تعتقده الدنيا في هويتها اعتقاداً ، وما كانت تسير فيها سيرتها عملاً .
أما هويتها : فإنه بين أن المرأة كالرجل إنسان ، وأن كل انسان ذكر أو انثى فإنه انسان يشترك في مادته وعنصره إنسانان ذكر وانثى ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى .
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )
(1) .
فجعل تعالى كل إنسان مأخوذا مؤلفاً من انسانين ذكر واُنثى هما معاً وبنسبة واحدة مادة كونه ووجوده ، وهو سواء كان ذكراً أو أنثى مجموع المادة المأخوذة منهما ، ولم يقل تعالى : مثل ما قاله القائل :
وإنما أمهات الناس أوعية
ولا قال مثل ما قاله الآخر :
بـنونا بـنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد |
بل جعل تعالى كُلاً مخلوقاً مؤلفاً من كل ، فعاد الكل أمثالاً ، ولا بيان أتم ولا أبلغ من هذا البيان ، ثم جعل الفضل في التقوى .
وقال تعالى : ( أني اُضيع عمل عامل منكم من ذكر أو انثى بعضكم من بعض )
(2) .
فصرح أن السعي غير خائب والعمل غير مضيّع عند الله ، وعلل ذلك بقوله : بعضكم من بعض فعبر صريحاً بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة : ( إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ) ، وهو ان الرجل والمرأة جميعاً من نوع واحد
**************************************************************
(1) سورة الحجرات ، الآية : 13 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 195 .
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 108 ـ
من غير فرق في الأصل والسنخ .
ثم بين بذلك أن عمل كل واحدٍ من هذين الصنفين غير مضيع عند الله لا يبطل في نفسه ، ولا يعدوه إلى غيره ، كل نفس بما كسبت رهينة ، لا كما كان يقوله الناس : إن عليهن سيئاتهن ، وللرجال حسناتهن من منافع وجودهن ، وسيجيء لهذا الكلام مزيد توضيح .
وإذا كان لكل منهما ما عمل ولا كرامة إلا بالتقوى ، ومن التقوى الأخلاق الفاضلة كالايمان بدرجاته ، والعلم النافع ، والعقل الرزين ، والخلق الحسن ، والصبر ، والحلم فالمرأة المؤمنة بدرجات الإيمان ، أو المليئة علماً ، أو الرزينة عقلاً ، أو الحسنة خلقاً أكرم ذاتاً وأسمى درجة ممن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الاسلام ، كان من كان ، فلا كرامة إلا للتقوى والفضيلة .
وفي معنى الآية السابقة وأوضح منها قوله تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) (1) .
وقوله تعالى : ( ومن عمل صالحاً من ذكر أو انثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ) (2) .
وقوله تعالى : ( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) (3) .
وقد ذم الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله ، وهو من أبلغ
**************************************************************
(1) سورة النحل ، الآية : 97 .
(2) سورة المؤمن ، الآية : 40 .
(3) سورة النساء ، الآية : 124 .
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 109 ـ
الذم : ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ )
(1) .
ولم يكن تواريهم إلا لعدهم ولادتها عاراً على المولود له ، وعمدة ذلك أنهم كانوا يتصورون أنها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتع بها ، وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن ، فيعود عاره إلى بيتها وأبيها ، ولذلك كانوا يئدون البنات وقد سمعت السبب الأول فيه فيما مر ، وقد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه حيث قال : ( وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ )
(2) .
وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من اسلافهم ، ولم يغسل رينها من قلوبهم المربون ، فتراهم يعدون الزنا عاراً لازماً على المرأة وبيتها وإن تابت دون الزاني وإن أصر ، مع أن الإسلام قد جمع العار والقبح كله في المعصية ، والزاني والزانية سواء فيها .
**************************************************************
(1) سورة النحل ، الآيتان : 58 ـ 59 .
(2) سورة التكوير ، الآيتان : 8 ـ 9 .
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 110 ـ
الوزن الاجتماعي للمرأة في الاسلام
فالإسلام ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير شؤون الحياة بالإرادة والعمل فإنهما متساويان من حيث تعلق الإرادة بما تحتاج إليه البنية الإنسانية في الأكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء ، وقد قال تعالى : ( بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ )
(1) فلها أن تستقل بالإرادة ولها أن تستقل بالعمل وتمتلك نتاجهما كما للرجل ذلك من غير فرق ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) فهما سواء فيما يراه الإسلام ويحقه القرآن والله يحق الحق بكلماته غير أنه قرر فيها خصلتين ميزها بهما الصنع الإلهي .
إحداهما : أنها بمنزلة الحرث في تكون النوع ونمائه فعليها يعتمد النوع من بقائه فتختص من الأحكام بمثل ما يختص به الحرث ، وتمتاز بذلك منن الرجل .
والثانية : أن وجودها مبني على لطافة البنية ورقة الشعور ، ولذلك أيضاً تأثير في أحوالها الوظائف الاجتماعية المحولة اليها . فهذا وزنها
**************************************************************
(1) سورة آل عمران ، الآية : 195 .
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 112 ـ
الاجتماعي ، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع ، وإليه تنحل جميع الأحكام المشتركة بينهما ، وما يختص به أحدهما في الاسلام ، قال تعالى : ( وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا )
(1) .
يريد أن الأعمال التي يهديها كل من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختص به من الفضل ، وإن من هذا الفضل ما تعين لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث ، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها ، فلا ينبغي أن يتمناه متمن ، ومنه ما لم يتعين إلا بعمل العامل كائناً من كان كفضل الله يؤتيه من يشاء ، واسألوا الله من فضله ، والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعده : الرجال قوامون على ما سيجيء بيانه .
مساواة في الأحكام
وأما الأحكام المشتركة والمختصة : فهي تشارك الرجل في جميع الأحكام العبادية والحقوق الإجتماعية فلها أن تستقل فيما يستقل به الرجل من غير فرق في إرث ولا كسب ولا معاملة ولا تعليم وتعلم ولا اقتناء حق ولا دفاع عن حق وغير ذلك إلا في موارد يقتضي طباعها ذلك .
وعمدة هذه الموارد : أنها لا تتولى الحكومة والقضاء ، ولا تتولى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور والاعانة على الأمر كمداواة الجرحى مثلاً ، ولها نصف سهم الرجل في الارث ، وعليها : الحجاب وستر
**************************************************************
(1) سورة النساء ، الآية : 32 .
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 113 ـ
مواضع الزينة ، وعليها أن تطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتع منها ، وتدرك ما فاتها بأن نفقتها في الحياة على الرجل : الأب أو الزوج ، وان عليه أن يحمي عنها منتهى ما يستطيعه ، وأن لها حق تربية الولد وحضانته .
وقد سهل الله لها أنها محمية النفس والعرض حتى عن سوء الذكر ، وان العبادة موضوعة عنها أيام عادتها ونفاسها ، وأنها لازمة الارفاق في جميع الأحول .
والمتحصل من جميع ذلك : أنها لا يجب عليها في جانب العلم إلا العلم باُصول المعارف والعلم بالفروع الدينية ( أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع ) ، وأما في جانب العمل ، فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتع به منها ، واما تنظيم الحياة ـ الفردية بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت وكذا ـ المداخلة في ما يصلح المجتمع العام كتعلم العلوم واتخاذ الصناعات والحرف المفيدة ـ للعامة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شيء من ذلك ، ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية ، ونحو ذلك كلها فضلاً لها تتفاضل به ، وفخراً لها تتفاخر به ، وقد جوز الإسلام بل ندب إلى التفاخر بينهن ، مع أن الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب .
والسنة النبوية : تؤيد ما ذكرناه ، ولولا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طرفاً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع زوجته خديجة ومع بنته سيد النساء فاطمة الزهراء عليها السلام ومع نسائه ومع نساء قومه وما وصى به في أمر النساء ، والمأثور من طريقة أئمة أهل البيت ونسائهم كزينب بنت علي وفاطمة وسكينة بنتي الحسين وغيرهن على جماعتهم السلام ، ووصاياهم في أمر النساء ، ولعلنا نوفق لنقل شطر منها في الأبحاث الروائية
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 114 ـ
المتعلقة بآيات النساء .
وإنما الأساس الذي بنيت عليه هذه الاحكام والحقوق فهو الفطرة ، وقد علم من الكلام في وزنها الإجتماعي ، كيفية هذا البناء ، ونزيده هاهنا إيضاحات فنقول : لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الإجتماع وما يتصل بها من المباحث العلمية أن الوظائف الاجتماعية والتكاليف الاعتبارية المتفرعة عليها يجب انتهائها بالآخرة إلى الطبيعة ، فخصوصية البنية الطبيعية الإنسانية هي التي هدت الإنسان إلى هذا الإجتماع النوعي الذي لا يكاد يوجد النوع خالياً عنه في زمان ، وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحة إلى مجرى الفساد كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخلقة ، أو عن صحته الطبيعية إلى القسم والعاهة .
فالإجتماع بجميع شؤونه وجهاته سواء كان اجتماعاً فاضلاً أو اجتماعاً فاسداً ينتهي في النهاية إلى الطبيعة ، وان اختلف القسمان من حيث ان المجتمع الفاسد يصادف في طريق الإنتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الإجتماع الفاضل .
فهذه حقيقة ، وقد أشار اليها تصريحاً أو تلويحاً الباحثون من هذه المباحث وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهي فبينه بأبدع البيان ، قال تعالى: ( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )
(1) .
وقال تعالى : ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى )
(2) .
وقال تعالى : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
**************************************************************
(1) سورة طه ، الآية : 50 .
(2) سورة الاعلى ، الآيتان : 2 ـ 3 .
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 115 ـ
وتقواها )
(1) ، إلى غير ذلك من آيات القدر ، فالأشياء ومن جملتها الإنسان إنما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خلقت له وجهزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة ، والحياة القيمة بسعادة الإنسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة ، والفطرة انطباقاً تاماً ، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهاءً صحيحاً ، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم )
(2) .
والذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الإجتماعية بين الأفراد ـ على أن الجميع إنسان ذو فطرة بشرية ـ أن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف من غير أن يحبا بعض ويضطهد آخرون بإبطال حقوقهم ، لكن ليس مقتضى هذه التسوية التي يحكم بها العدل الإجتماعي أن يبذل كل مقام إجتماعي لكل فرد من أفراد المجتمع ، فيتقلد الصبي مثلاً على صباوته والسفيه على سفاهته ، ما يتقلده الإنسان العاقل المجرب ، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القوي المقتدر في الشؤون والدرجات ، فإن في تسوية حال الصالح وغير الصالح إفساداً لما لهما معاً .
بل الذي يقتضيه العدل الإجتماعي ويفسر به معنى التسوية : ان يعطي كل ذي حق حقه وينزل منزلته ، فالتساوي بين الأفراد والطبقات إنما هو في نيل كل ذي حق خصوص حقه من غير أن يزاحم حق حقاً ، أو يهمل أو يبطل حق بغياً أو تحكماً ونحو ذلك ، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى : ( ولهن
**************************************************************
(1) سورة الشمس ، الآيتان : 7 ـ 8 .
(2) سورة الروم ، الآية : 30 .
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 116 ـ
مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ) ( الآية ) ، كما مر بيانه ، فأن الآية تصرح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن وبين الرجال .
ثم إن اشتراك القبيلين أعني الرجال والنساء في أصول المواهب الوجودية أعني ، الفكر والإرادة المولدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرية الفكر والإرادة اعني الاختيار ، فلها الاستقلال بالتصرف في جميع شؤون حياتها الفردية والاجتماعية عدا ما منع عنه مانع ، وقد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال والحرية على أتم الوجوه كما سمعت فيما تقدم ، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلة بنفسها منفكة الإرادة والعمل عن الرجال وولايتهم وقيمومتهم ، واجدة لما لم يسمح لها به الدنيا في جميع ادوارها وخلت عنه صحائف تاريخ وجودها ، قال تعالى : ( فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ )
(1) .
لكنها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة اخرى ، فان المتوسطة من النساء تتأخر عن المتوسط من الرجال في الخصوصيات الكمالية من بنيتها كالدماغ والقلب والشرايين والأعصاب والقامة والوزن على ما شرحه فن وظائف الأعضاء ، واستوجب ذلك ان جسمها ألطف وأنعم ، كما ان جسم الرجل أخشن وأصلب ، وأن الإحساسات اللطيفة كالحب ورقة القلب والميل إلى الجمال والزينة أغلب عليها من الرجل كما أن التعقل أغلب عليه من المرأة ، فحياتها حياة إحساسية كما أن حياة الرجل حياة تعقلية .
ولذلك فرق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامة الاجتماعية التي يرتبط قوامها بأحد الأمرين : أعني التعقل ، العواطف ( الاحساسات )
**************************************************************
(1) سورة البقرة ، الآية : 234 .
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 117 ـ
فخص مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقل والحياة التعقلية إنما هي للرجل دون المرأة ، وخص مثل حضانة الأولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة ، وجعل نفقتها على الرجل ، وعوض ذلك له بالسهمين في الارث ( وهو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين ثم تعطي المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أن ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكاً وعيناً وثلثيها للنساء انتفاعاً فالتدبير الغالب إنما هو للرجال لغلبة تعقلهم ، والانتقاع والتمتع الغالب للنساء لغلبة إحساسهن وسنزيده ايضاحاً في الكلام على آيات الارث إن شاء الله تعالى .
ثم تمم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حق المرأة مرت الإشارة اليها .
فإن قلت : ما ذكر من الارفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب تعطلها عن العمل ، فإن ارتفعت الحاجة الضرورية إلى لوازم الحياة بتخديرها ، وكفاية مؤنتها بإيجاب الانفاق على الرجل يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمل مشاق الأعمال والأشغال فتنمو على ذلك نماءً ردياً وتنبت نباتاً سيئاً غير صالح لتكامل المجتمع ، وقد أيدت التجربة ذلك .
قلت : وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمرُ ، وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية الحسنة التي تنبت الإنسان نباتاً حسناً أمر آخر . والذي اُصيب به الإسلام في مدة سيرها الماضي هو فقد الأولياء الصالحين والقوام المجاهدين فارتدت بذلك أنفاس الأحكام ، وتوقفت التربية ثم رجعت القهقرى . ومن أوضح ما أفادته التجارب القطعية : أن مجرد النظر والاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحين ، والمسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيمين بأمورهم تربية صالحة يجتمع فيها العلم والعمل ، فهذا معاوية ، يقول على
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 118 ـ
منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله : إني ما كنت أقاتلكم لتصلوا أو تصوموا فذلك اليكم وإنما كنت أقاتلكم لأتأمر عليكم ، وقد فعلت ، وهذا غيره من الأمويين والعباسيين فمن دونهم ، ولولا استغاثة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ والله متم نوره ولو كره الكافرون لقضى عليه منذ عهد قديم .
حرية المرأة في المدنية الغربية
لا شك أن الإسلام له التقدم الباهر في إطلاقها عن قيد الأسر ، واعطائها الاستقلال في الارادة والعمل ، وأن اُمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنما قلدوا الإسلام ـ وإن أساؤوا التقليد والمحاذاة ـ فإن سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثرة أتم التأثير في سلسلة السير الاجتماعية ، وهي متوسطة متخللة ، ومن المحال أن يتصل ذيل السلسلة بصدرها دونها .
وبالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق في هذه الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخر الكمالي بالنسبة إلى الرجل كما سمعت ( إجماله ) .
والرأي العام عندهم تقريباً : أن تأخر المرأة في الكمال والفضيلة مستند إلى سوء التربية التي دامت عليها ومكثت قروناً لعلها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها طباع الرجل .
ويتوجه عليه : أن الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على تأخرها عن الرجل في الجملة ، ولو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه ، ولو في بعض الأحيان ولتغيرت خلقة أعضائها الرئيسة وغيرها إلى مثل ما في الرجل .
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 119 ـ
ويؤيد ذلك أن المدنية الغربية مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد على إيجاد التساوي بينهما ، ولم يزل الاحصاءات في جميع ما قدم الإسلام فيه الرجل على المرأة كالولاية والقضاء والقتال تقدم الرجال وتؤخر النساء ، وأما ما الذي أورثته هذه التسوية في هيكل المجتمع الحاضر فسنشرح ما تيسر لنا منه في محله إن شاء الله تعالى .
قوانين الإسلام الإجتماعية ... وقوانين العرب
عمل النكاح في أصول الأعمال الاجتماعية ، والبشر منذ أول تكونه وتكثره حتى اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعي ، وقد عرفت أن هذه الأعمال لا بد لها من أصل طبيعي ترجع إليه ابتداءً أو أنتهاءً .
وقد وضع الإسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقة الفحولة والاناس إذ من البين أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل والمرأة ـ وهو تجهيز دقيق يستوعب جميع بدن الذكور والإناث ـ لم يوضع هباءً باطلاً ، ومن البين عند كل من أجاد التأمل أن طبيعة الإنسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلا الإناث وكذا العكس ، وأن هذا التجهيز لا غاية له إلا انتاج المثل وإبقاء النوع بذلك ، فعمل النكاح يبتني على هذه الحقيقة وجميع الأحكام المتعلقة به تدور مدارها ، ولذلك وضع التشريع على ذلك أي على البضع ، ووضع عليه أحكام العفة والمواقعة واختصاص الزوجة بالزوجة وأحكام الطلاق والعدة والأولاد والارث ونحو ذلك .
وأما القوانين الاُخر الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما في الحياة ، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلدي ونحو ذلك ، ولذلك لا ترى القوانين الحاضرة
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 120 ـ
متعرضة لشيء مما تعرض له الإسلام من أحكام العفة ونحو ذلك ، وهذا البناء على ما يتفرع عليه من أنواع المشكلات والمحاذير الاجتماعية على ما سنبين إنشاء الله العزيز ، لا ينطبق على أساس الخلقة والفطرة أصلاً ، فإن غاية ما نجده في الإنسان من الداعي الطبيعي إلى الاجتماع وتشريك المساعي هو أن بنيته في سعادة حياته تحتاج إلى أمور كثيرة وأعمال شتى لا يمكنه وحده أن يقوم بها جميعاً إلا بالاجتماع والتعاون فالجميع يقوم بالجميع ، والاشواق الخاصة المتعلق كل واحد منها بشغل من الأشغال ونحو من انحاء الأعمال متفرقة في الأفراد يحصل من مجموعها مجموع الأشغال والأعمال .
وهذا الداعي إنما يدعو إلى الإجتماع والتعاون بين الفرد والفرد أيا ما كانا ، وأما الاجتماع الكائن من رجل وامرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه ، فبناء ـ الازدواج على أساس التعاون الحيوي انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعي للتناسل والتوالد إلى غيره مما لا دعوة من الطبيعة والفطرة بالنسبة إليه .
ولو كان الأمر على هذا ، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون والاشتراك في الحياة كان من اللازم أن لا يختص أمر الازدواج في الأحكام الاجتماعية بشيء أصلاً إلا الأحكام العامة الموضوعة لمطلق الشركة والتعاون ، وفي ذلك ابطال فضيلة العفة رأساً وإبطال أحكام الأنساب والمراريث كما التزمه الشيوعية ، وفي ذلك إبطال جميع الغرائز الفطرية التي جهز بها الذكور والاناث من الإنسان ، وسنزيده أيضاحاً في محل يناسبه إنشاء الله ، هذا إجمال الكلام في النكاح ، واما الطلاق فهو من مخافر هذه الشريعة الإسلامية ، وقد وضع جوازه على الفطرة إذ لا دليل من الفطرة يدل
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 121 ـ
على المنع عنه ، وإما خصوصيات القيود المأخوذة من تشريعه فسيجيء الكلام فيها إنشاء الله تعالى ، وقد اضطرت الملل المعظمة اليوم إلى إدخاله في قوانينهم المدنية بعد ما لم يكن .
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 123 ـ
قيمومة الرجال على النساء
وله تعالى : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ ) .
والمراد بما فضل الله بعضهم على بعض هو ما يفضل ويزيد فيه الرجال بحسب الطبع على النساء ، وهو زيادة قوة التعقل فيهم ، وما يتفرع عليه من شدة البأس والقوة والطاقة على الشدائد في الأعمال ونحوها فإن حياة النساء حياة عاطفية مبنية على الرقة واللطافة ، والمراد بما أنفقوا من أموالهم ما انفقوه في مهورهن ونفقاتهن .
وعموم هذه العلة يعطي أن الحكم المبني عليها أعني قوله : ( الرجال قوامون على النساء ) غير مقصور على الأزواج بأن يختص القوامية بالرجل على زوجته بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة القبيلين جميعاً فالجهات العامة الإجتماعية التي ترتبط بفضل الرجال كجهتي الحكومة والقضاء مثلاً الذين يتوقف عليهما حياة المجتمع ، وإنما يقومان بالتعقل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء ، وكذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدة وقوة التعقل كل ذلك مما
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 124 ـ
يقوم به الرجال على النساء ، وعلى هذا فقوله : الرجال قوامون على النساء ذو إطلاق تام ، وأما قوله بعد : فالصالحات قانتات ( الخ ) الظاهر في الإختصاص بما بين الرجل وزوجته على ما سيأتي فهو فرع من فروع هذا الحكم المطلق وجزئي من جزئياته مستخرج منه من غير أن يتقيد به إطلاقه .
قوله تعالى : ( فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ ) المراد بالصلاح معناه اللغوي ، وهو ما يعبر عنه بلياقة النفس ، والقنوت هو دوام الطاعة والخضوع .
ومقابلتها لقوله : واللاتي تخافون نشوزهن إلى آخره تفيد أن المراد بالصالحات الزوجات الصالحات ، وأن هذا الحكم مضروب على النساء في حال الأزدواج لا مطلقاً ، وأن قوله : قانتات حافظات ـ الرذي هو إعطاء للأمر في صورة التوصيف أي ليقنتن وليحفظن ـ حكم مربوط بشؤون الزوجية والمعاشرة المنزلية ، وهذا مع ذلك حكم يتبع في سعته وضيقه علته أعني قيمومة الرجل على المرأة قيمومة زوجية فعليها أن تقنت له وتحفظه فيما يرجع إلى ما بينهما من شؤون الزوجية .
وبعبارة اخرى كما ان قيمومة قبيل الرجال على قبيل النساء في المجتمع إنما تتعلق بالجهات العامة المشتركة بينهما المرتبطة بزيادة تعقل الرجل وشدته في البأس ، وهي جهات الحكومة والقضاء والحرب من غير أن يبطل بذلك ما للمرأة من الاستقلال في الارادة الفردية ، وعمل نفسها بأن تريد ما أحبت وتفعل ما شاءت من غير أن يحق للرجل أن يعارضها في شيء من ذلك في غير المنكر فلا جناح عليهم فيما فعلن في انفسهن بالمعروف ، كذلك قيمومة الرجل لزوجته ليست بأن لا تنفذ المرأة في ما تملكه إرادة ولا
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 125 ـ
تصرف ، ولا أن لا تستقل المرأة في حفظ حقوقها الفردية والإجتماعية ، والدفاع عنها ، والتوسل إليها بالمقدمات الموصلة اليها ، بل معناها أن الرجل إذ كان ينفق ما ينفق من ماله بازاء الاستمتاع فعليها أن تطاوعه وتطيعه في كل ما يرتبط بالاستمتاع والمباشرة عند الحضور ، وأن تحفظه في الغيب فلا تخونه عند غيبته بأن توطئ فراشه غيره ، وأن تمتع لغيره من نفسها ما ليس لغير الزوج التمتع منها بذلك ، ولا تخونه فيما وضعه تحت يدها من المال ، وسلطها عليه في ظرف الازدواج والإشتراك في الحياة المنزلية .
فقوله : فالصالحات قانتات أي ينبغي أن يتخذن لأنفسهن وصف الصلاح ، وإذا كن صالحات فهن لا محالة قانتات ، أي يجب أن يقنتن ويطعن أزواجهن إطاعة دائمة فيما أرادوا منهن مما له مساس بالتمتع ، ويجب عليهن أن يحفظن جانبهم في جميع ما لهم من الحقوق إذا غابوا .
وأما قوله : بما حفظ الله ، فالظاهر أن ما مصدرية ، والباء للآلة والمعنى : إنهن قانتات لأزواجهن حافظات للغيب بما حفظ الله لهم من الحقوق حيث شرع لهم القيمومة ، وأوجب عليهن الإطاعة وحفظ الغيب لهم .
ويمكن أن يكون الباء للمقابلة ، والمعنى حينئذ : أنه يجب عليهن القنوت وحفظ الغيب في مقابلة ما حفظ الله من حقوقهن حيث أحيا أمرهن في المجتمع البشري ، وأوجب على الرجال لهن المهر والنفقة ، والمعنى الأول أظهر .
وهناك معان ذكروها في تفسير الآية أضربنا عن ذكرها لكون السياق لا يساعد شيء منها .