأول باطل وإلا لزم أن تكون كل الأجسام موصوفة بتلك الصفات على سبيل الوجوب لما أنه ثبت أن الأفراد الداخلة تحت النوع يجب كونها متساوية في جميع اللوازم ، والثاني باطل ، وإلا لزم أن لا يحصل في ذلك الجسم المعين هذه الصفات إلا بجعل جاعل وتخصيص مخصص ، فإن كان ذلك الجاعل جسماً عاد الكلام فيه ، ولزم إما التسلسل وإما الدور . وإن لم يكن جسماً فهو المطلوب .
  والثالث : ( أن الأجسام ) لما كانت متماثلة فلو فرضنا بعضها قديماً وبعضها محدثاً لزم المحال ، ذلك لأن كل ما صح على الشيء صح على مثله ، فيلزم جواز أن ينقلب القديم محدثاً وأن ينقلب المحدث قديماً ، وذلك محال معلوم الإمتناع بالبديهة .
  والرابع : أنه كما صح التفرق والتمزق على سائر الأجسام وجب أن يصحا على ذلك الجسم ، وكما صحت الزيادة والنقصان والعفونة والفساد على سائر الأجسام وجب أن يصح كل ذلك عليه ، ومعلوم أن ذلك باطل محال .

الوهابية والتوحيد _ 178 _

  الخامس : أن الأجزاء المفترضة في ذلك المجموع تكون متساوية في تمام الماهية ، ولا شك أن بعض تلك الأجزاء وقع في العمق وبعضها في السطح ، وكل ما صح على الشئ صح على مثله ، فالذي وقع في العمق يمكن أن يقع في السطح وبالعكس .
  وإن كان الأمر كذلك كان وقوع كل جزء على الوجه الذي وقع عليه لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص وبجعل جاعل .
  وذلك على إله العالم محال ، واعلم : أن هذه الحجة قوية ، إلا أنها توجب صحة الخرق والإلتئام على الفلك ، والفلاسفة لا يقولون به .
  الحجة الثالثة : لو كان متحيزاً لكان متناهياً وكل متناه ممكن وواجب الوجود ليس بممكن ، فالمتحيز لا يكون واجب الوجود لذاته .

الوهابية والتوحيد _ 179 _

  أما بيان أن كل متحيز فهو متناه فللدلائل الدالة على تناهي الأبعاد ، وأما أن كل متناه ممكن فلأن كل مقدار فإنه يمكن فرض كونه أزيد منه قدراً وأنقص منه قدراً .
  والعلم بثبوت هذا الإمكان ضروري ، فيثبت أن كل متحيز ممكن ، ويثبت أن واجب الوجود ليس بممكن ، ينتج فلا شئ من المتحيزات بواجب الوجود ، وينعكس فلا شئ من واجب الوجود بمتحيز .
  الحجة الرابعة : لو كان متحيزاً لكان مساوياً لسائر المتحيزات في كونه متحيزاً .
  وإما أن يخالفها بعد ذلك في شئ من المقومات وأما ألا يكون كذلك ، وعلى التقدير الأول يكون المتحيز جنساً تحته أنواع ، وعلى التقدير الثاني يكون نوعاً تحته أشخاص .

الوهابية والتوحيد _ 180 _

  ونقول : الأول باطل وإلا لكان واجب الوجود مركباً من الجنس وهو المتحيز ومن الفصل وهو المقوم الذي به يمتاز عن غيره ، وكل مركب ممكن ، فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته ، هذا خلف .
  والثاني أيضاً باطل ، وهو أن يكون المتحيز نوعاً تحته أشخاص ، وذلك لأن المفهوم من المتحيز قدر مشترك بين كل الأشخاص وتعين كل واحد منها غير مشترك بينه وبين الأشخاص ، فتعين كل واحد منها زائد على طبيعته النوعية ، والمقتضي لذلك التعين المعين إن كان هو تلك الماهية أو شئ من لوازمها وجب أن يكون ذلك النوع مخصوصاً بذلك الشخص ، لكنا فرضناه مشتركاً فيه بين الأشخاص ، هذا خلف .
  وإن كان أمراً منفصلاً فكل شخص من أشخاص الجسم المتحيز إنما يتعين بسبب منفصل فلا يكون واجب الوجود لذاته .
  فثبت : أن كل جسم فهو ممكن لذاته ، وما لا يكون ممكن الوجود لذاته امتنع أن يكون جسماً .

الوهابية والتوحيد _ 181 _

  الحجة الخامسة : لو كان جسماً لجاز عليه التفرق والتمزق وهذا محال فذاك محال ، بيان الملازمة : أنه إذا كان مركباً من الأجزاء وجب انتهاء تحليل تلك الأجزاء إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه بسيطاً مبرأ عن التركيب والتأليف ، وإذا كان ( كذلك كان ) طبع يمينه مساوياً لطبع يساره وإلا لصار مركباً .
  وإذا ثبت مساواة الجانبين في الطبيعة والماهية فكل ما كان ممسوساً بجانب يمينه وجب أن يصح كونه ممسوساً بجانب يساره ضرورة أن كل ما صح على شئ فإنه يصح أيضاً على مثله ، وإذا كان كذلك فكما صح على ذلك الجزء أن يماس الجزء الثاني بأحد وجهيه وجب أن يصح عليه أن يماسه بالوجه الثاني ، وإذا ثبت جواز ذلك ثبت جواز صحة التفرق والتمزق عليه .
  وإنما قلنا : إن ذلك محال لأنه لما صح الإجتماع والإفتراق على تلك الأجزاء لم يترجح الإجتماع على الإفتراق إلا بسبب منفصل ، فيلزم افتقاره في وجوده إلى السبب المنفصل ، وواجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون كذلك ، فيثبت أن واجب الوجود لذاته ليس جسماً .

الوهابية والتوحيد _ 182 _


  الحجة السادسة : لو كان متحيزاً لكان جسماً لأنه لم يقل أحد من العقلاء بأنه في حجم الجوهر الفرد ، وإذا كان جسماً كان مركباً من الأجزاء فإما أن يكون الموصوف بالعلم والقدرة والصفات المعتبرة في الإلهية جزء واحدا من تلك الأجزاء وإما أن يكون الموصوف بتلك الصفات مجموع تلك الأجزاء ، فإن كان الأول كان الإله هو ذلك الجزء الواحد منفرداً فيعود الأمر إلى ما ذكرناه من أن الإله يكون في حجم الجوهر الفرد .
  وإن كان الثاني فنقول : إما أن تقوم الصفة الواحدة بجميع تلك الأجزاء ، وإما أن تتوزع أجزاء تلك الصفة على تلك الأجزاء ، وإما أن يقوم بكل واحد من تلك الأجزاء علم على حدة وقدرة على حدة ، والأول باطل لأن قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة غير معقول ، والثاني محال لأن كون العلم قابلاً للقسمة محال ، على ما بيناه في مسألة إثبات النفس ، والثالث أيضاً محال لأنه يلزم كون كل واحد من تلك الأجزاء موصوفاً بجملة الصفات المعتبرة في الإلهية ، وذلك يوجب تعدد الآلهة ، وذلك محال .

الوهابية والتوحيد _ 183 _


  فإن قيل : ما ذكرتموه من الدليل قائم في الإنسان فإن مجموع بدنه لا شك أنه مركب من الأجزاء الكثيرة فيلزم أن يقوم بكل واحد من تلك الأجزاء علم على حدة وقدرة على حدة ، فيلزم أن يكون الإنسان الواحد علماء قادرين كثيرين ، وذلك باطل .
  قلنا : أما الفلاسفة فقد طردوا قولهم في الكل وزعموا أن الموصوف بالعلم والقدرة هو النفس لا الجسم وإلا لزم هذا المحال .
  وأما الأشعري فإنه التزم كون كل واحد من أجزاء الإنسان عالماً قادراً حياً وذلك في غاية البعد ، إلا أن التزامه وإن كان بعيدا لكن لا يلزم منه محال ، أما التزام ذلك في حق الله تعالى فهو محال ، لأنه يوجب القول بتعدد الآلهة ، وهو محال .
  الحجة السابعة : لو كان جسماً لكان إما أن تكون الحركة جائزة عليه وإما أن لا تكون ، والقسمان باطلان فالقول بكونه متحيزاً باطل .

الوهابية والتوحيد _ 184 _


  بيان أن الحركة ممتنعة عليه : أنه لو جاز في الجسم الذي تصح الحركة عليه أن يكون إلهاً فلم لا يجوز أن يكون إله العالم هو الشمس والقمر لأن الأفلاك والكواكب ليس فيها عيب يمنع من كونها آلهة إلا أموراً ثلاثة : وهي كونها مركبة من الأجزاء ، وكونها محدودة متناهية ، وكونها قابلة للحركة والسكون ، وإذا لم تكن هذه الأشياء مانعة من الإلهية فكيف يمكن الطعن في إلهية الشمس والقمر ! بل في إلهية العرش والكرسي ، وذلك عين الكفر والإلحاد وإنكار الصانع .
  وأما القسم الثاني وهو أن يقال : إن إله العالم جسم ، ولكن الإنتقال والحركة عليه محال ، فنقول هذا باطل من وجوه .
  الأول : أن هذا يكون كالزمن المقعد الذي لا يقدر على الحركة وذلك نقص وهو على الله محال .
  والثاني : أنه تعالى لما كان جسماً كان مثلا لسائر الأجسام فكانت الحركة جائزة عليه .
   والثالث : أن القائلين بكونه جسماً مؤلفاً من الأجزاء والأبعاض لا يمتنعون من تجويز الحركة عليه ، فإنهم يصفونه تعالى بالذهاب والمجيء ، فتارة يقولون أنه جالس على العرش وقدماه على الكرسي وهذا هو السكون ، وتارة يقولون إنه ينزل إلى السماء وهذا هو الحركة .
  فهذا جملة الدلائل الدالة على أنه تعالى ليس بجسم ، والله أعلم ) .

الوهابية والتوحيد _ 185 _


بحث للجرجاني في نفي الجهة

  * قال في شرح المواقف : 8/19 : ( المقصد الأول : أنه تعالى ليس في جهة من الجهات ولا في مكان من الأمكنة . وخالف فيه المشبهة وخصصوه بجهة الفوق اتفاقاً ، ثم اختلفوا فيما بينهم ، فذهب أبو عبد الله محمد بن كرام إلى أن كونه في الجهة ككون الأجسام فيها وهو أن يكون بحيث يشار إليه أنه ها هنا أو هناك ، قال : وهو مماس للصفحة العليا من العرش، ويجوز عليه الحركة والإنتقال وتبدل الجهات ، وعليه اليهود حتى قالوا العرش يئط من تحته أطيط الرحل الجديد تحت الراكب الثقيل ، وقالوا إنه يفضل على العرش من كل جهة أربعة أصابع ، وزاد بعض المشبهة كمضر وكهمس وأحمد الهجيمي أن المخلصين من المؤمنين يعانقونه في الدنيا والآخرة !
  ومنهم من قال هو محاذ للعرش غير مماس له ، فقيل بعده عنه بمسافة متناهية ، وقيل بمسافة غير متناهية ، ومنهم من قال ليس كونه في الجهة ككون الأجسام في الجهة ، والمنازعة مع هذا القائل راجعة إلى اللفظ دون المعنى ، والإطلاق اللفظي متوقف على ورود الشرع به .

الوهابية والتوحيد _ 186 _

  لنا في إثبات هذا المطلوب وجوه :
  الأول : لو كان الرب تعالى في مكان أو جهة لزم قدم المكان أو الجهة ، وقد برهنا أن لا قديم سوى الله تعالى ، وعليه الاتفاق من المتخاصمين .
  الثاني : المتمكن محتاج إلى مكانه بحيث يستحيل وجوده بدونه ، والمكان مستغن عن المتمكن لجواز الخلاء ، فيلزم إمكان الواجب ووجوب المكان ، وكلاهما باطل .
  الثالث : لو كان في مكان ، فإما أن يكون في بعض الأحياز أو في جميعها وكلاهما باطل .
  أما الأول فلتساوي الأحياز في أنفسها ، لأن المكان عند المتكلمين هو الخلاء المتشابه ، وتتساوى نسبته أي نسبة ذات الواجب إليها ، وحينئذ فيكون اختصاصه ببعضها دون بعض آخر منها ترجيحاً بلا مرجح ، إن لم يكن هناك مخصص من خارج ، أو يلزم الإحتياج أي احتياج الواجب في تحيزه الذي لا تنفك ذاته عنه إلى الغير إن كان هناك مخصص خارجي .
  وأما الثاني وهو أن يكون في جميع الأحياز فلأنه يلزم تداخل المتحيزين ، لأن بعض الأحياز مشغول بالأجسام وأنه أي تداخل المتحيزين مطلقاً محال بالضرورة .
  وأيضاً فيلزم على التقدير الثاني مخالطته لقاذورات العالم ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً .

الوهابية والتوحيد _ 187 _


  الرابع : لو كان متحيزاً لكان جوهراً لاستحالة كون الواجب تعالى عرضاً ، وإذا كان جوهراً فإما أن لا ينقسم أصلاً أو ينقسم ، وكلاهما باطل .
  أما الأول فلأنه يكون جزء لا يتجزأ وهو أحقر الأشياء ، تعالى الله عن ذلك .
  وأما الثاني فلأنه يكون جسماً وكل جسم مركب ، وقد مر أنه أي التركيب الخارجي ينافي الوجوب الذاتي .
  وأيضاً فقد بينا أن كل جسم محدث فيلزم حدوث الواجب ، وربما يقال في إبطال الثاني : لو كان الواجب جسماً لقام بكل جزء منه علم وقدرة وحياة مغايرة لما قام بالجزء الآخر ، ضرورة امتناع قيام العرض الواحد بمحلين ، فيكون كل واحد من أجزائه مستقلاً بكل واحد من صفات الكمال ، فيلزم تعدد الآلهة .
  وهذا المستدل يلتزم أن الإنسان الواحد علماء قادرون أحياء كيلا ينقض دليله بالإنسان الواحد لجريانه فيه ، وهذا الإستدلال ضعيف جداً لجواز قيام الصفة الواحدة بالمجموع من حيث هو مجموع فلا يلزم ماذكر من المحذور.
  وربما يقال في نفي المكان عنه تعالى : لو كان متحيزاً لكان مساوياً لسائر المتحيزات في الماهية ، فيلزم حينئذ إما قدم الأجسام أو حدوثه ، لأن المتماثلات تتوافق في الأحكام ، وهو أي هذا الإستدلال بناء على تماثل الأجسام بل على تماثل المتحيزات بالذات .

الوهابية والتوحيد _ 188 _


  وربما يقال : لو كان متحيزاً لساوى الأجسام في التحيز ولا بد من أن يخالفها بغيره فيلزم التركيب في ذاته ، وقد علمت في صدر الكتاب ما فيه ، وهو أن الإشتراك والتساوي في العوارض لا يستلزم التركيب ...
  المقصد الثاني : في أنه تعالى ليس بجسم وهو مذهب أهل الحق ، وذهب بعض الجهال إلى أنه جسم ثم اختلفوا ، فالكرامية أي بعضهم قالوا هو جسم أي موجود ، وقوم آخرون منهم قالوا هو جسم أي قائم بنفسه ، فلا نزاع معهم على التفسيرين إلا في التسمية أي إطلاق لفظ الجسم عليه ، ومأخذها التوقيف ولا توقيف ها هنا ، والمجسمة قالوا هو جسم حقيقة فقيل مركب من لحم ودم كمقاتل بن سليمان وغيره ، وقيل هو نور يتلألأ كالسبيكة البيضاء ، وطوله سبعة أشبار من شبر نفسه ، ومنهم أي من المجسمة من يبالغ ويقول إنه على صورة إنسان ، فقيل شاب أمرد جعد قطط أي شديد الجعودة ، وقيل هو شيخ أشمط الرأس واللحية ، تعالى الله عن قول المبطلين .

الوهابية والتوحيد _ 189 _


  والمعتمد في بطلانه أنه لو كان جسماً لكان متحيزاً واللازم قد أبطلناه في المقصد الأول .
  وأيضاً يلزم تركبه وحدوثه ، لأن كل جسم كذلك ، وأيضاً فإن كان جسماً لاتصف بصفات الأجسام ، أما كلها فيجتمع الضدان ، أو بعضها فيلزم الترجيح بلا مرجح إذا لم يكن هنالك مرجح من خارج ، وذلك الإستواء نسبة ذاته تعالى إلى تلك الصفات كلها ، أو الاحتياج أي احتياج ذاته في الاتصاف بذلك البعض إلى غيره .
  وأيضاً فيكون متناهياً على تقدير كونه جسماً فيتخصص لا محالة بمقدار معين وشكل مخصوص ، واختصاصه بهما دون سائر الأجسام يكون بمخصص خارج عن ذاته ، لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح ، ويلزم حينئذ الحاجة إلى الغير في الإتصاف بذلك الشكل والمقدار ... إلخ ) .