قال : ( أحسنتم وأجملتم ، أرى شيئاً سنقيمه بألسنتنا ) ، قال : ( فهذا الأثر لا إشكال فيه وبه يتّضح معنى ما تقدّم ... ولعلّ من روى تلك الآثار السابقة عنه حرّفها ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان ، فلزم ما لزم من الإشكال ، فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك ) .
قال السيوطي بعد إيراد الأجوبة عن حديث عثمان : ( وبعد ، فهذه الأجوبة لا يصحّ منها شيء من حديث عائشة ، أمّا الجواب بالتضعيف فلأنّ إسناده صحيح كما ترى ... ) (1) .
أقول : هذه عمدة ما ورد في هذا الباب ممّا التزموا بصحّته ، وقد عرفت أن لا تأويل صحيح له عندهم ، فهم متورّطون في أمر خطره عظيم ، إمّا الطعن في القرآن ، وإمّا الطعن في هؤلاء الصحابة الأعيان !!!
ولا ريب في أنّ نسبة ( الخطأ ) إلى ( الصحابة ) أولى منه إلى ( القرآن ) وسيأتي ـ في الفصل الخامس ـ بعض التحقيق في حال الصحابة علماً وعدالة ، هذا أولاً .
وثانياً : إنّ القول بعدم جواز تكذيب المنقول بعد صحّته ـ كما هو مذهب الحافظ ابن حجر العسقلاني ـ غير صحيح ، إذ الحديث إذا خالف الكتاب أو السنّة القطعية أو الضروري من الدين أو الجمع عليه بين المسلمين يطرح وإن كان في الكتب المسمّاة بالصحاح ... كما سيأتي ـ في الفصل الخامس ـ ذكر نماذج من ذلك ...
--------------------
(1) الإتقان 2 : 320 ـ 326 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 270 _
ترجمة عكرمة مولى ابن عباس
أقول : والذي يهوّن الخطب في هذا المقام : أنّ كثيراً من هذه الآثار في سندها ( عكرمة مولى ابن عبّاس ) وخاصّة الحديث عن عثمان : ( إنّ المصاحف لمّا نسخت عرضت عليه فوجد فيها حروفاً من اللحن فقال : اتركوها ... ) والحديث عن ابن عبّاس في الآية : ( أفلم ييئس ... ) حيث قال : ( أظنّ الكتاب كتبها وهو ناعس ) .
( وعكرمة ) من أظهر مصاديق ( الزنادقة ) و ( أعداء الإسلام ) الّذين نسب إليهم اختلاق مثل هذه الآثار ، في كلام جماعة من العلماء الكبار ، كالحكيم الترمذي ، وأبي حيّان الأندلسي ، وصاحب ( المنار ) ...
1 ـ طعنه في الدين :
لقد كان هذا الرجل طاعناً في الإسلام ، مستهتراً بالدين المسلمين ، من أعلام الضلالة ودعاة السوء :
فقد نقلوا عن قوله : إنّما أنزل الله متشابه القرآن ليضلّ به ،
وأنّه قال في وقت الموسم : وددت أنّي اليوم بالموسم وبيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً .
وأنّه وقف على باب مسجد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وقال : ما فيه إلاّ كافر .
وأنّه قدم البصرة فأتاه أيّوب وسليمان التميمي ويونس ، فبينما هو يحدّثهم سمع صوت غناء ، فقال عكرمة : اسكتوا فنستمع ، ثم قال : قاتله الله ، لقد أجاد .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 271 _
وعن أبي بكر بن أبي خيثمة : رأيت في كتاب علي بن المديني : سمعت يحيى ابن سعيد يقول : حدّثوني ـ والله ـ عن أيّوب أنّه ذكر : أنّ عكرمة لا يحسن الصلاة : قال أيّوب ، أو كان يصلّي ؟!
وعن سماك ، قال : رأيت في يد عكرمة خاتماً من الذهب .
وعن رشدين بن كريب : رأيت عكرمة قد أقيم قائماً في لعب النرد .
2 ـ إنّه كان يرى رأي الخوارج :
وإنّما أخذ أهل إفريقية رأي الصفرية ـ وهم من غلاة الخوارج ـ من عكرمة وذكروا أنه نحل ذلك الرأي إلى ابن عبّاس .
وعن يحيى بن معين : إنّما لم يذكر مالك بن أنس عكرمة ، لأنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفرية .
وقال الذهبي : قد تكلّم الناس في عكرمة ، لأنّه كان يرى رأي الخوارج .
ثمّ إنّه نسب تارة إلى ( الإباضية ) واخرى إلى ( الصفرية ) وثالثة إلى ( نجدة الحروري ) وكأنّه كان كلّما جاء فرقة جعل نفسه منهم طمعاً في دنياهم ... قالوا : وقد طلبه والي المدينة فتغيّب عند داود بن الحصين حتى مات عنده .
3 ـ إنّه كان كذّاباً :
كذب على ابن عبّاس ، وقد أوثقه علي بن عبدالله بن العبّاس على باب كنيف الدار فقيل له : أتفعلون هذا بمولاكم ؟ قال : إنّ هذا يكذب على أبي .
وعن سعيد بن المسيّب أنّه قال لمولاه : يا برد ، إيّاك أن تكذب عليّ كما يكذب عكرمة على ابن عبّاس .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 272 _
وعن القاسم : إنّ عكرمة كذّاب ، يحدّث غدوة ويخالفة عشيّة .
وقال ابن عمر لنافع : إتّق الله ـ ويحك يا نافع ـ لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عبّاس .
وعن ابن سيرين ويحيى بن معين ومالك بن أنس : كذّاب .
وعن ابن ذويب : رأيت عكرمة مولى ابن عبّاس وكان غير ثقة .
وقال طاوس : لو أنّ عبد ابن عبّاس إتّقى الله وأمسك عن بعض حديثه لشدّت إليه المطايا .
وقد اشتهر تكذيب الناس إيّاه وطعنهم فيه حتى أنه كان يقول : ( هؤلاء يكذّبون من خلفي ، أفلا يكذّبوني في وجهي ) (1) .
4 ـ عكوفه على أبواب الامراء للدنيا :
قال موسى بن يسار : رأيت عكرمة جائياً من سمرقند وهو على حمار تحته جوالقان ـ أو خرجان ـ حرير أجازه بذلك عامل سمرقند ومعه غلام ، قال : وسمعت عكرمة بسمرقند وقيل له : ما جاء بك إلى هذه البلاد ؟ قال : الحاجة .
وقال عبد المؤمن بن خالد الحنفي : قدم علينا عكرمة خراسان فقلت له : ما أقدمك إلى بلادنا ؟ قال : قدمت آخذ من دنانير ولاتكم ودراهمهم .
وقال عبدالعزيز بن أبي رواد : قلت لعكرمة : تركت الحرمين وجئت إلى خراسان ! قال : أسعى على بناتي .
--------------------
(1) حاول ابن حجر العسقلاني ( مقدّمة فتح الباري : 427 ) توجيه الكلام ، ولكن لا ينفعه ذلك ، فحال عكرمة تشبه حال أبي هريرة الذي قال للناس : أتزعمون أنّي أكذب على الله ورسوله وأحرق نفسي بالنار ... ؟!
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 273 _
وقال أبو نعيم : قدم على الوالي بأصبهان فأجازه بثلاثة آلاف درهم .
وقال عمران بن حدير : رأيت عكرمة وعمامته منخرقة فقلت : ألا اعطيك عمامتي ؟ فقال : إنّا لا نقبل إلاّ من الامراء .
أبو طالب : سمعت أحمد بن حنبل يقول : كان عكرمة من أعلم الناس ولكنّه كان يرى رأي الصفرية ولم يدع موضعاً إلاّ خرج إليه ، خراسان والشام واليمن ومصر وإفريقية ، كان يأتي الامراء فيطلب جوائزهم ، وأتى الجند إلى طاووس فأعطاه ناقة .
ومن الطبيعي أن يستجيب هكذا رجل لرغبات الولاة والامراء فيضع كل ما تقتضيه السياسة ويدعم الحكومات الجائرة ...
5 ـ ترك الناس جنازته :
ومن الطبيعي أيضاً سقوط هكذا إنسان في المجتمع الإسلامي ، فلا تبقى قيمة لا له ولا لأحاديثه حتى إذا مات فلا تشيّع جنازته ولا يصلّى عليه ... كما ذكر المؤرّخون في ترجمة عكرمة ... وأضافوا أنّه قد اتّفق موت عكرمة وكثير عزّة الشاعر الشيعي في يوم واحد فشهد الناس جنازة كثير وتركوا جنازة عكرمة ، قيل : فما حلمه أحد واكتروا له أربعة رجال من السودان .
6 ـ قدح الأكابر فيه وتكذيبه :
ولهذه الأور وغيرها كذّب عكرمة كبار الأئمّة الأعلام ـ الّذين طالما اكتفى علماء الجرح والتعديل بطعن واحدٍ منهم ـ منهم : ابن عمر ، ومجاهد ، وعطاء ، وابن سيرين ، ومالك بن أنس ، والشافعي ـ حيث حكى كلام مالك وقرّره ـ
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 274 _
وسعيد بن المسيّب ، والقاسم ، ويحيى بن سعيد .
وحرّم مالك الرواية عنه ، وأعرض عنه مسلم ، وقال مسلم محمد بن سعد : ليس يحتجّ بحديثه ، وقال غيره : غير ثقة (1) .
ومع هذا كلّه ... فإنّ البخاري يروي عنه !! ولكن لا عجب ... إذ ( كلّ يعمل على شاكلته ) بل العجب من ابن حجر ، حيث ينبري للدفاع عن ( عكرمة البربري ) والمقصود هو الدفاع عن ( صحيح البخاري ) ... فكيف يدافع عمّن تجرّأ على الله ، واستهزأ بشعائره ، واستخفّ بأحكامه ، وطعن في القرآن ، واستحلّ دماء المسلمين ... ؟ وكيف يدافع عمّن كذّبه الأئمة الثقات حتى ضربوا بكذبه المثل لاشتهاره بهذه الصفة ؟ وكيف يدافع عمّن امتنع الناس من حمل جنازته والصلاة عليها ؟!
خلاصة البحث
ويتلخّص البحث في هذه الناحية في النقاط التالية :
1 ـ إنّ الآثار المشتملة على وقوع ( الخطأ ) في القرآن الكريم باطلة وإن كانت مخرّجة في الصحاح وفي غيرها بأسانيد صحيحة ... وفاقاً لمن قال بهذا من أعلام المحقّقين من أهل السنّة كما عرفت ... ووجود الأحاديث الباطلة في الصحاح الستّة أم ثابت ، وعدد الاحاديث من هذا القبيل فيها ليس بقليل ... كما ستعرف .
2 ـ إنّ التأويلات التي ذكرت من قبل القائلين بصحّة هذه الآثار لا تحلّ
--------------------
(1) المصادر المنقول ترجمة عنها عكرمة هي : تهذيب الكمال ، تهذيب التهذيب 7 : 273 ـ 263 ، طبقات ابن سعد 5 : 287 ، وفيات الأعيان 1 : 319 ميزان الاعتدال 3 : 93 ، المغني في الضعفاء 2 : 84 ، سير أعلام النبلاء 5 : 9 ، الضعفاء الكبير 3 : 373 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 275 _
المشكلة كما عرفت ، ولذا اضطرّ بعضهم إلى القول بأنّها محرّمة ، والتزم بالإشكال بعض آخر ، ومنه قول ابن قتيبة : ( ليست تخلو من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب أو تكون غلطاً من الكاتب كما ذكرت عائشة ، فإن كانت على مذاهب النحو والنحويّين فليس ها هنا لحن والحمدالله ، وإن كانت على خطأ في الكتاب فليس على الله ولا على رسوله جنابة الكاتب في الخطّ ) (1) .
3 ـ إنّ مصادرة كتاب ( الفرقان ) ـ إن كانت لأجل إثبات ( اللحن ) في الكتاب ـ لا تحلّ المشكلة بشكل من الأشكال ، فإنّ صاحب هذا الكتاب ينقل الآثار المتضمّنة لهذا المعنى عن الكتب المعتبرة والتي اخرجت فيها تلك الآثار بأسانيد صحيحة على شرط الشيخين ، ثمّ يؤكّدها بقوله : ( ليس ما قدّمناه من لحن الكتاب في المصحف بضائرة أو بمشكّك في حفظ الله تعالى له ، بل إنّ ما قاله ابن عبّاس وعائشة وغيرهما من فضلاء الصحابة وأجلاًء التابعين أدعى لحفظه وعدم تغييره وتبديله ، وممّا لا شكّ فيه أنّ كتّاب المصحف من البشر يجوز عليهم ما يجوز على سائرهم من السهو والغفلة والنسيان ، والعصمة لله وحده ...
ومثل لحن الكتّاب كلحن المطابع ... ) (2) .
وعلى هذا الأساس يدعو هذا المؤلف إلى تغيير الرسم العثماني وجعل الألفاظ كما ينطق بها اللسان وتسمعها الآذان ، بل ينقل عن العزّ ابن عبد السلام أنّه قال بعدم جواز كتابه المصحف بالرسم الأول ... (3) .
أقول : إنّ مسألة الرسم والخطّ هي أيضاً من المشاكل المترتّبة على القول
--------------------
(1) مشكل القرآن : 40 .
(2) الفرقان : 41 ـ 46 .
(3) الفرقان : 58 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 276 _
بصحّة هذه الآثار عن الصحابة والالتزام بصدورها عنهم ـ فإن لم تكن مترتّبة عليه فلا أقلّ من أن يكون القول بصحّة تلك الآثار سنداً ومتناً مؤيّداً لمن يدعو إلى تغيير الرسم والكتابة ـ ونحن هنا لا نتعرّض لهذه المسألة ، بل نقول بأنّ استدلال مؤلف كتاب ( الفرقان) أو استشهاده بهذه الآثار تامّ ، وأنّه لا يلام على إيراده تلك الآثار في كتابه ، بل اللوم على من يرويها ويصحّح أسانيدها ويخرجها في كتابه ... وأنّ طريق الجواب هو ردّها وإبطالها على ما ذكرناه بالتفصيل ...
2 ـ في أحاديث جمع القرآن
لقد وعد الله سبحانه نبيّه بحفظ القرآن وبيانه ، وضمن له عدم ضياعه ونسيانه .
وكان النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كلّما نزل من القرآن شيء أمر بكتابته ويقول في مفرقات الآيات : ضعوا هذا في سورة كذا ... (1) .
وكان ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يعرضه على جبرئيل في شهر رمضان في كل عام مرّة ، وعرضه عليه عام وفاته مرّتين ... (2) .
وحفظه في حياته جماعة من أصحابه ، وكل قطعة كان يحفظها جماعة كبيرة أقلّهم بالغون حدّ التواتر ... هذا هو الحقّ والأمر الواقع ...
وقد أوردنا أحاديث القوم في قضية جمع القرآن ووجدناها متناقضة وعقّبناها بذكر ما قيل أو يمكن أن يقال في معناها ووجه الجمع فيما بينها ... فهل ترتفع المشكلة بهذا الاسلوب ؟
--------------------
(1) مسند أحمد 1 : 57 ، الترمذي 11 : 225 ، أبو داود 1 : 290 ، المستدرك 2 : 230 .
(2) صحيح البخاري 1 : 101 وغيره .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 277_
إعراض القوم عن علي في جمع القرآن
لابدّ قبل الورود في البحث من أن نقول :
لقد كان أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ أعلم الناس بكتاب الله ـ عزّ وجلّ ـ عند المخالف والمؤالف ، وهو القائل : ( والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت ) (1) والقائل : ( سلوني عن كتاب الله ، فإنّه ليس آية إلاّ وقد عرفت أبليل نزلت أن بنهار ، في سهل أو جبل ) (2) .
وهو الذي قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في حقّه :
( علي مع القرآن والقرآن مع علي ) (3) .
وناهيك بحديث : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها ) (4) .
وعلي عليه السلام استاذ ابن عبّاس في التفسير ، وقد ذكر القوم أنّ ( أعلم الناس بالتفسير أهل مكّة لأنّهم أصحاب ابن عبّاس ) (5) .
فلماذا لم يعدّه أنس بن مالك ـ ولا غيره ـ من حفّاظ القرآن ، ومن الّذين أم الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بتعلّمه منهم والرجوع إليهم فيه ، فيما رواه البخاري في صحيحه ؟!
--------------------
(1) حلية الأولياء 1 : 67 ، أنساب الأشراف 1 : 99 .
(2) أنساب الأشراف 1 : 99 ، الاستيعاب 3 : 1107 .
(3) المستدرك 3 : 124 ، الصواعق : 76 و 77 ، كفاية الطاب : 254 .
(4) من الأحاديث المتواترة بين المسلمين ، بحثنا عنه سنداً ودلالةً في الجزء العاشر وتالييه من أجزاء كتابنا ( نفحات الازهار في خلاصة عبقات الأنوار ) .
(5) الإتقان 2 : 385 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 278 _
ثمّ إنّه ـ عليه السلام ـ رتّب القرآن الكريم ودوّنه بعيد وفاة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من القراطيس التي كان مكتوباً عليها ، فكان له مصحف تامّ مرتّب يختصّ به كما لعدّة من الصحابة في الأيام اللاحقة ، وهذا من الامور المسلّمة تاريخياً عند جميع المسلمين (1) ومن جلائل فضائل سيّدنا أمير المؤمنين ... فلما ذا لم يستفيدوا منه ؟!
ولعلّ إعراض القوم عن مصحف علي هو السبب في قدح ابن حجر العسقلاني (2) ومن تبعه كالآلوسي (3) في الخبر الحاكي له ... مع أنّ هذا الأمر من الامور الثابتة الضرورية المستغنية عن أيّ خبر مسند ... لكنّ هؤلاء يحاولون توجيه ما فعله القوم أو تركوه كلّما وجدوا إلى ذلك سبيلاً ... !!
ثمّ إنّه لماذا لم يدعوا الإمام ـ عليه السلام ـ ولم يشركوه في جمع القرآن ؟! فإنّا لا نجد ذكراً له فيمن عهد إليهم أمر جمع القرآن في شيء من أخبار القضية ، لا في عهد أبي بكر ولا في عهد عثمان ... فلماذا ؟! ألا ، إنّ هذه امور توجب الحيرة وتستوقف الفكر !!
--------------------
(1) انظر : فتح الباري 9 : 9 ، الاستيعاب ـ ترجمة أبي بكر ـ ، الصواعق : 78 ، الإتقان 1 : 99 ، حلية الأولياء 1 : 67 ، التسهيل لعلوم التنزيل 1 : 4 المصنّف لابن أبي شيب 1 : 545 ، طبقات ابن سعد 2 : 338 .
(2) فتح الباري 9 : 9 .
(3) روح المعاني 1 : 21 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 279 _
كلّه في عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بعده ، وجمع في الصدور والسطور معاً من قبل جماعة من أصحابه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ غير أنّ الجامعين له ـ أي : الحافظين في صدورهم ـ أكثر ممّن كتبه ، كما أنّ من كتبه بتمامه فكان ذا مصحف يختصّ به أقلّ ممّن كان عنده سور من القرآن كتبها واحتفظ بها لنفسه ... فهل كان الجامعون له بتمامه أربعة كما عن أنس بن مالك (1) وعبدالله بن عمرو (2) أو خمسة كما عن محمد بن كعب القرظي (3) أو ستّه كما عن الشعبي (4) أو تسعة كما عن النديم (5) ؟!
إنّ الجامعين للقرآن أكثر من هذه الأعداد ... وأمّا حديث الحصر في الأربعة وأنّ كلّهم من الأنصار ـ كما عن أنس بن مالك ـ فنحن نستنكره تبعاً لجماعة من الأئمّة .. كما ذكر الحافظ السيوطي ... ولا نتكلّف تأويله ولا ننظر في سنده ...
كلمة حول أنس بن مالك
بل الكلام في أنس بن مالك نفسه ... لأنّا قد وجدناه رجلاً كاذباً كاتماً للحقّ ، آبياً عن الشهادة به ، في قضية مناشدة أمير المؤمنين بحديث الغدير ... فإنّ أنس بن مالك كان في الناس الّذين نشدهم أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وطلب منهم الشهادة بما سمعوا من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يوم غدير خم ...
--------------------
(1) صحيح البخاري 6 : 102 .
(2) صحيح البخاري 6 : 102 ، صحيح مسلم 7 : 149 .
(3) الإتقان 1 : 72 ، منتخب كنز العمّال 2 : 47 .
(4) الإتقان 1 : 72 ، البرهان 1 : 241 .
(5) الفهرست : 30 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 280 _
فقام القوم فشهدوا إلاّ ثلاثة منهم لم يقوموا فدعا عليهم فأصابتهم دعوته ، منهم أنس بن مالك ... إذا قال له الإمام : ( يا أنس ، ما يمنعك أن تقوم فتشهد ولقد حضرتها ؟ فقال : يا أمير المؤمنين كبرت ونسيت ، فقال : اللّهم إن كان كاذباً فارمه بيضاء لا تواريها العمامة ، فكان عليه البرص ) (1) .
ووجدناه كاذباً في قضية حديث الطائر ... فإنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لمّا اتي إليه طائر مشوي ليأكل منه وقال : ( اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك وإليّ يأكل معي من هذا الطائر ) كان يترقّب دخول علي ـ عليه السلام ـ عليه ، وكان أنس كلّما جاء علي ليدخل ردّه قائلاً : ( إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على حاجة ) حتى كانت المرة الأخيرة ، فرفع علي يده فوكز في صدر أنس ثمّ دخل ... فلما نظر إليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قام قائماً فضمّه إليه وقال : ما أبطأ بك يا علي ؟! قال : يا رسول الله ، قد جئت ثلاثاً كل ذلك يردّني أنس ، قال أنس : فرأيت الغضب في وجه رسول الله وقال : يا أنس ، ما حملك على ردّه ؟! قلت : يا رسول الله سمعتك تدعو ، فأحببت أن تكون الدعوة في الأنصار ، قال : ( لست بأوّل رجل أحبّ قومه ، أبي الله يا أنس إلاّ أن يكون ابن أبي طالب ) (2) .
إنّه يكذب غير مرّة ، ويمنع أحبّ الناس إلى الله ورسوله من الدخول ،
--------------------
(1) انظر : نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار | قسم حديث الغدير ، والغدير 1 : ـ 191 : 195 .
(2) حديث الطير من الأحاديث المتواترة ، تجده في جلّ كتب الحديث والفضائل ، وله طرق كثيرة جدّاً حتى أفرده بعضهم بالتأليف ... وكلّها تشتمل على صنيع أنس بن مالك ... وهذا الحديث أيضاً من الأحاديث المبحوث عنها بالتفصيل في كتابنا ( نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار ) في الجزئين : 13 ـ 14 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 281 _
ويتسبّب في تأخير استجابة دعوة الرسول ـ صلّى الله عليه وآله ـ ، و ... كما يحصر حفّاظ القرآن في أربعة من الأنصار ... حبّاً لهم ..!! .
إنّ الباعث له على ما فعل في قصّة الطائر ليس ( حبّ الأنصار ) بل ( بغض الأمير ) ... هذه الحقيقة التي كشف عنها بكتمان الشهادة بحديث ( الغدير ) ...
رفض أحاديث جمع القرآن على عهدي أبي بكر وعمر
وعلى كلّ حال ، فإن القرآن كان مجموعاً على عهد الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وإنّ الجامعين له ـ حفظاً وكتابة ـ على عهده كثيرون ...
وإذا كان القرآن مكتوباً على عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وكان الأصحاب يؤلّفونه بأمره ـ كما يقول زيد بن ثابت ـ (1) فلا وزن لما رووه عن زيد أنّه قال : قبض رسول الله ولم يكن القرآن جمع في شيء ) (2) لأنّ ( التأليف ) هو ( الجمع ) قال ابن حجر : ( تأليف القرآن : أي جمع آيات السورة الواحدة أو جمع السور مرتّبة في المصحف ) (3) .
وعلى هذا الأساس ، يجب رفض ما رووه من الأحاديث في أنّ ( أوّل من جمع القرآن أبوبكر ) أو ( عمر ) أو غيرهما من الأصحاب بأمرهما ... لأنّ الجمع في المصحف قد حصل قبل أبي بكر ... فلا وجه لقبول هذه الأحاديث ـ حتى لو كانت صحيحة سنداً ـ كي نلتجئ إلى حمل ( فكان ( عمر ) أوّل من جمعه في
المصحف ) (1) مثلاً على أنّ المراد : ( أشار على أبي بكر أن يجمعه ) (2) جمعاً بينه وبين ما دلّ على أنّ ( الأول ) هو ( أبو بكر ) .
وكذا نرفض ما أخرجه البخاري عن زيد بن ثابت أنّه قال : ( أرسل إليّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة ... ) (3) لوجوه منها :
أولاً : إنّ القرآن كان مجموعاً مؤلّفاً على عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أو بعيد وفاته بأمر منه ، وإذ قد فعل رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ذلك كيف يقول زيد لأبي بكر : ( كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ) ؟!
وثانياً : قوله : ( فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ) يناقضه ما دلّ على كونه مؤلّفاً ومدوّناً على عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وقد رواه هو ... بل رووا أنّ جبريل عرض القرآن على النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ في عام وفاته مرّتين ، بل ذكر ابن قتيبة أنّه كا آخر عرض قام به رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ للقرآن على مصحف زيد بن ثابت نفسه (4) .
وثالثاً : قوله : ( حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ، لم أجدها مع أحد غيره ) ممّا اضطرب القوم في معناه ، كما اختلفوا في اسم هذا الرجل الذي وجد عنده ذلك (5) .
رفض أحاديث قبول الآية بشاهدين
وكذا نرفض ما أخرجه ابن أبي داود : ( إنّ أبا بكر قال لعمر ولزيد : اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين من كتاب الله فاكتباه ) (1) قال ابن حجر : ( رجاله ثقات مع انقطاعه ) ، فإنّه بغضّ النظر عمّا في سنده تدفعه الضرورة ، فلا حاجة إلى الوجوه التي ذكرها ابن حجر التوجيهه حيث قال : ( كأنّ المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة ، أو المراد أنّهما يشهدان على أنّ ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله ـ صلّى عليه وآله وسلّم ـ ، أو المراد أنّهما يشهدان على أنّ ذلك من الوجوه التي نزل بها القرآن ، وكان غرضهم أن لا يكتب إلاّ من عين ما كتب بين يدي النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لا مجرّد الحفظ ) (2) مع أنّ بعض تلك الوجوه غير قابل للتصديق به أبداً .
ولهذا الحديث ـ في الدلالة على كتابة القرآن بشهادة شاهدين ـ نظائر في كتبهم نذكر بعضها مع إسقاط أسانيده :
1 ـ ( لمّا قتل أهل اليمامة أمر أبو بكر عمر بن الخطّاب وزيد بن ثابت فقال : أجلسا على باب المسجد فلا يأتينّكما أحد بشيء من القرآن تنكرانه يشهد عليه رجلان إلاّ أثبتمّاه ، وذلك لأنّه قتل باليمامة ناس من أصحاب رسول الله قد جمعوا القرآن ) (3) .
2 ـ ( أراد عمر بن الخطّاب أن يجمع القرآن فقام في الناس فقال : من كان تلقّى من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ شيئاً من القرآن فليأتنا به ، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب ، وكان لا يقبل من أحد شيئاً حتى يشهد شهيدان ، فقتل وهو يجمع ذلك إليه ، فقام عثمان فقال : من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به ، وكان لا يقبل من ذلك شيئاً حتى يشهد عليه شهيدان ، فجاء خزيمة بن ثابت فقال : إنّي قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما ، قالوا : وما هما ؟ قال : تلقّيت من رسول الله ( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ... ) إلى آخر السورة ، فقال عثمان : وأنا أشهد أنّهما من عند الله ، فأين ترى أن نجعلهما ؟ قال : اختم بهما آخر ما نزل من القرآن ، فختمت بهما براءة ) (1) .
3 ـ ( كان عمر لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد رجلان ، فجاء رجل من الأنصار بهاتين الآيتين : ( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ... ) إلى آخرها ، فقال عمر : لا أسألك عليها بيّنة أبداً ، كذلك كان رسول الله ) (2) .
4 ـ خزيمة بن ثابت : ( جئت بهذا الآية : ( لَقَدْ جَاءكُمْ ... ) على عمر بن الخطّاب وإلى زيد بن ثابت ، فقال زيد : من يشهد معك ؟ قلت : لا والله ما أدري ، فقال عمر : أنا أشهد معه على ذلك ) (3) .
5 ـ زيد بن ثابت : ( لمّا كتبنا المصاحف فقدرت آية كنت أسمعها من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فوجدتها عند خزيمة بن ثابت : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا ... ) وكان خزيمة يدعى ذا الشهادتين ، أجاز رسول الله ـ صلّى الله
--------------------
(1) منتخب كنز العمّال 2 : 45 .
(2) منتخب كنز العمّال 2 : 45 ـ 46 .
(3) منتخب كنز العمّال 2 : 46 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 285 _
عليه وآله وسلّم ـ شهادته بشهادة رجلين ) (1) .
6 ـ ( أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد ، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت فكان لا يكتب إلاّ بشهادة عدلين ، وإنّ آخر سورة براءة لم توجد إلاّ مع أبي خزيمة ابن ثابت ، فقال : اكتبوها فإنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ جعل شهادته بشهادة رجلين ، فكتب ، وإنّ عمر أتى بآية الرجم فلم نكتبها لأنّه كان وحده ) (2) .
وممّا يزيد بطلان هذه الأحاديث وضوحاً وجود التكاذب فيما بينها ، وبيان ذلك :
إنّ الحديث الثاني صريح في أنّ الجمع كان في زمن عمر والآتي بالآيتين خزيمة بن ثابت والشاهد معه عثمان ، لكن في الثالث ( جاء رجل من الأنصار ) وقال عمر : ( لا أسألك عليها بيّنة أبداً كذلك كان رسول الله ) ، وفي الرابع : ( فقال زيد : من يشهد معك ؟ ) قال خزيمة : ( لا والله ما أدري ، فقال عمر : أنا أشهد معه ) ، وفي السادس : أنّ الجمع كان في زمن أبي بكر والكاتب زيد ( فكان لا يكتب آية إلاّ بشهادة عدلين ) وأنّ آخر سورة براءة لم توجد إلاّ مع خزيمة بن ثابت ، فقال : (أكتبوها فإنّ رسول الله جعل شهادته بشهادة رجلين ) .
وأيضاً : وجود التكاذب بينها وبين الحديث التالي : ( إنّهم جمعوا القرآن في المصاحف في خلافة أبي بكر ، وكان رجال يكتبون ويملي عليهم اُبَيّ ، فلمّا انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة : ( ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ ... ) فظنّوا أنّ هذا آخر ما نزل من القرآن ، فقال اُبَيّ بن كعب : أقرأني بعدها آيتين : ( لَقَدْ جَاءكُمْ
--------------------
(1) منتخب كنز العمّال 2 : 49 و 52 .
(2) الإتقان 1 : 101 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 286 _
رسول ... ) (1) .
وهكذا ترتفع جميع الشبهات حول القرآن الكريم بعد سقوط الأحاديث التي هي المناشيء الأصليّة لها ...
حول ما صنعه عثمان
ويبقى الكلام حول ما صنعه عثمان ... فهل جمع القرآن من جديد ؟ وكيف ؟ وبواسطة من ؟
لقد اختلفت أحاديث القوم وكلمات علمائهم في هذا المقام أيضاً ، وقد أشرنا إلى بعض ذلك فيما تقدّم ... ولمّا كان الصحيح كون القرآن مكتوباً على عهد الرسول ـ صّلى الله عليه و آله وسلّم ـ ومجموعاً مدوّناً قبل عهد عثمان بزمن طويل ، بل لا دور لمن تقدّم عليه في جمعه ... فالصحيح أنّ الذي فعله عثمان على عهده لم يكن إلاّ جمع المسلمين على قراءة واحدة ، وهي القراءة المشهورة المتعارفة بينهم ، المتواترة عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ ... ومنعهم عن القراءات الاخرى المبنيّة على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف .
أمّا هذا العمل فلم ينتقده عليه أحد من المسلمين ، لأنّ مصاحف الصحابة والتابعين كانت مختلفة ، حتى أنّ بعض العلماء ألّف في أختلافها كتاباً خاصاً ، (2) وكان لكل من الصحابة أتباع في البلاد يقرؤون على قراءته ، ومن الطبيعي أن يؤدّي الإختلاف في قراءة القرآن إلى ما لا تحمد عقباه ...
بل أعلن بعض الأصحاب تأييده لما قام به عثمان ، ورووا عن أمير المؤمنين
--------------------
(1) مجمع الزوائد 7 : 35 .
(2) أنظر : المصاحف لابن أبي داود السجستاني .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 287 _
ـ عليه السلام ـ أنّه قال : ( لا تقولوا في عثمان إلاّ خيراً ، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلاّ عن ملأٍ منّا ، قال : ما تقولون في هذه القراءة ، فقد بلغني أنّ بعضهم يقول : إنّ قراءتي خير من قراءتك ، وهذا يكاد يكون كفراً ، قلنا : فما ترى ؟ قال : أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد ، فلا يكون فرقة ولا اختلاف .
قلنا : فنعم ما رأيت (1) .
وعنه أنّه قال : ( لو ولّيت لفعلت مثل الذي فعل ) (2) .
وقد يؤيّده نقل السيّد ابن طاووس ذلك وسكوته عليه ، حيث جاء في الباب الثاني الذي عقده لنقل أشياء من كتب التفاسير ونقدها : ( فصل فيما نذكره من كتاب عليه : جزء فيه اختلاف المصاحف تأليف أبي جعفر محمد بن منصور رواية محمد بن زيد بن مروان ، قال في السطر الخامس من الوجهة الاولة منه : إن القرآن جمعه على عهد أبي بكر زيد بن ثابت ، وخالفة في ذلك أبي وعبدالله بن مسعود وسالم ومولى أبي حذيفة ، ثم عاد عثمان جمع القرآن برأي مولانا علي بن أبي طالب ... ) (3) .
وأيضاً : أنّ عدج الآي والسور الذي عليه أكثر القرّاء كما تقدم في الفصل الخامس من الباب الأول عن عدةٍ من أعلام الإمامية ، هو العدد الكوفي كما ذكر الشيخ الطوسي (4) وقد ذكر الشيخ الطبرسي في أوّل تفسيره ، ( أن عدد أهل الكوفة أصح الأعداد وأعلاها إسناداً ، لأنه مأخوذ عن أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب ) (1) .
وأيضاً : قول العلاّمة الحلّي : ( يجب أن يقرأ بالمتواتر من الآيات وهو ما تضمنّه مصحف علي عليه السلام ، لأن أكثر الصحابة اتّفقوا عليه ، وأحرق عثمان ما عداه ، ولا يجوز أن يقرأ مصحف ابن مسعود ولا أبي ولا غيرهما ) (2) .
ما كان بين عثمان وابن مسعود
نعم ، انتقد على عثمان أخذه المصاحف من أصحابها بالقوّة وإحراقه لها ، وقد رووا عن ابن مسعود الإمتناع من تسليم مصحفه .. والإنتقاد الشديد لتقديم زيد بن ثابت عليه ...
قلت : أمّا امتناعه من تسليم مصحفه فهو من الامور الثابتة التي لا تقبل الخدش ، ولا حاجة إلى ذكر أخباره ومصادر ، وأمّا اعتراضه على تقديم زيد بن ثابت ففيه روايات صحيحة عندهم ... فقد روى الحافظ ابن عبدالبرّ ، عن الأعمش ، عن شقيق ، قال : ( لمّا أمر عثمان في المصاحف بما أمر قام عبدالله بن مسعود خطيباً فقال : أيأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت ؟! والّذي نفسي بيده لقد أخذت من فيّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ سبعين سورة وأنّ زيد بن ثابت لذو ذؤابة يلعب به الغلمان ، والله ما نزل من القرآن شيء إلاّ وأنا أعلم في أيّ شيء نزل ، وما أحد أعلم بكتاب الله منّي ، ولو أعلم أحداً تبلّغنيه الإبل أعلم بكتاب الله منّي لأتيته ، ثمّ استحيى ممّا قال فقال : وما أنا بخيركم ، قال شقيق : فقعدت في الحلق فيها أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فما
إضطراب القوم في ما رووه عن ابن مسعود في زيد
فهذا الحديث يكشف عن مدى تألّم ابن مسعود وتضجره وشدّة اعتراضه وانتقاده لتقديم زيد بن ثابت عليه ... ومثله أحاديث وآثار اخرى .
وهذا الموضع أيضاً من المواضع المشكلة ... ولذا اضطرب القوم فيه إضطراباً شديداً ، أمّا البخاري فقد أخرج الحديث محرّفاً وتصّرف فيه تستّراً على عثمان وزيد ، فرواه عمن الأعمش ، عن شقيق ، قال : ( خطبنا عبد الله فقال : والله لقد أخذت من فيّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بضعاً وسبعين سورة ، والله لقد علم أصحاب النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أنّي من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم ، قال شقيق : فجلست في الحلق أسمع ما يقولون ، فما سمعت رادّاً يقول غير ذلك ) (2) .
وأمّا إبن أبي داود فقد ترجم باب رضى ابن مسعود بعد ذلك بما صنع عثمان ، لكن لم يورد ما يصّرح بمطابقة ما ترجم به (3) .
وقال بعضهم : ما رووا عن ابن مسعود من الطعن في زيد بن ثابت كلّه موضوع (4) .
وأمّا ما كان من عثمان بالنسبة إلى ابن مسعود فمشهور في التاريخ ، فقد
--------------------
(1) الإستيعاب 3 : 993 .
(2) صحيح البخاري بشرح ابن حجر 9 : 39 .
(3) فتح الباري 9 : 40 .
(4) مباحث في علوم القرآن ، لصبحي الصالح : 82 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 290 _
ضربه حتى كسر بعض أضلاعه ، ومنعه عطاءه ، ووقعت بينهما منافرة شديدة حتى عهد ابن مسعود إلى عمّار أن لا يصلّي عثمان عليه ، وعاده عثمان في مرض الموت فقال له : ما تشتكي ؟ فقال : ذنوبي ، فقال : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي ، قال : أدعو لك طبيباً ؟ قال : الطيب أمرضني ، قال : أفلا آمر لك بعطائك ؟ قال : منعتنيه وأنا محتاج إليه وتعطينية وأنا مستغن عنه ؟ قال : يكون لولدك ، قال : رزقهم على الله تعالى ، قال : إستغفر لي يا أبا عبد الرحمن ، قال : أسأل الله أن يأخذ لي عنك حقّي ) (1) .
كلمة في زيد بن ثابت
قلت : ما رواه الأعمش عن شقيق أخرجه مسلم والنسائي وأبو عوانة وابن أبي داود ... وسواء كان صحيحاً أو موضوعاً ... فإنّ أمر جميع ما ورد حول القرآن ، مشتملاً على دور لزيد بن ثابت فيه ، مريب ...
لأنّ هذا الرجل الذي كان حين قدوم رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ المدينة ابن إحدى عشرة سنة (2) قد جعلوه من مؤلّفي القرآن على عهد الرسول ... وأنّه على قراءة عارض جبريل القرآن مع النبي عام وفاته ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ... وأنّه الذي جمع القرآن الموجود على عهد عثمان بأمره ... وأن القرآن الموجود على حرف زيد ... !!
فإن صحّ هذا كلّه فهي ( شنشنة أعرفها من أخزم ) .
--------------------
(1) اُسد الغابة 3 : 259 ، تاريخ ابن كثير 7 : 163 ، الخميس 2 : 268 ، السيرة الحلبيّة 2 : 78 ، شرح النهج 1 : 236 ، نقلاً عن هامش نهج الحق : 295 .
(2) الاستيعاب 2 : 536 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 291 _
ولكنّ محمد بن كعب القرظي لم يذكر زيداً فيمن جمع القرآن على عهد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ (1) .
وأمّا على عهد أبي بكر فقد عرفت بطلان أحاديث الجمع على عهده ، على أنّ أبا بكر لم يصفه إلاّ بـ ( إنّك رجل شابّ عاقل لا نتّهمك ) وما كا فيه شيء يتقدّم به على ابن عبّاس وابن مسعود واُبَيّ بن كعب وأضرابهم من حفّاظ القرآن وقرّائه والعلماء فيه ...
مضافاً إلى أنّ قوماً من أهل السنّة عارضوا بهذا الحديث حديث أنس بن مالك أنّ زيد بن ثابت أحد الّذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قالوا : ( فلو كان زيد قد جمع القرآن على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لأملاه من صدره وما احتاج إلى ما ذكر ) (2) .
وأمّا حديث معارضة القرآن على قراءته ـ كما عن ابن قتيبة ـ فقد تكذّبه رواية وكيع وجماعة معه ، عن الأعمش عن أبي ظبيان ( قال : قال لي عبدالله بن عبّاس : أيّ القراءتين تقرأ ؟ قلت : القراءة الأولى قراءة ابن امّ عبد ، فقال : أجل هي الآخرة ، إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كان يعرض القرآن على جبرئيل في كلّ عام مرّة ، فلمّا كان العام الذي قبض فيه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ عرضه عليه مرّتين ، فحضر ذلك عبدالله فعلم ما نسخ من ذلك وما بدّل ) (3) .
خلاصة البحث
ويتلخّص البحث في هذه الناحية في النقاط التالية :
1 ـ إنّ القرآن الكريم كان مكتوباً على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، وكان حفّاظه وقرّاؤه يفوق عددهم حدّ التواتر بكثير .
2 ـ إنّ أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ جمع القرآن الكريم على عهد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ثمّ رتّبه ودوّنه بعد وفاته على ترتيب نزوله ، وذكر فيه الناسخ والمنسوخ وبعض التفسير والتأويل .
3 ـ إنّ الخلفاء الثلاثة لا دور لهم في جمع القرآن ولا في كتابته ولا في حفظه ، لا على عهد الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ولا في عهد حكومتهم .
4 ـ إنّ الذي فعله عثمان هو ترتيب سور القرآن كما هو موجود الآن ، من غير زيادة فيه ولا نقصان ، وحمل الناس على قراءة هذا المصحف ونبذ القراءات الاخرى التي كان عليها تبعاً لأصحابها .
كلمة لابُدّ منها :
وهي أنّه لو أطاع المسلمون نبيّهم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وامتثلوا أمره بالرجوع إلى أهل بيته من بعده والتمسك بهم والتعلم منهم ـ كما في حديث الثقلين المتواتر وغيره ـ لأخذوا القرآن وعلومه من عين صافية ، ولكن هل علم الذي قال : ( حسبنا كتاب الله) ثم منع عن كتابة السنّة وسعى وراء عزل أهل البيت عن قيادة الامّة ، وحرمها من العلوم المودعة عندهم ـ عليه السلام ـ بأنّ