* الرشد : الاهتداء لوجوه الصلاح ، ومعنى إضافته إليه : أنه رشد مثله ، وأنه رشد له شأن ، وقيل : هو الحجج الموصلة إلى التوحيد
(1) ، وقيل : النبوة
(2) * (من قبل) * أي : من قبل موسى وهارون * (وكنا به) * أي : بصفاته الرضية وأسراره * (علمين) * حتى أهلناه لخلتنا .
* (إذ) * يتعلق ب * (ءاتينآ) * أو ب * (رشده) * ، وقوله : * (ما هذه التماثيل) * تصغير لشأن آلهتهم ، وتحقير لها ، ولم ينو للعاكفين مفعولا وأجراه مجرى ما لا يتعدى ، أي : فاعلون للعكوف لها ، ولو قصد التعدية لقال : * (عكفون) * عليها .
وروي عن الأصبغ بن نباتة أنه قال : إن أمير المؤمنين (عليه السلام) مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال : * (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عكفون) * ؟ لقد عصيتم الله ورسوله
(3) .
اعترفوا بتقليد الآباء حين لم يجدوا حجة في عبادتها ، وكفي أهل التقليد عارا وسبة أن عابدي الأوثان منهم .
* (أنتم) * من التوكيد الذي لا يصح الكلام مع الإخلال به ، لأن العطف
على ضمير ( هو ) في حكم بعض الفعل لا يجوز ، أي : أنتم ومن قلدتموهم قد انخرطتم في
سلك ضلال ظاهر غير خاف .
* (قالوا) * له : هذا الذي * (جئتنا) * به أجد هو وحق * (أم) * هزل ولعب ؟ إذ تعجبوا من تضليله إياهم ، واستبعدوا أن يكونوا على ضلال .
-------------------
(1) وهو قول الشيخ الطوسي في التبيان : ج 7 ص 255 .
(2) قاله ابن عيسى ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 450 .
(3) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الملاهي : ص 89 ، والبيهقي في شعب الإيمان : ج 5 ص 241 ح 6518 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 528 _
والضمير في * (فطرهن) * ل * (السموات والارض) * أو ل * (التماثيل) * .
و * (تالله)* التاء فيها بدل من الواو المبدلة من الباء ، وفي التاء زيادة معنى وهو التعجب ، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده ، وتأنيه لصعوبته ، وتعذره على يده (1) في زمن النمرود مع فرط عتوه واستكباره ، وعن قتادة : قال ذلك سرا من قومه (2) .
وروي (3) : أنهم خرجوا في يوم عيد لهم ، فجعل إبراهيم أصنامهم جذاذا أي : قطعا ، من الجذ وهو القطع ، كسرها كلها بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الصنم الكبير علق الفأس في عنقه ، وقرئ : ( جذاذا ) (4) جمع جذيذ ، وإنما استبقى الكبير ، لأنه غلب في ظنه أنهم لا يرجعون إلا * (إليه) * لما كانوا يسمعون من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم ، فأراد أن يبكتهم بقوله : * (بل فعله كبيرهم هذا فسلوهم) * (5) وعن الكلبي : * (إليه) * أي : إلى* (كبيرهم) * كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات (6) ، فيقولون له : ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحا والفأس على عاتقك ؟ فتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ، وأنهم في عبادته على غاية الجهل * (إنه لمن الظلمين) * أي : من فعل هذا الكسر والحطم إنه لشديد الظلم ، لجرأته على آلهتنا * (إبراهيم) * خبر مبتدأ محذوف ، أو منادى ، والأوجه أن يكون فاعل ( يقال ) ، لأن المراد الاسم لا المسمى .
-------------------
(1) ليس في نسخة : ( على يده ) .
(2) حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 247 .
(3) رواه السدي على ما حكاه الطبري في تفسيره : ج 9 ص 38 .
(4) قرأه الكسائي ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 544 .
(5) الآية : 63 .
(6) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 123 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 529 _
* (قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ * قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ) * أي : فجيئوا * (به على أعين الناس) * أي : معاينا مشاهدا بمرأى من الناس ومنظر ، فهو في موضع الحال * (لعلهم يشهدون) * عليه بما فعله ، أو يحضرون عقوبتنا له .
* (فعله كبيرهم هذا) * من معاريض الكلام ، ولم يكن قصدا من إبراهيم (عليه السلام) إلى أن ينسب الفعل إلى الصنم ، وإنما قصد تقريره (عليه السلام) لنفسه على هذا
الأسلوب تبكيتا لهم ، كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط رائق وأنت مشهور بحسن
الخط : أنت كتبت هذا ؟ وصاحبك أمي لا يحسن الكتابة ، فقلت له : بل كتبت أنت ، وقصدك
بهذا الجواب تقرير الكتاب لك مع الاستهزاء به ، لا نفيه عنك وإثباته لصاحبك الامي ،
وقيل : إن تقديره : * (بل فعله كبيرهم ... إن كانوا ينطقون) * فآسألوهم ، فعلق الكلام بشرط لا يوجد (1) ، وقيل إن التقدير : * (بل فعله) * من فعله ويوقف عليه ، ويبتدأ فيقرأ * (كبيرهم هذا فسلوهم إن كانوا ينطقون) * (2) .
-------------------
(1) قاله القتيبي ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 249 .
(2) وهو قول الكسائي ، راجع تفسير القرطبي : ج 11 ص 300 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_530_
* (ف) * لما ألقمهم الحجر * (رجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظلمون) * على الحقيقة لا من ظلمتموه حين قلتم : * (من فعل هذا بالهتنآ إنه لمن الظلمين) *.
ونكست الشئ : قلبته فجعلت أسفله أعلاه ، وانتكس : انقلب ، والمعنى : انتكسوا عن كونهم مجادلين لإبراهيم وصاروا مجادلين عنه حين نفوا عنها القدرة على النطق ، أو يريد : قلبوا على * (رؤوسهم) * لفرط إطراقهم ، خجلا مما بهتهم به إبراهيم ، فما أجابوا جوابا إلا ما هو حجة عليهم .
* (أف) * صوت يعلم به أن صاحبه متضجر ، تأفف بهم : إذا ضجره ما رأى من
ثباتهم على عبادتهم (1) بعد وضوح الحق وانقطاع العذر ، واللام لبيان المتأفف به ، أي : * (لكم) * ولآلهتكم هذا التأفف .
ولما غلبوا أزمعوا على إهلاكه وتحريقه ، فجمعوا الحطب حتى إن الرجل ليمرض فيوصي بماله يشترى به حطب لإبراهيم ! ثم أشعلوا نارا عظيما كادت الطير تحترق في الجو من وهجها ، ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فرموا به فيها ، وذكر أن جبرائيل (عليه السلام) قال له حين رمي به : هل لك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا ، قال : فاسأل ربك ، قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي (2) .
وعن الصادق (عليه السلام) : أنه قال : يا الله يا واحد يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، فحسرت النار عنه ، وإنه لمختبئ ومعه جبرائيل (عليه السلام) وهما يتحدثان في روضة خضراء (3) .
* (كونى بردا وسلما) * يعني : ذات برد وسلام ، فبولغ في ذلك ، كأن
ذاتها برد
-------------------
(1) في نسخة : ( عبادتها ) .
(2) ذكره ابي بن كعب ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 250 .
(3) الكافي : ج 8 ص 369 ح 559 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)
_ 531_