أو لا يهتدي إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه ؟ ! *
(فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) * بالباطل ؟ ! * (وما يتبع أكثرهم) * في إقرارهم بالله * (إلا ظنا) * لأنه قول لا يسند إلى دليل * (إن الظن) * في معرفة الله * (لا يغنى من الحق) * وهو العلم * (شيا إن الله عليم بما يفعلون) * وعيد .
*
(وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) * أي : * (وما كان هذا القرءان) * افتراء * (من دون الله ولكن)
* كان * (تصديق الذي بين يديه) * وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة ، لأنه معجز دونها ، وهو عيار عليها وشاهد بصحتها ، ومعنى * (وما كان ... أن يفترى) * : وما صح وما استقام وكان محالا أن يكون مثله في إعجازه وعلو شأنه مفترى * (وتفصيل الكتب) * وتبيين ما شرع وفرض من الأحكام من قوله : * (كتب الله عليكم) *
(1) ، * (ولكن) * كان القرآن تصديقا للكتب السماوية وتفصيلا للأحكام الشرعية ، منتفيا عنه الريب كائنا * (مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) * .
* (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ) * بل أيقولون : اختلقه ؟ ! والهمزة : إما تقرير لإلزام الحجة عليهم ، أو استبعاد لقولهم وإنكار ، والمعنيان متقاربان * (قل) * إن افتريته كما
-------------------
(1) النساء : 24 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 128 _
زعمتم * (فأتوا) * أنتم * (بسورة) * مفتراة * (مثله) * في البلاغة وحسن النظم ، كما أنتم مثلي في العربية والفصاحة * (وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ ) * للاستعانة به على الإتيان بمثله * (من دون الله) * يعني أن الله وحده هو القادر على أن يأتي بمثله ، لا يقدر على ذلك أحد غيره ، فاستعينوا بكل من دونه على ذلك * (إن كنتم صدقين) * أنه افتراه .
* ( بَلْ كَذَّبُوا ) * بالقرآن قبل أن يعلموا كنه أمره ، ويقفوا على * (تأويله) * ومعانيه ، لنفورهم عما يخالف ما ألفوه من دين آبائهم ، وقيل : * (ولما يأتهم تأويله) * أي : ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب ـ أي عاقبته ـ حتى تبين لهم أهو كذب أم صدق (1) ، يعني : أنه كتاب معجز من جهتين : إعجاز نظمه ، وما فيه من الإخبار بالغائبات ، فسارعوا إلى التكذيب قبل أن ينظروا في بلوغه حد الإعجاز ، وقبل أن يختبروا إخباره بالمغيبات .
* (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ) * في نفسه ويعلم أنه حق ، ولكنه يعاند * (ومنهم من لا) * يصدق * (به) * ، أو : ومنهم من سيؤمن به في المستقبل ، ومنهم من يصر على الكفر * (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ) * بالمعاندين ، أو المصرين .
* (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ * إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) * * (وإن) * يئست من إجابتهم وأصروا على تكذيبك فتبرأ منهم وخلهم ، فقد
-------------------
(1) حكاه الشيخ في التبيان : ج 5 ص 380 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 129 _
أعذرت إليهم ، ومثله : * (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) * (1) ، * (قل يأيها الكفرون) * إلى آخر السورة (2) ، وقيل : هي منسوخة بآية القتال (3) .
* (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) * أي : ناس يستمعون إذا قرأت القرآن وعلمت الأحكام ولكنهم لا يقبلون ولا يعون ، وناس ينظرون إليك ويعاينون دلالاتك وأعلام نبوتك ولكنهم لا يصدقون ، ثم قال : أتقدر على إسماع * (الصم) * ولو انضم إلى صممهم عدم العقل ؟ ! لأن الأصم
العاقل ربما استدل وعلم ، و : أتطمع أن تقدر على هداية * (العمى) * ولو انضم إلى فقد
البصر فقد البصيرة ؟ ! يعني : أنهم في اليأس من قبولهم وتصديقهم كالصم والعمي الذين
لا عقول لهم ولا بصائر .
* (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ) * لا ينقصهم شيئا مما يتصل بمصالحهم ، أو لا يظلمهم في تعذيبهم يوم القيامة ، بل العذاب لاحق بهم على سبيل العدل والاستحقاق .
* (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ * وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) * يستقربون أيام لبثهم في الدنيا لقلة انتفاعهم بها ، وقيل : في القبور لهول ما يرون (4) * (يتعارفون بينهم) * يعرف بعضهم
بعضا كأنهم لم يتفارقوا (5) إلا قليلا ، وذلك عند خروجهم من القبور ، ثم ينقطع التعارف بينهم لشدة الأمر عليهم ، قوله : * (كأن لم يلبثوا) * حال من ( هم ) أي : نحشرهم مشابهة أحوالهم أحوال من لم
-------------------
(1) الشعراء : 216 .
(2) سورة ( الكافرون ) .
(3) قاله ابن زيد والكلبي ومقاتل ، راجع التبيان : ج 5 ص 381 ، وتفسير البغوي : ج 2 ص 355 .
(4) قاله ابن عباس ، راجع تفسيره : ص 174 ، وتفسير البغوي : ج 2 ص 355 ، واختاره الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 22 .
(5) في بعض النسخ : يتعارفوا . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 130 _
يلبث * (إلا ساعة) * ، و * (يتعارفون) * جملة مبينة لقوله : * (كأن لم يلبثوا إلا ساعة) * ، لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد ويصير تناكرا ، أو يتعلق بالظرف * (قد خسر) * على إرادة القول ، أي : يتعارفون بينهم قائلين ذلك ، أو هو شهادة من الله على خسرانهم ، والمعنى : قد خسروا في تجارتهم وبيعهم الإيمان بالكفر * (وما كانوا مهتدين) * للتجارة عارفين بها ، وهو استئناف فيه معنى التعجب ، كأنه قال : ما أخسرهم ! * (فإلينا مرجعهم) * جواب * (نتوفينك) * ، وجواب * (نرينك) * محذوف كأنه قال : وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك ، أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في
الآخرة * (ثم الله شهيد) * ذكر الشهادة والمراد مقتضى الشهادة وهو العقاب ، فكأنه
قال : ثم الله معاقب * (على ما يفعلون) * .
* (ولكل أمة رسول) * يبعث إليهم * (فإذا جاء رسولهم) * بالمعجزات فكذبوه * (قضى بينهم) * أي : بين النبي ومن كذبه * (بالقسط) * بالعدل ، فأنجي الرسول وعذب المكذبون ، وقيل : * (ولكل أمة) * يوم القيامة * (رسول) * تنسب إليه * (فإذا جاء رسولهم) * الموقف فيشهد عليهم بالكفر والإيمان * (قضى بينهم) * (1) .
* (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ أَالآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) *
-------------------
(1) قاله مجاهد ومقاتل ، راجع التبيان : ج 5 ص 387 ، وتفسير البغوي : ج 2 ص 356 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 131 _