للمفسر الكبير والمحقق التحريري
الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي قدس سرة من أعلام القرن السادس الهجري
الجزء الثاني
سورة الأنفال مدنية(1)
وهي ست وسبعون آية بصري ، خمس كوفي ، * (ثم يغلبون) * (2) و * (مفعولا) * (3) الأول بصري ، * (بنصره وبالمؤمنين) * (4) كوفي .
في خبر أبي : ( ومن قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له وشاهد له يوم القيامة أنه برئ من النفاق ، وأعطي من الأجر بعدد كل منافق ومنافقة في دار الدنيا عشر حسنات ، ومحي عنه عشر سيئات ، ورفع له عشر درجات ، وكان العرش وحملته يصلون عليه أيام حياته في دار الدنيا ) (5) .
قال الصادق (عليه السلام) : ( من قرأهما في كل شهر لم يدخله نفاق أبدا ، وكان من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) حقا ، ويأكل يوم القيامة من موائد الجنة معهم حتى يفرغ الناس من الحساب ) (6) .
-------------------
(1) قال الشيخ في التبيان : ج 5 ص 71 : هذه السورة مدنية في قول قتادة وابن عباس
ومجاهد وعثمان وقال : هي أول ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله) بالمدينة ، وحكي
عن ابن عباس : أنها مدنية إلا سبع آيات : أولها * (وإذ يمكر بك الذين كفروا) * الى
آخر سبع آيات بعدها ، وهي خمس وسبعون آية في الكوفي ، وسبع وسبعون آية في الشامي ، وست وسبعون في المدنيين والبصري ، وفي الكشاف : ج 2 ص 193 : انها نزلت بعد البقرة .
(2) الآية : 36 .
(3) الآية : 42 .
(4) الآية : 62 .
(5) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 240 مرسلا .
(6) ثواب الأعمال : ص 132 الى قوله : ( أمير المؤمنين (عليه السلام) ) ، تفسير
العياشي : ج 2 ص 46 ح 1 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 4 _
بسم الله الرحمن الرحيم
(يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ) * قرأ ابن مسعود وعلي بن الحسين زين العابدين والباقر والصادق (عليهم السلام) : ( يسئلونك الانفال ) (1) ، وهذه القراءة مؤدية للسبب في القراءة الأخرى التي هي * (عن الانفال) * وذلك أنهم إنما سألوه عنها استعلاما لحالها ، هل يسوغ طلبها ؟ وفي القراءة (2) بالنصب تصريح
بطلبها ، وبيان عن الغرض في السؤال عنها .
والنفل : الزيادة على الشئ ، قال لبيد : إن تقوى ربنا خير نفل (3) قال الصادق (عليه السلام) : الانفال كل ما أخذ من دار الحرب بغير قتال ، وكل أرض انجلى أهلها عنها بغير قتال أيضا ـ وسماها الفقهاء فيئا ـ والارضون الموات والاجام وبطون الأودية وقطائع الملوك وميراث من لا وارث له ، وهي لله والرسول ولمن قام مقامه بعده (4) * (فاتقوا الله) * باتقاء مخالفة مايأمركم هو ورسوله به * (وأصلحوا ذات بينكم) * حقيقة أحوال بينكم ، والمعنى : أصلحوا ما بينكم من
الأحوال حتى تكون أحوال ألفة واتفاق ومودة ، ونحوه : ( ذات الصدور ) وهي مضمراتها .
-------------------
(1) ذكرها الشيخ الطوسي في التبيان : ج 5 ص 72 ، وابن خالويه في الشواذ : ص 54 .
(2) في نسخة بزيادة : الاخرى .
(3) وعجزه : وبإذن الله ريثي وعجل ، والمعنى : ان تقوى الله خير عطية ، وأن بطئي وسرعتي في الامور كلها فبإذن الله، انظر ديوان لبيد : ص 139 .
(4) التبيان : ج 5 ص 72 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 5 _
* (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) * أي : * (إنما) * الكاملون في الايمان * (الذين) * من صفتهم أنهم * (إذا ذكر الله) * عندهم واقتداره وأليم عقابه على المعاصي * (وجلت قلوبهم) * أي : خافت * (وإذا تليت عليهم ءايته زادتهم إيمنا) * أي : ازدادوا بها يقينا وطمأنينة نفس وتصديقا إلى تصديقهم بما أنزل قبل ذلك من القرآن * (وعلى ربهم يتوكلون) * وإليه يفوضون أمورهم فيما يخافون ويرجون ، وخص الصلاة والزكاة بالذكر لعظم شأنهما وتأكد الامر فيهما .
* (أولئك) * المستجمعون لهذه الخصال * (هم) * الذين استحقوا إطلاق اسم الايمان على الحقيقة ، و * (حقا) * صفة لمصدر محذوف ، أي : إيمانا حقا ، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي * (أولئك هم المؤمنون) * كما تقول : هو عبد الله حقا ، أي : حق ذلك حقا * (درجت) * شرف وكرامة وعلو رتبة * (ومغفرة) * وتجاوز لسيئاتهم * (ورزق كريم) * نعيم الجنة ، أي : منافع دائمة ، على سبيل التعظيم ، وهذا معنى الثواب .
* (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) *
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 6 _
الكاف في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذه الحال كحال إخراجك ، والمعنى : أن حالهم في كراهة ماحكم الله في الانفال مثل حالهم في كراهة خروجك من بيتك للحرب .
ويجوز أن يكون في محل النصب على أنه صفة لمصدر الفعل المقدر في قولك : ( الانفال لله والرسول ) ، أي : الانفال استقرت لله والرسول ، وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك مع كراهتهم ، فعلى هذا لا يكون الوقف من قوله : * (قل الانفال) * إلى قوله : * (بالحق) * ، وعلى الاول جاز الوقف على قوله : * (والرسول) * وقوله : * (مؤمنين) * ، و * (من بيتك) * يريد بيته بالمدينة ، أو المدينة نفسها ، لأنها مهاجره ومسكنه * (بالحق) * أي : إخراجا متلبسا بالحكمة والصواب الذي لامحيد عنه ، وهو الجهاد * (وإن فريقا من المؤمنين لكرهون) * في موضع الحال ، أي : أخرجك في حال كراهتهم . *
(يجدلونك في الحق) * فيما دعوتهم إليه ، وهو تلقي النفير ، وهو جيش قريش لإيثارهم عليه تلقي العير * (بعد ما تبين) * بعد إعلام رسول الله بأنهم ينصرون ، وجدالهم أنهم قالوا : ما خرجنا إلا للعير ، وذلك : أن عير قريش أقبلت من الشام معها أربعون راكبا منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص ، فأخبر جبرئيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبر المسلمين ، فأعجبهم تلقي العير ، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم ، فنادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة النجا النجا (1) على كل صعب وذلول ، عيركم ، أموالكم ، إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبدا ، وخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير ، وفي المثل السائر : ( لافي العير ولا في النفير ) (2) ، فقيل له :
-------------------
(1) أي : أسرع أسرع ، وأصلها النجائك النجائك ، فيقصران ، (القاموس المحيط : نجا) .
(2) قال المفضل: أول من قال ذلك أبو سفيان بن حرب بعدما أقبل بعير قريش وعلم بتحين
المسلمين انصرافه الى مكة فيقطعوا عليه ، فخاف خوفا شديدا وضرب وجوه عيره فساحل بها
وترك بدرا يسارا ، وقد كان بعث إلى قريش يخبرهم بما يخافه ويأمرهم بالرجوع ، = (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 7 _
إن العير أخذت طريق الساحل ونجت ، فارجع بالناس إلى مكة ، فقال : لا والله حتى ننحر الجزر ونشرب الخمر ببدر ، فتتسامع العرب بأن محمدا (صلى الله عليه وآله) لم يصب العير ، وأنا أغضضناه ، فمضى بهم إلى بدر .
وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة ، ونزل جبرئيل فقال : يا محمد (صلى الله عليه وآله) إن الله وعدكم * (إحدى الطائفتين) * : إما العير وإما قريشا ، فاستشار النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه وقال : ما تقولون ؟ إن القوم قد خرجوا من مكة فالعير أحب إليكم أم النفير ؟ قالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدو ، فتغير وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقالوا : يارسول الله عليك بالعير ودع العدو ، فقام رجال من أصحابه وقالوا ، ثم قام المقداد بن عمرو وقال : والله لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضى (1) وشوك الهراس (2) لخضنا (3) معك ، ولا
نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى : * (فاذهب أنت وربك فقتلا إنا ههنا قعدون) * (4) ولكنا نقول : امض لما أمرك ربك فإنا معك مقاتلون مادامت منا عين تطرف ، وقام سعد بن معاذ وقال : يارسول الله (صلى الله عليه وآله) امض لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله ، وقال : سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإن الله وعدني * (إحدى الطائفتين) * والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم (5) .
-------------------
= فأقبلت قريش ، ورجعت بنو زهرة فصادفهم أبو سفيان فقال : يا بني زهرة لا في العير
ولا في النفير ، راجع مجمع الأمثال للميداني : ج 2 ص 172 .
(1) الغضى : شجر ذو شوك ، (مجمع البحرين : مادة غضا) .
(2) الهراس : شجر شائك ثمره كالنبق ، (القاموس المحيط : هرس) .
(3) في بعض النسخ : لخضناه .
(4) المائدة : 24 .
(5) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 197 ـ 198 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 8 _
وقوله : * (كأنما يساقون إلى الموت) * تشبيه حالهم بحال من يعتل إلى القتل وهو ناظر إلى أسباب الموت لا يشك فيه .
* (وإذ) * منصوب بإضمار ( اذكروا ) ، * (أنها لكم) * بدل من * (إحدى الطائفتين) * ، و * (غير ذات الشوكة) * : العير ، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا ، والشوكة : الحدة ، مستعارة من حدة الشوك ، أي : تتمنون أن يكون العير لكم ، ولاتريدون الطائفة الأخرى التي هي ذات الشوكة (1) والحدة * (ويريد الله أن يحق الحق) * أي : يثبته ، بأن يعز الإسلام ويعلي كلمته ويهلك وجوه قريش على أيديكم *
(بكلمته) * بآياته المنزلة في محاربتهم * (ويقطع دابر الكفرين) * باستئصالهم وقتلهم
وأسرهم وطرحهم في قليب بدر ، والدابر : الآخر ، من دبر : إذا أدبر ، والمعنى : أنكم
تريدون الفائدة العاجلة والله يريد ما يرجع إلى علو أمور الدين ونصرة الحق ، ولذلك
اختارلكم الطائفة الأخرى ذات الشوكة ، وغلب كثرتهم بقلتكم ، وأذلهم وأعزكم ، وقوله : * (ليحق الحق) * تعلق بمحذوف ، تقديره : ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك .
* (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ)
-------------------
(1) في نسخة : الشدة . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 9 _
* * (إذ تستغيثون ربكم) * بدل من * (إذ يعدكم الله) * ، وقيل : إنه
يتعلق بقوله : * (ليحق الحق ويبطل ا لبطل) * (1) ، واستغاثتهم : أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف ، استقبل القبلة ومد يديه يدعو : اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة (2) لاتعبد في الأرض، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه من منكبه (3)(4) ، * (فاستجاب لكم) * فأغاثكم وأجاب دعوتكم * (أني ممدكم) * أصله : بأني ممدكم ، فحذف الجار ، وقرئ : * (مردفين) * بكسر الدال وفتحها (5) ، من قولك : ردفه : إذا تبعه ، وأردفته إياه : إذا أتبعته ، ويقال : أردفته وأتبعته : إذا جئت بعده ، فعلى الأول يكون معنى * (مردفين) * بكسر الدال : متبعين بعضهم بعضا ، أو متبعين أنفسهم المؤمنين ، وعلى الثاني يكون معناه : متبعين بعضهم لبعض ، أو متبعين للمؤمنين يحفظونهم ، ومن قرأ بفتح الدال فمعناه : متبعين أو متبعين .
* (وما جعله الله) * أي : وما جعل الله إمدادكم بالملائكة * (إلا بشرى) * أي : بشارة لكم بالنصر كالسكينة لبني إسرائيل ، والمعنى : أنكم استغثتم ربكم وتضرعتم ، فكان الإمداد بالملائكة بشارة لكم بالنصر ، وتسكينا منكم ، وربطا على قلوبكم * (وما النصر إلا من عند الله) * أي : وما النصر بالملائكة وغيرهم من
-------------------
(1) قاله الطبري في تفسيره : ج 6 ص 188 .
(2) العصابة : الجماعة من الناس والخيل والطير ، (الصحاح : مادة عصب) .
(3) المنكب : مجمع عظم العضد والكتف ، (الصحاح : مادة نكب) .
(4) رواه مسلم في صحيحه : ج 3 ب 18 ص 1384 ح 58 ، وأحمد في مسنده : ج 1 ص 30 و 32 .
(5) وبالفتح هي قراءة نافع ويعقوب ، راجع التبيان : ج 5 ص 82 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 10 _
الأسباب إلا من عند الله، ينصر من يشاء ، قل العدد أم كثر .
* (إذ يغشيكم النعاس) * بدل ثان من * (إذ يعدكم الله) * ، أو (1) منصوب ب * (ـ النصر) * أو ب * (ـ ما جعله الله) * ، وقرئ : * (يغشيكم) * بالتخفيف (2) والتشديد ونصب * (النعاس) * ، والضمير لله عزوجل ، و * (أمنة) * مفعول له ، و * (منه) * صفة ل * (أمنة) * ، أي : أمنة حاصلة لكم
من الله، والمعنى : إذ تنعسون لامنكم الحاصل من الله بإزالة الرعب من قلوبكم *
(وينزل عليكم) * قرئ بالتشديد والتخفيف (3) * (من السماء ماء) * أي : مطرا ، و * (رجز الشيطن) * : وسوسته إليهم ، وذلك أن المشركين قد سبقوهم إلى الماء ، ونزل المسلمون في كثيب أعفر (4) تسوخ فيه الأقدام ، وناموا ، فاحتلم أكثرهم ، فتمثل لهم إبليس وقال : يا أصحاب محمد أنتم تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون على الجنابة وقد عطشتم ، ولو كنتم على حق ماغلبكم هؤلاء على الماء ، وهاهم الآن يمشون إليكم ويقتلونكم ويسوقون بقيتكم إلى مكة ، فحزنوا لذلك ، فأنزل الله المطر فمطروا ليلا حتى جرى الوادي ، واغتسلوا وتوضأوا ، واتخذوا الحياض على عدوة (5) الوادي ، وتلبد (6) الرمل الذي كان بينهم وبين العدو حتى ثبت الأقدام عليه ، وزالت وسوسة الشيطان ، والضمير في * (به) * للماء أو للربط ، لأن الجرأة تثبت القدم في مواطن الحرب .
-------------------
(1) في نسخة : إما .
(2) وهي قراءة نافع ، راجع الكشف عن وجوه القراءات السبع للقيسي : ج 1 ص 489 ، وفي
التبيان : ج 5 ص 85 : هي قراءة أهل المدينة .
(3) وقراءة التخفيف هي قراءة ابن كثير وسهل ويعقوب وأبي عمرو ، راجع تفسير الآلوسي :
ج 9 ص 176 .
(4) الأعفر : الأبيض (الصحاح : مادة عفر) .
(5) العدوة والعدوة : جانب الوادي وحافته ، (الصحاح : مادة عدا) .
(6) تلبد : تداخل ولزق بعضه ببعض ، (القاموس المحيط : مادة لبد) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 11 _
* (إذ يوحى) * يجوز أن يكون بدلا ثالثا من * (إذ يعدكم) * ، وأن ينتصب ب * (يثبت) * ، * (أني معكم) * أعينكم على التثبيت فثبتوهم .
وقوله : * (سألقى) * إلى قوله : * (فاضربوا) * يجوز أن يكون تفسيرا لقوله : * (أني معكم فثبتوا) * ، ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفار ، ولاتثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم ، ويجوز أن يكون غير تفسير ، وأن يراد بالتثبيت أن يظهروا ما تيقن به المؤمنون أنهم أمدوا بهم * (فاضربوا فوق الاعناق) * التي هي المذابح ، وقيل : أراد الرؤوس (1) ، وال * (بنان) * : الأصابع ، يريد به الأطراف ، والمعنى : * (فاضربوا) * المقاتل والأطراف من اليدين والرجلين ، ويجوز أن يكون من قوله : * (سألقى) * إلى قوله : * (كل بنان) * عقيب قوله : * (فثبتوا الذين ءامنوا) * تلقينا للملائكة مايثبتونهم به ، أي : قولوا لهم قولي : * (سألقى) * .
* (ذلك) * إشارة إلى ما وقع بهم من القتل والعقاب العاجل ، أي : ذلك العقاب وقع بهم بسبب مشاقتهم ، والمشاقة مشتقة من الشق لأن كلا من المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه ، والكاف في * (ذلك) * لخطاب الرسول (صلى الله عليه وآله) أو لخطاب كل أحد .
وفي * (ذا لكم) * للكفرة على طريقة الالتفات ، و * (ذلك) * مبتدأ و * (بأنهم) * خبره ، و * (ذا لكم) * في محل الرفع أيضا ، أي : ذلكم العقاب أو العقاب ذلكم * (فذوقوه) * ، ويجوز أن يكون في محل النصب على تقدير : عليكم ذلكم * (فذوقوه) * ، كقولك : زيدا فاضربه * (وأن للكفرين) * عطف على * (ذا لكم) * في الوجهين أو نصب على أن الواو بمعنى ( مع ) ، أي : ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة ، فوضع الظاهر موضع الضمير .
-------------------
(1) قاله عكرمة ، راجع تفسير البغوي : ج 2 ص 230 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 12 _
* (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) * الزحف : الجيش الذي يرى
لكثرته ، كأنه يزحف أي : يدب دبيبا ، من زحف الصبي : إذا دب على استه ، سمي بالمصدر ، والجمع زحوف ، والمعنى : إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلاتفروا ، فضلا عن أن تساووهم في العدد أو تدانوهم ، فيكون * (زحفا) * حالا من * (الذين كفروا) * ، ويجوز أن يكون حالا من الفريقين ، أي : إذا لقيتموهم متزاحفين أنتم وهم ، أو حالا من ( المؤمنين ) ، كأنهم أخبروا بما سيكون منهم يوم حنين (1) حين ولوا مدبرين وهم زحف : اثنا عشر ألفا ، وفي قوله : * (ومن يولهم يومئذ دبره) * أمارة عليه * (إلا متحرفا لقتال) * هو الكر بعد الفر ، يخيل عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه ، وهو نوع من مكائد الحرب * (أو متحيزا) * أي : أو منحازا * (إلى فئة) * إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها ، وانتصابهما على الحال و * (إلا) * لغو ، أو على الاستثناء من ( المولين ) ، أي : ومن يولهم إلا رجلا منهم متحرفا أو متحيزا ، ووزن متحيز متفيعل لامتفعل ، لأنه من حاز يحوز ، فبناء متفعل منه متحوز .
* (فلم تقتلوهم) * الفاء جواب شرط محذوف ، تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فأنتم
-------------------
(1) حنين : موضع بين الطائف ومكة ، حارب فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله)
والمسلمون هوازن وثقيف فهزمهم وغنم ما كانوا ساقوه معهم من النساء والصبيان
والماشية ، انظر تفصيل يوم حنين في تاريخ الطبري : ج 2 ص 344 ـ 362 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 13 _
لم تقتلوهم * (ولكن الله قتلهم) * بأن أنزل الملائكة ، وألقى الرعب في قلوبهم ، وقوى قلوبكم * (وما رميت) * أنت يا محمد (صلى الله عليه وآله) * (إذ رميت) * (1) ، وذلك أن قريشا لما جاءت بخيلائها (2) أتاه جبرئيل فقال : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فقال لعلي (عليه السلام) : أعطني قبضة من حصباء الوادي ، فأعطاه ، فرمى بها في وجوههم ، وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه ، فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم * (ولكن الله رمى) * حيث أثرت الرمية ذلك الأثر العظيم ، أثبت الرمي لرسول الله لأنه وجد منه صورة ، ونفاه عنه معنى لأن أثره الذي لايدخل في قدرة البشر فعل الله عز وعلا ، فكأنه فاعل الرمية على الحقيقة ، وكأنها لم توجد من الرسول أصلا .
وقرئ : ( ولكن الله قتلهم ... ولكن الله رمى ) (3) ، * (وليبلى المؤمنين) * وليعطيهم * (بلاء) * عطاء * (حسنا) * جميلا ، قال زهير : وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو (4) والمعنى : وللإحسان إلى المؤمنين والإنعام عليهم فعل ما فعل ، ولم يفعله إلا لذلك * (إن الله سميع) * لاقوالهم * (عليم) * بأحوالهم .
* (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ * إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)
-------------------
(1) قال الزجاج : ليس هذا نفي رمي النبي (صلى الله عليه وآله) ولكن العرب خوطبت بما
تعقل ، انظر معاني القرآن : ج 2 ص 406 .
(2) الخال والخيلاء والخيلاء : الكبر ، (الصحاح : مادة خيل) .
(3) قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف ، راجع التبيان : ج 5 ص 93 .
(4) وصدره : جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ، وهو من قصيدة يمدح بها سنان بن أبي
حارثة المري شيخ بني مرة من غطفان ، ومعناه واضح ، انظر ديوان زهير : ص 61 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 14 _
* * (ذا لكم) * إشارة إلى البلاء الحسن ، ومحله الرفع ، أي : الغرض ذلكم
* (وأن الله موهن) * عطف على * (ذا لكم) * يعني : أن الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين
كيد الكافرين ، وقرئ : ( موهن ) بالتشديد (1) ، وقرئ على الإضافة (2) ، وعلى الأصل الذي هو التنوين والإعمال (3) .
* (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) * خطاب لأهل مكة على طريق التهكم ، وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين ، وروي : أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أينا كان أهجر وأقطع للرحم فأحنه (4) اليوم (5) ، أي : فأهلكه ، وقيل : * (إن تستفتحوا) * خطاب للمؤمنين و * (إن تنتهوا) * للكافرين (6) ، أي : وإن تنتهوا عن عداوة رسول الله * (فهو خير لكم وإن تعودوا) * لمحاربته * (نعد) * لنصرته عليكم .
وقرئ : * (وأن الله) * بالفتح على : ولان الله مع المؤمنين كان ذلك ، وبالكسر (7)
-------------------
(1) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو ، راجع التبيان : ج 5 ص 94 ، وفي تفسير البغوي ج 2 ص 238 : انها قراءة أهل البصرة .
(2) وهي قراءة حفص عن عاصم ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 433 ، وفي
إعراب القرآن للنحاس : ج 2 ص 182 ، هي قراءة أهل الكوفة .
(3) قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم والحسن وأبو رجاء والأعمش وابن
محيصن ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 305 ، والبحر المحيط لأبي حيان :ج 4 ص 478 .
(4) في بعض النسخ : فأهنه .
(5) رواه ابن كثير في تفسيره : ج 2 ص 284 عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة .
(6) قاله أبو علي الجبائي كما في التبيان : ج 5 ص 96 .
(7) قرأه ابن كثير وعاصم برواية أبي بكر وأبو عمرو وحمزة والكسائي ، راجع كتاب
السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 305 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 15 _
وهو الأوجه ، ويقويه قراءة عبد الله: ( والله مع المؤمنين ) (1) .
وقرئ : * (ولاتولوا) * بحذف التاء وإدغامها في الثاني (2) ، والضمير في * (عنه) * لرسول الله، لأن المعنى : أطيعوا رسول الله، كقوله : * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) * (3) ، ولأن طاعة الله وطاعة الرسول شئ واحد ورجوع الضمير إلى أحدهما رجوع إليهما ، كما تقول : الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان * (وأنتم تسمعون) * دعاءه لكم .
* (ولا تكونوا كالذين) * ادعوا السماع * (وهم لا يسمعون) * لأنهم ليسوا بمصدقين فكأنهم غير سامعين .
* (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) * (إن شر) * من يدب على وجه الأرض، أو : إن شر البهائم ، جعلهم من جنس البهائم ثم جعلهم شرها * (الصم البكم) * أي : الذين هم صم عن الحق لايسمعونه ، بكم لا يقرون به .
* (ولو علم الله) * في هؤلاء الصم البكم * (خيرا) * أي : انتفاعا باللطف * (لاسمعهم) * للطف بهم حتى يسمعوا سماع المصدقين * (ولو أسمعهم لتولوا) * أعرضوا ، وفي هذا دلالة على أنه سبحانه لايمنع أحدا اللطف ، وإنما لا يلطف لمن يعلم أنه لا ينتفع به .
-------------------
(1) حكاه عنه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 5 ص 95 .
(2) في الكشاف : ( قرئ بطرح إحدى التائين وادغامها ) وهو الأوجه ، إذ لم نعثر على
قراءة باثبات التاء من غير ادغام أصلا في المصادر المعتمدة لكي يقال : ( وقرئ بحذف
التاء وادعامها ) .
(3) التوبة : 62 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_16 _
وقال الباقر (عليه السلام) : ( هم بنو عبد الدار لم يسلم منهم غير مصعب بن عمير وسويد بن حرملة ، كانوا يقولون : نحن صم بكم عما جاء به محمد ، وقد قتلوا جميعا بأحد ، كانوا أصحاب اللواء ) (1) .
* (إذا دعاكم) * وحد الضمير ، لأن استجابة رسول الله (صلى
الله عليه وآله) استجابة الله، والمراد بالاستجابة : الطاعة والامتثال * (لما
يحييكم) * من علوم الدين والشرائع ، لأن العلم حياة والجهل موت ، وقيل : لمجاهدة
الكفار وللشهادة (2) لقوله : * (بل أحياء عند ربهم) * (3) .
* (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) * أي : يملك على المرء قلبه فيغير نياته ويفسخ عزائمه ، ويبدله بالذكر نسيانا وبالنسيان ذكرا وبالخوف أمنا وبالأمن خوفا ، وقيل : معناه : أن المرء لايستطيع أن يكتم الله بقلبه شيئا وهو يطلع على ضمائره وخواطره ، فكأنه حال بينه وبين قلبه (4) ، وقيل : معناه : أنه يميت المرء فتفوته الفرصة التي هو واجدها ، وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه ورده سليما كما يريده الله (5) ، فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم ، واعلموا أنكم * (إليه تحشرون) * فيثيبكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة .
وعن الصادق (عليه السلام) : ( يحول بين المرء وبين أن يعلم أن
الباطل حق ) (6) .
* (واتقوا فتنة) * أي : بلية (7) ، وقيل : ذنبا (8) ، وقيل : عذابا (9) ، وقيل : هو إقرار
-------------------
(1) رواه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 5 ص 99 .
(2) وهو قول الفراء وابن إسحاق والجبائي والقتيبي ، راجع التبيان : ج 5 ص 101 .
(3) آل عمران : 169 .
(4) قاله قتادة كما حكاه عنه الماوردي في تفسيره : ج 2 ص 308 .
(5) وهو قول علي بن عيسى الرماني على ما حكاه عنه الماوردي في تفسيره : ج 2 ص 308 .
(6) رواه الشيخ الطوسي في التبيان : ج 5 ص 101 .
(7) وهو قول الحسن ، راجع تفسيره : ج 1 ص 401 .
(8) وهو قول الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 211 .
(9) قاله ابن عباس والجبائي راجع التبيان : ج 5 ص 103 ، وأحكام القرآن لابن العربي : ج 2 = (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_17 _
المنكر بين أظهرهم (1) .
وقوله : * (لا تصيبن) * لا يخلو أن يكون جوابا للأمر ، أو نهيا بعد أمر معطوفا عليه بحذف الواو ، أو صفة ل * (فتنة) * ، فإذا كان جوابا فالمعنى : إن أصابتكم لا تصيب الظالمين * (منكم خاصة) * ولكنها تعمكم ، وإنما جاز دخول النون في جواب الأمر لأن فيه معنى النهي ، كما تقول : انزل عن الدابة لاتطرحك ، ويجوز : لاتطرحنك ، وإذا كانت نهيا بعد أمر فكأنه قيل : واحذروا بلية أو ذنبا أو عقابا ، ثم قيل : لا تتعرضوا للظلم فتصيب البلية أو العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة ، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول كأنه قيل : * (واتقوا فتنة) * مقولا فيها : * (لا تصيبن) * ، ونظيره قول الشاعر : حتى إذا جن الظلام واختلط * جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط (2) أي : بمذق يقال فيه هذا القول ، لأن فيه لون الورقة التي
هي لون الذئب ، ويعضده قراءة ابن مسعود : ( لتصيبن ) (3) على جواب القسم المحذوف ، ويكون ( من ) للتبيين على هذا ، لأن المعنى : لاتصيبنكم أو لتصيبنكم خاصة على ظلمكم ، لأن الظلم أقبح منكم من سائر الناس .
وعن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية قال النبي (صلى الله عليه وآله) : ( من ظلم عليا مقعدي هذا بعد وفاتي فكأنما جحد نبوتي ونبوة الأنبياء قبلي ) ، أورده الحاكم
-------------------
= ج 2 ص 390 .
(1) قاله ابن عباس كما في التبيان : ج 5 ص 103 .
(2) البيت للعجاج ، يصف فيه قوما بالشح وعدم إكرامهم للضيف ، وبالغ في أنهم لم يكرموه
ولم يأتوا بما أتوا به إليه إلا بعد سعي ومضي جانب من الليل ، ثم لم يأتوه إلا بلبن
ممزوج بالماء وهو يشبه لون الذئب لأن فيه غبرة وكدورة ، انظر خزانة الأدب: ج 2 ص 109
و 112 .
(3) حكاها عنه الزمخشري في كشافه : ج 2 ص 212 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_18 _
أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل (1) مرفوعا .
وعن ابن عباس أيضا : أنه سئل عن هذه الفتنة ، فقال : أبهموا ما أبهم الله، وعن السدي : نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الجمل (2) .
* (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) * * (واذكروا) * معاشر المهاجرين * (إذ أنتم قليل) * أي : وقت كونكم أقلة أذلة ، ف * (إذ) * هنا مذكور مفعول به وليس بظرف * (مستضعفون) * يستضعفكم قريش * (في الارض) * يعني : أرض مكة قبل الهجرة * (تخافون أن يتخطفكم الناس) * أي : يستلبكم المشركون من العرب إن خرجتم منها * (فاوبكم) * إلى المدينة * (وأيدكم بنصره) * أي : قواكم بمظاهر النصر بإمداد الملائكة يوم بدر * (ورزقكم من الطيبت) * يعني : الغنائم * (لعلكم تشكرون) * إرادة أن تشكروا هذه النعم .
وعن قتادة : كانت العرب أذل الناس وأشقاهم عيشا ، وأعراهم جلدا ، يؤكلون ولا يأكلون ، فمكن الله لهم في البلاد ، ووسع عليهم في الرزق والغنائم ، وجعلهم ملوكا (3) .
ومعنى الخون : النقص ، كما أن معنى الوفاء : التمام ، ومنه تخونه أي : تنقصه ،
-------------------
(1) شواهد التنزيل : ج 1 ص 206 - 207 .
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 212 .
(3) حكاه عنه الطبري في تفسيره : ج 6 ص 219 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_19 _
ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء (1) ، لأنك إذا خنت الرجل في شئ فقد أدخلت عليه النقصان فيه ، والمعنى : لا تخونوا الله بترك أوامره ، والرسول بترك سنته وشرائعه ، و * (أمنتكم) * فيما بينكم بأن لاتحفظوها * (وأنتم تعلمون) * وبال ذلك وعقابه ، وقيل : * (وأنتم تعلمون) * أنكم تخونون (2) ، يعني : أن الخيانة توجد منكم عن عمد ، ويحتمل أن يكون * (وتخونوا) * جزما داخلا في حكم النهي ، وأن يكون نصبا بإضمار ( أن ) ، نحو : لا تأكل السمك وتشرب اللبن .
* (واعلموا أنما أموا لكم وأولدكم فتنة) * جعلهم فتنة ، لأنهم سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب ، أو يريد : محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده * (وأن الله عنده أجر عظيم) * فعليكم أن تزهدوا في الدنيا ، ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد ، ولا تؤثروهما على نعيم الأبد .
* (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) * * (فرقانا) * أي : فتحا ونصرا ، كقوله : * (يوم الفرقان) * (3) لانه يفرق بين الحق بإعزاز أهله والباطل بإذلال أهله ، أو هداية ونورا وتوفيقا وشرحا للصدور ، أو بيانا وظهورا يشهر أمركم في أقطار الأرض.
-------------------
(1) قال الراغب : الخيانة والنفاق واحد ، إلا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد
والأمانة ، والنفاق يقال اعتبارا بالدين ، ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض
العهد في السر ، ونقيض الخيانة : الأمانة ، يقال : خنت فلانا وخنت أمانة فلان ، راجع
المفردات : مادة (خون) .
(2) حكاه الماوردي في تفسيره : ج 2 ص 311 .
(3) الأنفال : 41 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 20 _
* (وإذ يمكر بك الذين كفروا) * لما فتح الله عليه ، ذكره مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر النعمة الجليلة في إنجائه منهم واستيلائه عليهم ، أي : واذكر إذ يمكرون بك حين اجتمعوا في دار الندوة وتآمروا في أمرك ، فقال بعضهم : نحبسه في بيت ونلقي إليه الطعام والشراب ، وقال بعضهم : نحمله على جمل ونخرجه من بين أظهرنا ، وقال أبو جهل : نأخذ من كل بطن غلاما ونعطيه سيفا صارما فيضربونه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإذا طلبوا العقل عقلناه ، فقال إبليس وكان قد دخل عليهم في صورة شيخ من أهل نجد : هذا الفتى أجودكم رأيا ، فتفرقوا على رأيه مجمعين على قتله .
وعن ابن عباس : * (ليثبتوك) * : ليقيدوك ويوثقوك (1) ، وقيل : ليثخنوك (2) بالضرب والجرح (3) من قولهم : ضربوه حتى أثبتوه لاحراك به ، وفلان مثبت وجعا * (ويمكرون) * ويخفون المكائد * (ويمكر الله) * ويخفي الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة * (والله خير المكرين) * (4) أي : مكره أنفذ من مكر غيره ، أو لأنه لا ينزل إلا ما هو حق وعدل .
* (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) * *
-------------------
(1) حكاه عنه الطبري في تفسيره : ج 6 ص 225 .
(2) أثخن في العدو : بالغ في الجراحة فيهم ، (القاموس المحيط : مادة ثخن) .
(3) وهو قول عطاء والسدي كما حكاه عنهما أبو حيان في البحر المحيط : ج 4 ص 487 ، وفي
تفسير القرطبي ج 7 ص 397 : قاله أبان بن تغلب وأبو حاتم ، وفي التبيان : ج 5 ص 109 عن الجبائي .
(4) قال الراغب : المكر : صرف الغير عما يقصده بحيلة ، وذلك ضربان : مكر محمود وذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل ، وعلى ذلك قال : * (والله خير المكرين) * ، ومذموم وهو أن يتحرى به فعل قبيح ، راجع المفردات : مادة (مكر) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 21 _
(لو نشاء لقلنا مثل هذا) * قائله : النضر بن الحارث بن كلدة ، وأسر يوم بدر فقتله النبي (صلى الله عليه وآله) صبرا بيد علي (عليه السلام) ، وإنما قاله صلفا (1) ونفاجة (2) ، فإنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو استطاعوا ذلك ، وإلا فما منعهم أن يشاءوا غلبة من تحداهم وقرعهم بالمعجز حتى يغلبوه مع فرط حرصهم على قهره وغلبته ؟ ! * (إن هذا إلا أسطير الاولين) * قاله النضر أيضا ، وذلك أنه جاء بحديث رستم وإسفنديار من بلاد فارس ، وزعم أن هذا مثل ذلك ، وهو القائل : اللهم إن كان هذا هو الحق ـ أي : إن كان القرآن هو الحق ـ فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل ، أو بعذاب آخر ، ومراده أن ينفي كونه حقا ، وإذا انتفي كونه حقا لم يستوجب منكره عذابا ، فكان تعليق العذاب بكونه حقا مع اعتقاد أنه ليس بحق كتعليقه بالمحال .
* (ليعذبهم) * اللام لتأكيد النفي ، والدلالة على أن تعذيبهم وهو بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة ، ومن قضية حكمة الله أن لا يعذب قوما عذاب استئصال ونبيهم بين أظهرهم ، وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم بدلالة
-------------------
(1) الصلف ـ بالتحريك ـ : هو التكلم بما يكرهه صاحبك ، والتمدح بما ليس عندك ، أو
مجاوزة قدر الظرف والادعاء فوق ذلك تكبرا ، (القاموس المحيط : مادة صلف) .
(2) رجل نفاج : إذا كان صاحب فخر وكبر ، (الصحاح : مادة نفج) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 22 _
قوله : * (ومالهم ألايعذبهم الله) * ، فكأنه قال : ما يعذبهم وأنت فيهم وهو معذبهم إذا فارقتهم * (ومالهم ألايعذبهم) * ، وقوله : * (وهم يستغفرون) * في موضع الحال ، أي : * (وما كان الله معذبهم) * وفيهم من يستغفر وهم المسلمون بين أظهرهم من المستضعفين الذين تخلفوا بعد خروج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم على عزما لهجرة ، وقيل : معناه نفي الاستغفار عنهم ، أي : ولو كانوا ممن يؤمن بالله ويستغفر لما عذبهم ، ولكنهم لا يؤمنون ولايستغفرون (1) .
* (ومالهم ألايعذبهم الله) * وأي شئ لهم في انتفاء العذاب عنهم ، يعني : لاحظ لهم في ذلك * (وهم) * معذبون لا محالة ، وكيف لايعذبون وحالهم أنهم * (يصدون عن المسجد الحرام) * أولياءه * (وما كانوا أولياءه) * أي : وما استحقوا مع شركهم بالله وعداوتهم لرسوله أن يكونوا ولاة أمره * (إن أولياؤه إلا المتقون) * إنما يستحق ولايته من كان تقيا من المسلمين * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * كأنه استثنى من يعلم ويعاند ، أو أراد بالأكثر الجميع كما يراد بالقلة العدم .
* (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) * المكاء : الصفير ، والتصدية : التصفيق ، وهو ضرب اليد على اليد ، وهو تفعلة من الصدى ، والمعنى : أنهم وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة ، كما أن الشاعر في قوله :
-------------------
(1) قاله مجاهد وقتادة والسدي وابن عباس وابن زيد ، راجع التبيان : ج 5 ص 113 .
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 23 _
وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه * أداهم سودا أو محدرجة سمرا (1) وضع القيود والسياط موضع العطاء ، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون ، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صلاته يخلطون عليه * (فذوقوا) * عذاب القتل والأسر يوم بدر بسبب كفركم .
* (ينفقون أموا لهم) * نزلت في المطعمين يوم بدر ، كان كل يوم يطعم واحد منهم عشر جزر ، وقيل : إنهم قالوا لكل من كانت له تجارة في العير : أعينوا بهذا المال على حرب محمد (صلى الله عليه وآله) لعلنا ندرك منه ثأرنا بما أصيب منا ببدر (2) * (ليصدوا عن سبيل الله) * أي : كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد (صلى الله عليه وآله) وهو سبيل الله * (ثم تكون عليهم حسرة) * ثم تكون عاقبة إنفاقها حسرة * (ثم يغلبون) * آخر الأمر يغلبهم المؤمنون ، والكافرون * (إلى جهنم يحشرون) * .
* (ليميز الله) * الفريق الخبيث من الفريق الطيب * (ويجعل الخبيث بعضه) * فوق * (بعض) * في جهنم يضيقها عليهم * (فيركمه) * عبارة عن الجمع والضم حتى يتراكموا ، كقوله : * (كادوا يكونون عليه لبدا) * (3) ، وقيل : نفقة الكافر من نفقة المؤمن ، ويجعل نفقة الكافر بعضها * (على بعض) * فوق بعض * (فيركمه) * ويجمعه
-------------------
(1) البيت للفرزدق ، وروي : فلما خشيت أن يكون عطاؤه ... واخرى : أخاف زيادا أن يكون
عطاؤه ... وهي من قصيدة يذم بها زيادا بعدما فر منه ، إذ أراد زياد أن يختدعه ليقع
في يديه فأشاع أنه لو أتاه لحباه وأكرمه ، فبلغ ذلك الفرزدق فانطلق ينشأ هذه
القصيدة ، يقول : ما كنت أظن أن يكون عطاء زياد قيودا سودا تلسع كما تلسع الحية
السوداء أو سياطا مفتولة سمراء يجلدني بها ، انظر ديوان الفرزدق : ج 1 ص 320 .
(2) قاله محمد بن مسلم ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد
الرحمن ، راجع تفسير الطبري : ج 6 ص 242 ـ 243 .
(3) الجن : 19 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 24 _
* (جميعا فيجعله في جهنم) * يعاقبهم به (1) ، كما قال : * (يوم يحمى عليها في نار جهنم) * الآية (2) ، وقرئ : * (ليميز) * على التخفيف (3) .
* (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) * (قل للذين كفروا) * أي : قل لاجلهم هذا القول وهو * (إن ينتهوا) * ، ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل : إن تنتهوا ـ بالتاء ـ يغفر لكم ، أي : إن ينتهوا عما هم عليه بالدخول في الإسلام * (يغفر لهم ما قد سلف) * من الشرك وعداوة الرسول * (وإن يعودوا) * لعداوته وقتاله * (فقد مضت سنت الاولين) * الذين تحزبوا على أنبياء الله في تدميرهم ، فليتوقعوا مثل ذلك إن لمينتهوا .
* (وقتلوهم حتى لا تكون فتنة) * أي : إلى أن لا يوجد فيهم شرك * (ويكون
الدين كله لله) * ويضمحل كل دين باطل ويبقى دين الإسلام وحده .
قال الصادق (4) (عليه السلام) : ( لم يجئ تأويل هذه الآية ، ولو قد قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية ، وليبلغن دين محمد (صلى الله عليه وآله) ما بلغ الليل حتى لا يكون شرك (5) على ظهر الأرض ) (6) .
* (فإن انتهوا) * عن الكفر وأسلموا * (فإن الله بما يعملون بصير) *يثيبهم على
-------------------
(1) قاله مقاتل على ما حكاه عنه السمرقندي في تفسيره : ج 2 ص 17 .
(2) التوبة : 35 .
(3) الظاهر أن القراءة المعتمدة عند المصنف هي قراءة وتشديد .
(4) في بعض النسخ : بعض الأئمة .
(5) في المجمع : مشرك .
(6) تفسير العياشي : ج 2 ص 56 ح 48 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 25 _
توبتهم وإسلامهم ، وقرئ : ( تعملون ) بالتاء (1) ، فيكون المعنى : فإن الله بما تعملون من الجهاد في سبيله * (بصير) * يجازيكم عليه أحسن الجزاء .
* (وإن تولوا) * ولم ينتهوا فثقوا بولاية الله ونصرته .
* (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) * ( ما ) موصولة ، و * (من شئ) * بيانه * (فأن لله) * مبتدأ ، وخبره محذوف تقديره : فواجب ، أو فحق أن * (لله خمسه) * .
قال أصحابنا رضوان الله عليهم أجمعين : إن الخمس يقسم على ستة أسهم كما في الآية : سهم لله ، وسهم للرسول (صلى الله عليه وآله) ، وسهم لذوي القربى ، فهذه الأسهم الثلاثة اليوم للإمام القائم مقام الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وسهم ليتامى آل محمد ، وسهم لمساكينهم ، وسهم لأبناء سبيلهم لا يشركهم في ذلك غيرهم ، لأن الله سبحانه حرم عليهم الصدقة لكونها أوساخ الناس وعوضهم من ذلك الخمس (2) .
روى ذلك الطبري (3) عن علي بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علي الباقر صلوات الله عليهما .
-------------------
(1) وهي قراءة الحسن ويعقوب ورويس وسلام بن سليمان ، راجع البحر المحيط لأبي حيان : ج
4 ص 495 .
(2) انظر شرائع الإسلام : ج 1 ص 181 ـ 182 ، واللمعة الدمشقية : ج 2 ص 78 ـ 79 .
(3) تفسير الطبري : ج 6 ص 252 ح 16127 وص 254 ح 16142 . (*)