|
الضمانة التنفيذية للأخلاق
هنالك ضمانات تنفيذية متعددة بخصوص التربية الأخلاقية من جملتها :
1 ـ فطرة الطفل المجبولة على مبادئ الصدق والاخلاص والأمانة والوفاء والإمتناع عن الكذب والنفاق و ... الخ.
2 ـ حسن استعداده لتقبل ما يلقى إليه ، فنفسه كالأرض الخصبة المعدة لاستقبال البذور وتنميتها.
3 ـ حاجته الى وجود ومساعدة الأبوين والمربي ، واستعداده لتقبل أوامرهم ونواهيهم ، من أجل حثهم على تلبية إحتياجاته.
4 ـ التشجيع والتكريم المتواصل حافز يدفع الطفل نحو الفعل والحركة.
5 ـ العقوبة والتوبيخ الذي يلقاه من الوالدين والمربي فيما اذا ارتكب أية مخالفة ، وخشيته من سطوة الكبار.
6 ـ رغبته الفائقة في نيل رضا الآخرين وخاصة الكبار والشخصيات التي يستأنس لها .
7 ـ تنامي وعيه ومداركه ، وهو ما يعد تمهيداً لقبوله بالخضوع لسلطان
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 227 ـ
الرقابة الذاتية.
وعلى كل حال يجب ان تكون تصرفاتنا التي هي في الواقع انعكاس لذواتنا الباطنية نموذجاً مؤثراً ودرساً بليغاً يحتذي به ويحفزه للتشبه بنا .
إعادة البناء الأخلاقي
قد تضطرنا الحاجة أحياناً الى اعادة صياغة أخلاق الطفل بسبب غفلة المربي أو خطئه ، او بسبب تهاونه ، أو قد يكمن سبب ذلك في انحراف الطفل وخروجه عن المسار المرسوم له .
من المحتمل أن يتعرض الطفل لبعض المنزلقات متأثراً برفقاء السوء أو الأجواء الفاسدة فيتعود على بعض الطباع السقيمة. وفي مثل هذه الحالة يتحتم على المربي المبادرة الى ازالة النواقص وتطهير ذهن الطفل من الشوائب وإعادة صياغة أخلاقه وسلوكيته من جديد .
يعيش أطفالنا في ظروف وأوضاع تقضي ببناء طباعهم وشخصيتهم والمبادئ الأخلاقية فيهم ، واذا حصل تأخير في انجاز هذا الواجب فسيسبب حدوث معضله تعقد مهمة المربي في المراحل اللاحقة.
ولا لوم على المربي لو تعرض الطفل الذي تحت رعايته لأي خلل تربوي ، فالاختلالات السلوكية لابد من ظهورها بشكل أو آخر بسبب الهواجس النفسية والعلاقات السيئة رغم جميع انواع الرقابة المفروضة على اعمال الطفل.
فمن غير المعقول أن نتوقع عدم حصول اي سهو أو غفلة منا أو من جانب الطفل.
ولابد لهذه الحالة من البروز شئنا ذلك أم ابينا.
أما دورنا فهو الحذر
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 228 ـ
أولاً من عدم تغلغلها وتجذرها في الأعماق والإسراع ثانياً الى إزالتها ومحو آثارها.
ومن الضروري الالتفات الى نقطتين في موضوع إعادة البناء الأخلاقي ، وهما :
1 ـ التقويم : تظهر لدى الأطفال أحياناً بعض التصرفات التي لانرى ضرورة في الإجهاز عليها واقتلاعها من الجذور ، بل يجب السعي لاصلاحها وتقويمها ووضعها في المسار الصحيح ، سواء كانت تلك التصرفات سلبية أم ايجابية.
وكمثال على الجانب الإيجابي الكرم باعتباره خصلة نبيلة ، إلا أنه يجب أن لا يخرج الى حد التبذير فيكون وبالاً عليه وصدمة تمنعه من مواصلة الكرم ، والهدوء صفة جميلة لدى الطفل ولكن ينبغي أن لا يعوقه عن الحركة واللعب.
ومن البديهي أن حب الظهور يعد أمراً طبيعياً ولكن ليس بالشكل الذي يلغي وجود الآخرين.
والغضب لحفظ كيانه لايعتبر تصرفاً مستهجناً ولكن بشرط أن لا يقوده الى التجاوز أو العدوان على الآخرين.
2 ـ التغيير : وهنالك تصرفات أخرى يجب إزالتها ، وذلك لقبحها من الوجهة الأخلاقية والدينية ، مثل السرقة فهي تستوجب القضاء المبرم عليها.
وكذلك التجاسر باليد أو باللسان على الوالدين والآخرين ، فهو عمل غير مؤدب ، وعلينا استئصاله من الطفل ، وأمثال ذلك الكثير من التصرفات الأخرى كالغطرسة ، واستخدام القوة ، والطغيان والعربدة.
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 229 ـ
ولكننا مع الأسف نلاحظ بعض المربين أو الوالدين الذين يتجاهلون مثل هذه التصرفات الخاطئة من الطفل متوهمين الحرص عليه ، ومتناسين أن استمرار هذه الظواهر يؤدي في نهاية المطاف الى استفحالها وتأصلها في نفسه ، حتى يتعذر القضاء عليها بعدئذ ، فيجب علينا عدم السماح للطفل بأن ينشأ على الطيش والعدوانية ، ولايكون مهرجاً أو مشاغباً يستهزئ بالآخرين .
معرفة الأسباب والإجراءات الواجبة
وقبل اتخاذ أي إجراء لإعادة بناء سلوكية الطفل ، يجب السعي أولاً لمعرفة السبب أو الأسباب الكامنة وراء هذا التصرف الخاطئ أو ذاك.
فعلينا معرفة الدافع الذي يدعوه الى الكذب او السرقة أو الغضب ، أو ما هو السبب الكامن وراء موقفه اللاأبالى تجاه حدث هام ؟
يتبين من الدراسات بأن الطفل يعتبر بعض التصرفات الخاطئة نوعاً من اللعب او التسلية غير مدرك لمدى قبحها .
ومن البديهي أن موقفنا حيال تصرف آخر صادر عن وعي ومعرفة.
وحتى بشأن الانحرافات الجنسية فليس لدى صغار السن اي تصور بانها جريمة او انحراف ، وواضح جداً إنها ناشئة من جهل الطفل وما تعود عليه من ممارسات خاطئة .
وقد يتيسر رفعها من خلال اسداء بعض النصائح والتوجيهات.
ومن خلال معرفتنا لأسباب السلوك وعلله تتهيأ لنا إمكانية إحداث التغيير الأخلاقي المطلوب عن طريق أتباع السبل الثلاثة التالية :
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 230 ـ
1 ـ عن طريق الأوامر والنواهي التي يصدرها الكبار ، والأشخاص الذين يحبهم الطفل.
2 ـ عن طريق مخالطة الأتراب والأقران.
3 ـ عن طريق النضوج الفكري والعقلي .
وفي جميع الأحوال يبقى المبدأ الأساسي في التربية هو التزام الإعتدال مع إعطاء الأهمية لأنماط التعامل مع الطفل ، وتسليحه بالوعي اللازم ، والمعرفة بمناهج الإصلاح لأنها من المستلزمات المهمة في شؤون التربية.
مناهج الاصلاح
هنالك مناهج وأصول لابد من أتباعها سواء في البناء الأخلاقي أم في الاصلاح التربوي ، وأهمها ما يلي :
1 ـ المحبة : وهي شيء أساسي في تهيئة الأرضية في التربية الأخلاقية. فحين يلمس الطفل العطف والحنان والمحبة من ذويه ، يتعلق بهم وينشد اليهم ، ويصبح مستعداً للاذعان لأية أوامر او نواه تصدر عنهم.
وانطلاقاً من هذه النظرة يتوجب علينا بذل مايمكن من المحبة للطفل لأنها من متطلباته النفسية أولاً ، ولكونها ثانياً من العوامل الفاعلة في تحقيق أهداف المربي.
2 ـ التنبيه والتذكير : من المستحسن تذكير الطفل دوماً بسلوكه ، وتنبيهه الى الخطأ من أفعاله وان عليه اصلاحها وإلا فستكون النتائج قاسية ، ولا
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 231 ـ
تكتفوا بالاشارة الى هذا الموضوع مرة واحدة بل يجب توعيته وردعه باستمرار ، فهو طفل وكثير النسيان ، وتذكيره بين الفينة والأخرى الى تقويم تصرفاته الخاطئة أمر ضروري .
3 ـ النظرة ذات المغزى : يمكن أحياناً تنبيه الطفل الى خطئه وإعادته الى الطريق الصواب من خلال النظرة المعبرة اليه، فإذا أتى بفعل مستهجن يكفي أن ينظر اليه شزراً وبلا أي كلام ، فمثل هذه النظرة تؤدي دورها في إصلاح سلوكه .
ولو أبدى أي عناد لأبويه عبروا له عن انزعاجكم بواسطة نظرة الغضب واستبعدوا طابع اللين والمرونة.
4 ـ اللوم والغضب : واذا لم تجد معه نفعاً الأساليب المارة الذكر ، يتوجب عليكم حينئذ توجيه اللوم والتقريع اليه ومكاشفته بعيوبه ليتيسر لكم اصلاحه .
بل وقد تضطرون ايضاً لهجره وعدم التكلم معه ، بشرط أن يكون في هجركم له درس وتوجيه له أثره البالغ فيه ، وأن لايستمر طويلاً بل يتحول بعد برهة وجيزة الى مصالحة .
5 ـ التهديد والإنذار : والخوف من العقوبة رادع ايضاً.
ففي بعض الحالات يخشى الطفل من عاقبة الفعل حين تخويفه بالعقوبة التي سينالها جزاء له وفي نفس الوقت يجب الانتباه الى عدم استغلال مشاعره العاطفية وقلبه الرقيق ، بحيث لايجد نفسه محشوراً في طريق مسدود فتؤدي الى
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 232 ـ
ردود فعل سلبية ، كما ويجب عدم تخويفه بالأماكن المظلمة والمرعبة ، فيترك على حياته العاطفية آثاراً سلبية .
6 ـ العقوبة : حينما نرى أن أياً من الأساليب السابقة لاتجدي نفعاً ، نضطرالى اللجوء الى استخدام العقوبة التي لاينبغي أن تدخل ـ طبعاً ـ في اطار الضوابط الشرعية الموجبة للدية .
وعلينا عدم الخروج عن حد الإتزان والإنصاف ، ولانجعل منه كبش فداء لتهدئة غضبنا .
ولاتكون العقوبة بدنية دائماً ، بل قد يكون حرمانه من الحياة الجماعية او طرده منها رادعاً مؤثراً ايضاً في هذا الصدد.
التأثير السلبي للضغط
لا جدال في ضرورة وجود عوامل السيطرة في البيت إلا إننا نرفض أسلوب استعراض القوة من قبل الأبوين والمربي.
ويجب ان لايصل بنا الحال الى الاستبداد في إدارة شؤون الطفل.
فكثيراً ما يصاب الأطفال الذين يساسون بأسلوب الإستبداد ويقبلون على الطاعة خوفاً ، بنوع من الكآبة وحدة المزاج ، واذا ما كبروا ووجدوا القدرة على الاستقلال فلن ينقادوا لأحد بأي شكل من الأشكال.
من المعروف أن الضغوط المتزايدة تشل سعي الطفل وحركته ، وتقتل فيه الرغبة في بلوغ الحرية التي تعتبر الدافع وراء بذله لأقصى جهوده .
فقد تنجح الضغوط الكثيرة في لجمه لعدة لحظات أو أيام ، لكنها ستفتح الطريق أمامه تدريجياً نحو التحايل ، والحصول على مخرج منها ، والتوجه نحو
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 233 ـ
الاستقلال و الإعتماد على النفس.
وعلينا أن ندرك من جهة أخرى ان الله قد جعل من الوالدين والمربين أمناء على الطفل فلا يجوز لهم معاملته من موقع القوة المطلقة ، وانما هم مكلفون بتربية طاقاته الكامنة ، لاوضع أنفسهم وإياه في طريق مسدود من الوجهة الأخلاقية والتربوية.
بل ان الحال يتطلب تركيز الجهد على خلق نوع من التآلف والمحبة بينهم وبينه وارشاده نحو الكمال ، ومثل هذا الأسلوب ألطف وأجدى نفعاً .
الحنان والتربية الأخلاقية
هناك مثل يقول : بطراوة اللسان يمكن استخراج الحية من غارها ، وبدماثة الأخلاق يتيسر ترويض الوحوش فانتم ومن خلال تعاملكم اللطيف تسطيعون الإمساك بزمام الطفل العنيد وقيادته نحو اصلاح سلوكه ، ولم يكن الحديث الوارد عن رسول الله (ص) : « انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق » إلا انطلاقا من هذه الرؤية التي تهتم بدور الرفق وحسن الخلق في البناء الأخلاقي.
وأهم عبارة يمكن الإشارة اليها في هذا الصدد هي أن حنان الوالدين والمربي أفضل ضمانة لاتزان عواطف الطفل وانفعالاته ، ولصيانته من الكثير من انواع الإنحراف وردود الفعل المتشنجة.
يتضمن التعامل العاطفي فائدة أخرى ايضاً وهي عدم تعويد الطفل على قساوة القلب ، بل يقوي في نفسه صفة التواد والتراحم ويؤدي بالطفل في ما بعد الى العيش في ظروف عاطفية سليمة .
نحن نعلم طبعاً أن الاهتمام المحض بالجوانب العاطفية والشعورية المجردة للطفل قد يقتل فيه روح
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 234 ـ
التعاون ويتسبب في دفعه الى بعض التصرفات المستهجنة.
ولا شك ان الحذر من بروز مثل هذه الحالات يقتضي أيضاً الإلتفات الى أن تأثير المحبة بشكل عام أرجى من تأثير الزجر والعقوبة.
حدود طموحاتنا المرجوة
وهذه آخر مسألة نطرحها في هذا المجال ، وهي : ما هو مدى طموحاتنا المرجوة من الطفل ؟ والإجابة على هذا التسأول تتطلب تناول الموضوع من جوانب متعددة ،
يتوقف أهمها على الاجابة على الاسئلة التالية :
مامقدار المواضيع والمعلومات التي علمناها للطفل ؟ والى أي مدى كنا صادقين معه ؟ والى أي حد بذلنا الجهود لتطهير الأجواء التي يعيش فيها من الأوبئة ؟ وهل أننا لم نخلط بين الأغراض الشخصية والحسابات التربوية في تقديم الآراء الأخلاقية له ؟ وهل كان الدافع في معاقبتنا له أفراغ العقد الشخصية أم أستهدف تربية الطفل ؟
وما الذي قدمناه للطفل لكي نرتجي منه الآن خيراً ؟ و ... الخ.
وعلى كل حال فلا ننسى عدم وجوب عقد الأمل على الطفل ، فهو طفل ولايمتلك أية عقلية ناضجة ، ولايزال رهين عواطفه ومشاعره ، ومشدوداً الى لذاته الظاهرية.
فلانرتجي منه الإيثار ونكران الذات ، وعلينا أن ننتبه الى عدم تعوده على الطباع البذيئة والدلال ، مع عدم التدقيق عليه في كل صغيرة وكبيرة .
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 235 ـ
قد نلاحظ على الأطفال في بعض الحالات صفات سيئة كالبخل والحرص والأنانية واللاأبالية.
وعلى الوالدين التعامل مع هذه الخصائص بعقل وذكاء.
وينبغي عليهم ، بالإضافة الى مراعاة حريته النسبية ، أن يعلموا بأن تربية الطفل على التحمل والاخلاص والصلاح تحتاج الى فترة زمنية طويلة ، ويجب عند ذاك اغتنام الفرص المناسبة وعدم تفويتها .
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 237 ـ
ـ 7 ـ
التربية والشجاعة الاخلاقية
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 239 ـ
المقدمة :
لو نظرنا الى الأخلاق بمنظار شامل وعميق لوجدناها تشمل كافة القواعد والآداب التي تسود السلوك والعلاقات الإنسانية وسبل الحفاظ عليها.
فهي تتضمن سلوك الإنسان من ناحية ، والعادات والملكات والفضائل من ناحية اخرى.
وبعضها يشمل الجرأة والشهامة والرشاد التي تعد من أسمى المزايا الأخلاقية.
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 241 ـ
الجرأة وثمارها
لقد ذكروا ان الجرأة تعاكس الخوف ، والجبن ، فقالوا : الجريء من لاينهار ولايتداعى لا في السراء ولا في الضراء ، ويمارس أعمالاً يعجز عنها الآخرون نتيجة خوفهم ، والجريء من لايتنازل عن موقفه عند ما يثبت له بالأدلة والبراهين صواب تفكيره واعتقاده ، واذا ما ثبت له خطل رأيه فهو يؤوب عنه ويتوب حتى لو لبث فيه عمرا.
والجريء من يتحمل الصدمات والضغوط من أجل بلوغ الهدف ولاينتابه الهلع ازاء الآلام والمشقات ، ولا تعيقه آلاف الموانع والعقبات عن السعي والمثابرة.
وأخيراً فان الجريء هو من لاينسى هدفه حتى وان كان غارقاً في الصعوبات والمحن ولايتداعى امامها.
ومن علائم الإنسان الجريء أنه دائم البحث عن الحقيقة ، ومتخذاً من العدالة والطهارة والصمود امام الأهواء شعاراً له .
ان الإنسان الجريء يقاتل من اجل احياء الحق ، وقد يغلب ولكنه لا يتزعزع ، فهو ذلك الإنسان الذي يصمد امام سيل الإنتقادات ويستقبلها بصدر رحب.
والجريء هو ذلك الشهيد الذي وقف مرفوع الرأس وسط الضجيج ولائمة الاعداء.
واخيراً فان الجريء والشجاع هو ذلك الإنسان الذي يرى نفسه على حقيقتها بعيداً عن التفاخر والأنانية.
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 242 ـ
عواقب الجبن
لقد ذكرنا ان الجبن يتناقض مع الجرأة ، حيث تتجسد آثاره على هيئة المداهنة والتملق والإستسلام.
فالجبان من يبدي للآخرين خلاف ما يعتقد ، وهو الذي يتملق لشخص ويصفه بالفضائل والخصال التي لايؤمن هو بها .
والجبان هو الذي يهز رأسه استحساناً عندما يمدح بدل أن يرفض ، ويغمره السرور عندما يوصف بالفهم ، ويبارك في داخله لمن يمتدح تقواه .
وأخيراً فإن من يتكلم وفقاً لأهواء الآخرين ويتحدث ارضاء للناس لا ارضاء لله تعالى وللضمير فهو جبان ورعديد ايضاً.
فالجبناء يخشون الحقيقة ويهربون منها لكي لا تنكشف سرائرهم وواقعهم أمام الملأ، ولايراجعون الطبيب كي لايعرفوا انهم مرضى .
فالمجتمع يعج باسرى التقاليد المقيتة والأعراف الخاطئة التي تتحكم بهم ، وكثيراً ما توقعهم في قيود الاحراج ، فليس لديهم الجرأة والإقدام على التخلص من قيود افكارهم الطبقية والقومية ، والولوج في عالم الحرية ، وذلك لانهم يفتقدون الجرأة.
وكثيراً ما نراهم يرتدون من الثياب ما يرضي المجتمع ، ويأكلون ، ويشترون البيوت بالقروض او بشتى السبل الأخرى ، ولايمتلكون الشجاعة اللازمة للخروج من حدود القيود التي فرضوها على أنفسهم.
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 243 ـ
أسرى الجبن
ما اكثر الناس المدمنين على الخمر ، وغيره من المعاصي ، ولايمتلكون جرأة التخلي عن أعمالهم ؛ فهم يوكلون تركها الى الغد ، وهؤلاء هم الأسرى.
اسرى الجبن والخوف ، وفي ميدان العلم والعلماء نواجه اشخاصاً لايمتلكون جواباً صحيحاً للأسئلة التي تطرح عليهم ، وليس لديهم الجرأة للتصريح بجهلهم بالنسبة للموضوع الذي سئلوا عنه ويقفزون على الجواب ، ويتهمون الناس بالخطأ ، ويضعون العراقيل في طريق الآخرين ، ويسخرون من غيرهم ، ليكون ذلك ستاراً لجبنهم ، ويمكن تشخيص باقي الأسرى كالمرائين والمزيفين والكذابين والمكثرين من مدح أنفسهم.
آلية الدفاع أمام الجبن :
اننا نتستر احياناً على خوفنا بالمرض ونشعر بالامتنان لحالات المرض التي تداهمنا ؛ لأن هذه الحالة تنقذنا من العذاب الذي يكمن في أعماقنا.
فقد لانملك الثياب الفاخرة التي نرتديها ونذهب الى دعوة فنحتج بالمرض .
انه بلاء حقاً فنحن نبرئ أنفسنا من عدم الرغبة في حضور مثل هذه المجالس ، لاسيما الذي يعتبر منا قيمة شخصه في الزي والثياب ، نتيجة لفقدانه القيم والإعتبارات الذاتية.
وقد نجهل الصلاة والفرائض وليست لدينا الجرأة على الإفصاح عن ذلك امام المضيف ، فنعتذر بأننا لانستطيع النوم في بيوت الآخرين ، قائلين : لابد ان نذهب الى بيتنا ، وقد لا نهب
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 244 ـ
لمساعدة الفقير ولا نجرؤ على ذكر ذلك امام الآخرين فنتذرع بأن مساعدة الفقير تدفعه الى التكاسل ، ولانضيف شيئاً على أجرة العامل متذرعين بأنه يصبح مسرفاً وكسولاً.
فوائد الجرأة :
إن الخطوات الإيجابية التي شهدتها البشرية على مدى التاريخ كانت من قبل الجسورين والشجعان ، فاساس كل تطور علمي وحضاري هو تبلور الأفكار التي أفرزت التطورات والثورات التي تتمخض عن البطولات والتضحيات.
فعندما يبرهن المرء على جرأته وشهامته يترسخ في ذاته مثال العظمة والجلال والقدرة والطهارة الملكوتية ، ويترك بصماته على الكون ، ويسخر الأحداث كما يريد ، ويصبغها بصبغته ، ويوجهها كما يشاء .
فقادة الفكر والزعماء الكبار تمكنوا من خلال الجرأة التي أبدوها أن يجتازوا العراقيل والمشاكل ، وأن يخلدوا افكارهم في هذا العالم.
فكم من الأفكار انتشرت في ظل جرأة الأشخاص ! وما اكثر الذين تجرعوا كأس الموت في هذا السبيل أو نالوا الشهادة.
فسقراط تجرع كأس السم في الثانية والسبعين من عمره ولم ينثن كي تبقى فكرته حية ، وغاليلو ، وكبرنيكوس ، ولافوازيه ... كانوا من نفس ذلك الطراز.
اما في حقل علماء الدين ، فهنالك الكثير من اضراب هؤلاء الشهداء ، وكثرتهم بالقدر الذي لايمكن ذكر اسمائهم ، فقد نزل المنشار على رأس النبي زكريا ( عليه السلام ) ووضع رأس يحيى ( عليه السلام ) المقطوع
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 245 ـ
في طست من ذهب ، وسقط علي ( عليه السلام ) شهيدا بسيف الجهل الغاشم ، وسم الحسن ( عليه السلام ) وأنصاره ... كل ذلك من أجل أن تبقى عقائدهم وأفكارهم ، وتحيا الحقيقة خالدة .
وهكذا فان ما لدينا في الجانب العلمي والمعارف ، والتاريخ والآداب قد جاء من خلال الجرأة.
اضرار الجبن :
وكما ان كياننا وحياتنا وتراثنا الإجتماعي جاء من خلال الجرأة فإن زوال وضياع معظم قيمنا كان في ظل الجبن.
فالجبان يرى نفسه مكبلاً بقيود التبعية ... هذه القيود التي يتصور ان الخلاص منها لايتحقق الا بالمكر والحيلة والتشبث بالتملق والثرثرة والجبان ضعيف ، يموت مرات ومرات قبل الموت ، فهو ميت متحرك ، ومتقنع دائماً بقناع الحيلة والرياء ، وقد اعتاد على خلط الإمور على نفسه وعلى الآخرين ... يحب الانعزال ، ويفضل الانزواء ، ويميل الى خلق حواجز بينه وبين الآخرين ، لأنه غير قادر على العيش معهم .
ان التظاهر بالفضيلة ، والازدواجية بين الفكر والعمل ، وحتى الانتحار ، وبعبارة اخرى كل انواع انعدام الجرأة التي يتصف بها البعض في ان يكونوا صادقين او احياء ما هي الا افرازات لصفة الجبن.
فضرر الجبناء على المجتمع هو أنهم يحرفون نظام المجتمع عن مسيرته الطبيعية ، لانهم في هلع من كل انسان وكل شيء ... يتسابقون على طريق الظلم والعدوان.
وقد يسبب الجبن لكنة في اللسان لان الجبان يخاف عندما
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 246 ـ
يريد ان يتحدث ويصاب بالهلع ، وهذا التلكؤ يبقى لديه الى الأبد.
انواع الجرأة :
يمكن تقسيم الجرأة من الناحية الكيفية والظاهرية الى قسمين : الجرأة المادية او البدنية ، والجرأة الروحية.
وانطلاقاً مما طرح في علم النفس ، فإن هذين القسمين لا ينفصلان .
فاذا كان الإنسان شجاعاً من الناحية الجسمية فهو شجاع ـ الى حد ما ـ من الناحية النفسية.
اما اذا كان شجاعاً من الناحية النفسية ايضاً فذلك خير وافضل.
ضرورة تربية صفة الجرأة :
قبل الدخول في البحث يجب ان نرى هل من الضروري تربية الناس على الجرأة في عصرنا هذا أم لا ؟ وهل من الصواب تربية الأطفال على الجرأة في ظل الظروف الراهنة والإمكانات المتاحة ؟ ان الجواب على هذا التساؤل سلبي من منظار البعض لأنهم يعتقدون أن هذا الأمر يهيء الأرضية لشقاء وحرمان البشر.
ويسود هذا النحو من التفكير بين اتباع المذاهب المادية ، وذلك لأن مسألة الحياة الأخرى غير مطروحة لديهم ، فكل ما يفقدونه يعني عندهم خسارة خرجت من جيوبهم ، وشعارهم هو ان استغلال مواهب الحياة المتوفرة يتطلب أكل الخبز بثمنه اليوم.
اما الالهيون فيقولون بأنه لايمكن النيل من الحقيقة لدرء الأذى عن أنفسنا.
فان اظهار الجرأة وان كان يسبب الضرر في بعض الموارد ، ولكن من مصلحة الإنسانية القبول بهذا الضرر ، لأن الحياة بجمالها وزبرجها لا
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 247 ـ
تقارن بعار الجبن، ومن ناحية اخرى فان الحاجز الوحيد الذي يقف امام الشر والفساد والإستبداد ويقاومها هو الجرأة والشجاعة.
فليس من الضرورة ان يكون كل شخص في هذه الدنيا بطلاً وقوياً ، ولكن من الضرورة بمكان ان يكون كل شخص شجاعاً وجريئاً.
ضرورة تربية صفة الجرأة على المستوى الفردي :
الجرأة ضرورة للإنسان في كل مجالات الحياة.
فالطفل الذي يريد أن يكون أميناً وصادقاً ومخلصاً في الحياة لابد أن يكون جريئاً.
والطفل الذي يريد ان يظهر على حقيقته ويبتعد عن الرياء والكذب والمراوغة والخداع والمكر فهو بأمس الحاجة الى الجرأة.
وأخيراً ، فالطفل الذي يريد ان يصون شرفه وكرامته ، وان يدافع عن نفسه يجب ان يكون جريئاً.
فلا علاقة لتقدم وارتقاء الأمم وافراد المجتمع بتكامل أجسامهم وطولها ، بل بما لديهم من جرأة أخلاقية ، لأن اغلب حالات الشقاء والإخفاق ، والأخطاء والفساد المنتشر في المجتمع ناتجة عن ضعف الروح وهوان ارادة الأمة.
فكثيراً ما نرى في هذه الدنيا اشخاص لديهم مشاريع وأهداف عملاقة اضافة الى الخطط الدقيقة ، الا انهم لايمتلكون الجرأة في تطبيقها .
وعلى اية حال ؛ فان الجرأة والصلاح من أهم عوامل استقلال الإنسان.
ان الذين يريدون ان يكون وقتهم ومالهم ملكاً لهم ولا يكونون ظلاً للآخرين ينبغي ان يكونوا جريئين يفكرون بأنفسهم ويطبقون ما يرونه مناسباً .
فالجبان مستسلم امام الميول والأهواء ولايستطيع الصمود امام الأحداث الطارئة ، بل سرعان ما ينهار في مواجهة الأفكار المباغتة فقد ينتقم من نفسه
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 248 ـ
او ينتحر .
وخلاصة الأمر ، فالجبان مخلوق لا قيمة له ، فهو يبيح للآخرين حرية التصرف به كما يشاءون عندما يواجهه ادنى شكل من أشكال الضغوط.
ومن الناحية الإجتماعية :
تدلل التجارب بأنه كلما ازداد الاقدام والجرأة في المجتمع ، كان المجتمع اكثر حيوية ونبوغاً ، واكثر تطوراً فالمجتمع بحاجة للجرأة كي يستطيع الصمود امام المؤثرات السلبية ، ويحول دون انتشار الشرور والمفاسد.
فندرة الأخلاق السامية والفضائل والمكارم في المجتمعات ، وتسلط الاذلاء والمفسدين وقصيري النظر على الآخرين يعود سببه الى فقدان الجرأة.
فما لم تكن الجرأة موجودة لا تتضح الحقوق والواجبات ، ولايندفع الناس نحو الرقي والسمو فاصحاب الجرأة يسرون كسريان الدم والروح في مجتمعاتهم ، وهم اساس كرامة الشعب.
فالمسلمون يتأسون بالإمام علي ( عليه السلام ) والحسن والحسين ( عليهم السلام ) ، وباقي المجتمعات تتاسى بأبطالها ايضاً.
وباختصار ، حينما تتبلور أخلاق المجتمع على اساس الجبن والخوف ، تتغلب السيئات على الحسنات ويتفشى الهوان.
في نظر الدين :
لم تتقدم الأهداف النبيلة في العالم ، ولم تترسخ الا بعد اصطدامها بالعقبات ثم مواجهتها بالثبات والصمود.
فقانون الدين يفرض ان يصمد
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 249 ـ
الأفراد في سبيل الدفاع عن عقائدهم التي أمنوا بها بالرغم من انهم قد يدفعون ارواحهم ثمناً لذلك ، وهذا هو تكليفهم ومسؤوليتهم.
ان الظلم جريمة والخضوع للظلم جريمة مضاعفة .
يقول القرآن الكريم « لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ » (1).
يجب ان تكون للمظلوم جرأة ، فيصرخ وينادي مجاهراً بالحق في كل مكان وامام كل ظالم .
يقول النبي الأكرم (ص) : « أفضل الجهاد عند الله كلمة حق امام سلطان جائر ».
فهؤلاء الذين يعجزون عن بيان الحقيقة هم ـ في الواقع ـ منحرفون عن الحق ، بينما الحقيقة لم يصدر منها أية اساءة ضدنا .
في نظر العلم :
ان انتشار العلوم والمعارف ، والتعرف على اسرار السماوات والأرض حدث في ظل جهاد وتضحيات واستقامة وشجاعة الرجال العظماء الذين كانوا اكبر من زمانهم وعصرهم.
فلقد كان هؤلاء يكافحون العقبات والمشاكل الاجتماعية التي كانت تعترض طريق انتشار واتساع المعارف ، وكان هذا ضرورياً لانتشار العلوم.
والعلوم بأمس الحاجة الى شجاعة العلماء الذين يجتهدون في سبيل تحقيق اهدافهم.
**************************************************************
(1) النساء : 128.
تربية الطفل دينيا وأخلاقيا ـ 250 ـ
هل يمكن تربية الجرأة لدى الأطفال ؟
ان الجواب على هذا التساؤل ايجابي لحسن الحظ ، لأن الجرأة امر فطري والدليل على فطريته هو : ان الأطفال جريئون الا ان الجبن يستحوذ عليهم فيما بعد في ظل تربيتنا لهم .
اننا نميل ـ ذاتياً ـ الى الجرأة والشجاعة ، ويغمرنا السرور عندما نسمع بأن البعض قد دافع عن نفسه حتى اللحظة الأخيرة.
ووقف أمام العدو وقال كلمة الحق، فعندما نسمع ان حجر بن عدي واجه السيف والقبر الضيق ولم يستسلم نبارك له في قلوبنا ، وبالعكس نتألم عندما نسمع ان شخصاً آخر قد استسلم وخضع للذل ليعيش يومين آخرين في هذه الدنيا ، ونوبخه على ذلك.
فالذي يدفعنا للتشجيع هو السباحة ضد التيار ، وإلا فبإمكان كل ميت السباحة منحدراً مع تيار الماء.
وبإمكاننا أن نعتبر الجرأة فطرية من وجهة نظر الدين ؛ لأن الله تعالى لطيف لايرى ولكننا نرى مظاهره .
من أين تنشأ الجرأة ؟
للعثور على الجذور التي منها تنبعث الجرأة ، لابد من تقصي العوامل التالية :
1 ـ الفطرة :
كما اشرنا سابقاً فان الإنسان يولد وفيه نفحة من الباري المقتدر في جانب
| |