يرجحونها على الدين الداعي إلى الحق في أول ما يعرض عليهم لخضوعهم للوثنية المادية .
ولو تأملت حق التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الأولى غير أنها تحولت من حال الفردية إلى حال الاجتماع ، ومن مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقة الفنية .
والذي ذكرناه من بناء السنة الاسلامية على اتباع الحق دون موافقة الطبع من أوضح الواضحات في بيانات القرآن ، قال الله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ )
(1) .
وقال تعالى : ( وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَق )
(2) .
وقال في وصف المؤمنين ( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ )
(3) .
وقال : ( لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ )
(4) .
فاعترف بأن الحق لا يوافق طباع الأكثرين وأهواءهم ، ثم رد لزوم موافقة أهواء الأكثرية بأنه يؤول إلى الفساد فقال : ( بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ )
(5).
ولقد صدق جريان الحوادث وتراكم الفساد يوماً فيوماً ما بينه تعالى في هذه الآية . وقال تعالى : ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ )
(6)
**************************************************************
(1) سورة التوبة ، الآية : 33 .
(2) سورة المؤمن ، الآية : 20 .
(3) سورة العصر ، الآية : 3 .
(4) سورة الزخرف ، الآية : 78 .
(5) سورة المؤمنون ، الآيتان : 70 ـ 71 .
(6) سورة يونس ، الآية : 32 .
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 23 ـ
والآيات في هذا المعنى وما يقرب منه كثيرة جداً وإن شئت زيادة تبصر فيه فراجع سورة يونس ، فقد كرر فيه ذكر الحق بضعاً وعشرين مرة .
وأما قولهم : إن اتباع الأكثر سنة جارية في الطبيعة ، فلا ريب أن الطبيعة تتبع الأكثر في آثارها إلا أنها ليست بحيث تبطل أو تعارض وجوب اتباع الحق فإنها نفسها بعض مصاديق الحق فكيف تبطل نفسها .
وتوضيح ذلك يحتاج إلى بيان امور : أحدهما ان الأمور الخارجية التي هي أصول عقائد الانسان العلمية والعملية تتبع في تكونها وأقسام تحولها نظام العلية والمعلولية ، وهو نظام دائم ثابت لا يقبل الاستثناء أطبق على ذلك المحصلون من أهل العلم والنظر وشهد به القرآن على ما مر ، فالحدث الخارجي لا يتخلف عن الدوام والثبات حتى ان الحوادث الأكثرية الوقوع التي هي قياسية هي في انها أكثرية دائمة ثابتة ، مثلاً : النار التي تفعل السخونة غالباً بالقياس إلى جميع مواردها ( سخونتها الغالبية ) أثر دائم لها وهكذا ، وهذا هو الحق .
والثاني : ان الانسان بحسب الفطرة يتبع ما وجده أمراً واقعياً خارجياً بنحو فهو يتبع الحق بحسب الفطرة حتى ان من ينكر وجود العلم الجازم إذا القي اليه قول لا يجد من نفسه التردد فيه خضع له بالقبول .
والثالث : أن الحق كما عرفت هو الأمر الخارجي الذي يخضع له الانسان في اعتقاده أو يتبعه في عمله ، واما نظر الانسان وإدراكه فإنما هو وسيلة يتوسل بها إليه كالمرآة بالنسبة إلى المرئي .
إذا عرفت هذه الامور تبين لك أن الحقية وهي دوام الوقوع أو أكثرية الوقوع في الطبيعة الراجعة إلى الدوام والثبات أيضاً إنما هي صفة الخارج الواقع وقوعاً دائمياً أو أكثريا دون العلم والإدراك ، وبعبارة اخرى هي صفة
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 24 ـ
الامر المعلوم لاصفة العلم ، فالوقوع الدائمي والاكثري أيضاً بوجه من الحق ، وأما آراء الأكثرين وأنظارهم واعتقاداتهم في مقابل الأقلين فليست بحق دائماً ، بل ربما كانت حقاً إذا طابقت الواقع وربما لم تكن إذا لم تطابق وحينئذ فلا ينبغي أن يخضع لها الانسان ولا أنه يخضع لها لو تنبه للواقع فإنك إذا أيقنت بأمر ثم خالفك جميع الناس فيه لم تخضع بالطبع لنظرهم وإن اتبعتهم فيه ظاهراً فإنما تتبعهم لخوف أو حياء ، أو عامل آخر لا لأنه حق واجب الاتباع في نفسه ، ومن أحسن البيان في أن رأي الاكثر ونظرهم لا يجب أن يكون حقاً واجب الاتباع ، قوله تعالى : ( بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ )
(1) .
فلو كان كل ما يراه الأكثر حقاً لم يمكن أن يكرهوا الحق ويعارضوه . وبهذا البيان يظهر فساد وبناء اتباع الأكثيرية على سنة الطبيعة فإن هذه السنة جارية في الخارج الذي يتعلق به العلم دون نفس العلم والفكر والذي يتبعه الانسان من هذه السنة في إرادته وحركاته إنما هو ما في الخارج من أكثرية الوقوع لا ما اعتقده الأكثرون أعني أنه يبني أفعاله وأعماله على الصلاح الأكثري ، وعليه جرى القرآن في حكم تشريعاته ومصالحها ، قال تعالى ( مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
(2) .
وقال تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )
(3) إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على ملاكات غالبية الوقوع للأحكام المشرعة .
**************************************************************
(1) سورة المؤمنون ، الآية : 70 .
(2) سورة المائدة ، الآية : 6 .
(3) سورة البقرة ، الآية : 183 .
قضايا
المجتمع والأسرة والزواج
على ضوء القرآن الكريم
ـ 25 ـ
وأما قولهم : إن المدنية الحاضرة سمحت للممالك المترقية سعادة المجتمع وهذب الأفراد وطهرهم عن الرذائل التي لا يرتضيها المجتمع فكلام غير خال من الخلط والاشتباه .
وكأن مرادهم من السعادة الاجتماعية تفوق المجتمع في عدتها وقوتها وتعاليها في استفادتها من المنابع المادية وقد عرفت كراراً ان الاسلام لا يعد ذلك سعادة والبحث البرهاني أيضاً يؤيده بل السعادة الانسانية أمر مؤلف من سعادة الروح والبدن وهي تنعم الانسان من النعم المادية وتحليه بفضائل الأخلاق والمعارف الحقة الإلهية وهي التي تضمن سعادته في الحياة الدنيا والحياة الاخرى واما الانغمار في لذائذ المادة مع إهمال سعادة الروح فليس عنده إلا شقاء .
وأما استعجابهم بما يرون من الصدق والصفاء والأمانة والبشر ، وغير ذلك فيما بين أفراد الأمم المترقية ، فقد اختلط عليهم حقيقة الأمر فيه ، وذلك أن جل المتفكرين من باحثينا معاشر الشرقيين لا يقدرون على التفكير الاجتماعي وإنما يتفكرون تفكراً فردياً فالذي يراه الواحد منا نصب العين أنه موجود إنساني مستقل عن كل الأشياء غير مرتبط بها ارتباطاً تبطل استقلاله الوجودي ( مع أن الحق خلافه ) ثم لا يتفكر في حياته إلا لجلب المنافع إلى نفسه ودفع المضار عن نفسه فلا يشتغل إلا بشأن نفسه وهو التفكر الفردي ، ويستتبع ذلك أن يقيس غيره على نفسه فيقضي فيه بما يقضي على هذا النحو من الاستقلال .
وهذا القضاء إن صح فإنما يصح فيمن يجري في تفكره هذا المجرى ، وأما من يتفكر تفكراً اجتماعياً ليس نصب عينيه إلا انه جزء غير منفك ولا مستقل عن المجتمع وان منافعه جزء من منافع مجتمعه يرى خير المجتمع