لا للاسم ، والمراد : * (أيا) * ما تدعوه فهو حسن ، فوضع موضعه * (فله الاسماء الحسنى) * لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان لأنهما منها ، والمعني في كون أسمائه أحسن الأسماء : أنها تستقل بمعاني التمجيد والتعظيم والتقديس .
* (ولا تجهر ب) * قراءة * (صلاتك) * حذف المضاف لفقد الالتباس ، لأن الجهر والمخافتة معلوم أنهما صفتان للصوت لاغير ، والصلاة عبارة عن أفعال مخصوصة وأذكار * (وابتغ بين) * الجهر والمخافتة * (سبيلا) * وسطا ، وقيل : بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار (1) ، وقيل : بصلاتك : بدعائك (2) .
* (ولى من الذل) * ناصر من الذل ومانع له منه يتعزز به ، أو : لايوالي أحدا من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته .
-------------------
(1) وهو قول الطبري في تفسيره : ج 8 ص 171 .
(2) قاله ابن عباس وعائشة وأبو عياض والنخعي وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعبد الله بن شداد والزبير ومكحول ، راجع التبيان : ج 6 ص 534 ، وتفسير البغوي : ج 3 ص 142 .
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)_ 401 _
سورة الكهف مكية(1)
مائة وإحدى عشرة آية بصري ، عشر كوفي ، عد البصري * (عندها قوما) * (2) .
في حديث أبي : ( من قرأها فهو معصوم ثمانية أيام من كل فتنة ، ومن قرأ
الآية التي في آخرها حين يأخذ مضجعه كان له في مضجعه نورا يتلألأ إلى الكعبة ، حشو
ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم ) (3) .
الصادق (عليه السلام) : ( من قرأها في كل ليلة جمعة لم يمت إلا شهيدا ، وبعثه الله مع الشهداء ) (4) .
-------------------
(1) قال الشيخ الطوسي في التبيان : ج 7 ص 3 : قال مجاهد وقتادة : هي مكية ، وهي مائة
وعشر في الكوفي ، واحدى عشرة في البصري ، وخمس في المدنيين ، وقال الماوردي البصري في
تفسيره : ج 3 ص 283 : مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس
وقتادة : إلا آية منها وهي قوله تعالى : * (واصبر نفسك) * ، وقال القرطبي في تفسيره : ج 10 ص 346 : وهي مكية في قول جميع المفسرين ، وروي عن فرقة : أن أول السورة نزل
بالمدينة الى قوله : * (جرزا) * ، والأول أصح ، وقال الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 702 : مكية إلا آية 38 ومن آية 83 الى غاية آية 101 فمدنية ، وآياتها 110 نزلت بعد الغاشية .
(2) الآية 86 .
(3) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 751 مرسلا .
(4) ثواب الأعمال للصدوق : ص 134 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 402 _
بسم الله الرحمن الرحيم
* (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً) * علم سبحانه عباده كيف يحمدونه على أجل نعمه عليهم وهي ما أنزله * (على عبده) * محمد (صلى الله عليه وآله) من القرآن الذي هو سبب نجاتهم * (ولم يجعل له عوجا) * أي : شيئا من العوج ، والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان ، والمراد به : نفي التناقض عن معانيه .
وانتصب * (قيما) * بمضمر وليس بحال من * (الكتب) * ، لأن قوله : * (ولم يجعل له عوجا) * معطوف على * (أنزل) * فهو داخل في حيز الصلة ، فمن جعله حالا من * (الكتب) * يكون فاصلا بين الحال وذي الحال ببعض الصلة وذلك غير جائز ، والتقدير : ولم يجعل له عوجا بل جعله * (قيما) * لأنه إذا نفي عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة ، وجمع بينهما للتأكيد ، وقيل : معناه : قيما بمصالح العباد وقيما على سائر الكتب شاهدا بصحتها (1) * (لينذر) * الذين كفروا * (بأسا شديدا) * فاقتصر على أحد المفعولين * (من لدنه) * أي : صادرا من عنده ، والأجر الحسن : الجنة .
* (مكثين) * أي : لابثين * (فيه) * مؤبدين .
* (مالهم به من علم) * لأنه ليس مما يعلم لاستحالته * (كلمة) * نصب على
-------------------
(1) قاله الفراء في معاني القرآن : ج 2 ص 133 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 403 _
التمييز وفيه معنى التعجب ، كأنه قال : ما أكبرها كلمة ، وقيل : * (كبرت) * مثل ( نعمت ) (1) ، و * (كلمة) * تفسير لفاعل * (كبرت) * ، و * (تخرج) * صفة لموصوف محذوف ، والتقدير : كبرت الكلمة كلمة خارجة * (من أفوا ههم) * والكلمة هي قولهم : * (اتخذ الله ولدا) * سميت كلمة كما سموا القصيدة كلمة .
* (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً) * * (بخع) * أي : قاتل * (نفسك) * وجدا وأسفا * (إن لم يؤمنوا) * بالقرآن ، شبهه برجل فارقه أعزته فهو يتحسر * (على ءاثرهم) * ويبخع نفسه تلهفا على فراقهم ، و * (أسفا) * حال أو مفعول له ، والأسف : المبالغة في الحزن والغضب ، ورجل أسف وأسيف .
* (ما على الارض) * يعني : ما يصلح أن يكون * (زينة) * وحلية للأرض ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها * (لنبلوهم) * أي : لنختبرهم * (أيهم أحسن عملا) * وهو من كان أزهد فيها .
ثم زهد سبحانه فيها بقوله : * (وإنا لجعلون ما عليها) * من هذه الزينة * (صعيدا جرزا) * أي : مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء مؤنقة (2) في زوال بهجته وذهاب رونقه وحسنه .
* (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً)
-------------------
(1) قاله الفارسي وإليه ذهب أكثر النحاة على ما حكاه الآلوسي في تفسيره : ج 15 ص
204 .
(2) يقال : آنقني الشئ أي : أعجبني ، (الصحاح : مادة أنق) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_404 _
* * (الكهف) * الغار الواسع في الجبل ، واختلف في * (الرقيم) * : فقيل : هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف (1) ، وقيل : هو اسم الوادي الذي كان فيها الكهف (2) ، وقيل : هم النفر الثلاثة الذين دخلوا في غار فانسد عليهم فدعا كل واحد منهم بما عمله لله خالصا ففرج عنهم (3) * (كانوا) * آية عجبا * (من ءايتنا) * وصفا بالمصدر ، أو ذات عجب .
* (ءاتنا من لدنك رحمة) * أي : رحمة من خزائن رحمتك ، وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء * (وهيئ لنا من أمرنا) * الذي نحن فيه * (رشدا) * حتى نكون بسببه راشدين ، أو : اجعل أمرنا رشدا كله كقولك : رأيت منك أسدا (4) .
* (فضربنا على ءاذانهم) * حجابا من أن تسمع ، يعني : أنمناهم إنامة ثقيلة لاتنبههم منها الأصوات ، فحذف المفعول الذي هو الحجاب ، كما قالوا : بنى على امرأته ، يعنون : بنى عليها القبة * (سنين عددا) * أي : ذوات عدد أي : سنين كثيرة .
* (ثم بعثنهم) * أي : أيقظناهم من نومهم * (أي الحزبين) * فيه معنى الاستفهام ، ولذلك علق عنه * (لنعلم) * فلم يعمل فيه ، و * (أحصى) * فعل ماض ومعناه : أي الحزبين من المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف ضبط أمدا لأوقات لبثهم ، ولا يكون * (أحصى) * من أفعل التفضيل في شئ ، لأنه لايبنى من غير الثلاثي المجرد ، ولم يزل سبحانه عالما بذلك ، وإنما أراد ما تعلق به العلم من ظهور
-------------------
(1) قاله سعيد بن جبير ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 145 .
(2) وهو قول الضحاك ، راجع تفسير ابن كثير : ج 2 ص 72 .
(3) وهو ما رواه ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله) ، راجع صحيح مسلم : ج 4 ص 2099 ح 2743 ، ومسند أحمد 2 : 116 .
(4) في نسخة : رشدا . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 405_
الأمر لهم ليزدادوا إيمانا ، وقيل : يعني بالحزبين : أصحاب الكهف وأنهم لما استيقظوا اختلفوا في مقدار لبثهم (1) .
* (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً * وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً) * * (وزدنهم هدى) * بالتوفيق والألطاف المقوية لدواعيهم .
* (وربطنا على قلوبهم) * أي : قويناها وشددنا عليها حتى صبروا على هجر الأوطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران * (إذ قاموا) * بين يدي ملكهم الجبار : دقيانوس من غير مبالاة به * (فقالوا ربنا) * الذي نعبده * (رب السموات والارض) * ، * (شططا) * أي : قولا ذا شطط ، وهو الإفراط في الظلم ، من شط : إذا بعد .
* (هؤلاء) * مبتدأ و * (قومنا) * عطف بيان وخبره * (اتخذوا) * وهو إخبار في معنى الإنكار * (لولا يأتون عليهم) * أي : هلا يأتون على عبادتهم * (بسلطن بين) * بحجة ظاهرة ، وهو تبكيت (2) لأن الإتيان بالحجة على ذلك محال ، وفيه دلالة على فساد التقليد * (افترى على الله كذبا) * بنسبة الشريك إليه .
* (وإذ اعتزلتموهم) * خطاب من تمليخا ـ وهو رئيس أصحاب الكهف ـ لأصحابه *
(وما يعبدون) * في محل النصب للعطف على الضمير ، يعني : وإذ
-------------------
(1) قاله مجاهد ، راجع تفسير الرازي : ج 21 ص 84 .
(2) التبكيت : هو التعنيف واللوم ، يقال : فلان بكت فلانا : إذا عنفه ولامه ، (الصحاح : مادة بكت) . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_406 _
اعتزلتموهم واعتزلتم معبوديهم * (إلا الله) * يجوز أن يكون استثناء متصلا على أنهم كانوا يعترفون بالله ويشركون معه ، وأن يكون منقطعا ، وقيل : هو اعتراض ومعناه : الإخبار من الله تعالى أنهم لم يعبدوا غير الله (1) * (مرفقا) * قرئ بفتح الميم (2) وكسرها ، وهو ما يرتفق به أي : ينتفع .
* (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَتَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً * وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) * قرئ : * (تزا ور) * بالتخفيف والتشديد (3) ، فالتخفيف لحذف التاء ، والتشديد للإدغام ، وقرئ : ( تزور ) على وزن ( تحمر ) (4) وكلها من الزور وهو الميل ، و * (ذات اليمين) * : جهة اليمين ، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين * (تقرضهم) *
-------------------
(1) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 707 .
(2) قرأه نافع وابن عامر ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 388 .
(3) وقراءة التشديد هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 388 .
(4) قرأه ابن عامر ويعقوب ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 508 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 407 _
تقطعهم لاتقربهم ، من معنى القطيعة والصرم * (وهم في فجوة منه) * أي : في متسع من الكهف ، ومعناه : أنهم لا تصيبهم الشمس في طلوع نهارهم ولا في غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح من غارهم ، ينالهم فيه برد النسيم وروح الهواء * (ذا لك من ءايت الله) * وهو ما صنعه بهم من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة ، وقوله : * (من يهد الله فهو المهتد) * ثناء عليهم بأنهم جاهدوا في الله فلطف بهم ، وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة .
* (وتحسبهم) * خطاب لكل أحد ، والأيقاظ : جمع يقظ ، أي : * (وهم) * نيام وعيونهم مفتحة ، فيحسبهم من ينظر إليهم * (أيقاظا) * وقيل : لكثرة تقلبهم (1) ، وقرأ الصادق (عليه السلام) :( وكالبهم ) (2) أي : صاحب كلبهم * (بسط ذراعيه) * حكاية حال ماضية ، لأن اسم الفاعل لا يعمل إلا إذا كان بمعنى المضارع ، ولا يعمل (3) إذا كان في معنى الماضي ، والوصيد : الفناء ، وقيل : العتبة (4) ، والرعب : الخوف الذي يرعب الصدر ، أي : يملؤه ، وذلك لما ألبسهم الله من الهيبة ، وقيل : لطول أظفارهم وشعورهم (5) ، وقيل : لوحشة مكانهم (6) .
* (و) * كما أنمناهم تلك النومة * (بعثنهم) * منها * (ليتسآءلوا
بينهم) * أي : ليسأل بعضهم بعضا ، ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم ، فيعتبروا
ويستدلوا على معرفة صانعهم ، ويزدادوا يقينا إلى يقينهم * (قالوا لبثنا يوما أو بعض
يوم) * لأنهم دخلوا
-------------------
(1) قاله الزجاج على ما حكاه عنه الرازي في تفسيره : ج 21 ص 101 .
(2) حكاه عنه (عليه السلام) الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 709 .
(3) في بعض النسخ زيادة : إلا .
(4) قاله عطاء ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 154 .
(5) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 709 ، والرازي في تفسيره : ج 21 ص 101 .
(6) حكاه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 155 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 408 _
الكهف غدوة وانتبهوا بعد الزوال فظنوا أنهم في يومهم ، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وشعورهم * (قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) * أي : ربكم أعلم بذلك ، لا طريق لكم إلى علمه ، فخذوا في شئ آخر مما يهمكم ، وقرئ : * (بورقكم) * بكسر الراء وسكونها (1) وهو الفضة * (أيها) * أي : أي أهلها ، فحذف ، مثل : * (وسل القرية) * (2) ، * (أزكى طعاما) * أي : أطيب وأحل وأكثر وأرخص * (وليتلطف) * أي : وليتكلف اللطف في أمر البيع أو في أمر التخفي حتى لايعرف * (ولا يشعرن بكم أحدا) * أي : لايخبرن بمكانكم أحدا من أهل المدينة * (إنهم إن) * يعلموا بمكانكم ويطلعوا * (عليكم) * يقتلوكم بالرجم وهي أخبث القتلة * (أو) * يدخلوكم * (في ملتهم) * بالعنف ويصيروكم إليها * (ولن تفلحوا) * إن دخلتم في دينهم * (أبدا) * .
* (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً * سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً) * (و) * كما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة أطلعنا (3) * (عليهم) *
-------------------
(1) وهي قراءة أبي عمرو وحمزة وأبي بكر وروح ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون :
ج 2 ص 508 .
(2) يوسف : 82 .
(3) في بعض النسخ : اطلعنا ، اطلعناهم . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 409_
ليعلم الذين أطلعناهم (1) على حالهم * (أن وعد الله) * الذي هو البعث * (حق) * لأن حالهم في نومهم وانتباههم (2) كحال من يموت ثم يبعث ، و * (إذ يتنزعون) * يتعلق ب * (أعثرنا) * أي : أعثرناهم عليهم حين * (يتنزعون بينهم) * أمر دينهم ، ويختلفون في البعث ، فكان يقول بعضهم : يبعث الأرواح دون الأجساد ، ويقول بعضهم : يبعث الأجساد مع الأرواح حتى يرتفع الخلاف ويتبين أن الأجساد تبعث حية حساسة فيها أرواحها كما كانت قبل الموت * (فقالوا) * حين توفي الله أصحاب الكهف : * (ابنوا) * على باب كهفهم * (بنينا) * كما يبنى المقابر * (قال الذين غلبوا على أمرهم) * من المسلمين وملكهم : * (لنتخذن) * على باب الكهف * (مسجدا) * يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم * (ربهم أعلم بهم) * أأحياء نيام هم أم أموات ؟ فقد قيل : إنهم ماتوا (3) ، وقيل : إنهم لا يموتون إلى يوم القيامة (4) .
* (سيقولون) * الضمير لمن خاض في قصتهم في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أهل الكتاب والمسلمين ، و * (ثلثة) * خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم ثلاثة ، وكذلك * (خمسة) * و * (سبعة) * ، و * (رابعهم كلبهم) * جملة من مبتدأ وخبر وقعت صفة ل * (ثلثة) * ، وكذلك * (سادسهم كلبهم) * و * (ثامنهم كلبهم) * ، وأما الواو الداخلة على الجملة الثالثة فإنها دخلت على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الجملة الواقعة حالا عن المعرفة ، تقول : جاءني رجل ومعه آخر ، وجاءني زيد ومعه غلامه ، وفائدة الواو تأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر ، فهذه الواو تؤذن بأن قول الذين قالوا : * (سبعة وثامنهم
-------------------
(1) في بعض النسخ : اطلعنا ، اطلعناهم .
(2) في نسخة زيادة : حالهم .
(3) وهو قول الطبري
في تفسيره : ج 8 ص 202.
(4) حكاه الرازي في تفسيره : ج 21 ص 105 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 410 _
كلبهم) * قول صادر عن علم لا عن رجم ظن كقول غيرهم ، ومعنى قوله : * (رجما بالغيب) * : رميا بالخبر الخفي وإتيانا به ، نحو قوله : * (ويقذفون بالغيب) * (1) أي : يأتون به ، أو وضع الرجم موضع الظن كأنه قال : ظنا بالغيب ، قال زهير : وما هو عنها بالحديث المرجم (2) أي : المظنون ، وعن ابن عباس : حين وقعت الواو انقطعت العدة ، يعني : لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها ، وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع (3) ، ويدل عليه أنه سبحانه أتبع القولين قوله : * (رجما بالغيب) * وأتبع القول الثالث قوله : * (ما يعلمهم إلا قليل) * ، وقال ابن عباس : أنا من أولئك القليل (4) * (فلا تمار فيهم) * أي : فلا تجادل أهل الكتاب في أمر أصحاب الكهف * (إلا) * جدالا * (ظهرا) * بحجة ودلالة تقص عليهم ما أوحى الله إليك ، وهو كقوله : * (وجد لهم بالتى هي أحسن) * (5) ، * (ولاتستفت) * ولا تسأل * (أحدا) * منهم عن قصتهم .
* (ولا تقولن ل) * أجل * (شائ) * تعزم عليه : * (إنى فاعل ذلك) * الشئ * (غدا) * أي : فيما يستقبل من الأوقات .
* (إلا أن يشآء الله) * متعلق بالنهي لا بقوله : * (إنى فاعل) * لأنه لو قال : إني فاعل كذا إلا أن يشاء الله كان معناه : إلا أن تعترض
-------------------
(1) سبأ : 53 .
(2) وصدره : وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ، والبيت من معلقته التي مطلعها : أمن ام أوفي دمنة لم تكلم * بحومانة الدراج فالمتثلم وفيها يخاطب قبيلة ذبيان وأحلافهم ويحرضهم على الصلح مع بني عمهم بني عبس ، ويخوفهم من الحرب ، فإنهم قد علموا شدائدها في حرب داحس ، فيقول لهم : ما الحرب إلا ماجربتم وذقتم مرارتها فاياكم أن تعودوا الى مثلها ، انظر ديوان زهير بن أبي سلمى : ص 81 .
(3) حكاه عنه الماوردي في تفسيره : ج 3 ص 297 .
(4) كما حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 156 .
(5) النحل : 125 .(*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 411_
مشيئة الله دون فعله ، وذلك ما لا مدخل فيه للنهي ، وتعلقه بالنهي على وجهين : أحدهما : لا تقولن ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن لك فيه ، والثاني : لا تقولن ذلك إلا بأن يشاء الله أي : بمشيئة الله، وهو في موضع الحال يعني : إلا ملتبسا (1) بمشيئة الله، قائلا : إن شاء الله * (واذكر ربك) * أي : مشيئة ربك وقل : إن شاء الله * (إذا) * اعتراك نسيان لذلك ، يعني : * (إذا نسيت) * كلمة الاستثناء ثم ذكرت فتداركها ، وعن ابن عباس : ولو بعد سنة (2) ، وعن الصادق (عليه السلام) : ( ما لم ينقطع الكلام )، وقيل : معناه : واذكر ربك إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي (3) * (وقل عسى أن) * يهديني * (ربى) * بشئ آخر بدل هذا المنسي أقرب منه * (رشدا) * وأدنى خيرا ومنفعة ، وقيل : معناه : لعل ربي يؤتيني من البينات على أني نبي ما هو أعظم في (4) الدلالة من نبأ أصحاب الكهف (5) ، وقد فعل سبحانه ذلك حيث قص عليه أخبار الأنبياء وأنبأه من
الغيوب بما هو أعظم من ذلك .
* (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً * قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً * وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً * وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً)
-------------------
(1) في بعض النسخ : متلبسا .
(2) حكاه عنه ابن كثير في تفسيره : ج 3 ص 78 .
(3) قاله عكرمة ، راجع التبيان : ج 7 ص 29 .
(4) في بعض النسخ : ( من ) .
(5) قاله الزجاج في معاني القرآن : ج 3 ص 278 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 412_
* * (ولبثوا في كهفهم) * الآية بيان لما أجمل في قوله : * (فضربنا على ءاذانهم) * الآية (1) ، و * (سنين) * عطف بيان ل * (ثلث مائة) * ، وقرئ : ( ثلاث مائة سنين ) مضافا (2) ، على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز ، كما قال سبحانه : * (بالاخسرين أعملا) * (3) ، * (وازدادوا تسعا) * أي :
تسع سنين ، لأن ما قبله دل عليه .
* (قل الله أعلم بما لبثوا) * يريد أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم بمدة لبثهم ، والحق ما أخبرك به .
وروي : أن يهوديا سأل عليا (عليه السلام) عن مدة لبثهم ، فأخبر بما في القرآن ، فقال : إنانجدفي كتابنا (4) ثلاثمائة ، فقال (عليه السلام) : ( ذاك بسني الشمس وهذابسني القمر ) (5) .
ثم ذكر اختصاصه بما غاب في * (السموات والارض) * وأنه العالم بذلك ، ثم جاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حد ما عليه إدراك كل سامع ومبصر ، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها * (مالهم) * الضمير لأهل السماوات والأرض * (من ولى) * أي : متول لأمورهم * (و) * ليس * (يشرك في) * قضائه * (أحدا) * منهم ، قرئ : ( ولا تشرك ) بالتاء والجزم على النهي (6) .
* (لا مبدل لكلمته) * لا يقدر أحد على تبديل أحكام كلماته وتغييرها
-------------------
(1) الآية : 11 .
(2) قرأه حمزة والكسائي ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 508 .
(3) الآية : 103 .
(4) في نسخة : كتبنا .
(5) رواه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 158 .
(6) وهي قراءة ابن عامر وحده ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 509 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 413 _
* (و) * لا * (تجد من دونه ملتحدا) * (1) وموئلا ، يقال : التحد إلى كذا : إذا مال إليه .
* (واصبر نفسك) * أي : احبسها * (مع) * المؤمنين * (الذين) * يداومون على
الدعاء عند الصباح والمساء ، وقيل : المراد ب * (الغدوا ة والعشي) * : صلاة الفجر
والعصر (2) وقرئ : ( بالغدوة ) (3) * (ولا تعد عيناك عنهم) * أي : لا تتجاوز عيناك عنهم بالنظر إلى غيرهم من أبناء الدنيا * (تريد زينة الحيواة الدنيا) * في مجالسة أهل الغنى ، وهي جملة في موضع الحال ، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) حريصا على إيمان عظماء المشركين طمعا في إيمان أتباعهم ، فأمر بالإقبال على فقراء المؤمنين كخباب وعمار وأبي ذر وغيرهم ، وأن لا يرفع بصره عنهم * (من أغفلنا قلبه) * أي : جعلنا قلبه غافلا بالخذلان ، أو وجدناه غافلا * (عن ذكرنا) * ، أو : لم نسمه بالذكر ولم نجعله من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان ، من أغفل إبله : إذا تركها بغير وسم * (واتبع هوبه) * في أفعاله ومشتهياته * (فرطا) * أي : إفراطا وتجاوزا للحد ، ونبذا للحق وراء ظهره ، من قولهم : فرس فرط أي : متقدم للخيل .
* (وقل الحق من ربكم) * : * (الحق) * خبر مبتدأ محذوف ، والمعنى : جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختياركم لنفوسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك * (أعتدنا) * أي : أعددنا وهيأنا للذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله، وشبه سبحانه ما يحيط * (بهم) * من النار من جوانبهم بالسرادق * (يغاثوا بماء كالمهل) * وهو كل شئ أذيب كالنحاس والصفر ، وقيل : هو دردي (4) الزيت (5) ،
-------------------
(1) في بعض النسخ زيادة : أي ملتجأ .
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 717 .
(3) قرأه ابن عامر وحده ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 390 .
(4) دردي الزيت : ما يبقى في أسفله ، (الصحاح : مادة درد) .
(5) قاله ابن عباس ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 303 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_414 _
وروي : أنه كعكر (1) الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة رأسه (2) * (يشوى الوجوه) * إذا قدم ليشرب انشوى الوجه من حرارته * (بئس الشراب) * ذلك * (وساءت) * النار * (مرتفقا) * متكأ ، من المرفق ، وهو يشاكل قوله : * (وحسنت مرتفقا) * (3) .
* (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) * وقع قوله : * (من أحسن عملا) * موقع الضمير العائد إلى اسم * (إن) * ، * (أولئك) * استئناف كلام ، ويجوز أن يكون * (أولئك) * خبر * (إن) * و * (إنا لا نضيع) * اعتراضا .
و * (من) * في * (من أساور) * لابتداء الغاية ، وفي * (من ذهب) * للتبيين ، والسندس : مارق من الديباج ، والاستبرق : ما غلظ منه * (متكين فيها على الارائك) * أي : متنعمين في تلك الجنات على السرر في الحجال ، لأن الاتكاء هيئة أهل التنعم من الملوك وغيرهم .
* (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً)
-------------------
(1) العكر : هو دردي الزيت وغيره ، (الصحاح : مادة عكر) .
(2) وهو ما رواه الزمخشري في الكشاف : ج 2 ص 719 عن النبي (صلى الله عليه وآله) مرسلا .
(3) الآية : 31 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 415_
* مثل سبحانه حال المؤمنين والكافرين بحال * (رجلين) * متجاورين كان *
(لاحدهما) * بستانان أجنهما الأشجار * (من أعنب) * وهما محفوفتان * (بنخل) * تطيف
(1) النخل بهما ، وبين البستانين مزرعه ، وعن ابن عباس : كانا ابني ملك في بني إسرائيل ورثا مالا جزيلا ، فأخذ المؤمن منهما حقه وتقرب به إلى الله تعالى ، وأخذ الآخر حقه فتملك به الجنتين والضياع والأموال (2) .
* (كلتا الجنتين ءاتت أكلها) * أي : كل واحدة من البستانين أعطت غلتها ، و * (ءاتت) * محمولة على اللفظ ، لأن لفظ * (كلتا) * مفرد * (ولم تظلم منه شيا) * أي : لم تنقص * (وفجرنا) * أي : وشققنا وسط الجنتين ماء جاريا .
* (وكان له ثمر) * أي : أنواع من المال ، من ثمر ماله : إذا كثره ، وقرئ : ( ثمر ) و ( بثمره ) (3) بضمتين (4) وبسكون الميم أيضا (5) في الموضعين ، ويجوز أن يكون (ثمر ) جمع ( ثمرة ) أو جمع ( ثمار ) ثم يخفف ويقال : ( ثمر ) مثل : ( كتب ) ، وقرئ : بفتح الثاء والميم وهو جمع ثمرة : ما يجتني من ذي الثمرة ، و * (أعز نفرا) * يعني : أنصارا وحشما ، وقيل : أولادا ذكورا لأنهم ينفرون معه (6) ، و * (يحاوره) * :
-------------------
(1) في بعض النسخ : يطيف .
(2) انظر تفسير ابن عباس : ص 247 .
(3) من الآية : 42 .
(4) قرأه ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي ، كتاب السبعة في القراءات لابن
مجاهد : ص 390 .
(5) وهي قراءة أبي عمرو ، راجع التبيان : ج 7 ص 38 .
(6) قاله مقاتل ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 162 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 416 _
يراجعه الكلام ، من حار يحور : إذا رجع .
* (ودخل جنته) * آخذا بيد صاحبه المسلم يطوف به ويريه أملاكه ويفاخره بأمواله * (وهو ظالم لنفسه) * أي : معجب بما أوتي ، مفتخر به ، كافر لنعمة ربه . * (ولئن رددت إلى ربى) * أقسم على أنه إن رد إلى ربه على سبيل التقدير كما يزعم صاحبه ليجدن في الآخرة * (خيرا) * من جنته في الدنيا ، وقرئ : ( خيرا منهما ) (1) بعود الضمير إلى * (الجنتين) * ، * (منقلبا) * مرجعا وعاقبة ،
وانتصابه على التمييز .
* (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً * هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً) * * (خلقك) * أي : خلق أصلك * (من تراب) * لأن خلق أصله سبب في خلقه ، فكأن خلقه خلق له * (ثم سوبك) * أي : عدلك وأكملك إنسانا معتدل الخلق بالغا مبلغ الرجال .
* (لكنا) * أصله : ( لكن أنا ) فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على نون ( لكن )
-------------------
(1) وهي قراءة نافع وابن كثير وابن عامر ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2
ص 509 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 417_
فالتقت النونان فأدغم ، و * (هو) * ضمير الشأن ، أي : الشأن * (الله ربى) * ، والجملة خبر ( أنا ) والراجع منها إليه ياء الضمير ، وقرئ بحذف ألف ( أنا ) في الوصل (1) ، وقرئ أيضا بإثباتها في الوصل والوقف جميعا (2) ، وحسن ذلك وقوع الألف عوضا من حذف الهمزة ، يقول لصاحبه : أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد .
* (ما شاء الله) * : * (ما) * موصولة مرفوعة المحل على خبر الابتداء ، والتقدير : الأمر ما شاء الله، أو شرطية منصوبة المحل والجزاء محذوف ، والتقدير : أي شئ شاء الله كان ، والمعنى هلا * (قلت) * عند دخول * (جنتك) * : الأمر ما شاء الله اعترافا بأنها حصلت لك بمشيئة الله وفضله ، وأن أمرها بيده إن شاء حال بينك وبينها ونزع بركتها عنك * (لا قوة إلا بالله) * إقرار بأن قوته على عمارتها بمعونته ، إذ لا يقوى أحد في بدنه وما يملكه إلا بالله ، و * (أنا) * فصل و * (أقل) * مفعول ثان ل * (ترن) * ، وفي قوله : * (وولدا) * دلالة على أن النفر في قوله : * (وأعز نفرا) * المراد به الأولاد، والمعنى : * (إن) * ترني أفقر * (منك) * فأنا أتوقع من صنع الله * (أن) * يرزقني * (خيرا من جنتك) * ويسلبك نعمه ، ويخرب جنتك لإيماني وكفرانك ، و ( الحسبان ) مصدر بمعنى الحساب ، أي : مقدارا قدره الله وحسبه وهو الحكم بتخريبها ، وقيل : * (حسبانا) * : مرامي من عذابه : حجارة أو صاعقة (3) * (صعيدا) * أرضا مستوية لا نبات عليها ، يزلق عنها القدم لملاستها ، و * (زلقا) * و * (غورا) * كلاهما وصف بالمصدر .
* (وأحيط) * به عبارة عن الهلاك ، وأصل الإحاطة : إدارة الحائط على الشئ ،
-------------------
(1) وهي قراءة أبي عمرو رواية على ما حكاه ابن خالويه في شواذ القرآن : ص 83 .
(2) قرأه ابن عامر والمسيبي ورويس ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 509 ، والكشف عن وجوه القراءات السبع للقيسي : ج 2 ص 61 .
(3) قاله قتادة والقتيبي ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 163 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 418 _
وتقليب الكفين عبارة عن الندم والتحسر ، لأن النادم يفعل ذلك ، فكأنه قال : فأصبح يندم * (على مآ أنفق فيها) * أي : في عمارتها * (وهي خاوية على عروشها) * يعني : سقطت عروش كرومها على الأرض وسقطت فوقها الكروم ، قالوا : أرسل الله عليها نارا فأهلكتها (1) وغار * (ماؤها) * ثم تمنى لو لم يكن مشركا حتى لا يهلك الله بستانه ، ويجوز أن يكون توبة من الشرك ودخولا في الإيمان .
وقرئ : * (لم تكن) * بالتاء والياء (2) و * (ينصرونه) * محمول على المعنى دون اللفظ ، والمعنى : * (لم تكن له) * جماعة تقدر على نصرته * (من دون الله) * أي : هو سبحانه وحده القادر على نصرته ، لا يقدر أحد غيره أن ينصره ، إلا أنه لم ينصره لأنه استوجب الخذلان * (وما كان منتصرا) * أي : ممتنعا بقوته عن انتقام الله.
قرئ : * (الولية) * بفتح الواو وكسرها (3) ، والفتح بمعنى
النصرة ، والكسر بمعنى السلطان والملك ، و * (هنالك) * أي : في ذلك المقام وتلك الحال
النصرة * (لله) * وحده لا يستطيعها أحد سواه ، أو : السلطان لله لا يمتنع منه ، أو : في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كل مضطر ، يعني : أن قوله : * (يليتنى لم أشرك) * كلمة ألجأته الضرورة إليها ، و * (الحق) * قرئ بالرفع (4) صفة ل * (الولية) * ، وبالجر صفة لله * (هو خير ثوابا) * لأوليائه و * (خير عقبا) * أي : عاقبة ، يعني : عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره ، وقرئ بضم القاف (5) وسكونها .
-------------------
(1) في بعض النسخ : أهلكها .
(2) وبالياء قرأه حمزة والكسائي ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 510 .
(3) وقراءة الكسر هي قراءة حمزة والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن
مجاهد : ص 392 .
(4) قرأه أبو عمرو والكسائي ، راجع المصدر السابق .
(5) وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ونافع وابن كثير وابن عامر ، راجع المصدر نفسه . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 419 _
* (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) * (فاختلط به نبات الارض) * أي : تكاثف
بسببه حتى خالط بعضه بعضا * (فأصبح هشيما) * متهشما متحطما * (تذروه الريح) *
فتنقله من موضع إلى موضع ، وقرئ : ( تذروه الريح ) (1) شبه حال الدنيا في نضرتها وبهجتها وما يتعقبها من الهلاك بحال النبات يكون أخضر ثم يهيج فتطيره الرياح .
* (والبقيت الصلحت) * هي الطاعات والحسنات يبقى ثوابها أبدا ، وقيل : هي الصلوات الخمس (2) * (خير ... ثوابا) * يعني : ما يتعلق بها من الثواب ، وما يتعلق بها من الأمل ، لأن صاحبها يأمل في الدنيا ثواب الله ونصيبه في الآخرة .
وقرئ : ( تسير ) (3) من سيرت و * (نسير) * من سيرنا ، وتسييرها : قلعها من أماكنها وجعلها هباء منثورا ، أو تسييرها في الجو * (بارزة) * ليس عليها ما يسترها
-------------------
(1) قرأه طلحة بن مصرف ، راجع تفسير القرطبي : ج 10 ص 413 .
(2) وهو قول سعيد بن جبير ومسروق وابراهيم ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 165 .
(3) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر ، راجع المصدر السابق . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 420 _
مما كان عليها * (وحشرنهم) * جمعناهم إلى الموقف ، ويقال : غادره وأغدره أي : تركه ، ومنه الغدير : ما غادره السيل ، وشبهت حالهم بحال الجنود يعرضون على الملك .
* (صفا) * مصطفين ظاهرين ، ترى جماعتهم كما يرى كل واحد منهم * (لقد جئتمونا) * على إرادة القول ، والمعنى : قلنا لهم : لقد بعثناكم * (كما) * أنشأناكم * (أول مرة) * ، وقيل : جئتمونا عراة لا شئ معكم (1) * (موعدا) * أي : وقتا لإنجاز ماوعدتم على ألسنة الرسل من البعث .
و * (الكتب) * للجنس ، يعني : صحائف الأعمال * (يويلتنا) * ينادون هلكتهم
الخاصة من بين الهلكات (2) * (صغيرة ولا كبيرة) * عبارة عن الإحاطة بالجميع * (إلا أحصيها) * أي : عدها وضبطها * (ووجدوا ما عملوا حاضرا) * في الصحف ، أو وجدوا جزاء ما عملوا * (ولا يظلم ربك أحدا) * أي : لا ينقص ثواب محسن ، ولا يزيد في عقاب مسئ .
* (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً * مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً * وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً * وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً * وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ قُبُلاً)
-------------------
(1) وهو ماروته عائشة قالت : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : ( يحشر
الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ... ) ، وما رواه ابن عباس عنه (صلى الله عليه
وآله) بلفظ : ( قام فينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطيبا بموعظة فقال : يا أيها
الناس إنكم تحشرون الى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده ... ) ، انظر
صحيح مسلم : ج 4 ص 2194 ح 2859 ، وسنن الترمذي : ج 4 ص 615 ح 2423 .
(2) في نسخة : المهلكات . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 421 _
* * (كان من الجن) * كلام مستأنف ، والفاء للتسبيب ، جعل كونه من الجن سببا في فسقه ، ومعنى ( فسق ) : خرج عما أمره به ربه من السجود ، أو صار فاسقا كافرا بسبب * (أمر ربه) * الذي هو قوله : * (اسجدوا) * ، * (أفتتخذونه) * الهمزة للإنكار والتعجب ، أي : أبعد ما وجد منه تتخذونه * (وذريته أولياء من دوني) * وتستبدلونهم بي ؟ ! * (بئس) * البدل من الله إبليس لمن استبدله .
وقرئ : ( مآ أشهدناهم ) (1) أي : ما أحضرت إبليس وذريته * (خلق السموات والارض) * أي : اعتضادا بهم * (ولا) * أشهدت بعضهم * (خلق) * بعض ، وهو كقوله : * (ولا تقتلوا أنفسكم) * (2) ، * (وما كنت متخذ المضلين عضدا) * وضع * (المضلين) * موضع الضمير ذما لهم بالإضلال ، أي : فما لكم تتخذونهم شركاء لي (3) في العبادة .
وقرئ : * (يقول) * بالياء والنون (4) ، وأضاف ( الشركاء ) إليه على زعمهم توبيخا لهم يريد الجن ، والموبق : المهلك ، من وبق يبق : إذا هلك ، ويجوز أن يكون مصدرا أي : * (وجعلنا بينهم) * واديا من أودية جهنم ، هو مكان الهلاك والعذاب
-------------------
(1) وهي قراءة يزيد بن القعقاع والسجستاني وعون العقيلي ، راجع شواذ القرآن : ص 83 .
(2) النساء : 29 .
(3) في بعض النسخ : شركائي .
(4) وبالنون قرأه حمزة وحده ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 511 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 422_
الشديد مشتركا يهلكون فيه جميعا ، وعن الفراء : البين : الوصل ، أي : جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة (1) ، ويجوز أن يريد بالشركاء : الملائكة وعزيرا وعيسى ، وبالموبق : البرزخ البعيد ، أي : جعلنا بينهم أمدا بعيدا .
* (فظنوا) * أي : فأيقنوا * (أنهم مواقعوها) * مخالطوها واقعون في عذابها * (مصرفا) * أي : معدلا (2) .
* (أكثر شئ جدلا) * أي : أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل إن فصلتها ، جدلا : خصومة ومماراة في الباطل ، وانتصابه على التمييز .
* (أن) * الأولى نصب ، والثانية رفع وقبلها مضاف محذوف ، والتقدير : * (وما منع الناس) * الإيمان والاستغفار * (إلا) * انتظار * (أن تأتيهم سنة الاولين) * وهي الإهلاك * (أو) * انتظار أن * (يأتيهم) * عذاب الآخرة (قبلا ) (3) عيانا ، وقرئ : * (قبلا) * أنواعا .
* (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً * وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً * وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) * جدالهم : قولهم للأنبياء : * (مآأنتم إلا بشر مثلنا) * (4) ، * (ولو شآء الله لانزل
-------------------
(1) معاني القرآن للفراء : ج 2 ص 147 .
(2) في نسخة : معزلا .
(3) الظاهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف هنا بكسر القاف وفتح الباء تبعا للزمخشري .
(4) يس : 15 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 423 _
ملئكة) * (1) ونحو ذلك * (ليدحضوا) * أي : ليزيلوا ويبطلوا ، من إدحاض القدم وهو إزلاقها * (وما أنذروا) * : * (ما) * موصولة والعائد إليها من الصلة محذوف ، أي : وما أنذروه من البعث والجزاء ، أو مصدرية بمعنى : وإنذارهم * (هزوا) * أي : موضع استهزاء .
* (بايت ربه) * بالقرآن ، ولذلك عاد الضمير إليه مذكرا في قوله : * (أن يفقهوه) * أي : لا أحد أظلم ممن ذكر بالقرآن فلم يتذكر حين ذكر ، و * (أعرض) * عنه جانبا * (ونسى) * عاقبة * (ما قدمت يداه) * من الكفر والمعاصي غير مفكر فيها ، ثم علل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع * (على قلوبهم) * ، وجمع بعد الإفراد للحمل على لفظ ( من ) ومعناه ، * (فلن يهتدوا) * أي : فلا يكون منهم اهتداءالبتة ، و * (إذا) * جواب وجزاء يعني : أنهم جعلوا ماكان يجب أن يكون سبب الاهتداء سببا في انتفائه .
و * (الغفور) * : البليغ المغفرة * (ذو الرحمة) * الموصوف بالرحمة فلا * (يؤاخذهم) * عاجلا مع استحقاقهم العذاب * (بل لهم موعد) * يعني : يوم القيامة ، وقيل : يوم بدر (2) * (لن يجدوا من دونه موئلا) * ملجأ ومنجى ، يقال : وأل إليه : إذا لجأ إليه ، ووأل : إذا نجى .
* (وتلك القرى) * إشارة إلى قرى عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ، و * (القرى) * صفة ل * (تلك) * و * (تلك) * مبتدأ و * (أهلكنهم) * خبره ، ويجوز أن يكون * (تلك القرى) * نصبا بفعل مضمر يفسره ( أهلكنا ) ، والمعنى : وتلك أصحاب القرى أهلكناهم * (لما ظلموا) * مثل ظلم قريش ( وجعلنا لمهلكهم ) (3) أي : لإهلاكهم
-------------------
(1) المؤمنون : 24 .
(2) قاله الطبري في تفسيره : ج 8 ص 243 .
(3) يظهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف هنا بضم الميم وفتح اللام التي بعدها وهي قراءة الجمهور سوى عاصم على المشهور . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 424 _
أو لوقت إهلاكهم ، وقرئ : * (لمهلكهم) * ومعناه : لهلاكهم ، أو لوقت هلاكهم * (موعدا) * معلوما ، والموعد : وقت أو مصدر .
* (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِي إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً) * * (فتيه) * يوشع بن نون ، وسماه فتاه لأنه كان يخدمه ويتبعه ليأخذ منه العلم .
وفي الحديث : ( ليقل أحدكم : فتاي وفتاتي ، ولا يقل : عبدي وأمتي ) (1) .
و * (لا أبرح) * بمعنى : لا أزال ، وخبره محذوف لدلالة الحال عليه ، لأنها كانت حال سفر ، فلو كان بمعنى : ( لا أزول ) لدل على الإقامة ، فلابد أن يكون المعنى : * (لا أبرح) * أسير * (حتى أبلغ مجمع البحرين) * وهو المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر (عليهما السلام) ، وهو ملتقى بحري فارس والروم ، فبحر الروم مما يلي المغرب وبحر فارس مما يلي المشرق * (أو أمضى حقبا) * أو أسير زمانا طويلا ، والحقب : ثمانون سنة ، أو سبعون .
* (نسيا حوتهما) * أي : نسيا تفقد أمره وما يكون منه مما جعل أمارة على وجدان البغية ، وقيل : نسي يوشع أن يقدمه ونسي موسى أن يأمره فيه بشئ وكان سمكة مملوحة (2) ، وقيل : إن يوشع حمل الحوت والخبز في المكتل فنزلا ليلة على شاطئ عين تسمى عين الحياة ونام موسى ، فلما أصاب
-------------------
(1) رواه أحمد في مسنده : ج 2 ص 496 ، وفي صحيح مسلم : ج 4 ص 1764 ح 2249 بلفظ : ( لا
يقولن أحدكم ... ) .
(2) قاله ابن عباس ، راجع التبيان : ج 7 ص 67 . (*)