* الفلاح : الظفر بالمراد ، وقيل : البقاء في الخير (1) ، و * (أفلح) * : دخل في الفلاح ، كأبشر دخل في البشارة .
  والخشوع * (في) * الصلاة : خشية القلب والتواضع ، وأضيفت الصلاة إليهم لأنهم المنتفعون بها ، وهي عدتهم وذخيرتهم ، والذي يصلون له جل وتقدس عن الحاجة إليها .
  و * (اللغو) * : ما لا يعنيك من قول أو فعل كالهزل واللعب ، والمعنى : أنهم شغلهم الجد عن الهزل (2) والباطل وجميع المعاصي ، ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة وصفهم عقيبه بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك .
  والزكاة : اسم مشترك بين عين ومعنى ، فالعين : ما يخرجه المزكي ، والمعنى : فعله الذي هو التزكية ، وهو المراد في الآية ، وما من مصدر إلا وقد يعبر عن معناه بالفعل ، ويقال لمحدثه : فاعل ، كما يقال للضارب : فاعل الضرب ، وأنشد لأمية بن أبي الصلت : المطعمون الطعام في السنة الأ * زمة والفاعلون للزكوات (3)

-------------------
(1) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 4 ص 5 .
(2) في نسخة : ( اللعب ) .
(3) والأزمة : الشدة والقحط ، والبيت واضح المعنى ، انظر تفسير الكشاف : ج 3 ص 176 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)_ 577 _

  ويجوز أن يراد بالزكاة : العين على تقدير مضاف محذوف وهو الأداء، ويحمل البيت على هذا أيضا .
  * (على أزوا جهم) * في موضع الحال ، أي : الأوالين على أزواجهم ، والمعنى : أنهم * (لفروجهم حفظون) * في جميع الأحوال * (إلا) * في حال تزويجهم أو تسريهم ، ويجوز أن يتعلق * (على) * بمحذوف يدل عليه قوله تعالى : * (غير ملومين) * كأنه قال : يلامون إلا على أزواجهم ، أي : يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم * (فإنهم غير ملومين) * عليه .
  * (فمن ابتغى وراء ذلك) * أي : طلب سوى الأزواج والمملوكة * (فأولئك هم العادون) * الكاملون في العدوان المتناهون فيه .
  وقرئ : ( لامانتهم ) (1) و * (لامنتهم) * ، و ( على صلاتهم ) (2) و * (على صلوا تهم) * على الواحد والجمع ، وسمي الشئ المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهدا ، ومثله : * (يأمركم أن تؤدوا الأمنت) * (3) ، * (وتخونوا أمنتكم) * (4) ، وإنما يؤدى المؤتمن عليه لا الأمانة نفسها ، وكذلك الخيانة .
  ويحتمل العموم في كل ما أتمنوا عليه وعهدوا من جهة الله ومن جهة المخلوقين ، والخصوص فيما حملوه من الأمانات للناس وعهودهم .
   وكرر ذكر الصلاة لأن في الأول وصفهم بالخشوع فيها ، وفي الثاني وصفهم بالمحافظة عليها ، وهو أن يؤدوها في أوقاتها ويراعوا أركانها ، وكان أولئك الجامعون لهذه الصفات هم الأحقاء بأن يسموا وراثا دون من عداهم ، ثم بين

-------------------
(1) قرأه ابن كثير ، راجع التبيان : ج 7 ص 350 .
(2) وهي قراءة حمزة والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 444 .
(3) النساء : 58 .
(4) الأنفال : 27 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 579 _
  من أجزائه من عجائب فطرة وغرائب حكمة ما لا يكتنه بالوصف * (فتبارك الله) * تعالى واستحق التعظيم * (أحسن الخلقين) * أي : أحسن المقدرين تقديرا ، فترك ذكر المميز لدلالة * (الخلقين) * عليه .
  والطرائق : السماوات ، لأنه طورق بعضها فوق بعض ، وكل شئ فوقه مثله فهو طريقه ، أو : لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم ، أو : هي الأفلاك لأنها طرائق الكواكب وفيها مسائرها .
  * (بقدر) * أي : بتقدير يصلون به إلى المنفعة ويسلمون من المضرة ، أو : بمقدار ما علمنا من مصالحهم وحاجاتهم به * (فأسكنه في الارض) * كقوله : * (فسلكه ينبيع في الارض) * (1) ، وكما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على رفعه وإزالته ، وقوله : * (على ذهاب) * يعني على وجه من وجوه الذهاب * (به) * .
  وخص هذه الأنواع الثلاثة من جملة الأشجار لأنها أكرمها وأجمعها للمنافع ، ووصف النخيل والأعناب بأن ثمرهما جامع بين أمرين : إنه فاكهة يتفكه بها ، وطعام يؤكل رطبا ويابسا ، ولذلك أتي بالواو ، والزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا .
   * (وشجرة) * عطف على * (جنت) * ، وقرئ : * (سينآء) * بكسر السين (2) وفتحها ، فمن كسرها فإنما يمنع الصرف للتعريف والعجمة أو للتأنيث لأنها بقعة ، لأن ( فعلاء ) بكسر الفاء لا يكون ألفه للتأنيث كألف ( صحراء ) و ( طور سيناء )، وطور سينين لا يخلو : إما أن يكون مضافا إلى بقعة اسمها : ( سيناء ) أو ( سينون ) ، وإما أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف إليه ك‍ ( امرئ القيس )

-------------------
(1) الزمر : 21 .
(2) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 557 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 580 _
  * (بالدهن) * في موضع الحال ، أي : تنبت وفيها الدهن ، وقرئ : ( تنبت ) (1) ، وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون ( أنبت ) بمعنى ( نبت ) كما في بيت زهير : رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم * قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل (2) والآخر : أن يكون مفعوله محذوفا ، والمعنى : ينبت زيتونها ، وفيه الزيت .
  * (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) * القصد ب‍ * (الانعم) * إلى الإبل لأنها مقرونة بالفلك التي هي السفن ، وهي سفن البر ، أي : * (ولكم فيها منفع) * من الركوب والحمل وغير ذلك ، وفيها منفعة زائدة وهي الأكل الذي هو انتفاع بذواتها .
  * (غيره) * بالرفع على المحل وبالجر على اللفظ (3) ، والجملة استئناف يجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة .
  * (يريد أن يتفضل عليكم) * أي : يطلب الفضل عليكم والرئاسة ، ونحوه : * (وتكون لكما الكبرياء في الارض) * (4) ، * (بهذا) * أي : ما سمعنا بهذا (5) الكلام ، أو : بمثل هذا الذي يدعي أنه رسول الله وهو * (بشر) * .
  والجنة : الجنون أو الجن

-------------------
(1) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو ورويس : راجع المصدر السابق : ص 558 .
(2) انظر ديوان زهير : ص 62 ، وفيه ( قطينا بها ) .
(3) في نسخة : ( الموضع ) .
(4) يونس : 78 .
(5) في نسخة : ( بمثل هذا ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _581 _
  أي : به جن يخيلونه * (حتى حين) * أي : اصبروا عليه إلى زمان ، فإن أفاق من جنونه وإلا فاقتلوه .
  * (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) * أي: * (انصرني) * بإهلاكهم بسبب تكذيبهم إياي ، و * (انصرني) * بدل ( ما كذبوني ) ، كما يقال : هذا بذاك ، أي : مكان ذاك ، والمعنى : أبدلني من غم تكذيبهم النصرة عليهم ، وانصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب ، وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم : * (إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) * (1) .
  * (بأعيننا) * أي : بحفظنا وكلاءتنا ، كان معه من الله حفظة يكلؤونه بعيونهم لئلا يتعرض له ، ومنه قولهم : عليه من الله عين كالئة * (ووحينا) * أي : بأمرنا وتعليمنا إياك كيف تصنع .
  روي : أنه قيل لنوح (عليه السلام) : إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة ، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب (2) .
  وقيل : التنور : وجه الأرض (3) ، وقد مر ذكره وبيانه (4) ، وسلك فيه : دخله ،

-------------------
(1) الأعراف : 59 ، الشعراء : 135 ، الأحقاف : 21 .
(2) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 183 .
(3) قاله ابن عباس ، على ما حكاه عنه في الكشاف : ج 3 ص 184 .
(4) تقدم في ص 166 ضمن تفسير الآية : 40 من هود . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _582_
  وسلك غيره وأسلكه بمعنى * (ولا تخطبني) * أي : ولا تكلمني * (في الذين ظلموا) * أي : بشأنهم ، نهاه عن الدعاء لهم لكونهم ظالمين ، ولأن الحكمة أوجبت إغراقهم ليكونوا عبرة للمعتبرين .
  وكما نهى عن ذلك أمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم ، ثم أمره أن يدعوه بدعاء هو أنفع له ، وهو طلب أن ينزله في السفينة أو في الأرض عند خروجه منها * (منزلا مباركا) * يبارك له فيه ، وأن يشفع الدعاء بالثناء عليه المطابق لمسألته ، وهو قوله : * (وأنت خير المنزلين) * ، وقرئ : ( منزلا ) (1) بمعنى : إنزالا ، أو موضع إنزال .
  * (وإن كنا) * : * (إن) * هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، والمعنى : وإن الشأن والقصة كنا مبتلين ، أي : مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم ، أو : مختبرين بهذه الآيات عبادنا ليعتبروا .
  * (ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ) *

-------------------
(1) قرأه أبو بكر ، راجع الكشف عن وجوه القراءات للقيسي : ج 2 ص 128 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _583 _
  * (قرنا ءاخرين) * هم عاد قوم هود ، لأنه المبعوث بعد نوح .
  * (أن) * مفسرة ل‍ * (أرسلنا) * أي : قلنا لهم على لسان الرسول : * (اعبدوا الله) * .
  * (كذبوا بلقاء الآخرة) * أي : بلقاء ما فيها من الحساب والجزاء * (مما تشربون) * منه ، وحذف لدلالة ما قبله عليه ، أو حذف الضمير ، والمعنى : من مشروبكم .
  * (أنكم مخرجون) * في موضع الرفع بأنه فاعل فعل هو جزاء الشرط ، كأنه قال : * (أيعدكم أنكم إذا متم) * وقع إخراجكم ؟ والجملة الشرطية في موضع الرفع بأنها خبر عن * (أنكم) * أو كرر * (أنكم) * للتأكيد ، فيكون * (مخرجون) * خبرا عن الأول، وحسن التكرير بفصل ما بين الأول والثاني بالظرف ، أو ارتفع قوله : * (أنكم مخرجون) * بالظرف على تقدير : أيعدكم أنكم وقت موتكم وكونكم * (ترابا وعظما) * إخراجكم بكون الظرف مع ما ارتفع به خبرا ل‍ ( أن ) .
  وقرئ * (هيهات) * بالفتح والكسر (1) ، وعن الزجاج : معناه : أن البعد لما توعدون (2) ، فنزله منزلة المصدر ، ويجوز أن يكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد ، كما أن اللام في * (هيت لك) * (3) لبيان المهيت له .
  * (إن هي إلا حياتنا) * : * (هي) * ضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من بيانه ، وأصله : إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ، ثم وضع * (هي) * موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها ، ومثله : هي النفس ما حملتها تتحمل ، والمعنى : لا حياة إلا هذه الحياة * (نموت ونحيا) * أي : يموت بعض ويولد بعض ، وينقرض قرن ويأتي قرن .
  * (قليل) * صفة للزمان ، كقديم وحديث في قولك : ما رأيته قديما ولا حديثا ،

-------------------
(1) وقراءة الكسر هي قراءة أبي جعفر المدني وشيبة وعيسى ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 99 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 6 ص 404 .
(2) معاني القرآن : ج 3 ص 12 .
(3) يوسف : 23 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 584_
  وفي معناه : عن قريب ، و ( ما ) توكيد بمعنى : قلة المدة وقصرها .
  * (فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ * ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنْ الْمُهْلَكِينَ * وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) * * (الصيحة) * صيحة جبرائيل (عليه السلام) ، صاح بهم فدمرهم * (بالحق) * باستحقاقهم العذاب أو : بالعدل من الله، والغثاء : حميل السيل مما اسود وبلي من العود والورق ، وشبه دمارهم بذلك * (فبعدا) * أي : سحقا ، وهو من المصادر الموضوعة مواضع أفعالها ، أي : بعدوا وهلكوا ، يقال : بعد بعدا وبعدا ، قال : إخوتي لا تبعدوا أبدا * وبلى والله قد بعدوا و * (للقوم الظلمين) * بيان لمن دعي عليه بالبعد كما ذكرناه في * (لما توعدون) * .
  * (أجلها) * الوقت الذي حل لهلاكها .
  * (تترا) * فعلى ، والألف للتأنيث ، أي : أرسلناها متواترة يتبع بعضهم بعضا ، واحدا بعد واحد ، وقرئ : ( تترى ) بالتنوين (1) ، والتاء بدل (2) الواو ، وأضاف ( الرسل ) إلى نفسه هنا وإلى أممهم

-------------------
(1) قرأه ابن كثير وأبو عمرو ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون ج 2 ص 559 .
(2) في نسختين زيادة : ( من ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 585 _
  في قوله : * (جاءتهم رسلهم بالبينت) * (1) لأن الإضافة تكون بالملابسة ، والوصول يلابس المرسل والمرسل إليه جميعا * (فأتبعنا) * الأمم والقرون * (بعضهم بعضا) * في الإهلاك * (وجعلنهم) * أخبارا يسمر بها ، والأحاديث : اسم جمع للحديث ، ويكون جمعا أيضا للأحدوثة التي هي مثل الأعجوبة والأضحوكة ، وهي ما يتحدث به الناس تعجبا ، وهو المراد هنا .
  والمراد ب‍ ( السلطان المبين ) : العصا ، لأنها كانت أم آيات موسى ، وقد تعلقت بها معجزات شتى ، كانفلاق (2) البحر وانفجار العيون من الحجر يضربهما بها ، فجعلت كأنها ليست بعضها ، فعطفت عليها كقوله : جبرائيل وميكائيل ، ويجوز أن يراد به الآيات أنفسها ، أي : هي آيات وحجة ظاهرة بينة .
  * (قوما عالين) * أي : متكبرين ، من قوله : * (إن فرعون علا في الارض) * (3) أي : متطاولين على الناس ببغيهم وظلمهم .
  * (لبشرين مثلنا) * لإنسانين خلقهما مثل خلقنا ، والبشر يكون واحدا وجمعا ، و ( مثل ) و ( غير ) يوصف بهما الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث ، كقوله : * (إنكم إذا مثلهم) * (4) * (ومن الارض مثلهن) * (5) ويقال أيضا : هما مثلاه ، وهم أمثاله * (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) * (6) ، * (وقومهما) * يعني : بني إسرائيل * (عبدون) * أي : مطيعون لنا طاعة العبد لمولاه ، أي : أعطينا قوم موسى التوراة لكي يهتدوا إلى طريق الحق ، ويعملوا بشرائعها .
  * (ءاية) * أي : حجة على قدرتنا على الاختراع ، فهو مثل قوله : * (وجعلنها

-------------------
(1) الأعراف : 101 ، يونس : 13 ، إبراهيم : 9 ، الروم : 9 ، فاطر : 25 ، غافر : 83 .
(2) في نسخة : ( كانقلاب) .
(3) القصص : 4 .
(4) النساء : 140 .
(5) الطلاق : 12 .
(6) الأعراف : 194 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 586_
  وابنها ءاية للعلمين) * (1) وذلك أن الآية في كليهما واحدة ، وهي : أن عيسى (عليه السلام) خلق من غير ذكر ، ومريم حملت من غير فحل * (وءاوينهما إلى ربوة) * أي : وجعلنا مكانهما ومأواهما أرضا مرتفعة ، وهي أرض بيت المقدس ، فإنها كبد الأرض، وأقرب الأرض إلى السماء ، وقيل : فلسطين والرملة (2) ، وقيل : هي حيرة الكوفة وسوادها (3) ، والقرار : المستقر من أرض مستوية منبسطة .
  وعن الباقر (عليه السلام) والصادق (عليه السلام) : ( القرار : مسجد الكوفة ) (4) .
  والمعين : الفرات ، وأصله الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض ، واختلف في زيادة ميمه ، فقيل : إنه مفعول من عانه : إذا أدركه بعينه (5) ، وقيل : إنه فعيل من الماعون وهو المنفعة (6) ، أي : نفاع لظهوره وجريه .
  * (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ) * قيل : إنه خطاب لنبينا (صلى الله عليه وآله) (7) ، وفيه إعلام بأن كل رسول في زمانه مأمور

-------------------
(1) الأنبياء : 91 .
(2) وهو قول أبي هريرة والحسن ، راجع تفسير الطبري : ج 9 ص 218 .
(3) قاله القمي علي بن ابراهيم في تفسيره : ج 2 ص 91 .
(4) كامل الزيارات لابن قولويه : ص 48 ، معاني الأخبار للصدوق : ص 373 .
(5) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 4 ص 15 .
(6) قاله الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 190 .
(7) وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 310 ، وتفسير الآلوسي : ج 18 ص 40 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 587 _
  بذلك وموصى به ، والمراد ب‍ * (الطيبت) * : ما طاب وحل ، وقيل : هنا كل ما يستطاب ويستلذ من الأكل والفواكه (1) ، ويشهد لذلك مجيئه في إثر قوله : * (وءاوينهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) * ، ويجوز أن يكون وقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى (عليه السلام) ومريم إلى الربوة ، فذكر على سبيل الحكاية ، أي : آويناهما وقلنا لهما هذا ، فعلمهما أن الرسل كلهم خوطبوا به ، فكلا مما رزقناكما واعملا صالحا اقتداء بالرسل .
  وقرئ : * (وإن هذه) * بالكسر على الاستئناف ،( وأن ) بالفتح (2) بمعنى : ولأن ، ( وأن ) المخففة من الثقيلة (3) ، و * (أمتكم) * مرفوعة معها .
  وقرئ : * (زبرا) * جمع زبور ، أي : كتبا مختلفة ، يعني : جعلوا دينهم أديانا ، وقرئ : ( زبرا ) (4) أي : قطعا ، استعيرت من زبر الفضة والحديد ، و * (كل) * فرقة من فرق هؤلاء المختلفين الذين تقطعوا دينهم فرح بباطله ، معتقدا أنه على الحق ، راض بما عنده .
  * (في غمرتهم) * أي : فيما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم ، وأصل الغمرة : الماء الذي يغمر القامة ، أو : شبههم الله باللاعبين في الغمرة لما هم عليه من الباطل ، قال ذو الرمة : كأنني ضارب في غمرة لعب (5) * (حتى حين) * إلى أن يقتلوا أو يموتوا ، أي : يحسبون هذه الأمداد مسارعة

-------------------
(1) قاله الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 190 .
(2) قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 446 .
(3) وهي قراءة ابن عامر ، راجع المصدر السابق .
(4) قرأه ابن عامر والأعمش وأبو عمرو ، راجع تفسير السمرقندي : ج 2 ص 415 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 4 ص 408 .
(5) وصدره : ليالي اللهو يطبيني فأتبعه ، ومعناه واضح ، انظر ديوان ذي الرمة : ص 27 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 588_
  * (لهم في الخيرا ت) * ومعاجلة بالثواب قبل وقته ، وليس ذلك إلا استدراجا لهم إلى الهلاك ، و * (بل) * استدراك لقوله : * (أيحسبون) * أي : بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم حتى يتأملوا ويتفكروا هو استدراج أم مسارعة في الخيرات ، والراجع من خبر ( أن ) إلى اسمه محذوف ، والتقدير : نسارع به .
  * (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ * وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ) * (يؤتون مآ ءاتوا) * أي : يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقة ، وقيل : أعمال البر كلها (1) * (وقلوبهم وجلة) * الصادق (عليه السلام) : ( أي : خائفة أن لا يقبل منهم ) (2) .
  وعنه (عليه السلام) : ( يؤتي ما آتى وهو خائف راج ) (3) .
  وعن الحسن : المؤمن جمع إحسانا وشفقة ، والمنافق جمع إساءة وأمنا (4) ، لأنهم أو ب‍ * (ـ أنهم إلى ربهم را جعون) * وحذف الجار ، أي : لإيقانهم بأنهم

-------------------
(1) قاله ابن عباس وابن جبير ، راجع البحر المحيط لأبي حيان : ج 6 ص 410 .
(2) روضة الكافي : ص 192 ح 294 .
(3) كتاب الزهد للحسين بن سعيد الأهوازي : ص 24 ح 54 .
(4) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 7 ص 377 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 589 _
  راجعون إلى الله وجلت قلوبهم ، إذ لم يأمنوا التفريط .
  * (أولئك يسارعون في الخيرات) * أي : هم الذين يبادرون إلى الطاعات رغبة منهم فيها * (وهم لها سبقون) * أي : فاعلون السبق لأجلها ، أو : سابقون الناس لأجلها ، أي : وهذا الذي وصف به الصالحون ليس بخارج من حد الوسع والطاقة ، وكل ما عمله العباد من التكاليف مثبت عندنا في * (كتب) * ناطق بالحق ، وهو صحيفة الأعمال يقرؤون فيه (1) يوم القيامة ما هو صدق وعدل ، لا زيادة فيه ولا نقصان ، يوفون أجور أعمالهم * (وهم لا يظلمون) * أي : لا ينقص من ثوابهم ولايزداد في عقابهم ، ولا يؤاخذون بذنب غيرهم .
  * (بل) * قلوب الكفار * (في غمرة) * أي : غفلة غامرة لها * (من هذا) * أي : من هذا الكتاب المشتمل على الوعد والوعيد وهو القرآن ، أو : من هذا الذي عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين * (ولهم أعمل) * متجاوزة ل‍ * (ذلك) * أي : لما وصف المؤمنون به * (هم لها) * معتادون ، وبها مشتغلون .
  * (حتى) * يأخذهم الله * (بالعذاب) * : و ( حتى ) هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، والعذاب : قتلهم يوم بدر ، أو : الجوع حين دعا عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال : ( اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف (عليه السلام) (2) ) فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقد والأولاد ( تجأرون ) أي : تصيحون وتصرخون باستغاثة ، أي : يقال لهم حينئذ : * (لا تجروا) * فإن الجؤار غير نافع لكم * (إنكم منا لا تنصرون) * أي : لا تغاثون (3) ولا تمنعون منا ، أو : من جهتنا لا يلحقكم نصر ومعونة .

-------------------
(1) في نسخة : ( منه ) .
(2) انظر تفسير القرطبي : ج 12 ص 135 .
(3) في نسخة : ( لا تعاونون ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 590 _
  والضمير في * (به) * للبيت الحرام أو للحرم ، والباء يتعلق ب‍ * (مستكبرين) * كانوا يستكبرون (1) على الناس ويفخرون بأنهم ولاته ، أو يكون الضمير لا يأتي لأنها في معنى ( كتابي ) ، ومعنى استكبارهم بالقرآن : تكذيبهم به استكبارا ، ضمن * (مستكبرين) * معنى ( مكذبين ) فعدي تعديته ، أو : استكبروا بسببه فلم يقبلوه ، وعلى هذا فالوقف يكون على * (به) * ، ويجوز أن يتعلق الباء ب‍ * (سامرا) * أي : يستمرون بالطعن في القرآن وتسميته سحرا و (2) شعرا ، وبسب النبي (صلى الله عليه وآله) ، والسامر : القوم الذين (3) يسمرون ليلا ، ويجوز أن يتعلق ب‍ * (تهجرون) * أيضا ، أي : تهذون بذلك ، وعلى هذين الوجهين يجوز الوقف على * (مستكبرين) * ، وقرئ : ( تهجرون ) بضم التاء (4) ، من أهجر الرجل في منطقه أي : أفحش ، والهجر بالضم : الفحش ، و * (تهجرون) * بالفتح يجوز أن يكون معناه : تهجرون آياتي وكتابي ، لا تنقادون له وتكذبون به ، من الهجر بالفتح .
  * (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنْ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ * وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)

-------------------
(1) في نسخة زيادة : ( به ) .
(2) في نسختين : ( أو ) بدل ( و ) .
(3) ليس في نسخة كلمة ( الذين ) .
(4) قرأه نافع ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 560 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _591 _
  * (القول) * القرآن ، يقول : * (أفلم) * يتدبروا القرآن ليعرفوا أنه الحق الدال على صدق نبينا ، بل أجاءهم * (ما لم يأت ءاباءهم) * فلذلك استبدعوه (1) وأنكروه ، كما قال : * (لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم) * (2) ، أو : ليخافوا عند تدبر آياته مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين * (أم جاءهم) * من الأمن (3) * (ما لم يأت ءاباءهم) * حيث خافوا الله فآمنوا به وأطاعوه ، وآباؤهم : إسماعيل وأعقابه .
  وعن النبي (صلى الله عليه وآله) : ( لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين ، ولا تسبوا حارث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم بن مرة فإنهم كانوا على الإسلام ، وما شككتم منه من شئ فلا تشكوا في أن تبعا كان مسلما ) (4) .
  * (أم لم يعرفوا) * محمدا وشرفه في نسبه وصدق لسانه وأمانته ، وأنه كما قال أبو طالب في خطبته لنكاح خديجة : لا يوزن برجل إلا رجح .
  * (أم يقولون به جنة) * أي : جنون وهم يعلمون أنه برئ منها ، وأنه أرجح الناس عقلا ، وأجلهم قدرا ، وأتقنهم (5) رأيا ، ولكنه جاءهم بما خالف هواءهم ، ولم يوافق ما ألفوه ونشأوا عليه ، ولم يمكنهم دفعه (6) ، لأنه الحق المبين ، فقولوا على البهت من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر .
  ثم عظم سبحانه شأن الحق بأن السماوات والأرض ومن فيهن لم يقم إلا به

-------------------
(1) في نسخة : ( استبعدوه ) .
(2) يس : 6 .
(3) في نسختين : ( الأمر ) .
(4) فتح الباري لابن حجر : ج 7 ص 146 .
(5) في نسخة : ( وأوثقهم ) .
(6) في نسختين : ( رفعه ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _592_
  * (ولو اتبع ... أهواءهم) * لانقلب باطلا ، ولذهب ما يقوم به العالم ، ويجوز أن يكون المراد بالحق الإسلام ، أي : ولو اتبع أهواءهم وانقلب شركا لأهلك الله العالم ، ولجاء بالقيامة ولم يؤخره ، وعن قتادة : الحق هو الله تعالى (1) ، أي : لو اتبع الله أهواءهم وأمر بالشرك لما كان إلها * (أتينهم بذكرهم) * أي : بالكتاب الذي هو ذكرهم ، أي : شرفهم وصيتهم وفخرهم ، أو : بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون : * (لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين) * (2) .
  وأصل الخرج والخراج واحد ، وهو ما تخرجه إلى الإمام و (3) والعامل من أجرة أرضك ، والخرج أخص من الخراج ، يعني : لم * (تسألهم) * على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق ، فالكثير (4) من عطاء الخالق خير .
  ألزمهم سبحانه الحجة في هذه الآيات بأن الذي أرسله إليهم رجل معروف أمره ، مخبور علانيته وسره ، صالح لان يصطفي للرسالة ، جدير به ، لأنه لم يعهد منه إلا الصدق ووفور العقل والشهامة والأمانة حتى يدعي النبوة بباطل ، ولم يجعل ذلك ذريعة إلى استعطاف أموالهم ، ولم يدعهم إلا إلى الصراط السوي الذي هو دين الإسلام ، هذا مع إبراز المكنون من أدوائهم ، وهو إخلالهم بالتدبر ، وشغفهم بتقليد آباء الضلال من غير برهان ، وتعللهم بأنه مجنون بعد ثبات تصديقه من الله بالمعجزات والدلالات ، وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر والشرف * (لنكبون) * أي : عادلون عن هذا الصراط المذكور .
  ولما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة من أهل مكة ،

-------------------
(1) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 196 .
(2) الصافات : 168 و 169 .
(3) في نسخة : ( أو ) بدل ( و ) .
(4) في نسخة : ( فالكبير ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 593 _
  وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز ـ وهو دم القراد مع الصوف ـ جاء أبو سفيان بن حرب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له : أنشدك بالله والرحم ، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين ؟ فقال : ( بلى ) ، قال : قتلت الآباء بالسيف ، والأبناء بالجوع .
  والمعنى : لو كشف الله تعالى عنهم هذا الضر وهو الهزال والقحط الذي أصابهم برحمته عليهم ووجدوا الخصب لرجعوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار ، ولتمادوا في غوايتهم يترددون .
  واستشهد على ذلك بأنا أخذناهم بالسيوف ، وبما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم ، فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرع ، حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو آلم (1) العذاب وأشد من الأسر والقتل ، فأبلسوا الساعة وخضعت رقابهم ، وجاء أعتاهم في العناد والاستكبار يستعطفك ، أو : محناهم بكل محنة من الجوع والقتل فما رئي منهم لين قياد وهم كذلك حتى إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ ( يبلسون ) ، كقوله : * (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) * (2) ، والإبلاس : اليأس من كل خير ، وقيل : هو السكوت مع التحير (3) ، واستكان : (4) استفعل من الكون ، أي : انتقل من كون إلى كون ، كاستحال : إذا انتقل من حال إلى حال ، أو : هو افتعل من السكون أشبعت فتحة عينه ، كما قيل : ... بمنتزاح (5) .

-------------------
(1) في نسخة : ( أطم ) .
(2) الروم : 12 .
(3) في نسختين : ( التحسير ) ، وهو قول العجاج على ما في تفسير الماوردي : ج 4 ص 302 .
(4) في نسخة زيادة : ( هو ) .
(5) من قول ابراهيم بن هرمة يرثي ابنه : فأنت من الفوائل حين ترمى * وعن ذم الرجال بمنتزاح انظر الخصائص لابن جني : ج 2 ص 316 وج 3 ص 121 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 594_
   (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) * إنما خص * (السمع والأبصر والأفئدة) * لأنه يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها ، وإحدى منافعها أن يستعملوها في آيات الله تعالى وأفعاله ، فيستدلوا بذلك على توحيده ، ويشكروا نعمه ، فإن مقدمة الشكر للنعمة الإقرار بالمنعم بها (1) ، وأن لا يجعل معه شريك ، أي : * (تشكرون) * شكرا قليلا ، و ( ما ) مزيدة للتأكيد .
  ومعنى * (ذرأكم) * : خلقكم وبثكم بالتناسل * (وإليه) * تجمعون بعد تفرقكم .
  * (وله اختلف اليل والنهار) * أي : هو المختص به ، وهو يتولاه ولا يقدر على تصريفهما غيره ، وقرئ : ( أفلا يعقلون ) بالياء (2) .
  * (بل قالوا) * أي : قال أهل مكة كما * (قال الأولون) * المنكرون للحشر .

-------------------
(1) في نسخة : ( لهم ) .
(2) قرأه أبو عمرو ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 100 .(*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 595 _
  والأساطير : جمع أسطورة ، وهي ما كتبه الأولون وسطروه مما لا حقيقة له .
  ثم احتج عليهم بما فيه تجهيل لهم ، والمراد : أجيبوني عما استعملتكم فيه (1) : إن كان عندكم فيه علم * (أفلا) * تتذكرون فتعلموا أن من فطر الأرض ومن فيها من العقلاء وغيرهم كان قادرا على الإعادة إذ ليس ذلك بأعظم منه ، وكان حقيقا بأن لا يشرك به في الإلهية بعض مخلوقاته .
  قرئ الأول * (لله) * باللام ، وفي الآيتين بعده باللام وغير اللام (2) ، لأن قولك : ( من ربه ) و ( لمن هو ) في معنى واحد * (أفلا تتقون) * أي : أفلا تخافونه ؟ فلا تشركوا به .
  يقال : أجار الرجل فلانا على فلان أي : أغاثه منه ومنعه ، أي : من يجير من يشاء على من يشاء ولا يجير عليه أحد من أراده بسوء .
  * (فأنى تسحرون) * أي : فكيف تخدعون عن توحيده ويموه عليكم ؟ ! كما قال امرؤ القيس : أرانا موضعين لحتم غيب * ونسحر بالطعام وبالشراب (3) أي : نخدع ، والخادع هو الشيطان ، أو الهوى .
  * (بل) * جئناهم * (بالحق) * بأن الشرك باطل ، ونسبة الولد إليه محال * (وإنهم لكذبون) * بادعائهم الشرك ونسبتهم إليه الولد .
  * (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ * ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ * حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)

-------------------
(1) في نسختين : ( استعلمتكم منه ) .
(2) وممن قرأ الاخريتين بغير اللام : أبو عمرو ويعقوب ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 560 .
(3) انظر ديوان امرئ القيس : ص 72 وفيه ( لأمر ) بدل ( لحتم ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _596_
  * (إذا) * تكون جزاء وجوابا لكلام مقدم ، وها هنا شرط محذوف ، والتقدير : ولو * (كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق) * أي : لا نفرد كل واحد من الآلهة بما خلقه من الخلق واستبد به ، ولرأيتم ملك كل واحد من الآلهة متميزا من ملك الآخرين ، ولغلب بعضهم بعضا ، كما أن ملوك الدنيا يتغالبون ويطلب بعضهم قهر بعض ، وممالكهم متمايزة ، فحين لم تروا أثرا لتمايز الممالك والتغالب فاعلموا أنه إله واحد منزه * (عما يصفون) * من الأولاد والأنداد .
  قرئ : * (علم الغيب) * بالجر صفة ل‍ ( لله ) ، وبالرفع (1) خبر مبتدأ محذوف .
  والنون و ( ما ) مؤكدتان ، ( لأن ) أي : إن كان لابد أن * (ترينى) * ما وعدوه من العذاب في الدنيا أو في الآخرة فلا تجعلني فيهم ، وأخرجني من بينهم إذا أردت إحلال العذاب بهم .
  وعن الحسن : أخبره الله تعالى أن له في أمته نقمة ، ولم يخبره أفي حياته هي أم بعد وفاته ، فأمره أن يدعو بهذا الدعاء (2) .
  وعن ابن عباس رضي الله عنه ، وجابر بن عبد الله: أنه (صلى الله عليه وآله) قال في حجة الوداع وهو بمنى : ( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ، وأيم الله

-------------------
(1) قرأه نافع وأبو بكر وحمزة والكسائي ، راجع كتاب العنوان في القراءات : ص 137 .
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 201 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 621_
  لئن فعلتموها لتعرفني في كتيبة يضاربونكم ) ، فغمز من خلفه منكبه الأيسر ، فالتفت فقال : ( أو علي ) ، فنزلت الآيات (1) .
  وقوله : * (رب) * مرتين قبل الشرط وقبل الجزاء ، حث على فضل تضرع وجوار * (وإنا ... لقدرون) * على إنجاز ما نعدهم ، ولكن ننظرهم ونمهلهم .
  * (ادفع) * السيئة بالحسنى ، وهو الصفح عنها ومقابلتها بالإحسان * (نحن أعلم بما) * يذكرونه من أحوالك بخلاف صفتها أو (2) بوصفهم وسوء ذكرهم ، وأقدر على جزائهم .
  * (أعوذ بك) * أي : أعتصم بك * (من) * نزغات * (الشيطين) * والهمز : النخس ، ومنه : مهماز الرائض ، والشياطين يحثون الناس على المعاصي كما تهمز الراضة الدواب يحثونها على المشي ، ونحوه : * (تؤزهم أزا) * (3) ، فأمر عز اسمه بالتعوذ من نخساتهم بلفظ المتضرع إلى ربه المكرر لندائه ، وبالتعوذ من أن يحضروه أصلا ويشهدوه ، وعن ابن عباس : عند تلاوة القرآن (4) ، وعن عكرمة : عند النزع (5) ، والأظهر أنه في الأحوال كلها حتى يتعلق ب‍ * (يصفون) * أي : لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت .
  * (ارجعون) * خطاب لله تعالى بلفظ الجمع للتعظيم ، إذا أيقن بالموت تحسر على ما فرط فيه فسأل ربه الرجعة وقال : * (لعلي أعمل صلحا) * في الذي * (تركت‍) * ـ ه من المال ، وفيما ضيعته من الطاعات ، وقيل : هو في الزكاة (6) .

-------------------
(1) شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني : ج 1 ص 404 .
(2) في نسخة : ( أي ) بدل ( أو ) .
(3) مريم : 83 .
(4) حكاه عنه أبو السعود في تفسيره : ج 6 ص 150 .
(5) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 202 .
(6) وهو قول الصادق (عليه السلام) ، رواه عنه الكليني في الكافي : ج 3 ص 503 ح 3 ، والصدوق في ثواب الأعمال : ص 280 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _598_
  وسئل الرضا (عليه السلام) : أيعرف القديم سبحانه الشئ الذي لم يكن أنه لو كان كيف كان يكون ؟ فقال : ( أما قرأت قوله عز اسمه : * (لو كان فيهما ءالهة إلا الله لفسدتا) * وفي موضع آخر : * (ولعلا بعضهم على بعض) * فقد عرف الشئ الذي لم يكن ولا يكون أن لو كان كيف كان يكون ، وقوله سبحانه [ حين ] حكى قول الأشقياء : * (رب ارجعون لعلى أعمل صلحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها) * قال : * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكذبون) * فقد علم الشئ الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون ) (1) .
  و * (كلا) * معناه : ردع عن طلب الرجعة ، وإنكار واستبعاد * (إنها كلمة هو قائلها) * بلسانه لا حقيقة لها ، أو : هو قائلها وحده لا تسمع منه * (ومن ورائهم برزخ) * والضمير للجماعة ، أي : أمامهم حائل وحاجز بينهم وبين الرجعة إلى يوم البعث من القبور .
  * (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) *

-------------------
(1) رواه العياشي في تفسيره على ما حكاه في المجمع : ج 7 ص 117 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _599_
  * (فلا أنساب بينهم) * أي : لا يتواصلون بالأنساب ولا يتعاطفون بها مع معرفة بعضهم بعضا ، أو : يتفرقون معاقبين ومثابين .
  وعن النبي (صلى الله عليه وآله) : ( كل حسب ونسب منقطع يوم القيامة إلا حسبي ونسبي ) (1) .
  * (ولا يتساءلون) * أي : لا يسأل بعضهم بعضا عن حاله وخبره ، لشغل كل واحد منهم بنفسه ، وأما قوله : * (يتعارفون بينهم) * (2) ، * (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * (3) فقد سئل عنه ابن عباس فقال : هذه تارات يوم القيامة (4) ، يعني : أن للقيامة أحوالا مختلفة يتساءلون ويتعارفون في بعضها ، ويشغلهم عظم الهول عن المسألة في بعضها .
  والموازين : جمع موزون ، وهي الموزونات من الأعمال التي لها قدر ووزن عند الله، وقوله : * (في جهنم خلدون) * بدل من * (خسروا أنفسهم) * ، أو يكون خبرا ل‍ * (أولئك) * بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف .
  * (تلفح) * أي : يصيب وجوههم لفح النار ، وعن الزجاج : اللفح والنفح واحد ، إلا أن اللفح أشد تأثيرا (5) .
  و (الكلوح ) أن تتقلص الشفتان عن الأسنان .
  * (غلبت علينا) * أي : ملكتنا ، من قولهم : غلبني فلان على كذا إذا أخذه منه ، وقرئ : * (شقوتنا) * و ( شقاوتنا ) (6) ومعناهما واحد ، وهو سوء العاقبة الذي استحقوه لسوء أعمالهم .
  * (اخسوا فيها) * أي : ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا زجرت ، يقال : خسئ الكلب فخسأ ، لازم ومتعد * (ولا تكلمون‍) * ـ ي

-------------------
(1) أخرجه ابن سعد في طبقاته : ج 8 ص 340 .
(2) يونس : 45 .
(3) الصافات : 27 .
(4) حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 318 .
(5) معاني القرآن : ج 4 ص 23 .
(6) قرأه حمزة والكسائي ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 561 .

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 600 _
  في رفع العذاب فإنه لا يرفع .
  * (سخريا) * قرئ بضم السين (1) وكسرها ، وهو مصدر سخر كالسخر ، إلا أن في الياء زيادة قوة في الفعل ، وقيل : إن المكسور من الهزء ، والمضموم من السخرة والعبودية (2) ، أي : سخرتموهم واستعبدتموهم * (حتى أنسوكم) * بتشاغلكم بهم عن تلك الصفة * (ذكرى) * فتركتموه ، أي : تركتم أن تذكروني فتخافوني في أوليائي .
  * (إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ * قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) قرئ : * (أنهم) * بفتح الهمزة وكسرها (3) ، فالفتح على أنه مفعول * (جزيتهم) * ، والكسر استئناف ، أي : قد فازوا حيث صبروا فجزوا أحسن الجزاء بصبرهم .
  والضمير في * (قال) * لله تعالى ، أو للسائل عن لبثهم ، وقرئ : ( قل ) في الموضعين (4) على معنى : قل أيها السائل عن لبثهم ، استقصروا مدة لبثهم في الدنيا بالإضافة إلى خلودهم في النار ، أو : لم يشعروا بطول لبثهم في القبور لكونهم

-------------------
(1) قرأه نافع وحمزة والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 448 .
(2) قاله الفراء والكسائي ، انظر الكشاف : ج 3 ص 205 .
(3) وممن قرأها بالكسر : حمزة والكسائي ، راجع التذكرة في القراءات : ج 2 ص 561 .
(4) قرأها حمزة والكسائي بصيغة الأمر في الم