بعد عهد الوحي إليه إلى عهدك * (قرونا) * كثيرة * (فتطاول) * على آخرهم ، وهو القرن الذي أنت فيهم * (العمر) * أي : أمد انقطاع الوحي واندرست العلوم فأرسلناك وأوحينا إليك قصص الأنبياء وقصة موسى * (وما كنت ثاويا) * أي : مقيما * (في أهل مدين) * وهم شعيب والمؤمنون به * (تتلوا عليهم ءايتنا) * تعلما منهم ، يريد الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه * (ولكنا) * أرسلناك وعلمناكها وأخبرناك بها ، * (إذ نادينا) * موسى ، يريد ليلة المناجاة * (ولكن) * علمناك * (رحمة) * ، * (لتنذر قوما) * هم العرب * (ما أتهم من نذير) * في زمان الفترة بينك وبين عيسى ، وهو خمسمائة وخمسون سنة ، ونحوه : * (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم) * (1).
  * (لولآ) * الأولى امتناعية وجوابها محذوف ، والثانية تحضيضية ، وإحدى الفاءين للعطف ، والأخرى جواب * (لولا) * لكونها في حكم الأمر من حيث أن الأمر يبعث على الفعل ، والباعث والمحرض من باب واحد ، والمعنى : لولا أنهم قائلون إذا عوقبوا بكفرهم : هلا * (أرسلت إلينا رسولا) * يحتجون علينا بذلك لما أرسلنا إليهم ، يريد : أن إرسال الرسول إنما هو لإلزام الحجة إياهم ، و * (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * (2) * (أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) * (3) * (لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءايتك من قبل أن نذل ونخزى) * (4).
  ولما كانت أكثر الأعمال بالأيدي اتسع فيه حتى عبر عن كل عمل بتقديم الأيدي ، وإن كان من أعمال القلوب * (فلما جاءهم الحق) * وهو الرسول المصدق بالمعجزات * (قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى) * من فلق البحر وقلب العصا حية ، أو : الكتاب المنزل جملة

-------------------
(1) يس : 6.
(2) النساء : 165.
(3) المائدة : 19.
(4) طه : 134. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 746 _
  واحدة ، إلى غير ذلك من اقتراحاتهم المبينة على التعنت والعناد * (أولم يكفروا) * يعني : أبناء جنسهم ومن مذهبهم وعنادهم ، وهم الكفار في زمن موسى * (بمآ أوتى موسى) * قالوا في موسى وهارون ( ساحران تظاهرا ) أي : تعاونا ، وقرئ : * (سحران) * (1) أي : ذوا سحر ، جعلوهما سحرين مبالغة في ؤصفهما بالسحر ، أو أرادوا : نوعان من السحر و * (إنا بكل) * واحد منهما * (كافرون) * و * (من قبل) * متعلق ب‍ * (أولم يكفروا) * ، وإن تعلق ب‍ * (أوتى) * انقلب المعنى إلى : أن أهل مكة الذين قالوا هذه المقالة كما كفروا بمحمد (صلى الله عليه وآله) وبالقرآن فقد كفروا بموسى والتوراة ، فقالوا في موسى ومحمد : ساحران * (تظهرا) * ، أو : في الكتابين * (سحران) * وذلك حين بعثوا الرهط إلى رؤساء اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمد (صلى الله عليه وآله) ، فأخبروهم أن نعته وصفته في كتابهم ، فقالوا : ذلك * (هو أهدى) * مما أنزل على موسى ومما أنزل علي.
  أي : * (فإن لم يستجيبوا) * دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فاعلم أنهم قد ألزموا ، ولم يبق لهم حجة إلا اتباع الهوى ، ثم قال : * (ومن أضل ممن) * لا يتبع في دينه إلا * (هواه بغير هدى من الله ، إن الله لا يهدي) * أي : لا يلطف بالقوم الثابتين على الظلم ، وقوله : * (بغير هدى) * في موضع الحال ، أي : مخذولا.
  * (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)

-------------------
(1) الظاهر أن المصنف يعتمد على قراءة فتح السين وألف بعدها هنا تبعا للزمخشري في الكشاف. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 747 _
  * (أمن جعل) * وما بعده بدل من * (أمن خلق) * وحكمها حكمه * (قرارا) * سواها للاستقرار عليها * (حاجزا) * أي : برزخا.
  الاضطرار : افتعال من الضرورة ، والمضطر : الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الأيام إلى التضرع إلى الله تعالى ، يقال : إضطره إلى كذا ، والفاعل والمفعول : مضطر * (ويكشف السوء) * أي : الشدة وكل ما يسوء * (ويجعلكم خلفاء الارض) * خلفاء فيها ، تتوارثون التصرف فيها خلفا بعد سلف وقرنا بعد قرن ، أو : أراد بالخلافة الملك والتسلط ، و * (ما) * مزيدة أي : يذكرون تذكيرا قليلا ، والمعنى : نفي التذكر ، وقرئ بالياء مع الإدغام ، وبالتاء مع الإدغام والحذف (1).
  * (أمن يهديكم) * بالنجوم في السماء ، وبالعلامات في الأرض إذا جن عليكم الليل وأنتم مسافرون في البحر أو البر ؟ * (أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده) * أقروا بالابتداء والإنشاء فيلزمهم الإقرار بالإعادة بعد الفناء * (من السماء) * بإنزال الأمطار ومن * (الارض) * بالنبات والثمار.
  وجاء قوله : * (إلا الله) * على لغة بني تميم في قولهم : ما أتاني زيد إلا عمرو ، وقول الشاعر : وبلدة ليس لها أنيس * إلا اليعافير وإلا العيس (2) وإنما اختير هذا ليؤول المعنى إلى قولك : إن كان الله ممن في السماوات والأرض ففيهم من يعلم الغيب ، كما كان المعنى في البيت : إن كان اليعافير أنيسا

-------------------
(1) وبالياء قراءة أبي عمرو وابن عامر برواية هشام وابن ذكوان وروح والحسن والأعمش ، وبالتاء الباقين ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 484 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 7 ص 90.
(2) لجران العود واسمه عامر بن الحارث بن كلفة وقيل : كلدة ، والبيت من قصيدة يذم فيهما امرأتيه ويشكو منهما ، راجع خزانة الأدب للبغدادي : ج 10 ص 15 وما بعده . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 748 _
  * (سلم عليكم) * متاركة وتوديع ، وعن الحسن : كلمة حلم من المؤمنين (1) * (لا نبتغى الجهلين) * لا نريد مخالطتهم ، ولا نطلب مجالستهم ومصاحبتهم .
  * (لا تهدي من أحببت) * لا تقدر أن تدخل في الإيمان كل من أحببت أن تدخل فيه من قومك وغيرهم * (ولكن الله) * يدخل فيه * (من يشاء) * وهو من علم أن الألطاف تنفع فيه * (وهو أعلم) * بالذين يهتدون باللطف ، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) حريصا على إيمان قومه وإقرارهم بنبوته ، فأخبره سبحانه بأن ذلك ليس في مقدوره ، وقالوا : إن الآية نزلت في أبي طالب (2) ، وقد ورد عن أئمة الهدى (عليهم السلام) : أن أبا طالب مات مسلما ، واجتمعت الإمامية على ذلك ، وأشعاره مشحونة بالإسلام وتصديق النبي (صلى الله عليه وآله) (3).
  * (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف) * أي : نستلب * (من أرضنا) * قيل : إن القائل الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف ، قال : إنما نحن أكلة رأس ، أي : قليلون ، ونخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب أن يتخطفونا من أرضنا ، فرد الله عليهم بقوله : * (أولم نمكن لهم حرما ءامنا) * والعرب حوله يتغاورون ، وهم آمنون في حرمهم لا يخافون * (يجبى) * إليهم الثمرات من كل أرض ، فإذا خولهم الله ما خولهم من الأمن والرزق وهم كفرة عبدة أصنام فكيف يعرضهم للتخطف ويسلبهم الأمن إذا آمنوا به ووحدوه وصدقوا رسوله ؟ (4).

-------------------
(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 422.
(2) كقول ابن عباس كما رووه عنه ومجاهد والحسن وقتادة ، انظر التبيان : ج 8 ص 164.
(3) نحو قوله :

لـقد  أكـرم الله النبي iiمحمدا      فأكرم خلق الله في الناس أحمد
وشـق لـه مـن إسمه iiليجله      فذو العرش محمود وهذا محمد
وغيرها الكثير ، راجع ديوان أبي طالب ضمن سلسلة ( شعراؤنا ) ط دار الكتاب العربي بيروت.
(4) قاله ابن عباس ، انظر تفسيره : ص 328. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 749 _
  وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة وإلى الحرم مجاز ، و * (يجبى) * من : جبيت الماء في الحوض أي : جمعته ، ومعنى الكلية الكثرة كما في قوله : * (وأوتيت من كل شئ) * (1) * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * تعلق بقوله : * (من لدنا) * أي : قليل منهم يقرون بأن ذلك رزق من عند الله وأكثرهم لا يعلمون ذلك ، ولو علموا ذلك لما خافوا التخطف إذا آمنوا به ، و * (رزقا) * مفعول له أو مصدر ، لأن معنى * (يجبى إليه ثمرا ت كل شئ) * و ( يرزق ثمرات كل شئ ) واحد .
  * (وكم أهلكنا) * تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانت حالهم مثل حالهم في كفرانهم نعم الله تعالى ومقابلتها بالأشر حتى دمرهم الله وأبادهم ، وانتصب قوله : * (معيشتها) * بحذف الجار وإيصال الفعل كما في قوله : * (واختار موسى قومه) * (2) ، أو بالظرف بتقدير حذف الزمان المضاف أي : بطرت أيام معيشتها ، كخفوق النجم ، أو : بتضمين ( بطرت ) معنى ( غمطت ) و ( كفرت ) ، والبطر : سوء احتمال الغنى ، وهو أن لا يحفظ حق الله فيه * (إلا قليلا) * من السكنى لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يوما أو ساعة * (وكنا نحن الوا رثين) * لتلك المساكن من ساكنيها تركناها على حال لا يسكنها أحد ، أو : كنا خربناها فسويناها بالأرض.
  * (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ * وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ

-------------------
(1) النمل : 23.
(2) الأعراف : 155. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 750 _
  فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوْا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمْ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمْ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ) * أي : * (وما كان) * من أمر * (ربك) * أن يهلك * (القرى) * في الأرض * (حتى يبعث) * في أم القرى أي : مكة * (رسولا) * وهو محمد صلوات الله عليه وآله خاتم الأنبياء ، أو : ما كان مهلك القرى في كل وقت حتى يبعث في القرية التي هي أمها أي : أصلها رسولا لإلزام الحجة عليهم ، وهذا إخبار عن تنزيهه عن الظلم حيث لا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة عليهم ببعثة الرسل ، مع علمه بأنهم لا يؤمنون ، ولم يجعل علمه بهم حجة عليهم.
  * (وما) * أعطيتم من أسباب الدنيا فتمتع وزينة أياما قلائل ، وهي مدة الحياة المنقضية * (وما عند الله) * وهو الثواب * (خير وأبقى) * لأن بقاءه سرمدا * (فلا تعقلون) * وقرئ بالتاء والياء (1).
  * (أفمن وعدنه) * هذا تقرير للأمة (2) التي قبلها ، أي : أفبعد هذا التفاوت الظاهر سوى بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة ، والوعد الحسن : الثواب لأنه منافع دائمة مقارنة للتعظيم والإجلال * (فهو لقيه) * كقوله : * (ولقبهم نضرة وسرورا) * (3) * (من المحضرين) * أي : من الذين أحضروا النار ، ونحوه : * (فكذبوه فإنهم لمحضرون) * (4) ، وقرئ : ( ثم هو ) بسكون الهاء (5) ،

-------------------
(1) وبالياء قرأة أبو عمرو وحده ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 495.
(2) في نسخة : ( للآية ) .
(3) الإنسان : 11.
(4) الصافات : 127.
(5) قرأه نافع وابن عامر في رواية قالون عنه والكسائي ، راجع كتاب العنوان في القراءات : ص 146. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 751 _
  كما قيل : عضد في عضد تشبيها للمنفصل بالمتصل ، وسكون الهاء في ( وهو ) ( فهو ) ( لهو ) أحسن ، لأن الحرف الواحد لا ينطق به وحده ، فهو كالمتصل.
  * (شركاءي) * مبني على زعمهم ، وهو تهكم ، ومفعولا ( زعم ) محذوفان هنا ، والتقدير : الذي كنتم تزعمونهم شركائي ، وهذا جائز وإن لم يجز الاقتصار على أحد المفعولين ، و * (الذين حق عليهم القول) * الشياطين أو رؤساء الضلالة ، ومعنى * (حق عليهم القول) * : وجب عليهم مقتضى القول وهو قوله : * (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * (1) * (هؤلاء) * مبتدأ و * (الذين أغوينا) * صفته ، وحذف العائد إلى الموصول ، و * (أغوينهم) * خبر المبتدأ ، والكاف صفة مصدر محذوف ، وتقديره : أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا ، يعنون أنهم غووا باختيارهم كما غوينا نحن باختيارنا ، لأن إغواءنا لهم كان وسوسة وتسويلا لا قسرا ولجأ * (تبرأنا إليك) * منهم ومما اختاروه من الكفر * (ما كانوا إيانا يعبدون) * إنما يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم ، وإخلاء الجملتين من حرف العطف إنما هو لتقريرهما معنى الجملة الأولى * (لو أنهم كانوا يهتدون) * بوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب ثم يبكتون بالاحتجاج عليهم بإرسال الرسل ، ويسألون سؤال تقرير الذنب.
  * (فعميت عليهم الأنباء) * فصارت الأنباء مشتبهة طرق جوابها عليهم * (فهم) * كالعمي تنسد عليهم طرق الأرض * (فهم لا يتساءلون) * لا يتساءل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس في المشكلات ، لأنهم يتساوون جميعا في عمى الأنباء عليهم وعجزهم عن الجواب ، والمراد بالنبأ : الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله.
  * (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ

-------------------
(1) هود : 119. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 752 _
  وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) * (فأما من تاب) * من المشركين ، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح * (فعسى) * أن يفلح عند الله ، و ( عسى ) من الكرام تحقيق و * (الخيرة) * من التخير ، كالطيرة من التطير ، يستعمل بمعنى المصدر وبمعنى المتخير ، يقال : محمد (صلى الله عليه وآله) خيرة الله من خلقه ، وقوله : * (ما كان لهم الخيرة) * بيان لقوله : * (ويختار) * ، فإن معناه : ويختار * (ما يشاء) * ولهذا لم يدخل العاطف ، والمعنى : إن الخيرة لله في أفعاله ، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها ، وليس لأحد من خلقه الاختيار ، إذ لا طريق له إلى العلم بجميع أحوال المختار ، وقيل : معناه : ويختار الذي لهم فيه الخيرة (1) ، فحذف فيه كما حذف منه في قوله : * (إن ذلك لمن عزم الأمور) * (2) أن يختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح وهو أعلم بمصالحهم

-------------------
(1) قاله ابن عباس ، راجع تفسير الطبري : ج 10 ص 95.
(2) الشورى : 43. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 753 _
  من أنفسهم ، والحمد في * (الآخرة) * قولهم : * (الحمد لله الذي صدقنا وعده) * (1) والتحميد هناك على وجه اللذة كالكلفة (2).
  * (أرأيتم) * معناه : أخبروني من يقدر على هذا ؟ والسرمد : الدائم المتصل ، من السرد ، والميم مزيدة ، والمراد بالضياء : ضوء الشمس ، وقرن به * (أفلا تسمعون) * لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل * (أفلا تبصرون) * لان غيرك يبصر ما تبصره من منفعة الظلام.
  * (ومن رحمته) * زاوج بين الليل والنهار * (لتسكنوا) * في أحدهما * (ولتبتغوا من) * فضل الله في الآخر ، ولإرادة شكركم ، وقد سلكت فيه طريقة اللف ، وكرر سبحانه التوبيخ باتخاذ الشركاء إيذانا بأن الشرك أجلب الأشياء لغضب الله ، كما أن التوحيد أجمع لمرضاته.
  * (ونزعنا) * أي : وأخرجنا * (من كل أمة شهيدا) * وهو نبيهم ، يشهد على تلك الأمة بما كان منها ، وقيل : هم عدول الآخرة الذين لا يخلو زمان من واحد منهم (3) فقلنا للأمة : * (هاتوا برهنكم) * فيما ذهبتم إليه وكنتم عليه ، فعلموا حينئذ أن الحق لله ولرسوله * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) * من الأباطيل.
  * (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ

-------------------
(1) الزمر : 74.
(2) في بعض النسخ : ( لا الكلفة ).
(3) حكاه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 8 ص 174. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 754 _
  جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) * (قرون) * اسم أعجمي كان من بني إسرائيل ، وهو ابن خالة موسى ، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة ، ولما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرئاسة لهارون فقرب القربان وجد قارون في نفسه * (فبغى عليهم) * من البغي الذي هو الكبر والبذخ ، والمفاتح : جمع المفتح ، وهو ما يفتح به ، وقيل : هي الخزائن (1) ، واحدها مفتح ، وناء به الحمل : إذا أثقله حتى أماله ، والعصبة : الجماعة الكثيرة ، و * (إذ) * نصب ب‍ ( تنوء ) * (لا تفرح) * أي : لا تأشر ولا تتكبر بسبب كنوزك.
  * (وابتغ فيما ءاتك الله) * من الغنى * (الدار الآخرة) * بأن تفعل فيه أفعال الخير تزود بها إلى الآخرة * (ولا تنس نصيبك) * وهو أن تأخذ منها ما يكفيك * (وأحسن) * إلى عباد الله * (كمآ أحسن الله إليك) * وقيل : إن المخاطب بذلك موسى (عليه السلام) (2).
  * (على علم) * على استحقاق واستيجاب لما في من العلم الذي فضلت به الناس ، وذلك أنه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة ، وقيل : هو علم الكيمياء (3)

-------------------
(1) قاله السدي وأبو رزين ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 266.
(2) حكاه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 8 ص 177.
(3) قاله سعيد بن المسيب ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 455. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 755 _
  وقيل : علم الله تعالى موسى (عليه السلام) علم الكيمياء فعلمه موسى أخته فعلمته أخته قارون (1) ، وقال : * (عندي) * معناه : في ظني كما يقول : الأمر عندي كذا ، أي : هو في ظني ورأيي هكذا * (أولم يعلم) * في جملة ما عنده من العلم وقرأه في التوراة * (أن الله قد أهلك من قبله) * من هو أقوى منه فلا يغتر بكثرة ماله وقوته ، ويجوز أن يكون نفيا لعلمه بذلك * (وأكثر جمعا) * للمال ، أو : أكثر جماعة وعددا * (ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون) * بل يدخلون النار بغير حساب.
  * (في زينته) * التي كان يتزين بها ، وهو حشمه وخيله ، والحظ والجد : البخت والدولة ، ويلك : أصله الدعاء بالهلاك ، ثم استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى ، والضمير في * (ولا يلقبها) * للكلمة التي تكلم بها العلماء ، أو للثواب لأنه في معنى المثوبة.
  * (من المنتصرين) * من المنتقمين من موسى ، أو من الممتنعين من عذاب الله ، يقال : نصره من عدوه فانتصر ، أي : منعه منه فامتنع ، أراد * (بالامس) * الوقت القريب على طريق الاستعارة ، والمكان : المنزلة * (وي) * مفصولة من * (كأن) * وهي كلمة تنبه على الخطأ وتندم ، والمعنى : أن القوم تنبهوا على خطئهم في تمنيهم منزلة قارون وتندموا ، ثم قالوا : كأن الله ، أي : ما أشبه الحال بأن الله يبسط الرزق لمن يشاء لا لكرامة * (ويقدر) * أي : يضيق على من يشاء لا لهوان ، لكن بحسب المصلحة ، ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح.
  وعند الكوفيين أن ( ويك ) بمعنى ( ويلك ) ، وأن المعنى : ألم تعلم أنه * (لا يفلح الكفرون) * ، ويجوز أن يكون الكاف كاف الخطاب قد ضمت إلى ( وي ) ، كقوله : ويك عنتر أقدم (2)

-------------------
(1) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 431.
(2) وتمام البيت : = (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 756 _
  و ( أنه ) بمعنى ( لأنه ) ، واللام للبيان الذي قيل لأجله هذا القول ، أو : لأنه يفلح الكافرون كان ذلك ، وهو الخسف بقارون ، وقرئ : ( لخسف بنا ) (1) وفيه ضمير لله.
  * (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَمَا كُنتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ * وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) * (تلك) * تعظيم للدار وتفخيم لها ، أي : تلك التي بلغك صفتها ، علق الوعد بترك إرادة العلو والفساد ، ولم يقل : لا يعلون ولا يفسدون ، كما علق الوعيد بالركون في قوله : * (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) * (2).
  وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال : ( الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها (3).
  وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال : ذهبت الأماني هاهنا (4)
  * (والعقبة) * الحميدة للذين اتقوا معاصي الله.

-------------------
=
ولقد شفي نفسي وأبرأ سقمها * قيل الفوارس : ويك عنتر أقدم وهو من معلقته المشهورة.
راجع ديوان عنترة : ص 18.
(1) وهي قراءة الجمهور إلا حفصا ، راجع كتاب السبعة في القراءات : ص 495.
(2) هود : 113.
(3) رواه الطبري في تفسيره : ج 10 ص 115.
(4) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 435. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 757 _
  المعنى : فلا يجزون ، فوضع الظاهر موضع الضمير ، لأن في إسناد السيئات إليهم مكررا زيادة تهجير لهم.
  * (إن الذي فرض عليك القرءان) * أي : أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه يثيبك عليه ثوابا لا يحاط بكنهه ، و * (لرآدك) * بعد الموت * (إلى معاد) * أي معاد ، وإلى معاد ليس لغيرك من الخلق ، ونكر المعاد لذلك ، وقيل : أراد بالمعاد مكة فرده إليها يوم الفتح (1) ، ووجه تنكيره أن كان معادا له ذكر عال وشأن جليل ، ظهر عز الإسلام وأهله به ، وقيل : نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره وقد اشتاق إلى مكة (2).
  ولما وعده الرد إلى معاد قال : قل للمشركين : * (ربى أعلم من جاء بالهدى) * يعني : نفسه وما يستحقه من الثواب في معاده * (ومن هو في ضلل مبين) * يعنهم وما يستحقونه من العقاب في معادهم.
  * (إلا رحمة من ربك) * بمعنى ( لكن ) للاستدراك ، أي : ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك ، وقيل : هو محمول على المعنى والتقدير : وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة (3).
  * (بعد إذ أنزلت إليك) * أي : بعد وقت إنزاله إليك ، وقوله : * (فلا تكونن ظهيرا للكفرين) * وما بعده من باب التهيج الذي سبق ذكره.
  وعن ابن عباس : أن أكثر القرآن : إياك أعني فاسمعي يا جارة ، و * (كل شئ هالك) * أي : فان بائد * (إلا وجهه) * إلا ذاته.

-------------------
(1) قاله ابن عباس ومجاهد وأبو الحجاج ، راجع تفسير الطبري : ج 10 ص 117 ـ 118.
(2) قاله الضحاك ، راجع تفسير ابن كثير : ج 3 ص 388.
(3) قاله الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 436. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 759 _
سورة العنكبوت مكية (1) وقيل : مدنية
  وهي تسع وستون آية * (الم) * كوفي ، * (مخلصين له الدين) * (2) بصري ، وفي حديث أبي : ( من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المؤمنين والمنافقين ) (3).
  وروى أبو بصير عن الصادق (عليه السلام) قال : ( من قرأ سورتي العنكبوت والروم في شهر رمضان في ليلة ثلاث وعشرين فهو والله ـ يا أبا محمد ـ من أهل الجنة ، لا أستثني فيه أبدا ، ولا أخاف أن يكتب الله علي في يميني إثما ، وإن لهاتين السورتين من الله مكانا ) (4).

-------------------
(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان : ج 8 ص 185 : قال قوم : هي مكية ، وقال قتادة : العشر الاول مدني والباقي مكي ، وقال مجاهد : هي مكية ، وهي تسع وستون آية بلا خلاف في جملتها ، وفي تفصيلها خلاف ، وفي الكشاف : ج 3 ص 438 : مكية إلا من آية 1 إلى غاية آية 11 فمدنية ، وآياتها 69 نزلت بعد الروم.
(2) الآية : 65.
(3) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 465 مرسلا.
(4) ثواب الأعمال للصدوق : ص 136. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 760 _
بسم الله الرحمن الرحيم

  * (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) * الحسبان إنما يتعلق بمضامين الجمل ، وتقدير الكلام هنا : * (أحسب الناس أن يتركوا) * غير مفتونين لأن * (يقولوا ءامنا) * ، وكان التقدير قبل المجئ بالحسبان : تركهم غير مفتونين لقولهم : ( آمنا ) على الابتداء والخبر ، و ( غير مفتونين ) من تتمة الترك ، لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير ، كما في قول عنترة : فتركته جزر السباع ينشنه * يقضمن حسن بنانه والمعصم (1) وهذا كما تقول : خروجه لمخافة الشر ، فصح أن يقع خبر مبتدأ وإن كان علة ، وتقول : حسبت خروجه لمخافة الشر ، فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وخبرا.
  * (وهم لا يفتنون) * أي : لا يمتحنون بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان ومجاهدة الأعداء ، ولا يصابون بمصائب الدنيا ومحنها ، بل يبتليهم الله بضروب المكاره

-------------------
(1) البيت من معلقته المشهورة ، ويروى البيت :
فتركت جزر السباع ينشنه      ما بين قلة رأسه iiوالمعصم
راجع ديوانه : ص 16. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 761 _
  حتى يبلو صبرهم وصحة ضمائرهم ، وليميز المخلص من غير المخلص ، والراسخ في الدين من المضطرب فيه.
  * (ولقد فتنا الذين من قبلهم) * يعني : أتباع الأنبياء قبلهم فقد أصابهم من الفتن بالفرائض التي افترضت عليهم أو بالشدائد والمحن ، وجاء في الحديث : ( قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه ) (1).
  و * (ليعلمن الله) * بالامتحان * (الذين صدقوا) * في الإيمان * (وليعلمن الكذبين) * فيه ، ولم يزل عز وعلا عالما بذلك ولكنه لا يعلمه موجودا إلا إذا وجد ، والمعنى : وليميزن الصادق من الكاذب ، ورووا عن علي (عليه السلام) : فليعلمن وليعلمن (2) ، من الإعلام أي : وليعرفنهم الله الناس من هم ، أو : ليسمنهم بسمة يعرفون بها من بياض الوجوه وسوادها .
  وروي : أن العباس جاء إلى علي (عليه السلام) فقال له : إمش حتى يبايع لك الناس ، فقال : أتراهم فاعلين ؟ قال : نعم ، قال : فأين قول الله عزوجل : * (الم أحسب الناس) * الآيات (3) ؟ * (أن يسبقونا) * أي : يفوتونا ، يعني : أن الجزاء يلحقهم ، مثل قوله : * (وما هم بمعجزين) * (4) ، و * (أم) * منقطعة ، ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأول ، لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه ، وهذا يظن أنه لا يجازى بكفره وعصيانه * (ساء ما يحكمون) * أي : بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا ،

-------------------
(1) رواه البخاري في الصحيح : ج 9 ص 25 من كتاب الإكراه عن خباب بن الأرت.
(2) رواه ابن خالويه في شواذ القرآن : ص 115.
(3) رواه القمي علي بن ابراهيم في تفسيره : ج 2 ص 148.
(4) الزمر : 51. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 762 _
  أو بئس حكما يحكمونه حكمهم هذا ، فحذف المخصوص بالذم.
  * (لقاء الله) * مثل للوصول إلى العاقبة من لقاء الجزاء والبعث والحساب ، مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد بعيد وقد اطلع سيده على أحواله ، فتلقاه ببشر وترحيب أو تقطيب لما رضي أو سخط من أفعاله ، فالمعنى : * (من كان يرجوا) * تلك الحال وأن يلقى فيها الكرامة من الله والبشرى * (فإن أجل الله) * وهو الموت * (لات) * لا محالة ، فليبادر بالعمل الصالح ، والذي يحقق رجاءه ويقربه إلى الله ، وقيل : يرجو : يخاف (1).
  * (ومن جهد) * أعداء الدين لإحيائه ، وجاهد نفسه التي هي أعدى أعدائه * (فإنما يجهد) * لإجل نفسه ، فإن المنفعة عائدة إليها ، ف‍ * (إن الله لغنى عن العلمين) * ولا يحتاج إلى طاعتهم ، وإنما يأمرهم وينهاهم لمنفعتهم.
  * (لنكفرن عنهم سيئاتهم) * التي اقترفوها قبل ذلك ، ولنبطلنها حتى يصير كأنهم لم يعملوها * (ولنجزينهم) * بحسناتهم التي كانوا يعملونها.
  * (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ * وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ

-------------------
(1) قاله ابن جبير والسدي ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 277. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 763 _
  وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) * أي : أمرنا الإنسان بأن يفعل * (بوا لديه حسنا) * أو بإيلاء والديه حسنا ، أي : فعلا ذا حسن ، يقال : وصيته بأن يفعل شيئا وأمرته به ، بمعنى : * (وإن جهداك) * أبواك * (لتشرك بى ما ليس لك به علم) * ما لا علم لك بإلهيته وحملاك عليه * (فلا تطعهما) * في الشرك ، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم ، كأنه قال : لتشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها ، نبه بذلك سبحانه على أن كل حق وإن عظم ساقط إذا جاء حق الله ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
  ثم قال : * (إلى) * مرجع المؤمن والمشرك منكم فأجازيكم على حسب استحقاقكم.
  * (في الصلحين) * أي : في جملتهم وزمرتهم في الجنة.
  * (من يقول ءامنا بالله) * أي : يؤمنون بألسنتهم ، فإذا أصابهم أذي من الكفار * (في الله) * أي : في ذات الله وبسبب دين الله ، رجع عن الدين ، وهو المراد بفتنة الناس ، يعني : يصرفهم ما مسهم من أذاهم عن الإيمان كما أن عذاب الله يصرف المؤمنين عن الكفر ، وإذا * (جاء نصر) * من الله للمؤمنين ودولة لهم على الكافرين قالوا : * (إنا كنا معكم) * أي : متابعين لكم في دينكم فأعطونا نصيبنا من الغنيمة ، ثم أخبر سبحانه بأنه : * (أعلم بما في صدور العلمين) * ومن ذلك ما يخفيه صدور هؤلاء من النفاق .
  ثم وعد المؤمنين وأوعد المنافقين ، أمر الكفار أهل الإيمان باتباع سبيلهم وطريقتهم التي كانوا عليها ، وأمروا نفوسهم بحمل خطاياهم ، فعطف الأمر على الأمر ، وأرادوا : ليجتمع هذان الأمران في الحصول : أن تتبعوا سبيلنا وأن نحمل خطاياكم ، والمعنى : تعليق الحمل بالاتباع ، والمراد ما كان قريش تقوله لمن آمن منهم : لا بعث ولا نشور ، ولو كان ذلك فإنا نتحمل آثامكم.
  * (وليحملن) * أثقال أنفسهم * (وأثقالا) * أخر * (مع

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 764 _
  أثقالهم) * وهي أثقال الذين كانوا سببا في آثامهم * (وليسئلن) * سؤال تقريع وتعنيف * (عما كانوا) * يختلقونه من الأباطيل.
  * (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ * وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) * (الطوفان) * ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة .
  والضمير في * (وجعلنها) * للسفينة أو للقصة .
  و ( إبراهيم ) عطف على ( نوح ) ، و * (إذ قال) * ظرف ل‍ * (أرسلنا) * أي : أرسلناه حين بلغ السن التي صلح فيها لأن يعظ قومه ويعرض عليهم الإيمان ، ويأمرهم بالعبادة والتقوى * (إن كنتم تعلمون) * وإن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شر لكم ، وإن نظرتم بعين البصيرة علمتم أنه * (خير لكم) * ، أي : وتختلقون * (إفكا) * بتسميتكم الأوثان شركاء لله وآلهة أو شفعاء عند الله ، وقيل : معناه : وتصنعون أصناما بأيديكم سماها إفكا ، ونحتهم لها خلقا للإفك (1) * (لا يملكون) * أن يرزقوكم شيئا من الرزق فاطلبوا * (عند الله الرزق) * كله ، فإنه هو الرازق * (إليه ترجعون) * فاستعدوا للقائه بعبادته * (واشكروا له) * على نعمه.

-------------------
(1) قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة ، راجع تفسير ابن كثير : ج 3 ص 393. (*

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 765 _
  * (وإن) * تكذبوني فلا تضروني بتكذيبكم * (فقد كذب‍) * ـ ت الأمم رسلهم ولم يضروهم بالتكذيب بل ضروا أنفسهم ، إذ حل بهم ما حل بسبب ذلك ، و * (البلغ المبين) * الذي يزول معه الشك لاقترانه بالمعجزات ، وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله : * (فما كان جواب قومه) * يحتمل أن يكون من جملة قول إبراهيم لقومه ، وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن نبي الله (صلى الله عليه وآله) وشأن قريش بين أول قصة إبراهيم وآخرها ، على معنى : أنكم يا معشر قريش إن تكذبوا محمدا (صلى الله عليه وآله) فقد كذب إبراهيم قومه ، وكذبت كل أمة نبيها ، وكذلك الآيات التابعة لها لأنها ناطقة بدلائل التوحيد ووصف قدرة الله وإيضاح حججه ، وقرئ : * (أولم يروا) * بالتاء (1) والياء.
  وقوله : * (ثم يعيده) * إخبار بالإعادة بعد الموت غير معطوف على * (يبدئ) * ، ولم تقع الرؤية عليه كما وقع النظر بعده على البدء دون الإنشاء في قوله : * (كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة) * ، * (ذلك) * إشارة إلى معنى الإعادة في * (يعيده) * .
  * (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ

-------------------
(1) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات : ص 498. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 766 _
  اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) * (النشأة الآخرة) * يدل على أنهما نشأتان ، كل واحدة منهما ابتداء وإخراج من العدم إلى الوجود ، ولا فرق بينهما إلا أن الثانية إنشاء بعد إنشاء مثله ، والأولى ليست كذلك ، وقرئ : ( النشآة ) (1) و * (النشأة) * كالرآفة والرأفة ، والمعنى : ثم الله الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة ، وللتنبيه على هذا المعنى أظهر اسمه ولم يقل : ثم ينشئ.
  * (يعذب من يشآء) * تعذيبه * (ويرحم من يشآء) * رحمته * (وإليه) * تردون وترجعون.
  * (وما أنتم بمعجزين) * ربكم ، أي : لا تفوتونه إن هربتم من حكمه في الأرض العريضة البسيطة ولا في السماء التي هي أفسح منها لو كنتم فيها ، أو : لا تعجزون أمره الجاري * (في السماء) * والأرض أن يجري عليكم فيصيبكم ببلاء يظهر من الأرض أو ينزل من السماء ، عن قتادة : أن الله ذم قوما هانوا عليه فقال : * (أولئك يئسوا من رحمتى) * وقال : * (لا ييئس من روح الله إلا القوم الكفرون) * فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من روح الله ولا من رحمته ولا يأمن عقابه ، وصفة المؤمن أن يكون راجيا لله خائفا (2).
  * (مودة بينكم) * قرئت منصوبة بغير إضافة وبإضافة ، ومرفوعة كذلك (3).

-------------------
(1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو بالمد في القرآن كله ، راجع المصدر السابق .
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 450.
(3) قرأ حمزة وحفص عن عاصم بالنصب مع الاضافة ، ونافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بالنصب منونا بغير إضافة ، وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالرفع مع الإضافة ، والأعشى عن أبي بكر عن عاصم بالرفع منونا بغير إضافة ، راجع كتاب السبعة : ص 498 ـ 499.

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 767 _
  والنصب على وجهين : على التعليل ، أي : لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاتفاقكم على عبادتها كما يتفق الناس على مذهب واحد فيكون ذلك سبب توادهم ، وعلى أن يكون مفعولا ثانيا ، أي : اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم ، على تقدير حذف المضاف ، أو : اتخذتموها مودة يعني : مودودة بينكم كقوله : * (يحبونهم كحب الله) * (1).
  والرفع على وجهين أيضا : أن يكون خبرا ل‍ ( إن ) على أن تكون ( ما ) موصولة ، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف ، والمعنى : أن الأوثان مودة بينكم ، أي : سبب مودة أو مودودة ، يعني : إنما تتوادون عليها أو تودونها * (في الحيواة الدنيا ثم يوم القيمة) * تتباغضون وتتلاعنون ، تتبرأ القادة من الأتباع * (ويلعن) * الأتباع القادة.
  * (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ * وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) * (لوط) * أول من صدق بإبراهيم ، وهو ابن أخته * (وقال) * إبراهيم * (إني مهاجر) * من كوثى ـ وهو من سواد الكوفة ـ إلى حران من أرض الشام ، ثم منها إلى فلسطين ، وكان معه في هجرته لوط وامرأته سارة وهاجر * (إلى ربى) * حيث أمرني ربي بالهجرة إليه * (إنه هو العزيز) * الذي يمنعني من أعدائي * (الحكيم) *

-------------------
(1) البقرة : 165. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 768 _
  الذي لا يأمرني إلا بما فيه مصلحتي.
  و * (أجره في الدنيا) * هو الذكر الحسن ، والصلاة عليه إلى آخر الدهر ، والذرية الطيبة ، وأن أهل الملل كلهم يتولونه.
  * (ولوطا) * عطف على * (إبراهيم) * أو على ما عطف عليه ، و * (الفحشة) * مفسرة بقوله : * (أئنكم لتأتون الرجال) * وقرئ : ( إنكم ) بغير الاستفهام في الأول دون الثاني ، وقطع * (السبيل) * عمل قطاع الطريق من قتل الأنفس وأخذ الأموال ، وقيل : هو قطعهم الناس عن الأسفار بإتيان هذه الفاحشة بالمجتازين في ديارهم (1) ، وعن الحسن : هو قطع النسل باختيار الرجال على النساء (2) ، و * (المنكر) * هو الحذف بالحصا ، فأيهم أصابه ينكحونه ، والصفع وضرب المعازف والقمار والسباب والفحش في المزاح ، وقيل : كانوا يتحابقون (3) ، وقيل : المجاهرة في ناديهم بذلك العمل وكل معصية ، فإظهارها أقبح من سرها (4).
  وفي الحديث : ( من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له ) (5).
  والنادي : مجتمع القوم ، فإذا تفرقوا عنه لا يكون ناديا * (إن كنت من الصدقين) * فيما وعدتنا من نزول العذاب.
  * (انصرني على القوم المفسدين) * الذين يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من الفاحشة طوعا وكرها ، وبابتداعهم إياها ، وبأن سنوها لمن بعدهم.
  * (وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ

-------------------
(1) حكاه ابن شجرة كما في تفسير الماوردي : ج 4 ص 282.
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 452.
(3) وهو قول عائشة : راجع المصدر السابق.
(4) حكاه الزمخشري في الكشاف ، انظر المصدر نفسه.
(5) المصدر السابق. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 769 _
  بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ * وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ * إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) * (مهلكوا أهل هذه القرية) * إضافة تخفيف لا إضافة تعريف ، ومعناه الاستقبال ، و * (القرية) * هي سدوم التي قيل فيها : ( أجور من قاضي سدوم ) * (كانوا ظلمين) * استمر بهم فعل الظلم في الأيام السالفة وأصروا عليه ، وقرئ : * (لننجينه) * و * (منجوك) * بالتشديد والتخفيف (1).
  * (ضاق بهم ذرعا) * أي : ضاق بشأنهم وتدبيرهم ذرعه أي : طاقته ، جعلوا ضيق الذراع والذرع عبارة عن فقد الطاقة ، كما قالوا : رحب الذراع إذا كان مطيقا.
  والرجز والرجس : العذاب ، من قولهم : إرتجز وارتجس : إذا اضطرب لما يلحق المعذب من القلق والاضطراب ، والآية البينة : آثار منازلهم المخربة ، وقيل : الماء الأسود على وجه الأرض (2) * (لقوم) * يتعلق ب‍ * (تركنا) * أو ب‍ * (بينة) *.

-------------------
(1) قرأ ابن كثير وعاصم برواية ابي بكر بتشديد الحرف الأول وتخفيف الثاني ، ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم برواية حفص بتشديد الحرفين ، وحمزة والكسائي بتخفيفهما.
راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 500.
(2) قاله مجاهد ، راجع تفسير القرطبي : ج 13 ص 343. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 770 _
  * (وارجوا اليوم الآخر) * إفعلوا ما ترجون منه العاقبة ، فأقيم المسبب مقام السبب ، أي : وارجوا ثواب اليوم الآخر بفعل الإيمان والطاعات ، وقيل : هو من الرجاء بمعنى الخوف (1).
  * (الرجفة) * الزلزلة الشديدة ، وقيل : هي صيحة جبرائيل (2) ، لأن القلوب رجفت لها * (في دارهم) * في بلدهم وأرضهم ، واكتفي بالواحد والمراد : في ديارهم لأنه لا يلتبس * (جثمين) * باركين على الركب ميتين.
  * (و) * أهلكنا * (عادا وثمودا) * ويدل عليه قوله : * (فأخذتهم الرجفة) * لأنه في معنى الإهلاك * (وقد تبين لكم) * يعني : ما وصفه من إهلاكهم من جهة * (مسكنهم) * إذا نظرتم إليها عند مروركم بها * (وكانوا مستبصرين) * عقلاء متمكنين من النظر ولم يفعلوا ، أو : كانوا متبينين أن العذاب نازل بهم.
  * (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ * خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) * (ما كانوا سابقين) * أي : فائتين الله ، أدركهم أمر الله فلم يفوتوه ، ( الحاصب )

-------------------
(1) قاله يونس النحوي ، راجع المصدر السابق.
(2) قاله الضحاك ، راجع الكشاف : ج 3 ص 453. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 771 _
  لقوم لوط ، وهي ريح عاصف فيها حصبآء ، وقيل : ملك كان يرميهم (1) ، و ( الصيحة ) لمدين وثمود ، و ( الخسف ) لقارون ، و ( الغرق ) لقوم نوح وفرعون ، شبه سبحانه ما اتخذوه متكلا في دينهم ومعولا عليه بما هو مثل في الضعف والوهن ، وهو نسج * (العنكبوت) * ، والولي : المتولي للنصرة ، وهو أبلغ من الناصر * (لو كانوا يعلمون) * أن هذا مثلهم ، وأن أمر دينهم بلغ هذه الغاية في الضعف ، أو : إذا صح هذا التشبيه فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعلمون ، وقرئ : * (يدعون) * بالتاء (2) والياء وهذا أوكد مما تقدمه إذ لم يجعل ما يدعونه شيئا * (وهو العزيز الحكيم) * فيه تجهيل لهم حيث عبدوا ما ليس بشئ ، وتركوا عبادة القادر الحكيم .
  * (وما يعقلها إلا العلمون) * أي : لا يعقل صحة ضرب المثل بالعنكبوت والذباب وفائدته إلا العلماء بالله ، فإن الأمثال والتشبهات هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار ، تكشف عنها وتصورها للأفهام ، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد.
  وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه تلا هذه الآية فقال : ( العالم الذي عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه ) (3).
  * (بالحق) * أي : بالغرض الصحيح الذي هو حق ، وهو أن يكونا (4) مساكن عباده ، وعبرة للمعتبرين ، ودلالة للموحدين على وحدانيته وكمال قدرته.
  * (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى

-------------------
(1) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 454.
(2) قرأه ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 501.
(3) رواه ابن حجر في المطالب العالية : ج 3 ص 214 ح 3294 عن جابر.
(4) أي السماء والأرض. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 772 _
  عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ * وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاء مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ) * الصلاة لطف للمكلف في ترك المعاصي ، فكأنها ناهية عنها ، وعن النبي (صلى الله عليه وآله) : ( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا ) (1).
  * (ولذكر الله أكبر) * والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر الله كما قال : * (فاسعوا إلى ذكر الله) * (2) فكأنه قال : الصلاة أكبر لأنها ذكر الله ، وعن ابن عباس : ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته (3) * (والله يعلم ما تصنعون) * من الخير والطاعة فيثيبكم (4) عليه.
  * (ولا تجدلوا) * اليهود والنصارى * (إلا) * بالخصلة التي * (هي أحسن) * وهي مقابلة الخشونة باللين كقوله : * (ادفع بالتى هي أحسن) * (5) ، وفي هذا دلالة على أن الدعاء إلى الله تعالى يجب أن يكون على أحسن الوجوه وألطفها * (إلا الذين ظلموا منهم) * فأفرطوا في الاعتداء والعناد ، ولم ينجح فيهم الرفق

-------------------
(1) المعجم الكبير للطبراني : ج 11 ص 46 ح 11025.
(2) الجمعة : 9.
(3) تفسير ابن عباس : ص 336.
(4) في نسخة : ( فيصيبكم ).
(5) المؤمنون : 96 ، فصلت : 34. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 773 _
  واللطف * (وقولوا ءامنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم) * هو من جملة المجادلة التي هي أحسن.
  ومثل ذلك الإنزال * (أنزلنا إليك الكتب) * أي : أنزلناه مصدقا لسائر الكتب السماوية * (فالذين ءاتينهم الكتب) * هم عبد الله بن سلام وأضرابه * (ومن هؤلاء) * أي : ومن أهل مكة ، وقيل : أراد بالذين آتيناهم الكتاب من تقدم عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) منهم * (ومن هؤلاء) * من في عهده منهم (1) * (وما يجحد بآيتنآ) * مع ظهورها * (إلا) * المصممون على الكفر ، وما كنت تقرأ من قبل القرآن كتابا ، وكنت أميا لم تعرف بخط قط ، إذ لو كان شئ من ذلك أي : من التلاوة والخط * (لارتاب المبطلون) * من أهل الكتاب وقالوا : الذي نجده في كتبنا : أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس هو به ، أو : لارتاب مشركو مكة وقالوا : لعله تعلمه أو خطه بيده ، بل القرآن * (ءايت بينت في صدور الذين أوتوا العلم) * وهم النبي والأئمة والعلماء الذين حفظوه ووعوه ، ورسخ معناه في قلوبهم.
  وهذان من خصائص القرآن : كون آياته بينات الإعجاز ، وكونه محفوظا في الصدور يتلوه حملته ظاهرا بخلاف سائر الكتب الإلهية فإنها لم تكن معجزات ، وما كانت تقرأ إلا من المصاحف * (وما يجحد) * بالآيات الواضحات * (إلا) * المكابرون المتوغلون في الظلم.
  * (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ

-------------------
(1) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 458. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 774 _
  وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمْ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) * وقرئ (1) : * (ءايت) * أي : هلا أنزل عليه مثل ناقة صالح ومائدة عيسى ونحو ذلك * (إنما الآيت عند الله) * ينزل أيتها شاء ، ولو شاء أن ينزل ما يقترحونه لأنزل * (وإنما أنا) * منذر أنذر بما أعطيت من الآيات ، وليس لي اختيار الآيات على الله عز اسمه ، ومع علمي بأن الغرض من الآية ثبوت الدلالة ، والآيات كلها في حكم آية واحدة في ذلك.
  * (أولم يكفهم أنا أنزلنا) * القرآن عليك وهو المعجزة الواضحة ، والآية المغنية عن سائر الآيات ، يدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان ، فلا يزال معهم آية ثابتة إلى آخر الدهر * (إن في ذلك) * لنعمة عظيمة وتذكرة * (لقوم يؤمنون) *.
  * (قل كفي بالله بينى وبينكم شهيدا) * لي بأن قد أبلغت الرسالة ، وعليكم بأن كذبتم وعاندتم * (يعلم ما في السموات والأرض) * فهو مطلع على أمري وأمركم ، عالم بحقي وباطلكم * (والذين ءامنوا بالباطل) * منكم وهو ما يعبدون من دون الله * (أولئك هم الخسرون) * المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان ، ( استعجالهم العذاب ) : استهزاء منهم وتكذيب ، ومنه قول النضر بن الحارث : ( أمطر علينا حجارة من السماء ) * (ولولا أجل مسمى) * قد سماه الله ، ووقت قدره الله أوجبت الحكمة تأخيره إلى ذلك الوقت * (لجاءهم العذاب) * وهو وقت فنائهم بآجالهم ، وقيل : المراد بالأجل : الآخرة (2) ، لأن الله سبحانه وعد رسوله (عليه السلام) أن

-------------------
(1) يظهر من عبارة المصنف (قدس سره) أنه يعتمد هنا على قراءة المفرد من غير ألف كما لا يخفي.
(2) قاله ابن جبير ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 290. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 775 _
  لا يعذب أمته ولا يستأصلهم ، وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة.
  * (وإن جهنم لمحيطة) * بهم لأنها مصيرهم لا محالة ، فكأنها أحاطت بهم ، أو : ستحيط بهم * (يوم يغشهم العذاب) * ، وعلى الأول ينتصب * (يوم يغشهم) * بمضمر ، و * (من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * كقوله : * (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) * (1) ، * (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل) * (2) ، وقرئ : * (ويقول) * بالياء والنون (3) ، أي : ذوقوا جزاء أعمالكم.
  * (يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) * معناه : إذا لم يتسهل لكم العبادة ، ولم تتمش أمور دينكم في بلد أنتم فيه فاخرجوا منه إلى بلد آخر.
  وعن الصادق (عليه السلام) : ( إذا عصي الله في أرض أنت بها فاخرج منها إلى غيرها ).
  وعن النبي (صلى الله عليه وآله) : ( من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة ، وكان رفيق إبراهيم ومحمد (عليهما السلام) ) (4).

-------------------
(1) الأعراف : 41.
(2) الزمر : 16.
(3) وبالنون قرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات : ص 501.
(4) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 461. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 776 _
  * (فإيى فاعبدون) * هو في المتكلم مثل : ( إياه ضربته ) في الغائب ، و ( إياك ضربتك ) في المخاطب ، والتقدير : فإياي فاعبدوني.
  والفاء جواب شرط محذوف ، لأن المعنى : إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها لي في غيرها ، ثم حذف الشرط وعوض من حذفه تقديم المفعول مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص.
  ولما أمر عباده بالحرص على العبادة والإخلاص فيها حتى يطلبوا لها أوفق البلاد عقبه بقوله : * (كل نفس ذائقة الموت) * أي : واجد مرارته بأي أرض كان.
  * (لنبوئنهم) * لننزلنهم * (من الجنة غرفا) * أي : علالي عاليات ، وقرئ : ( لنثوينهم ) (1) من الثواء ، يقال : ثوى في المنزل وأثوى غيره ، والوجه في تعديته إلى الغرف أن يكون الأصل ( لنثوينهم في غرف ) وحذف الجار ، أو أجري مجرى ( لننزلنهم ) ، أو شبه الظرف المؤقت بالمبهم.
  * (الذين صبروا) * على مفارقة الأوطان لأجل الدين ، وعلى المحن والشدائد ، وعلى الطاعات ، وعن المعاصي ، ولم يتوكلوا إلا على ربهم.
  ولما أمروا بالهجرة من مكة خافوا الفقر والضيعة وقالوا : كيف نخرج إلى بلدة ليس لنا فيها معيشة ؟ فقيل : * (وكأين من دابة) * والدابة : كل نفس دبت على وجه الأرض ، عقلت أو لم تعقل * (لا تحمل رزقها) * لا تستطيع أن تحمله لضعفها * (الله يرزقها وإياكم) * أي : لا يرزق تلك الدواب إلا الله ، ولا يرزقكم أيضا إلا هو ، وإن كنتم تطيقون حمل أرزاقكم وكسبها فلا تتركوا الهجرة بسبب الاهتمام للرزق * (وهو السميع) * لقولكم : نخشى الفقر * (العليم) * بضمائركم.
  * (ولئن) * سألت هؤلاء المشركين من أهل مكة * (من خلق السموات

-------------------
(1) قرأه حمزة والكسائي ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 603 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 777 _
  والأرض) * ؟ لأقروا بأنه خالقهما ومسخر الشمس والقمر ومسيرهما * (فأنى يؤفكون) * أي : فكيف تصرفون عن توحيد الله ؟ وقدر الرزق وقتره : ضيقه ، أي : ويقدر لمن يشاء ، فوضع الضمير موضع ( من يشاء ) .
  * (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) * (قل الحمد لله) * على ما وفق من توحيده ، ونفي الأنداد عنه * (بل أكثرهم لا يعقلون) * ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد.
  * (هذه) * فيها ازدراء لأمر الدنيا وتحقير لها ، أي : ما هي بسرعة زوالها عن أهلها إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون * (وإن ... الآخرة لهى الحيوان) * أي : ليس فيها إلا حياة دائمة لا موت فيها ولا تنغيص ، فكأنها في ذاتها حياة ، والحيوان : مصدر ( حيي ) ، وأصله ( حييان ) فقلبت الثانية واوا ، وبه سمي ما فيه حياة حيوانا * (لو كانوا يعلمون) * لم يؤثروا عليها الحياة الفانية.

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 778 _
  واتصل قوله : * (فإذا ركبوا) * بمحذوف دل عليه ما شرحه من أمرهم ، والمعنى : أنهم على ما وصفوا به من الشرك والعناد فإذا ركبوا في الفلك * (دعوا الله) * كائنين في صورة من يخلص الدين لله من المؤمنين ، حيث لا يذكرون إلا الله ، ولا يدعون معه إلها آخر * (فلما نجبهم إلى البر) * وأمنوا عادوا إلى حالهم الأولى من الإشراك معه في العبادة.
  * (ليكفروا ... وليتمتعوا) * قرئ بكسر اللامين ، فيحتمل أن يكون لام كي ، بمعنى : أنهم يعودون إلى شركهم ليكونوا بالعود كافرين بنعمة الله قاصدين التمتع بها والتلذذ لا غير ، وأن يكون لام الأمر على معنى التهديد والتوعيد ، وقراءة من قرأ : ( وليتمتعوا ) بالسكون (1) تشهد له ، ونحوه قوله سبحانه : * (اعملوا ما شئتم) * (2).
  ثم ذكرهم الله سبحانه النعمة عليهم في كونهم آمنين من القتل والغارة ، والعرب حول مكة يغزو بعضهم بعضا ، ويتغاورون مع قلتهم وكثرة العرب ، ووبخهم بأنهم يؤمنون بالباطل الذي هم عليه ، وهذه النعمة الظاهرة إلى غيرها من نعم الله مكفورة عندهم.
  * (أليس في جهنم) * كقول الشاعر :
ألـستم خير من ركب iiالمطايا      وأندى العالمين بطون راح (3)
  والهمزة همزة الإنكار دخلت على النفي فرجع إلى معنى التقرير ، وفيها وجهان : أحدهما : ألا يثوون في جهنم ، ولا يستحقون الثواء فيها وقد افتروا مثل هذا الكذب على الله في ادعائهم له شريكا ، وكذبوا بالحق هذا التكذيب ؟ والثاني :

-------------------
(1) قرأه ابن كثير وحمزة والكسائي وقالون ، راجع التيسير في القراءات للداني : ص 174.
(2) فصلت : 40.
(3) البيت لجرير من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان ، راجع ديوان جرير : ص 77. (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 779 _
  ألم يصح عندهم أن في جهنم مثواهم حتى اجترأوا مثل هذه الجرأة ؟ * (والذين جهدوا) * ما يجب مجاهدته من النفس الأمارة بالسوء ، والشيطان وأعداء الدين * (فينا) * أي : في حقنا ، ولوجهنا ، ومن أجلنا * (لنهدينهم سبلنا) * لنزيدنهم هداية إلى السبيل الموصلة إلى ثوابنا ، وتوفيقا لازدياد الطاعات الموجبة لرضائنا ، كقوله : * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * (1) وقيل : والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا (2).

-------------------
(1) محمد : 17.
(2) قاله عباس أبو احمد كما في تفسير الماوردي : ج 4 ص 295. (*)