مات يموت ، ومات يمات * (وكنت نسيا منسيا) * أي : شيئا حقيرا متروكا ، وهو مامن حقه أن يطرح وينسى كخرقة الحائض ، كما أن الذبح (1) اسم مامن شأنه (2) أن يذبح ، وقرئ : * (نسيا) * بالفتح (3) وهما لغتان كالوتر والوتر .
   ( فناد بها من تحتها ) (4) عيسى أو جبرئيل ، والضمير في ( من تحتها ) ل‍ * (النخلة) * ، وقرئ : * (من تحتها) * (5) ، وقيل : كان أسفل منها تحت الأكمة فصاح بها : * (ألاتحزنى) * (6) ، وسئل النبي (صلى الله عليه وآله) عن السري ، فقال : ( هوالجدول ) (7) ، قال لبيد : فتوسطا عرض السري فصدعا * مسجورة متجاورا قلامها (8) أي : * (قد جعل ربك) * تحت قدميك نهرا تشربين منه وتتطهرين ، وقيل : السري : الشريف الرفيع ، من السرو يعني : عيسى (عليه السلام) (9) ، وعن الحسن : كان والله عبدا سريا (10) .
  * (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً)

-------------------
(1) في بعض النسخ : الذبيح .
(2) في بعض النسخ : حقه .
(3) يستفاد من العبارة أن المصنف يعتمد على قراءة الكسر هنا .
(4) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وأبي بكر عن عاصم ورويس ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 408 .
(5) الظاهر أن القراءة المعتمدة لدى المصنف هنا بفتح الميم من ( من ) .
(6) قاله الكلبي ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 364 .
(7) رواه الزمخشري في كشافه : ج 3 ص 12 ، والرازي في تفسيره : ج 21 ص 205 .
(8) والبيت من معلقته المشهورة التي مطلعها : عفت الديار محلها فمقامها * بمنى تأبد غولها فرجامها وفي البيت المذكور يصف الشاعر اثنين من العير وردا عينا ممتلئة ماء فدخلا من عرض نهرها وقد تجاوز نبتها ، انظر ديوان لبيد بن ربيعة : ص 170 .
(9) قاله الحسن البصري في تفسيره : ج 2 ص 109 .
(10) تفسير الحسن البصري : ج 2 ص 109 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني)_ 450 _

  * أي : واجذبي * (إليك بجذع النخلة) * ، وقرئ : ( تساقط ) بالتاء (1) والياء (2) والتشديد ، والأصل : ( تتساقط ) و ( يتساقط ) فأدغم ، و ( تساقط ) بطرح التاء الثانية (3) ، و * (تسقط) * بضم التاء وكسر القاف ، والتاء ل‍ * (النخلة) * والياء ل‍ * (جذع) * ، و * (رطبا) * تمييز أو مفعول على حسب القراءة ، والباء في * (بجذع النخلة) * مزيدة للتأكيد كما في قوله : * (ولا تلقوا بأيديكم) * (4) ، أو على معنى : افعلي الهز به ، والجني : لمجني ، من جنيت الثمرة .
  * (فكلى) * يا مريم من هذا الرطب * (واشربي) * من ماء السري ، وقد جمعنا (5) لك في السري والرطب فائدتين : إحداهما : الأكل والشرب ، والأخرى : قرة العين وسلوة الصدر لكونهما معجزتين .

-------------------
(1) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر والكسائي وأبي بكر عن عاصم ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 409 .
(2) وهي قراءة يعقوب والعليمي ونصير والبراء بن عازب والأعمش في رواية ، راجع التبيان : ج 7 ص 116 ، والبحر المحيط لأبي حيان : ج 6 ص 184 .
(3) قرأه حمزة والأعمش وطلحة وابن وثاب ومسروق ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 525 ، والبحر المحيط : ج 6 ص 184 .
(4) البقرة : 195 .
(5) في بعض النسخ : جعلنا . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 451 _
  وعن الباقر (عليه السلام) : ( لم تستشف النفساء بمثل الرطب ، لأن الله أطعمه مريم في نفاسها ) (1) .
  * (فإما ترين) * أصله : ترأين إلا أن الاستعمال بغير همز ، والياء فيه ضمير المخاطب المؤنث ، أي : إن تري * (أحدا) * من البشر يسألك عن ولدك * (فقولي إنى) * أوجبت على نفسي صوما أي : صمتا ، يريد إمساكا عن الكلام ، لأنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم ، وقد نهى النبي (صلى الله عليه وآله) عن صوم الصمت لأنه نسخ في شريعته .
  * (تحمله) * حال من الضمير المرفوع في * (فأتت) * أو من الهاء المجرور في * (به) * أو منهما جميعا * (شيا فريا) * أي : عظيما بديعا أو أمرا قبيحا .
  و * (هرون) * كان أخاها من أبيها ، وكان معروفا بحسن الطريقة ، وقيل : هو أخو موسى (عليه السلام) ، وكانت من ولده كما يقال : يا أخا تميم أي : يا واحدا منهم (2) ، وقيل : رجل صالح أو طالح في زمانها شبهوها به (3) ، أي : كنت عندنا مثله في الصلاح ، أو شتموها به (4) .
  * (فأشارت إليه) * فأومأت إلى عيسى بأن كلموه * (من كان في المهد صبيا) * أي : من وجد صبيا في المهد .
  أنطقه الله أولا بأنه * (عبد الله) * ردا لقول النصارى * (ءاتينى الكتب) * يعني : الإنجيل * (وجعلني نبيا) * أكمل الله عقله واستنبأه طفلا .
  * (وجعلني مباركا) * أي : نفاعا ، معلما (5) للخير حيث * (ما كنت وأوصينى بالصلوا ة والزكوا ة) * كلفنيهما

-------------------
(1) المحاسن للبرقي : ج 2 ص 535 وفيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) .
(2) قاله السدي ، راجع تفسير البغوي : ج 3 ص 194 .
(3) وهو قول قول مجاهد وكعب والمغيرة بن شعبة يرفعه للنبي (صلى الله عليه وآله) ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 368 .
(4) وفي بعض النسخ زيادة : في الفساد .
(5) في بعض النسخ : معلما . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 452 _
  * (ما) * بقيت * (حيا) * مكلفا .
  * (وبرا بوا لدتى) * أي : بارا بوالدتي مؤديا شكرها * (ولم يجعلني) * من الجبابرة الأشقياء .
  * (والسلم على) * أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله ، كقولك : جاءنا رجل فكان من فعل الرجل كذا ، والمعنى : ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن لثلاثة موجه إلي .
  * (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ * أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنْ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) * أي : * (ذلك) * الذي قال : إني عبد الله * (عيسى ابن مريم) * ، لا ما يقوله النصارى من : أنه ابن الله، وأنه إله * (قول الحق) * قرئ بالنصب والرفع (1) ، فالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو على أنه خبر بعد خبر أو بدل ، والنصب على المدح إن فسر ب‍ ( كلمة الله ) وعلى أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة إن أريد قول الصدق كقولك : هو عبد الله الحق لا الباطل ، وإنما قيل لعيسى (عليه السلام) : ( كلمة الله ) و * (قول الحق) * لأنه لم يولد إلا بكلمة الله وحدها ، وهي قوله : * (كن) * من غير واسطة أب ، تسمية للمسبب باسم السبب كما سمي الغيث بالسماء ، أي : أمره حق يقين ، وهم * (فيه يمترون) * يشكون ، أو يتمارون يتلاحون (2) : قالت اليهود : ساحر

-------------------
(1) وبالرفع قرأه ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 409 .
(2) تلاح القوم : إذا تنازعوا ، (الصحاح : مادة تلح) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _453 _
  كذاب ، وقالت النصارى : ابن الله وثالث ثلاثة * (ماكان لله أن يتخذ من ولد) * تكذيب للنصارى وتبكيت (1) لهم بالدلالة على انتفاء الولد عنه ، وأنه مما لا يتصور في العقول ، وأن من المحال أن يكون ذاته كذات من ينشأ منه الولد ، ثم بين * (سبحنه) * إحالته بأن من أراد شيئا من الأجناس كلها أوجده ب‍ * (كن) * فهو منزه من شبه الحيوان الوالد (2) .
  وقرئ : * (وإن الله) * بفتح الهمزة (3) وكسرها ، فالفتح على معنى : ولأنه * (ربى وربكم فاعبدوه) * ، أو بأنه أي : بسبب ذلك فاعبدوه ، والكسر على استئناف الكلام .
  و * (الاحزاب) * : اليهود والنصارى ، وقيل : النصارى (4) ، لأنهم تفرقوا ثلاث فرق : نسطورية ويعقوبية وملكائية ، وقال : * (من بينهم) * لأن منهم من ثبت على الحق * (من مشهد يوم عظيم) * : من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة ، أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف ، أو من وقت الشهود ، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بسوء أعمالهم ، أو من مكان الشهادة أو وقتها .
  * (أسمع بهم وأبصر) * أي : ما أسمعهم وأبصرهم (5) ، ولا يوصف الله بالتعجب ، والمراد : أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما (6) بعدما كانوا صما عميا في الدنيا * (لكن الظلمون) * وقع الظاهر موقع الضمير (7) إيذانا بأن

-------------------
(1) التبكيت : التقريع ، يقال : بكته بالحجة إذا غلبه ، (الصحاح : مادة بكت) .
(2) في نسخة زيادة : والولد .
(3) وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو ويعقوب ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 410 .
(4) قاله أبو الليث السمرقندي في تفسيره : ج 2 ص 324 .
(5) في نسخة زيادة : يوم القيامة حيث لا ينفعهم ، ومثله : * (فبصرك اليوم حديد) * .
(6) في نسخة : منها .
(7) في بعض النسخ : المضمر . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 454_
  لاظلم أعظم من ظلمهم حيث أغفلوا النظر والاستماع .
  * (قضى الامر) * فرغ من الحساب ، وحكم بين الخلائق بالعدل ، وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار ، و * (إذ) * بدل من * (يوم الحسرة) * أو منصوب ب‍ * (الحسرة ... وهم في غفلة) * يتعلق بقوله : * (في ضلل مبين) * و * (أنذرهم) * اعتراض ، أو يتعلق ب‍ * (أنذرهم) * والمعنى : وأنذرهم على هذه الحال غافلين غير مؤمنين .
  * (إنا نحن نرث الارض ومن عليها) * أي : نميت سكانها ، فلا يبقى فيها مالك ولا متصرف .
  * (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً) * (في الكتب) * في القرآن ، والصديق : من أبنية المبالغة ، أي : المبالغ في الصدق وكثير التصديق لكتب الله وأنبيائه ، و * (كان ... نبيا) * في نفسه .
  و * (إذ قال) * بدل من * (إبراهيم) * وما بينهما اعتراض ، أو يتعلق ب‍ * (كان) * أي : كان جامعا

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _455 _
  لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات في أحسن ترتيب ، فطلب منه العلة أولا في عبادته * (ما لا يسمع ولا يبصر) * مع أن العبادة لا يستحقها إلا المنعم الذي له غاية الإنعام ، وهو الله الخالق الرازق الذي منه أصول النعم ، ثم دعاه إلى اتباعه بأن قال: * (قد جاءني من العلم) * بالله والمعرفة به * (ما لم يأتك) * ، ثم نهاه عن عبادة * (الشيطن) * وطاعته فيما يدعوه إليه ، وذكر عصيان * (الشيطن ... للرحمن) * واستكباره ، ثم خوفه سوء العاقبة لما هو فيه ، وصدر كل نصيحة من هذه النصائح بقوله : * (يأبت) * استعطافا له ، والتاء في * (يأبت) * عوض من ياء الإضافة ، فلا يقال : يا أبتي ، وقرئ : ( يا أبت ) بفتح التاء (1) ، و * (ما) * في * (ما لا يسمع) * و * (ما لم يأتك) * يجوز أن تكون موصولة وموصوفة ، والمفعول في * (لا يسمع) * و * (لا يبصر) * غير منوي ، والمراد : ما ليس به استماع ولا إبصار ، و * (شيا) * في موضع المصدر ، أي : شيئا من الغناء ، أو مفعول به من قولهم : أغن عني وجهك ، أي : أبعد عني .
  * (أراغب أنت عن ءالهتى) * أي : أمعرض أنت عن عبادة آلهتي التي هي الأصنام ، وزاهد فيها ؟ * (لئن لم) * تمتنع عن هذا * (لارجمنك) * أي : لأرمينك بلساني ، يريد الشتم والذم ، ومنه الرجيم : المرمي باللعن ، أو لأقتلنك من رجم الزاني ، أو لأطردنك رميا بالحجارة ، وأصل الرجم : الرمي بالرجام * (مليا) * أي : زمانا طويلا ، من الملاوة ، وعطف * (واهجرني) * على محذوف ، أي : لأرجمنك فاحذرني واهجرني .
  * (سلم عليك) * سلام توديع ومتاركة ومباعدة منه ، كقوله : * (وإذا خاطبهم الجهلون قالوا سلما) * (2) ويجوز أن يكون دعاء له بالسلامة ستمالة ، ويدل عليه

-------------------
(1) قرأه ابن عامر وحده ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 465 .
(2) الفرقان : 63 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 456 _
  أنه وعده الاستغفار ، والحفي : البليغ في البر والألطاف ، يقال : حفي به وتحفي به .
  * (وأعتزلكم) * أي : وأتنحى منكم جانبا ، أراد مهاجرته إلى الشام * (وأدعوا ربى) * أي : أعبده ، ومنه قوله (عليه السلام) : ( الدعاء : هو العبادة ) (1) ، ويجوز أن يريد بالدعاء ما حكاه الله في سورة الشعراء (2) ، وقوله : * (عسى ألا أكون بدعاء ربى شقيا) * فيه تعريض لشقاوتهم بدعاء آلهتهم مع التواضع لله عز اسمه في كلمة * (عسى) * .
  و * (لما) * فارقهم وتركهم وهب الله سبحانه * (له) * أولادا أنبياء ، وأراد ب‍ ( الرحمة ) : النبوة ، وعن الحسن : المال والولد (3) (4) ، وهي عامة في كل خير ديني ودنيوي أوتوه ، ولسان الصدق : الثناء الحسن ، وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما يعبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية ، قال : إني أتتني لسان لاأسر بها (5) ، أي : رسالة ، ولسان العرب : لغتهم وكلامهم * (عليا) * أي : مرتفعا ، فكل أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه وعلى ذريته ، وقيل : معناه : أعلينا ذكرهم بأن محمدا وأمته يذكرونهم بالجميل ، ويصلون عليهم إلى يوم القيامة (6) .

-------------------
(1) مسند أحمد : ج 4 ص 271 ، المعجم الصغير للطبراني : ج 2 ص 97 .
(2) وهو قوله تعالى : * (فال هل يسمعونكم إذ تدعون) * الآية : 72 .
(3) في بعض النسخ : البنون .
(4) كذا في جميع النسخ ، لكنا لم نعثر فيما توفرت من مصادر على قول كهذا للحسن ، بل نسبته المصادر المعتمدة الى الكلبي ، راجع على سبيل المثال : الكشاف : ج 3 ص 22 ، وتفسير البغوي : ج 3 ص 198 .
(5) وعجزه : من علو لا عجب منها ولا سخر ، والبيت منسوب لأعشى بأهلة ، ـ واسمه عامر بن الحارث بن رياح الباهلي ـ وهو من قصيدة يرثي بها أخاه لامه المنتشر الباهلي ، وكان رئيسا فارسا ، والقصيدة هي من المراثي المفضلة المشهورة بالبراعة والبلاغة كما قاله السيد المرتضى في أماليه ، انظر أمالي السيد المرتضى : ج 2 ص 20 ، 24 .
(6) قاله ابن عباس والحسن ، راجع التبيان : ج 7 ص 131 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 457_
  * (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً * وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً * وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً) * قرئ : * (مخلصا) * بفتح اللام وكسرها (1) ، ومعناه بالكسر : أنه أخلص العبادة عن الشرك والرياء ، وأخلص نفسه وأسلم وجهه لله ، وبالفتح : أنه الذي أخلصه الله، والرسول : من الأنبياء الذي معه كتاب ، والنبي : الذي ينبئ عن الله وإن لم يكن معه كتاب .
  و * (الايمن) * من اليمين ، أي : من ناحية * (الطور) * اليمنى ، أو من اليمن فيكون صفة ل‍ * (الطور) * ، * (وقربنه) * حيث كلمناه بغير واسطة ملك ورفعنا منزلته * (نجيا) * أي : مناجيا كليما .
  * (من رحمتنا) * أي : من أجل رحمتنا له * (وهبنا له ... هرون) * .
  * (صادق الوعد) * إذا وعد بشئ وفي به ، وذكر بصدق الوعد وإن كان غيره من الأنبياء كذلك ، تشريفا له وإكراما ، أو لأنه المشهور من خصاله ، وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح حيث قال : * (ستجدني إن شاء الله من الصبرين) * (2)

-------------------
(1) وبالكسر هي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم في رواية الكسائي عن أبي بكر والمفضل عن عاصم ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 410 .
(2) الصافات : 102 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 458_
  فوفي ، وعن ابن عباس : أنه واعد (1) رجلا أن ينتظره في مكان ونسي الرجل فانتظره سنة (2) .
  * (وكان يأمر أهله) * وقومه * (بالصلوا ة) * والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم ، ولأنهم أولى بذلك من سائر الناس ، وهو كقوله : * (وأنذر عشيرتك الاقربين) * (3) ، * (قوا أنفسكم وأهليكم) * (4) ، * (وأمر أهلك بالصلوا ة) * (5) .
  قيل : سمي * (إدريس) * لكثرة دراسته كتاب الله (6) ، وفيه نظر ، لأن الاسم أعجمي ، ولذلك امتنع من الصرف ، ولو كان ( إفعيلا ) من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية فكان يجب أن ينصرف .
  والمكان العلي : شرف النبوة والقربة من الله، وقد أنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة ، وهو أول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود ، وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب ، وقيل : لأنه رفع إلى السماء الرابعة (7) أو السادسة (8) .
  * (أولئك) * إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس (عليهم السلام) ، و * (من) * في * (من النبين) * للبيان ، لأن جميع الأنبياء منعم عليهم ، و * (من) * الثانية للتبعيض ، والبكي : جمع باك ، كالسجود والقعود في جمع ساجد وقاعد .
  * (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً * وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً)

-------------------
(1) في بعض النسخ : وعد .
(2) حكاه عنه الماوردي في تفسيره : ج 3 ص 376 .
(3) الشعراء : 214 .
(4) التحريم : 6 .
(5) طه : 132 .
(6) قاله وهب بن منبه اليهودي ، راجع تفسير السمرقندي : ج 2 ص 326 .
(7) قاله أنس والخدري وكعب الأحبار ومجاهد ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 377 .
(8) واليه ذهب ابن عباس والضحاك ، راجع المصدر السابق . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 459 _
  * يقال : خلفه : إذا عقبه ، ثم يقال في عقب الخير : خلف ـ بالفتح ـ وفي عقب السوء خلف ـ بالسكون ـ كما قيل : وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشر ، وعن ابن عباس : هم اليهود (1) (2) ، وقيل : * (أضاعوا الصلوة) * بتأخيرها عن أوقاتها (3) * (واتبعوا الشهوا ت) * .
   رووا عن علي (عليه السلام) : ( من بنى الشديد ، وركب المنظور ، ولبس المشهور ) (4) .
  وكل شر عند العرب غي ، وكل خير رشاد ، قال : فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغو لا يعدم على الغي لائما (5) وقيل : يريد جزاء غي (6) ، كقوله : * (يلق أثاما) * (7) أي : مجازاة أثام ،

-------------------
(1) في نسخة زيادة : تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الاخت من الأب .
(2) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 26 .
(3) قاله ابن مسعود وابراهيم وعمر بن عبد العزيز ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 379 وتفسير البغوي : ج 3 ص 201 .
(4) رواه القرطبي في تفسيره : ج 11 ص 125 .
(5) والبيت منسوب للمرقش الأصغر ، واسمه عمرو بن حرملة ، وقيل : ربيعة بن سفيان ، وهو من قصيدة مطلعها :

ألا يا اسلمي لاصرم في اليوم فاطما      ولا  أبـدا مـادام وصـلك iiدائـما
ومعنى البيت : أن من يفعل الخير يحمده الناس ويثنون عليه ، ومن يغو ويفعل الشر لا تتركه اللوائم على فعله ، راجع شرح القصيدة ومناسبتها في كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة : ص 106 .
(6) قاله الزجاج في معاني القرآن واعرابه : ج 3 ص 336 .
(7) الفرقان : 68 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 460_
  أو : * (غيا) * عن طريق الجنة ، وقيل : غي : واد في جهنم (1) .
   * (لا يظلمون) * أي : لا ينقصون * (شيا) * من جزاء أعمالهم ولا يمنعونه .
  * (جنت عدن) * بدل من * (الجنة) * ، لأن * (الجنة) * اشتملت عليها ، قيل : إن ( المأتي ) مفعول بمعنى فاعل (2) ، والوجه : أن ( الوعد ) هو الجنة وهم يأتونها ، أو هو من قولك : أتى إليه إحسانا ، فمعناه : * (كان وعده) * مفعولا منجزا .
  * (لغوا) * أي : فضول كلام لا طائل فيه ، وهو تنبيه على وجوب تجنب اللغو حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها * (إلا) * تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم ، أي : فإن كان ذلك لغوا ف‍ * (لا يسمعون) * إلا ذلك ، فيكون من قبيل قول الشاعر : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب (3) كانت العرب تكره الوجبة ، وهي الأكلة الواحدة في اليوم الواحد ، فأخبر سبحانه أن * (لهم) * في الجنة * (رزقهم ... بكرة وعشيا) * وهي العادة المحمودة ، ولا يكون ثم ليل ولا نهار ولكن على التقدير .
  وقرئ : ( نورث ) بالتشديد (4) ، والمعنى : نبقي عليه الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث ، وقيل : أورثوا من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا (5) .

-------------------
(1) قاله ابن عباس في تفسيره : ص 257 .
(2) قاله الفراء في معاني القرآن : ج 2 ص 170 .
(3) والبيت للنابغة الذبياني من قصيدته المشهورة التي مطلعها :
كليني لهم يا اميمة iiناصب      وليل أقاسيه بطئ الكواكب
وقد تقدم شرح البيت في ج 1 ص 384 و 689 فراجع .
(4) قرأه رويس ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 526 .
(5) قاله الطبري في تفسيره : ج 8 ص 358 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 461_
  * (وما نتنزل) * حكاية قول جبرئيل (عليه السلام) حين استبطأه رسول الله (1) ، والتنزل له معنيان : أحدهما : النزول على مهل ، والآخر : النزول على الإطلاق ، والمراد هنا : أن نزولنا وقتا بعد وقت ليس * (إلا بأمر) * الله * (له ما) * قدامنا * (وما خلفنا) * من الجهات والأماكن وما نحن فيها ، فلا ننتقل من جهة إلى جهة إلا بأمره ومشيئته ، وقيل : ما مضى من أعمارنا وما بقي منها والحال التي نحن فيها (2) ، وقيل : ما مضى من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة (3) * (وما بين ذلك) * مابين النفختين وهو أربعون سنة ، وقيل : الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض (4) * (وما كان ربك نسيا) * أي : تاركا لك يا محمد ، كقوله : * (ما ودعك ربك وماقلى) * (5) ، وقيل : وما كان ربك ناسيا لأعمال العاملين (6) .
  وكيف يجوز النسيان والغفلة على من له ملك * (السموات والارض وما بينهما) * فحين عرفته بهذه الصفة * (فاعبده) * وحده * (واصطبر ل‍) * مشاق * (عبدته هل تعلم له سميا) * أي : مثلا وشبيها ، أي : إذا صح أن لا معبود إلا هو وحده لم يكن بد من عبادته ، وعن ابن عباس : لا يسمى أحد الرحمن غيره (7) ، وقيل : لم يسم شئ بالله قط (8) .
  * (وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئاً * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً)

-------------------
(1) في نسخة زيادة هنا : عما سأله المشركون من قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح .
(2) حكاه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 29 .
(3) قاله ابن عباس والربيع وقتادة والضحاك وأبو العالية ، راجع تفسير الطبري : ج 8 ص 360 .
(4) وهو قول ابن عباس على ما حكاه عنه القرطبي في تفسيره : ج 11 ص 129 .
(5) الضحى : 3 .
(6) وهو قول الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 30 .
(7) تفسير ابن عباس : ص 258 .
(8) قاله قتادة والكلبي ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 382 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 462 _
  * يجوز أن يكون المراد ب‍ * (الانسن) * الجنس بأسره ، لما كانت هذه المقالة موجودة في جنسهم أسندت إلى جميعهم ، وأن يكون بعض الجنس وهم الكفرة ، وانتصب * (إذا) * بفعل مضمر يدل عليه * (لسوف أخرج حيا) * ، لأن ما بعد لام الابتداء لا يعمل فيما قبله ، ودخلت * (ما) * للتوكيد ، كأنهم قالوا : أحقا أنا سنخرج أحياء بعد الموت ؟ ! والواو عطفت ( لا يذكر ) (1) على * (يقول) * ، والمعنى : أيقول ذلك (2) ولا يتذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر النشأة الأخرى ، فإن تلك أعجب وأدل على قدرة الصانع ، إذ أخرج الجواهر والأعراض (3) من العدم إلى الوجود على غير مثال سبق من غيره ، وأما الثانية فقد تقدمت نظيرتها وليس فيها إلا ردها على ما كانت عليه مجموعة بعد التفريق ، وقوله : * (ولم يك شيا) * دليل على هذا المعنى ، وقرئ : * (أولا يذكر) * بالتخفيف * (من قبل) * أي : من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه .
  أقسم سبحانه باسمه مضافا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، تفخيما لشأنه ورفعا لقدره ،

-------------------
(1) الظاهر من العبارة أن المصنف اعتمد على قراءة التشديد هنا كما هو واضح .
(2) في نسخة زيادة : استهزاء .
(3) ليس في بعض النسخ لفظة ( الأعراض ) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _463 _
  ويجوز أن يكون الواو في * (والشيطين) * للعطف ، وأن يكون بمعنى ( مع ) ، أي : يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أضلوهم ، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة * (ثم) * يحضرون * (حول جهنم) * متجاثين (1) مستوفزين (2) على الركب ، متخاصمين يتبرأ بعضهم من بعض ، ومثله : * (وترى كل أمة جاثية) * (3) .
  و ( الشيعة ) هنا هي الطائفة التي شاعت ، أي : تبعت غاويا من الغواة ، والمعنى : نستخرج * (من كل) * طائفة من طوائف الغي والضلال أعتاهم وأعصاهم ، فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب : نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم ، ويجوز أن يريد بأشدهم * (عتيا) * : رؤساء الشيع وأئمتهم لتضاعف جرمهم ، فإنهم ضلال ومضلون ، كقوله : * (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) * (4) .
  واختلف في إعراب * (أيهم أشد) * فقال الخليل (5) : إنه مرفوع على الحكاية والتقدير : * (لننزعن) * الذين يقال فيهم : * (أيهم أشد) * (6) ، وقال سيبويه : هو مبني على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلة * (أيهم) * وأصله : لننزعن من كل شيعة أيهم هو أشد ، منصوبا (7) .
  * (وإن منكم) * التفات إلى الإنسان ، ويعضده قراءة ابن عباس : ( وإن

-------------------
(1) الجثو : الجلوس على الركبتين ، أو القيام على أطراف الأصابع ، (القاموس : مادة جثا) .
(2) يقال : استوفز في قعدته : إذا قعد قعودا منتصبا غير مطمئن ، (الصحاح : مادة وفز) .
(3) الجاثية : 28 .
(4) العنكبوت : 13 .
(5) هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي، من أئمة اللغة والأدب وواضع علم العروض في الشعر ، ولد عام 100 ه‍ في البصرة ، وعاش فيها فقيرا صابرا مغمورا في الناس لايعرف ، وهو استاذ سيبويه النحوي ، توفي عام 170 ه‍ ، انظر وفيات الأعيان لابن خلكان : ج 2 ص 15 .
(6) حكاه عنه تلميذه سيبويه ومكي بن أبي طالب القيسي ، راجع كتاب سيبويه : ج 2 ص 339 ، ومشكل اعراب القرآن : ج 1 ـ 2 ص 458 .
(7) انظر كتاب سيبويه : ج 2 ص 399 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 464_
  منهم ) (1) ، أو خطاب للناس من غير التفات إلى المذكور ، فإن أريد الجنس كله فمعنى الورود : دخولهم فيها وهي خامدة (2) فيعبرها المؤمنون وتنهار النار بغيرهم ، وعن ابن مسعود والحسن : هو الجواز على الصراط ، لأن الصراط ممدود عليها (3) ، وعن ابن عباس : قد يرد الشئ الشئ وإن لم يدخله ، كقوله : * (ولما ورد ماء مدين) * (4) ووردت القافلة البلد وإن لم تدخله (5) (6) ، وعن مجاهد : ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا (7) ، لقوله (عليه السلام) : ( الحمى من فيح جهنم ) (8) ، و ( الحمى حظ كل مؤمن من النار ) (9) (10) وإن أريد الكفار خاصة فالمعنى ظاهر ، والحتم مصدر حتم الأمر : إذا أوجبه فسمي به الموجب ، أي : * (كان) * ورودهم واجبا * (على) * الله، أوجبه على نفسه وقضى به .
  وقرئ : * (ننجي) * و ( ننجي ) (11) بالتشديد والتخفيف (12) * (جثيا) * حال ، وهو جمع جاث .

-------------------
(1) حكاه عنه ابن خالويه في شواذ القرآن : ص 89 .
(2) في نسخة : جامدة .
(3 و 6) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 35 .
(4) القصص : 23 .
(5) في نسخة زيادة : ولكن قربت منه .
(7) حكاه عنه البغوي في تفسيره : ج 3 ص 205 .
(8) تعددت ألفاظ الحديث في روايات من طرق العامة ، انظر على سبيل المثال : صحيح البخاري : ج 4 ص 246 ح 3261 وج 7 ص 236 ح 5725 ، سنن ابن ماجة : ج 2 ص 1149 ح 3471 و 3473 ، ومسند احمد ج 1 ص 291 وج 2 ص 21 و 85 .
(9) مجمع الزوائد للهيثمي : ج 2 ص 306 ، الترغيب والترهيب للمنذري : ج 4 ص 300 .
(10) في نسخة زيادة : ويجوز أن يراد بالورود جثوهم حولها .
(11) وهي قراءة الكسائي ويعقوب ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 527 .
(12) في نسخة زيادة : وينجى وينجى على ما لم يسم فاعله إن اريد الجنس باسره فهو ظاهر ، وإن اريد الكفرة وحدهم ، فمعنى * (ثم ننجي الذين اتقوا) * : ان المتقين يساقون الى الجنة عقيب ورود الكفار ، لا أنهم يواردونهم ثم يتخلصون . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 465 _
  * (بينت) * ظاهرات الحجج ، مبينات المقاصد ، وهي حال مؤكدة ، كقوله تعالى : * (وهو الحق مصدقا) * (1) ، وقرئ : ( مقاما ) (2) بالضم وهو موضع الإقامة ، وقرئ بالفتح وهو موضع القيام ، والندي : المجلس وحيث ينتدي القوم ، والمعنى : أنهم إذا سمعوا الآيات (3) قالوا : * (أي الفريقين) * من المؤمنين بها والجاحدين لها أوفر حظا من الدنيا (4) .
  و * (كم) * مفعول * (أهلكنا) * ، و * (من) * تبيين لإبهامها ، أي : كثيرا من القرون أهلكنا ، و * (هم أحسن) * في موضع نصب صفة ل‍ * (كم) * ، والأثاث : متاع البيت ، وقرئ : * (ورءيا) * بالهمزة وغير الهمزة (5) وهو فعل بمعنى مفعول من رأيت ، ومن لم يهمز قلب الهمزة ياء وأدغم ، ويجوز أن يكون من الري الذي هو النعمة والترفه ، من قولهم : ريان من النعيم .
  * (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً * وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً * أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً)

-------------------
(1) البقرة : 91 .
(2) قرأه ابن كثير وحده ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 527 .
(3) في نسخة زيادة : وهم جهلة لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ، وذلك مبلغهم من العلم .
(4) في نسخة هنا زيادة : حتى يجعل ذلك عيارا على الفضل والنقص والرفعة والضعة ، ويروى انهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويتطيبون ويتزينون بالزين الفاخرة ، ثم يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم اكرم عند الله منهم .
(5) وهي قراءة نافع وابن عامر وابن ذكوان والأعشى ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 411 ، والتذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 527 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 466_
  * المعنى : مد * (له الرحمن) * أي : أمهله وأملى له في العمر (1) ، فأتى به على لفظ الأمر ليعلم بذلك أنه حتم مفعول لا محالة كالمأمور به ، ليقطع عذر الضال إذ عمره ما يمكنه التذكر فيه ، أو يكون في معنى الدعاء بأن يمهله الله، أو بمعنى : فليعش ما شاء فإنه لا ينفعه طول عمره * (حتى إذا رأوا) * الموعود رأي عين : * (إما العذاب) * في الدنيا وهو ظفر المسلمين بهم وتعذيبهم إياهم قتلا وأسرا * (وإما الساعة) * أي : يوم القيامة ، وما ينالهم من النكال * (ف‍) * حينئذ * (يعلمون) * أن الأمر على عكس ما قدروه ، وأنهم * (شر مكانا وأضعف جندا) * لا * (خير مقاما وأحسن نديا) * كما قالوه ، و * (حتى) * هذه هي التي تحكى بعدها الجمل ، والجملة هي قوله : * (إذا رأوا ما يوعدون ... فسيعلمون) * ، والندي : المجلس الجامع لوجوه القوم .
  * (ويزيد) * معطوف على موضع * (فليمدد) * والمعنى : يزيد في ضلال الضلال بخذلانه ، ويزيد في هداية المهتدين بتوفيقه ، و * (البقيت الصلحت) * وهي أعمال الآخرة كلها * (خير ... ثوابا) * من مفاخرات الكفار * (وخير) * مرجعا وعاقبة أو خير منفعة ، من قولهم : ليس لهذا الأمر مرد وهو أرد عليك أي : أنفع ، قال : ولا يرد بكاي زندا (2) ولما كانت رؤية الشئ طريقا إلى علمه ، وصحة الخبر عنه استعملوا ( أرأيت )

-------------------
(1) في نسخة زيادة : ويزيده بانواع التنعم : كقوله : * (ويمدهم في طغينهم) * .
(2) وصدر البيت : ما إن جزعت ولا هلعت ، وهو من قصيدة لعمرو بن معد يكرب ، وقبله :
كم من أخ لي صالح      بـوأته بـيدي iiلحدا
يقول : إن هذا الأخ الصالح ماحزنت عليه حزنا شديدا ولا هينا ، وهذا نفي الحزن رأسا ، وهو لا يريد البكاء عليه ، إذ لا يغني بكاه شيئا ، فتعقيبه نفي الجزع بهذا تنبيها على أن صبره عن تأدب وتبصر ومعرفة بالعواقب ، انظر خزانة الأدب للبغدادي : ج 11 ص 218 ـ 219 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 467 _
  في معنى ( أخبر ) ، والفاء جاءت للتعقيب ، فكأنه قال : أخبر أيضا بقصة هذا الكافر عقيب حديث أولئك وهو العاص بن وائل : كان لخباب بن الأرت عليه دين تقاضاه ، فقال : لا والله حتى تكفر بمحمد ، فقال : لا والله لا أكفر بمحمد حيا ولا ميتا ، ولا حين تبعث (1) ، قال : فإني لمبعوث ؟ فإذا بعثت سيكون لي مال وولد فأعطيك .
  * (أطلع الغيب) * من قولهم : اطلع الجبل : إذا ارتقى إلى أعلاه ، والمعنى : أو قد بلغ من عظمة قدره أن ارتقى إلى علم الغيب حتى علم أنا سنؤتيه * (مالا وولدا ... أم اتخذ عند) * الله * (عهدا) * ؟ فإن ما ادعاه لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الطريقين ، وقرئ : ( ولدا ) (2) وهو جمع ولد .
  * (كلا) * ردع وتنبيه على الخطأ ، أي : هو مخطئ فيما تصوره لنفسه وتمناه ، فليرتدع عنه .
  * (ونرثه ما يقول) * أي : ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه * (ويأتينا فردا) * وحيدا بلا مال ولا ولد ولا عدة ولا عدد .
  * (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً * أَلَمْ تَرَى أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً * يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً * لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً) *

-------------------
(1) في نسخة زيادة : يا كافر .
(2) وهي قراءة حمزة والكسائي ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 527 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 468 _
  أي : ليتعززوا بآلهتهم بأن يكونوا لهم شفعاء في الآخرة .
  * (كلا) * ردع لهم وإنكار لتعززهم بهم * (سيكفرون) * الضمير ل‍ ( الآلهة ) أي : سيجحدون عبادتهم وينكرونها ويقولون : والله ما عبدتمونا ، كقوله : * (وإذا رءا الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكذبون) * (1) أو للمشركين ، أي : ينكرون أن يكونوا عبدوها كما في قوله : * (والله ربنا ماكنا مشركين) * (2) ، * (ويكونون عليهم ضدا) * هو في مقابلة * (لهم عزا) * والمراد : ضد العز وهو الذل والهوان ، أي : يكونون عليهم ضدا لما قصدوه وذلا لهم لا عزا ، أو يكونون عليهم عونا ، والضد : العون ، لأنه يضاده بإعانته عليه ، وإنما وحد لأنهم كشئ واحد في تضامهم وتوافقهم ، كقوله (عليه السلام) : ( وهم يد على من سواهم ) (3) .
  * (تؤزهم أزا) * أي : تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية ، وتهيجهم وتغريهم لها بالوساوس ، والمعنى : خلينا بينهم وبينهم ولم نمنعهم (4) ولم نحل بينهم وبينهم بالإلجاء .
  * (فلا تعجل عليهم) * بأن يهلكوا ويبيدوا حتى تستريح منهم ، فليس بينك وبين هلاكهم إلا أياما معدودة قليلة .
  وعن ابن عباس : أنه كان إذا قرأها بكى وقال : آخر العدد خروج نفسك ، آخر العدد فراق أهلك ، آخر العدد دخول قبرك (5) .

-------------------
(1) النحل : 86 .
(2) الانعام : 23 .
(3) أخرجه النسائي في سننه : ج 8 ص 20 من كتاب القسامة باسناده عن علي (عليه السلام) .
(4) في نسخة زيادة : ولم نعصمهم ، وقيل : سلطناهم كقوله : * (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطنا) * وسميت التخلية باسم الإرسال مجازا كقوله : * (فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل) * أي : سلطنا .
(5) حكاه عنه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 42 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 469 _
  وعن ابن السماك (1) : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد (2) .
  ذكر * (المتقين) * بلفظ التبجيل ، وهو أنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته كما يفد الوفاد على الملوك ينتظرون فضله وإكرامه ، وذكر الكافرين بأنهم يساقون إلى النار باستخفاف وإهانة كأنهم إبل عطاش تساق إلى الماء .
  * (لا يملكون) * الواو ضمير العباد ، ودل عليه ذكر * (المتقين) * و * (المجرمين) * ، و * (من اتخذ) * بدل ، ويجوز أن تكون علامة الجمع على لغة من قال : أكلوني البراغيث ، والفاعل * (من اتخذ) * لأنه في معنى الجمع ، وإن نصبت * (من اتخذ) * على تقدير حذف المضاف جاز ، أي : * (إلا) * شفاعة * (من اتخذ) * ، والمراد : لا يملكون أن يشفع لهم ، واتخاذ العهد هو الاستظهار بالإيمان والإقرار بوحدانية الله وتصديق أنبيائه وأوليائه ، وقيل : إن المعنى : لا يشفع إلا من أطلق الرحمن له الشفاعة وأذن له فيه كالأنبياء والأئمة وخيار المؤمنين (3) .
  وعن ابن مسعود : أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لأصحابه ذات يوم : ( أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهدا ؟ ) قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : ( يقول : اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، وإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعل

-------------------
(1) هو أبو عمرو عثمان بن أحمد بن عبد الله الدقاق ، المعروف بابن السماك ، من أهل بغداد ، كان مكثرا من الحديث ، وله حلقة درس ، مات عام 344 ه‍ ببغداد ودفن بمقبرة باب الدير ، راجع الانساب للسمعاني : ج 3 ص 290 .
(2) حكاه عنه الرازي في تفسيره : ج 21 ص 252 .
(3) قاله ابن عطية ، راجع البحر المحيط لأبي حيان : ج 6 ص 218 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 470_
  لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة ، إنك لاتخلف الميعاد .
  فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة ) (1) ، والإد : العظيم المنكر ، وقيل : العجب (2) .
  وقرئ : * (تكاد) * بالياء (3) والتاء ، وقرئ : ( ينفطرن ) (4) من الانفطار ، و * (يتفطرن) * ، و * (هدا) * أي : مهدودة ، أو تهد هدا ، أو مفعول له أي : لأنها تهد (5) .
  و * (أن دعوا) * يجوز أن يكون مجرورا بدلا من الهاء في * (منه) * ، ومنصوبا بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي : لأن دعوا ، فيكون قد علل الخرور بالهد ، والهد بدعاء الولد * (للرحمن) * ، ومرفوعا بأنه فاعل * (هدا) * أي : * (تخر) * لأن هدها دعاء الولد * (للرحمن) * .
  * (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً * فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) * ( انبغى ) مطاوع (بغى ) : إذا طلب ، أي : * (ما) * يتأتى لله اتخاذ الولد ، وما

-------------------
(1) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 43 ـ 44 ، وابن حجر في الكاف الشاف : ص 108 .
(2) قاله ابن خالويه في شواذ القرآن : ص 89 .
(3) وهي قراءة نافع والكسائي ، راجع كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : ص 413 .
(4) قرأه حمزة وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر ، راجع الكشف عن وجوه القراءات للقيسي : ج 2 ص 93 .
(5) هد البناء يهده هدا : إذا كسره وضعضعه ، (الصحاح : مادة هدد) . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 471_
  ينطلب له لو طلب مثلا لأنه مستحيل .
  * (لقد أحصيهم) * أي : حصرهم بعلمه ، والمعنى : مامن معبود لهم * (في السموات والارض) * من الملائكة ومن الناس * (إلا) * وهو يأتي * (الرحمن) * أي : يأوي إليه * (عبدا) * منقادا لا يدعي لنفسه ما يدعيه هؤلاء له .
  * (وكلهم) * مقهورون ، متقلبون (1) في ملكوته ، وهو محيط بهم وبجمل (2) أمورهم وتفاصيلها وكيفيتهم وكميتهم لا يفوته شئ من أحوالهم ، وكل واحد منهم يأتيه * (يوم القيمة) * منفردا ، بريئا من هؤلاء المشركين .
  * (ودا) * عن ابن عباس : يعني يحبهم الله ويحببهم إلى خلقه (3) .
  وروي عن الباقر (عليه السلام) وجابر بن عبد الله: ( أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام) : قل : اللهم اجعل لي عندك عهدا ، واجعل لي في قلوب المؤمنين ودا ، فقالهما ، فنزلت ) (4) .
  وعن قتادة : ما أقبل العبد إلى الله تعالى إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه (5) .
  بلغ هذا القرآن وبشر به وأنذر * (فإنما) * أنزلناه * (بلسانك) * أي : بلغتك وهو اللسان العربي ، و * (يسرنه) * لك * (لتبشر ... وتنذر) * ، واللد : جمع الألد وهو الشديد الخصومة بالباطل ، الآخذ في كل لديد أي : كل جانب من الجدال ، يريد أهل مكة .
  * (وكم أهلكنا) * تخويف لهم ، و * (تحس) * من أحسه : إذا شعر به ، ومنه الحاسة ، والركز : الصوت الخفي ، أي : لا يرى لهم عين ولا يسمع لهم صوت ، وكانوا أكثر أموالا وأكبر أجساما وأشد خصاما من هؤلاء ، فحكم هؤلاء حكمهم .

-------------------
(1) في بعض النسخ : منقلبون .
(2) في نسخة : بمجمل .
(3) تفسير ابن عباس : ص 259 .
(4) تفسير القمي : ج 2 ص 56 عن الصادق (عليه السلام) ، ونحوه في تفسير العياشي : ج 2 ص 141 قطعة ح 11 .
(5) أخرجه عنه الطبري في تفسيره : ج 8 ص 386 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 473 _
سورة طه مكية (1)
  وهي مائة وخمس وثلاثون آية كوفي ، اثنتان بصري ، عد الكوفي : * (طه) * * (نسبحك كثيرا) * (2) * (ونذكرك كثيرا) * (3) * (لنفسي) * (4) * (ما غشيهم) * (5) * (رأيتهم ضلوا) * (6) ، وعد البصري : * (فتونا) * (7) * (منى هدى) * (8) * (زهرة الحيواة الدنيا) * (9) .
  في حديث أبي : ( من قرأها أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار ) (10) .
  وعن الصادق (عليه السلام) : ( لا تدعوا قراءة طه ، فإن الله يحبها ويحب من قرأها ، ومن أدمن قراءتها أعطاه الله كتابه بيمينه ولم يحاسبه بما عمل في الإسلام ، وأعطي من الأجر حتى يرضى ) (11) .

-------------------
(1) قال الزمخشري في كشافه : ج 3 ص 49 : مكية إلا آيتي 130 و 131 فمدنيتان ، وهي 135 آية ، نزلت بعد مريم .
(2 و 3) الآية : 33 و 34 .
(4) الآية : 41 .
(5) الآية : 78 .
(6) الآية : 92 .
(7) الآية : 40 .
(8) الآية : 123 .
(9) الآية : 131 .
(10) رواه الزمخشري في الكشاف : ج 3 ص 100 مرسلا .
(11) ثواب الأعمال للصدوق : ص 134 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 474 _
بسم الله الرحمن الرحيم

  * (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) * قرئ بتفخيم * (ط) * وإمالة * (ـ ه) * (1) ، وقرئ بإمالتهما (2) ، وتفخيمهما (3) ، وعن الحسن : ( طه ) (4) ، وفسر بأنه أمر بالوط ء (5) ، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه ، فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معا (6) ، وروي ذلك عن الصادق (عليه السلام) (7) ، والأصل ( طأ ) فقلبت همزته هاء ، أو قلبت ألفا في ( يطأ ) ثم بني عليه الأمر ، والهاء للسكت .
  * (مآ أنزلنا) * إن جعلت * (طه) * اسما للسورة احتمل أن يكون خبرا عنه وهو مبتدأ و * (القرءان) * أوقع موقع الضمير لأن السورة قرآن ، واحتمل أن يكون جوابا

-------------------
(1) وهي قراءة أبي عمرو وورش وأبي اسحاق ، راجع التذكرة في القراءات لابن غلبون : ج 2 ص 531 ، وتفسير القرطبي : ج 11 ص 168 .
(2) قرأه حمزة والكسائي والأعمش وخلف وأبو بكر الا الأعشى والبرجمي ، راجع التبيان: ج 7 ص 157 ، وتفسير القرطبي : ج 11 ص 168 .
(3) وهي قراءة الجمهور ، راجع المصادر السابقة .
(4) تفسير الحسن البصري : ج 3 ص 115 .
(5) وهو ما حكاه ابن الأنباري ، راجع تفسير الماوردي : ج 3 ص 393 .
(6) رواه ابن عباس والربيع بن أنس كلاهما عنه (صلى الله عليه وآله) ، راجع تفسير السمرقندي : ج 2 ص 336 ، وتفسير ابن كثير : ج 3 ص 138 .
(7) انظر تفسير القمي : ج 2 ص 57 ـ 58 . (*)

تفسير جوامع الجامع (الجزء الثاني) _ 475 _
  له وهو قسم * (لتشقى) * أي : لتتعب هذا التعب ، وكان (عليه السلام) يصلي الليل كله ويعلق صدره بحبل حتى لا يغلبه النوم ، فأمره الله سبحانه أن يخففه على نفسه ، و (الشقاء ) يجئ بمعنى ( التعب ) ومنه المثل : ( أتعب من رائض مهر ) و ( أشقى من رائض مهر ) .
  * (تذكرة) * علة للفعل و * (لتشقى) * كذلك ، إلا أن هذا وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل (1) ، والمعنى : لكن أنزلناه * (ل‍) * نذكر به * (من يخشى) * الله، والتذكرة بمعنى التذكير .
  * (تنزيلا) * أي : ننزل تنزيلا ، ويجوز أن ينصب ب‍ * (أنزلنا) * لأن معنى ( مآ أنزلناه إلا تذكرة ) : أنزلناه تذكرة ، أو يكون بمعنى : أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله، وما بعد * (تنزيلا) * إلى قوله : * (له الاسماء الحسنى) * تعظيم لشأن المنزل لنسبته إلى من هذه أفعاله وصفاته ، و * (العلى) * جمع ( العليا ) تأنيث ( الأعلى ) ، ووصف * (السموات) * بذلك دلالة على عظم اقتدار من يخلق مثلها في علوها .
  و * (الرحمن) * مرفوع على المدح على تقدير : هو الرحمن ، والجملة التي هي * (على العرش استوى) * يجوز أن تكون خبر لمبتدأ محذوف ، وأن تكون مع * (الرحمن) * خبرين للمبتدأ ، ولما كان الاستواء * (على العرش) * الذي هو سرير الملك مما يردف (2) الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا : استوى على العرش بمعنى : ملك ، ونحوه : قولهم : يد فلان مبسوطة أي : هو جواد ، ويده مغلولة أي : هو بخيل ، من غير تصور يد ولا غل ولا بسط .
  * (وما تحت الثرى) * أي : ما في ضمن الأرض من الكنوز والأموات .

-------------------
(1) في نسخة زيادة : به ففاتته شريطة الانتصاب .
(2) في نسخة : يرادف . (*)