ولا يكافئكم على سوء دخلتكم (1) .
  * (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) * الخطاب للمسلمين ، وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويحلفون ليرضوا عنهم ، فقيل لهم : * (إن) * كنتم * (مؤمنين) * كما تزعمون فأحق من أرضيتم * (الله ورسوله) * بالطاعة والموافقة ، وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورسوله ، فهما فيحكم مرضى واحد ، أو : والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك .
  المحادة : مفاعلة من الحد ، أي : المنع * (فأن له) * أي : فحق أن له * (نار جهنم) * ، ويجوز أن يكون * (فأن له) * معطوفا على * (أنه) * على أن جواب * (من) * محذوف ، والتقدير : * (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) * يهلك * (فأن له نار جهنم) * .
  * (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) * كانوا يستهزئون بالإسلام وأهله وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله بالوحي فيهم ، والضمير في * (عليهم) * و * (تنبئهم) * للمؤمنين ، وفي * (قلوبهم) * للمنافقين ، وصح ذلك لأن المعنى يقود إليه ، ويجوز أن يكون الضمير في الكل للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم ، والمعنى : أنها تذيع أسرارهم فكأنها تخبرهم بها ، وقيل : معناه ليحذر * (المنفقون) * على الأمر (2) ، * (قل استهزءوا) *

-------------------
(1) داخلة الرجل ودخلته : باطن أمره ، (الصحاح : مادة دخل) .
(2) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 2 ص 459 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 77 _

  وعيد بلفظ الأمر * (إن الله مخرج) * أي : مظهر * (ماتحذرون) * إظهاره من نفاقكم .
  وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يسير منصرفه من غزوة تبوك وبين يديه أربعة نفر يسيرون ويضحكون ويقولون : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه ، هيهات هيهات ، فأخبره جبرئيل (عليه السلام) بذلك ، فقال (صلى الله عليه وآله) لعمار : إن هؤلاء يستهزئون بي وبالقرآن * (ولئن سألتهم ليقولن) * : * (كنا) * نتحدث بحديث الركب ، فاتبعهم عمار وقال لهم : مم تضحكون ؟ قالوا : كنا نتحدث بحديث الركب ، فقال عمار : صدق الله ورسوله احترقتم أحرقكم الله، فأقبلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعتذرون ، فنزلت الآيات (1) .
  وقيل : نزلت في اثني عشر رجلا وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقال بعضهم لبعض : إن فطن نقول : * (إنما كنا نخوض ونلعب) * (2) .
  * (لا تعتذروا) * لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة فإنها لاتنفعكم بعد ظهور أسراركم * (قد كفرتم) * قد أظهرتم كفركم * (بعد) * إظهاركم الإيمان * (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ ) * بإحداثهم الإيمان بعد النفاق * (نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ) * مصرين على النفاق ، أو : إن نعف عن طائفة منكم لم يؤذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يستهزئوا به نعذب طائفة بأنهم كانوا مؤذين لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مستهزئين ، وقرئ : ( إن يعف عن طائفة يعذب طائفة ) على البناء للفاعل (3) وهو الله عزوجل .
  * (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ * كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

-------------------
(1) انظر أسباب النزول للواحدي : ص 207 .
(2) رواه العياشي في تفسيره : ج 2 ص 95 ح 84 عن الباقر (عليه السلام) ، وفي البحر المحيط : ج 5 ص 66 عن ابن كيسان وفيه : ( جماعة )بدل ( اثني عشر رجلا ) .
(3) قرأه عاصم الجحدري ، راجع إعراب القرآن للنحاس : ج 2 ص 226 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 78 _
  * * (بعضهم من) * جملة * (بعض) * وبعضهم مضاف إلى بعض وهو تكذيب لهم فيما حلفوا : * (إنهم لمنكم) * (1) ، وتحقيق لقوله : * (وماهم منكم) * (2) ، ثم وصفهم بما يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين بقوله : * (يأمرون بالمنكر) * وهو الكفر والمعاصي * (وينهون عن المعروف) * من : الإيمان والطاعات * (ويقبضون أيديهم) * شحا بالخيرات والصدقات والإنفاق في سبيل الله * (نسوا الله) * أغفلوا ذكره * (فنسيهم) * فتركهم عن رحمته وفضله * (إن المنفقين هم الفسقون) * هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ عن كل خير .
  * (خلدين فيها) * أي : مقدرا لهم الخلود فيها * (هي حسبهم) * دلالة على عظم عذابها ، وأنه لا شئ أبلغ منه ، نعوذ بالله منها * (ولعنهم الله) * أبعدهم من خيره وأهانهم * (ولهم عذاب مقيم) * سوى الصلي بالنار ، دائم كعذاب النار ، أو : * (عذاب مقيم) * معهم في العاجل لا ينفكون منه ، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق وما يخافونه أبدا من الفضيحة .
  ومحل الكاف رفع تقديره : أنتم مثل * (الذين من قبلكم) * ، أو نصب تقديره :

-------------------
(1 و 2) الآية 56 المتقدمة . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 79 _
  فعلتم مثل فعل * (الذين من قبلكم) * وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا ، وقوله : * (كانوا أشد منكم) * تفسير لتشبيههم بهم ، وتمثيل لفعلهم بفعلهم ، والخلاق : النصيب ، وهو ما خلق للإنسان أي : قدر ، كما قيل : له قسم ونصيب ، لانه قسم له ونصب أي : أثبت * (وخضتم) * أي : دخلتم في الباطل واللهو * (كالذي خاضوا) * كالفوج الذي خاضوا ، أو كالخوض الذي خاضوا ، وعن ابن عباس : هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم ، والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه (1) .
  * (وأصحب مدين) * قوم شعيب * (والمؤتفكت) * مدائن قوم لوط أهلكها الله بالخسف وقلبها عليهم ، من الإفك وهو القلب والصرف * (فما كان الله ليظلمهم) * فما صح منه أن يظلمهم ، لأنه حكيم لا يجوز أن يفعل القبيح ويعاقب بغير جرم * (ولكن) * ظلموا * (أنفسهم) * بالكفر فاستحقوا العقاب .
  * (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) * (بعضهم أولياء بعض) * في مقابلة قوله : * (بعضهم من بعض) * (2) أي : يلزم

-------------------
(1) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 5 ص 255 .
(2) الآية 67 المتقدمة . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 80 _
  كل واحد منهم موالاة بعض ونصرته ، وهم يد واحدة على من سواهم * (سيرحمهم الله) * السين تفيد وجود الرحمة لا محالة وتؤكد الوعد ، ونحوه : * (سيجعل لهم الرحمن ودا) * (1) ، و * (سوف يؤتيهم أجورهم) * (2) ، * (عزيز) * غالب على كل شئ قادر عليه ، فهو يقدر على الثواب والعقاب * (حكيم) * واضع كل شئ موضعه .
  * (ومسكن طيبة) * يطيب العيش فيها ، بناها الله من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ، و * (عدن) * علم بدليل قوله : * (جنت عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب) * (3) ، ويدل عليه ما رواه أبو الدرداء (4) عن النبي (صلى الله عليه وآله) : ( عدن : دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النبيون والصديقون والشهداء ، يقول الله عزوجل : طوبى لمن دخلك ) (5) ، وقيل : هي مدينة في الجنة (6) ، * (ورضوا ن من الله) * أي : وشئ من رضوان الله * (أكبر) * من ذلك كله ، لأن رضاه سبب كل سعادة وموجب كل فوز ، وبه ينال تعظيمه وكرامته ، والكرامة أكبر أصناف الثواب * (ذلك) * إشارة إلى ما وعد الله أو إلى الرضوان ، أي : * (هو الفوز العظيم) * وحده دون ما يعده الناس فوزا . *
  (جهد الكفار) * بالسيف * (والمنفقين) * بالحجة .
  الصادق (عليه السلام) : ( جاهد الكفار بالمنافقين ) وقال : ( هل سمعتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قاتل منافقا ؟ إنما كان يتألفهم ) (7) .

-------------------
(1) مريم : 96 .
(2) النساء : 152 .
(3) مريم : 61 .
(4) هو عويمر بن زيد الأنصاري الخزرجي ، وكان آخر أهل داره إسلاما ، شهد احد ، وكان عالم أهل الشام ومقرئ أهل دمشق وقاضيهم ، مات فيها سنة اثنتين وثلاثين ، انظر المعارف لابن قتيبة : ص 268 .
(5) أخرجه الطبري باسناده في تفسيره : ج 6 ص 416 ح 16958 .
(6) قاله الضحاك كما في تفسير الطبري : ج 6 ص 418 ح 16972 .
(7) التبيان : ج 5 ص 260 وج 10 ص 52 وفيه : هي قراءة أهل البيت (عليهم السلام) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 81 _
  * (واغلظ عليهم) * ولاتحابهم ، وعن الحسن : جهاد المنافقين إقامة الحدود عليهم (1) .
  * (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) * حلفوا * (بالله ما قالوا) * ما حكي عنهم * (ولقد قالوا كلمة الكفر) * وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام * (وهموا بما لم ينالوا) * وهموا بالفتك برسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وذلك عند مرجعه من تبوك ، تواثق اثنا عشر رجلا ـ وقيل : خمسة عشر ـ على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل ، فأخذ عمار بن ياسر بخطام ناقته يقودها ، وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينا هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح ، فالتفت فإذا قوم متلثمون ، فقال : إليكم يا أعداء الله، وضرب وجوه رواحلهم حتى نحاهم ، فلما نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لحذيفة : من عرفت منهم ؟ قال : لم أعرف منهم أحدا ، فقال (صلى الله عليه وآله) : إنه فلان وفلان ، حتى عدهم كلهم ، فقال حذيفة : ألا تقتلهم يارسول الله ؟ فقال : أكره أن تقول العرب : لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم (2) .
  وعن الباقر (عليه السلام) : ( كانت ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب ) (3) .
  * (وما نقموا) * أي : وما أنكروا وماعابوا * (إلا أن أغنيهم الله ورسوله من

-------------------
(1) تفسير الحسن البصري : ج 1 ص 420 .
(2) رواها الزمخشري في كشافه : ج 2 ص 291 ، والرازي في تفسيره : ج 16 ص 136 .
(3) أورده الشيخ الطوسي في التبيان : ج 5 ص 261 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 82 _
  فضله) * والمعنى : أنهم جعلوا موضع شكر النعمة كفرانها ، وكان الواجب عليهم أن يقابلوها بالشكر .
  * (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) * هو ثعلبة بن حاطب قال : يارسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا ، فقال : يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، فقال : والذي بعثك بالحق لئن رزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه ، فدعا له ، فاتخذ غنما ، فنمت كما ينمي الدود حتى ضاقت بها المدينة ، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة ، وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) المصدق (1) ليأخذ الصدقة فأبى وبخل ، فقال : وما هذه إلا أخت الجزية ، فقال : يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة . *
  (فأعقبهم) * عن الحسن : أن الضمير للبخل (2) ، فأورثهم البخل * (نفاقا) * متمكنا * (في قلوبهم) * لأنه كان سببا فيه وداعيا إليه ، والظاهر أن الضمير لله عزوجل ، أي : فخذلهم حتى نافقوا وتمكن النفاق في قلوبهم فلا ينفك عنها حتى يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح ، وبكونهم كاذبين ، ومنه جعل خلف الموعد ثلث النفاق .
  وعن علي (عليه السلام) : * (سرهم ونجوبهم) * : ( ماأسروه من النفاق والعزم على

-------------------
(1) المصدق : الذي يأخذ صدقات الغنم ، (الصحاح : مادة صدق) .
(2) تفسير الحسن البصري : ج 1 ص 423 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 83 _
  إخلاف ما وعدوه ، وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية (1) .
  * (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) * * (الذين يلمزون) * في محل النصب أو الرفع على الذم ، والمطوع : المتبرع ، وأصله : المتطوع ، أي : يعيبون المتطوعين بالصدقة * (من المؤمنين) * ويطعنون عليهم * (في الصدقت و) * يعيبون * (الذين لا يجدون إلا) * طاقتهم فيتصدقون بالقليل * (فيسخرون منهم) * ويستهزئون * (سخر الله منهم) * هو مثل قوله : * (الله يستهزئ بهم) * (2) في أنه خبر غير دعاء .
  وقوله : * (استغفر لهم) * أمر في معنى الخبر ، والمعنى : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، وفيه معنى الشرط ، و ( السبعون ) جار في كلامهم مجرى المثل للتكثير (3) ، قال علي (عليه السلام) : لاصبحن العاص وابن العاصي * سبعين ألفا عاقدي النواصي (4)

-------------------
(1) أخرجه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 293 .
(2) البقرة : 15 .
(3) قال الشيخ الطوسي (قدس سره) : وتعليق الاستغفار بالسبعين مرة ، والمراد به المبالغة لا العدد المخصوص ، ويجري ذلك مجرى قول القائل : لو قلت ألف مرة ما قبلت ، والمراد بذلك أنني لا أقبل منك ، وكذلك الآية المراد بها نفي الغفران جملة ،(التبيان : ج 5 ص 267 ـ 268) .
(4) أنشده (عليه السلام) في عمرو بن العاص ، يقول : لاغازين الرجل العاصي عمرا بسبعين ألفا من الخيل عاقدي نواصيها ، وعقد الناصية من أمارات الشجاعة والاشاحة في القتال ، راجع الديوان المنسوب له (عليه السلام) : ص 58 وفيه : ( لأوردن ) بدل ( لاصبحن ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _84 _
  * (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) * * (فرح المخلفون) * الذين خلفهم النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يخرجهم معه إلى تبوك ، لما استأذنوه في التأخر فأذن لهم * (بمقعدهم) * بقعودهم عن الغزو ، و * (خلف رسول الله) * : خلفه ، يقال : أقام خلاف الحي أي : بعدهم ، وقيل : هو بمعنى المخالفة ، لأنهم خالفوه حيث قعدوا ونهض (1)، وانتصب بأنه مفعول له أو حال ، أي : قعدوا لمخالفة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو مخالفين له * (وكرهوا أن يجهدوا بأموا لهم وأنفسهم) * هو تعريض بالمؤمنين وبتحملهم المشاق العظيمة لوجه الله في بذل أموالهم ونفوسهم * (وقالوا) * لهم أو قال بعضهم لبعض : لا تخرجوا إلى الغزو * (في) * هذا * (الحر قل نار جهنم أشد حرا) * استجهال لهم ، فإن من تصون من مشقة ساعة فوقع بذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل .
  *(فليضحكوا قليلا) * معناه : فسيضحكون قليلا ويبكون * (كثيرا جزاء) * إلا أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره .
   وإنما قال : * (إلى طائفة منهم) * لأن منهم من تاب وندم على التخلف أو اعتذر بعذر صحيح * (فاستذنوك للخروج) * إلى غزوة بعد غزوة تبوك * (أول مرة) * هي الخرجة إلى غزوة تبوك * (مع الخلفين) * مر تفسيره .

-------------------
(1) قاله الأخفش في معاني القرآن : ج 2 ص 558 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 85 _
  * (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) * * (مات) * صفة ل‍ * (أحد) * ، وإنما قيل بلفظ الماضي والمعنى على الاستقبال على تقدير الكون والوجود ، لأنه كائن موجود لا محالة * (إنهم كفروا) * تعليل للنهي ، وكان (صلى الله عليه وآله) يصلي عليهم ويجريهم على أحكام المسلمين ، وكان إذا صلى على ميت وقف على قبره ساعة ويدعو له ، فنهي عن الأمرين بسبب كفرهم بالله وموتهم على النفاق .
  وأعيد قوله : * (ولا تعجبك أموا لهم) * لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده لاسيما إذا تراخى مابين النزولين ، ويجوز أن يكون النزولان في فريقين من المنافقين .
  * (وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ * لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) * يجوز أن يراد السورة بتمامها ، وأن يراد بعضها كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه * (أن ءامنوا) * هي ( أن ) المفسرة * (أولوا الطول) * ذوو الفضل والسعة ، من طال عليه طولا * (مع القعدين) * الذين لهم عذر في التخلف .
  * (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ) * وهم النساء والصبيان والمرضى * (فهم لا يفقهون) *

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 86 _
  ما في الجهاد من السعادة والفوز ، وما في التخلف من الشقاوة .
  * (لكن الرسول) * إن تخلف هؤلاء فقد نهض إلى الغزو مع المؤمنين ، ونحوه : * (فإن يكفر بها هؤلاء) * الآية (1) * (الخيرا ت) * الجنة ونعيمها ، وقيل : منافع الدارين (2) .
  * (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) * * (المعذرون) * المقصرون ، من عذر في الأمر : إذا توانى ولم يجد فيه ، وحقيقته : أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولاعذر له ، أو : ( المعتذرون ) بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ، ويجوز في العربية كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها لاتباع الميم ولكن لم يثبت بهما قراءة ، وهم : الذين يعتذرون بالباطل ، وقرئ : ( المعذرون ) بالتخفيف (3) وهو الذي يجتهد في العذر ويبالغ فيه * (وقعد الذين كذبوا الله ورسوله) * في ادعائهم الإيمان ، فلم يجيئوا ولم يعتذروا ، وعن أبي عمرو بن العلاء (4) : كلا الفريقين كان مسيئا : جاء فريق فعذروا وجنح آخرون فقعدوا (5) * (سيصيب الذين كفروا منهم) * من الأعراب * (عذاب أليم) * بالقتل في

-------------------
(1) الأنعام : 89 .
(2) قاله الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 300 .
(3) وهي قراءة ابن عباس وزيد بن علي والضحاك ومجاهد والأعرج وأبي صالح وعيسى بن هلال ويعقوب وقتيبة والكسائي في رواية ، راجع تفسير القرطبي : ج 8 ص 224 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 84 .
(4) هو زبان بن العلاء ، أبو عمرو التميمي المازني البصري ، أحد القراء السبعة ، وأحد أئمة اللغة والأدب ، ولد بمكة ، ونشأ بالبصرة ، ومات بالكوفة ، سمع أنس ، وقرأ على الحسن البصري والأعرج وأبي العالية ومجاهد وعاصم وابن كثير ، توفي سنة 155 ه‍ ، انظر غاية النهاية لابن الجوزي : ج 1 ص 288 .
(5) حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 2 ص 318 ـ 319 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 87_
  الدنيا وبالنار في الآخرة .
  * (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) * (الضعفاء) * الزمنى (1) والهرمى ، و * (الذين لا يجدون) * الفقراء ، والنصح * (لله ورسوله) * : الإيمان والطاعة في السر والعلانية * (ما على المحسنين) * أي : المعذورين الناصحين * (من سبيل) * ومعنى لاسبيل عليهم : لا جناح عليهم ولا طريق للعاتب عليهم .
  * (قلت لا أجد) * حال من الكاف في * (أتوك) * ( وقد ) مضمر قبله ، والمعنى : ولا على الذين إذا ما أتوك وأنت قائل : لا أجده * (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع) * ، و * (من) * للبيان ، والجار والمجرور في محل النصب على التمييز ، أي : تفيض دمعا ، وهو أبلغ من قولك : يفيض دمعها ، لأن العين جعلت كأنها كلها دمع فائض * (ألا يجدوا) * أي : لأن لايجدوا ، ومحله نصب لأنه مفعول له وناصبه المفعول له الذي هو * (حزنا) * .
  و * (رضوا) * استئناف ، كأنه قيل : ما بالهم استأذنوا * (وهم أغنياء) * فقيل : رضوا بالدناءة والانتظام في جملة * (الخوالف وطبع الله على قلوبهم) * يعني : أن السبب في استئذانهم رضاهم بالدناءة وخذلان الله إياهم .

-------------------
(1) زمن الشخص زمنا وزمانة : إذا مرض مرضا يدوم زمانا طويلا ، (المصباح المنير : مادة زمن) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _88 _
  * (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) * * (لن نؤمن لكم) * علة للنهي عن الاعتذار ، لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به ، فإذا علم أنه مكذب فينبغي أن يترك الاعتذار ، وقوله : * (قد نبأنا الله من أخباركم) * علة لانتفاء تصديقهم ، لأن الله سبحانه إذا أعلم بأخبارهم وأحوالهم وأسرارهم لم يستقم تصديقهم في معاذيرهم * (وسيرى الله عملكم) * أتتوبون أم تثبتون على كفركم ؟ * (ثم تردون) * إليه وهو * (علم) * كل غيب وشهادة وسر وعلن ، فيجازيكم على حسب ذلك .
  * (لتعرضوا عنهم) * لتصفحوا عن جرمهم ولا توبخوهم * (فأعرضوا عنهم) * فأعطوهم طلبتهم * (إنهم رجس) * تعليل لترك معاتبتهم ، والمراد : أن العتاب لا ينجع فيهم ولايصلحهم ، إنما يعاتب الأديم ذو البشرة ، ويوبخ المؤمن على الزلة ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة ، وهؤلاء أرجاس لاسبيل إلى تطهيرهم .
  * (لترضوا عنهم) * أي : غرضهم في الحلف طلب رضاكم لينفعهم ذلك في دنياهم ، ولا ينفعهم رضاكم إذا كان الله ساخطا عليهم . * (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 89 _
  * (الاعراب) * أهل البدو * (أشد كفرا ونفاقا) * من أهل الحضر لقسوة قلوبهم وجفائهم ، ونشوئهم في بعد من مشاهدة العلماء وسماع التنزيل * (وأجدر ألا يعلموا حدود مآ أنزل الله) * من الشرائع والأحكام * (والله عليم) * بحال أهل الوبر والمدر * (حكيم) * فيما يحكم به عليهم .
  * (مغرما) * أي : غرامة وخسرانا ، فلا ينفق إلا تقية من أهل الإسلام ورئاء ، لا لوجه الله * (ويتربص بكم) * دوائر الزمان وحوادث الأيام ، ليذهب غلبتكم عليه فيتخلص من إعطاء الصدقة * (عليهم دائرة السوء) * دعاء معترض ، وقرئ : ( السوء ) بالضم (1) وهو العذاب ، و * (السوء) * بالفتح ذم للدائرة ، كما يقال : رجل سوء ، ونقيضه رجل صدق ، قال : وكنت كذئب السوء لما رأى دما * بصاحبه يوما أحال على الدم (2) * (والله سميع) * لاقوالهم * (عليم) * بأحوالهم .
  * (قربت) * مفعول ثان ل‍ * (يتخذ) * والمعنى : أن ما ينفقه سبب لحصول القربات * (عند الله وصلوا ت الرسول) * ، لأن الرسول كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم ، كقوله : ( اللهم صل على آل أبي أوفي ) (3) لما أتاه أبو أوفي بصدقته ،

-------------------
(1) وهي قراءة شبل عن ابن كثير وأبي عمرو وابن محيصن ، راجع التبيان : ج 5 ص 284 ، وكتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 316 .
(2) قائله الفرزدق ، وهو يذم صاحبا له ويصفه في الجفاء بأنه كذئب السوء ، راجع ديوان الفرزدق : ج 2 ص 366 .
(3) انظر صحيح البخاري : ج 2 ص 159 وج 8 ص 90 و 96 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 90 _
  فلما كان ما ينفق سببا لذلك قيل : * (يتخذ ما ينفق قربت ... وصلوات) * ، * (ألا إنها قربة لهم) * هذا شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقده من كون نفقته قربات وصلوات ، وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف مع حرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتحققه ، و * (سيدخلهم الله) * كذلك لما في السين من تحقق الوعد ، وقرئ : ( قربة ) بضم الراء (1) .
  * (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) * * (السبقون الاولون من المهجرين) * هم الذين صلوا إلى القبلتين ، وقيل : الذين شهدوا بدرا (2) ، * (و) * من * (الانصار) * أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا اثني عشر رجلا ، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين رجلا ، والذين آمنوا حين قدم عليهم مصعب بن عمير فعلمهم القرآن ، وقرئ : ( الانصار ) بالرفع (3) عطفا على * (والسبقون) * ، وارتفع * (السبقون) * بالابتداء وخبره * (رضى الله عنهم) * ، وقرأ ابن كثير (4) : ( من تحتها ) (5) .

-------------------
(1) وهي قراءة نافع برواية ورش وإسماعيل والمفضل ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 317 .
(2) قاله عطاء بن أبي رباح كما في تفسير الماوردي : ج 2 ص 395 .
(3) قرأه عمر بن الخطاب والحسن وقتادة ويعقوب وعيسى الكوفي وسلام وسعيد بن ابي سعيد وطلحة ، راجع التبيان : ج 5 ص 287 ، وإعراب القرآن للنحاس : ج 2 ص 232 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 92 .
(4) هو أبو بكر عبد الله بن كثير ، أحد القراء السبعة ، ولد عام 45 ه‍ في مكة ، وينتسب الى اسرة فارسية هاجرت الى اليمن ، ولقب بالداري أو الداراني لأنه كان يعمل عطارا ، وقد كان قاضي الجماعة بمكة ، توفي بها عام 120 ه‍ ، انظر دائرة المعارف الإسلامية : ج 1 ص 269 .
(5) حكاها عنه الشيخ في التبيان : ج 5 ص 287 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 91 _
  * (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ * وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) * ومن جملة من حول بلدتكم وهي المدينة * (من الاعراب) * الذين يسكنون البدو * (منفقون) * وهم جهينة وأسلم وغفار وأشجع ومزينة ، كانوا نازلين حول المدينة * (ومن أهل المدينة) * عطف على خبر المبتدأ الذي هو * (ممن حولكم) * ، ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدرت : ومن أهل المدينة قوم * (مردوا على النفاق) * على أن يكون * (مردوا) * صفة موصوف محذوف كقوله : أنا ابن جلا وطلاع الثنايا (1) أي : ابن رجل وضح أمره ، و * (مردوا على النفاق) * تمهروا فيه ، من قولهم : مرد فلان على عمله ، ومرد عليه : إذا درب به حتى لان عليه ومهر فيه ، ودل على مهارتهم فيه بقوله : * (لا تعلمهم) * أي : يخفون عليك مع فطنتك وصدق فراستك لفرط تنوقهم (2) في تحامي (3) ما يشكك في أمرهم ، ثم قال : * (نحن نعلمهم) * أي : لايعلمهم إلا الله المطلع على البواطن ، لأنهم يبطنون الكفر في ضمائرهم ويظهرون لك الإيمان وظاهر الإخلاص الذي لا تشك معه في أمرهم * (سنعذبهم مرتين) * هما : ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم ، وعذاب القبر

-------------------
(1) وعجزه : متى أضع العمامة تعرفونني ، والبيت منسوب تارة لسحيم بن وثيل الرياحي وكان عبدا حبشيا ، وتارة للمثقب العبدي، واخرى للعرجي ، وهو من باب المفاخرة بالشجاعة والبطولة في الصولات في ميدان القتال ، وفيه استعارة على سبيل التصريح ، راجع شرح شواهد الكشاف للأفندي : ص 76 .
(2) تنوق في الأمر : تجود وبالغ فيه ، (القاموس المحيط : مادة نوق) .
(3) تحاماه الناس : أي توقوه واجتنبوه ، (الصحاح : مادة حمى) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 92 _
  * (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) * في النار .
  * (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) * ولم يعتذروا بالمعاذير الكاذبة كغيرهم ، وهم ثلاثة نفر من الأنصار : أبو لبابة بن عبد المنذر ، وأوس بن حذام ، وثعلبة بن وديعة (1) * (خلطوا عملا صلحا وءاخر سيئا) * فيه دلالة على بطلان القول بالإحباط لأنه لو كان أحد العملين محبطا لم يكن لقوله : * (خلطوا) * معنى ، لأن الخلط يستعمل في الجمع مع الامتزاج كخلط الماء واللبن ، وبغير امتزاج كخلط الدنانير والدراهم * (وءاخر) * أي : وعملا آخر .
  * (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) * * (تطهرهم) * صفة ل‍ * (صدقة) * ، والتاء فيه للخطاب أو للتأنيث ، أي : * (صدقة تطهرهم) * أنت * (وتزكيهم بها) * فيكون كلا الفعلين مسندا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ، أو * (صدقة تطهرهم) * تلك الصدقة * (وتزكيهم) * أنت * (بها) * أي : تنسبهم إلى الزكاة ، والتزكية : مبالغة في التطهير وزيادة فيه ، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال * (وصل عليهم) * أي : وترحم عليهم بالدعاء لهم بقبول صدقاتهم * (إن صلوتك سكن لهم) * إن دعواتك يسكنون إليها وتطمئن قلوبهم بها * (والله سميع) * يسمع

-------------------
(1) قال الشيخ الطوسي : روي عن ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية في عشرة أنفس تخلفوا عن غزوة تبوك فيهم أبو لبابة ، فربط سبعة منهم أنفسهم الى سواري المسجد الى أن قبلت توبتهم ، وقيل : كانوا سبعة منهم أبو لبابة ، وقال أبو جعفر (عليه السلام) : نزلت في أبي لبابة ، ولم يذكر غيره ، وبه قال مجاهد والزهري وأكثر المفسرين ، انظر التبيان : ج 5 ص 290 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 93 _
  دعاءك لهم * (عليم) * يعلم ما يكون منهم ، وقرئ : * (صلوتك) * على التوحيد هنا وفي هود (1) .
  * (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ ) * إذا صحت * (و) * يقبل * (الصدقت) * إذا صدرت عن خلوص النية ، و * (هو) * للتخصيص والتأكيد ، و * (أن الله) * من شأنه قبول توبة التائبين .
  * (وقل) * لهؤلاء التائبين : * (اعملوا) * فإن * (عملكم) * لا يخفي على الله ولا على رسوله ولا على المؤمنين ، خيرا كان أو شرا .
  وروى أصحابنا : أن أعمال الأمة تعرض على النبي (صلى الله عليه وآله) في كل اثنين وخميس فيعرفها ، وكذلك تعرض على الأئمة القائمين مقامه وهم المعنيون بقوله : * (والمؤمنون) * (2) . *
  (وستردون) * سترجعون * (إلى) * الله الذي يعلم السر والعلانية * (فينبئكم) * بأعمالكم ويجازيكم عليها .
  * ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) * قرئ : * (مرجون) * و ( مرجؤون ) (3) من أرجيته وأرجأته : إذا أخرته ، أي : * (وءاخرون) * من المتخلفين موقوف أمرهم : * (إما) * أن * (يعذبهم) *الله إن بقوا على الإصرار ولم يتوبوا ، * (وإما) * أن * (يتوب عليهم) * إن تابوا ، وهم ثلاثة : كعب ابن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع ، أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصحابه أن

-------------------
(1) الآية : 87 ويظهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف هنا على الجمع تبعا للزمخشري .
(2) راجع بصائر الدرجات للصفار : ص 424 باب 4 و 5 و 6 ، والكافي : ج 1 ص 219 باب عرض الأعمال على النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) .
(3) قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم ، راجع الكشف عن وجوه القراءات للقيسي : ج 1 ص 506 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 94 _
  لايكلموهم ففعلوا ذلك ، ثم تاب الله عليهم بعد خمسين يوما ، وتصدق كعب بثلث ماله شكرا لله على توبته .
  * (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) * قرأ أهل المدينة والشام : ( الذين اتخذوا ) بغير واو (1) ، وكذلك هو في مصاحفهم (2) لأنها قصة برأسها .
  روي : أن بني عمرو بن عوف (3) لما بنوا مسجد قباء وصلى فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) حسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف (4) وقالوا : نبني مسجدا نصلي فيه ولانحضر جماعة محمد ، فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء ، وقالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يتجهز إلى تبوك : إنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه ، فقال (صلى الله عليه وآله) : ( إني على جناح سفر ) ، ولما انصرف من تبوك نزلت (5) ، فأرسل من هدم المسجد وأحرقه ، وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة (6) .

-------------------
(1) انظر التبيان : ج 5 ص 297 .
(2) انظر الكشاف : ج 2 ص 309 .
(3) هم بطن من الأوس من الأزد ، من القحطانية ، (انظر معجم قبائل العرب : ج 2 ص 834) .
(4) وهم بطن من الخزرج من الأزد ، من القحطانية ، (انظر المصدر السابق : ج 3 ص 894) .
(5) أي نزلت هذه الآية .
(6) رواها ابن كثير في تفسيره : ج 2 ص 371 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _95 _
  * (ضرارا) * مضارة لإخوانهم : أصحاب مسجد قباء ، معازة (1) * (وكفرا) * وتقوية للنفاق * (وتفريقا بين المؤمنين) * لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم * (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) * أي : وإعدادا لأجل من حارب الله ورسوله وهو أبو عامر الراهب (2) ، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، فلما قدم النبي المدينة حسده وحزب عليه الأحزاب ، ثم هرب بعد فتح مكة وخرج إلى الروم وتنصر ، وهو أبو ( حنظلة ) غسيل الملائكة (3) ، قتل يوم أحد وكان جنبا فغسلته الملائكة ، وكان هؤلاء يتوقعون رجوع أبي عامر إليهم ، وأعدوا هذا المسجد له ليصلي فيه ويظهر على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ويتعلق * (من قبل) * ب‍ * (اتخذوا) * أي : اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف ، أو يتعلق ب‍ * (حارب) * أي : لأجل من حارب الله ورسوله من قبل أن يتخذوا المسجد * (وليحلفن) * يعني هؤلاء المنافقين : ما * (أردنا إلا) * الفعلة * (الحسنى) * أو الإرادة الحسنى وهي : الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين .
  * (لا تقم فيه أبدا) * أي : لا تصل فيه أبدا ، يقال : فلان يقوم بالليل أي : يصلي * (لمسجد أسس على التقوى) * هو مسجد قباء أسسه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصلى فيه أيام مقامه بقباء ، وقيل : هو مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمدينة (4) * (من أول يوم) * من أيام وجوده * (أحق أن تقوم فيه) * أي : أولى بأن تصلي فيه * (فيه رجال يحبون

-------------------
(1) عازه معازة : إذا عارضه في العزة ، (لسان العرب : مادة عزز) .
(2) هو أبو عامر عمرو بن صيفي الراهب الذي كان منافقا ومخالفا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وكان رأس المنافقين الذين أرادوا أن يلقوا النبي (صلى الله عليه وآله) من الثنية في غزوة تبوك ، وله بني مسجد ضرار ، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة ، انظر الاستيعاب : ج 1 ص 380 .
(3) هو حنظلة بن أبي عامر المعروف بغسيل الملائكة ، قتل يوم احد شهيدا ، قتله أبو سفيان بن حرب وقال : حنظلة بحنظلة ، يعني بابنه حنظلة المقتول ببدر ، انظر الاستيعاب : ج 1 ص 381 .
(4) قاله ابن عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري كما في تفسير الماوردي : ج 2 ص 402 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 96 _
  أن يتطهروا) * روي : أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لهم : إن الله عزوجل قد أثنى عليكم فماذا تفعلون في طهوركم ؟ قالوا : نغسل أثر الغائط ، فقال : أنزل الله فيكم : * (والله يحب المطهرين) * (1) أي : المتطهرين ، ومحبتهم للتطهر : أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه ، ومحبة الله إياهم : أنه يرضى عنهم ويحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه .
  وقرئ : * (أسس بنينه) * و ( أسس بنيانه ) (2) ، وفي الشواذ : ( أسس بنيانه ) على الإضافة (3) ، وهو جمع أساس ، والمعنى : أفمن أسس بنيان دينه * (على) * قاعدة محكمة وهي الحق الذي هو * (تقوى ... الله) * ورضوانه * (خير أم من) * أسسه * (على) * قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل * (شفا جرف هار) * في قلة الثبات ، والشفا : الشفير ، وجرف الوادي : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول ، والهار : الهائر الذي أشفي على السقوط والتهدم ، ووزنه ( فعل ) قصر عن هائر كخلف عن خالف ، ونظيره : شاك وصات من شائك وصائت ، وألفه ليست بألف فاعل ، وأصله هور وشوك وصوت ، ولما جعل الجرف الهار مجازا عن الباطل قيل : * (فانهار به في نار جهنم) * والمعنى : فهوى به الباطل في نار جهنم ، فكأن المبطل أسس بنيانا على شفير جهنم فطاح به إلى قعرها .
  * (ريبة) * أي : شكا في الدين ونفاقا ، والمعنى : * (لا يزال) * هدم * (بنينهم الذي) * بنوه سبب شك ونفاق * (في قلوبهم) * لا يضمحل أثره * (إلا أن تقطع) * أي : تتقطع * (قلوبهم) * قطعا وتتفرق أجزاء ، فحينئذ يسلون عنه ، والريبة باقية فيها مادامت سالمة ، وقرئ : * (تقطع) * بالتخفيف (4) والتشديد ، ويجوز أن يراد حقيقة

-------------------
(1) التبيان للطوسي : ج 5 ص 300 ، مستدرك الحاكم : ج 1 ص 155 .
(2) وهي قراءة نافع وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 318 .
(3) قرأه نصر بن عاصم ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 59 .
(4) قرأها جابر ونصر على ما حكاه عنهما ابن خالويه في شواذ القرآن : ص 60 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 97 _
  تقطيعها بقتلهم أو في النار ، وقرئ : ( إلى أن ) (1) ، وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام) (2) ، وفي قراءة عبد الله: ( ولو قطعت قلوبهم ) (3) ، وقيل : معناه : إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما على تفريطهم (4) .
  * (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ) * عبر سبحانه عن إثابتهم بالجنة على بذلهم * (أنفسهم وأموا لهم) * في سبيله : بالاشتراء ، وجعل الثواب ثمنا وأعمالهم الحسنة مثمنا تمثيلا ، وروي : أنه تاجرهم فأغلى لهم الثمن (5) .
  وعن الصادق (عليه السلام) : ( ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة ، فلا تبيعوها إلا بها ) (6) .
  وعن الحسن : أنفسا هو خلقها ، وأموالا هو رزقها (7) .
  وروي : أن الأنصار حين بايعوه على العقبة قال عبد الله بن رواحة (8) : اشترط

-------------------
(1) قرأه الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب وأبو حاتم ، راجع التبيان : ج 5 ص 303 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 101 .
(2) رواها البرقي عنه (عليه السلام) كما في مجمع البيان : ج 5 ـ 6 ص 70 .
(3) حكاها عنه الزمخشري في كشافه : ج 2 ص 313 .
(4) قاله سفيان كما حكاه عنه الماوردي في تفسيره : ج 2 ص 405 .
(5) رواه ابن عباس والحسن وقتادة ، راجع تفسير الحسن البصري : ج 1 ص 429 ، وتفسير ابن كثير : ج 2 ص 374 ، وتفسير الطبري : ج 6 ص 482 .
(6) تحف العقول : 379 .
(7) تفسير الحسن البصري : ج 1 ص 429 .
(8) هو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس الأنصاري الخزرجي ، يكنى أبا محمد ، = (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _98 _
  لربك ولنفسك ما شئت ، قال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ، قال : فإذا فعلنا ذلك فما لنا ؟ قال : لكم الجنة ، قالوا : ربح البيع لانقيل ولانستقيل (1) .
  * (يقتلون) * فيه معنى الأمر ، كقوله : * (تجهدون في سبيل الله) * (2) ، ثم قال : * (يغفر لكم ذنوبكم) * (3) ، وقرئ : * (فيقتلون ويقتلون) * وعلى العكس (4) * (وعدا عليه حقا) * مصدر مؤكد ، يعني : أن الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته * (في التوربه والانجيل) * كما أثبته في * (القرءان ومن أوفي بعهده من الله) * أي : لا أحد أوفي بعهده من الله، لأن الخلف قبيح لا يقدم عليه الكريم (5) من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم ، فكيف بالكريم الغني الذي لا يجوز عليه فعل القبيح * (فاستبشروا) * أي : فافرحوا بهذه المبايعة إذ بعتم فانيا بباق وزائلا بدائم * (وذلك هو الفوز) * والظفر * (العظيم) * ولاترغيب في الجهاد أحسن وأبلغ منه .
  * (التئبون) * رفع على المدح ، أي : هم التائبون ، يعني : المؤمنين المذكورين ، ويدل عليه قراءة أبي (6) و عبد الله والباقر والصادق (عليهما السلام) : ( التائبين ) بالياء (7)

-------------------
= أحد النقباء ، شهد العقبة وبدرا واحدا والحديبية ، استشهد يوم مؤتة وقد كان أحد الامراء في الوقعة ، وكان أحد الشعراء الذين كانوا يردون الأذي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، انظر الاستيعاب : ج 3 ص 898 .
(1) رواها الطبري في تفسيره : ج 6 ص 482 .
(2 و 3) الصف : 11 و 12 .
(4) وهي قراءة النخعي ويحيى بن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي ، راجع التبيان : ج 5 ص 305 ،والبحر المحيط لأبي حيان : ج 5 ص 102 .
(5) في نسخة : الكرام .
(6) هو ابي بن كعب بن قيس النجار ، شهد العقبة الثانية وبايع النبي (صلى الله عليه وآله) فيها ، ثم شهد بدرا ، وكان أحد فقهاء الصحابة وأقرأهم ، توفي في خلافة عمر ، انظر الاستيعاب : ج 1 ص 65 .
(7) انظر الكافي : ج 8 ص 377 - 378 ح 569 ، والكشاف : ج 2 ص 314 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 99 _
  إلى قوله : ( والحافظين ) نصبا على المدح ، أو جرا على الصفة ل‍ * (المؤمنين) * ، ويجوز أن يكون * (التئبون) * مبتدأ وخبره * (العبدون) * ، وما بعده خبر بعد خبر ، أي : التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال ، و * (العبدون) * هم الذين أخلصوا في عبادة الله، و * (السئحون) * : الصائمون ، شبهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم ، وقيل : هم طلاب العلم يسيحون في الأرض يطلبونه من مظانه (1) ، * (والحفظون لحدود الله) * القائمون بأوامره ، والمجتنبون لنواهيه .
  * (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) * عن الحسن : أن المسلمين قالوا : ألا نستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية ؟ فنزلت (2) ، أي : لاينبغي لنبي ولا مؤمن أن يدعو لكافر ويستغفر له ، ولا يصح ذلك في حكمة الله * (ولو كانوا) * قرابتهم * (من بعد ما تبين لهم أنهم) * ماتوا على الشرك .
  * (إلا عن موعدة وعدها إياه) * أي : وعدها إبراهيم أباه وهو قوله : * (لاستغفرن لك) * (3) ، ويدل عليه قراءة الحسن : ( وعدها أباه ) (4) ، * (فلما تبين له) * من جهة الوحي * (أنه) * لن يؤمن ويموت كافرا ، وانقطع رجاؤه عن إيمانه * (تبرأ منه) * ، والأواه : فعال من أوه ، وهو الذي يكثر التأوه والبكاء والدعاء ،

-------------------
(1) قاله عكرمة ، راجع تفسير الماوردي : ج 2 ص 407 .
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 315 .
(3) الممتحنة : 4 .
(4) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 315 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 100 _
  ويكثر ذكر الله عز اسمه .
   * (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) * أي : لا يؤاخذ * (الله) * عباده الذين * (هدبهم) * للإسلام ، ولا يسميهم ضلالا ولا يخذلهم بارتكاب المحظورات إلا بعد أن * (يبين لهم) * حظرها عليهم ، ويعلمهم أنها واجبة الاتقاء والاجتناب ، فأما قبل البيان فلا سبيل عليهم ، والمراد ب‍ * (ما يتقون) * : ما يجب اتقاؤه للنهي ، فأما ما يعلم بالعقل من القبائح فغير موقوف على التوقيف .
  * (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) * إنما ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) استفتاحا باسمه ولأنه سبب توبتهم ، وإلا فمن المعلوم أنه لم يكن منه ما أوجب التوبة ، وروي عن الرضا (عليه السلام) : أنه قرأ : ( لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين ) (1) وهو بعث للمؤمنين على التوبة ، وأنه مامن مؤمن إلا وهو محتاج إلى الاستغفار والتوبة * (في ساعة العسرة) * في وقتها ، وقد يستعمل الساعة في معنى الزمان المطلق كما يستعمل الغداة والعشية واليوم ، نحو قوله :

-------------------
(1) أوردها في الاحتجاج : ج 1 ص 76 . (*)