وكتاب المراجعات يحتوي على مبحثين :
الأول : في إمامة المذهب .
والثاني : في الإمامة ، وهي الخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ويشتمل كل منهما على مراجعات ...
ولا بد قبل الورود فيها من مقدمات :
إن « التشيع » مذهب كسائر المذاهب ، له أصوله وقواعده في الأصول والفروع ، والشيعة الإمامية الاثنا عشرية غير محتاجة ـ في إثبات حقية ما تذهب إليه ـ إلى روايات الآخرين وأخبارهم ، ولا إلى ما قاله علماء الفرق الأخرى في كتبهم وأسفارهم ... فلا يتوهمن أحد أنهم ـ لاستدلالهم بشيء خارج عن نطاق أدلتهم وحججهم ـ يفقدون في ذلك المورد المستدل عليه الدليل المتقن على رأيهم ، فيلجأون إلى قول من غيرهم ، أو إلى خبر من غير طرقهم ...
إلا أنهم لما كانوا واقعيين في بحوثهم ، منصفين في مناظراتهم مع أتباع
كل فرقة من الفرق ، يستندون إلى ما جاء في كتب تلك الفرقة وعلى لسان علمائها المعتمدين فيها ، وهذا ما تفرضه طبيعة المناظرة ، وتقضيه آدابها وقواعدها المقررة .
فاستشهاد الشيعة بخبر من كتاب ... أو استدلالهم بكلام عالم ... لفرقة من الفرق ... لا يعني القبول بكل ما جاء في ذلك الكتاب ، أو على لسان ذاك العالم ... وإنما هو احتجاج على الطرف الآخر بما لا مناص له من الالتزام به ، بعد الإقرار بذلك الكتاب ، وبكون ذلك العالم من علماء مذهبه ...
ويكفي للاحتجاج أن يكون ذلك الخبر المستدل به مقبولا لدى رواته ، وفي نظر المحدث الذي أورده في كتابه ، ولا يشترط أن يكون معتبرا عند جميع علماء تلك الطائفة ، وذلك :
لأن الغرض إثبات أن الذي تذهب إليه الشيعة مروي من طرق الخصم وموجود في كتبه ، وأن الراوي له موثوق به عنده ولو على بعض الآراء ، فيكون الخبر متفقا عليه ، والمتفق عليه بين الطرفين ـ في مقام المناظرة ـ لا ريب فيه .
ولأن الخبر أو الراوي المقبول المعتبر لدى كل علماء تلك الطائفة نادر جدا .
نعم ، إذا كان ضعيفا عند أكثرهم لم يتم الاستدلال والاحتجاج به عليهم .
وعلى الجملة ، فإنه يكفي لصحة الاستدلال بكتاب أو بخبر أو بكلام عالم ... ألا يكون معرضا عنه لدى أكثر أئمة الفرقة المقابلة ، وأما أن يرد الاحتجاج ـ بما رواه الراوي الموثق من قبل بعضهم ـ بجرح البعض ... فهذا مما لا يسمع ، وإلا يلزم سقوط أخبار حتى مثل « البخاري » و« مسلم » في كتابيهما المعروفين بـ « الصحيحين » لوجود الطعن فيهما وفي كتابيهما ، من غير
واحد من كبار الأئمة الحفاظ (1).
فقد ذكر كبار الحفاظ امتناع الإمامين الجليلين : أبي زرعة وأبي حاتم الرازيّين عن الرواية عن « محمد بن إسماعيل البخاري » لأجل انحرافه في العقيدة في نظرهما ، وقال الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم : كان أبو زرعة ترك الرواية عن البخاري من أجل ما كان منه في المحنة .
ولأجل هذا ، فقد أورد ابن أبي حاتم الرازي البخاري في كتابه في « الجرح والتعديل » (2).
ولأجل تكلم أبي زرعة وأب حاتم ، وما صنعه ابن أبي حاتم ... فقد أورد الحافظ الذهبي البخاري في كتابه « المغني في الضعفاء » فقال : « حجة إمام ، ولا عبرة بترك أبي زرعة وأبي حاتم له من أجل اللفظ » (3).
وأضاف الحافظ الذهبي بترجمة البخاري تكلم الإمام الكبير محمد بن يحيى الذهلي فيه ، وأنه كان يقول : « من ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه ، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه » (4).
بل ذكر الذهبي أن الإمام الذهلي أخرج البخاري ومسلما من مدينة نيسابور (5).
وقال بترجمة الذهلي : « كان الذهلي شديد التمسك بالسنة ، قام على محمد بن إسماعيل ، لكونه أشار في مسألة خلق أفعال العباد إلى أن تلفظ
---------------------------
(1) هذا حال البخاري إمامهم في الحديث ، وسنشير إلى حال إمامهم في العقائد وهو : أبو الحسن الأشعري ، ولعلنا نتعرض لحال أئمتهم في الفقه وهم : الأئمة الأربعة ! وإمامهم في التفسير هو : الفخر الرازي ... في المواضع المناسبة ، إن شاء الله تعالى .
(2) وذكر ذلك الذهبي في : سير أعلام النبلاء 12 | 462.
(3) المغني في الضعفاء 2 | 557.
(4) سير أعلام النبلاء 12 | 453.
(5) سير أعلام النبلاء 12 | 455.
القاري بالقرآن مخلوق ... وسافر ابن إسماعيل مختفيا من نيسابور وتألم من فعل محمد بن يحيى » (1).
وقد تألم غير واحد من أعلام القوم من موقف الذهبي من البخاري حين أورده في كتاب « الضعفاء » .
قال السبكي : « ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح : حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح ، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة فجرحه بذلك ،
وإليه أشار الرافعي بقوله : وينبغي أن يكون المزكون برآء من الشحناء والعصبية في المذاهب ، خوفا من أن يحملهم على جرح عدل أو تزكية فاسق ، وقد وقع هذا لكثير من الأئمة ، جرحوا بناء على معتقدهم ، وهم المخطئون والمجروح مصيب .
وقد أشار شيخ الإسلام ، سيد المتأخرين : تقي الدين ابن دقيق العيد في كتابه ( الاقتراح ) إلى هذا وقال : أعراض المسلمين حفرة من حفر النار ، وقف على شفيرها طائفتان من الناس : المحدثون والحكام ،
قلت : ومن أمثلته : قول بعضهم في البخاري : تركه أبو زرعة وأبو حاتم ، من أجل مسألة اللفظ .
فيا لله والمسلمين ! أيجوز لأحد أن يقول : البخاري متروك ؟! وهو حامل لواء الصناعة ، ومقدم أهل السنة والجماعة » (2).
فهذه عبارة السبكي ، ولم يصرح باسم القائل بذلك وهو الذهبي ، لكن المنّاوي صرح باسمه ، واتهمه بالغض والغرض من أهل السنة ، وكأنه ليس الذهبي من أهل السنة !! فقال بترجمة البخاري :
« زين الأمة ، افتخار الأئمة ، صاحب أصح الكتب بعد القرآن ، ساحب
ذيل الفضل على مر الزمان ، الذي قال فيه إمام الأئمة ابن خزيمة : ما تحت أديم السماء أعلم منه ، وقال بعضهم : إنه آية من آيات الله يمشي على وجه الأرض.
قال الذهبي : كان من أفراد العالم ، مع الدين والورع والمتانة ، هذا كلامه في الكاشف .
ومع ذلك غلب عليه الغض من أهل السنة فقال في ( كتاب الضعفاء والمتروكين ) : ما سلم من الكلام لأجل مسألة اللفظ ، تركه لأجلها الرازيان .
هذه عبارته ، وأستغفر الله تعالى . نسأل الله السلامة ، ونعوذ به الخذلان » (1).
* ونستفيد من هذه القضية أمورا :
1 ـ ما ذكرناه سابقا من أنه لو اشترط ـ في صحة استدلالاتنا بأخبار القوم وأقوالهم ـ كون الخبر معتبراً عند جميعهم ، أو كون راويه موثقا عند كلهم ... لانسدّ باب البحث ، لعدم وجود هكذا خبر أو راو فيما بينهم .
2 ـ إن البخاري ومسلما مجروحان عند جماعة من الأئمة ، فتكون روايتهما في كتابيهما ـ كسائر الكتب والروايات ـ خاضعة لموازين الجرح والتعديل ... إن لم نقل بأن مقتضى الطعن المذكور فيهما سقوط رواياتهما عن الاعتبار رأسا ... وهناك أحاديث كثيرة في الكتابين قد نص العلماء المحققون الكبار على بطلانها ، يطول بنا المقام لو أردنا ذكرها ، فراجع بعض مؤلفاتنا (2).
3 ـ إن الذهبي ـ وهو من أكابر أئمة القوم في الجرح والتعديل ـ له مجازفات في تعديلاته وتجريحاته ... فليس كل ما يقوله الذهبي في حق الرجال حقا ، وإلا كان ما قاله وفعله في حق « البخاري » صحيحا مقبولا ، وقد قال
---------------------------
(1) فيض القدير 1 | 24 .
(2) التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف 293 ـ 336.
المناوي بعد نقله : « نسأل الله السلامة ونعوذ به من الخذلان » .
4 ـ إنه ينبغي أن يتفقد حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح ، وأن يكون المزكون والجارحون برآة من الشحناء والعصبية في المذهب ، وهذا ما أكده الحافظ ابن حجر العسقلاني أيضا ، حين قال :
« وممن ينبغي أن يتوقف في قبول قوله في الجرح : من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها الاختلاف في الاعتقاد ، فإن الحاذق إذا تأمل ثلب أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب ، وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع ، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم ، بلسان النصب وشهرة أهلها بالتشيع ، فتراه لا يتقوقف في جرح من ذكره منهم ، بلسان ذلقه وعبارة طلقة ، حتى أنه أخذ يلين مثل الأعمش وأبي نعيم وعبيدالله بن موسى وأساطين الحديث واركان الرواية ، فهذا إذا عارضه مثله أو أكبر منه فوثق رجلا ضعفه قبل التوثيق... » (1).
وقد تبع الجوزجاني بعض من كان على مسلكه من المتأخرين ، فأخذوا يطعنون في الراوي بمجرد روايته ما يدل على فضيلة لعليّ وأهل البيت عليهم السلام ، أو ما يدل على قدح في واحد من مناوئيهم ، ويقولون عنه « شيعي » « رافضي » ونحو ذلك ، والحال أن التشيع ـ كما يقول الحافظ ابن حجر ـ : « محبة عليّ وتقديمه على الصحابة » (2).
والذين يقدمون عليا عليه السلام على غيره من الصحابة كثيرون حتى في الصحابة ... قال الحافظ ابن عبد البر : « وروي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وخبّاب وجابر وابي سعيد الخدري وزيد بن أرقم : إن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أول من أسلم. وفضله هؤلاء على غيره » (3).
فالتشيع لا يضر بالوثاقة عنهم ولا يمنع من الاعتماد، قال ابن حجر
بترجمة « خالد بن مخلد القطواني الكوفي » وهو من رجال البخاري :
« من كبار شيوخ البخاري ، روى عنه وروى عن واحد عنه ، قال العجلي : ثقة وفيه تشيع ، وقال ابن سعد : كان متشيعا مفرطا ، وقال صالح جزرة : ثقة إلا أنه يتشيع ، وقال أبو حاتم ، يكتب حديثه ولا يحتج .
قلت : أما التشيع فقد قدمنا أنه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضره ، سيما ولم يكن داعية إلى رأيه » (1).
وقال ابن حجر بترجمة « عباد بن يعقوب الرواجني » من رجال البخاري :
« رافضي مشهور ، إلا أنه كان صدوقا ، وثقه أبو حاتم ، وقال الحاكم : كان ابن خزيمة إذا حدث عنه يقول : حدثنا الثقة في روايته المتهم في رأيه : عباد ابن يعقوب ، وقال ابن حبان : كان رافضيا داعية ، وقال صالح بن محمد : كان يشتم عثمان رضي الله عنه .
قلت : روى عنه البخاري في كتاب التوحيد حديثا واحدا مقرونا ، وهو حديث ابن مسعود : أي العمل أفضل ؟ وله عند البخاري طريق أخرى من رواية غيره » (2).
وقال الذهبي بترجمة « أبان بن تغلب » :
« شيعي جلد ، لكنه صدوق ، فلنا صدقه وعليه بدعته ، وقد وثقه أحمد بن حنبل وابن معين وأبو حاتم. وأورده ابن عدي وقال : كان غالبا في التشيع. وقال السعدي : زائغ مجاهر .
فلقائل أن يقول : كيف ساغ توثيق مبتدع ، وحد الثقة العدالة والإتقان ؟! فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة ؟!
وجوابه : إن البدعة على ضربين ، فبدعة صغرى ، كغلو التشيع ، أو
كالتشيع بلا غلو وتحرق ؛ فهذا كثير في التابعين وتابعيهم ، مع الدين والورع والصدق ؛ فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية ، وهذه مفسدة بينة » (1).
أقول :
وعلى هذا الأساس أيضا تسقط مناقشات بعض الكتاب في أسانيد الأحاديث التي يستدل بها الشيعة الاثنا عشرية من كتب أهل السنة... لكن بعض المتعصبين يقدح في الرجل إذا كان شيعيا ـ أي يفضل عليا عليه السلام على غيره من الصحابة ـ ويكره الرواية عنه ، حتى وإن كان من الصحابة ، مع أن المشهور فيما بين أهل السنة عدالة الصحابة أجمعين ! قال الحافظ ابن حجر بترجمة « عامر بن واثلة أبو الطفيل الليثي المكي » :
« قال ابن عدي : كان الخوارج يرمونه باتصاله بعلي وقوله بفضله وفضل أهل بيته ، وليس بحديثه بأس ، وقال ابن المديني : قلت لجرير :
أكان المغيرة يكره الرواية عن أبي الطفيل ؟ قال : نعم ، وقال صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه : مكي ثقة ، وكذا قال ابن سعد وزاد : كان متشيعا .
قلت : أساء أبو محمد ابن حزم فضعف أحاديث أبي الطفيل وقال : كان صاحب راية المختار الكذاب، وأبو الطفيل صحابي لا شك فيه ، لا يؤثر فيه قول أحد ، ولا سيما بالعصبية والهوى » (2).
قلت :
فالحمد لله الذي أجرى على لسان مثل ابن حجر العسقلاني أن ابن حزم
يتكلم « بالعصبية والهوى » وقد حط على هذا الرجل أبو بكر ابن العربي.
وقال أبو العباس ابن العريف الصالح الزاهد : « لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان » .
وقال مؤرخ الأندلس أبو مروان ابن حبان : « ومما يزيد في بغض الناس له تعصبه لبني أمية ، ماضيهم وباقيهم ، واعتقاده بصحة إمامتهم ، حتى نسب إلى النصب » .
وقال ابن خلّكان : « كان كثير الوقوع في العلماء المتقدمين ، لا يكاد يسلم أحد من لسانه ، قال ابن العريف : كان لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقين ، قاله لكثرة وقوعه في الأئمة ، فنفرت منه القلوب ، واستهدف لفقهاء وقته ، فتمالؤا على بغضه ، وردوا قوله ، واجتمعوا على تضليله ... ».
ووصفه الآلوسي عند ذكره بـ « الضال المضل ».
انظر : لسان الميزان 4 | 189 ، وفيات الأعيان 3 | 325 ، تفسير الآلوسي 21 | 76 .
قلت :
ومما يشهد بنصبه قوله في المحلى 10 | 482 : « ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل عليا رضي الله عنه إلا متأولا مجتهدا مقدراً على أنه صواب ، وفي ذلك يقول عمران بن حطان شاعر الصفرية... » .
وقد كان على شاكلة ابن حزم في القول بالعصبية والهوى :
أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي ، فقد أفرط هذا الرجل في كتبه لا سيما في كتابيه « العلل المتناهية » و« الموضوعات » حتى رد عليه كبار المحققين ، فنصوا على بطلان كثير من أقواله وآرائه .
قال الحافظ النووي : « وقد أكثر جامع الموضوعات في نحو المجلدين ،
أعني أبا الفرج ابن الجوزي ، فذكر كثيرا مما لا دليل على وضعه ... » .
وقال الحافظ السيوطي : « فذكر في كتابه كثيرا مما لا دليل على وضعه ، بل هو ضعيف ، بل وفيه الحسن والصحيح ، وأغرب من ذلك : أن فيها حديثا من صحيح مسلم كما سأبينه .
قال الذهبي : ربما ذكر ابن الجوزي في الموضوعات أحاديث حساناً قوية .
قال : ونقلت من خط السيد أحمد بن أبي المجد قال : صنّف ابن الجوزي كتاب ( الموضوعات ) فأصاب في ذكره أحاديث شنيعة مخالفة للنقل والعقل ما لم يصب فيه إطلاقه بالوضع على أحاديث ، بكلام بعض الناس في أحد رواتها ، كقوله : فلان ضعيف أو : ليس بالقوي أو : ليّن ، وليس ذلك الحديث مما يشهد القلب ببطلانه ، ولا فيه مخالفة ولا معارضة لكتاب ولا سنة ولا إجماع ، ولا حجة بأنه موضوع سوى كلام ذلك الرجل وفي رواية ، وهذا عدوان ومجازفة » (1).
وقال ابن عراق : « وللإمام الحافظ أبي الفرج ابن الجوزي فيها كتاب جامع ، إلا أنّ عليه مؤاخذات ومناقشات... » (2).
وقد أورد ابن الجوزي في كتابه « العلل المتناهية في الأحاديث الواهية » حديث : « إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي » فاعترضه بشدة كبار المحدثين المتأخرين عنه :
قال السخاوي : « وتعجبت من إيراد ابن الجوزي له في ( العلل المتناهية ) بل أعجب من ذلك قوله : إنه حديث لا يصح ، مع ما سيأتي من طرقه التي بعضها في صحيح مسلم » (3).
---------------------------
(1) تدريب الراوي 1 | 235 .
(2) تنزيه الشريعة 1 | 3 .
(3) استجلاب ارتقاء الغرف ـ مخطوط .
وقال السمهودي : « ومن العجيب ذكر ابن الجوزي له في ( العلل المتناهية ) فإياك أن تغتر به ، وكأنه لم يستحضره حينئذ » (1).
وقال المنّاوي : « ووهم من زعم ضعفه كابن الجوزي » (2).
بل هناك كلمات كثيرة في الحط على ابن الجوزي نفسه :
قال ابن الأثير : « وفي هذه السنة ـ في شهر رمضان ـ توفي أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي الحنبلي ، الواعظ ببغداد ، وتصانيفه مشهورة ، وكان كثير الوقيعة في الناس ، لا سيما في العلماء المخالفين لمذهبه » (3).
وقال أبو الفداء : « كان كثير الوقيعة في العلماء » (4).
وقال الذهبي : « له وهم كثير في توالفيه ، يدخل عليه الداخل من العجلة والتحول إلى مصنف آخر ، ومن أن جل علمه من كتب وصحف ما مارس فيه أرباب العلم كما ينبغي » (5).
وقال ابن حجر : « ... دلت هذه القصة على أن ابن الجوزي حاطب ليل لا ينتقد ما يحدث به » (6).
وقال السيوطي : « قال الذهبي في التاريخ الكبير : لا يوصف ابن الجوزي بالحفظ عندنا باعتبار الصنعة ، بل باعتبار كثرة اطلاعه وجمعه » (7).
وقال اليافعي : « وفيها أخرج ابن الجوزي من سجن واسط وتلقاه الناس
---------------------------
(1) جواهر العقدين ـ مخطوط.
(2) فيض القدير 3 | 14.
(3) الكامل في التاريخ ـ حوادث سنة 597هـ.
(4) المختصر في أخبار البشر ـ حوادث سنة 597هـ.
(5) تذكرة الحفاظ 4 | 1342.
(6) لسان الميزان 2 | 84 ، ترجمة ثمامة بن أشرس.
(7) طبقات الحفاظ : 478.
وبقي في المطمورة خمس سنين ، كذا ذكره الذهبي... » (1).
وأحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني ، فد طعن في كثير من الرجال وفي كثير من الأحاديث والأخبار ، وفي كثير من مصنفات أهل السنة لروايتها ما يتمسك به الإمامية... ولقد تمادى هذا الرجل في غية حتى انبرى كبار علماء أهل السنة من أهل المذاهب الأربعة للفتوى ضده ، ثم أمر بأن ينادى بالحط عليه والمنع من اتّباعه ، ثم حبس ، حتى مات في الحبس.
وشمس الدين الذهبي ، صاحب المؤلفات الكثيرة وتلميذ ابن تيمية الحراني والملازم له (2) فقد حكم على كثير من الأحاديث الصحيحة بالوضع ، وطعن في كثير من الرجال وأسقط رواياتهم عن درجة الاعتبار... وقد فعل ذلك بالنسبة إلى كثير من أئمة أهل السنة ومحدثيهم المشاهير في كتابيه « ميزان الاعتدال » و« المغني في الضعفاء » حتى أدرج في الثاني « محمد بن إسماعيل البخاري » كما تقدم .
وقال السبكي بترجمته : « كان شديد الميل إلى آراء الحنابلة ، كثير الازدراء بأهل السنة ، الذين إذا حضروا كان أبوالحسن الأشعري فيهم مقدم القافلة ، فلذلك لا ينصفهم في التراجم ، ولا يصفهم بخير إلا وقد رغم منه أنف الراغم.
صنف ( التاريخ الكبير ) وما أحسنه لولا تعصب فيه ، وأكمله لولا نقص فيه وأي نقص يعتريه » (3).
وقال : « وأما تاريخ شيخنا الذهبي غفر الله له ، فإنه ـ على حسنه وجمعه ـ مشحون بالتعصب المفرط ، لا واخذه الله، فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين ، أعني الفقراء الذين هم صفوة الخلق ، واستطال بلسانه على أئمة الشافعيين
---------------------------
(1) مرآة الجنان ـ حوادث سنة 595هـ.
(2) وكم لقي الذهبي من الأذى والعنت لهذه العلاقة بابن تيمية. قاله محقق كتاب « العبر » في المقدمة.
(3) طبقات الشافعية 2 | 22.
والحنفيين ، ومال فأفرط على الأشاعرة ، ومدح فزاد في المجسمة. هذا وهو الحافظ المدره ، والإمام المبجل ، فما ظنك بعوام المؤرخين » (1).
وعن تلميذه صلاح الدين العلائي : « الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي ، لا أشك في دينه وورعه وتحريه فيما يقوله الناس ، ولكنه غلب عليه مذهب الإثبات ، ومنافرة التأويل ، والغفلة عن التنزيه ، حتى أثر ذلك في طبعه انحرافا شديدا عن أهل التنزيه ، وميلا قويا إلى أهل الإثبات.
فإذا ترجم لواحد منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن ، ويبالغ في وصفه ، ويتغافل عن غلطاته ويتأول له ما أمكن ، وإذا ذكر أحدا من الطرف الآخر كإمام الحرمين والغزالي ونحوهما لا يبالغ في وصفه ، ويكثر نم قول من طعن فيه ، ويعيد ذلك ويبديه ، ويعتقده دينا وهو لا يشعر ، ويعرض عن محاسنهم الطافحة فلا يستوعبها ، وإذا ظفر لأحد منهم بغلطة ذكرها ... » (2).
قال السبكي : « والذي أدركنا عليه المشايخ : النهي عن النظر في كلامه وعدم اعتبار قوله ، ولم يكن يستجرئ أن يظهر كتبه التاريخية إلا لمن يغلب على ظنه أنه لا ينقل عنه ما يعاب عليه » (3).
قال : « كان يغضب عند ترجمته لواحد من علماء الحنفية والمالكية والشافعية غضبا شديدا ، ثم يقرطم الكلام ويمزقه ، ثم هو مع ذلك غير خبير بمدلولات الألفاظ كما ينبغي ، فربما ذكر لفظة من الذم لو عقل معناها لما نطق بها » (4).
أقول :
عجيب ! ابن الجوزي سجن ، ابن تيمية سجن حتى مات في السجن ، ابن حزم مزقت كتبه وأحرقت ونفي حتى مات في المنفى ، والذهبي ينهى عن النظر في كلامه ، ولا يعتمد قوله ، ويلاقي الأذى...
هذا حال هؤلاء في أهل السنة ... وقد أصبحوا أئمة يقتدي بهم المتأخرون من الكتاب ويستندون إلى أقوالهم !!
وأيضا : إذا كان هؤلاء مشهورين بالتعصب وبالوقيعة في العلماء ـ إذا لم يكونوا على مذاهبهم ـ في أقوالهم في السِيَر والتواريخ وغيرها ، فكيف يرتجى منهم الإنصاف والإقرار بالحق مع الشيعة وأئمتهم ورجالهم ... ؟!!
قال السيد رحمة الله تعالى عليه :
1 ـ إن تعبدنا في الأصول بغير المذهب الأشعري ، وفي الفروع بغير المذاهب الأربعة لم يكن لتحزب أو تعصب ، ولا للريب في اجتهاد أئمة تلك المذاهب ، ولا لعدم عدالتهم وأمانتهم ونزاهتهم وجلالتهم علما وعملا. لكن الأدلة الشرعية أخذت بأعناقنا إلى الأخذ بمذهب الأئمة من أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي والتنزيل .
أقول :
الأشعري هو : أبو الحسن علي بن إسماعيل ... من ذرية أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري ، قال الذهبي : « مات ببغداد سنة 324. حط عليه جماعة من الحنابلة والعلماء ، وكل أحد فيؤخذ من قوله ويترك ، إلا من عصم الله تعالى ، اللهم اهدنا وارحمنا » (1).
قال : « وقد ألف الأهوازي جزءا في مثالب ابن أبي بشر ، فيه أكاذيب ، وجمع أبوالقاسم في مناقبه فوائد بعضها أيضا غير صحيح » (2).
قال : « فقيل : إن الأشعري لما قدم بغداد جاء إلى أبي محمد البربهاري فجعل يقول : رددت على الجبّائي ، رددت على المجوس ، وعلى النصارى. فقال أبو محمد : لا أدري ما تقول ، ولا نعرف إلا ما قاله الإمام أحمد. فخرج وصنف الإبانة ، فلم يقبل منه » (1).
والأدلة الشرعية من الكتاب والسنة مذكورة في كتبنا المعدة لهذا الشأن ، وسيأتي ذكر بعض ما هو المتفق عليه منها ، إن شاء الله تعالى ، فإن مفادها وجوب اتباع الأئمة من أهل البيت في جميع الشؤون ، والمنع عن تباع غيرهم مطلقا .
كما أن وصف الأئمة عليهم السلام بالأوصاف التي وصوفوا بها في عبارة السيد موجود في كتبنا ، وفي كتب القوم ، وسنذكر الحديث الوارد من طرقهم في ذلك .
قيل :
كلامه في هذه المراجعة يوحي بأن أئمة المذاهب الأربعة يناصبون أئمة أهل البيت العداء ، ويسيرون على غير مذهبهم ، ويشير إلى أن أهل السنة قد خالفوا الأئمة من آل محمد .
أقول :
أما أن كلام السيد يوحي بأن « أئمة المذاهب الأربعة » يناصبون العداء لأئمة أهل البيت ، فإن كان المراد خصوص « الأئمة الأربعة » فكلام السيد لا يوحي ذلك ، وإن كان مالك بن أنس معدودا في الخوارج ـ كما في بعض المصادر (2) ـ ، وهم أعداء أمير المؤمنين عليه السلام ، وإن كان المراد سائر
---------------------------
(1) سير أعلام النبلاء 15 | 90.
(2) الكامل ـ للمبرد ـ 1 | 159.
أئمة المذاهب الأربعة فقد كان بينهم من يناصب العداء لآل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وأما أن كلامه يوحي بأن « الأئمة الأربعة » يسيرون على غير مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وأنه يشير غلى أن أهل السنة قد خالفوا الأئمة... فهذا واضح جدا ولا سبيل إلى إنكاره ، لأن أئمة المذاهب يدعون لأنفسهم الاجتهاد في الدين ، فيفتون ويعملون بما يرتأون ، فهم يسيرون على مذاهبهم ، وهي مغايرة لمذهب أهل البيت في كثير من المسائل ، ويتبعهم جمهور أهل السنة لكونهم ـ في الأغلب ـ مقلدين لهم ...
قال ابن تيمية : « وأما الكتاب المنقول عن علي ففيه أشياء لم يأخذ بها أحد من العلماء » (1).
قال : « وقد جمع الشافعي ومحمد بن نصر المروزي كتابا كبيرا في ما لم يأخذ به المسلمون من قول علي ، لكون قول غيره من الصحابة أتبع للكتاب والسنة !! » (2).
وقال السبكي بترجمة المروزي نقلا عن أبي إسحاق الشيرازي : « وصنف كتابا في ما خالف فيه أبو حنيفة عليا وعبد الله رضي الله عنهما » (3).
فهذا بالنسبة إلى مخالفة الأئمة وأتباعهم لأهل البيت عليهم السلام.
لكن في القوم من بقايا بني أمية وأشياعهم من يتفوه بأشياء واضحة الدلالة على النصب والعداء ، (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) (4).
وإلا فما معنى قول أحدهم :
---------------------------
(1) منهاج السنة 4 | 217.
(2) منهاج السنة 4 | 217.
(3) طبقات الشافعية 2 | 247.
(4) سورة آل عمران 3 : 118.
« إن الغاية من الخلافة هي إصلاح الأمة وهدايتها ، وخلافة المرتضى لم تحقق هذه الغاية ، ولم يكن من واجب الأئمة أن تناضل تحت رايته كما كانت مأمورة بذلك في عصر من سبقه. ولقد وجدنا ـ كما دلت الأحاديث ـ انقطاع العناية الربانية عن الأمة في عصره بعد استمرارها في عصرهم ... » !!
« وإن من أعظم أنواع الورع ترك المقاتلات بين المسلمين كما كان من الشيخين ، بخلاف المرتضى » !!
« وإن النبي إنما شرّف المرتضى بشرف الأخوّة ، لحزنه ، وبكائه ، لا لشيء آخر » !! (1).
وما معنى قول الآخر في سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين السبط الشهيد عليه السلام :
« قتل بسيف جده » !!
قال العلامة المنّاوي : « وقد غلب على ابن العربي الغض من أهل البيت حتى قال : قتل بسيف جده » (2).
وما معنى قول ثالث في الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام :
« في نفسي منه شيء » !! (3).
وما معنى قول رابع في الإمام موسى بن جعفر عليه السلام :
« يحتج بحديثه من غير رواية أولاده عنه » (4).
وما معنى قوله في الإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام :
« يروي عن أبيه العجائب » (5).
---------------------------
(1) قرة العينين ـ لشاه ولي الله ـ : 150 ـ 152.
(2) فيض القدير 1 | 205.
(3) الكاشف 1 | 186 عن القطان.
(4) تهذيب التهذيب 2 | 104 عن ابن حبان.
(5) تهذيب التهذيب 7 | 388 عن ابن حبان.
وما معنى قول خامس في الإمام الحسن العسكري عليه السلام :
« ليس بشيء » (1).
ففي القوم من يقول ـ أو يرتضي أن يقال ـ مثل هذه الأشياء في أئمة أهل البيت عليهم السلام ، ومع ذلك يدعي بعضهم أنهم هم المقتدون بأهل البيت والمتمسكون بحبل ودادهم .
لكنهم إذا ما نقل الشيعي عن تاريخ ابن خلكان وغيره : أن مالكا ـ أحد الأئمة الأربعة ـ بقي في بطن اُمّه ثلاث سنين ... قالوا : لماذا نقل هذا ؟! وإذا كان الناقلون لهذه القضية : قاضي القضاة ابن خلكان الشافعي ، وحافظ المغرب ابن عبد البر المالكي ، والمؤرخ الشهير ابن قتيبة ... وأمثالهم ، فما ذنب الشيعي إذا نقلها عنهم ؟! بل لقد حكى الحافظ الذهبي ذلك ولم يتعقبه بشيء ، فقال :
« قال معن والواقدي ومحمد بن الضحاك : حملت أم مالك بمالك ثلاث سنين. وعن الواقدي قال : حملت به سنتين » (2).
وقال : « قال معن القزاز وجماعة : حملت بمالك أمه ثلاث سنين » (3).
وقال الحافظ المالكي القاضي عياض في كتابه المؤلف في فضائل مالك وعلماء مذهبه : « باب في مولد مالك ـ رحمه الله تعالى ـ والحمل به ومدة حياته ووقت وفاته » : « واختلف في حمل أمه به ، فقال ابن نافع الصائغ والواقدي ومعن ومحمد ابن الضحاك : حملت به أمه ثلاث سنين وقال نحوه بكّار بن عبد الله الزبيري وقال : أنضجته ـ والله ـ الرحم. وأنشد الطرماح :
قال ابن المنذر : وهو المعروف .
وروي عن الواقدي أيضا : « إن حمل أمه به سنتان ، قاله عطاف بن خالد » (1).
هذه كلمات أئمة القوم ، وفيهم رؤساء أتباع مالك ، كالقاضي عياض وابن عبد البر .
والسيد رحمه الله لم يقل إلا : « ذكر ابن خلكان في أحوال مالك من وفيات الأعيان : إن مالكا بقي جنينا في بطن أمه ثلاث سنوات. ونص على ذلك ابن قتيبة حيث ذكر مالكا في أصحاب الرأي من كتابه ( المعارف ) ص 170 ، وحيث أورد جماعة زعم أنهم قد حملت بهم أمهاتهم أكثر من وقت الحمل ، صفحة 198 من ( المعارف ) أيضا » .
فقيل :
« ليس في وفيات الأعيان في ترجمة مالك ما ادعى المؤلف ، بل فيه : وقال ابن السمعاني في كتاب الأنساب في ترجمة الأصبحي : إنه ولد في سنة ثلاث أو أربعة وتسعين ، والله أعلم بالصواب » .
أقول :
جاء في « وفيات الأعيان » بترجمة مالك : « وكانت ولادته في سنة خمس وتسعين للهجرة ، وحمل به ثلاث سنين .
وتوفي في شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة ، رضي الله عنه ، فعاش أربع وثمانين سنة ، وقال الواقدي : مات وله تسعون سنة ، وقال ابن الفرات في تاريخه المرتب على السنين : وتوفي مالك بن أنس الأصبحي لعشر
---------------------------
(1) ترتيب المدارك 1 | 111 .
مضين من شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة، وقيل : إنه توفي سنة ثمان وسبعين ومائة ، وقيل : إن مولده سنة تسعين للهجرة ، وقال السمعاني في كتاب ( الأنساب ) في ترجمة الأصبحي : إنه ولد في سنة ثلاث أو أربع وتسعين .
والله أعلم بالصواب » (1).
فلماذا التكذيب والإنكار ؟!
* قال السيد رحمه الله :
2 ـ على أنه لا دليل للجمهور على رجحان شيء من مذاهبهم فضلا عن وجوبها ... وما أظن أحدا يجرؤ على القول بتفضيلهم ـ في علم أو عمل ـ على أئمتنا ، وهم أئمّة العترة الطاهرة...
أقول :
مضافا إلى :
1 ـ أن الأئمة الأربعة تنتهي علومهم إلى أئمة العترة .
2 ـ أن تفضيلهم على غيرهم من أئمة المذاهب السنية غير معلوم .
3 ـ أنه قد وقع الكلام فيما بين أهل السنة أنفسهم حول الأئمة الأربعة علما وعملا .
قال السيد :
3 ـ على أن أهل القرون الثلاثة مطلقا لم يدينوا بشيء من تلك المذاهب أصلا... ولاشيعة يدينون بمذهب الأئمة من أهل البيت ـ وأهل البيت أدرى بالذي فيه ـ وغير الشيعة يعملون بمذاهب العلماء من الصحابة والتابعين ...
قيل :
« قوله : وأهل البيت أدرى بالذي فه حجر على عباد الله وتضييق عليهم أن يعلموا ... » .
أقول :
أما أن أهل البيت أدرى بالذي فيه ، فلا يمتري فيه أحد ، لأنه مقتضى كونهم « أهل البيت ». ومقتضى كونهم « أدرى » أن يكونوا الأولى بالاقتداء والاتباع لمن يريد الوصول إلى « الذي فيه » وإلا لزم ترجيح المفضول ، وهو قبيح عند ذوي الالباب والعقول .
وقد نص الأئمة الشارحون للحديث على هذا المعنى ، ونكتفي بعبارة القاري إذ قال في شرحه في « المرقاة في شرح المشكاة » : « الأظهر هو أن أهل البيت غالبا يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله ... » وستأتي عبارته كاملة .
وأما أن غير الشيعة يعملون بمذاهب العلماء من الصحابة والتابعين ، فهذا ما لا يخفى على من راجع سير الصحابة والتابعين وأخبارهم ، ولاحظ كتب غير الشيعة وأسفارهم ... وقد أورد السيد ـ رحمه الله ـ موارد كثيرة من تلك المذاهب ، وبيّن كيفيه مخالفتها للنصوص الشرعية الواجب العمل بها.. في كتابه « النص والاجتهاد » المطبوع غير مرة ، المنتشر في سائر البلاد...
قال السيد :
4 ـ وما الذي أرتج باب الاجتهاد في وجوه المسلمين بعد أن كان في القرون الثلاثة متوحا على مصرايه ...؟!
قيل :
« نرى المؤلف ف هذه الفقرة قد خرج عن القضية الأساسية في النقاش ، وأثار قضايا فرعية مثل قضية فتح باب الاجتهاد ، وهي قضية خلافية ليس بين السنة والشيعة ، بل بين أهل السنة أنفسهم... » .
أقول :
لم يجب الرجل عن سؤال السيد ! أما أن أهل السنة عادوا في هذه العصور يدعون إلى فتح باب الاجتهاد فذاك رد قطعي على أئمتهم السابقين الذين غلقوه ، وإن كان في القرون الماضية فيهم من يرد على سد باب الاجتهاد بشدة ، حتى ألف الحافظ السيوطي رسالة : « الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض »
هذا ، وقد ثبت تاريخيا أن الحكم في القرن السابع بسد باب الاجتهاد وانحصار المذاهب في الاربعة المعروفة إنما كان استجابة لأمر الحكام الذين ارتأوا ذلك لأغراض سياسية ، وللتفصيل في هذه القضية مجال آخر.
قال السيد :
5 ـ هلم بنا إلى المهمة التي نبهتنا إليها من لم شعث المسلمين...
أقول :
ذكر السيد في جواب الشيخ نقطتين مهمتين للوصول إلى تلك المهمة :
الأولى : أن لم شعث المسلمين ليس موقوفا على عدول الشيعة عن مذهبهم ، ولا على عدول السنة عن مذهبهم .
وفي هذا رد لى بعض الكُتاب المعاصرين من أهل السنة ، وقول
بعضهم بأن المهمة لا تتحقق إلا بعدول الشيعة عن مذهبهم ، وقول البعض الآخر : بأن الشيعة يريدون من أهل السنة العدول عن مذهبهم بحجة تحقيق لم شعث المسلمين .
والثانية : إن تكليف الشيخ وغيره الشيعة بالأخذ بمذاهب الجمهور ، وعدولهم عن مذهبهم ـ لو دار الأمر بين عدولهم وعدول الجمهور ـ في غير محله ، لأن توجيه التكليف بذلك ـ في الفرض المذكور ـ إلى أحدهما دون الآخر يحتاج إلى مرجح ، وتكليف الشيعة دون غيرهم ترجيح بلا مرجح ، بل ترجيح للمرجوح ، بل تكليف بغير المقدور .
نعم ، لا ريب في أن أهل السنة أكثر عددا من الشيعة ، ولكن الأكثرية العددية لا تكون دليلا على الحقية فضلا عن الأحقية ، وإلا لزم أن يكون الحق مع غير المسلمين ، لأنهم أكثر عددا منهم في العالم ، وهذا باطل ، مضافا إلى الأدلة والشواهد من الكتاب والسنة .
قيل :
« ولم لا تكون المقابلة كاملة ، فيكون تكليف أهل السنة بذلك ترجيح (1) بلا مرجح ، بل ترجيح للمرجوح » .
أقول :
وهذا كلام في غير محله ، لأن الهدف هو لم شعث المسلمين ، وقد قال السيد : « الذي أراه أن ذلك ليس موقوفا على عدول الشيعة عن مذهبهم ، ولا على عدول أهل السنة عن مذهبهم » فهو لا يكلفهم بالعدول لتحقق لم الشعث حتى يكون ترجيحا بلا مرجح أو مع المرجح ، لكن الشيخ هو الذي كلّف
الشيعة بالعدول عن مذهبهم ، فأجاب السيد بما أوضحناه .
على أن تكليف أهل اسنة بالعدول عن مذهبهم ترجيح مع المرجح ، وذلك للأدلة التي سيقيمها السيد بالتفصيل ، وخلاصة الكلام في ذلك : أنه لو دار الأمر بين اتباع أحد المذاهب الأربعة واتباع مذهب أهل البيت فلا يشك المسلم ، بل العاقل الخبير ، في تقدم مذهب أهل البيت على المذاهب الأربعة المشكوك في تقدمها على سائر مذاهب السنية .
قال السيد :
« نعم يلم الشعث وينتظم عقد الاجتماع بتحريركم مذهب أهل البيت ، واعتباركم إياه أحد مذاهبكم ، حتى يكون نظر كل من الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية ، إلى شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم كنظر بعضهم إلى بعض ، وبهذا يجتمع شمل الملمين فينتظم عقد اجتماعهم » .
قيل :
[ بعد السب والشتم ] : « وأن من أبسط ما يرد به عليه : إن الأئمة الذين يزري بهم وبأتباعهم كل منهم يجل الآخر ، ويعترف بعلمه وفضله ، فالشافعي أخذ عن مالك ، وأخذ عن محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة ، وأحمد أخذ عن الشافعي ، ولم يزل المسلمون يأخذون بعضهم عن بعض ، المالكي عن الشافعي ، والحنفي عن المالكي ، والحنبلي عن الشافعي. وكل منهم عن آخر ، فهل نظرة هذا المفتري وأمثاله إلى هؤلاء وأتباعهم هي نظرة بعضهم إلى بعض ؟ » .
أقول :
كأن الرجل لا يفهم مراد السيد ! أو لا يريد أن يفهمه ! إن السيد يقول :
لينظر كل من أصحاب المذاهب الأربعة إلى شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم كنظر بعضهم إلى بعض ، أي : فكما يرى الشافعية أن مذهب الحنفية مذهب من مذاهب المسلمين ، ويرى الحنفية المالكية كذلك ... وهكذا ... فلينظروا إلى مذهب شيعة آل محمد كذلك ، فإذا نظروا إليهم بهذه النظرة ، وكانت المذاهب كلها من دين الاسلام اجتمع شمل المسلمين وانتظم عقد اجماعهم ، لأنه حين يرى شيعة آل محمد أن أرباب المذاهب الأربعة ينظرون إليهم كنظر بعضهم إلى بعض ، فإنهم أيضا سينظرون إليهم بتلك النظرة .
وقد اوضح السيد ـ رحمه الله ـ مقصوده من « النظر » في عباراته اللاحقة فقال فيها : « فإذا جاز أن تكون المذاهب أربعة ، فلماذا لا يجوز أن تكون خمسة ؟! » .
وتلخص : أن تحقق « المهمة » ليس موقوفا على عدول أحد الجانبين إلى الآخر ، بل يكفي لتحققها قبول أهل السنة لأن تكون المذاهب خمسة .
وحينئذ ، فلو تباحث في هذا الظرف شيعي وسني على أصل من الأصول ، أو فرع من الفروع ، فاقتنع أحدهم بما يقوله الآخر وانتقل إلى مذهبه ، كان كانتقال الحنفي إلى الشافعية أو بالعكس ، وهكذا ... وما أكثره في تراجم الرجال وكتب السير (1).
---------------------------
(1) ومن أطرف ما رأيته في الباب ما ذكره الذهبي ، وأنقله بنصه :
« محمد بن حمد بن خلف أبوبكر البندنيجي حنفش ، الفقيه ، تحنبل ثم تحنف ثم تشفع ، فلذا لقب حنفش ، ولد سنة 453 وسمع الصيريفيني وابن النقور وأبا عليّ بن البنّاء ، وتلا عليه .
وعنه : السمعاني ، وابن عساكر ، وابن سكينة.
قال أحمد بن صالح الختلي : كان يتهاون بالشرائع ، ويعطل ، ويستخف بالحديث وأهله ويلعنهم .
وقال السمعاني : كان يخل بالصلوات .
توفي سنة 538 » ميزان الاعتدال 3 | 528.
وأما قوله : « إن الأئمة الذين يزري بهم وبأتباعهم كل يجل الآخر ويعترف بعلمه وبفضله » ففيه :
أولا : إنا لم نجد في كلمات السيد إزراء بأحد .
وثانياً : إن ما في كتب تراجم علمائهم وسير رجالهم مما يكذّب دعوى « كل يجل الآخر... » كثير ... ولو شئت أن أذكر لذكرت ، لكن يطول بنا المقام ، ويكفيك إن تعلم أن مالكا كان يتكلم في أبي حنيفة كما ذكره الحافظ الخطيب في عداد من كان يتكلم فيه ويرد عليه ( تاريخ 1 | 371 وأن مالكا نفسه تكلم فيه أحمد بن حنبل ( العلل ومعرفة الرجال 1 | 179 ) وآخرون أيضا ( كما في تاريخ بغداد 10 | 224 وجامع بيان العلم ـ للحافظ ابن عبد البر
---------------------------
أقول : كأن هذا الفقيه !! علم أنه لن يفلح بالعمل بمذهب ابن حنبل فالتجأ إلى مذهب أبي حنيفة ، ثم إلى مذهب الشافعي ، فلم ير شيئا من هذه المذاهب بمبرئ للذمة ، ولم يجد فيها ضالته ، وهو يحسب أن لا مذهب سواها ! فخرج عن الدين وضل !!
أما التهاون والإخلال بالصلوات ... فهو موجود في أئمتهم في الفقه والحديث... نكتفي بذكر واحد منهم ، وهو : الشيخ زاهر بن طاهر النيسابوري الشحامي المستملي ـ المتوفى سنة 553 هـ ـ الموصوف في كلمات القوم بالشيخ العالم ، المحدث ، المفيد ، المعمر ، مسند خراسان !! الشاهد ! العمدة في مجلس الحكم !! والذي حدث عنه ـ في خلق كثير ـ غير واحد من أئمتهم كأبي موسى المديني ، والسمعاني ، وابن عساكر ... فقد ذكروا بترجمته أنه كان يخل بالصلاة إخلالا ظاهرا ، حتى أن أخاه منعه من الخروج إلى أصبهان لئلا يفتضح ، لكنه سافر إلى هناك وظهر الأمر كما قال أخوه ، وعرف أهل اصبهان ذلك ، فترك الرواية عنه غير واحد من الحفاظ تورعا ، وكابر وتجاسر آخرون كما قال الذهبي.
ومن هنا ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال 2 | 64 ، بل أدرجه في الضعفاء 1 | 236 ، وابن حجر في لسان الميزان 2 | 470 ، وراجع ترجمته أيضا في سير أعلام النبلاء 20 | 9 ، والعبر 2 | 445 .
وقال الذهبي بترجمة أخيه المشار إليه : « أبو بكر وجيه بن طاهر بن محمد الشحامي ، أخو زاهر ... كان خيرا متواضعا متعبدا لا كأخيه » .
وهل ينفعه ـ بعد شهادة السمعاني والذهبي وغيرهم ـ الاعتذار له بشيء من المعاذير ؟!
ولو شئت أن أذكر المزيد لذكرت !!
المالكي 2 | 157 ـ 158 ) وكان من الفقهاء ، من يتكلم في الحنابلة ، ويبالغ في ذهمهم ، فدس الحنابلة عليه سما ، فمات هو وزوجته وولد له صغير !! ( المنتظم في تاريخ الأمم 10 | 239 ) ومنهم من كان يقول : لو كان لي أمر لأخذت الجزية من الشافعية ( لسان الميزان 5 | 402 ).
قال السيد :
في آخر المراجعة مخاطبا الشيخ : « ما هكذا الظن بكم ولا المعروف من مودتكم في القربى » .
قيل :
« ثم إن قوله : ما هكذا الظن بكم ولا المعروف من مودتكم في القربى » تناقض منه ، فإذا كان أهل السنة يحفظون المودة في القربى ، فلماذا يجهد الشيعة في اتهام أهل السنة بأنهم لم يودوا ذوي القربى ، بل ظلموهم وغصبوهم حقهم ؟ » .
أقول :
لقد لمس السيد من الشيخ ـ لدى اجتماعه به ـ كما نص عليه في « بغية الراغبين » وكذا في مقدمة « المراجعات » المودة في القربى ، فهذا الخطاب للشيخ لا لكل أهل السنة ، فأين التناقض ؟! أما أهل السنة فإن كثيرين منهم لم يحفظوا المودة في القربى ، وقد أوردنا فيما تقدم كلمات بعضهم في حق ذوي القربى ، تلك الكلمات التي أورثت جراحات لا تقل ألما وأثرا عن جراحات السيوف والأسنّة لأسلافهم في ذوي القربى وأشياعهم ، على مدى القرون المتمادية...
قال السيد :
1 ـ ولذا قرنهم بمحكم الكتاب وجعلهم قدوة...
أقول :
هذا إشارة إلى عدة من الأحاديث النبوية الآمرة باتباع العترة والتمسك بهم الأخذ عنهم ، والناهية عن تعليمهم والتقدم عليهم والتخلف عنهم... وسيتعرض لها بالتفصيل .
قال رحمه الله :
2 ـ وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام : « فأين تذهبون ! وأنى تؤفكون !... » .
وقال عليه السلام : « انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم... ».
وقال عليه السلام : « عترته خير العتر... » .
وقال عليه السلام : « نحن الشعار والأصحاب... » .
وقال عليه السلام : « واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد... » .
وقال عليه السلام : « بنا اهتديتم في الظلماء... » .
أقول :
هذه نصوص روايات واردة عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام في كتاب « نهج البلاغة » فهنا مطالب :
1 ـ إن هذه الأوصاف التي نقلها السيد عن نهج البلاغة عن أمير المؤمنين
عليه السلام لا يشك مسلم في كونها حقا وحقيقة واقعة ، سواء كانت أسانيد هذه الكلمات معتبرة أو لا ، وسواء كانت في « نهج البلاغة » أو غيره من الكتب ، وسواء كان « نهج البلاغة » للشريف الرضي أو لأخيه أو غيرهما... وبالجملة فإن متونها تشهد بصدقها !
فهل تشكون ـ أيها المسلمون ـ في أن أهل بيت النبوة « لن يخرجوكم من هدى ولن يعيدوكم في ردى » ؟! وأنهم يصلحون لأن يكونوا قدوة لكم « فإن لبدوا فالبدوا ، وإن نهضوا فانهضوا ، ولا تسبقوهم فتضلوا ، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا » ؟!
وهل يشك عاقل فاهم في جلالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن « عترته خير العتر ، وأسرته خير الأسر ، وشجرته خير الشجر... » ؟! فإن لم يكونوا كذلك ، فأي عترة خير العتر ؟! وأي اسرة خير الأسر ؟! وأي شجرة خير الشجر ؟! آل فلان ؟! أم فلان ؟! أم بنو أمية ؟!
أليس أهل بيته « شجرة النبوة ، ومحط الرسالة ، ومختلف الملائكة... » ؟!
ومن ينكر قوله « ناظرنا ومحبنا ينتظر الرحمة ، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة » إلا العدو المبغض ؟!
ومن المخالف في أن المخالفين لأهل البيت « آثروا عاجلا وأخروا آجلا... » ؟!
وتلخص : أن هذه حقائق ثابتة ، لا شك فيها كي تحتاج إلى سند أو برهان ...
2 ـ على أن السيد ـ رحمه الله ـ إنما استدل بما جاء في « نهج البلاغة » باعتبار أن هذا الكتاب من الكتب المتفق عليها ، لأن الكثيرين من العلماء المحققين من غير الشيعة الإمامية تلقّوه بالقبول ، وتناولوه بالشرح والتفسير والتعليق .
وعلى الجملة ، فإن أحدا لم يشك في أن ما في « نهج البلاغة » من كلام الإمام علي عليه السلام.
نعم ، قال بعضهم : « أكثره » من كلامه ... لوجود ( الخطبة الشقشقية ) فيه ، كما سنشير .
ولولا صحة إسناد الكتاب إلى الإمام علي عليه السلام لما تكلم بعضهم في جامعة ، كابن خلكان حين شكك في أنه الرضي أو المرتضى ، وكالذهبي حين اختلف كلامه ... كما سيأتي .
ولولا صحة إسناده لما شكك آخرون استنادا إلى شبهات واهية كاشتمال الكتاب على « دقة الوصف » و« التنمي اللفظي » ونحو ذلك... مما ستأتي الإشارة إليه .
ومن هنا :
قيل :
« والعجب كل العجب من الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد ، فإنه لما ساق حجج المتشككين في نسبة نهج البلاغة إلى عليّ ـ رضي الله عنه ـ لم يتعرض لقضية السند أبدا ، مع أنه كان ينبغي أن يتعرض لهذه القضية أولا فإذا صح اسند نظرنا في المتن » .
أقول :
كأنّ هذا القائل لم ير بعينه كلمة هذا الشيخ الصريحة في أن أحدا لم يشك في أنّ أكثر ما تضمنه نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام... وستأتي عبارته ، مع التنبيه على السبب في تعبيره بـ « الأكثر » .
وعلى كل حال ، فإن ذكر هذا الشيخ وغيره الأوهام المشككة في « نهج البلاغة » من تلك الجهات ، هو من خير الأدلة على ثبوت الكتاب وصحة نسبته ،
لأنهم يعلمون أن التطرق إلى هذه الأمور إنما يكون بعد الفراغ من البحث السندي .
3 ـ وإن ما حواه كتاب « نهج البلاغة » قد ثبت وتحقق وجوده في كتب العلماء المتقدمين على مؤلفه ، من شيعة وسنة (1).
4 ـ نعم ، يصعب عليهم قبول ( الخطبة الشقشقية ).. والظن الغالب أنه لولا وجودها في « نهج البلاغة لما شكك المتشككون منهم في نسبة شيء من الخطب والكتب والكلمات المروية فيه إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
قيل :
« ومن قرأ خطبته المعروفة بالشقشقية جزم أنه لا يمكن لمن هو في مثل مقام علي ـ رضي الله عنه ـ أن يقول ذلك ، فإن هذا مما يتعارض مع ما صح عنه من أكثر من طريق من تفضيل أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ والثناء عليهما ، وهذه الخطبة المنسوبة زورا وبهتانا إليه ـ رضي الله عنه ـ تنطوي على أسوأ الإزار بكبار الصحابة الكرام : أبي بكر وعمر وعثمان ، وباقي العشرة ، بل فيها سب صراح ، واتهام بخيانة الأمة ، وسخرية لا تصدر إلا عن أمثال الرافضة الذين يجل عليّ ويسمو عن مثل ما يقولون :
ففي الصحيحين : عن ابن عباس ، قال : وضع عمر على سريره ، فتكنّفه الناس يدعون ويثنون ، ويصلون عليه قبل أن يرفع ، وأنا فيهم ، فلم يرعني إلا رجل قد أخذ بمنكبي من ورائي ، فالتفت فإذا هو علي ، وترحم على عمر ، وقال : ماخلقت أحداً أحب أن ألقى الله عز وجل بعمله منك ، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك ، وذلك أني كنت كثيرا ما أسمع النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم يقول : جئت أنا وأبو بكر وعمر ... ودخلت أنا
---------------------------
(1) يراجع بهذا الصدد كتاب : « مصادر نهج البلاغة ».
وأبو بكر وعمر ... وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ... فإن كنت لأرجو أو أظن أن يجعلك الله معهما ، البخاري 4 | 197 ، ومسلم 2 | 1858 » .
أقول :
ولعل وجود هذه الخطبة في « نهج البلاغة » هو السبب في قول بعضهم بأن أكثره من كلام الإمام عليه السلام ، فهم من جهة لا يتمكنون من إنكار أصل الكتاب ، ومنجهة أخرى لا يتمكنون من تصديق الخطبة الشقشقية ، لأنها ـ في الحقيقة ـ تهدم أساس المذهب الذي هم عليه :
يقول الشيخ محمّد محيي الدين عبد الحميد : « وليس من شك عند أحد من أدباء هذا العصر ، ولا عند أحد ممن تقدمهم ، في أن أكثر ما تضمنه نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، نعم ليس من شك عند أحد في ذلك... » (1).
لكن الدليل على كونها من كلامه هو التعرض لها أو ذكرها في كلمات العلماء السابقين على الشريف الرضي والمتأخرين عنه ، من إمامية ومعتزلة وسنة ، وإن شئت التفصيل فراجع (2).
وأما أنها تتناقض وما رواه القوم عن الإمام عليه السلام في الثناء على الشيخين وغيرهما ، فالجواب عن ذلك :
أولا : إن الخطبة مروية عند الشيعة وغيرهم ، فهي متفق عليها ، وما رووه عن أمير المؤمنين عليه السلام من الثناء عليهم متفردون بروايته ، ولا تعارض بين المتفرد به والمتفق عليه.
---------------------------
(1) لاحظ مقدمة شرحه على « نهج البلاغة ».
(2) مصار نهج البلاغة وأسانيده.