عن يحيى بن يعلى .
وحدثناه محمد بن أحمد بن إبراهيم ، قال : نا الوليد بن أبان ، قال : نا أبوحاتم به » (1).
وأخرجه الحافظ ابن عساكر بإسناده عن : « يحيى بن عبد الحميد الحماني ، أنبأنا يحيى بن يعلى ، عن عمار بن زريق ، عن أبي إسحاق ، عن زياد بن مطرف ، عن زيد بن أرقم ، قال : قال النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم... » (2).
وأخرجه الطبراني ، وعنه المتقي الهندي ، فإنه بعد أن رواه قال : « طب ، ك وتعقب ، وأبو نعيم في فضائل الصحابة ، عن زيد بن أرقم » (3). تحقيق السند :
أقول : والمراد من « التعقب » ما ذكره الذهبي في ( تلخيصه ) : « قلت : أنى له الصحة ؟ والقاسم متروك ، وشيخه ضعيف ، واللفظ ركيك ، فهو إلى الوضع أقرب » (4) ،
و« القاسم » هو « القاسم بن أبي شيبة ». و « شيخه » هو : « يحيى بن يعلى الأسلمي ».
أقول
لكن « القاسم » ـ سواء كان متروكا أو غير متروك ـ غير موجود في غير
---------------------------
(1) حلية الأولياء 4 | 349 ـ 350.
(2) ترجمة علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق 2 | 99 حديث رقم 602 وفيه : عمار بن مطرف ، وهو غلط.
(3) كنز العمال 11 | 611 الحديث رقم 32959 ، منتخبه على هامش مسند أحمد 5 | 32.
(4) تلخيص المستدرك ـ على هامشه ـ 3 | 128.
الحاكم من طرق الحديث ، ولذا كان الإشكال من ناحية « يحيى بن يعلى الأسلمي » فقط .
لكن هذا الإشكال مندفع كذلك لوجوه :
الاول : إن الحافظين أبا نعيم وابن عساكر لم يتكلما في سند هذا الحديث أصلا ، وقد رأينا ابن عساكر كيف نبه ـ في الحديث الأول ـ على أن « فيه غير واحد من المجهولين » فلو كان « يحيى » هذا ضعيفا لكان أولى بالتنبيه عليه. ورأينا أيضا كيف يذكر أبو نعيم للحديث طرقا عدة ، عن جماعة من الأعلام ، ولا يتعرض لشيء قادح في سنده ، أما قوله : « غريب من حديث أبي غسحاق » فقد عرفت معناه ، على أن « أبا إسحاق » وهو السبيعي غير موجود في بعض الطرق الأخرى .
والثاني : إن تضعيف « يحيى بن يعلى الأسلمي » معارض بتصحيح الحاكم للحديث ، الدال على ثقته .
والثالث : إن الرجل من رجال البخاري في « الأدب المفرد » والترمذي في ( صحيحه ) ومن مشايخ كثير من الأعلام كأبي بكر ابن أبي شيبة وأقرانه (1).
والرابع : إن غاية ما هناك تعارض الجرح والتعديل في حق الرجل ، لكن الجارح هو « أبو حاتم » القائل : « ضعيف الحديث ، ليس بالقوي » وابن حبان القائل في « الضعفاء » : « يروي عن الثقات المقلوبات ، فلا أدري ممن وقع ذلك ، منه أو من الراوي عنه أبي ضرار بن صرد ، فيجب التنكب عما رويا » والبزار القائل : « يغلط في الأسانيد » والبخاري القائل : « مضطرب الحديث » (2)
قيل :
« لابد قبل التعرض لاستشهاد المؤلف بالآيات على ما ذهب إليه ، من كلمة موجزة في منهج الشيعة في تفسير القرآن الكريم :
إن الدارس للفرق والمذاهب التي نشأت بعد حركة الفتح الإسلامي واستقرار الإسلام بدولته المترامية ، لا بد وأنه يلاحظ أولا أن هذه الفرق اتخذت القرآن الكريم وسيلة للاستدلال على آرائها ، ولكن الفرق بين أصحاب الآراء الصحيحة التي لا تخالف الأصول الإسلامية وبين غيرهم من أصحاب المذاهب المبتدعة : أن الأوائل كانوا تابعين لما تدل عليه معاني القرآن الكريم ، موضحين لدلالات ألفاظه كما فهمها سلف الأمة وعلماؤها ، وكما فسرها الرسول صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان ، فكانوا ضمن دائرة التمسك بالكتاب والسنة ، لم يشذوا عنها .
أما أصحاب البدع والأهواء ، فقد رأوا آراء ، واعتقدوا اعتقادات أرادوا أن يروّجوها على الناس ، فأعوزتهم الأدلّة ، فالتفتوا إلى القرآن الكريم... وهم كما قال ابن تيمية ...
أمثلة من مواقف الشيعة في التفسير : يقول ملا حسن الكاشي في مقدمة كتابه : ( الصافي في تفسير القرآن الكريم )...
وملا محسن الكاشي ممن يرى أن القرآن قد حرف ... ولا يتورع هذا الرافضي المفتري من الطعن على كبار الصحابة الكرام ، ويرميهم بكل نقيصة ، ويجردهم من كل مكرمة ، هكذا فعل مع عثمان في تفسير الآيتين 84 و85 من سورة البقرة ، وهكذا فعل مع أ[ي بكر في تفسير الآية 40 من سورة التوبة ، وكذلك طعن في أبي بكر وعمر وعائشة وحفصة عند تفسيره أول سورة التحريم ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله
لك ... ).
ويعتقد عبدالله بن محم رضا العلوي ـ الشهير بشبر ـ المتوفى سنة 1242 أن القرآن قد حرّف ... وعند تفسيره لقوله تعالى في الأية 40 من سورة التوبة ( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا) الآية ، نجده يعرض عن تعيين هذا الذي صحب النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم في هجرته وهو أبو بكر ، ثم يصرح أو يلمح بما نقص من قدره أو يذهب بفضله المنسوب إليه والمنوّه به في القرآن الكريم ، فيقول ... ».
أقول :
لابد قبل التعرض لاستدلال السيد ـ رحمه الله ـ بآيات الكتاب الكريم على ولاية أهل البيت عليهم السلام ، على ضوء الأخبار المتفق عليها بين علماء الفريقين ، من ذكر الأمور التالية بإيجاز :
1 ـ إنه كما لغير الشيعة الإمامية الاثني عشرية من الفرق الإسلامية منهج في تفسير القرآن الكريم ، وفهم حقائقه وأحكامه ، وأسباب نزول
آياته... كذلك الشيعة ، وإن منهجهم يتلخص في الرجوع إلى القرآن وما ورد عن العترة المعصومين بالأسانيد المعتبرة ... وهذا أمر واضح وللتحقيق فيه مجال آخر.
2 ـ إلا أن منهج البحث في كتب المناظرة يختلف ... فإن من الأصول التي يجب على الباحث المناظر الالتزام بها هو : الاستدلال بالروايات
الواردة عن طريق رجال المذهب الذي يعتنقه الطرف المقابل ، وكلمات العلماء المحققين المعروفين من أبناء الطائفة التي ينتمي إليها .
فهذا مما يجب الالتزام به في كل بحث يتعلق بالفرق والمذاهب ، وإلا فإن كل فرقة ترى الحق في كتبها ورواياتها ، وتقول ببطلان ما ذهب إليه وقال به غيرها ، فتكون المناقشة بلا معنى والمناظرة بلا جدوى .
وعلى هذه القاعدة مشى السيد ـ رحمه الله ـ في ( مراجعاته ) مع شيخ الأزهر ( الشيخ البشري ).
وفي ( حجج الكتاب )... حيث يشير إلى المصادر السنية المقبولة لدى ( الشيخ )... فكان القول بنزول الآية المباركة في أمير المؤمنين أو أهل البيت عليهم السلام قولا متفقا عليه بين الطرفين ، والحديث الوارد في ذلك سنة
ثابتة يجب اتباعها والتمسك بها على كلا الفريقين.
وقد كانت هذه طريقة علمائنا المتقدمين...
3 ـ ولم نجد الالتزام بهذه الطريقة التي تفرضها طبيعة البحث والحوار في كلمات أكثر علماء أهل السنة...ومن أراد التأكد من هذا الذي نقوله فلينظر ـ مثلا ـ إلى كتاب « منهاج
الكرامة في إثبات الإمامة » للعلامة الحلي ، وما قاله ابن تيمية في ( منهاجه ) في الرد عليه ، وليقارن بين المنهاجين ، خصوصا في فصل الاستدلال بالكتاب ، فبدلا من أن يلتزم ابن تيمية بالقواعد والآداب أخذ يسب العلامة ويشتمه ويتهمه بأنواع التهم ! ثم يضطر إلى اتهام كبار أئمة السنة في التفسير والحديث ـ الذين نقل عنهم العلامة القول بنزول الآيات في أهل البيت كالثعلبي والواحدي والبغوي ونظرائهم ـ بنقل
الموضوعات ورواية المكذوبات ، وأمثال ذلك من الاتهامات ، وسنتعرض لذلك في خلال البحث عن الآيات.
ثم إن ابن تيمية أصبح ـ وللأسف ـ قدوة للذين يجدون في أنفسهم حرجا مما قضى الله ورسوله ، فلووا رؤوسهم واستكبروا استكبارا ، أما الشيخ البشري وأمثاله ، فأذعنوا للحق واتبعوه ، فمنهم من أخفى ذلك ومنهم من أجهر به إجهارا...
4 ـ وفضائل الإمام علي وأهل البيت عليهم السلام في القرآن الكريم ، وما نزل فيهم من آياته الكريمة ، كثيرة جدا ، حتى أن جماعة من أعلام السنة أفردوا ذلك بالتأليف ...
هذا ، بالرغم من الحصار الشديد المضروب على رواية هذا النوع من الأحاديث ورواته !
أما غير أهل البيت ، فلم يدع ـ حتى في كتب القوم ـ نزول شيء من الآيات في حقهم ...!
أنظر إلى كلام القاضي عضد الدين الإيجي ـ المتوفى سنة 756 هـ ـ في كتابه « المواقف في علم الكلام » الذي هو من أجل متونهم في علم
الكلام ، يقول :
« المقصد الرابع : في الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه [ وآله
وسلم ، وهو عندنا أبو بكر ، وعند الشيعة علي ، رضي الله عنهما ، لنا وجهان : الأول : إن طريقه إما النص أو الإجماع ، أما النص فلم يوجد ... » (1).
نعم ، ذكر في المقصد الخامس ، في أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « هو عندنا وأكثر قدماء المعتزلة أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ ، وعند الشيعة وأكثر متأخري المعتزلة علي ، لنا وجوه الأول : قوله تعالى : ( وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى ) (2)، قال أكثر المفسرين ـ واعتمد عليه العلماء ـ أنها نزلت في أبي بكر. الثاني : قوله عليه السلام... » (3).
فلم يستدل من الكتاب إلا بآية واحدة ، نسب إلى أكثر المفسرين نزولها في أبي بكر ، فهذه آية واحدة فقط !
وهناك آية ثانية ، وهي آية الغار ، جعلوها فضيلة لأبي بكر ، واستدلوا بها في الكتب.
أما آية الغار فممن تكلم في الاستدلال بها : المأمون العباسي ، الذي وصفه الحافظ السيوطي في كتابه « تاريخ الخلفاء وأمراء المؤمنين » فقال : « قرأ العلم في صغره وسمع الحديث من : أبيه ، وهشيم ، وعباد بن العوام ، ويوسف ابن عطية ، وأبي معاوية الضرير ، وإسماعيل بن علية ، وحجاج الأعور ، وطبقتهم. وأدبة اليزيدي ، وجمع الفقهاء من الآفاق ، وبرع في الفقه والعربية وأيام الناس ، ولما كبر عني بالفلسفة وعلوم الأوائل ومهر فيها ، فجره ذلك إلى القول بخلق القرآن.
---------------------------
(1) المواقف في علم الكلام ـ بشرح الجرجاني ـ 8 | 354.
(2) سورة الليل 92 : 17 و18.
(3) المواقف في علم الكلام ـ بشرح الجرجاني ـ 8 | 365.
روى عنه : ولده الفضل ، ويحيى بن أكثم ، وجعفر بن أبي عثمان الطيالسي ، والأمير عبد الله بن طاهر ، وأحمد بن الحارث الشيعي ، ودعبل الخزاعي ، وآخرون .
وكان أفضل رجال بين العباس حزما وعزما ، وحلما وعلما ، ورأيا ودهاء ، وهيبة وشجاعة ، وسؤددا وسماحة ، وله محاسن وسيرة طويلة ، لولا ما أتاه من محنة الناس في القول بخلق القرآن ، ولم يل الخلافة من بني العباس أعلم منه ، وكان فصيحا مفوها ... » (1).
تكلم المأمون في آية الغار ، في مجلس ضم قاضي القضاة يحيى بن أكثم وأئمة العصر في الفقه والحديث ، في مسائل كثيرة من أبواب الفضائل والمناقب ، فكان أن قال لمخاطبه ـ وهو : إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل بن حماد بن زيد ؛ والراوي إسحاق نفسه ـ :
«... فما فضله الذي قصدت له الساعة ؟ قلت قول الله عز وجل : ( ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ) (2) فنسبه إلى صحبته .
قال : يا إسحاق أما إني لا أحملك على الوعر من طريقتك ، إني وجدت الله تعالى نسب إلى صحبة من رضيه ورضي عن كافرا ، وهو قوله : ( قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا * لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ) (3).
قلت : إن ذلك كان صاحبا كافرا ، وأبو بكر مؤمن .
قال : فإذا جاز أن ينسب إلى صحبة من رضيه كافرا ، جاز أن ينسب
---------------------------
(1) تاريخ الخلفاء : 306.
(2) سورة التوبة 9 : 40.
(3) سورة الكهف 18 : 37 و38.
إلى صحبة نبيه مؤمنا ، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث،
قلت : يا أمير المؤمنين ، إن قدر الآية عظيم ... إن الله يقول : ( ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ).
قال : يا إسحاق ، تأبى الآن أن أخرجك إلى الاستقصاء عليك ؛ أخبرني عن حزن أبي بكر ، أكان رضا أم سخطا ؟
قلت : إن أبا بكر إنما حزن من أجل رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم خوفا عليه وغما أن يصل إلى رسول الله شيء من المكروه .
قال : ليس هذا جوابي ، إنما كان جوابي أن تقول رضا أم.
قلت : بل كان رضا لله .
قال : وكان الله جل ذكره بعث إلينا رسولا ينهى عن رضا الله عز وجل وعن طاعته ؟!
قلت : أعوذ بالله.
قال : أو ليس قد زعمت أن حزن أبي بكر رضا لله ؟!
قلت : بلى.
قال : أولم تجد أن القرآن يشهد أن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قال : لا تحزن. نهيا له عن الحزن ؟!
قلت : أعوذ بالله !
قال : يا إسحاق ، إن مذهبي الرفق بك ، لعل الله يردك إلى الحق ويعدل بك عن الباطل ، لكثرة ما تستعيذ به.
وحدثني عن قول الله : ( فأنزل الله سكينته عليه ) من عني بذلك رسول الله أم أبو بكر ؟
قلت : بل رسول الله.
قال : صدقت .
قال فحدثني عن قول الله عز وجل ( يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ) إلى قوله ( ثم أنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ) (1) أتعلم من المؤمنين الذين أراد الله في هذا الموضع ؟
قلت : لا أدري يا أمير المؤمنين.
قال : الناس جميعا انهزموا يوم حنين ، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم إلا سبعة نفر من بني هاشم ، علي يضرب بسيفه بين يدي رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله ، والخمسة محدقون به خوفا من أن يناله من جراح القوم شيء ، حتى أعطى الله لرسوله الظفر ، فالمؤمنون في هذا الموضع علي خاصة ثم من حضره من بني هاشم .
قال : فمن أفضل ؟ من كان مع رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم في ذلك الوقت ، أم من انهزم عنه ولم يره الله موضعا لينزلها عليه ؟
قلت : بل من أنزلت عليه السكينة .
قال : يا إسحاق ، من أفضل ؟ من كان معه الغار ، أم من نام على فراشه ووقاه بنفسه حتى تم لرسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ما أراد الهجرة ؟
إن الله تبارك وتعالى أمر رسوله أن يأمر عليا بالنوم على فراشه وأن يقي رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم بذلك ، فبكى علي ـ رضي الله عنه ـ ، فقال له رسول الله : ما يبكيك يا علي ؟! أجزعا من الموت ؟!
قال : لا ، والذي بعثك بالحق يا رسول الله ، ولكن خوفا عليك
---------------------------
(1) سورة التوبة 9 : 25 و 26.
أفتسلم يا رسول الله ؟
قال : نعم .
قال : سمعا وطاعة نفسي بالفداء لك يا رسول الله.
ثم أتى مضجعه واضطجع وتسجى بثوبه ، وجاء المشركون من قريش فحفوا به لا يشكون أنه رسول الله ، وقد أجمعوا أن يضربه من كل بطن من بطون قريش ضربة بالسيف لئلا يطلب الهاشميون من البطون بطنا بدمه وعلي يسمع ما القوم فيه من تلاف نفسه ، ولم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع صاحبه في الغار .
ولم يزل علي صابرا محتسبا ، فبعث الله ملائكته فمنعته من مشركي قريش ، حتى أصبح ، فلما أصبح قام ، فنظر القوم إليه ، فقالوا : أين محمد ؟! قال : وما علمي بمحمد أين هو ! قالوا : فلا نراك إلا مغرورا بنفسك منذ ليلتنا .
فلم يزل علي أفضل ، ما بدا به يزيد ولا ينقص ، حتى قبضه الله إليه » (1).
وأما الآية الأخرى ، فقد ذكرنا في تعليقة « المواقف » في الجواب عن الاستدلال بها وجوها :
الأول : إن نزولها في ابي بكر غير متفق عليه بين المفسرين من أهل السنة ، وحتى كونه قول أكثر المفسرين غير ثابت ، وإن جاء ذلك في شرح المواقف (2).
ومن المفسرين من حمل الآية على العموم ، ومنهم من قال بنزولها في
---------------------------
(1) العقد الفريد 5 | 349.
(2) شرح المواقف 8 | 366.
قصة أبي الدحداح وصاحب النخلة ، كما ذكر السيوطي (1).
والثاني : إنّ رواة نزولها في حق أبي بكر ما هم إلا آل الزبير ، وهؤلاء قوم منحرفون عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام ومعروفون بذلك .
والثالث : إن سند خبر نزولها في ابي بكر غير معتبر ، قال الحافظ الهيثمي :
« وعن عبدالله بن زبير ، قال : نزلت في أبي بكر الصديق : ( وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ) (2).
رواه الطبراني ، وفيه : مصعب بن ثابت ، وفيه ضعف » (3).
قلت :
وهذا الرجل هو : مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير ؛ ولاحظ الكلمات في تضعيفه بترجمته (4).
هذا بالنسبة إلى أبي بكر ، وأما عمر وعثمان ، فلم يزعموا نزول شيء فيهما من القرآن...
5 ـ بل لو تتبعت كتبهم في مختلف العلوم لوجدت للقوم مثالب في القرآن الكريم ، ونحن الآن في غني عن التعرض لمثل هذه الأمور ، غير أنا نشير إلى أن نزول قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ
---------------------------
(1) الدر المنثور 6 | 358.
(2) سورة الليل 92 : 19 | 21.
(3) مجمع الزوائد 9 | 50.
(4) تهذيب التهذيب 10 | 144.
أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّانَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ ... ) (1) في عائشة وحفصة مذكور في أشهر كتب القوم من الصحاح وغيرها ، فراجع إن شئت :
مسند أحمد بن حنبل 1 | 33.
صحيح البخاري : كتاب النكاح ، باب في موعظة الرجل ابنته.
صحيح البخاري : كتاب التفسير ، بتفسير الآية : ( تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ).
صحيح مسلم : كتاب الرضاع ، باب في الإيلاء واعتزال النساء.
صحيح الترمذي 2 | 231.
صحيح النسائي 2 | 140.
وفي هذا القدر كفاية ، لتعلم أن القصة التي أوردها الشيخ محسن الكاشاني مذكورة في كتبهم ، ولتعرف من المتقول المفتري !!
وبعد المقدمة ، وقبل الورود في ( تشييد المراجعات ) نقول :
لقد كان ابن تيمية ـ كما أشرنا من قبل ـ قدوة للمكابرين من بعده ، فهم متى ما أعوزهم الدليل ، وعجزوا عن المناقشة ، لجأوا إلى كلماته المضطربة المتهافتة ، التي لا علاقة لها بالمطلب ، ولا أساس لها من الصحة... ومن ذلك هذا المورد ، وبيان ذلك بإيجاز هو :
---------------------------
(1) سورة التحريم 66 : 1 ـ 5.
إنّ المقام ليس مقام البحث عن المناهج التفسيرية عند هذه الفرقة أو تلك ، وإنما المقصود ذكر الأخبار والأقوال الواردة في كتب أهل السنة المعروفة ، في طائفة من آيات الكتاب النازلة في حق أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام... فهذا هوالمقصود .
وأما أن منهج الشيعة في التفسير ما هو ؟ ومنهج غيرهم ما هو ؟ وأي منهما هو الصحيح ؟ فتلك بحوث تطرح في محلها .
ثم إن للشيعي أن يقول نفس هذا الكلام الذي قاله القائل ، فيقول : « إن الدارس للفِرق والمذاهب... ولكن الفرق بين أصحاب الآراء الصحيحة التي لا تخالف الأصول الإسلاميّة ، وبين غيرهم من أصحاب المذاهب المبتدعة... ».
لكن من هم « أصحاب الآراء الصحيحة » ؟! ومن هم « أصحاب المذاهب المبتدعة » ؟!
فنحن نقول : إن « أصحاب الآراء الصحيحة » في فهم القرآن الكريم ، هم أتباع الأئمة الطاهرين من أهل البيت ، كالإمامين الباقر والصادق عليهما السلام...
وإن « أصحاب المذاهب المبتدعة » هم : عكرمة البربري... وأمثاله .
وسنفصل الكلام في التعريف بعكرمة وأمثاله على ضوء كلمات أهل السنة .
وعلى الجملة : فإن السيد ـ رحمه الله ـ لم يستدل في بحوثه هذه بالآيات الكريمة على « منهج الشيعة في التفسير » ، وإنما استدل بروايات أهل السنة وأقوال مفسريهم المشاهير على ما هو « منهج البحث والمناظرة » .
وتعرض هذا القائل هنا لمسألة « تحريف القرآن » ... وهذه أيضا لا علاقة
ها بالبحث ، وإنما لاغرض من ذكرها هنا تشويه مذهب الشيعة ، ونحن نحيل القارئ المنصف إلى كتابنا المطبوع المنتشر في الموضوع وهو : « التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف » (1) ليظهر له رأينا في المسألة ، ويتبين له من القائل بالتحريف !
فلنشرع في ( تشييد المراجعات ) : في ( حجج الكتاب ) :
---------------------------
(1) نشر أولا في حلقات في مجلة تراثنا ، في الأعداد 6 ـ 14 ، ثم نشرته مؤسسة دار القرآن الكريم في 371 صفحة ، ولعله خير كتاب أخرج للناس في موضوعه .
آية التطهير
قال السيد ، مخاطبا الشيخ سليم البشري :
« إنكم ـ بحمد الله ـ ممن وسعوا الكتاب علما ، وأحاطوا بجليه وخفيه خبرا ، فهل نزل من آياته الباهرة في أحد ما نزل في العترة الطاهرة ؟! هل حكمت محكماته بذهاب الرجس عن غيرهم ؟! وهل لأحد من العالمين كآية تطهيرهم ؟! ».
أقول :
هذه الآية مباركة هي قوله تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (1).
وقد استدل بها أصحابنا ـ تبعا لأئمة العترة الطاهرة ـ على عصمة « أهل البيت » ومن ثم فهي من أدلة إمامة أمير المؤمنين عليه السلام والأئمة الطاهرين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد كابر بشأنها الخوارج ، والنواصب ، والمخالفون لـ « أهل البيت » منذ اليوم الأول ، وإلى يومنا هذا ... ولذا كانت هذه الآية موضع البحث والتحقيق ، والأخذ والرد ، وكتبت حولها الكتب والدارسات الكثيرة (2).
---------------------------
(1) سورة الأحزاب 33 : 33.
(2) ولنا فيها كتاب ردا على كتيّب للدكتور علي أحمد السالوس ، أسماه : « آية التطهير بين أمهات المؤمنين وأهل الكساء » صدر بعنوان « مع الدكتور السالوس في آية التطهير » وهناك التفصيل الأكثر .
ونحن نذكر وجه الاستدلال ، ولينظر الناظرون هل هو « ضمن دائرة التمسك بالكتاب والسنة » ... أو لا ؟!
وهذه هي الأقوال في المسألة نقلا عن أحد المتعصبين ضد الشيعة الإمامية :
« وفي المراد بأهل البيت ها هنا ثلاثة أقوال :
أحدها : أنهم نساء رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، لأنهن في بيته ، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال عكرمة وابن السائب ومقاتل ، ويؤكد هذا القول أن ما قبله وما بعده متعلق بأزواج رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، وعلى أرباب هذا القول اعتراض ، وهو : إن جمع المؤنث بالنون فكيف قيل ( عنكم ) و( يطهركم ) ؟ فالجواب : إن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم فيهن فغلب المذكر.
والثاني : إنه خاص في : رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وعلي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، قاله أبو سعيد الخدري ، وروي عن أنس وعائشة وأم سلمة نحو ذلك .
والثالث : إنهم أهل رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وأزواجه ، قاله الضحاك » (1).
فهذه عبارة الحافظ ابن الجوزي ...
فالقائل باختصاص الآية بالرسول وبضعته ووصيه وسبطيه عليهم الصلاة والسلام ، هم جماعة من الصحابة ، وعلى رأسهم : أم سلمة وعائشة ... من زوجاته ...
---------------------------
(1) زاد المسير في علم التفسير ـ للحافظ ابن الجوزي ، المتوفى ستة 597 ـ 6 | 381 ـ 382.
وعلى رأس القائلين بكونها خاصة بالأزواج : عكرمة البربري... لما سيأتي من أن ابن عباس من القائلين بالقول الثاني.
أما القول الثالث فلم يحكه إلا عن الضحاك !
فمن هم « أصحاب الآراء الصحيحة » ؟! ولماذا أعرض الذين ادعوا أنهم « كانوا تابعين لما تدل عليه معاني القرآن الكريم ، موضحين لدلالات ألفاظه كما فهمها سلف الأمة وعلماؤها ، وكما فسرها الرسول صلى الله عليه [ وآله ] وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان » عن قول أم سلمة وعائشة وجماعة من كبار الصحابة ومشاهيرهم ـ كما سيجيء ـ وأخذوا بقول « عكرمة » الذي ستعرفه ، وأمثاله ؟!
وأما تفصيل المطلب ، ففي فصول :