لايعوج له مدعو ، بل يستوون إليه من غير انحراف * (وخشعت الاصوات) * أي : خفضت من شدة الفزع وخفتت * (فلا تسمع إلا همسا) * وهو الركز الخفي ومنه الحروف المهموسة ، وقيل : هو من هميس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت ، أي : لا تسمع إلا خفق
(1) الأقدام ونقلها إلى المحشر
(2) .
* (من) * يجوز فيه الرفع والنصب : فالرفع على البدل من * (الشفعة) *
بتقدير حذف المضاف ، أي : * (لا تنفع الشفعة إلا) * شفاعة * (من أذن له الرحمن) * ،
والنصب على المفعولية ، ومعنى * (أذن له ... ورضى له) * : لأجله ، كاللام في قوله : *
(وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه) *
(3) .
* (يعلم ما بين أيديهم) * أي : ماتقدمهم من الأحوال * (وما خلفهم) * أي : ما يستقبلونه * (ولا يحيطون) * بمعلوماته * (علما) * .
* (وعنت) * وجوه العصاة أي : خشعت وذلت إذا عاينت أهوال يوم القيامة ، وقيل : المراد ب * (الوجوه) * الرؤساء والملوك
(4) ، أي : صاروا كالعناة وهم الأسارى ، وقوله : * (وقد خاب) * وما بعده اعتراض .
* (فلا يخاف ظلما) * وهو أن يؤخذ بذنب لم يعمله ، أو لا يجزى بعمله * (ولا هضما) * وهو أن يكسر من حقه فلا يوفي له ، أو يبطل بعض حسناته ، وقرئ : ( فلايخف ) على النهي
(5) ، والمعنى : فليأمن الظلم والهضم . * (وكذلك) * عطف على * (كذلك نقص) *
(6) أي : مثل ذلك الإنزال ، و
(7) كما
-------------------
(1) الخفق : صوت النعل وما أشبهها من الأصوات ، (لسان العرب : مادة خفق) .
(2) وهو قول ابن عباس والحسن وعكرمة وابن زيد ، راجع تفسير الطبري : ج 8 ص 459 ـ 460 .
(3) الأحقاف : 11 .
(4) حكاه الآلوسي في تفسيره : ج 16 ص 265 .
(5) قرأه ابن كثير ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 424 .
(6) الآية : 99 .
(7) في نسخة : ( أو ) بدل الواو . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 503 _
أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المتضمنة للوعيد أنزلنا القرآن كله * (وصرفنا) * أي : وكررنا * (فيه) * آيات * (الوعيد) * وبيناها على ألفاظ مختلفة ليتقوا المعاصي * (أو يحدث) * القرآن * (لهم) * شرفا بإيمانهم به ، أو اعتبارا بأن يذكروا به عقاب الله للأمم .
* (فتعلى الله الملك الحق) * استعظام له سبحانه ، ولما يصرف عليه عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده ، وما يجري عليه أمور ملكوته .
ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد : وإذا لقنك جبرئيل الوحي ف * (لا تعجل) * بتلاوته قبل أن يفرغ من قراءته ، ولا تكن قراءتك مساوقة لقراءته ، ونحوه : * (لا تحرك به لسانك لتعجل به) * (1) ، وقيل : معناه : لاتقرئه أصحابك حتى يبين لك ماكان مجملا (2) ، واستزد من الله سبحانه علما إلى علمك * (وقل رب زدنى علما) * إلى علم .
* (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى * قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى)
-------------------
(1) القيامة : 16 .
(2) وهو قول مجاهد وقتادة ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 233 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 504 _
* عطف سبحانه قصة آدم على قوله : * (وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون) * ، والمعنى : * (و) * أقسم قسما * (لقد) * وصينا أباهم بأن لا يقرب الشجرة * (فنسى) * العهد ولم يتذكر الوصية ، يقال : عهد الملك إلى فلان وأوعز إليه وعزم عليه * (ولم نجد له عزما) * يجوز أن يكون من الوجود الذي هو بمعنى العلم ومفعولاه * (له عزما) * ، وأن يكون نقيض العدم ، كأنه قال : وعدمنا له عزما ، وقيل : * (فنسى) * معناه : فترك الأمر (1) .
* (وإذ) * منصوب بمضمر ، أي : واذكر وقت ما جرى عليه من معاداة إبليس ووسوسته إليه ، وتزيينه له الأكل من الشجرة * (أبى) * جملة مستأنفة كأنه جواب قائل يقول : لم لم يسجد ؟ والوجه : أن لا يقدر له مفعول وهو السجود ، وأن يكون معناه : أظهر الإباء وتوقف .
وقوله : * (فلا يخرجنكما) * معناه : فلا يكونن سببا لإخراجكما * (فتشقى) * أسند الشقاء إلى آدم دون حواء بعد اشتراكهما في الخروج ، لأن المراد بالشقاء هنا : التعب في طلب القوت ومعاناة العمل وذلك معصوب برأس الرجل ، وعن سعيد بن جبير : أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر فكان يحرث عليه ويرشح العرق من جبينه فذلك هو الشقاوة (2) .
وقرئ : * (وأنك) * بفتح الهمزة وكسرها (3) ، ووجه الفتح :
العطف على * (ألا تجوع) * والتقدير : وإن لك أنك لا تظمأ ، والكسر : على الاستئناف ،
والشبع
-------------------
(1) قاله مجاهد ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 430 .
(2) حكاه عنه الطبري في تفسيره : ج 8 ص 467 .
(3) وبالكسر هي قراءة نافع وعاصم برواية أبي بكر ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 539 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_505 _
والري والكسوة والكن (1) هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان ، فذكر سبحانه استجماعها له في الجنة ، وأنه لا يحتاج إلى كفاية كاف ولا إلى كسب كاسب كما أن أهل الدنيا يحتاجون إلى ذلك ، وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع والعري والظمأ والضحي ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يتحرز عن السبب الموقع فيها كراهة لها .
* (فوسوس إليه الشيطن) * أي : أنهى (2) إليه الوسوسة كما يقال : أسر إليه ، وأضاف ال * (شجرة) * إلى * (الخلد) * وهو الخلود ، لأن من أكل * (منها) * خلد بزعمه .
وطفق يفعل كذا مثل : جعل يفعل ، وأخذ يفعل ، وحكمها حكم ( كاد ) في أن خبرها الفعل المضارع ، وهي للشروع في أول الأمر ، و ( كاد ) للدنو من الأمر * (يخصفان
عليهما) * أي : يلزقان بسوآتهما * (من ورق الجنة) * للتستر ، وهو ورق التين * (وعصى
ءادم ربه) * أي : خالف ما أمره به ربه ، والمعصية : مخالفة الأمر ، سواء كان الأمر
واجبا أو ندبا * (فغوى) * أي : فخاب من الثواب الذي كان يستحقه على فعل المأمور به ،
أو خاب مما كان يطمع فيه بأكل الشجرة من الخلود ، ويستشهد على ذلك بقول الشاعر : فمن
يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما (3) * (ثم اجتبه ربه) * أي : اصطفاه ربه وقربه إليه ، من قولهم : جبى إلي كذا فاجتبيته * (فتاب عليه) * أي : قبل توبته وهداه إلى ذكره ، وقيل : هداه للكلمات التي تلقاها منه (4) .
ولما كان آدم وحواء أصلي البشر جعلا كأنهما البشر ، فخوطبا
-------------------
(1) الكن : البيت ، والجمع : أكنان وأكنة ، (لسان العرب : مادة كنن) .
(2) الانهاء : الإبلاغ ، (الصحاح : مادة نهى) .
(3) والبيت للمرقش الأصغر ، تقدم شرحه وبيان معناه .
(4) قاله السمرقندي في تفسيره : ج 2 ص 357 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 506_
مخاطبتهم فقيل : * (فإما يأتينكم) * على لفظ الجماعة كما أسند الفعل إلى السبب وهو في الحقيقة للمسبب ، والمراد بالهدى : الكتاب والشريعة .
وعن ابن عباس : ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، ثم تلا قوله : * (فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى) *
(1) .
*
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى * أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى * وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) * * (ومن أعرض عن) * القرآن ، وقيل : عن الدلائل
(2)
فلم ينظر فيها * (فإن له معيشة ضنكا) * أي : عيشا ضيقا ، والضنك مصدر يستوي في الوصف
به المذكر والمؤنث ، والمعني فيه : أن مع الدين القناعة والتوكل على الله والرضا
بقسمته ، فصاحبه ينفق مما رزق بسهولة وسماح فيكون في رفاهية من عيشه ، ومن أعرض عن
الدين استولى عليه الحرص والجشع ، ويتسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق فيعيش
في ضنك * (ونحشره يوم القيمة أعمى) * البصر ، وقيل : أعمى
-------------------
(1) حكاه عنه الماوردي في تفسيره : ج 3 ص 431 .
(2) ذكره القرطبي في تفسيره : ج 11 ص 258 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_507 _
عن الحجة لا يهتدي إليها (1) ، والأول أوجه (2) لأنه الظاهر .
* (كذلك) * أي : مثل ذلك فعلت أنت ، ثم فسره بأن آياتنا * (أتتك) * واضحة منيرة فلم تنظر إليها بعين المعتبر وتركتها وعميت عنها ف * (كذلك) * نتركك على عماك ، ولا نزيل غطاءه عن عينيك .
ولما توعد المعرض عن ذكره بعقوبتين : المعيشة الضنك في الدنيا وحشره أعمى في الآخرة ، ختم آيات الوعيد بقوله : * (ولعذاب الاخرة أشد وأبقى) * كأنه قال : وللحشر على العمى الذي لا يزول أبدا أشد من ضيق العيش المنقضي ، أو أراد : ولتركنا إياه في العمى أشد وأبقى من تركه لآياتنا .
وفاعل * (أفلم يهد) * الجملة بعده ، والمراد : ألم يهد لهم هذا بمضمونه ومعناه ، كما أن قوله تعالى : * (وتركنا عليه في الاخرين سلم على نوح في العلمين) * (3) معناه : تركنا عليه هذا الكلام ، ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو
الرسول ، ويدل عليه القراءة بالنون (4) * (يمشون في مسكنهم) * يريد : أن قريشا يتقلبون في بلاد عاد وثمود ويعاينون آثار إهلاكهم * (إن في ذلك) * لعبرا ودلالات
لذوي العقول .
* (ولولا كلمة سبقت من ربك) * وهي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة *
(لكان) * مثل إهلاكنا عادا وثمود لازما لهؤلاء الكفرة ، واللزام : إما مصدر لازم وصف
به ، وإما فعال بمعنى مفعل كأنه آلة اللزوم ، لفرط لزومه كما قيل : لزاز (5) خصم * (وأجل مسمى) * معطوف على * (كلمة) * أو على الضمير في * (كان) * أي :
-------------------
(1) قاله مجاهد ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 235 .
(2) في بعض النسخ : أولى.
(3) الصافات : 78 و 79 .
(4) وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي وأبي رجاء العطاردي ، راجع الفريد في اعراب القرآن للهمداني : ج 3 ص 470 .
(5) لزه يلزه لزا ولززا ، أي : شده وألصقه ، وكز لز اتباع له ، رجل ملز : إذا كان شديد الخصومة ، لزوم إذا طالب ، (الصحاح : مادة لزز) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 508 _
لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين له كما كانا لازمين لعاد وثمود .
وقوله : * (بحمد ربك) * في موضع نصب على الحال ، أي : وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه ، والمراد بالتسبيح : الصلاة أو هو على الظاهر * (قبل طلوع الشمس) * يعني : صلاة الفجر * (وقبل غروبها) * يعني : الظهر والعصر ، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها * (ومن ءانآى اليل) * أي : ساعاته ، وعن ابن عباس : هي صلاة الليل كله (1) ، وقيل : إن قبل غروبها هو صلاة العصر و * (أطراف النهار) * هو الظهر لأن وقته الزوال وهو طرف النصف الأول وطرف النصف الثاني من النهار (2) ، وقد تؤول أيضا التسبيح في * (ءانآئ اليل) * بصلاة العتمة وفي * (أطراف النهار) * بصلاة الفجر والمغرب ، فيكون تكرارا على إرادة الاختصاص كما في قوله : * (حفظوا على الصلوا ت والصلوا ة الوسطى) * (3) ومن حمل التسبيح على الظاهر قال : أراد المداومة على التسبيح والتحميد في عموم الأوقات ( لعلك ترضى ) (4) بالشفاعة والدرجة الرفيعة ، وقرئ بفتح التاء كما في قوله : * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * (5) .
* (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى * وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى * وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى * قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى)
-------------------
(1) حكاه عنه الماوردي في تفسيره : ج 3 ص 432 .
(2) وهو قول ابن جريج وقتادة ، راجع تفسير الطبري : ج 8 ص 477 .
(3) البقرة : 238 .
(4) يظهر منه أنه يعتمد على هذه القراءة بضم التاء مبنيا للمجهول هنا تبعا للكشاف .
(5) الضحى : 5 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 509 _
بخلقه ، ألا ترون أنه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله ؟ وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله ؟ وأن من يلده الرجل ، وإن أهانه وأقصاه ، لم يخرج عن أن يكون ولده ؟ لان معنى الولادة قائم .
ثم إن وجب ـ لانه قال الله: ابراهيم خليلي ـ أن تقيسوا أنتم فتقولوا : إن عيسى ابنه ، وجب أيضا كذلك أن تقولوا لموسى : إنه ابنه ، فان الذي معه من المعجزات لم يكن بدون ما كان مع عيسى ، فقولوا إن موسى أيضا ابنه ، وإنه يجوز أن تقولوا على هذا المعنى : شيخه وسيده وعمه ورئيسه وأميره كما قد ذكرته لليهود .
فقال بعضهم : وفي الكتب المنزلة أن عيسى قال : أذهب إلى أبي .
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : فان كنتم بذلك الكتاب تعملون ، فان فيه : ( أذهب إلى أبي وأبيكم ) فقولوا : إن جميع الذين خاطبهم كانوا أبناء الله، كما كان عيسى ابنه من الوجه الذي كان عيسى ابنه ، ثم إن ما في هذا الكتاب يبطل عليكم هذا ـ المعنى ـ الذي زعمتم أن عيسى من جهة الاختصاص كان ابنا له ، لانكم قلتم : إنما قلنا : إنه ابنه لانه تعالى اختصه بما لم يختص به غيره ، وأنتم تعلمون أن الذي خص به عيسى لم يخص به هؤلاء القوم الذين قال لهم عيسى : ( أذهب إلى أبي وأبيكم ) فبطل أن يكون الاختصاص (1) لعيسى ، لانه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى ، وأنتم إنما حكيتم لفظة عيسى وتأولتموها على غير وجهها لانه إذا قال : ( أبي وأبيكم ) فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه ، وما يدريكم لعله عنى : أذهب إلى آدم وإلى نوح إن الله يرفعني إليهم ويجمعني معهم ، وآدم أبي وأبوكم وكذلك نوح ، بل ما أراد غير هذا قال : فسكتت النصارى ، وقالوا : ما رأينا كاليوم مجادلا ولا مخاصما وسننظر في أمورنا .
ثم اقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الدهرية فقال : وأنتم فما الذي دعاكم إلى القول
--------------------
(1) ( تكون البنوة للاختصاص ) أ ، ط . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 510_
فإن رزقك مكفي من عندنا * (لا نسلك) * أن ترزق نفسك ولا أهلك .
وعن أبي سعيد الخدري : لما نزلت هذه الآية كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأتي باب فاطمة وعلي (عليهما السلام) تسعة أشهر وقت كل صلاة فيقول : الصلاة رحمكم الله * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (1) (2) .
وعن بكر بن عبد الله المزني (3) : أنه كان إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا ، بهذا أمر الله (4) رسوله ، ثم يتلو هذه الآية (5) .
* (والعقبة) * المحمودة * (للتقوى) * أي : لأهل التقوى .
* (وقالوا لولا يأتينا باية) * اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوة ، فقيل لهم : * (أولم) * تأتكم آية هي أصل الآيات وأجلها في باب الإعجاز ، يعني : القرآن ، وذلك أن القرآن به يستدل على صحة سائر الكتب المنزلة ، وجميعها مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها كما يحتاج المحتج عليه إلى شهادة الحجة ، لأنه معجزة وتلك الكتب ليست بمعجزات ، وذكر الضمير الراجع إلى ( البينة ) في * (من قبله) * لأنها في معنى الدليل والبرهان .
* (كل) * أي : كل واحد منا ومنكم * (متربص) * منتظر للعاقبة ، فنحن ننتظر وعد الله لنا فيكم ، وأنتم تتربصون بنا الدوائر ، و * (الصرا ط السوى) * : الدين المستقيم .
وفي قوله : * (ولو أنا أهلكنهم) * الآية ، دلالة على وجوب اللطف ، وأنه إنما بعث الرسول لكونه لطفا ، ولو لم يبعثه لكان للخلق الحجة عليه سبحانه وتعالى .
-------------------
(1) الأحزاب : 33 .
(2) تفسير الحبري : ص 306 ح 55 ، شواهد التنزيل للحسكاني : ج 2 ص 47 ح 668 .
(3) هو بكر بن عبد الله بن عمرو بن هلال المزني ، أخو علقمة ، راجع تهذيب التهذيب لابن حجر : ج 1 ص 484 .
(4) في نسخة زيادة : واو .
(5) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 99 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 511 _