وثانيا : إن شرط التعارض هو الحجية في طرفي التعارض كليهما ، وحجية الخطبة ثابتة دون أخبارهم المشار إليها ، كما لا يخفى على من نظر في أسانيدها .
وثالثا : إن عمدة أخبارهم في ثناء الإمام عليه السلام على القوم هو الخبر الذي أورده عن كتابي البخاري ومسلم المعروفين بالصحيحين. لكنك إذا لاحظت سنده ـ بغضّ النظر عن البخاري ومسلم ، المجروحَين لدى كبار أئمة القوم من السابقين واللاحقين ـ رأيته ينتهي في جميع طرقه إلى « ابن أبي مليكة » :
وهو رجل لا يجوز الاعتماد على روايته مطلقا ، لا سيما في مثل هذه الأمور ! لأنه تيميّ من عشيرة أبي بكر ، ولأنه كان من مناوئي أمير المؤمنين عليه السلام ، ولأنه كان قاضي عبد الله بن الزبير في مكة ! ولأنه كان مؤذن عبد الله بن الزبير !
وله قوادح غير ماذكر ، فراجع ترجمته (1).
على أنّا نكذب كل خبر جاء فيه أسماء الخلفاء الأربعة على ترتيب الخلافة ، وقد حققت ذلك في رسالة مفردة (2) .
شبهات حول نهج البلاغة :
5 ـ وبقيت شبهات ذكرها المعترض ، وهي : إن في نهج البلاغة :
أ ـ التعريض بالصحابة .
ب ـ التنميق اللفظي.
ج ـ دقة الوصف .
---------------------------
(1) تهذيب التهذيب 5 | 268.
(2) تراثنا ، العدد 28 ، ص 15 ـ 56 ، رجب ـ رمضان 1412 هـ.
د ـ عبارات يستشم منها ريح ادعاء صاحبها علم الغيب.
أقول :
لكن الشبهات أكثر من هذه الأربعة... ولعل المعترض ملتفت إلى سقوط البقية فلم يتعرض لها ، لكنها مذكورة في كلمات غيره .
وقد أوردها كلها مؤلف كتاب « مصادر نهج البلاغة وأسانيده » تحت عنوان : « شبهات حول النهج » وأجاب عنها بالتفصيل ، فراجعه .
6 ـ وأما أن « نهج البلاغة » هو للسيد شريف الرضي ، فهذا هو الثابت الواقع ، بالأدلة المتينة والشواهد القويمة ، وباعتراف السابقين واللاحقين من العلماء من مختلف فرق المسلمين .
وأول من شكك في المقام هو : قاضي القضاة ابن خلّكان ، صاحب « وفيات الأعيان » وتبعه بعض المتأخرين عنه كالذهبي والصفدي وأمثالهما .
قيل :
« وأما المتهم ـ عند المحدثين ـ بوضع النهج فهو أخوه علي .
قال في الميزان : علي بن الحسين العلوي الشريف المرتضى المتكلم الرافضي المعتزلي ، صاحب التصانيف ، حدث عن سهل الديباجي والمرزباني وغيرهما .
وولي نقابة العلوية، ومات سنة 436 عن 81 سنة ، وهو المتهم بوضع نهج البلاغة ، وله مشاركة قوية في العلوم ، ومن طالع كتابه نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، ففيه السب الصراح والحط على السيدين : أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما. وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة ، وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين ، جزم بأن الكتاب أكثره باطل ، رياض الجنة لمقبل الوداعي 162 ـ 163 » .
أقول :
أما مقبل الوادعي فلا أعرفه ، وما أدري لماذا نقل عبارة الميزان بواسطته .
و( الميزان ) هو : « ميزان الاعتدال في نقد الرجال » للحافظ الذهبي ، والعبارة موجودة فيه ج 3 | 124 ، لكن في « العبر » للحافظ الذهبي ، أثنى على الشريف المرتضى ، ولم يتعرض لكتاب نهج البلاغة ، فقال فيمن توفي سنة 436 هـ : « والشريف المرتضى نقيب الطالبيين وشيخ الشيعة ورئيسهم بالعراق ، أبو طالب : عليّ بن الحسين بن موسى الحسيني الموسوي ، وله 81 سنة ، وكان إماما في التشيعة والكلام والشعر والبلاغة ، كثير التصانيف متبحرا في فنون العلم .
أخذ عن الشيخ المفيد ، وروى الحديث عن سهل الديباجي الكذاب ، وولي النقابة بعده ابن أخيه عدنان ابن الشريف الرضي » (1).
وفي « سير أعلام النبلاء » للحافظ الذهبي أيضا ، ترجم له فقال : « هو جامع كتاب نهج البلاغة » ثم قال : « وقيل : بل جمع أخيه الشريف الرضي » فعلق عليه الناشرون له : « وهذا هو المشهور » (2).
وهذه الاضطرابات في التشكيكات تكشف عن أن الغاية منها ليس إلا تضعيف الكتاب بكل وسيلة ، وليس إلا لأنهم منزعجون من الخطبة الشقشقية ... ولذا تراه يقول في « الميزان » موضحا علة الجزم بكون الكتاب مكذوبا : « ففيه السب الصراح... » ويقول في « سير أعلام النبلاء » : « المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي رضي الله عنه ، ولا أسانيد لذلك ، وبعضها باطل ، وفيه حق ، ولكن فيه موضوعات حاشا الإمام من النطق بها ».
---------------------------
(1) العبر في خبر من غبر 2 | 272.
(2) سير أعلام النبلاء 17 | 589.
ولا يخفى الفرق بين العبارتين في الكتابين حول الكتاب ، وهذا دليل آخر على الاضطراب.
وعلى كل حال ، فقد حقق هذه القضية غير واحد من المحققين ، وجزموا بكون الكتاب للشريف الرضي محمد بن الحسين .
وقال الشيخ محمد عبده : « ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد لاشريف الرضي ـ رحمه الله ـ من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب ، كرم الله وجهه ، جمع متفرقه وسماه هذا الاسم : نهج البلاغة... » (1).
وقال الأستاذ محمد كرد عليّ ، في مقال نشرته مجلة المجمع العلمي السوري : « ونهج البلاغة الذي جمعه الشريف الرضي من كلامه ... » (62).
وقال الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد : « نهج البلاغة هو ما اختاره الشريف الرضي... » (2).
وإن شئت الوقوف على حقيقة كتاب « نهج البلاغة » ومصادره ، وما قيل فيه ، ونصوص العلماء والمحققين على أنه خطب وكتب وكلمات أمير المؤمنين عليه السلام ، وأنه ما تأليف الشريف الرضي ، فراجع كتاب « مصادر نهج البلاغة وأسانيده ».
قال السيد :
وقوله عليه السلام : « نحن شجرة النبوة ، ومحط الرسالة ، وختلف الملائكة ، ومعدن العلم ، وينابيع الحكم... ».
---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة ـ المقدمة.
(2) تراثنا ، العدد 34 ، ص 100 ـ 101 ، محرم ـ ربيع الأول 1414 هـ .
وأضاف في الهامش : « وقال ابن عباس : نحن أهل البيت ، شجرة النبوة ، ومختلف الملائكة ، وأهل البيت الرسالة ، وأهل بيت الرحمة ، ومعدن العلم » ( قال ) :
نقل هذه الكلمة عنه جماعة من أثبات السنة ، وهي موجودة في آخر باب خصوصياتهم صفحة 142 من الصواعق المحرقة لابن حجر » .
أقول :
وأخرج الحافظ أبو القاسم الطبراني بإسناده عن جابر بن عبد الله وعبد الله ابن عباس في خبر هبوط ملك الموت لقبض روح النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنه وقف بالباب فقال : « السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة... » (1).
وروى الحمّوئي عن طريق الحافظ أبي نعيم ، عن الحافظ الطبراني ، بإسناده عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « نحن أهل البيت مفاتيح الرحمة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومعدن العلم... » (2).
وقد ذكرنا من قبل : أن مضمون هذا الكلام حقيقة لا تحتاج إلى إثبات ، وهو بالإضافة إلى كونه مرويا عن ملك الموت مخاطبا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ، كما في رواية الطبراني وغيره ، وعن أمير المؤمنين عليه السلام ، كما في ( النهج ) مروي عن ابن عباس كما ذكر السيد في الهامش .
قيل :
« لم يبين لنا المؤلف من هم الأثبات الذين نقلوا هذه العبارة ؟ ومع أنه
---------------------------
(1) إحقاق الحق 9 | 401 عن « المعجم الكبير » للطبراني .
(2) فرائد السمطين 1 | 44.
نقلها عن الصواعق لكن أمانته دفعته إلى أن يتغاضى عن قول ابن حجر الهيتمي عندما نقلها فقال : وجاء عن ابن عباس بسند ضعيف أنه قال : نحن...
وقول ابن عباس ـ على فرض صحته ـ يدل على خلال ما تذهب إليه الرافضة من أن أهل البيت هم : عليّ وفاطمة وأبناؤهما فقط. لكن أهل اسنة عمدتهم في تحديد من هم أهل البيت على الكتاب والسنة الصحيحة ، لا على أقوال ضعيفة أو موضوعة ».
أقول :
يقول السيد : « نقل هذه الكلمة عنه جماعة من أثبات السنة » وهذا هو محل الاستدلال ، إذ المقصود ـ كما قلنا سابقا ـ رواية أثبات أهل السنة في كتبهم المعروفة ، لما يدل على ما تذهب عليه الشيعة ، فيكون المطلب متفقا عليه ، أما أن أولئك الأثبات يروون الأخبار الضعيفة والموضوعات مع علمهم بكونها كذلك فيكونون من الكاذبين (1) فما ذنب الشيعة ؟!
ومن رواته : ابن أثير ، حيث رواه بسند له يشتمل على بعض الحفاظ المشاهير ، قائلا : « أخبرنا أبو ياسر بن أبي حبة وغير واحد ـ إجازة ـ قالوا : أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن أحمد ، أخبرنا أبو الحسين ابن النقور ، أخبرنا المخلص ، حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد ، حدثنا يوسف بن محمد بن سابق ، حدثنا أبو مالك الجنبي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : نحن أهل البيت شجرة النبوة ، ومختلف الملائكة ، وأهل بيت الرسالة ، وأهل بيت الرحمة ، ومعدن العلم » (2).
وأما الاستدلال بخصوص « الصواعق المحرقة » فلأن هذا الكتاب إنما
---------------------------
(1) صحيح مسلم بن الحجاج 1 | 7.
(2) أُسد الغابة 3 | 193.
ألف للرد على الشيعة والصد عن انتشار التشيع ، يقول ابن حجر في خطبته :
« سئلت قديما في تأليف كتاب يبين حقّيّة خلافة الصديق وإمارة ابن الخطّاب ، فأجبت إلى ذلك مسارعة في خدمة هذا الجناب... ثم سئلت في إقرائه في رمضان سنة 950 بالمسجد الحرام ، لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكة المكرمة ، أشرف بلاد الإسلام ، فأجابت إلى ذلك ، رجاء لهداية بعض من زلّ به قدمه عن أوضح المسالك ».
وبما ذكرنا يظهر الوجه في عدم الاعتناء بتضعيفه .
على أنه إذا كان ابن حجر ممن يعتمد على آرائه ، كان تصحيحه أيضا معتبرا ، لكن هذا القائل لا يعتني به متى صحح حديثا من أحاديث الفضائل ويقول بأن ابن حجر ليس من علماء الحديث ، والحال أنه من كبار أئمة الفقه والحديث .
بل السبب في توهين ابن حجر ، هو كونه ممن أفتى بصراحة بضلالة ابن تيمية الذي هو شيخ إسلام نواصب هذا العصر...!!
وأما أن « أهل البيت » في « آية التطهير » و« أحاديث الثقلين » ونحوها هم « علي وفاطمة والحسنان » فسيأتي توضيحه على أساس الكتاب والسنة الصحيحة ، فانتظر .
قال السيد :
« وقوله عليه السلام : نحن النجباء ، وأفراطنا أفراط الأنبياء ، وحزبنا حزب الله عزوجل ، والفئة الباغية حزب الشيطان ، ومن سوّى بيننا وبين عدونا فليس منا » .
قال في الهامش : « نقل هذه الكلمة عنه جماعة كثيرون ، أحدهم ابن حجر ، في آخر باب خصوصياتهم من آخر الصواعق ، صفحة 142 وقد أرجف فأجحف » .
أقول :
جاء هذا في كتاب « فضائل الصحابة » وهذا نصه :
« فيما كتب إلينا محمد بن عبيدالله بن سليمان يذكر أن موسى بن زياد حدثهم ، قال : ثنا يحيى بن يعلى ، عن بسام الصيرفي ، عن الحسن بن عمر الفقيمي. عن رشيد بن أبي راشد ، عن حبة ـ وهو العرني ـ ، عن علي ، قال :
نحن النجباء ، وأفراطنا أفراط الأنبياء ، وحزبنا حزب الله ، حزب الفئة الباغية حزب الشيطان ، ومن سوّى بيننا وبين عدونا فليس منا » (1).
وأخرجه الحافظ ابن عساكر بترجمة أمير المؤمنين عليه السلام ، قال :
« أخبرنا أبو القاسم السمرقندي ، أنبأنا أبو الحسين ابن النقور ، أنبأنا أبو طاهر المخلّص ، أنبأنا أحمد بن عبد الله بن يوسف ، أنبأنا عمر بن شبة ، أنبأنا أبو أحمد الزبيري ، أنبأنا الحسن بن صالح ، عن الحسن بن عمر ، عن رشيد ، عن حبة ، قال :
سمعت عليّا يقول : نحن النجباء ، وأفراطنا أفراط الأنبياء ، وحزبنا حزب الله ، والفئة الباغية حزب الشيطان ، ومن سوّى بيننا وبين عدونا فليس منا » (2).
وأخرجه الحافظ السخاوي في « استجلاب ارتقاء الغرف ».
وابن حجر المكي في « الصواعق المحرقة » في باب « خصوصياتهم الدالة على أعظم كراماتهم » .
هذا ، ولا يخفى اعتبار سند هذا الحديث ، وصحة الاحتجاج به ، لأن رواته أئمة في الحديث ، وفطاحل ثقات ، لا يظن بهم أن يعتمدوا رواية خبر مكذوب وهم يعلمون !
---------------------------
(1) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل. طبعة جامعة أم القرى بمكة ، الحديث 1160.
(2) تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة امير المؤمنين عليه السلام ـ الحديث 1189.
أنظر إلى سنده في « تاريخ دمشق » (1) :
فابن عساكر حافظ ثقة جليل ، غني عن التعريف.
وأبو القاسم السمرقندي ، قال الذهبي : « الشيخ الإمام المحدث ، المفيد المسند ، أبو القاسم إسماعيل بن أحمد... » ثم نقل ثقته عن غير واحد ، وأرّخ وفاته بسنة 536 هـ (2).
وأبو الحسين ابن النقور ، قال الذهبي : « الشيخ الجليل الصدوق ، مسند العراق ، أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد... » ثم نقل ثقته عن جماعة ، وأرخ وفاته بسنة 407 هـ (3).
وأبو طاهر المخلّص ، قال الذهبي : « الشيخ المحدث المعمر الصدوق ، أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن... » ثم نقل ثقته عن جماعة ، وأرخ وفاته بسنة 393 هـ (4).
وأحمد بن عبد الله بن سيف السجستاني ، ترجم له الذهبي في تاريخ الإسلام ، حوادث سنة 316 هـ ، والخطيب في تاريخه 4 | 225 ، والأسنوي في طبقات الشافعية 2 | 23 ، وابن قاضي شهبة 1 | 89 ، وقد أثنى عليه جميعهم .
وعمر بن شبة ، قال الذهبي : « عمر بن شبة بن عبدة بن زيد بن رائطة العلامة الأخباري ، الحافظ الحجة ، صاحب التصانيف... » ونقل ثقته عن جماعة ، وأرخ وفاته بسنة 262 هـ ، عن 89 سنة إلا أياما (5).
وابو أحمد الزبيري ، محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم ، الحافظ الكبير المجود... » ثم نقل ثقته
والثناء عليه ، وأرخ وفاته بسنة 203 هـ (1).
والحسن بن صالح ، قال الذهبي : « الإمام الكبير ، أحد الأعلام ، أبو عبد الله الهمداني الثوري الكوفي ، الفقيه العابد... » ثم أطنب في ترجمته ، ونقل الكلمات في حقه ، وأرخ وفاته بسنة 169 (2)، وقال ابن حجر : « ثقة ، فقيه عابد ، رمي بالتشيع » (3).
والحسن بن عمر الفقيمي ، قال ابن حجر : « ثقة ثبت ، من السادسة ، مات سنة 142 » وجعل عليه علامة رواية : البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجة ، عنه (4).
ورشيد ، وهو الهجري ، من أصحاب أمير المؤمنين علي عليه السلام يكفي لوثاقته رواية هؤلاء الأئمة لهذا الحديث عنه ، إلا أنهم نقموا عليه تشيعه للإمام عليه السلام ، وروايته لفضائله ومناقبه كما لا يخفى على من نظر في ترجمته في « لسان الميزان » وغيره ، فهم لا ينفون وثاقته ولا يرمونه بالكذب ، إلا أنهم يقولون ـ كما في « الأنساب » ـ : « كان يؤمن بالرجعة » وينقلون عن يحيى ابن معين ـ مثلا ـ أنه قال في جواب من سأله عنه : « ليس برشيد ولا أبوه » .
وحبة العرني ، قال ابن حجر : « صدوق ، له أغلاط ، وكان غليا في التشيع ، من الثانية ، وأخطأ من زعم أن له صحبة » (5).
أقول :
وقد قصدنا ببيان اعتبار سند هذا الحديث الشريف ـ على أساس كتب القوم ـ امورا :
الأول : إن هذا الحديث معتبر سندا على ضوء كتبهم وآراء علمائهم ، وحينئذ يكون هذا الكلام القول الفصل ، وإن على الذي يدعون التمسك بالسنة
الكريمة ، والسير على هدي الإسلام ، والاتّباع للأحاديث الصحيحة... الالتزام بهذا الحديث وبلوازمه ...
والثاني : إن السيد ـ رحمه الله ـ يذكر بعض المصادر ويشير إلى سائرها بقوله : « رواه جماعة » اختصارا ، فلو كان أراد التفصيل لأورد أسماء رواته ودلل على اعتبار سنده وصحة الاحتجاج به ، لكن الشيخ البشري ـ وهو المخاطب له أولا وبالذات ـ مطلع على ما يقوله السيد ، فتكفي الإشارة.
والثالث : إن الحق مع السيد في قوله عن ابن حجر المكي : « وقد أرجف فأجحف » لأنه قال : « وجاء عن ابن عباس بسند ضعيف ... » إذ قد عرفت اعتبار السند وصحة الاحتجاج لنا به .
قيل :
« قوله : ( ونقل هذه الكلمة عنه جماعة كثيرون ، أحدهم ابن حجر... » لا يغني عنه شيئا ، فهل يتحول الكذب إلى صدق إذا كثر ناقلوه ؟ ».
أقول :
هذا كلام باطل ، لأن الكذب لا يتحول إلى صدق إذا كثر ناقلوه ، لكن هذا الحديث حق وصدق لا « كذب » ، على أنه لو كان كذبا لم يخل حال ناقليه عن أحد حالين :
أما أن يكونوا جاهلين بكونه كذبا ... وهذا لا يلتزم به هذا القائل ولا غيره ، وكيف يلتزم بجهله نقله هذا الحديث بحاله ، وهم أئمة الحديث المرجوع إليهم في روايته ومعرفته ؟! إذ فيهم :
محمد بن سليمان المطين.
وعبد الله بن أحمد بن حنبل .
والحسن بن عمر الفقيمي .
والحسن بن صالح بن حي .
وأبو أحمد الزبيري الحبال.
وعمر بن شبة .
وأبو طاهر المخلص.
وابن السمرقندي.
وابن عساكر .
والسخاوي...
وإما أن يكونوا عالمين بكونه كذبا.. وهذا أيضا لا يلتزم به القائل ولا غيره ، لأن معناه أن يتعم هؤلاء الأئمة الثقات الفطاحل نقل حديث كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيسقطون عن العدالة والوثاقة ، ويعدون في جملة من تعمد الكذب عليه ، ومن كذب عليى الرسول الأمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين !
قال السيد :
« وخطب الإمام المجتبى أبو محمد الحسن السبط سيد شباب أهل الجنة فقال : إتقوا الله فينا فإنا أمراؤكم ».
قال في الهامش : « فراجعها في أواخر باب وصية النبي بهم ، من الواعق المحرقة لابن حجر ، صفحة 137 ».
قيل :
« راجعناها في الصواعق 229 ، فوجدنا المؤلف الموسوي قد سلخها من كلام الحسن لأمر ما .
يقول ابن حجر : وقد صرح الحسن رضي الله عنه بذلك ، فإنه حين استخلف وثب عليه رجل من بني أسد فطعنه وهو ساجد بخنجر لم يبلغ منه مبلغا ، ولذا عاش بعده عشر سنين فقال : يا أهل العراق ، اتقوا الله فينا ، فإنا أمراؤكم وضيفانكم ، ونحن أهل البيت الذين قال الله عز وجل فيهم : ( إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ، قالوا : ولأنتم هم ؟ قال : نعم.
ويكفي هذا الكلام ضعفا أن رواه الثعلبي في تفسيره كما صرح بذلك في الصواعق ».
أقول :
أولا : يكفي وروده في كتب أهل السنة ، إذ يكون بذلك مورد اتفاق المسلمين ، ولا ريب في وجوب الأخذ بكل أمر حق وقع الاتفاق عليه .
وثانيا : هذا الكلام رواه الحافظ الطبراني ، ونص الحافظ نور الدين الهيثمي ـ في كتابه الذي اعتمد عليه المعترض في مواضع ! ـ على أن « رجاله ثقات ».
وهذا نص الرواية في باب فضل أهل البيت رضي الله عنهم : « وعن أبي جميلة : إن الحسن بن علي حين قتل علي استخلف ، فبينا هو يصلي بالناس إذ وثب إليه رجل فطعنه بخنجر في وركه ، فتمرض منه أشهرا ، ثم قام فخطب علىالمنبر فقال : يا أهل العراق ، اتقوا الله فينا فإنا أمراؤكم وضيفانكم ، ونحن أهل البيت الذين قال الله عز وجل : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ).
فما زال يومئذ يتكلم حتى ما ترى في المسجد إلا باكيا .
رواه الطبراني ، ورجاله ثقات » (1).
وفيه فوائد :
1 ـ قوله عليه السلام : « إتقوا الله فينا » ، ثم علل أمره بتقوى الله فيهم بقوله : « فإنا أمراؤكم ».
2 ـ قوله عليه السلام : « ونحن أهل البيت الذين... » يفيد بكل وضوح
---------------------------
(1) مجمع الزوائد 9 | 172.
حصر الآية الكريمة فيه وفي والديه وأخيه.
3 ـ ليس في هذه الرواية الصحيحة ـ باعتراف الحافظ الهيثمي ـ جملة : « لأنتم هم ؟ قال : نعم » ، وعدمها في هذه الرواية الصحيحة دليل على أمور :
والثاني : إن بعض النواصب لما رأوا دلالة هذا الحديث على ما ذكرنا زادوا فيه تلك الجملة ، لتفيد جهل المسلمين أو شكهم فيما قاله الإمام عليه السلام واستدل به .
والثالث : إن ابن حجر المكي اختار اللفظ المشتمل على الجملة ، وما أشار غلى رواية الطبراني ! وما ذلك إلا لكونه بصدد الطعن في فضائل أهل البيت والرد على شيعتهم ... اللهم إلا أن يكون مضطرا إلى الإقرار بصحة حديث منها .
وثالثا : قوله : « يكفي هذا الكلام ضعفا أن رواه الثعلبي في تفسيره كما صرح بذلك في الصواعق » مردود بوجوه :
1 ـ قد ظهر أن الكلام صحيح لا ضعيف .
2 ـ قد ظهر أن روايته غير منحصرة بالثعلبي في تفسيره .
3 ـ إن رواية الثعلبي لفضيلة من فضائل أهل البيت عليهم السلام كافية لشيعتهم في مقام الاستدلال ، وذلك :
أ ـ لأن مجرد وجودها في كتب القوم كاف .
ب ـ لأن الرواية إذا صح سندها يجب الأخذ بها في أي كتاب من كتبهم كانت ، وهذا ما نص عليه المعترض.
ج ـ ولأن الثعلبي موصوف عندهم بصفات جليلة ، وتفسيره « الكشف البيان » من التفاسير المعتمدة عندهم ، كما لا يخفى على من راجع ترجمته في المصادر التالية :
وفيات الأعيان 1 | 61 ، والوافي بالوفيات 7 | 307 ، العبر 3 | 161 ، مرآة الجنان 3 | 46 ، تتمة المختصر 1 | 477 ، بغية الوعاة : 154 ، طبقات المفسرين 1 | 65 ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ 4 | 58 ، طبقات الشافعية ـ للأسنوي ـ 1 | 429 ، وغيرها.
قال السبكي : « وكان أوحد زمانه في علم القرآن... »
وقال الأسنوي : « ذكره ابن الصلاح والنووي من الفقهاء الشافعية ، وكان إماما في اللغة والنحو ... ».
وقال الداودي : « كان أوحد أهل زمانه في علم القرآن ، حافظا للغة ، بارعا في العربية ، واعظا ، موثقا ».
لكن الثعلبي لما أكثر من نقل روايات فضائل العترة وأخبار نزول الآيات فيهم ... رماه ابن تيمية وأتباعه بالتساهل في النقل ، وحاولوا إسقاط رواياته المسندة عن الاعتبار.
بقي : قوله : « قد سلخها من كلام الحسن لأمر ما ».
ولا يخفى : أنه كلام جاهل أو متجاهل ، إذ المهم هو الاستشهاد بكلام الإمام عليه السلام الثابت بالسند الصحيح ... أما أنه في أي مناسبة قاله ؟ وما كان المورد له ؟ فهذا لا علاقة له بالبحث ، ولا يخخ مدلول الكلام أبتة.
قال السيد :
« وكان الإمام أبو محمد علي بن الحسين زين العابدين وسيد الساجدين إذا تلا قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ) يدعو الله عز وجل دعاء طويلا ... » .
قال الهامش : « فراجعه في صفحة 90 من الصواعق المحرقة لابن حجر ، في تفسير الآية الخامسة : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا ) من الآيات التي أوردها في الفصل الأول من الباب 11 » .
أقول :
لم يتقول المعترض بشيء حول هذا الكلام المنقول عن الإمام زين العابدين عليه السلام .
وفي هذه الرواية فوائد :
1 ـ إشارة إلى نزول قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) فيهم عليهم السلام .
2 ـ إشارة إلى نزول قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) فيهم عليهم السلام .
3 ـ إشارة إلى نزول قوله تعالى : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) فيهم عليهم السلام .
4 ـ إشارة إلى قوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ... ».
5 ـ تصريح بانحصار « الموثوق به على إبلاغ الحجة وتأويل الحكم » فيهم .
6 ـ تصريح بانهم « الذين احتج الله بهم على عباده ولم يدع الخلق سدى من غير حجة » .
وسكوت الرجل عن هذه الرواية ـ وهو في مقام الرد ـ دليل على إقراره بصحة سندها ، ولا مناص له من قبولها والالتزام بمضامينها .
ولا يخفى أن ذكر ابن حجر المكي هذه الرواية بتفسير قوله تعالى (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا ) شاهد على أن المراد من « حبل الله » فيها هم الأئمة من العترة النبوية ، وهو مروي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام ، وبه قال بعض المفسرين (1).
---------------------------
(1) منهم : الثعلبي الذي أشرنا إلى ترجمته قريبا ، نقل ذلك عنه جماعة منهم ابن حجر في « الصواعق ».
قال السيد رحمه الله :
« حيث قلنا إنه صلى الله عليه وآله وسلم قرنهم بمحكم الكتاب ، وجعلهم قدوة لأولي الألباب ، وسفن النجاة ، وأمان الأمة ، وباب حطة : إشارة إلى المأثور من هذه المضامين من السنن الصحيحة والنصوص الصريحة... »
قيل :
« نحن مع تسليمنا بصحة بعض الأخبار الواردة في مناقب عليّ ـ رضي الله عنه ـ وفي بينه ، لكننا لا نقر أن هذه الأخبار فيها حصر وجوب الاتباع لهم. ولذلك فإن تضييق مدلولات هذه الأخبار وقصرها على فئة من الصحابة دون فئة مما يأباه منطوق هذه النصوص ، فضلا عن أن صريح الكتاب والسنة وعمل الصحابة على غير ذلك. ومعلوم أن كثيرا من احتجاجات الرافضة لا تخلو من أحد خطأين : إما خطأ في الدليل ، وإما خطأ من المدلول ، وقد يجتمع فيها الخطآن معا. أما خطؤهم في الدليل فمن مثل احتجاجهم على أهل السنة بأحاديث ضعيفة وهالكة ، من أجل إقامة الحجة عليهم ، وأما خطؤهم في المدلول فكاحتجاجهم بآيات قرآنية وأحاديث صحيحة ليس فيها دليل على ما يثيرونه من قضايا ، وقد يحتجون بأحاديث ضعيفة أو موضوعة على قضايا غير صحيحة »
أقول :
هذا كلامه ! ثم استشهد بكلام لشيخ إسلامه ابن تيمية يفيد نفس الذي
قاله ، فلم يأت بشيء جديد .
ومن المراد بكلمة « نحن » في أول الكلام ؟!
إن كان المراد : علماء أهل السنة المحققين الشارحين للأحاديث النبوية ، والمبينين لما تدل عليه السنة المحمدية ، والذين عليهم الاعتماد وإليهم الاستناد في هذا الباب فسننقل أقاريرهم في دلالة تلك الأخبار المعتبرة على حصر وجوب الاتباع بأمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم السلام .
وإن كان المراد ـ من « نحن » ـ : هو المتكلم نفسه ... فقد وجدنا سكوته في قبال بعض الأدلة ـ ومنها الرواية المتقدمة قريبا عن الإمام السجاد عليه السلام ـ وسكوته في هكذا مواضع إقرار .
على أنه إذا لم يقر في موضع فهو محجوج بإقرار أئمة مذهبه ، ولا أظن أن يدعي هذا الرجل كونه أعلم وأفهم للأخبار من كبار علماء طائفته !
قال السيد :
3 ـ « وإليك بيان ما أشرنا إليه من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ أهاب في الجاهلين ، وصرخ في الغافلين ، فنادى :
* يا أيها الناس ، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي » .
قال في الهامش : « أخرجه الترمذي والنسائي عن جابر ، ونقله عنهما المتقي الهندي في أول باب الاعتصام بالكتاب والسنة من كنز العمال ، ص 44 من جزئه الأول » .
* « وقال صلى الله عليه وآله وسلم :
إني تركت فيكم ما إن تمسكتنم به لن تضلوا بعدي : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » .
قال في الهامش : « أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم ، وهو الحديث 874 من أحاديث كنز العمال ، في ص44 من جزئه الأول » .
* « وقال صلى الله عليه وآله وسلم :
إني تارك فيكم خليفتين : كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ـ أو : ما بين السماء إلى الأرض ـ وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ».
قال في الهامش : « أخرجه الإمام أحمد من حديث زيد بن ثابت ، بطريقين صحيحين ، أحدهما في أول صفحة 182 ، والثاني في آخر صفحة 189 من الجزء الخامس. أيضا : ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن سعد عن ابي سعيد. وهو الحديث 945 من أحاديث الكنز ، في ص47 من جزئه الأول ».
* ـ « وقال صلى الله عليه وآهل وسلم :
إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وأهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ».
قال في الهامش : « أخرج الحاكم في ص148 من الجزء الثالث من المستدرك ، ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرجه الذهبي في تلخيص المستدرك معترفا بصحته على شرط الشيخين » .
* « وقال صلى الله عليه وآله وسلم :
إني أوشك أن أدعى فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله عز وجل ، وعترتي ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » .
قال في الهامش : « أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري
من طريقين ، أحدهما في آخر ص 17 والثاني في آخر ص 26 من الجزء الثالث من مسنده ، وأخرجه أيضا : ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن سعد. وهو الحديث 945 من أحاديث الكنز في ص47 من جزئه الأول » .
« ولما رجع صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم ، أمر بدوحات فقممن ، فقال :
كأني دعيت فأجبت ، وإني قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله تعالى ، وعترتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.
ثم قال : إن الله عز وجل مولاي وأنا مولى كل مؤمن .
ثم أخذ بيد عليّ فقال : من كنت مولاه فهذا وليه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ». الحديث بطوله .
قال في الهامش : « أخرجه الحاكم عن زيد بن أرقم مرفوعا في صفحة 109 من الجزء الثالث من المستدرك ، ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله. وأخرجه عن طريق آخر عن زيد بن أرقم في ص 533 من الجزء الثالث من المستدرك ، ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
قلت : وأورده الذهبي في تلخيصه معترفا بصحته » .
« وعن عبد الله بن حنطب ، قال : خطب رسول الله بالجحفة فقال :
ألست أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : فإني سائلكم عن اثنين : القرآن وعترتي » .
قال في الهامش : « أخرجه الطبراني كما في الأربعين للنبهاني ، وفي إحياء الميت للسيوطي .
وأنت تعلم بأن خطبته صلّى الله عليه وآله وسلّم يومئذ لم تكن مقصورة على هذه الكلمة ، فإنه لا يقال عمن اقتصر عليها : إنه خطبنا ، لكن السياسة
كم اعتقلت ألسن المحدثين ، وحبست أقلام الكاتبين ! ومع ذلك فإن هذه القطرة من ذلك البحر ، والشذرة من ذلك البذر كافية وافية ، والحمد لله » .
أقول :
أولا : إن طرق وألفاظ حديث الثقلين كثيرة ومختلفة ، مما يشهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال هذا الكلام في مناسبات ومواضع متعددة. وذلك لأنه كان ينتهز كل فرصة للوصية بثقليه والأمر باتباعهما والأخذ منهما ، ويؤيد ذلك كلام ابن حجر المكي الذي أورده السيد.
وثانيا : إن الذين نقل عنهم السيد حديث الثقلين هم أعظم وأكبر حفاظ وأئمة أهل السنة في الحديث ، بحيث لو يكون الحديث ـ الذي اتفق على إخراجه هؤلاء ـ كذبا ، لم تجد عندهم حديثا صحيحا أبدا !
إن الذين نقل عنهم حديث الثقلين هم :
1 ـ أبوبكر ابن أبي شيبة ، وهو شيخ البخاري.
2 ـ أحمد بن حنبل ، وهو أحد الأئمة الأربعة ، وكتاب « المسند » من أوثق كتبهم الحديثية.
3 ـ محمد بن سعد ، صاحب كتاب « الطبقات الكبير » وأحد أئمة الحديث ورجال الجرح والتعديل .
4 ـ محمد بن عيسى الترمذي ، صاحب « الجامع الصحيح » أحد الصحاح الستة عندهم .
5 ـ أحمد بن شعيب النسائي ، صاحب « السنن » أحد الصحاح الستة عندهم .
6 ـ ابو يعلى الموصلي ، صاحب « المسند » وهو من أعاظم حفاظهم .
7 ـ الحاكم النيسابوري ، صاحب « المستدرك » إمام المحدثين عندهم .
8 ـ شمس الدين الذهبي ، صاحب « تلخيص المستدرك » وغيره من
الكتب الكثيرة والمصنفات الشهيرة ، في الحديث والرجال والسير ، والمعتمد عند المتأخرين ، في هذه الفنون ، وهو الذي طالما استند إليه أتباع ابن تيمية في المكابرة مع الشيعة .
وثالثا : إن رواة هذا الحديث من نظراء أولئك الأئمة فمن دونهم أكثر وأكثر ، بحيث لو أردنا ذكر أسماء من وقفنا على روايتهم له لضاق بنا المجال ، وقد ألفت لجمع طرقه وألفاظه كتب مفردة من علماء الشيعة والسنة ، ومن أشهر علماء القوم المؤلفين فيه : الحافظ محمد بن طاهر المقدسي ـ المتوفى سنة 507 هـ ـ صاحب كتاب « الجمع بين رجال الصحيحين » .
ورابعاً : إن الذين نصوا على صحة حديث الثقلين من القدماء والمتأخرين ، أو أخرجوه في كتبهم التي التزموا فيها بالصحة من مشاهير أهل اسنة كثيرون كذلك ، ونحن نكتفي بذكر بعضهم :
1 ـ إمام الأئمة ابن خزيمة ، صاحب « الصحيح » .
2 ـ الإمام الحافظ أبو عوانة الاسفرائني ، صاحب « الصحيح » .
3 ـ الحافظ المحاملي ، صاحب « الأمالي » .
4 ـ الحافظ البغوي الملقب بـ « محيي السنة » ، صاحب « مصابيح السنة » .
5 ـ الحافظ ضياء الدين المقدسي في « المختارة » الملتزم فيها بالصحة .
6 ـ الحافظ سراج الدين الفرغاني في « نصاب الأخبار » الملتزم فيه بالصحة .
7 ـ الحافظ المزي ، صاحب « تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف ».
8 ـ الحافظ ابن كثير الدمشقي ، صاحب « التفسير » المعروف .
9 ـ الحافظ الهيثمي ، صاحب « مجمع الزوائد » .
10 ـ الحافظ السيوطي ، صاحب « الجامع الصغير » وغيره .
11 ـ الحافظ السخاوي ، صاحب « استجلاب ارتقاء الغرف ».
12 ـ الحافظ السمهودي ، صاحب « جواهر العقدين ».
وخامسا : إنه يكفي للاحتجاج سند واحد من أسانيد واحد من ألفاظه ، لكن هذا الحديث من الأحاديث المتواترة قطعا ، إذ رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من ثلاثين من صحابته ، ورواته من الأئمة والحفاظ والمحدثين عبر القرون كثيرون جدا (1) .
وسادسا : إن دلالة حديث الثقلين على ما تذهب إليه الشيعة ـ وهو حصر وجوب الاتباع في الأئمة من أهل البيت عليهم السلام ـ واضحة جدا على من له أدنى معرفة بألفاظ اللغة العربية وأساليبها ... لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قرنهم بمحكم الكتاب العزيز ، فكما يجب الأخذ والاتباع لما في الكتاب ولا يجوز تقديم غيره عليه ، كذلك الأئمة .
ولا بأس بإيراد نصوص عبارات بعض المحققين نم أهل السنة في الاعتراف بما قلناه :
قال الحكيم الترمذي : « حض على التمسك بهم ، لأن الأمر لهم معاينة ، فهم أبعد عن المحنة » (2).
وقال النووي : « قوله صلى الله علي [ وآله ] وسلم : وأنا تارك فيكم ثقلين ، فذكر كتاب الله وأهل بيته ، قال العلماء : سميا ثقلين لعظمهما وكبير شأنهما ، وقيل لثقل العمل بهما » (3).
وقال ابن الأثير : « وفيه (4) : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي ، سماهما ثقلين لأن الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل ، ويقال لكل شيء خطير
---------------------------
(1) انظر : الأجزاء الثلاثة الأولى من كتابنا الكبير « نفحات الأزهار ».
(2) نوادر الأصول. عنه شرح المواهب اللدنية 7 | 5.
(3) المنهاج في شرح صحيح مسلم 15 | 180.
(4) أي : في الحديث.
نفيس : ثقل ، فسماها ثقلين إعظاما لقدرهما وتفخيما لشأنهما » (1).
وقال القاري : « والمراد بالأخذ بهم : التمسك بمحبتهم ، ومحافظة حرمتهم ، والعمل بروايتهم ، والاعتماد على مقالتهم » (2).
وقال شهاب الدين الخفاجي : « أي : تمسكتم وعملتم واتبعتموه » (3).
وقال المناوي : « إني تارك فيكم بعد وفاتي خليفتين. زاد في رواية : أحدهما أكبر من الآخر، وفي رواية بدل خليفتين : ثقلين ، سماهما به لعظم شأنهما : كتاب الله القرآن ، حبل ، وقيل : السبب الموصل إلى رضاه ، وعترتي ـ بمثناة فوقية ـ : أهل بيتي ، تفصيل بعد إجمال ، بدلا أو بيانا ، وهم أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا » (4).
وبعد ، فلننظر إلى ما قيل في قبال الاستدلال بحديث الثقلين :
قيل :
تعليقا على الحديث الأول عن الترمذي والنسائي عن جابر :
« هذا الحديث تفرد به زيد بن الحسن الأنماطي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر ، والأنماطي قال فيه أبو حاتم : منكر الحديث.
واعلم أن المؤلف ـ لأمر يريده ـ تجاهل عمدا رواية مسلم التي فيها التصريح بأن أهل بيته ليسوا مقصورين على : عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، وإنما يدخل فيهم جميع آل علي ، وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس ، ثم إنه قد كرر سياق هذا الحديث الوارد في عدد من كتب الحديث ليوهم
---------------------------
(1) النهاية : مادة « ثقل ».
(2) المرقاة في شرح المشكاة 5 | 600.
(3) نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض 3 | 410.
(4) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 3 | 14.
القارئ أنها أحاديث متعددة ، لإثبات موضوع واحد ، مع أنه حديث واحد روي بروايات متعددة ، وأصح رواياته رواية مسلم التي لا تخدم وجهة نظرة فتجاهلها .
هذا ، ولكن حديث المؤاخاة قد رواه الترمذي وأحمد في مسنده عنا لنبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أنه قال : من كنت مولاه فعلي مولاه. وأما الزيادة وهي : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، فلا ريب أنه كذب » .
أقول :
هذا كلامه ، فنقول :
1 ـ كلمة : « التي فيها التصريح » هذا التصريح ليس من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ليكون حجة ، بل هو من « زيد بن أرقم » لكن الرجل أبهم لكي يوهم القارئ (1)
2 ـ كلمة : « الوارد في عدد من كتب الحديث » وحق الكلمة : « الوارد في أكثر كتب الحديث بما فيها الصحاح والمسانيد » .
3 ـ قوله : « لكن حديث المؤاخاة » تبع في تسمية حديث : « من كنت مولاه فهذا علي مولاه » بـ « حديث المؤاخاة » بعض أسلافه ، فقد وجدت في كلام الذهبي : « وعملت الرافضة عيد الغدير ، يعني يوم المؤاخاة... » (2) ولعلهم يريدون أن هذا الحديث لا يفيد إلا « المؤاخاة » !!
4 ـ جملة : « اللهم وال من والاه... » سيظهر أنها ليست بكذب ، وأن
---------------------------
(1) وأيضا : لكيلا يراجع القارئ نص الكلام في مصادره المعتمدة ، ففي ( صحيح مسلم ) وغيره أنه سئل : نساؤه من أهل بيته ؟ قال : « لا ، وأيم الله ، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها » فزوجات النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لسن من « أهل البيت » عند « زيد بن أرقم » !!
(2) سير أعلام النبلاء 15 | 129.
رميها بذلك هو الكذب.
5 ـ لم يكرر السيد سياق هذا الحديث ، وإنما تكرر صدوره عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أذعن بذلك جماعة ممن تقدم منهم وتأخر ، كصاحب « الصواعق » ابن حجر...
فالإشكال الذي يستحق النظ فيه ـ لكونه في الظاهر علميا ـ هو الإشكال السندي بالنسبة إلى الحديث الأول... فنقول :
أولا : يكفينا الأحاديث الأخرى التي سلم بصحتها .
وثانيا : إن الحديث الذي ناقش في سنده من أحاديث « الجامع الصحيح » للترمذي ، و« السنن » للنسائي ... وهذان الكتابان من الصحاج الستة عندهم .
وثالثا : إنه لم يناقش في سنده إلا من جهة ( زيد بن الحسن الأنماطي ) واستنادا إلى كلمة أبي حاتم ، لكن هذه المناقشة مردودة :
قال ابن حجر : « ت ـ الترمذي ، زيد بن الحسن القرشي أبو الحسن الكوفي ، صاحب الأنماط، روى عن : جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ومعروف بن خربوذ ، وعلي بن المبارك الهن ائي.
وعنه : إسحاق بن راهوية ، وسعيد بن سليمان الواسطي ، وعلي بن المديني ، ونصر بن عبد الرحمن الوشاء ، ونصر بن مزاحم .
قال أبو حاتم : كوفي قدم بغداد ، منكر الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات. روى له الترمذي حديثا واحدا في الحج » (1).
فقد ذكر ابن حج أسماء جماعة من الأئمة رووا عن زيد بن الحسن ، وأن ابن حبان ذكره في الثقات.
ويبقى قول أبي حاتم « منكر الحديث » وهو غير مسموع :
أما أولا : فلأنه لو كان منكر الحديث لما أخرج عنه هؤلاء كابن راهويه وابن المديني وسعيد بن سليمان والترمذي .
وأما ثانيا : فلأن « أبا حاتم » متعنت في الرجال ، ولا يبنى على تجريحه ، كما نص عليه الحافظ الذهبي بترجمته إذ قال :
« إذا وثق أبو حاتم رجلا فتمسك بقوله ، فإنه لا يوثق إلا رجلا صحيح الحديث ، وإذا لين رجلا أو قال فيه : لايحتج به ، فلا ، توقف حتى ترى ما قال غيره فيه ، وإن وثقه أحد فلا تبن على تجريح أبي حاتم ، فإنه متعنت في الرجال ، قد قال في طائفةٍ من رجال الصحاح : ليس بحجة ، ليس بقوي ، أو نحو ذلك » (1).
تنبيه :
قد توهم هذا الرجل أن حديث الثقلين في ( صحيح مسلم ) لا يدل على ما تذهب إليه الشيعة الإمامية من وجوب اتباع أهل البيت والتمسك بهم والأخذ عنهم ...
وقد سبقه في هذا التوهم غيره ، قال الدكتور عليّ أحمد السالوس : « فرق كبير بين التذكير بأهل البيت والتمسك بهم ، فالعطف على الصغير ، ورعاية اليتيم ، والأخذ بيد الجاهل ، غير الأخذ من العالم العابد العامل بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ».
وقد دفعنا هذا الوهم في ردنا على الدكتور المذكور ، وبينا عدم الفرق بين رواية مسلم ورواية أحمد والترمذي وغيرهما ، فالحديث هو الحديث ، والمدلول واحد ، والنتيجة واحدة ... فراجعه بالتفصيل (2).
---------------------------
(1) سير أعلام النبلاء 13 | 247.
(2) حديث الثقلين... تواتره ، فقهه كما في كتب السنة ـ ط 1413 هـ .
* قال السيد :
في هامش الحديث الأخير من أحاديث الثقلين التي استدل بها : « وأنت تعلم ... » وقد تقدمت عبارته.
فقيل :
« إن المؤلف لا يكفيه أن يبنى قصورا على أوهام ، ولا أن يستشهد بالباطل على ما يريد ، بل يذهب أبعد من ذلك ، فيتخرّص ـ رجما بالغيب ـ ويتهم نقلة الأحاديث ورواتها من أهل السنة : بأنهم خانوا الأمانة ، واختصروا كثيرا من رواياتهم ، خوفا من حاكم ، ويقصد أنهم زوروا الحقائق ، وحذفوا ما يتعلق بالوصية لعلي بالخلافة ! وكأنه مقر ـ في قرارة نفسه ـ أن كل ما يستشهد به على هذه القضية لا يكفي ولا يشفي غليلا ، فمشى خطوة أخرى فيما وراء النصوص ، وهي مكذوبة ، وتقوّل من غير دليل ، واتهم من غير حجة ، وادعى أن هذه النصوص حدف أكثرها ، وألصقها تعلقا بالمسألة !! ».
أقول :
أما السب فلا نقابله فيه بالمثل !
والحق معا السيد ـ رحمه الله ـ فيما قال ، لأن المستفاد من تتبع ألفاظه حديث الغدير في كتب أهل السنة ـ ويساعده الاعتبار وشواهد الأحوال ـ هو أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد خطبهم ـ :
ففي « المسند » : « فخطبنا » (1).
وفي « المستدرك على الصحيحين » : « قام خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه
---------------------------
(1) مسند أحمد 4 | 372.
وذكّر ووعظ ، فقال ما شاء الله أن يقول » (1).
وفي « مجمع الزوائد » : « فوالله ما من شيء يكون إلى يوم الساعة إلا قد أخبرنا به يومئذ ، ثم قال : أيها الناس... » (2).
فأين النص الكامل لتلك الخطبة ؟!
ولماذا لم يرووا مواعظ الرسول وإرشاداته ؟!
وإذا كان قد أخبر صلى الله عليه وآله وسلم بكل شيء يكون إلى يوم الساعة ، وبيّن وظيفة الأمة ، فما الذي حملهم على إخفائه عن الأمة ؟!
لقد حرموا الأمة من هدي الرسول وتعاليمه وإرشاداته ، بدلا من أن ينقلوها ويكونوا دعاة إليها وناشرين لها ...
وإن الذي حملهم على كتم كثير من الحقائق ! وإن الذي منعهم من نقلها هو نفس ما منعهم من أن يقرّبوا إليه دواة وقرطاسا ليكتب للأمة كتابا لن يضلوا بعده !
قال السيّد :
4 ـ « والصحاح الحاكمة بوجوب التمسك بالثقلين متواترة ، وطرقها عن بضع وعشرين صحابيا متضافرة ، وقد صدع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواقف له شتى : تارة يوم غدير خم كما سمعت ، وتارة يوم عرفة في حجة الوداع ، وتارة بعد انصرافه من الطائف ، ومرة على منبره في المدينة ، وأخرى في حجرته المباركة في مرضه والحجرة غاصة بأصحابه ، إذ قال : أيها الناس يوشك أن أقبض... ».
قال في الهامش : « راجعه في أواخر الفصل 2 من الباب 9 من الصواعق
---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 3 | 109.
(2) مجمع الزوائد 9 | 105 وقد وثق رجاله.
المحرقة لابن حجر ، بعد الأربعين حديثا من الأحاديث المذكورة في ذلك الفصل ، ص 75 ».
قيل :
« يكفي أن يعلم أن هذا الذي ساقه على أنه قاله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم في مرضه والحجرة غاصة بأصحابه ، ليس في كتاب من كتب الحديث المعتبرة ، وقد أورده من غير سند ، فالاحتجاج به ساقط حتى تثبت قضيتان : سنده أولا ، ثم صدق هذا السند ، وهيهات له أن يثبت هاتين القضيتين ، وليس ذكره لكتاب الصواعق لابن حجر المكي بمصحح هذا الحديث ، ولا بدليل على صحة الاحتجاج به ، فابن حجر هذا ليس من علماء الحديث ، ولا له في هذه الصناعة باع ولا ذراع ، ومن تأمل كتابه ( الصواعق ) وما حشاه به من الاحاديث الضعيفة والموضوعة يتيقن أن كتابه لا يأبه به إلا أمثال المؤلف وبني جلدته ، على أن ابن حجر لم يسلم حتى من هجوم المؤلف عبد الحسين ، وجازاه جزاء سنمار ».
أقول :
عدم اعتراضه إلا على حديث صدوره في مرضه في الحجرة ، ظاهر في موافقته على صدور حديث الثقلين يوم غدير خم ، ويوم عرفة في حجة الوداع ، وبعد انصرافه من الطائف ، وعلى منبره في المدينة ، ووجود ذلك في كتب الحديث المعتبرة ، وعليه يكون موافقا على صدور الحديث في مواقف متعددة ، فيناقض إنكاره ذلك في كلماته السابقة.
وأما رواية أنه قاله في مرض موته فقد جاء في « الصواعق » بعدما روى الحديث بعد انصرافه من الطائف عن ابن أبي شيبة : « وفي رواية ... ».
فابن حجر لم يعز هذا الحديث إلى كتاب ، لكن بالتأمل في كلامه يظهر
تصحيحه له ، لأنه بعدما أورد الحديث السابق عن ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : « وفيه رجل اختلف في تضعيفه ، وبقية رجاله ثقات » (1)، ثم أرود هذا الحديث ولم يتكلم على سنده بشيء ... ونحن تكفينا رواية ابن حجر لهذا الحديث لا سيما مع سكوته عن سنده ، لأنه من كبار علماء أهل السنة المدافعين عن الخلفاء ومعاوية وحكومة الطلقاء ، كما لا يخفى على من راجع « الصواعق » و« تطهير الجنان » وغيرهما مما كتبه في هذا الشأن .
ومع ذلك ... نذكر واحدا من رواة هذا الحديث ، المتقدمين على ابن حجر المكي... ألا وهو الحافظ السمهودي (2) ، فإنه نص على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك في مرضه الذي قبض فيه وقد امتلأت الحجرة من أصحابه ، كما في رواية لأم سلمة .
ولا بأس بنقل متن عبارته في التنبيه الخامس من تنبيهات حديث الثقلين :
« خامسها : قد تضمنت الأحاديث المتقدمة الحث البليغ على التمسك بأهل البيت النبوي وحفظهم واحترامهم والوصية بهم ، لقيامه صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بذلك خطيبا يوم غدير خم ، كما في أكثر الروايات المتقدمة ، مع ذكره لذلك في خطبته يوم عرفة على ناقته ، كما في رواية الترمذي عن جابر ، وفي خطبته لما قام خطيبا بعد انصرافه من حصار الطائف ، كما في رواية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، وفي مرضه الذي قبض فيه وقد امتلأت
---------------------------
(1) الصواعق المحرقة : 75.
(2) هو : الحافظ نور الدين عليّ بن عبد الله سمهودي ، المتوفى سنة 911 هـ.
قال الحافظ السخاوي بترجمته بعد كلام له : « وبالجملة ، فهو إنسان فاضل متفنن متميز في الفقه والأصلين ، مديم للعمل والجمع والتأليف ، متوجه للعبادة وللمباحثة والمناظرة ، قوي الجلادة على ذلك ، طلق العبارة فيه ، مغرم به ، مع قوة نفس وتكلف ، خصوصا في مناقشات لشيخنا في الحديث ونحوه » ، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 5 | 245
الحجرة من أصحابه ، كما في رواية لأم سلمة .
بل سبق قول ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم : انظروا كيف تخلفوني فيهما .
وقوله : ألا وإني سائلكم كيف خلفتموني في كتابه وأهل بيتي .
وقوله : ناصرهما لي ناصر وخاذلهما لي خاذل .
و : أوصيكم بعترتي خيرا .
و : أذكركم الله في أهل بيتي .
على اختلاف الألفاظ في الروايات المتقدمة .
مع قوله ـ في رواية عبد الله بن زيد عن أبيه ـ : فمن لم يخلفني فيهم بتر عمره ، وورد ليّ يوم القيامة مسودا وجهه .
وفي الحديث الآخر : فإني أخاصمكم عنهم غدا ، ومن أكن خصيمه أخصمه ، ومن أخصمه دخل النار.
وفي الآخر : من حفظني في أهل بيتي فقد اتخذ عند الله عهدا .
مع ما اشتملت عليه ألفاظ الأحاديث المتقدمة على اختلاف طرقها ، وما سبق فيما أوصى به أمته وأهل بيته .
فأي حث أبلغ من هذا وآكد منه ؟!
فجزى الله تعالى نبيه صلى الله عليه [ وآله ] وسلم عن أمته وأهل بيته أفضل ما جزى أحدا من أنبيائه ورسله عليهم السلام » (1).
قال السيد :
5 ـ « على أن المفهوم من قوله : ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن
---------------------------
(1) جواهر العقدين ق2 ج1 | 115 ـ 116
تضلوا : كتاب الله وعترتي ) : إنما هو ضلال من لم يتمسك بهما معا كما لا يخفى .
ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم ـ في حديث الثقلين عند الطبراني ـ : ( فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ).
قال ابن حجر : وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم : فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم : دليل على أن من تأهل منهم للمراتب العلية والوظائف الدينية كان مقدما على غيره » إلى آخر كلامه .
قيل :
في الاعتراض على الحديث عن الطبراني :
« هذا جزء من حديث رواه الطبراني عن زيد بن أرقم ، وفي هذا السند : حكيم بن جبير. وهو ضعيف ، ورمي بالتشيع كما قال المباركفوري، مجمع الزوائد 9 | 163 ،
على أن هذا الحديث ـ لو صح ـ فإن دلالته تشمل بني هاشم جميعا وهم عشيرته صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، لا أبناء عليّ وفاطمة فقط .
ومع غض النظر عن مناقشة ابن حجر المكي فيما استنبطه من حكم من هذا الحديث الضعيف ، هل يصح هذا الحديث دليلا على هذا الحكم ؟ ثم أليس في هذا الدليل على عدم أصالة آراء ابن حجر وضعفه الفاضح في الحديث واستنباطه الأحكام ؟ ».
أقول :
أما المفهوم من حديث الثقلين ـ كما ذكره السيد ـ فلا ينكره أحد.
وأما الحديث المؤيد فهذا سنده :
« حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، ثنا جعفر بن حميد (ح) حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا النضر بن سعيد أبو صهيب ، قالا ثنا عبد الله بكير ، عن حكيم بن جبير ، عن أبي الطفيل ، عن زيد بن أرقم ، قال : نزل النبي صلى الله عليه [ وآله ] » وسلم يوم الجحفة .
ثم أقبل على الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
إني لا أجد لنبي إلا نصف عمر الذي قبله ، وإني يوشك أن أدعى فأجيب ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نصحت ، قال : أليس تشهدون أن لا إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الجنة حق والنار حق وأن البعث بعد الموت حق ؟ قالوا : نشهد ، قال : فرفع يديه فوضعهما على صدره ثم قال : وأنا أشهد معكم ، ثم قال : ألا تسمعون ؟ قالوا : نعم ، قال :
فإني فرطكم على الحوض ، وأنتم واردون عليّ الحوض ، وإن عرضه أبعد ما بين صنعاء وبصرى ، فيه أقداح عدد النجوم من فضة ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين،
فنادى مناد : وما الثقلان يا رسول الله ؟
قال : كتاب الله طرف بيد الله [ عز وجل ] وطرف بأيديكم ، فاستمسكوا به لا تضلوا ، والآخر عترتي ، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض ، وسألت ذلك لهما ربي .
فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ، ولاتعلّموهم فإنهم أعلم منكم ، ثم أخذ بيد عليّ ـ رضي الله عنه ـ فقال : من كنت أولى به من نفسه فعليّ وليه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه » (1).
---------------------------
(1) المعجم الكبير 5 | 166 ـ 167.
وهذا الحديث رواه الحافظ السيوطي بتفسير قوله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) (1).
وكذا الشيخ المتقي الهندي (2).
وقد روى الشيخ المتقي الهندي قبل ذلك هذا الحديث عن الطبراني عن زيد بن ثابت ، قال :
« إني لكم فرط ، إنكم واردون عليّ الحوض ، عرضه ما بين صنعاء إلى بصرى ، فيه عدد الكواكب من قدحان الذهب والفضة ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين ؟
قيل : وما الثقلان يا رسول الله ؟
قال : الأكبر كتاب الله ، سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ، فتمسكوا به لن تزلوا ولا تضلوا ، والأصغر عترتي ، وإنهما لن يتفرّقا حتى يردا عليّ الحوض ، وسألت لهما ذلك ربي ، ولا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تعلّموهما فإنهما أعلم منكم.
طب عن زيد بن ثابت » (3).
ألا يليق هذا الحديث المروي في هذه الكتب ، عن اثنين من مشاهير الأصحاب ، لأن يكون « مؤيدا » ؟!
ثم إن الحديث عن زيد بن أرقم لم يناقش في سنده إلا من جهة « حكيم بن جبير » ... وقد راجعنا ترجمته في « تهذيب التهذيب » (4) فوجدناه من رجال أربعة من الصحاح الستة ، وإن من الرواة عنه :
« الأعمش ، والسفيانان ، وزائدة ، وفطر بن خليفة ، وشعبة ، وشريك
---------------------------
(1) الدر المنثور 2 | 60.
(2) كنز العمال 1 | رقم 957.
(3) كنز العمّال 1 | رقم 946.
(4) تهذيب التهذيب 2 | 383.
وعلي بن صالح ، وجماعة ».. « وقال الفلاس : كان يحيى يحدث عنه » .
ثم إنّ السبب في تضعيف بعضهم إياه هو « التشيع » ليس إلا :
« قال ابن أبي حاتم : سألت أبا زرعة عنه فقال : في رأيه شيء ، قلت : ما محله ؟ قال : الصدق إن شاء الله ».
وقد تقدم ـ ويأتي ـ أن « التشيع » غير قادح .
وأما دعوى أن الحديث يشمل بني هاشم كلهم ، فجهل أو تجاهل لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن التقدم على « عترته » وعن تعليمهم ، ويعلل ذلك : بأنهم أعلم منكم ، وكيف يشمل هذا جميع بني هاشم ؟!
وليت الرجل راجع كلمات شراح الحديث من أبناء مذهبه ! فإن الذي قاله ابن حجر المكي قد نص عليه غير واحد من أعلام الحديث والعلماء الحفاظ :
قال القاري في شرح المشكاة : « أقول : والأظهر هو أن أهل البيت غالبا يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله. فالمراد بهم أهل العلم منهم ، المطلعون على سيرته ، الواقفون على طريقته ، العارفون بحكمه وحكمته ، وبهذا يصلح أن يكونوا مقابلا لكتاب الله سبحانه كما قال : ( ويعلمهم الكتاب والحكمة ). ويؤيده ما أخرجه أحمد في المناقب ، عن حميد بن عبدالله بن زيد : أن النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلم ذكر عنده قضاء قضى به علي بن أبي طالب فأعجبه وقال ك الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت... » (1).
وقال المناوي : « وعترتي أهل بيتي ، تفصيل بعد إجمال ، بدلا أو بيانا ، وهم أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا » (2).
---------------------------
(1) المرقاة في شرح المشكاة 5 | 600.
(2) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 3 | 14.
وقال عبد الحق الهندي : « والعترة رهط الرجل وأقرباؤه وعشيرته الأدنون ، وفسره صلى الله عليه [ وآله ] بقوله : وأهل بيتي ، للإشارة إلى أن مراده هنا من العترة : أخص عشيرته وأقاربه ، وهم أولاد الجد القريب، أي : أولاده وذريته صلى الله عليه [ وآله ] وسلم » (1).
وقال السمهودي : « الذين وقع الحث على التمسك بهم من أهل البيت النبوي والعترة الطاهرة : هم العلماء بكتاب الله عز وجل ، إذ لا يحث صلى الله عليه [ وآله ] وسلم على التمسك بغيرهم ، وهم الذين لا يقع بينهم وبين الكتاب افتراق ، حتى يردا الحوض، ولهذا قال : لا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا » (2).
* وأما الحكم الذي استنبطه ابن حجر من الحديث ـ والذي لأجله تهجم عليه هذا الرجل ـ فهو موجود كذلك في كلام غير ابن حجر من أئمة الحديث :
ففي « جواهر العقدين » و« شرح المواهب اللدنية » و« فيض القدير » : « أن ذلك يفهم وجود من يكون أهلا للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كل زمان وجدوا فيه إلى قيام الساعة ، حتى يتوجه الحث المذكور إلى التمسك به ، كما أن الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا ـ كما سيأتي ـ أمانا لأهل الأرض ، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض » (3).