* (في ما ههنآ) * أي : في الذي استقر في هذا المكان من النعيم .
ثم فسر ذلك بقوله : * (في جنت وعيون) * والمعنى : * (أتتركون) * فيما أنتم فيه من نعيم الدنيا لا تزالون عنه .
وخص ( النخل ) بأفرادها من جملة الجنات لفضله ، أو : لأنه أراد بالجنات غير النخل من الشجر ثم عطفها عليها ، والطلع : الكفرى
(1) لأنه يطلع من النخل، والهضيم : اللطيف الضامر من قولهم : كشح هضيم ، وفي طلع إناث النخل لطف ليس ذلك في طلع فحالها ، وقيل : الهضيم : اللين النضيج
(2) .
وقرئ : ( فرهين )
(3) و * (فرهين) * ، والفاره : الكيس الحاذق ، أي : حاذقين بنحتها ، والفره : الأشر البطر .
أي : * (أطيعون) * ـ ي فيما آمركم به .
* (ولا تطيعوا) * رؤساءكم المفسدين ، ولا تمتثلوا
(4) أو امرهم .
والمسحر الذي سحر كثيرا حتى غلب على عقله ، أي : سحرت مرة بعد أخرى فصرت لا تدري ما تقول ، وقيل : معناه : أنت من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب مثلنا ، فلم صرت أولى بالنبوة منا ؟ !
(5) .
والشرب : النصيب من الماء إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله ، ولهم * (شرب يوم) * لا تشرب فيه الماء ، وإنما عظم اليوم لحلول العذاب العظيم فيه .
*
(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمُخْرَجِينَ * قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ * رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ * فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ * ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
-------------------
(1) قال ابن الأثير : كفرى بالضم وتشديد الراء وفتح الفاء وضمها مقصور : هو وعاء
الطلع وقشره الأعلى ، وكذلك كافوره ، وقيل : هو الطلع حين ينشق (النهاية : مادة كفر) .
(2) قاله ابن عباس وعكرمة ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 182 .
(3) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو ، راجع التبيان : ج 8 ص 48 .
(4) في نسخة : ( تقبلوا ) .
(5) قاله ابن عباس ، راجع التبيان : ج 8 ص 48 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 687 _
* أي : أتأتون من بين أولاد آدم ذكرانهم كأن الإناث قد أعوزتكم ؟ والمراد ب * (ـ العلمين) * الناس ، أو : أتأتون أنتم من بين ما عداكم من العالمين الذكران ؟ بمعنى : أنكم يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة .
والمراد بالعالمين : كل ما ينكح من الحيوان .
في * (من أزواجكم) * تبيين لما خلق * (عادون) * معتدون في الظلم ، متجاوزون فيه الحد .
* (لئن لم تنته) * عن نهينا ، ولم تمتنع عن تقبيح أفعالنا * (لتكونن) * من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا ، وطردناه من بلدنا .
* (من القالين) * أبلغ من أن يقول : * (إني لعملكم) * قال ، كما يقول : فلان من العلماء ، أي : معدود في جملتهم معروف بالعلم فيهم ، ويجوز أن يكون المراد : إني من الكاملين في قلاكم ، والقلى : البغض الشديد ، كأنه بغض يقلي الفؤاد والكبد مما يعلمون من عقوبة عملهم .
* (إلا عجوزا في الغبرين) * أي : مقدرا غبورها في العذاب والهلاك ، قيل : إنها هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر عليهم من الحجارة (1) .
قال قتادة :
-------------------
(1) حكاه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 8 ص 55 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 688 _
أمطر الله على شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم (1) ، وعن ابن زيد : لم يرض بالائتفاك (2) حتى أتبعه مطرا من حجارة (3) ، والتقدير : * (فسآء مطر المنذرين) * مطرهم فحذف ، ولم يرد بالمنذرين قوما بأعيانهم إنما هو للجنس .
* (كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ * قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنْ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) * قرئ : *
(أصحب ليكة) * بالهمزة وبتخفيفه وبالجر على الإضافة ، وقرئ بالفتح (4) على أن ( أيكة ) إسم بلد ، وروي : أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف ، وكان شجرهم الدوم (5) .
ولم يقل : أخوهم شعيب كما في المواضع
-------------------
(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 331 .
(2) في نسخة ( بالانقلاب ) ، قال الجوهري : ائتفكت البلدة بأهلها أي : انقلبت ، والمؤتفكات : المدن التي قلبها الله تعالى على قوم لوط (عليه السلام) ، راجع الصحاح : مادة ( أفك ) .
(3) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 331 .
(4) قرأه الحرميان وابن عامر ، راجع التبيان : ج 8 ص 57 .
(5) رواه القرطبي في تفسيره : ج 13 ص 135 عن قتادة . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 689 _
المتقدمة ، لأن شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة ، وفي الحديث : ( أن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة ) (1) .
بخسه حقه بمعنى : نقصه أياه * (ولا تبخسوا) * أي : لا تنقصوا الناس حقوقهم ، وهو عام في أن لا يهضم حق لأحد ، ولا يغصب ملك ولا يتصرف فيه إلا بإذن مالكه ، وعثا في الأرض يعثو ، وعثا يعثي ، وعاث يعيث بمعنى ، وذلك نحو : قطع الطريق وإهلاك الزرع .
* (والجبلة) * الخليقة ، أي : ذوي الجبلة ، وهو كقولك : والخلق الأولين .
* (وما أنت إلا بشر مثلنا) * دخلت الواو هنا لمعنى ، وهو أنهم قصدوا أن
البشرية والتسحير كليهما مناف للرسالة عندهم * (إن) * المخففة من الثقيلة ، وهي ولامها تفرقتا على فعل ( الظن ) وثاني مفعوليه ، لأنهما في الأصل يتفرقان على المبتدأ والخبر ، فلما كان باب ( كان ) وباب ( ظننت ) من جنس باب المبتدأ والخبر ، قالوا أيضا في البابين : إن كان زيد لقائما * (وإن نظنك لمن الكذبين) * .
وقرئ : * (كسفا) * بسكون السين (2) وفتحها ، وكلاهما جمع كسفة ، أي : إن كنت صادقا فادع الله أن يسقط علينا كسفا من السماء .
* (قال ربى أعلم بما تعملون) * أي : بأعمالكم وبما تستوجبون عليها من العقاب ، فإن أراد أن يعاقبكم بإسقاط كسف من السماء فعل ، وإن أراد عقابا آخر فعل ، فأخذهم الله بمثل ما اقترحوه من عذاب * (الظلة) * ، يروى : أنه حبس عنهم الريح سبعا ، وسلط عليهم الومد (3) فأخذ بأنفاسهم ، فخرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا
-------------------
(1) رواه الرازي في تفسيره : ج 24 ص 163 .
(2) وهي قراءة الجمهور إلا حفصافانه قرأبفتح السين ، راجع التذكرة في القراءات : ج 2 ص 581 .
(3) الومد : شدة حر الليل ، (الصحاح : مادة ومد) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 690 _
ونسيما ، فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا
(1) .
*
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ * كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ * فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ * أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ * وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنْ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) * * (وإنه) * الضمير للقرآن ، والمراد بالتنزيل : المنزل .
وقرئ : * (نزل به الروح الأمين) * ، و ( نزل به الروح )
(2) ، والباء في كلتا القراءتين للتعدية ، أي : جعل الله الروح الأمين نازلا به .
* (على قلبك) * أي : حفظك وفهمك إياه وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى ، كقوله : * (سنقرئك فلا تنسى) *
(3) .
* (بلسان) * الباء يتعلق ب * (المنذرين) * أي : لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة : هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين ، أو يتعلق ب * (ـ نزل) *
-------------------
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور : ج 6 ص 320 عن ابن عباس .
(2) قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 473 .
(3) الأعلى : 6 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 691 _
فيكون المعنى : نزله باللسان العربي لتنذر به ، لأنه لو نزله باللسان الأعجمي وقالوا : ما نصنع بما لا نفهمه ؟ فيتعذر الإنذار .
وفي هذا الوجه أن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له على قلبك لأنك تفهمه وتفهمه قومك ، ولو كان أعجميا لكان نازلا على سمعك دون قلبك ، فكنت تسمع أجراس حروف ولا تفهم معانيها ولا تعيها .
* (وإنه) * يعني القرآن * (لفي زبر الأولين) * يعني : ذكره مثبت في سائر الكتب السماوية على وجه البشارة به وبمحمد (صلى الله عليه وآله) ، وقيل : إن معانيه من الدعاء إلى التوحيد وغيره فيها (1) .
وقرئ : * (أولم يكن) * بالتذكير و * (آية) * بالنصب على أنها خبره و * (أن يعلمه) * هو الإسم ، وقرئ : ( تكن ) بالتأنيث و ( آية ) بالرفع (2) على أن في ( تكن ) ضمير القصة و ( آية ) خبر المبتدأ الذي هو * (أن يعلمه) * ، والجملة خبر ( كان ) ، والمعنى : ألم يكن علم علماء بني إسرائيل بمجيئه دلالة لهم على صحة نبوته ، وهم عبد الله بن سلام وغيره ، كما قال سبحانه : * (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين) * (3) .
والأعجم الذي لا يفصح ، يقال : في لسانه عجمة واستعجام .
* (كذلك سلكنه) * أي : كما أنزلنا القرآن عربيا مبينا أدخلناه وأوقعناه * (في قلوب) * الكافرين بأن قرأه رسولنا عليهم .
ثم أسند ترك الإيمان إليهم بقوله : * (لا يؤمنون به) * ولا يزالون على
التكذيب والجحود به حتى يعاينوا الوعيد ويروا العذاب ، فيلحق بهم * (بغتة) * أي :
مفاجأة * (وهم لا يشعرون) * بمجيئه .
* (أفبعذابنا يستعجلون) * تبكيت لهم وتوبيخ .
-------------------
(1) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 335 .
(2) وهي قراءة ابن عامر ، راجع التبيان : ج 8 ص 61 .
(3) القصص : 53 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 692 _
ثم قال : هب أن الأمر كما يظنون من التمتيع والتعمير ، فإذا أتاهم العذاب ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب عيشهم ؟ * (لها منذرون) * أي : رسل ينذرونهم .
* (ذكرى) * منصوبة بمعنى ( تذكرة ) ، إما لأن ( أنذر ) و ( ذكر ) متقاربان ، فكأنه قال : مذكرون تذكرة ، وإما لأنها حال من الضمير في * (منذرون) * أي : ينذرونهم ذوي تذكرة ، وإما لأنها مفعول له بمعنى : أنهم ينذرونهم لأجل التذكرة .
ويجوز أن يكون * (ذكرى) * متعلقة ب * (أهلكنا) * مفعولا له ، والمعنى : وما أهلكنا من أهل قرية ظالمة إلا بعدما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم * (وما كنا ظالمين) * فنهلك قوما غير ظالمين .
كانوا يقولون : إنما يتنزل على محمد (صلى الله عليه وآله) من جنس ما ينزل به الشياطين على الكهنة ، فكذبهم الله بأن ذلك مما لا يتسهل للشياطين ولا يقدرون عليه ، لأنهم مرجومون بالشهب * (معزولون) * عن استماع كلام أهل السماء .
* (فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 693 _
* علم عز اسمه أن ذلك لا يكون ، لكنه أراد أن يحرك منه لازدياد الإخلاص والتقوى ، وهي (1) لطف للمكلفين كما قال : * (ولو تقول علينا بعض الأقاويل) * (2) .
* (وأنذر عشيرتك الأقربين) * أمر صلوات الله وسلامه عليه بإنذار الأقرب فالأقرب من قومه ، وأن يقدم إنذارهم على إنذار غيرهم .
وروي : أنه جمع بني عبد المطلب ، وهم يومئذ أربعون رجلا ، الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس (3) على رجل شاة وقعب من لبن ، فأكلوا وشربوا حتى صدروا ، ثم أنذرهم فقال : ( يا بني عبد المطلب ، إني أنا النذير إليكم من الله عزوجل ، فأسلموا وأطيعوني تهتدوا ) ، ثم قال : ( من يؤاخيني ويؤازرني فيكون وليي ووصيي بعدي ، وخليفتي في أهل بيتي ) ؟ فسكت القوم ، وأعادها ثلاثا ، كل ذلك يسكت القوم ويقول علي (عليه السلام) : أنا ، وقال في المرة الثالثة : أنت ، فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب : أطع ابنك فقد أمر عليك (4) .
و ( خفض الجناح ) مثل في التواضع ولين الجانب .
* (فإن عصوك) * فتبرأ منهم ومن أعمالهم .
* (وتوكل على) * الله يكفك شر من يعصيك ، وفوض أمرك إلى من يقدر على نفعك
وضرك ، وقرئ ( فتوكل ) بالفاء (5) ويكون عطفا على : * (فقل) * أو * (فلا تدع) * .
* (الذي يربك) * ويطلع عليك * (حين تقوم) * للتهجد ، والمراد ب * (ـ السجدين) * المصلون ، وتقلبه فيهم : تصرفه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده وقعوده
إذا أمهم ، وقيل : معناه : وتقلبك في أصلاب الموحدين حتى
-------------------
(1) في نسخة ( فيه ) .
(2) الحاقة : 44 .
(3) العس : القدح العظيم ، والرفد أكبر منه ، وجمعه : عساس ، (الصحاح : مادة عس) .
(4) رواه الطبري في تفسيره : ج 9 ص 483 عن ابن عباس .
(5) قرأه نافع وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 473 . *
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 694_
أخرجك نبيا (1) ، وهو المروي عن أئمة الهدى (عليهم السلام) (2) .
ثم ذكر سبحانه من * (تنزل) * عليه الشياطين * (كل أفاك أثيم) * هم الكهنة : كشق وسطيح ، والمتنبئة : كمسيلمة الكذاب وطليحة .
* (يلقون السمع) * هم الشياطين كانوا قبل أن يحجبوا بالرجم يستمعون إلى الملا الأعلى ، فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب ، ثم * (يلقون) * ما يسمعونه أي : يوحون به إليهم .
وقوله : * (وإنه لتنزيل رب العلمين) * * (وما تنزلت به الشيطين) * * (هل أنبئكم على من تنزل الشيطين) * (3) أخوان ، فرق سبحانه بينهن بآيات ليست في معناهن لتطرئة ذكر ما فيهن كرة بعد كرة ، فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزل فيه من المعاني التي اشتدت كراهة الله لخلافها .
* (والشعراء) * مبتدأ و * (يتبعهم الغاوون) * خبره ، أي : لا يتبعهم على كذبهم وباطلهم وفضول قولهم ، وما هم عليه من الهجاء وتمزيق الأعراض ومدح من لا يستحق المدح ، ولا يستحسن ذلك منهم إلا الغاوون السفهاء (4) ، وقيل : الغاوون : الراوون (5) ، وقيل : الشياطين (6) ، وقيل : هم شعراء المشركين : عبد الله بن الزبعرى ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وأبو غرة ، وأمية بن أبي الصلت وغيرهم ، قالوا : نحن نقول مثل ما قال محمد (صلى الله عليه وآله) وكانوا يهجونه ، ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم (7) .
-------------------
(1) قاله ابن عباس في تفسيره : ص 315 .
(2) تفسير القمي علي بن ابراهيم : ج 2 ص 125 وفيه : ( النبيين ) بدل ( الموحدين ) .
(3) الآيات حسب الترتيب : 192 ، 210 ، 221 .
(4) في نسخة : ( والسفهاء ) .
(5) قاله ابن عباس في تفسيره : ص 315 .
(6) قاله مجاهد وقتادة ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 189 .
(7) قاله ابن عباس كما في تفسير الآلوسي : ج 19 ص 146 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 695 _
وقوله : * (في كل واد يهيمون) * مثل لذهابهم في كل شعب من القول ، وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق ومجاوزة حد القصد فيه ، وقذف التقي وبهت البرئ .
* (إلا الذين ءامنوا) * استثنى الشعراء المؤمنين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن ، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر ، وإذا قالوا شعرا قالوه في توحيد الله والحكمة والموعظة والآداب الحسنة ومدح رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصلحاء المؤمنين ، وكان هجاؤهم على سبيل الانتصار والرد على من هجا المسلمين ، وهم : عبد الله بن رواحة ، والكعبان ـ كعب بن مالك وكعب بن زهير ـ وحسان بن ثابت .
قال (عليه السلام) لكعب بن مالك : ( اهجهم ، فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل ) (1) .
وقال لحسان : ( قل وروح القدس معك ) (2) .
* (وسيعلم الذين ظلموا) * وعيد بليغ وتهديد شديد * (أي منقلب ينقلبون) * أي منصرف ينصرفون ، أي : سيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانقلاب وهو النجاة .
وقرأ الصادق (عليه السلام) : ( وسيعلم الذين ظلموا آل محمد (صلى الله عليه
وآله) حقهم ) (3) ويشبه أن تكون قراءة على سبيل التأويل .
-------------------
(1) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 345 .
(2) رواه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 404 عن البراء .
(3) تفسير القمي علي بن ابراهيم : ج 2 ص 125 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 697_