والمعنى : * (ولقد ءاتينا) * يا بني إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم * (أفكلما جاءكم رسول) * منهم بالحق * (استكبرتم) * عن الإيمان به ، فوسط بين الفاء وما تعلقت به همزة التوبيخ والتعجيب من شأنهم ، ويجوز أن يريد : ولقد آتيناهم ما آتيناهم ففعلتم ما فعلتم ، ثم وبخهم على ذلك ، ودخول الفاء لعطفه على المقدر ، ولم يقل : وفريقا قتلتم لأنه أريد الحال الماضية ، لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب .
*
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ ) * (88) *
(قلوبنا غلف) * جمع أغلف ، أي : هي خلقت مغشاة بأغطية لا يصل إليها ما جاء به محمد
(صلى الله عليه وآله) ولا تفقهه
(1) ، مستعار من الأغلف الذي لم يختن ، كقولهم : * (قلوبنا في أكنة) *
(2) ، ثم رد الله عليهم بقوله : * (بل لعنهم الله بكفرهم) * أي : ليس ذلك كما زعموا : أن قلوبهم خلقت كذلك ، لأنها خلقت على الفطرة ، لكن الله لعنهم وخذلهم بسبب كفرهم وأبعدهم من رحمته * (فقليلا ما يؤمنون) * فإيمانا قليلا يؤمنون ، و * (ما) * مزيدة، وهو إيمانهم ببعض الكتاب ، ويجوز أن يكون القلة بمعنى العدم . *
(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ) * (89) سورة البقرة / 90 و 91 * (كتب من عند الله) * هو القرآن * (مصدق لما معهم) * من الكتب المنزلة : التوراة والإنجيل وغيرهما ، لا يخالفها ، وجواب * (لما) * محذوف وهو نحو كذبوا
--------------------
(1) في نسخة : تفهمه .
(2) فصلت : 5 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 127 _
به وما أشبهه
(1) ، وقيل : إن قوله : * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) * في موضع جواب * (لما) * الأول وكرر ( لما ) لطول الكلام
(2)، وقيل : إن جواب الثاني أغنى عن جواب الأول
(3) *
(وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) * يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم ، يقولون : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة ، وكانوا يقولون : قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم
(4) * (فلما جاءهم ما عرفوا) * من الحق * (كفروا به) * بغيا وحسدا وحرصا على الرياسة * (فلعنة الله) * أي : غضبه وعذابه * (على الكفرين) * أي : عليهم وضع الظاهر موضع الضمير
(5) .
*
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ) * (91)( ما ) نكرة منصوبة مفسرة لفاعل ( بئس ) ، أي : بئس شيئا * (اشتروا به
--------------------
(1) وهو قول الأخفش في معاني القرآن : ج 1 ص 319 ، والزجاج في معاني القرآن : ج 1 ص
171 ، والزمخشري في الكشاف : ج 1 ص 164 .
(2) حكاه الرازي في تفسيره : ج 3 ص 180 ونسبه الى المبرد .
(3) قاله الفراء في معاني القرآن : ج 1 ص 59 ، وعنه الرازي في تفسيره : ج 3 ص 180 .
(4) اختلفوا في إرم عاد ، فقال بعضهم : هو اسم قبيلة ، وقال آخر : هو اسم مدينة ، ثم
اختلفوا فيها ، فمنهم من قال : هي أرض كانت فاندرست ، ومنهم من قال : هي الاسكندرية
وإليه ذهب الزمخشري ، ومنهم من قال : هي دمشق ، وروى آخرون : هي مدينة باليمن بين
حضرموت وصنعاء بناها شداد بن عاد ، (معجم البلدان : ج 1 ص 212) .
(5) في نسخة : المضمر . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 128 _
أنفسهم) * والمخصوص بالذم * (أن يكفروا) * واشتروا بمعنى باعوا * (بغيا) * أي : حسدا وطلبا لما ليس لهم ، وهو مفعول له * (أن ينزل الله من فضله) * أي : على أن ينزل الله من فضله الذي هو الوحي والنبوة * (على من يشآء من عباده) * ويقتضي حكمته إرساله * (فبآءو بغضب على غضب) * فصاروا أحقاء لغضب متوال ، لأنهم كفروا بنبي الحق وبغوا عليه ، وقيل : بكفرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله) بعد عيسى (عليه السلام) (1) ، وقوله : * (بمآ أنزل الله) * مطلق في كل كتاب أنزله الله، وقوله : * (بمآ أنزل علينا) * مقيد بالتوراة * (ويكفرون بما وراءه) * أي : قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة * (وهو الحق مصدقا لما معهم) * منها غير مخالف له ، وفيه رد لمقالتهم ، لأنهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها * (قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) * اعتراض (2) عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادعائهم الإيمان بالتوراة ، والتوراة لا ترخص في قتل الأنبياء .
* (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ) * (92) يعني : * (جاءكم موسى) * بالمعجزات الدالة على صدقه * (ثم اتخذتم العجل) * إلها معبودا من بعد مجيئه ، أو من بعد موسى لما مضى إلى ميقات ربه * (وأنتم ظلمون) * وأنتم واضعون العبادة في غير موضعها ، فتكون الجملة حالا أو تكون اعتراضا بمعنى : وأنتم قوم عادتكم الظلم ، سورة البقرة / 93 و 94 * (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (93)
--------------------
(1) نسبه السمرقندي في تفسيره : ج 1 ص 137 الى مقاتل .
(2) في بعض النسخ : اعترض . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 129 _
كرر سبحانه ذكر * (الطور) * ورفعه فوقهم ، لما في الثانية من الزيادة غير المذكورة في الأولى مع ما فيه من التوكيد * (واسمعوا) * لما أمرتم به في التوراة * (قالوا سمعنا) * قولك * (وعصينا) * أمرك * (وأشربوا في قلوبهم العجل) * أي : تغلغل في بواطنهم وتداخلها حب العجل والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ ، وقوله : * (في قلوبهم) * بيان لمكان الإشراب ، كقوله : * (إنما يأكلون في بطونهم نارا) * (1) ، * (بكفرهم) * أي : بسبب كفرهم * (قل بئسما يأمركم به إيمنكم) * بالتوراة ، لأنه ليس في التوراة عبادة العجل ، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم ، كما قال قوم شعيب : * (أصلوتك تأمرك) * (2) ، وكذلك إضافة الإيمان إليهم ،
وقوله : * (إن كنتم مؤمنين) * تشكيك في إيمانهم ، وقدح في صحة دعواهم له .
* (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ) * (94) * (خالصة) * نصب على الحال من * (الدار الاخرة) * والمراد الجنة ، أي : خالصة لكم خاصة بكم ليس لأحد سواكم فيها حق كما تزعمون في قولكم : * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا) * (3) ، و * (الناس) * للجنس ، وقيل : للعهد وهم المسلمون (4) * (فتمنوا الموت) * لان من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة
--------------------
(1) النساء : 10 .
(2) هود : 87 .
(3) البقرة : 111 .
(4) حكاه الماوردي في تفسيره : ج 1 ص 161 عن ابن عباس ، وانظر الفريد في إعراب القرآن
للهمداني : ج 1 ص 342 . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 130 _
الوصول إلى نعيمها ، كما روي : أن عليا (عليه السلام) كان يطوف بين الصفين بصفين في غلالة ، فقال له ابنه الحسن (عليه السلام) : ماهذا بزي المحاربين ، فقال : يا بني لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط الموت (1) .
ويروى : أن حبيب بن مظاهر (2) ضحك يوم الطف ، فقيل له في ذلك ، فقال : وأي موضع أحق بالسرور من هذا الموضع ؟ ! والله ما هو إلا أن يقبل علينا هؤلاء القوم (3) بسيوفهم فنعانق الحور العين (4) .
* (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) * (95) هذا من المعجزات لأنه إخبار بالغيب ، وكان كما أخبر به ، وفي الحديث : ( لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه فمات مكانه ، وما بقي على وجه الأرض يهودي ) (5) ، * (بما قدمت أيديهم) * أي : بما أسلفوا من موجبات النار من تحريف كتاب الله والكفر بمحمد (صلى الله عليه وآله) وغير ذلك من أنواع الكفر ، والتمني : قول الإنسان بلسانه : ليت لي كذا * (والله عليم بالظلمين) * تهديد لهم .
سورة البقرة / 96 * ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) *
--------------------
(1) رواها في الكشاف : ج 1 ص 166 ، وأوردها في مجمع البيان : ج 1 ـ 2 ص 164 .
(2) أبو القاسم حبيب بن مظهر أو مظاهر بن رئاب ابن الاشتر الأسدي الكندي ثم
الفقعسي ، وكان ذا جمال وكمال ، وفي وقعة كربلاء كان عمره 75 سنة ، وكان يحفظ القرآن
كله ، ويختمه في كل ليلة من بعد صلاة العشاء الى طلوع الفجر ، قال أهل السير : إن
حبيبا نزل الكوفة وصحب عليا (عليه السلام) في حروبه كلها ، وكان من خاصته وحملة
علومه ، استشهد مع الحسين (عليه السلام) في كربلاء سنة 61 ه ، (أعيان الشيعة : ج 4 ص
554) .
(3) في نسخة : الطغام .
(4) رجال الكشي : ص 79 ، سفينة البحار : ج 1 ص 203 ـ 204 .
(5) رواه البغوي في تفسيره : ج 1 ص 95 عن ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله) ، ونقله
في الكشاف : ج 1 ص 167 مرفوعا . (*)
تفسير جوامع الجامع (الجزء الاول)
_ 131 _