فيه ، ويغيظه أنه لا يظفر بمطلوبه ، فليستفرغ جهده في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعله من بلغ به الغيظ كل مبلغ حتى مد حبلا * (إلى) * سماء بيته فاختنق ، فلينظر أنه إن فعل ذلك * (هل) * يذهب نصر الله الذي يغيظه ؟ وسمى الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه ، ولذلك يقال للبهر (1) : قطع ، وسمى فعله ( كيدا ) لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره ، أو : على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده ، إنما كاد به نفسه ، والمراد : ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه .
  وقيل : معناه : * (فليمدد) * بحبل * (إلى السماء) * المظلة ليصعد عليه و * (ليقطع) * الوحي أن ينزل عليه (2) ، وقرئ : * (ثم ليقطع) * بكسر اللام (3) وسكونها ، وأصل هذه اللام الكسر ، إلا أنه جاز إسكانها مع الفاء والواو ، لأن كل واحد منهما لا ينفرد بنفسه ، فهو كحرف من نفس الكلمة فصار بمنزلة : فخذ وعضد ، ثم شبه الميم في * (ثم) * بالواو والفاء كقولهم : أراك منتصبا .
  * (وكذلك) * أي : ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله * (ءايت بينت) * ، ولأن * (الله يهدي) * به الذين علم أنهم يؤمنون ، أو : يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى أنزله كذلك .
  * (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)

-------------------
(1) البهر بالضم : تتابع النفس من الإعياء ، وبالفتح : المصدر منه ، (راجع لسان العرب : مادة بهر) .
(2) قاله ابن زيد ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 12 .
(3) قرأه أبو عمرو ورويس وورش وابن ذكوان وهشام ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 549 ـ 550 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)_ 552 _

  * دخلت * (إن) * على واحدة من جزأي الجملة لزيادة التأكيد ، كما في قول جرير : إن الخليفة إن الله سربله * سربال ملك به ترجى الخواتيم (1) والفصل : التمييز بين المحق والمبطل ، أو : الحكم والقضاء بينهما ، وسميت مطاوعة هذه الأشياء لله عزوجل اسمه فيما يحدث من أفعاله وتسخيره لها ( سجودا ) تشبيها لذلك بما يفعله المكلف من السجود الذي كل خضوع دونه .
   * (وكثير من الناس) * أي : ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة ، وقيل : التقدير : وكثير من الناس استحق الثواب إذ وحد الله وأطاعه * (وكثير حق عليه العذاب) * إذ أبى السجود ولم يوحده جل اسمه (2) * (ومن) * يهنه الله بأن كتب عليه الشقاوة وأدخله النار * (فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشآء) * من الإكرام والإهانة .
  * (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ)

-------------------
(1) البيت من قصيدة يمدح بها عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الأموي ، يريد : أن سلاطين الآفاق يرسلون إليه خواتمهم خوفا منه ، فيضاف ملكهم الى ملكه ، ويروى ( تزجى ) بالزاي ، انظر ديوان جرير : ص 431 وفيه ( يكفي الخليفة ) .
(2) قاله ابن عباس في تفسيره : ص 278 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 553 _
  * (هذان) * فريقان أو جمعان مختصمان ، والخصم مصدر وصف به ، فاستوى فيه الواحد والجمع ، وقوله : * (هذان) * للفظ و * (اختصموا) * للمعنى ، كقوله : * (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك) * (1) ، ولو قال : هؤلاء * (خصمان) * أو اختصما كان جائزا ، وقيل : نزلت في النفر الستة من المؤمنين والكافرين تبارزوا يوم بدر ، وهو حمزة بن عبد المطلب قتل عتبة بن ربيعة ، وعلي (عليه السلام) قتل الوليد بن عتبة ، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وقرنه شيبة بن ربيعة (2) * (في ربهم) * في دين ربهم وصفاته .
  * (فالذين كفروا) * هو فصل الخصومة المعني بقوله : * (إن الله يفصل بينهم يوم القيمة) * ، * (قطعت لهم ثياب من نار) * أي : ألبسوا مقطعات النيران وهي الثياب القصار ، كأنه سبحانه يقدر لهم نيرانا على مقادير جثثهم كما يقطع الثياب الملبوسة ، ونحوه : * (سرابيلهم من قطران) * (3) و * (الحميم) * الماء الحار ، وعن ابن عباس : لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها (4) .
  * (يصهر) * أي : يذاب وينضج بذلك الحميم أمعاؤهم وأحشاؤهم كما يذاب به جلودهم .
  المقامع : السياط ، أي : * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم) * فخرجوا * (أعيدوا فيها) * وعن الحسن : أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفا (5) ، وقيل لهم : * (ذوقوا عذاب الحريق) * وهو الغليظ من النار

-------------------
(1) محمد : 16 .
(2) وهو قول أبي ذر وقيس بن عباد ، راجع تفسير الطبري : ج 9 ص 123 .
(3) ابراهيم : 50 .
(4) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 150 .
(5) تفسير الحسن البصري : ج 2 ص 141 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 554 _
  المنتشر العظيم الإحراق .
  وقرئ : * (لؤلؤا) * بالنصب (1) على تقدير : ويؤتون لؤلؤا .
  * (وهدوا) * أي : وهداهم الله إلى أن يقولوا : * (الحمد لله الذي صدقنا وعده) * (2) ، وهداهم إلى طريق الجنة ، و * (الحميد) * هو الله المستحمد على عباده بنعمه .
  والأساور : جمع أسوار ، وفيه ثلاث لغات : أسوار ، وسوار ، وسوار .
  * (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) * * (ويصدون عن سبيل الله) * يعني : أن الصدود يقع منهم على سبيل الاستمرار والدوام * (للناس) * أي : للذين يقع عليهم اسم الناس ، من غير فرق بين حاضر وباد ، وناء وطارئ ، وقرئ : * (سوآء) * بالرفع والنصب (3) ، فالنصب على أنه

-------------------
(1) يظهر من عبارة المصنف أنه المعتمد في قراءة هنا ـ تبعا للزمخشري ـ على قراءة الجر .
(2) الزمر : 74 .
(3) كلهم قرأ * (سوآء) * رفعا غير عاصم في رواية حفص فإنه قرأها بالنصب ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 435 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _555 _
  المفعول الثاني ل‍ * (جعلنه) * أي : جعلناه مستويا * (العكف فيه والباد) * ، والرفع على أن الجملة في محل النصب على المفعول الثاني ، وفيه دلالة على امتناع جواز بيع دور مكة ، والمراد ب‍ * (المسجد الحرام) * : الحرم كله ، كما قال : * (أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) * (1) ، والإلحاد : العدول عن القصد ، وقوله : * (بإلحاد بظلم) * حالان مترادفان ، ومفعول * (يرد) * متروك ليتناول كل متناول ، كأنه قال : * (ومن يرد فيه) * مرادا ما عادلا عن القصد ظالما * (نذقه من عذاب أليم) * يعني : أن الواجب على من كان فيه أن يسلك طريق العدل والسداد في جميع ما يهم به ويقصده ، وخبر * (إن) * محذوف ، لدلالة جواب الشرط عليه ، وتقديره : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم ، وكل من ارتكب فيه ذنبا فهو كذلك .
  واذكر حين جعلنا * (لابرا هيم مكان البيت) * مباءة ، أي : مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة ، و * (أن) * هي المفسر ، أي : تعبدنا إبراهيم وقلنا له : * (لا تشرك بى شيا وطهر بيتى) * من الأصنام والأقذار أن تطرح حوله .
  * (وأذن في الناس) * ناد فيهم ، والنداء * (بالحج) * أن يقول : حجوا ، أو : عليكم * (بالحج) * .
  وروي : أنه صعد أبا قبيس فقال : يا أيها الناس ، حجوا بيت ربكم ، فأسمع الله صوته كل من سبق علمه بأنه يحج إلى يوم القيامة ، فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال (2) .
  وعن الحسن : أن الخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، أمر أن يعلم الناس بوجوب الحج في حجة الوداع (3) .
  * (رجالا) * أي : مشاة ، جمع راجل ، كقائم وقيام * (وعلى كل

-------------------
(1) الاسراء : 1 .
(2) رواه الماوردي في تفسيره : ج 4 ص 18 .
(3) حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 283 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 556_
  ضامر) * حال معطوف على حال ، كأنه قال : رجالا وركبانا * (يأتين) * صفة ل‍ * (كل ضامر) * لأنه في معنى الجمع ، وقرأ الصادق (عليه السلام) : ( رجالا ) بضم الراء مشددة ، وقال : هم الرجالة (1) ، وقرئ ( يأتون ) بالواو (2) صفة للرجال والركبان * (فج عميق) * طريق بعيد .
  ونكر * (منفع) * لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادات دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات ، وقيل : هي منافع الآخرة من العفو والمغفرة (3) .
   واختلف في ( الأيام المعلومات ) : فالمروي عن الباقر (عليه السلام) : أنها يوم النحر والثلاثة بعده أيام التشريق ، و ( الأيام المعدودات ) عشر ذي الحجة (4) .
  وهو قول ابن عباس (5) واختيار الزجاج ، قال : لأن الذكر هنا يدل على التسمية على ما يذبح وينحر ، وهذه الأيام تختص بذلك (6) .
  وعن الصادق (عليه السلام) : ( هو التكبير بمنى عقيب خمس عشرة صلاة أولها صلاة الظهر من يوم النحر ، يقول : ألله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الأنعام (7) .
  البهيمة : مبهمة في كل ذات أربع ، فبينت ب‍ * (الانعم) * وهي : الإبل والبقر والضأن والمعز ، والأمر بالأكل منها أمر إباحة ، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون

-------------------
(1) انظر البحر المحيط لأبي حيان : ج 6 ص 364 .
(2) قرأه ابن مسعود وابن أبي عبلة والضحاك ، راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 97 ، والبحر المحيط : ج 6 ص 364 .
(3) قاله سعيد بن المسيب والضحاك ، وروي عن أبي جعفر (عليه السلام) ، راجع التبيان : ج 7 ص 310 ، وتفسير الطبري : ج 9 ص 137 .
(4) راجع التبيان : ج 7 ص 310 وليس فيه ( يوم النحر ) .
(5) ذكره عنه الماوردي في تفسيره : ج 4 ص 19 .
(6) معاني القرآن للزجاج : ج 3 ص 423 .
(7) تفسير القمي : ج 2 ص 84 باختلاف يسير لا يضر . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _557 _
  من نسائكهم ، ويجوز أن يكون ندبا لما فيه من المساواة للفقراء ومواساتهم * (البائس) * الذي أصابه بؤس ، أي : شدة وقضاء .
  التفث : قص الشارب والأظفار والاستحداد (1) واستعمال الطيب ، والتفث : الوسخ ، والمراد : قضاء إزالة التفث * (وليوفوا نذورهم) * ما وجب حجهم ، أو : ما عسى ينذرونه من أعمال البر في حجهم * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * طواف الزيارة ، وروى أصحابنا (2) : أنه طواف النساء الذي يستباح به وطء النساء ، وذلك بعد طواف الزيارة ، والعتيق : القديم لأنه * (أول بيت وضع للناس) * (3) وقيل : أعتق من الجبابرة ، كم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله (4) ، وقيل : أعتق من الغرق (5) ،
  وقيل : هو الكريم من قولهم عتاق الطير (6) .
  * (ذلك) * خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر والشأن ذلك ، والحرمة : ما لا يحل هتكه ، وجميع ما كلفه الله به من مناسك الحج وغيرها فهو بهذه الصفة ، فيحتمل أن يكون عاما في جميع التكاليف ، ويحتمل أن يكون خاصا في مناسك الحج * (فهو) * خبر له ، فالتعظيم * (خير له) * ومعنى التعظيم : العلم بأنها واجبة الحفظ * (إلا ما يتلى عليكم) * آية تحريمه ، وذلك قوله : * (حرمت عليكم الميتة) * الآية في سورة المائدة (7) .

-------------------
(1) الاستحداد : الحلاقة ، (أقرب الموارد : مادة حدد) .
(2) انظر تهذيب الاحكام للطوسي : ج 5 ص 252 و 253 ح 14 و 15 .
(3) آل عمران : 96 .
(4) قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن الزبير ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 285 .
(5) قاله ابن زيد ، وروي عن أبي جعفر (عليه السلام) ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 21 ، والتبيان : ج 7 ص 311 .
(6) وهو قول ابن جبير ، راجع البحر المحيط لأبي حيان : ج 6 ص 365 .
(7) الآية : 3 منها . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 558_
  ثم لما حث الله سبحانه على تعظيم حرماته أمر عقيبه باجتناب الأوثان وقول الزور ، لأن توحيد الله ونفي الشرك عنه وصدق القول من أعظم الحرمات ، وقيل : * (قول الزور) * وهو قول أهل الجاهلية : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك (1) .
  * (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِ الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) * (حنفاء) * أي : مستقيمي الطريقة على أمر الله، مائلين عن سائر الأديان ، وقرئ : ( فتخطفه الطير ) (2) أي : فتتخطفه فحذف تاء التفعل ، وهذا التشبيه يجوز أن يكون من المركب والمفرق ، والمركب مثل أن يقول : * (من يشرك بالله) * فإن حاله كحال من * (خر من السماء) * فاختطفته الطير ، أي : أخذته بسرعة فتفرق أجزاؤه في حواصلها ، أو عصفت * (به الريح) * فهوت به إلى الأماكن البعيدة ، والمفرق أن يكون الإيمان مشبها في علوه بالسماء ، وتاركه مشبها بالساقط من السماء ، والأهواء الموزعة أفكاره بالطير المختطفة ، والشيطان الذي يستهويه في الضلالة بالريح التي * (تهوى به) * في المهاوي المهلكة .

-------------------
(1) حكاه السيوطي في الدر المنثور : ج 6 ص 45 عن مقاتل .
(2) وهي قراءة نافع وحده ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 436 .

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 559 _
  وتعظيم ال‍ * (شعئر) * وهي الهدايا ، لأنها من معالم الحج استسمانها ، واستحسانها أن يترك المكاس في شرائها ، فقد كانوا يغالون في ثلاث ويكرهون المكاس فيهن : الهدي ، والأضحية ، والرقبة .
  وعن الباقر (عليه السلام) : ( لا تماكس في أربعة أشياء : في الأضحية ، وفي ثمن النسمة ، وفي الكفن ، وفي الكراء إلى مكة ) (1) .
  * (فإنها من تقوى القلوب) * أي : فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات ، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها ، لأنه لابد من عائد من الجزاء إلى من ليرتبط به ، وإنما ذكرت * (القلوب) * لأنها من مراكز التقوى ، فإذا تمكنت فيها ظهر أثرها في الجوارح .
  * (لكم) * في الشعائر * (منفع) * بركوب ظهورها وشرب ألبانها * (إلى أجل مسمى) * إلى أن ينحر ويتصدق بلحومها ، و * (ثم) * للتراخي في الوقت ، فاستعيرت للتراخي في الأحوال ، والمعنى : أن لكم في الهدي منافع كثيرة في دينكم ودنياكم ، وأعظم هذه المنافع * (محلهآ إلى البيت) * ومحلها : حيث يجب نحرها ، أو : وقت وجوب نحرها ، أو : وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله : * (هديا بلغ الكعبة) * (2) ، فإن كان الهدي للحج ينحر بمنى ، وإن كان للعمرة بمكة .
  وقرئ : * (منسكا) * بفتح السين وكسرها (3) ، وهو مصدر بمعنى النسك ، والمكسور بمعنى : الموضع ، أي : شرعنا * (لكل أمة) * أن ينسكوا ، أي : يذبحوا لوجه الله تعالى لأن يذكروا اسمه على النسائك * (فله أسلموا) * أي : أخلصوا له

-------------------
(1) الخصال للصدوق : ج 1 ص 245 ح 102 .
(2) المائدة : 95 .
(3) وبكسر السين هي قراءة حمزة والكسائي ، راجع كتاب العنوان في القراءات لابن خلف : ص 134 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 560_
  الذكر خاصة ، واجعلوه لوجهه سالما أي : خالصا لا يشوبه إشراك ، والمخبتون : المتواضعون ، من الخبت وهو المطمئن من الأرض.
   * (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) * * (البدن) * جمع بدنة ، سمي بذلك لعظم بدنها ، وهي الإبل خاصة ، وجعل البقر في حكم الإبل لقوله (عليه السلام) : ( البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ) (1) ، وهي منصوب بإضمار الفعل الذي ظهر تفسيره * (من شعئر الله) * من أعلام الشريعة التي شرعها الله، وإضافتها إلى اسمه تعظيم لها * (لكم فيها خير) * أي : نفع في الدنيا والآخرة ، وذكر * (اسم الله عليها) * أن يقول : بسم الله والله أكبر ، اللهم منك ولك * (صوآف) * أي : قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن ، قد ربطت اليدان من كل واحدة منها ما بين الرسغ إلى الركبة ، وعن الباقر (عليه السلام) : أنه قرأ ( صوافن ) (2) ، وروي ذلك عن ابن

-------------------
(1) رواه في الكشاف : ج 3 ص 158 مرفوعا .
(2) راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 97 ـ 98 ، وتفسير القرطبي : ج 12 ص 62 .

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 561 _
  مسعود وابن عباس (1) ، وهو من صفون الفرس ، وهو أن يقوم على ثلاث وينصب الرابعة على طرف سنبكه ، لأن البدنة قد تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث * (فإذا وجبت جنوبها) * أي : سقطت على الأرض، من وجب الحائط وجبة ، ووجبت الشمس جبة ، وهو عبارة عن تمام خروج الروح منها * (فكلوا) * أي : فحل لكم الأكل * (منها) * والإطعام ، و * (القانع) * : السائل ، من قنعت إليه وكنعت : إذا خضعت له وسألته قنوعا * (والمعتر) * المعترض بغير سؤال ، والقانع : الراضي يقنع بما أعطيته ، والمعتر : المار بك تطعمه ، يقال : عراه واعتراه وعره واعتره بمعنى * (سخرنها لكم) * تأخذونها مطيعة منقادة للأخذ فتعقلونها ، من الله سبحانه بذلك على عباده .
  لن يصيب رضاء الله * (لحومها) * المتصدق بها * (ولا دماؤها) * المهراقة بالنحر * (ولكن) * يصيب رضاه * (التقوى منكم) * والإخلاص وصدق النية ، وقرئ : * (ينال) * و * (يناله) * بالتاء (2) والياء .
  وروي (3) : أن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا لطخوا البيت بالدم ، فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك ، فنزلت .
  فكرر سبحانه تذكير النعمة بالتخير ، ثم قال : * (لتكبروا الله على ما هدبكم) * وهو أن يقال : الله أكبر على ما هدانا ، وقيل : إنه ضمن معنى الشكر فعداه تعدية ، أي : لتشكروا الله على هدايتكم لأعلام دينه ومناسك حجه ، بأن تكبروا وتهللوا (4) .
  ثم خص المؤمنين بالدفع عنهم والنصرة لهم كما قال : * (إنا لننصر رسلنا

-------------------
(1) راجع شواذ القرآن لابن خالويه : ص 97 ـ 98 ، وتفسير القرطبي : ج 12 ص 62 .
(2) وهي قراءة يعقوب ، راجع التبيان : ج 7 ص 316 .
(3) رواه ابن عباس في تفسيره : ص 280 .
(4) وهو قول الشيخ الطوسي في التبيان : ج 7 ص 320 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 562_
  والذين ءامنوا ) * (1) ، وجعل العلة في ذلك أنه لا يحب أضدادهم الذين يخونون الله ورسوله ويكفرون نعمه ، وقرئ : * (يدافع) * (2) أي : يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه .
  وقرئ : * (أذن) * و * (يقتلون) * على البناء للفاعل (3) والمفعول جميعا ، والمعنى : أذن لهم في القتال ، فحذف المأذون فيه لدلالة * (يقتلون) * عليه * (بأنهم ظلموا) * بسبب كونهم مظلومين ، وهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهي أول آية نزلت في القتال ، والإخبار بكونه قادرا على نصرهم عدة منه بالنصر ، وما قبل الآية من قوله : * (يدا فع عن الذين ءامنوا) * مؤذن بهذه العدة أيضا .
  و * (أن يقولوا) * مجرور الموضع على البدل من * (حق) * ، أي : * (بغير) * موجب سوى التوحيد الذي كان ينبغي أن يوجب التمكين والإقرار لا الإخراج من الديار ، والمعنى : * (دفع الله الناس بعضهم ببعض) * تسليطه المسلمين على الكفار * (ولولا) * ذلك لاستولى أهل الشرك على أهل الملل وعلى متعبداتهم فهدموها ، ولما تركوا للنصارى بيعا ولا لرهبانهم * (صوا مع) * ولا لليهود * (صلوا ت) * ولا للمسلمين * (مسجد) * وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلى فيها ، وقرأ الصادق (عليه السلام): ( صلوات ) بضم الصاد واللام (4) ، وفسرها بالحصون والآطام (5) وقرئ : ( دفاع ) (6)

-------------------
(1) غافر : 51 .
(2) يظهر من عبارة المصنف هنا أنه اعتمد على قراءة فتح الياء وإسكان الدال من غير ألف .
(3) قرأه ابن كثير وحمزة والكسائي ، راجع التبيان : ج 7 ص 316 .
(4) حكاه عنه (عليه السلام) أبو حيان في البحر المحيط : ج 6 ص 375 .
(5) قال الجوهري : الاطم مثل الاجم ، يخفف ويثقل ، والجمع آطام ، وهي حصون لأهل المدينة ، وباليمن حصن يعرف باطم الأضبط ، انظر الصحاح : مادة ( أطم ) .
(6) قرأه نافع ويعقوب ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 552 .

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _563_
  و ( لهدمت ) بالتخفيف (1) * (من ينصره) * أي : ينصر دينه وأولياءه .
  * (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ * وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) * هذا ثناء من الله عز اسمه على المؤمنين ، وإخبار عما سيكون منهم بظهر الغيب : أن مكنهم * (في الارض) * وبسط لهم في الدنيا من القيام بأمور الدين .
  وعن الباقر (عليه السلام) أنه قال : ( نحن هم ) (2) .
  و * (الذين إن مكنهم) * منصوب بدل من قوله : * (من ينصره) * ، وقيل : هو تابع ل‍ * (الذين أخرجوا) * (3) فيكون المعني بهم : المهاجرين * (ولله عقبة الامور) * أي : مرجعها إلى حكمه وتقديره .
  أي : لست بواحد في التكذيب ، فقد كذب الرسل أقوامهم ، ولك بهم أسوة .
  وكذب موسى أيضا مع ظهور معجزاته * (فكيف كان نكير) * أي : إنكاري وتغييري حيث أبدلتهم بالنعمة نقمة وبالمنحة محنة ، وبالعمارة خرابا .
  والخاوي : الساقط ، من خوى النجم : إذا سقط ، أو الخالي من خوى المنزل : إذا خلا من أهله ، وخوى بطن الحامل .
  وكل مرتفع أظلك من سقف بيت أو أظلة

-------------------
(1) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأيوب وقتادة وطلحة وزائدة عن الأعمش والزعفراني ، راجع البحر المحيط لأبي حيان : ج 6 ص 375 .
(2) تفسير القمي : ج 2 ص 87 .
(3) قاله الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 161 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 564 _
  أو كرم فهو عرش ، وقوله : * (على عروشها) * إن تعلق ب‍ * (خاوية) * فالمعنى : أنها ساقطة ، على سقوفها ، أي: خرت سقوفها على الأرض ثم سقطت حيطانها عليها ، أو : أنها ساقطة أو : خالية مع بقاء عروشها ، وإن كان خبرا بعد خبر فالمعنى : هي خالية وهي مطلة على عروشها ، على معنى : أن العرش سقطت على الأرض وبقيت الحيطان مشرفة عليها ، وقرئ : ( أهلكتها ) (1) ومعنى ( المعطلة ) : أنها عامرة ، فيها الماء ، ومعها آلات الاستسقاء إلا أنها عطلت أي : تركت لا يستسقى منها لهلاك أهلها ، أي : وكم من * (بئر) * عطلناها عن سقائها * (وقصر مشيد) * أخليناه عن ساكنيه ، فحذفت لدلالة * (معطلة) * عليه ، وفي هذا دليل على أن * (على) * بمعنى ( مع ) في * (على عروشها) * ، والمشيد المرتفع ، وقيل : هو المجصص (2) .
  * (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ * قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) * ثم حث سبحانه على السفار والاعتبار بمصارع من أهلكه (3) الله من الكفار ، أي : * (يعقلون بها) * ما يجب أن يعقل من التوحيد ، و * (يسمعون) * ما يجب سماعه

-------------------
(1) وهي قراءة البصريين (أبي عمرو ويعقوب) ، راجع التذكرة في القراءات : ج 2 ص 553 .
(2) قاله عكرمة ومجاهد ،راجع التبيان : ج 7 ص 324 .
(3) في نسخة : أهلكهم . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _565 _
  من الوحي * (فإنها) * الضمير للشأن والقصة ، وقد يجئ مؤنثا ، ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره * (الابصر) * ، وفي * (تعمى) * راجع إليه ، والمعنى : أن أبصارهم صحيحة لا عمى بها وإنما العمى بقلوبهم ، أو يريد : أن لا اعتبار بعمى الأبصار ، فكأنه ليس بعمى (1) بالإضافة إلى عمى القلوب ، وقوله : * (التي في الصدور) * توكيد كما في قوله : * (يقولون بأفوا ههم) * (2) ، وذلك لتقرير : أن مكان العمى هو القلب لا البصر .
  ثم أنكر استعجالهم للعذاب المتوعد به ، أي : كأنهم يجوزون فوته والله عز اسمه لا * (يخلف .. وعده) * ولا محالة أن يصيبهم ذلك إلا أنه عز اسمه حليم لا يعجل ، ومن حلمه واستقصاره المدد الطويلة أن * (يوما) * واحدا عنده * (كألف سنة) * عندكم ، وقيل : معناه : كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم ، لأن أيام الشدائد طوال (3) .
  وكم * (من) * أهل * (قرية) * قد أنظرتهم حينا * (ثم) * أخذتهم بالعذاب * (وإلى) * المرجع .
  * (سعوا في ءايتنا) * بالفساد : من الطعن فيها بأن سموها سحرا وشعرا وأساطير الأولين ، ومن تثبيط الناس عنها * (معجزين) * أي : مسابقين في زعمهم تقديرهم ، وقرئ : ( معجزين ) (4) أي : مسابقين عندهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم ، أو : قاصدين تعجيز رسولنا ، يقال : عاجزه أي : سابقه ، لأن كل واحد من المتسابقين (5) في طلب عجز الآخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه قيل : أعجزه وعجزه .

-------------------
(1) في بعض النسخ : لعمى .
(2) آل عمران : 167 .
(3) قاله عكرمة كما في تفسير القرطبي : ج 12 ص 78 .
(4) قرأه ابن كثير وأبو عمرو ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 439 .
(5) في نسخة : المسابقين . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 566_
  * (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) * روي : أن السبب في نزول هذه الآية أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا سورة النجم وهو في نادي قومه ، فلما بلغ قوله : * (ومنوا ة الثالثة الاخرى) * (1) * (ألقى الشيطن في أمنيته) * أي : في تلاوته : ( تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي ) ، فسر بذلك المشركون ، فنزلت الآية تسلية له صلوات الله عليه وآله (2) ، ومعناه : أنه لم يبعث رسول ولا نبي * (إلا إذا تمنى) * أي : تلا ، حاول الشيطان تغليطه فألقى في تلاوته ما يوهم أنه من جملة الوحي فيرفع الله ما ألقاه بمحكم آياته ، وقيل : إنما ألقى ذلك في تلاوته بعض الكفار ، فأضيف ذلك إلى الشيطان لما حصل بإغوائه (3) .
  ومما يبين أن التمني يكون في معنى التلاوة ، قول حسان بن ثابت : تمنى كتاب الله أول ليلة * وآخرها لاقى حمام المقادر (4)

-------------------
(1) النجم : 20 .
(2) رواه ابن عباس وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب ومحمد بن قبيس ، راجع تفسير الطبري : ج 9 ص 174 ، ولا يخفي أن العديد من المحققين من علماء المسلمين الأبرار قد صرحوا أن ما روي في سبب نزول هذه الآية فهو من الموضوعات والخرافات التي لا أساس لها من الصحة ، فما نقله بعض المفسرين لا يعبأ به ، راجع تفصيل ذلك في كتاب الهدى إلى دين المصطفي للعلامة البلاغي : ج 1 ص 123 وما بعده .
(3) حكاه ابن عيسى كما في تفسير الماوردي : ج 4 ص 35 .
(4) وروي الشطر الثاني : تمنى داود الزبور على رسل ، قد تقدم ذكر البيت في ج 1 ص 119 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 567_
  وعن مجاهد : كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا تأخر عنه الوحي تمنى أن ينزل عليه فيلقي الشيطان في أمنيته بما يوسوس إليه ، وينسخ الله ذلك ويبطله بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان (1) .
  وقال : ( تلك الغرانيق ) إشارة إلى الملائكة ، أي : هم الشفعاء لا الأصنام ، والغرانيق : جمع غرنوق ، وهو الشاب الجميل الممتلئ ريا (2) * (فينسخ الله ما يلقى الشيطن) * أي : يذهب به ويبطله * (ثم يحكم الله ءايته) * أي : يثبتها حتى لا يتطرق عليها ما يشعثها .
  * (ليجعل ما يلقى الشيطن) * في الأمنية وتمكينه من ذلك * (فتنة) * أي : محنة وابتلاء ، يزداد المنافقون به شكا وظلمة ، وهم الذين * (في قلوبهم مرض) * ، والمؤمنون يقينا ونورا قد ازدادوا إيمانا إلى إيمانهم * (والقآسية قلوبهم) * هم المشركون المكذبون ، * (وإن الظلمين) * يعني : وإن هؤلاء المنافقين والمشركين ، والأصل : ( وإنهم ) إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير ليقضي عليهم بالظلم * (لفي شقاق) * أي : مشاقة الله تعالى .
  * (وليعلم الذين أوتوا العلم) * بالله وبحكمته * (أنه الحق من ربك) * في الحكمة فيصدقوا به * (فتخبت له قلوبهم) * أي : تطمئن وتسكن * (وإن الله) * لهادي * (الذين ءامنوا إلى) * أن يتأولوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ، فلا تعتريهم شبهة ولا تخالجهم مرية .
  والضمير في قوله : * (في مرية منه) * للقرآن أو للرسول ، والمراد باليوم العقيم : يوم بدر ، وصفه بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن ، أو : لأن المقاتلين يوصفون بأنهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بأنه

-------------------
(1) حكاه عنه الطوسي في التبيان : ج 7 ص 330 .
(2) كذا في النسخ . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 568_
  عقيم مجازا ، أو : لأنه لا مثل لهذا اليوم في عظم أمره لقتال الملائكة فيه ، كما قيل : عقم النساء فما يلدن شبيهه * إن النساء بمثله لعقيم (1) وقيل : المراد به : يوم القيامة ، وسماه عقيما لأنه لا ليلة له (2) ، وكأنه قال : * (تأتيهم الساعة ... أو يأتيهم) * عذابها ، فوضع الظاهر موضع الضمير .
  * (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ * ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) * التقدير في * (يومئذ) * : يوم يؤمنون ، أو : يوم تزول مريتهم ، سوى بين من مات من المهاجرين في سبيل الله وبين من قتل منهم في الموعد تفضلا منه ، و * (الله) * عليم بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم * (حليم) * عن تفريط من فرط منهم بفضله وكرمه .
  وروي : أنهم قالوا : يا رسول الله، هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا ، فما لنا إن متنا معك ؟ فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين (3) .
  * (ومن عاقب بمثل ما عوقب به) * أي : ومن جازى الظالم بمثل ما ظلمه ،

-------------------
(1) البيت منسوب الى أبي دهبل يمدح عبد الله بن الأزرق المخزومي ، وقيل : للحزين الليثي ، ومعناه واضح ، أنشده الزجاج في معاني القرآن : ج 4 ص 434 .
(2) قاله عكرمة والضحاك ، راجع تفسير الماوردي : ج 4 ص 37 .
(3) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 167 .(*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 569 _
  سمي الابتداء بالمعاقبة من حيث إنه سبب وذاك مسبب عنه ، كما حملوا النظير على النظير والنقيض على النقيض للملابسة * (لينصرنه الله) * الضمير للمبغي عليه * (لعفو غفور) * ولا يلومه على ترك ما بعثه عليه من العفو عن الجاني بقوله : * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * (1) ، ومن عفا وأصلح فأجره على الله.
  * (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) * أي : * (ذلك) * النصر بسبب أنه قادر ، ومن آيات قدرته أنه * (يولج اليل في النهار ويولج النهار في اليل) * ، أو : بسبب أنه خالق الليل والنهار فلا يخفي عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من خير أو شر ، فإنه * (سميع) * لما يقولون * (بصير) * بما يعملون .
  وقرئ : * (يدعون) * بالياء والتاء (2) * (ذلك) * أي : ذلك الوصف بخلق الليل والنهار وبالإحاطة بما يجري فيهما بسبب أنه * (الله... الحق) * الثابت إلهيته ، وأن كل ما يدعى إلها من دونه باطل الدعوة وأنه * (العلى) * عن الأشباه ، ولا شئ أعلى منه شأنا وأكبر سلطانا .

-------------------
(1) البقرة : 237 .
(2) بالتاء قرأه الحرميان وابن عامر وأبو بكر ، راجع التذكرة في القراءات : ج 2 ص 553 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 570 _
  * (فتصبح الارض مخضرة) * إنما رفع لأن المعنى إثبات الاخضرار ، ولو نصب جوابا للاستفهام لآنقلب المعنى إلى نفي الآخضرار * (لطيف) * وأصل علمه وفضله إلى عباده * (خبير) * بمصالحهم. * (سخر لكم ما في الارض) * من البهائم مذللة للركوب في البر ، ومن المراكب جارية * (في البحر) * وغير ذلك من المسخرات * (أن تقع) * أي : كراهة أن تقع إلا بمشيئته .
  * (وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ * لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ * وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) * (لكفور) * أي : جحود يجحد الخالق مع هذه الأدلة الدالة على الخلق .
  * (فلا ينزعنك) * نهي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، أي : لا تلتفت إلى قولهم ، ولا تمكنهم من أن ينازعوك ، أو : هو زجر لهم عن منازعته * (في الامر) * أي : في أمر الدين .
  روي : أن بديل بن ورقاء وغيره من كفار خزاعة قالوا للمسلمين : ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله ؟ يعنون الميتة (1).

-------------------
(1) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 169 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 571 _
  وإن أبوا إلا مجادلتك فادفعهم بأن تقول : * (الله أعلم) * بأعمالكم وبقبحها ، فهو مجازيكم عليها ، وهذا وعيد برفق ولطف .
  * (الله يحكم بينكم) * أي : يفصل بينكم (1) بالثواب والعقاب ، وهذا تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مما كان يلقاه منهم ، أي : وكيف تخفي عليه أعمالهم وقد علم بالدليل أنه سبحانه * (يعلم) * كل * (ما) * يحدث * (في السماء والارض) * ، وقد كتبه في اللوح المحفوظ قبل حدوثه ؟ ! وحفظه ذلك وإثباته والإحاطة به عليه * (يسير) * .
  * (ويعبدون) * ما لم يتمسكوا في صحة عبادته ببرهان سماوي ، ولا عرفوه بدليل عقلي * (وما) * لمن ظلم مثل هذا الظلم ناصر ينصره .
  * (المنكر) * (2) الفظيع من التجهم والعبوس ، أو : الإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام ، و * (يسطون) * أي : يقعون ويبطشون من شدة الغيظ * (النار) * خبر مبتدأ محذوف ، كأن قائلا قال : ما هو ؟ فقال : النار ، أي : هو النار * (من ذا لكم) * أي : من سطوكم على التالين للآيات وغيظكم عليهم ، أو : مما أصابكم من الغيظ والكراهة بسبب ما تلي عليكم * (وعدها الله) * استئناف ، أو تكون * (النار) * مبتدأ * (وعدها الله) * خبره .
  * (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)

-------------------
(1) ليس في نسخة : (أي يفصل بينكم ) .
(2) في بعض النسخ زيادة : ( أي المنكر ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 572 _
   * قد تسمى الصفة أو القصة الرائعة ( مثلا ) لاستحسانها واستغرابها (1) ، تشبيها ببعض الأمثال التي سيرت لكونها مستحسنة عندهم ، وقرئ : * (تدعون) * بالياء (2) والتاء * (ولو اجتمعوا له) * في محل النصب على الحال ، كأنه قال : إن خلق الذباب يستحيل منهم مشروطا عليهم اجتماعهم لخلقه ، وهذا مبالغة في تجهيل قريش حيث وصفوا (3) صورا ممثلة يستحيل منها أن يقدروا على أقل ما خلق (4) الله وأحقره * (ولو اجتمعوا) * لذلك بالإلهية التي تقتضي الاقتدار على كل أجناس المقدورات ، والإحاطة بجميع المعلومات ، و * (الطالب) * الذباب * (والمطلوب) * الصنم ، وقيل : بالعكس منه ، والمعنى : ضعف السالب والمسلوب (5) ، وقيل : معناه : جهل العابد والمعبود (6) .
  * (ما قدروا الله حق قدره) * أي : ما عرفوه حق معرفته ، وما عظموه حق عظمته حيث (7) جعلوا الأصنام شركاء له .
  * (الله يصطفي) * هذا رد لإنكارهم من أن يكون الرسول من البشر ، وبيان أن

-------------------
(1) في بعض النسخ : لاستحسانهما واستغرابهما .
(2) قرأه يعقوب والسلمي وأبو العالية ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 554 ، وتفسير البغوي : ج 3 ص 298 .
(3) في نسخة : وضعوا .
(4) في نسخة : خلقه .
(5) قاله ابن عباس في تفسيره : ص 284 .
(6) قاله الضحاك ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 298 .
(7) في نسخة : حين . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _573_
  رسل الله قد يكونون (1) * (من الملئكة) * ومن البشر .
  ثم ذكر أنه سبحانه عالم بأحوال المكلفين من مضى منهم ومن غبر ، فلا يعترض عليه في حكمه واختياره .
  أمر سبحانه بالصلاة التي هي أجل العبادات ، ثم بغيرها من العبادات كالصوم والحج والزكاة ، ثم بفعل الخيرات على العموم ، وعن ابن عباس : أن * (الخير) * صلة الأرحام ومكارم الأخلاق (2) * (لعلكم تفلحون) * أي : افعلوا هذا كله وأنتم طامعون في الفلاح ، لا تتكلمون (3) على أعمالكم .
  وعن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله، في سورة الحج سجدتان ؟ قال : ( نعم ، إن لم تسجدهما فلا تقرأهما ) (4) .
  * (وجهدوا في الله) * أمر بالغزو ، أو : بمجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر ، كما روي أنه (صلى الله عليه وآله) رجع من بعض الغزوات فقال : ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر في الله ) (5) أي في ذات الله، ومن أجله * (حق جهاده) * كما يقال : هو حق عالم أي : عالم حقا ، فكان القياس : حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه ، إلا أن الجهاد لما اختص بالله من حيث إنه يفعل لوجهه ومن أجله جازت إضافته إليه ، لأن الإضافة قد تكون بأدنى اختصاص ، ويجوز أن يتسع في الظرف ، كقول الشاعر : ويوم شهدناه سليما وعامرا (6) * (اجتبكم) * أي : اختاركم لدينه ولنصرته * (ما جعل عليكم في الدين من

-------------------
(1) في بعض النسخ : يكون .
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 172 .
(3) في بعض النسخ : تتكلون .
(4) ذكره البغوي في تفسيره : ج 3 ص 299 .
(5) إتحاف السادة المتقين للزبيدي : ج 6 ص 379 وج 7 ص 218 .
(6) وعجزه : قليل سوى الطعن النهال نوافله ، وهو منسوب لرجل من بني عامر ، وفيه يمدح قومه ، أنشده سيبويه في كتابه : ج 1 ص 90 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 574 _
  حرج) * أي : ضيق ، فلم يكلفكم مالا تطيقونه ، ورخص لكم عند الضرورات كالقصر والتيمم ، وجعل التوبة مخلصا لكم من الذنوب ، ونحوه : * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (1) .
  وفي الحديث : ( إن أمتي أمة مرحومة ) (2) .
  * (ملة أبيكم) * نصب على الاختصاص ، أي : أعني بالدين ملة أبيكم ، أو بمضمون ما تقدمها ، كأنه قال : وسع دينكم توسعة ملة أبيكم ، ثم حذف المضاف ، وجعل * (إبراهيم) * أبا الأمة كلها ، لأن العرب من ولد إسماعيل ، وأكثر العجم من ولد إسحاق ، ولأنه أبو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أب لأمته ، والأمة في حكم أولاده * (هو سمكم) * الضمير لله تعالى أو لإبراهيم * (من قبل) * القرآن في سائر الكتب * (وفي هذا) * القرآن ، أي : فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم * (ليكون الرسول شهيدا عليكم) * بالطاعة والقبول * (وتكونوا شهداء على) * الأمم بأن الرسل قد بلغوهم ، ومثله : * (كذلك جعلنكم أمة وسطا لتكونوا) * الآية (3) ، وقيل : * (شهيدا عليكم) * أنه قد بلغكم * (وتكونوا شهداء على الناس) * بعدكم بأن تبلغوا إليهم ما بلغه الرسول إليكم (4) .
   وإذ خصكم سبحانه بهذه الكرامة فاعبدوه وثقوا به وتمسكوا بدينه (5) * (هو مولكم) * المتولي لأمركم ، وهو خير مولى وناصر .

-------------------
(1) البقرة : 185 .
(2) أخرجه أبو حنيفة في مسنده : ص 141 ، والحاكم في مستدركه : ج 4 ص 444 .
(3) البقرة : 143 .
(4) قاله مجاهد ، راجع تفسير الطبري : ج 9 ص 194 .
(5) في نسخة : ( به ) بدل ( بدينه ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 575 _
سورة المؤمنون مكية (1)
  مائة وثمان عشرة آية كوفي ، وتسع عشرة آية غيرهم ، لم يعد الكوفي * (وأخاه هرون) * (2) .
  في حديث أبي : ( من قرأها بشرته الملائكة بالروح والريحان يوم القيامة ، وبما تقر به عينه عند نزول ملك الموت ) (3) .
  وعن الصادق (عليه السلام) : ( من قرأها ختم الله له بالسعادة ، [ و ] إذا كان يدمن قراءتها في كل جمعة كان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيين والمرسلين ) (4) .
بسم الله الرحمن الرحيم
*
   (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)

-------------------
(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان : ج 7 ص 347 : مكية بلا خلاف ، وهو قول قتادة ومجاهد ، وهي مائة وثمان عشرة آية في الكوفي ، وتسع عشرة في البصري والمدنيين ، وليس فيها ناسخ ولا منسوخ ، إلا ما روي أنهم كانوا يجيزون الالتفات يمينا وشمالا والى ما وراء ، نسخ ذلك بقوله : * (في صلاتهم خشعون) * فلم يجيزوا أن ينظر المصلي إلا الى موضع سجوده ، وفي الكشاف : ج 3 ص 174 ما لفظه : مكية ، وهي مائة وتسع عشرة آية ، وثماني عشرة عند الكوفيين ، نزلت بعد سورة الأنبياء .
(2) الآية : 45 .
(3) رواه الزمخشري في كشافه : ج 3 ص 207 مرسلا .
(4) ثواب الأعمال للصدوق : ص 135 . (*)