الكلام حول الصحيحين
والحقيقة ... أنّا لم نفهم حتى الآن السبب في تخصيص هذا الشأن بالكتابين ، وذكر تلك الفضائل لهما (1) دون غيرهما من كتب المصنّفين !!
ألم يصنّف مشايخ الرجلين وأئمّة الحديث من قبلهما في الحديث ؟!
ألم يكن في المتأخّرين عنهما من هو أعرف بالحديث الصحيح منهما ؟!
ألم يكن في المتأخرين عنهما من هو أعرف بالحديث الصحيح منهما ؟!
أليس قد فضّل بعضهم كتاب أبي داود على البخاري ، وقال الخطابي : ( لم يصنّف في علم الحديث مثل سنن أبي داود ، وهو أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من الصحيحين ) (2) ؟!
أليس قد قال ابن الأثير : ( في سنن الترمذي ما ليس في غيرها من ذكر
--------------------
(1) ذكروا للبخاري خاصّة ما لا يصدّق ، ففي مقدّمة فتح الباري ـ ص 11 ـ : ذكر الإمام القدوة أبو محمد بن أبي جمرة في اختصاره للبخاري ، قال : قال لي من لقيمته من العارفين ممّن لقي من السادة المقرّ لهم بالفضل : إنّ صحيح البخاري ما قرئ في شدّة إلاّ فرّجت ، ولا ركب به في مركب فغرق ، قال : وكان مجاب الدعوة وقد دعا لقارئه ) وفيها ـ ص 490 ـ : قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي ـ فيما قرأنا على فاطمة وعائشة بنتي محمد بن الهادي ـ : إنّ أحمد بن أبي طالب أخبرهم ، عن عبدالله بن عمر بن علي ، أنّ أبا الوقت أخبرهم عنه سماعاً ، أخبرنا أحمد بم محمد بن إسماعيل الهروي ، سمعت خالد بن عبدالله المروزي ، يقول : سمعت أبا سهل محمد بن أحمد المروزي ، يقول : سمعت أبا زيد المروزي ، يقول : كنت نائماً بين الركن والمقام فرأيت النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ في المنام فقال لي : يا أبا زيد ، إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي ؟! فقلت : يا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وما كتابك ؟! قال : جامع محمد بن إسماعيل .
(2) ذكره الأدفوي في عبارته الآتية .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 319 _
المذاهب ووجوه الإستدال وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب ) ؟!
أليس قد قيل في النسائي : إنّ له شرطاً في الرجال أشدّ من شرط البخاري ومسلم ؟! (1) .
أليس قد وصف غير الكتابين من كتب الحديث بما يقتضي الترجيح عليهما ؟!
إنّه لم يكن للرجلين هذا الشأن في عصرهما وبين أقرانها ... فلماذا هذا التضخيم لهما فيما بعد ؟!
لا ندري ... هل للسياسة دور في هذه القضية كما كان في قضية حصر المذاهب ؟ أو أنّ شدّة تعصّبهما ضدّ أهل البيت عليهم السّلام هو الباعث لترجيح أبناء السنّة كتابيهما على سائر الكتب ؟!
لكنّي أرى أنّ السبب كلا الأمرين ... لأنّ السلطات ـ في الوقت الذي كانت تضيّق على أئمّة أهل البيت عليهم السّلام وتلامذتهم ورواة حديثهم وعلماء مدرستهم ـ كانت تدعو إلى عقائد المخالفين لهم وتروّج كتبهم وتساعد على نشرها ... ومن الطبيعي أن يتقدّم كلّ من كا أكثر عداوة وأشدّ تعصّباً في هذا الميدان ...
قال السيد شرف الدين : ( ... وأنكى من هذا كلّه عدم احتجاج البخاري في صحيحه بأئمّة أهل البيت النبوي ، إذ لم يرو شيئاً عن الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والزكي والعسكري وكان معاصراً له ، ولا روى عن الحسن بن
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 320 _
الحسن ، ولا عن زيد بن علي بن الحسين ، ولا عن يحيى بن زيد ، ولا عن النفس الزكيّة محمد بن عبدالله الكامل ابن الحسن الرضا به الحسن السبط ، ولا عن أخيه إبراهيم بن عبدالله ، ولا عن الحسين الفخّي ابن علي بن الحسن بن الحسن ، ولا عن يحيى بن عبدالله بن الحسن ، ولا عن أخيه إدريس بن عبدالله ، ولا عن محمد بن جعفر الصادق ، ولا عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن المعروف بابن طباطبا ، ولا عن أخيه القاسم الشرسي ، ولا عن محمد بن زيد بن علي ، ولا عن محمد بن القاسم بن علي بن عمر الأشرف بن زيد العابدين صاحب الطالقان المعاصر للبخاري ، ولا عن غيرهم من أعلام العترة الطاهرة وأغصان الشجرة الزاهرة ، كعبدالله بن الحسن وعلي بن جعفر العريضي وغيرهما ، ولم يرو شيئاً عن حديث سبطه الأكبر وريحانته من الدنيا أبي محمد الحسن المجتبى سيّد شباب أهل الجنّة ... مع احتجاجه بداعية الخوارج وأشدّهم عداوة لأهل البيت عمران بن حطّان القائل في ابن ملجم وضربته لأمير المؤمنين عليه السّلام :
يـا ضـربة من تقيّ ما أراد iiبها إلاّ ليبلغ من ذي العرش iiرضوانا إنـي لأذكـره يـوماً iiفـأحسبه أوفى البريّة عند الله ميزانا ) (1)
نعم ... هكذا فعلت السلطات ... والعلماء والمحدّثون ... المتربّعون على موائدهم ، والسائرون على ركابهم ، الآخذون منهم مناصبهم ورواتبهم ، يتسابقون في تأييد خططهم وتوجيهها ، تزلّفاً إليهم وتقرّباً منهم ... حتى بلغ الأمر بهم إلى وضع الفضائل للكتابين ومؤلفيهما ... ثم دعوى الإجماع على قطعيّة أحاديثهما ، وعلى تلقّي الامّة إيّاها بالقبول ... ثم القول بأنّ كلّ من يهوّن أمرهما فهو
--------------------
(1) الفصول المهمّة في تأليف الامّة : 168 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 321 _
مبتدع متبّع غير سبيل المؤمنين .
تماماً كالذي فعلوا ـ بوحي من السلطات ـ في قضية حصر المذاهب ، حيث أفتوا بحرمة الخروج عن تقليد الأربعة مستدلّين بالإجماع ، فعودي من تمذهب بغيرها ، وانكر عليه ، ولم يولّ قاضٍ ولا قبلت شهادة أحد ما لم ملّقداً لأحد هذه المذاهب .
لقد كان التعصّب ضدّ أهل البيت الأطهار عليهم السّلام ، خير وسيلة للتقرّب إلى أحكّام وللحصول على الجاه والمقام ... في بعض الأدوار ... فكلّما كان التعصّب أشدّ وأكثر كان صاحبه أفضل وأشهر ... ولذا تراهم يقدّمون كتاب البخاري ـ بالرغم من أنّ لكتاب مسلم مزايا لأجلها قال جماعة بأفضليّته ـ لأنّه لم يخرّج ما أخرجه مسلم من مناقب أهل البيت كحديث الثقلين ... وتراهم يقدحون في الحاكم وفي مستدركه على الصحيحين ... لأنّه أخرج فيه فيما ما لم يخرجاه ... وإن كان واجداً لكلّ ما اشترطاه .
ويشهد بذلك تضعيفهم الحديث الوارد فيهما إذا كان فيه دلالة أو تأييد لمذهب الشيعة ... كما طعن ابن الجوزي وابن تيميّة في حديث الثقلين ... وطعن الآمدي ومن تبعه في حديث : ( أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ) ... المخرّج في الصحيحين .
فهذا هو الأصل في كلّ ما ادّعوا في حقّ الكتابين ... إنّه إلاّ التعصّب ... وإلاّ فإنّهما يشتملان على الصحيح وغيره كسائر الكتب ، وصاحباهما محدّثان كسائر الرجال ... فها هنا مقامات ثلاثة :
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 322 _
(1)
آراء العلماء في الشيخين
إمتناع أبي زرعة من الرواية ع البخاري
1 ـ لقد امتنع أبو زرعة عبدالله بن عبدالكريم الرازي من الرواية عن البخاري ، أمّا مسلم فقد ذكر صحيحه فقال : ( هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه فعملوا شيئاً يتسوّقون به ) .
هذا رأي أبي زرعة في الرجلين ، ذكر ذلك جماعة من الأعلام ، قال الذهبي : ( قال سعيد البرذعي : شهدت أبا زرعة ذكر صحيح مسلم فقال : هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه فعملوا شيئاً يتسوّقون به ، وأتاه رجل ـ وأنا شاهد ـ بكتاب مسلم ، فجعل ينظر فيه فإذا حديث عن أسباط بن نصر فقال : ما أبعد هذا عن الصحيح ! ... ثم رأى قطن بن نسير فقال لي : وهذا أطمّ من الأول ، قطن بن نسير يصل أحاديث عن ثابت جعلها عن أنس ... ثم نظر فقال : يروي عن أحمد ابن عيسى في الصحيح ! ما رأيت أهل مصر يشكّون في أنّه ـ وأشار إلى لسانه ـ ) (1) .
وقال : ( قال أبو قريش الحافظ : كنت عند أبي زرعة فجاء مسلم بن الحجّاج فسلّم عليه وجلس ساعة وتذاكرا ، فلمّا قام قلت له : هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح ، قال : فلمن ترك الباقي ؟! ثمّ قال : هذا ليس له عقل ، لو
--------------------
(1) تذهيب التهذيب ـ ترجمة أحمد بن عيسى المصري ، ميزان الاعتدال 1 : 125 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 323 _
دارى محمد بن يحيى لصار رجلاً ) (1) .
وقال الذهبي في ترجمة على بن المديني شيخ البخاري : ( علي بن عبدالله بن جعفر ابن الحسن الحافظ ، أحد الأعلام الأثبات ، وحافظ العصر ، ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء فبئس ما صنع ، فقال : جنح إلى ابن داود والجهمية ، وحديثه مستقيم إن شاء الله ، قال لي عبدالله بن أحمد : كان أبي حدّثنا عنه ، ثم أمسك عن اسمه وكان يقول : حدّثنا رجل ، ثمّ ترك حديثه بعد ذلك ، قلت : بل حديثه عنه في مسنده ، وقد تركه إبراهيم الحربي وذلك لميلة إلى أحمد بن أبي داود ، فقد كان محسناً إليه .
وكذا امتنع مسلم عن الرواية عنه في صحيحة لهذا المعنى ، كما امتنع أبو زرعة وأبو حاتم من الرواية عن تلميذه محمد (2) لأجل مسألة اللفظ ، وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم : كان أبو زرعة ترك الرواية عنه من أجل ما كان منه في المحنة ) (3) .
وقال المناوي في ترجمة البخاري : ( زين الامّة ، إفتخار الأئمّة ، صاحب أصحّ الكتب بعد القرآن ... وقال المذهبي : كان من أفراد العالم مع الدين والورع والمتانة ، هذه عبارته في الكاشف ، ومع ذلك غلب عليه الغضّ من أهل السنّة ، فقال في كتاب الضعفاء والمتروكين : ما سلم من الكلام لأجل مسألة اللفظ ، تركه لأجلها الرازيّان (4) ، هذه عبارته واستغفر الله تعالى ، نسأل الله السلامة ونعوذ به
--------------------
(1) سير أعلام النبلاء ـ ترجمة محمد بن يحيى الذهلي 12 : 280 .
(2) هو محمد بن إسماعيل البخاري .
(3) ميزان الاعتدال 3 : 138 .
(4) هما : أبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 324 _
من الخذلان ) (1) .
ترجمة أبي زرعة الرازي
وقد ترجم الذهبي وابن حجر وغيرهما أبا زرعة ترجمة حافلة وأوردوا كلمات القوم في إمامته وثقته وحفظه وورعه بما يطول ذكره ، والجدير بالذكر قول الذهبي في آخر ترجمته : ( قلت : يعجبني كثيراً كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل يبين عليه الورع والخبرة ) (2) .
وقول أبي حاتم في حقّه : ( إذا رأيت الرازي ينتقص أبا زرعة فاعلم أنّه مبتدع ) (3) .
وقول ابن حبّان : ( كان أحد أئمّة الدنيا في الحديث ، مع الدين والورع والمواظبة على الحفظ والمذاكرة وترك الدنيا وما فيه الناس ) (4) .
وقول ابن راهويه : ( كلّ حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل ) (5) .
تكلّم الذهلي في البخاري ومسلم
3 ـ وتكلّم محمد بن يحيى الذهلي في البخاري ، وكذا إخراجه مسلماً من مجلس بحثه ، مذكور في جميع كتب التراجم ...
قال الذهبي عن الحاكم : ( وسمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول : لمّا استوطن البخاري نيسابور أكثر مسلم بن الحجّاج الإختلاف إليه ، فلمّا وقع بين الذهلي وبين البخاري ما وقع في مسألة اللفظ ونادى عليه ومنع الناس عنه ، انقطع عنه أكثر الناس غير مسلم ، فقال الذهلي يوماً : ألا من قال باللفظ فلا يحلّ له أن يحضر مجلسنا ، فأخذ مسلم رداءه فوق عمامته وقام على رؤوس الناس ، وبعث إلى الذهلي ما كتب عنه على ظهر حمّال ، وكان مسلم يظهر القول باللفظ ولا يكتمه .
قال : وسمعت محمد بن يوسف المؤذّن : سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول : حضرت مجلس محمد بن يحيى ، فقال : ألا من قال : لفظي بالقرآن مخلوق فلا يحضر مجلسنا ، فقام مسلم بن الحجّاج عن المجلس ، رواها أحمد بن منصور الشيرازي عن محمد بن يعقوب ، فزاد : وتبعه أحمد بن سلمة .
قال أحمد بن منصور الشيرازي : سمعت محمد بن يعقوب الأخرم ، سمعت أصحابنا يقولون : لمّا قام مسلم وأحمد بن سلمة من مجلس الذهلي قال : لا يساكنني هذا الرجل في البلد ، فخشي البخاري وسافر ) (1) .
--------------------
(1) سير أعلام النبلاء 12 : 460 ، هدى الساري في مقدّمة فتح الباري 2 : 264 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 326_
ترجمة الذهلي
وترجم له الخطيب فقال : ( كان أحد الآئمة والعارفين والحفّاظ المتقنين والثقات المأمونين ، صنّف حديث الزهري وجوّده ، وقدم بغداد وجالس شيوخها وحدّث بها ، وكان الإمام أحمد بن حنبل يثني عليه وينشر فضله ، وقد حدّث عنه جماعة من الكبراء ) فذكر كلمات الثناء عليه حتى نقل عن بعضهم قوله : ( كان أمير المؤمنين في الحديث ) (1) .
والجدير بالذكر رواية البخاري عنه بالرغم ممّا كان منه في حقّه ، لكن مع تدليس في اسمه ، قال الذهبي : ( روى عنه خلائق منهم ... محمد بن إسماعيل البخاري ، ويدلّسه كثيراً ، لا يقول : محمد بن يحيى ، بل يقول : محمد فقط ، أو محمد ابن خالد ، أو محمد بن عبدالله ، ينسبه إلى الجدّ ويعمّي اسمه لمكان الواقع بينهما ) (2) .
البخاري في كتاب ( الجرح والتعديل )
4 ـ وأورد بن أبي حاتم البخاريّ في كتاب ( الجرح والتعديل ) وقال ما نصّه : ( قدم محمد بن إسماعيل الريّ سنة 250 وسمع منه أبي وأبو زرعة ، وتركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى أنّه أظهر عندهم بنيسابور أنّ لفظه بالقرآن
--------------------
(1) تاريخ بغداد 3 : 415 .
(2) سير أعلام النبلاء 12 : 274 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 327 _
مخلوق ) (1) .
ترجمة ابن أبي حاتم
وقد وصفوا ابن أبي حاتم بالإمامة والحفظ والثقة والزهد ، بل قالوا : ( كان يعدّ من الأبدال ) (2) ، وقال الذهبي : ( له كتاب نفيس في الجرح والتعديل ) (3) ، وعن ابن مندة : ( له الجرح والتعديل في عدّة مجلّدات ، تدلّ على سعة حفظه وإمامته ) (4) .
طعن إبن الأعين في البخاري
5 ـ وقال أبو بكر ابن الأعين : ( مشايخ خراسان ثلاثة : قتيبة ، وعلي بن حجر ، ومحمد بن مهران الرازي ، ورجالها أربعة : عبدالله بن عبدالرحمن السمرقندي ، ومحمد بن إسماعيل البخاري ـ قبل أن يظهر ـ ومحمد بن يحيى ، وأبو زرعة ) (5) .
وقوله : ( قبل أن يظهر ) طعن كما هو ظاهر .
وابن الأعين من أكابر الحفّاظ الأعلام ، كما في تاريخ بغداد 2 | 128 والمنتظم 6 | 59 وسير أعلام النبلاء 13 | 566 وغيرها ، توفي سنة 293 .
البخاري في كتاب ( الضعفاء للذهبي )
6 ـ وأورد الذهبي البخاري في كتاب ( ميزان الإعتدال في نقد الرجال ) وكتاب ( المغني في الضعفاء ) (1) وهو ما استنكره المناوي في عبارته آنفة الذكر .
(2)
آراء العلماء في الصحيحين
وتضمّنت الكلمات السالفة الذكر ـ عن جمع من أعلام الجرح والتعديل الّذين يكفي قدح الواحد منهم للسقوط عن درجة الاعتبار ـ الطعن في الصحيحين أو أحدهما ، وفي ذلك كفاية في وهن دعوى الإجماع على تلقّي الامّة (2) أحاديثهما بالقبول ...
وهنا نتعرّض لآراء عدّة من الأكابر السابقين واللاحقين في حكم أحاديث الصحيحين .
معلومات عن الصحيحين
وقبل الورود في ذلك نذكر معلوماتٍ نقلاً عن شرّاح الكتابين والعلماء
--------------------
(1) ميزان الاعتدال 3 : 485 ، المغني 2 : 557 .
(2) مضافاً إلى أنّ الشيعة الاثني عشرية ، والزيدية والحنفية ، والظاهرية لا يقولون بذلك وهم من هذه الأمّة .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 329 _
المحقّقين في الحديث :
1 ـ قد انتقد حفّاظ الحديث البخاري في (110) أحاديث ، منها (32) حديثاً وافقه مسلم فيها ، و (78) انفرد هو بها (1) .
2 ـ الّذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم ( أربعمائة وبضعه وثلاثون ) رجلاً ، المتكلّم فيه بالضعف منهم (80) رجلاً ، والّذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري (620) رجلاً ، المتكلّم فيه بالضعف منهم (160) رجلاً (2) .
3 ـ الأحاديث المنتقدة المخرّجة عندهما معاً بلغت (210) حديثاً ، اختصّ البخاري منها بأقلّ من (80) حديثاً ، والباقي يختصّ بمسلم (3) .
4 ـ هناك رواة يروي عنهم البخاري ، ومسلم لا يرتضيهم ولايروي عنهم ، ومن أشهرهم : عكرمة مولى ابن عبّاس .
5 ـ قد اتفّق الشيخان على الرواية عن أقوام انتقدهم أصحاب الصحاح الاخرى وأئمّة المذاهب ... ومن أشهرهم : محمد بن بشّار ... حتى نسب إلى الكذب (4) .
6 ـ إنّه قد اختلف عدد أحاديث البخاري في روايات أصحابه لكتابه ، وقال ابن حجر : عدة ما في البخاري من المتون الموصولة بلا تكرار (2602) ومن المتون المعلّقة المرفوعة (159) ، فالمجموع (2761) ، وقال في شرح
--------------------
(1) مقدّمة فتح الباري : 9 .
(2) مقدّمة فتح الباري : 9 .
(3) مقدّمة فتح الباري : 9 .
(4) ميزان الاعتدال 3 : 490 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 330 _
البخاري : إنّ عدّته على التحرير ( 2513) حديث (1) .
7 ـ إنّ البخاري ما قبل أن يبيّض كتابه ، ولذا اختلفت نسخه ورواياته (2) .
8 ـ إن البخاري لم يكن يكتب الحديث في مجلس سماعه ، بل بلده ، فعن البخاري أنّه قال : ربّ حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، وربّ حديث سمعته بالشام كتبته بمصر ، فقيل له : يا أبا عبدالله بكماله ؟! فسكت ) (3) .
أمّا مسلم فقد ( صنّف كتابه في بلده بحضور اصوله في حياة كثير من مشايخه ، فكان يتحرّ في الألفاظ ويتحرّى في السياق ...) (4) .
وبعد ، فإنّ دعوى تلقّي الامّة أحاديث الصحيحين بالقبول وقيام الإجماع عن صحّتها ... لا أساس لها من الصحّة ... لما تقدّم ... ويأتي :
النووي
1 ـ النووي : ( ليس كلّ حديث صحيح يجوز العمل به فضلاً عن أن يكون العمل به واجباً) (5) وقال : ( وما يقوله الناس : إنّ من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ، هذا من التجوّه ولا يقوى) (6) .
--------------------
(1) أضواء على السنّة المحمّدية : 307 .
(2) انظر : مقدّمة فتح الباري : 6 ، أضواء على السنّة المحمّدية : 301 .
(3) تاريخ بغداد 2 : 11 .
(4) مقدّمة فتح الباري : 10 .
(5) التقريب في علم الحديث ، عنه في منتهى الكلام في الردّ على الشيعة : 27 .
(6) المنهاج في شرح صحيح مسلم ، وعنه أضواء على السنّة المحمّدية : 313 ، ( والتجّوه) طلب الجاه بتكلّف .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 331 _
ابن الهمام
2 ـ كمال الدين ابن لهمام : ( وقول من قال : أصحّ الأحاديث ما في الصحيحين ، ثم ما انفرد به البخاري ، ثم ما انفرد به مسلم ، ثم ما اشتمل على شرطهما ، ثم ما اشتمل على شرط أحدهما ، تحكّم لا يجوز التقليد فيه ، إذا الأصحّيّة ليست إلا لاشتمال رواتهما على الشروط التي اعتبراها ، فإن فرض وجود تلك الشروط في رواة حديث في غير الكتابين ، أفلا يكون الحكم بأصحيّة ما في الكتابين عين التحكّم ؟! ) (1) .
أبو الوفاء القرشي (2)
3 ـ أبو الوفاء القرشي : ( فائدة : حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في مسلم وغيره ـ يشتمل على أنواع منها التورّك في الجلسة الثانية ـ ضعّفه الطحاوي ... ولا يحنق علينا لمجيئه في مسلم ، وقد وقع في مسلم أشياء لا تقوى عند الإصطلاح ، فقد وضع الحافظ الرشيد العطّار على الأحاديث المقطوعة المخرّجة في مسلم كتاباً سماّه بـ ( غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في مسلم من الأحاديث المقطوعة ) وبيّنها الشيخ محيي الدين في أوّل شرح مسلم .
وما يقوله الناس : إن من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ، هذا أيضاً من
--------------------
(1) شرح الهداية في الفقه ، وعنه في أضواء على السنّة المحمّدية : 312 .
(2) ترجمته في : حسن المحاضرة 1 : 471 ، الدرر الكامنة 2 : 392 ، شذرات الذهب 6 : 238 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 332 _
التحنّق ولا يقوى ، فقد روى مسلم في كتابه عن ليث بن أبي مسلم وغيره من الضعفاء ، فيقولون : إنّما روى في كتابه للإعتبار والشواهد والمتابعات والإعتبارات ، وهذا لا يقوى ، لأنّ الحفّاظ قالوا : الإعتبار والشواهد والمتابعات والإعتبارات امور يتعرّفون بها حال الحديث ، وكتاب مسلم التزم فيه الصحّة ، فكيف يتعرّف حال الحديث الذي فيه بطرق ضعيفة .
واعلم أنّ ( عن ) مقتضية للإنقطاع عند أهل الحديث ، ووقع في مسلم والبخاري من هذا النوع شيء كثير ، فيقولون على سبيل التحنّق : ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع ، وما كان في الصحيحين فمحمول على الإتّصال .
وروى مسلم في كتابه عن أبي الزبير عن جابر أحاديث كثيرة بالعنعنة ، وقال الحافظ : أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكّي يدلّس في حديث جابر ، فما كان يصفه بالعنعة لا يقبل ، وقد ذكر ابن حزم وعبدالحقّ عن الليث بن سعد أنّه قال لأبي الزبير : علّم لي أحاديث سمعتها من جابر حتى أسمعها منك ، فعلّم لي أحاديث أظنّ أنّها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه ، قال الحافظ : فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر صحيح .
وقد روى مسلم في كتابه أيضاً عن جابر وابن عمر في حجّة الوداع : إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ توجّه إلى مكّة يوم النحر ، وطاف طواف الإفاضة ، ثم رجع فصلّى الظهر بمنى ، فينحنقون ويقولون : أعادها لبيان الجواز ، وغير ذلك من التأويلات ، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين : إحداهما كذب بلا شكّ .
وروى مسلم أيضاً حديث الإسراء وفيه : ( وذلك قبل أن يوحى إليه ) وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللفظة وبيّنوا ضعفها .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 333 _
وروى مسلم أيضأ : ( خلق الله التربة يوم السبت ) ، واتفّق الناس على أنّ يوم السبت لم يقع فيه خلق .
وروى مسلم عن أبي سفيان أنّه قال للنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لمّا أسلم : يا رسول الله اعطني ثلاثاً : تزوّج ابنتي أمّ حبيبة ، وابني معاوية اجعله كاتباً ، وأمّرني أن اقاتل الكفار كما قاتلت المسلمين ، فأعطاه النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، والحديث معروف مشهور ، وفي هذا من الوهم ما لا يخفى ، فامّ حبيبة تزوّجها رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وهي بالحبشة وأصدقها النجاشي عن النبي ـ صلّى الله وآله وسلّم ـ أربعمائة دينار ، وحضر وخطب وأطعم ، والقصّة مشهورة ، وأبو سفيان إنّما أسلم عام الفتح وبين الهجرة إلى الحبشة والفتح عدّة سنين ، ومعاوية كان كاتباً للنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من قبل ، وأمّا إمارة أبي سفيان فقد قال الحافظ : إنّهم لا يعرفونها .
فيجيبون على سبيل التحنّق بأجوبة غير طائلة فيقولون في نكاح ابنته : إعتقد أن نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بكفر ، فأراد من النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ تجديد النكاح ، ويذكرون عن الزبير بن بكّار بأسانيد ضعيفة أنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أمّره في بعض الغزوات ، وهذا لا يعرف .
وما حملهم على هذا كلّه بعض التعصّب ، وقد قال الحافظ : إنّ مسلماً لمّا وضع كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة الرازي فأنكر عليه وقال : سمّيته الصحيح فجعلت سلّماً لأهل البدع وغيرهم ، فإذا روى لهم المخالف حديثاً يقولون : هذا ليس في صحيح مسلم ، فرحم الله تعالى أبا زرعة فقد نطق بالصواب ، فقد وقع هذا .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 334 _
وما ذكرت ذلك كلّه إلاّ أنّه وقع بيني وبين بعض المخالفين بحث في مسألة التورّك ، فذكر لي حديث أبي حميد المذكور أولاً ، فأجبته بتضعيف الطحاوي فما تلفّظ وقال : مسلم يصحّح والطحاوي يضعّف ، والله تعالى يغفر لنا وله آمين ) (1) .
الأدفوي
4 ـ أبو الفضل الأدفوي (2) : ( ثم أقول : إنّ الامّة تلقّت كلّ حديث صحيح وحسن بالقبول ، وعملت به عند عدم المعارض ، وحينئذ لا يختصّ بالصحيحين ، وقد تلقّت الامّة الكتب الخمسة أو الستّة بالقبول وأطلق عليها جماعة اسم ( الصحيح ) ورجّح بعضهم بعضها على كتاب مسلم وغيره .
قال أبو سليمان أحمد الخطّابي : كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنّف في حكم الدين كتاب مثله ، وقد زرق من الناس القبول كافّة ، فصار حكماً بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ، وكتاب السنن أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من كتب البخاري ومسلم .
وقال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي : سمعت الإمام أبا الفضل عبدالله بن محمد الأنصاري بهراة يقول : وقد جرى بين يديه ذكر أبي عيسى الترمذي وكتابه فقال ـ : كتابه عندي أنفع من كتاب البخاري ومسلم .
وقال الإمام أبو القاسم سعيد بن علي الزنجاني : إنّ لأبي عبدالرحمن النسائي شرطاً في الرجال أشدّ من شرط البخاري ومسلم .
--------------------
(1) الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية 2 : 428 ـ 430 .
(2) ترجمته في : الدرر الكامنة 2 : 72 ، النجوم الزاهرة 10 : 237 ، البدر الطالع 1 : 182 ، حسن المحاضرة 1 :320 ، شذرات الذهب 6 : 153 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 335 _
وقال أبو زرعة الرازي لمّا عرض عليه ابن ماجة السنن كتابه : أظنّ إن وقع هذا في أيدي الناس تعطّلت هذه الجوامع كلّها ، أو قال : أكثرها .
ووراء هذا بحث آخر وهو : أنّ قول الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح : إنّ الامّة تلقّت الكتابين بالقبول ، إن أراد كلّ الامّة فلا يخفى فساد ذلك ، إذ الكتابان إنّما صنّفا في المائة الثالثة بعد عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ، وأئمّة المذاهب الأربعة ، ورؤوس حفّاظ الأخبار ونقّاد الآثار المتكلّمين في الطرق والرجال ، المميّزين بين الصحيح والسقيم .
وإن أراد بالأمّة الّذين وجدوا بعد الكتابين فهم بعض الامّة ، فلا يستقيم له دليله الذي قرّره من تلقّي الامّة وثبوت العصمة لهم ، والظاهرية إنّما يعتنون بإجماع الصحابة خاصة ، والشيعة لا تعتدّ بالكتابين وطعنت فيهما ، وقد اختلف في اعتبار قولهم في الإجماع والإنعقاد .
ثم إن أراد كلّ حديث فيهما تلقّي بالقبول من الناس كافّة فغير مستقيم ، فقد تكلّم جماعة من الحفّاظ في أحاديث فيهما ، فتكلّم الدار قطني في أحاديث وعلّلها ، وتكلّم ابن حزم في أحاديث كحديث شريك في الإسراء ، قال : إنّه خلط ، ووقع في الصحيحين أحاديث متعارضة لا يمكن الجمع بينها ، والقطع لا يقع التعارض فيه .
وقد اتّفق البخاري ومسلم على إخراج حديث ( محمد بن بشّار بندار ) وأكثرا من الإحتجاج بحديثه ، وتكلّم فيه غير واحد من الحفّاظ ، أئمّة الجرح والتعديل ، ونسب إلى الكذب ، وحلف عمرو بن علي الفلاس شيخ البخاري أنّ بندار يكذب في حديثه عن يحيى ، وتكلّم فيه أبو موسى ، وقال علي بن المديني في الحديث الذي رواه في السجود : هذا كذب ، وكان يحيى لا يعبأ به ويستضعفه ،
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 336 _
وكان القواريري لا يرضاه .
وأكثرا من حديث ( عبد الرزّاق ) والإحتجاج به ، وتكلّم فيه ونسب إلى الكذب .
وأخرج مسلم عن ( أسباط بن نصر ) وتكلّم فيه أبو زرعة وغيره .
وأخرج أيضاً عن ( سماك بن حرب ) وأكثر عنه ، وتكلّم فيه غير واحد ، وقال الإمام أحمد بن حنبل : هو مضطرب الحديث ، وضعّفه أمير المؤمنين في الحديث شعبة ، وسفيان الثوري ، وقال يعقوب بن شعبة : لم يكن من المتثبّتين ، وقال النسائي : في حديثه ضعف ، قال شعبة : كان سماك يقول في التفسير عكرمة ، ولو شئت لقلت له : ابن عبّاس ، لقاله : وقال ابن المبارك : سماك ضعيف في الحديث ، وضعّفه ابن حزم قال : وكان يلقّن فيتلقّن .
وكان أبو زرعة يذمّ وضع كتاب مسلم ويقول : كيف تسمّيه الصحيح وفيه فلان وفلان ... وذكر جماعة .
وأمثال ذلك يستغرق أوراقاً ، فتلك الأحاديث عندهما ولم يتلقّوهما بالقبول .
وإنّ أراد غالب ما فيهما سالم من ذلك لم يبق له حجّة ) (1) .
القاري
5 ـ الشيخ علي القاري حول صحيح مسلم : ( وقد وقع منه أشياء لا تقوى عند المعارضة ، وقد وضع الرشيد العطّار كتاباً على الأحاديث المقطوعة فيه ،
--------------------
(1) الإمتاع في أحكام السماع ، عنه في كتابنا الكبير : نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار 6 :
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 337 _
وبيّنها الشيخ محيي الدين في أول شرح مسلم .
وما يقوله الناس : إنّ من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ، هذا أيضاً من التجاهل والتساهل ... فقد روى مسلم في كتابه عن الليث ... ) إلى آخر ما ذكره من الأمثلة لما قاله ، بعبارات تشبه عبارات الأدفوي ... (1) .
عبدالعلي الأنصاري
7 ـ الشيخ عبدالعلي الأنصاري الهندي ـ شارح مسلّم الثبوت ـ ، وهذا كلامه مازجاً بالمتن : ( فرع : إبن الصلاح وطائفة ) من الملقّبين بأهل الحديث ( زعموا أنّ رواية الشيخين ) محمد بن إسماعيل ( البخاري ومسلم ) بن الحجّاج صاحبي الصحيحين ( تفيد العلم النظري ، للإجماع على أنّ للصحيحين مزيّة ) على غيرهما ، وتلقّت الامّة بقبولهما ، والإجماع قطعي .
وهذا بهت ، فإنّ من رجع إلى وجدانه يعلم بالضرورة أنّ مجرّد روايتهما لا يوجب اليقين ألبتّة ، وقد روي فيهما أخبار متناقضة ، فلو أفادت روايتهما علماً لزم تحقّق النقيضين في الواقع ( وهذا ) أي ما ذهب إليه ابن الصلاح وأتباعه ( بخلاف ما قاله الجمهور ) من الفقهاء والمحدّثين ، لأنّ انعقاد الإجماع على المزيّة على غيرهما من مرويّات ثقات آخرين ممنوع ، والإجماع على مزيّتهما في أنفسهما لا يفيد
--------------------
(1) انظر : نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الانوار 6 :
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 338 _
و ( لأنّ جلالة شأنهما وتلقّي الأمّة لكتابيهما والإجماع على المزيّة لو سلم لا يستلزم ذلك ) القطع والعلم ، فإنّ القدر المسلّم المتلقّى بين الامّة ليس إلاّ أنّ رجال مرويّاتهما جامعة للشروط التي اشترطها الجمهور لقبول روايتهم ، وهذا لا يفيد إلاّ الظنّ ، وأمّا أنّ مرويّاتهما ثابتة عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ فلا إجماع عليه أصلاً ، كيف ولا إجماع على صحّة جميع ما في كتابيهما ، لأنّ روايتهما منهم قدريّون وغيرهم من أهل البدع ، وقبول رواية أهل البدع مختلف فيه ، فأين الإجماع على صحّة مرويّات القدريّة ؟! ) (1) .
ابن أمير الحاج
8 ـ ابن أمير الحاجّ (2) : ( ثم ممّا ينبغي التنبّه له أنّ أصحّيّتهما على ما سواهم تنزّلاً إنّما تكون بالنظر إلى من بعدهما ، لا المجتهدين المتقدّمين عليهما ، فإنّ هذا مع ظهوره قد يخفى على بعضهم أو يغالط به ) (3) .
المقبلي
9 ـ المقبلي (4) في كتابه ( العلم الشامخ ) : ( في رجال الصحيحين من صرّح كثير من الأئمة بجرحهم ، وتكلّم فيهم من تكلّم بالكلام الشديد ، وإن كان لا
--------------------
(1) فواتح الرحموت بشرح مسلّم الثبوت 2 : 123 .
(2) ترجمته في : شذرات الذهب 6 : 328 ، الضوء اللامع 9 : 210 ، البدر الطالع 2 : 254 .
(3) التقرير والتحبير في شرح التحرير في اصول الفقه ، وعنه في أضواء على السنّة المحمديّة : 314 .
(4) صالح بن مهدي ترجمته في : الأعلام 3 : 197 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 339 _
يلزمهما إلاّ العمل باجتهادهما ) (1) .
محمد رشيد رضا
10 ـ السيّد محمد رشيد رضا ، بعد أن عرض للأحاديث المنتقدة على البخاري : ( وإذا قرأت ما قاله الحافظ (2) فيها رأيتها كلّها في صناعة الفنّ ... ولكنّك إذا قرأت الشرح نفسه ( فتح الباري ) رأيت له في أحاديث كثيرة إشكالات (3) في معانيها أو تعارضها مع غيرها ، مع محاولة الجمع بين المختلفات وحلّ المشكلات بما يرضيك بعضه دون بعض ) (4) .
وقال : ( ممّا لا شكّ فيه أيضاً أنّه يوجد في غيرهما من دواوين السنّة أحاديث أصحّ من بعض ما فيهما ... ولا يخلو [ البخاري ] من أحاديث قليلة في متونها نظر قد يصدق عليه بعض ما عدّوه من علامة الوضع ، كحديث سحر بعضهم للنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ الذي أنكره بعض العلماء كالإمام الجصّاص من المفسّرين المتقدّمين والاستاذ الإمام محمد عبده من المتأخّرين ، لأنّه معارض بقوله تعالى : ( إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا *
انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً
) ( الإسراء 17 : 47 و 48 ) .
هذا ، وإنّ في البخاري أحاديث في امور العادات والغرائز ليست من اصول الدين ولا فروعه ، فإذا تأمّلتم هذا وذاك علمتم أنّه ليس من اصول الدين
--------------------
(1) العلم الشامخ ، وعنه في أضواء على السنّة المحمديّة : 310 .
(2) هو الحافظ ابن حجر العسقلاني .
(3) قلت : سنشير على مواضع منها فيما سيأتي .
(4) المنار 29 : 41 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 340 _
ولا من أركان الإسلام أن يؤمن المسلم بكلّ حديث رواه البخاري مهما يكن موضوعه ، بل لم يشترط أحد في صحّة الإسلام ولا في معرفته التفصيلية ، الإطّلاع على صحيح البخاري والإقرار بكلّ ما فيه .
وعلمتم أيضاً أنّ المسلم لا يمكن أن ينكر حديثاً من هذه الأحاديث بعد العلم به إلاّ بدليل يقوم عنده على عدم صحّته متناً أو سنداً ، فالعلماء الّذين أنكروا صحّة بعض هذه الأحاديث لم ينكروها إلاّ بأدلّة قامت عندهم ، قد يكون بعضها صواباً وبعضها خطأً ، ولا يعدّ أحدهم طاعناً في دين الإسلام ) (1) .
أبورية
11 ـ الشيخ محمود أبو ريّة ... فإنّه انتقد الصحيحين انتقاداً علمياً ، واستشهد في بحثه بكلمات العلماء من المتقدّمين والمتأخرين ... (2) .
أحمد أمين
12 ـ الدكتور أحمد أمين ـ حول البخاري ـ : ( إنّ بعض الرجال الّذين روى لهم ثقات ، وقد ضعّف الحفّاظ من رجال البخاري نحو الثمانين ، وفي الواقع هذه مشكلة المشاكل ... ) (3) .
--------------------
(1) المنار 2 : 104 ـ 105 .
(2) أضواء على السنّة المحمديّة : 299 ـ 316 .
(3) ضحى الإسلام 2 : 117 ـ 118 .
التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف
_ 341 _
شكيب أرسلان
13 ـ الأمير شكيب أرسلان : ( إنّ كثير بن من المسلمين ومن ذوي الحميّة الإسلامية وممّن لا ينقصهم شيء من الإيمان والإيقان ... لا يرون من الواجب الديني الإيمان بكلّ ما جاء في الصحيحين وغيرهما من الأحاديث ، لاحتمال أن يكون تطرّق إليها التبديل والتغيير أو دخلها الزيادة و النقصان ... ) (1) .
أحمد محمد شاكر
14 ـ الشيخ أحمد محمد شاكر : ( قد وقع في الصحيحين أحاديث كثيرة من رواية بعض المدلّسين ) (2) .
(3)
الصحيحان في الميزان
هذا ... وقد ألّف بعض أعاظم القوم ( علل الحديث ) المخّرج في الصحيحين كالدار قطني .
وآخر ( غريب الصحيحين ) كالضياء المقدسي .
--------------------
(1) حاضر العالم الإسلامي 1 : 44 ـ 51 ، وعنه في أضواء على السنّة المحمديّة : 326 .
(2) شرح ألفيّة السيوطي ، عنه في أضواء على السنّة المحمديّة : 311 .