وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ) (1) .
  نعم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة والهداية والتربية ، قال تعالى : ( يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) ) (2) .
  فهو صلى الله عليه وآله وسلم المتعين من عند الله للقيام على شأن الأمة وولاية أمورهم في الدينا والآخرة وللإمامة لهم ما دام حياً .
  لكن الذي يجب أن لا يغفل عنه الباحث أن هذه الطريقة غير طريقة السلطة الملوكية التي تجعل مال الله فيئاً لصاحب العرش وعباد الله أرقاء له يفعل بهم ما يشاء ويحكم فيهم ما يريد وليست هي من الطرق الاجتماعية التي وضعت على أساس التمتع المادي من الديمقراطية وغيرها فإن بينها وبين الاسلام فروقاً بينة مانعة من التشابه والتماثل .
  ومن أعظمها أن هذه المجتمعات لما بنيت على أساس التمتع المادي نفخت في قالبها روح الاستخدام والاستثمار وهو الاستكبار الإنساني الذي يجعل كل شيء تحت إرادة الإنسان وعمله حتى الإنسان بالنسبة إلى الإنسان ، ويبيح له طريق الوصول إليه والتسلط على ما يهواه ويأمله منه لنفسه ، وهذا بعينه هو الاستبداد الملوكي في الأعصار السالفة وقد ظهرت في زي الاجتماع المدني على ما هو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القوية وإجحافاتهم وتحكماتهم بالنسبة إلى الأمم الضعيفة وعلى ما هو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التواريخ .
  فقد كان الواحد من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة يجري في ضعفاء عهده بتحكمه ولعبه كل ما يريده ويهواه . ويعتذر ـ لو اعتذر ـ أن ذلك من

**************************************************************
(1) سورة الأعراف ، الآية : 128 .
(2) سورة الجمعة ، الآية : 2 .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 52 ـ

  شؤون السلطنة ولصلاح المملكة وتحكيم أساس الدولة ، ويعتقد أن ذلك حق نبوغه وسيادته ، ويستدل عليه بسيفه ، وكذلك إذا تعمقت في المرابطات السياسية الدائرة بين أقوياء الأمم وضعفائهم اليوم وجدت أن التاريخ وحوادثه كرت علينا ولن تزال تكر غير أنها أبدلت الشكل السابق الفردي بالشكل الحاضر الاجتماعي والروح هي الروح والهوى هو الهوى وأما الإسلام فطريقته بريئة من هذه الأهواء ودليله السيرة النبوية في فتوحاته وعهوده .
  ومنها أن أقسام الاجتماعات على ما هو مشهور ومضبوط في تاريخ هذا النوع لا تخلو عن وجود تفاضل بين أفرادها مؤد إلى الفساد فإن اختلاف الطبقات بالثروة أو الجاه والمقام المؤدي بالآخرة إلى بروز الفساد في المجتمع من لوازمها ، لكن المجتمع الإسلامي مجتمع متشابه الاجزاء لا تقدم فيها للبعض على البعض ، ولا تفاضل ولا تفاخر ، ولا كرامة وإنما التفاوت الذي تستدعيه القريحة الإنسانية ولا تسكت عنه إنما هو في التقوى وأمره إلى الله سبحانه لا إلى الناس ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (1) .
  وقال تعالى : ( فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ ) (2) .
  فالحاكم والمحكوم والأمير والمأمور والرئيس والمرؤوس والحر والعبد والرجل والمرأة والغني والفقير والصغير والكبير في الاسلام في موقف سواء من حيث جريان القانون الديني في حقهم ومن حيث انتفاء فواصل الطبقات بينهم في الشؤون الاجتماعية على ما تدل عليه السيرة النبوية

**************************************************************
(1) سورة الحجرات ، الآية : 13 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 148 .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 53 ـ

  على سائرها السلام والتحية ، ومنها أن القوة التنفيذية في الاسلام ليست هي طائفة متميزة في المجتمع بل تعم جميع أفراد المجتمع فعلى كل فرد أن يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهناك فروق أخر لا تخفى على الباحث المتتبع .
  هذا كله في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأما بعده فالجمهور من المسلمين على أن انتخاب الخليفة الحاكم في المجتمع إلى المسلمين والشيعة من المسلمين على أن الخليفة منصوص من جانب الله ورسوله وهم أثنا عشر إماماً على التفصيل المودوع في كتب الكلام .
  ولكن على أي حال أمر الحكومة الإسلامية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد غيبة الإمام كما في زماننا الحاضر إلى المسلمين من غير إشكال ، والذي يمكن أن يستفاد من الكتاب في ذلك أن عليهم تعيين الحاكم في المجتمع على سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي سنة الإمامة دون الملوكية والامبراطورية والسير فيهم بحفاظة الأحكام من غير تغيير والتولي بالشور في غير الأحكام من حوادث الوقت والمحل كما تقدم والدليل على ذلك كله جميع ما تقدم من الآيات في ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضافة إلى قوله تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (1) .

العقيدة جنسية المجتمع الإسلامي
  ألغى الإسلام أصل الانشعاب من أن يؤثر في تكون المجتمع أثره ذاك الانشعاب الذي عامله الأصلي البدوية والعيش بعيشة القبائل والبطون أو اختلاف منطقة الحياة والوطن الأرضي ، وهذان أعني البدوية واختلاف مناطق الأرض في طبائعها الثانوية من حرارة وبرودة وجدب وخصب

**************************************************************
(1) سورة الأحزاب ، الآية : 21 .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 54 ـ

  وغيرهما هما العاملان الأصليان لانشعاب النوع الانساني شعوياً وقبائل واختلاف ألسنتهم وألوانهم على ما بين في محله .
  ثم صارا عاملين لحيازة كل قوم قطعة من قطعات الأرض على حسب مساعيهم في الحياة وبأسهم وشدتهم وتخصيصها بأنفسهم وتسميتها وطناً يألفونه ويذبون عنه بكل مساعيهم .
  وهذا وإن كان أمراً ساقهم إلى تلك الحوائج الطبيعية التي تدفعهم الفطرة إلى رفعها غير أن فيه خاصة تنافي ما يستدعيه أصل الفطرة الإنسانية من حياة النوع في مجتمع واحد ، فإن من الضروري أن الطبيعة تدعو إلى اجتماع القوى المتشتته وتآلفها وتقويها بالتراكم والتوحيد لتنال ما تطلبه من غايتها الصالحة بوجه أتم وأصلح ، وهذا أمر مشهور من حال المادة الأصلية حتى تصير عنصراً ثم ... ثم نباتاً ثم حيواناً ثم إنساناً .
  والانشعابات بحسب الأوطان تسوق الأمة إلى توحد في مجتمعهم يفصله عن المجتمعات الوطنية الاخرى فيصير واحداً منفصل الروح والجسم عن الآحاد الوطنية الأخرى فتنعزل الأنسانية عن التوحيد والتجمع وتبتلى من التفرق والتشتت بما كانت تفر منه ويأخذ الواحد الحديث يعامل سائر الأحاد الحديثة ( أعني الأحاد الاجتماعية ) بما يعامل به الإنسان سائر الأشياء الكونية من استخدام واستثمار ، وغير ذلك ، والتجريب الممتد بامتداد الأعصار منذ أول الدنيا إلى يومنا هذا يشهد بذلك وما نقلناه من الآيات في مطاوي الأبحاث السابقة يكفي في استفادة ذلك من القرآن الكريم .
  وهذا هو السبب في أن الغى الإسلام هذه الإنشعابت والتشتتات والفروق . وبنى المجتمع على العقيدة دون الجنسية والقومية والوطن ونحو ذلك ، حتى في مثل الزوجية والقرابة في الاستمتاع والميراث ، فإن المدار

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 55 ـ

  فيهما على الاشتراك في التوحيد لا المنزل والوطن مثلاً .
  ومن أحسن الشواهد على هذا ما نراه عند البحث عن شرائع هذا الدين أنه لم يهمل امره في حال من الأحوال ، فعلى المجتمع الإسلامي عند أوج عظمته واهتزاز لواء غلبته أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه ، وعليه عند الاضطهاد والمغلوبية ما يستطيعه من إحياء الدين واعلاء كلمته ، وعلى هذا القياس حتى أن المسلم الواحد عليه أن يأخذ به ، ويعمل منه ما يستطيعه ولو كان بعقد القلب في الاعتقاديات والاشارة في الأعمال المفروضة عليه .
  ومن هنا يظهر أن المجتمع الاسلامي قد جعل جعلاً يمكنه أن يعيش في جميع الأحوال ، وعلى كل التقادير من حاكمية ومحكومية وغالبية ومغلوبية وتقدم وتأخر وظهور وخفاء وقوة وضعف ، ويدل عليه من القرآن آيات التقية بالخصوص .
  قال تعالى : ( مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) (1) .
  وقوله : ( إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً ) (2) .
  وقوله : ( فاتقوا الله ما استطعتمفَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (3) .
  وقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) (4) .

**************************************************************
(1) سورة النحل ، الآية : 106 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 28 .
(3) سورة التغابن ، الآية : 16 .
(4) سورة آل عمران ، الآية : 102 .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 56 ـ

البعد الاجتماعي للإسلام
  يدل على ذلك قوله تعالى : (اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ، على ما مر بيانه وآيات اُخر كثيرة .
  وصفة الاجتماع مرعية مأخوذة في الاسلام في جميع ما يمكن أن يؤدي بصفة الاجتماع من أنواع النواميس والأحكام بحسب ما يليق بكل منها من نوع الاجتماع ، وبحسب ما يمكن فيه من الأمر والحث الموصل إلى الغرض فينبغي للباحث أن يعتبر الجهتين معاً في بحثه .
  فالجهة الأولى من الإختلاف ما نرى أن الشارع شرع الاجتماع مستقيماً في الجهاد إلى حد يكفي لنجاح الدفاع وهذا نوع ، وشرع وجوب الصوم والحج مثلاً للمستطيع غير المعذور ولازمه إجتماع الناس للصيام والحج وتمم ذلك بالعيدين : الفطر والأضحى ، والصلاة المشروعة فيهما ، وشرع وجوب الصلوات اليومية عينياً لكل مكلف من غير أن يوجب فيها جماعة واحدة في كل أربعة فراسخ ، وهذا نوع آخر .
  والجهة الثانية ما نرى أن الشارع شرع وجوب الاجتماع في أشياء بلا واسطة كما عرفت وألزم على الاجتماع في أمور اخرى غير واجبة لم يوجب الاجتماع فيها مستقيماً كصلاة الفريضة مع الجماعة فإنها مسنونة مستحبة ، غير أن السنة جرت على أدائها جماعة ، وعلى الناس أن يقيموا السنة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوم من المسلمين تركوا الحضور في الجماعة : ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم . وهذا هو السبيل في جميع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيجب حفظ سنته على المسلمين بأي وسيلة أمكنت لهم وبأي قيمة حصلت .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 57 ـ

  وهذه أمور سبيل البحث فيها الاستنباط الفقهي من الكتاب والسنة والمتصدي لبيانها الفقه الاسلامي .
  وأهم ما يجب هاهنا هو عطف عنان البحث إلى جهة اخرى ، وهي اجتماعية الاسلام في معارفه الأساسية بعد الوقوف على أنه يراعي الاجتماع في جميع ما يدعو الناس إليه من قوانين الإعمال ( العبادية والمعاملية والسياسية ) ومن الأخلاق الكريمة ومن المعارف الأصلية .
  نرى الإسلام يدعو الناس إلى دين الفطرة بدعوى أنه الحق الصريح الذي لا مرية فيه والآيات القرآنية الناطقة بذلك كثيرة مستغنية عن الايراد ، وهذا أول التآلف والتآنس مع مختلف الأفهام فإن الأفهام على اختلافها وتعلقها بقيود الأخلاق والغرائز لا تختلف في أن « الحق يجب اتباعه » .
  ثم نراه يعذر من لم تقم عليه البينة ولم تتضح له المحجة وإن قرعت سمعه الحجة قال تعالى : ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) (1) .
  وقال تعالى : ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (2) ، أنظر إلى إطلاق الآية ومكان قوله : ( لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ) ، وهذا يعطي الحرية التامة لكل متفكر يرى نفسه صالحة للتفكر مستعدة للبحث والتنقير أن يتفكر فيما يتعلق بمعارف الدين ويتعمق في تفهمها والنظر فيها ، على أن الآيات القرآنية مشحونة بالحث والترغيب في التفكر والتعقل والتذكر .

**************************************************************
(1) سورة الأنفال ، الآية : 42 .
(2) سورة النساء ، الآيتان : 98 ـ 99 .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 58 ـ

  ومن المعلوم أن اختلاف العوامل الذهنية والخارجية مؤثرة في اختلاف الأفهام من حيث تصورها وتصديقها ونيلها وقضائها ، وهذا يؤدي إلى الاختلاف في الأصول التي بني على أساسها المجتمع الاسلامي كما تقدم .
  إلا أن الاختلاف بين إنسانين في الفهم على ما يقضي به فن معرفة النفس وفن الأخلاق وفن الاجتماع يرجع إلى أحد أمور إما إلى اختلاف الاخلاق النفسانية والصفات الباطنة من الملكات الفاضلة والردية فإن لها تأثيراً وافراً في العلوم والمعارف الانسانية من حيث الاستعدادات المختلفة التي تودعها في الذهن فما إدراك الإنسان المنصف وقضاؤه الذهني كادراك الشموس المتعسف ، ولا نيل المعتدل الوقور للمعارف كنيل العجول والمتعصب وصاحب الهوى والهمجي الذي يتبع كل ناعق والغوي الذي لا يدري أين يريد ؟ ولا أنى يراد به ، والتربية الدينية تكفي مؤونة هذا الاختلاف فانها موضوعة على نحو يلائم الاصول الدينية في المعارف والعلوم ، وتستولد من الأخلاق ما يناسب تلك الأصول ، وهي مكارم الأخلاق .
  قال تعالى : ( ... كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (1) .
  وقال تعالى : ( يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (2) .
  وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ

**************************************************************
(1) سورة الأحقاف ، الآية : 30 .
(2) سورة المائدة ، الآية : 16 .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 59 ـ

  الْمُحْسِنِينَ ) (1) .
  وانطباق الآيات على مورد الكلام ظاهر .
  وإما أن يرجع إلى اختلاف الأفعال فإن الفعل المخالف للحق كالمعاصي وأقسام التهوسات الانسانية ومن هذا القبيل أقسام الاغواء والوساوس يلقن الإنسان وخاصة العامي الساذج الأفكار الفاسدة ويعد ذهنه لدبيب الشبهات وتسرب الآراء الباطلة فيه وتختلف إذ ذاك الأفهام وتتخلف عن اتباع الحق ! وقد كفى مؤونة هذا أيضاً الإسلام حيث أمر المجتمع باقامة الدعوة الدينية دائماً أولاً ، وكلف المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثانياً ، وأمر بهجرة أرباب الزيغ والشبهات ثالثاً : قال تعالى : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) (2) .
  فالدعوة إلى الخير تستثبت الاعتقاد الحق وتقرها في القلوب بالتلقين والتذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنعان من ظهور الموانع من رسوخ الاعتقادات الحقة في النفوس وقال تعالى : ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ) (3) .
  ينهى الله تعالى عن المشاركة في الحديث الذي فيه خوض في شيء من المعارف الإلهية والحقائق الدينية بشبهة أو أعتراض أو استهزاء ولو بنحو الاستلزام أو التلويح ، ويذكر أن ذلك من فقدان الإنسان أمر الجد في

**************************************************************
(1) سورة العنكبوت ، الآية : 69 .
(2) سورة آل عمران ، الآية : 104 .
(3) سورة الأنعام ، الآيات : 68 ـ 70 .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 60 ـ

  معارفه ، وأخذه بالهزل واللعب واللهو ، وأن منشأ الاغترار بالحياة الدينا ، وأن علاجه التربية الصالحة والتذكير بمقامه تعالى .
  وإما أن يكون الاختلاف من جهة العوامل الخارجية كبعد الدار وعدم بلوغ المعارف الدينية إلا يسيرة أو محرفة أو قصور فهم الإنسان عن تعقل الحقائق الدينية تعقلاً صحيحاً كالجربزة والبلادة المستندتين إلى خصوصية المزاج وعلاجه تعميم التبليغ والإرفاق في الدعوة والتربية وهذان من خصائص السلوك التبليغي في الاسلام ، قال تعالى : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) (1) .
  ومن المعلوم أن البصير بالأمر يعرف مبلغ وقوعه في القلوب وأنحاء تأثيراته المختلفة باختلاف المتلقين والمستمعين فلا يبذل أحداً إلا مقدار ما يعيه منه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما رواه الفريقان : إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم ، وقال تعالى : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (2) .
  فهذه جمل ما يتقى به وقوع الاختلاف في العقائد أو يعالج به إذا وقع وقد قرر الإسلام لمجتمعه دستوراً اجتماعياً فوق ذلك يقيه عن دبيب الاختلاف المؤدي إلى الفساد والانحلال فقد قال تعالى : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (3) .
  فبين أن اجتماعهم على اتباع الصراط المستقيم وتحذرهم عن اتباع

**************************************************************
(1) سورة يوسف ، الآية : 108 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 122 .
(3) سورة الانعام ، الآية : 153 .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 61 ـ

  سائر السبل يحفظهم عن التفرق ويحفظ لهم الاتحاد والاتفاق ، ثم قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (1) .
  تدل الآيات على لزوم أن يجتمعوا على معارف الدين ويرابطوا أفكارهم ويمتزجوا في التعليم والتعلم فيستريحوا في كل حادث فكري أو شبهة ملقاة إلى الآيات المتلوة عليهم والتدبر فيها لحسم مادة الاختلاف ، وقد قال تعالى : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) (2) .
  وقال أيضاً : ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ) (3) .
  وقال تعالى : ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (4) فأفاد أن التدبر في القرآن أو الرجوع إلى من يتدبر فيه يرفع الاخلاف من البين .
  وتدل على : أن الإرجاع إلى الرسول وهو الحامل لثقل الدين يرفع من بينهم الاختلاف ويبين لهم الحق الذي يجب عليهم أن يتبعوه ، قال تعالى : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (5) .
  وقريب منه قوله تعالى : ( ولو ردره إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يسنبطونه منهم ) (6) .

**************************************************************
(1) سورة آل عمران ، الآيتان : 102 ـ 103 .
(2) سورة النساء ، الآية : 82 .
(3) سورة العنكبوت ، الآية : 43 .
(4) سورة النحل ، الآية : 43 .
(5) سورة النحل ، الآية : 44 .
(6) سورة النساء ، الآية : 83 .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 62 ـ

  وقوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (1) .
  فهذه صورة التفكر الاجتماعي في الاسلام .
  ومنه يظهر أن هذا الدين كما يعتمد بأساسه على التحفظ على معارفه الخاصة الإلهية كذلك يسمح للناس بالحرية التامة في الفكر ، ويرجع محصله إلى أن من الواجب على المسلمين أن يتفكروا في حقائق الدين ويجتهدوا في معارفه تفكراً واجتهاداً بالاجتماع والمرابطة ، وإن حصلت لهم شبهة في شيء من حقائقه ومعارفه أو لاح لهم ما يخالفها فلا بأس به وإنما يجب على صاحب الشبهة أو النظر المخالف أن يعرض ما عنده على كتاب الله بالتدبر في بحث اجتماعي ، فإن لم يداو داءه عرضه على الرسول أو من أقامه مقامه حتى تنحل شبهته ، أو يظهر بطلان ما لاح له إن كان باطلاً ، قال تعالى : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) (2) .
  والحرية في العقيدة والفكر على النحو الذي بيناه غير الدعوة إلى هذا النظر ، وإشاعته بين الناس قبل العرض فإنه مفضي إلى الاختلاف المفسد لأساس المجتمع القويم .
  هذا أحسن ما يمكن أن يدبر به أمر المجتمع في فتح باب الارتقاء الفكري على وجهه مع الحفظ على حياته الشخصية ، وأما تحميل الاعتقاد على النفوس والختم على القلوب وإماتة غريزة الفكرة في الانسان عنوة

**************************************************************
(1) سورة النساء ، الآية : 59 .
(2) سورة الزمر ، الآية : 18 .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 63 ـ

  وقهراً والتوسل في ذلك بالسوط أو السيف أو بالتفكير والهجرة وترك المخالفة فحاشاً ساحة الحق والدين القويم أن يرضى به أو يشرع ما يؤيده ، وإنما هو خصيصة نصرانية ، وقد امتلأ تاريخ الكنيسة من أعمالها وتحكماتها في هذا الباب ـ وخاصة فيما بين القرن الخامس وبين القرن السادس عشر الميلاديين ـ بما لا يوجد نظائره في أشنع ما عملته أيدي الجبابرة والطواغيت وأقساه ، ولكن من الأسف أنا معاشر المسلمين سلبنا هذه النعمة وما لزمها ( الاجتماع الفكري وحرية العقيدة ) كما سلبنا كثيراً من النعم العظام التي كان الله سبحانه أنعم علينا بها كما فرطنا في جنب الله ( وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) فحكمت فينا سيرة الكنيسة واستتبع ذلك أن تفرقت القلوب وظهر الفتور وتشتّت المذاهب والمسالك يغفر الله لنا ويوفقنا لمرضاته ويهدينا إلى صراطه المستقيم .

الدين الحق هو الغالب على الدنيا بالآخرة
  والعاقبة للتقوى فإن النوع الأنساني بالفطرة المودوعة فيه تطلب سعادته الحقيقة وهو استواؤه على عرش حياته الروحية والجسمية معاً حياة إجتماعية باعطاء نفسه حظه من السلوك الدنيوي والأخروي وقد عرفت أن هذا هو الإسلام ودين التوحيد .
  وأما الانحرافات الواقعة في سير الإنسانية نحو غايته وفي ارتقائه إلى أوج كماله فإنما هو من جهة الخطأ في التطبيق لا من جهة بطلان حكم الفطرة ، والغاية التي يعقبها الصنع والايجاد لابد ان تقع يوماً معجلاً أوعلى مهل ، قال تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ـ يريد أنهم لا يعلمون ذلك علماً تفصيلياً وإن علمته فطرتهم إجمالاً ، إلى أن قال : ـ ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ـ إلى أن

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 64 ـ

  قال : ـ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (1) .
  وقال تعالى : ( فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ) (2) .
  وقال تعالى : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (3) ، وقال تعالى : ( وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) (4) ، فهذه وأمثالها آيات تخبرنا أن الإسلام سيظهر ظهوره التام فيحكم على الدنيا قاطبة .
  ولا تصغ إلى قول من يقول : إن الإسلام وإن ظهر ظهوراً ما وكانت أيامه حلقة من سلسلة التاريخ فأثرت أثرها العام في الحلقات التالية واعتمدت عليها المدنية الحاضرة شاعرة بها أو غير شاعرة لكن ظهوره التام أعني حكومة ما في فرضية الدين بجميع مواردها وصورها وغاياتها مما لا يقبله طبع النوع الإنساني ولن يقبله أبداً ولم يقع عليه بهذه الصفة تجربة حتى يوثق بصحة وقوعه خارجاً وحكومته على النوع تامة .
  وذلك أنك عرفت أن الإسلام بالمعنى الذي نبحث فيه غاية النوع الإنساني وكماله الذي هوم بغريزته متوجه اليه شعر به تفصيلاً أو لم يشعر والتجارب القطعية الحاصلة في أنواع المكونات يدل على أنها متوجهة إلى غايات مناسبة لوجوداتها يسوقها اليها نظام الخلقة ، والإنسان غير مستثنى من هذه الكلية .

**************************************************************
(1) سورة الروم ، الآيات : 30 ـ 41 .
(2) سورة المائدة ، الآية : 54 .
(3) سورة الأنبياء ، الآية : 105 .
(4) سورة طه ، الآية : 132 .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 65 ـ

  على أن شيئاً من السنن والطرائق الدائرة في الدنيا الجارية بين المجتمعات الإنسانية لم يتك في حدوثه وبقائه وحكومته على سبق تجربة قاطعة فهذه شرائع نوح وابراهيم وموسى عيسى ظهرت حينما ظهرت ثم جرت بين الناس وكذا ما أتى به ( برهما ، وبوذا ، وماني ) وغيرهم ، وتلك سنن المدنية المادية كالديمقراطية والكمونيسم وغيرهما كل ذلك جرى في المجتمعات الانسانية المختلفة بجرياناتها المختلفة من غير سبق تجربة .
  وإنما تحتاج السنن الاجتماعية في ظهورها ورسوخها في المجتمع إلى عزائم قاطعة وهمم عالية من نفوس قوية لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى مآربها عيُّ ولا نصب ، ولا تذعن بأن الدهر قد لا يسمح بالمراد والمسعى قد يخيب ، ولا فرق في ذلك بين الغايات والمآرب الرحمانية والشيطانية .

الفصل الثاني

الطبيعة البشرية

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 69 ـ

عمر النوع الإنساني
  يذكر تاريخ اليهود أن عمر هذا النوع لا يزيد على ما يقرب من سبعة الآف سنة والاعتبار يساعده فإنا لو فرضنا ذكراً وانثى ( زوجين اثنين ) من هذا النوع وفرضناهما عائشين زماناً متوسطاً من العمر في مزاج متوسط في وضع متوسط من الأمن والخصب والرفاهية ومساعدة سائر العوامل والشرائط المؤثرة في حياة الإنسان ثم فرضناهما ، وقد تزوجا وتناسلا وتوالدا في أوضاع متوسطة متناسبة ثم جعلنا الفرض بعينه مطرداً فيما أولدا من البنين والبنات على ما يعطيه متوسط الحال في جميع ذلك وجدنا ما فرضناه من العدد أولاً وهو اثنان فقط يتجاوز في قرن واحد ( رأس المائة ) الألف أي أن كل نسمة يولد في المائة سنة ما يقرب من خمسمائة نسمة .
  ثم إذا اعتبرنا ما يتصدم به الأنسان من العوامل المضادة له من الوجود والبلايا العامة لنوعه من الحر والبرد والطوفان والزلزلة والجدب والوباء

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 70 ـ

   والطاعون والخسف والهدم والمقاتل الذريعة والمصائب الاخرى غير العامة ، وأعطيناها حظها من هذا النوع أوفر حظ . وبالغنا في ذلك حتى أخذنا الفناء يعم الأفراد بنسبة تسعمائة وتسعة وتسعين إلى الألف ، وأنه لا يبقى في كل مائة سنة من الألف إلا واحد أي إن عامل التناسل في كل مائة سنة يزيد على كل اثنين بواحد وهو واحد من ألف .
  ثم إذا صعدنا بالعدد المفروض أولاً بهذا الميزان إلى مدة سبعة الآف سنة ( 70 قرناً ) وجدناه تجاوز بليونين ونصفاً ، وهو عدد النفوس الإنسانية اليوم على ما يذكره الإحصاء العالمي .
  فهذا الاعتبار يؤيد ما ذكر من عمر نوع الإنسان في الدنيا لكن علماء الجيولوجيا ( علم طبقات الأرض ) ذكروا أن عمر هذا النوع يزيد على ملايين السنين ، وقد وجدوا من الفسيلات الإنسانية والاجساد والآثار ما يتقدم عهده على خمسمائة ألف سنة على ما استظهروه ، فهذا ما عندهم ، غير أنه لا دليل معهم يقنع الإنسان ويرضي النفس باتصال النسل بين هذه الأعقاب الخالية والأمم الماضية من غير انقطاع ، فمن الجائز أن يكون هذا النوع ظهر في هذه الأرض ثم كثر ونما وعاش ثم انقرض ثم تكرر الظهور والانقراض ودار الأمر على ذلك عدة أدوار ، على أن يكون نسلنا الحاضر هو آخر هذه الأدوار .
  وأما القرآن الكريم فإنه لم يتعرض تصريحاً لبيان أن ظهور هذا النوع هل ينحصر في هذه الدورة التي نحن فيها أو أن له أدواراً متعددة نحن في آخرها ؟ وإن كان ربما يستشم من قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ) (1) ، سبق دورة إنسانية اخرى على هذه الدورة الحاضرة ، نعم في بعض الروايات

**************************************************************
(1) سورة البقرة ، الآية : 30 .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 71 ـ

  الواردة عن ائمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ما يثبت للإنسانية أدواراً كثيرة قبل هذه الدورة .
  في التوحيد : عن الصادق ( عليهم السلام ) في حديث قال : لعلك ترى أن الله لم يخلق بشراً غيركم ؟ بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر اولئك الآدميين ؟ (1) .
  أقول : ونقل ابن ميثم في شرح نهج البلاغة عن الباقر عليه السلام ما في معناه ، ورواه الصدوق في الخصال أيضاً (2) .

أصل المجتمع البشري
  ربما قيل : إن اختلاف الألوان في أفراد الإنسان وعمدتها البياض كلون أهل النقاط المعتدلة من آسيا وأوربا ، والسواد كلون أهل إفريقيا الجنوبية ، والصفرة كلون أهل الصين واليابان ، والحمرة كلون الهنود الأمريكيين يقضي بانتهاء النسل في كل لون إلى غير ما ينتهي إليه نسل اللون الآخر لما في اختلاف الألوان من اختلاف طبيعة الدماء ، وعلى هذا فالمبادى الاول لمجموع الافراد لا ينقصون من أربعة أزواج للألوان الأربعة .
  وربما يستدل عليه بأن قارة أمريكا انكشفت ولها أهل وهم منقطعون عن الانسان القاطن في نصف الكرة الشرقي بالبعد الشاسع الذي بينهما انقطاعاً لا يرجى ولا يحتمل معه أن النسلين يتصلان بانتمائهما إلى أب واحد وأم واحدة ، والدليلان ـ كما ترى ـ مدخولان : أما مسألة اختلاف الدماء باختلاف الألوان فلأن الأبحاث الطبيعية

**************************************************************
(1) الصدوق : التوحيد ص 277 ، حديث 2 ، طبع إيران مكتبة الصدوق .
(2) الصدوق : الخصال ص 652 ، حديث 54 ، طبع إيران مؤسسة النشر الإسلامي .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 72 ـ

  اليوم مبنية على فرضية التطور في الأنواع ، ومع هذا البناء كيف يطمأن بعدم استناد اختلاف الدماء ، فاختلاف الألوان إلى وقوع التطور في هذا النوع وقد جزموا بوقوع تطورات في كثير من الأنواع الحيوانية كالفرس والغنم والفيل وغيرها ، وقد ظهر البحث والفحص بآثار أرضية كثيرة يكشف عن ذلك ؟ على أن العلماء اليوم لا يعتنون بهذا الاختلاف ذاك الاعتناء .
  وأما مسألة وجود الإنسان في ما وراء البحار فإن العهد الإنسان على ما يذكره علماء الطبيعة يزهو إلى ملايين من السنين ، والذي يضبطه التاريخ النقلي لا يزيد على ستة آلاف سنة ، وإذا كان كذلك فما المانع من حدوث حوادث فيما قبل التاريخ تجزي قارة أمريكا عن سائر القارات ، وهناك آثار أرضية كثيرة تدل على تغييرات هامة في سطح الأرض بمرور الدهور من تبدل بحر إلى بر وبالعكس ، وسهل إلى جبل وبالعكس ، وما هو أعظم من ذلك كتبدل القطبين والمنطقة على ما تشرحه علوم طبقات الأرض والهيئة الجغرافيا فلا يبقى لهذا المستدل إلا الاستيعاب فقط هذا .
  وأما القرآن فظاهره القريب من النص أن هذا النسل الحاضر المشهود من الناس ينتهي بالارتقاء إلى ذكر وانثى هما الأب والأم لجميع الأفراد أما الأب فقد سماه الله تعالى في كتابه بآدم ، وأما زوجته فلم يسمها في كتابه ولكن الروايات تسميها حواء كما في التوراة ( الموجودة بين الأيدي ) .
  قال تعالى : ( وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ) (1) .
  وقال تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمل آدم خلقه من تراب ثم قال

**************************************************************
(1) سورة السجدة ، الآيتان : 7 ـ 8 .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 73 ـ
  لَهُ كُن فَيَكُونُ )) (1) .
  وقال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ) (2) .
  وقال تعالى : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) (3) .
  فإن الآيات ـ كما ترى ـ تشهد بأن سنة الله في بقاء هذا النسل أن يتسبب اليه بالنطفة لكنه أظهره حينما أظهره بخلقه من تراب ، وأن آدم خلق من تراب وأن الناس بنوه ، فظهور الآيات في انتهاء هذا النسل إلى آدم وزوجته مما لا ريب فيه وإن لم تمتنع من التأويل .
  وربما قيل : إن المراد بآدم في آيات الخلقة والسجدة آدم النوعي دون الشخصي كأن مطلق الإنسان من حيث انتهاء خلقه إلى الأرض ومن حيث قيامه بأمر النسل والايلاد سمي بآدم ، وربما استظهر ذلك من قوله تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ ) (4) .
   فإنه لا يخلو عن إشعار بأني الملائكة إنما أمروا بالسجدة لمن هيأه الله لها بالخلق والتصوير ، وقد ذكرت الآية أنه جميع الأفراد لا شخص إنساني واحد معين حيث قال : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ، وهكذا قوله تعالى : ( قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ـ إلى أن قال ـ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ـ إلى أن قال ـ قال فبعزتك لأغوينهم

**************************************************************
(1) سورة آل عمران ، الآية : 59 .
(2) سورة البقرة ، الآيتان : 30 ـ 31 .
(3) سورة ص ، الآيتان : 71 ـ 72 .
(4) سورة الأعراف ، الآية : 11 .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 74 ـ

  أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (1) ، حيث أبدل ما ذكره مفرداً أولا من الجمع ثانيا ً .
  ويرده مضافاً إلى كونه على خلاف ظاهر ما نقلنا من الآيات ظاهر قوله تعالى بعد سرده لقصة آدم وسجود الملائكة وإباء ابليس في سورة الأعراف : ( يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا ) (2) ، فظهور الآية في شخصية آدم مما لا ينبغي أن يرتاب فيه .
  وكذا قوله تعالى : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ) (3) .
  وكذا الآية المبحوث عنها : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء ) بالتقريب الذي مر بيانه ، والآيات ـ كما ترى ـ تأبى أن يسمى الإنسان آدم باعتبار وإبن آدم باعتبار آخر ، وكذا تأبى أن تنسب الخلقة إلى التراب باعتبار وإلى النطفة باعتبار آخر وخاصة في مثل قوله تعالى : ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) الآية ، وإلا لم يستقم استدلال الآية على كون خلقة عيسى خلقة استثنائية ناقضة للعادة الجارية ، فالقول بآدم النوعي في حد التفريط ، والافراط الذي يقابله قول بعضهم : إن القول بخلق أزيد من آدم واحد كفر ذهب إليه زين العرب من علماء أهل السنة .

**************************************************************
(1) سورة ص ، الآيات :75 ـ 83 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 27 .
(3) سورة الاسراء ، الآيتان : 61 ـ 62 .

  قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم ـ 75 ـ

الانسان نوع مستقل غير متحول من نوع آخر
  الآيات التي ذكرناها تكفي مؤونة هذا البحث ، فإنها تنهي هذا النسل الجاري بالنطقة إلى آدم وزوجته وتبين أنهما خلقا من تراب فالانسانية تنتهي إليهما وهما لا يتصلان بآخر يماثلهما ويجانسهما وإنما حدثا حدوثاً .
  والشائع اليوم عند الباحثين عن طبيعة الإنسان أن الإنسان الأول فرد تكامل إنساناً وهذه الفرضية بخصوصها وإن لم يتسلمها الجميع تسلماً يقطع الكلام واعترضوا عليه بأمور كثيرة مذكورة في الكتب لكن اصل الفرضية وهي ( أن الانسان حيوان تحول إنساناً ) ، مما تسلموه وبنوا عليه البحث عن طبيعة الإنسان .
  فإنهم فرضوا أن الأرض ـ وهي أحد الكواكب السيارة ـ قطعة من الشمس مشتقة منها وقد كانت في حال الاشتعال والذوبان ثم أخذت في التبرد من تسلط عوامل البرودة ، وكانت تنزل علها أمطار غزيرة وتجري عليها السيول وتتكون فيها البحار ثم حدثت تراكيب مائية وأرضية فحدثت النباتات المائية ثم حدثت بتكامل النبات واشتمالها على جراثيم الحياة السمك ، وسائر الحيوان المائي ثم السمك الطائر ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الإنسان ، كل ذلك بتكامل عارض للتركيب الأرضي الموجود في المرتبة السابقة يتحول به التركيب في صورته إلى المرتبة اللاحقة فالنبات ثم الحيوان المائي ثم الحيوان ذو الحياتين ثم الحيوان البري ثم الإنسان على الترتيب هذا .
  كل ذلك لما يشاهد من الكمال المنظم في بنيها نظم المراتب الآخذة من النقص إلى الكمال ولما يعطيه التجريب في موارد جزئية التطور .