بالتقوى ) ، فالاخوة العقائدية تعتبر لبنة اساسية في بناء افكار المواطنة ضمن اطار النظام السياسي.
  الرابعة : ان الولاية التكوينية المطلقة لله سبحانه وتعالى وهو الذي منح الولاية التشريعية الكبرى للانبياء والاوصياء المعصومين ( عليهم السلام ) ؛ وجعلها نيابة خاصة مباشرة من قبله ، ومنح الولاية العامة لا دارة شؤون المسلمين الى الولي الفقيه الجامع لشرائط الولاية في عصر غيبة المعصوم ( عليه السلام ) ـ الذي ينحصر دوره في الاشراف على تنفيذ الشريعة فحسب وليس التشريع كما هو معلوم ـ يقول تعالى : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1).
  الخامسة : دور الامة الاساسي في المشاركة في النشاط السياسي ، والكشف عن الحاكم ـ وهو رئيس الدولة التنفيذي ـ ورفد الدولة بالاختصاصات اللازمة لما تتطلبه عملية الشورى من جهود علمية لبناء المؤسسات التخصصية ، وطاعة ولي الامر الفقيه الاعلم بما يمثله من قوة تشريعية ، يقول تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) (2) ، ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) (3).
  ولاشك ان السر في كمال تنظيم الحكومة الالهية ـ وهي حكومة الانبياء ( عليهم السلام ) بولاياتها التنفيذية والشوروية والقضائية ـ ان المرسل ألزم
--------------------
(1) المائدة : 55.
(2) البقرة : 143.
(3) الشورى : 38.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 201 _

  المكلفين بطاعة المرسل : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ... ) (1) ، حيث اشرف الانبياء ( عليهم السلام ) على رئاسة الدولة وادارتها اشرافاً مباشراً كحكومة داود وسليمان ( عليه السلام ) وحكومة النبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولولا التكليف الشرعي في تنظيم الشؤون الاجتماعية كالعدالة والمساواة والاخاء والقتال لدفع العدو ، لما كان للدولة ومؤسساتها الاجتماعية دور في حفظ حقوق الافراد ورعاية مصالحهم وتعبيدهم للخالق سبحانه دون سواه من المخلوقات.
--------------------
(1) النساء : 64.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 202 _
الولاية الشرعية للفقيه الجامع للشرائط
  ولما كانت الولاية مرتبطة بالخالق عز وجل ، فانه يمكن تقسيمها الى قسمين :
  1 ـ الولاية التكوينية : وهي ولاية الله سبحانه وتعالى بالاصالة على الافراد والاشياء في الخلق والتكوين ، بمعنى امتثال المخلوقات والاشياء جميعاً لامره ، بدليل النص المجيد : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (1) ، و( أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) (2) ، و( هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ ) (3) ، وقد يفوض الانبياء ( عليهم السلام ) من قبله عز وجل ببعض شؤون الولاية التكوينية ، كما قدر ذلك لسليمان ( عليه السلام ) : ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ ) (4) ، وعيسى ( عليه السلام ) كما ورد في القرآن الكريم على لسانه ( عليه السلام ) : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ ) (5) ، ولكن الاصل حتماً ان الولاية المطلقة لله عز وجل.
  2 ـ الولاية التشريعية : وفيها يحق تصرف الولي في شؤون المتولى عليه
--------------------
(1) يس : 82.
(2) الشورى : 53.
(3) الكهف : 44.
(4) ص : 36.
(5) آل عمران : 49.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 203_
  رعاية لمصلحته في المال والنفس ـ وهي ولاية مقيدة بالاذن الالهي او اذن المعصوم ـ وهي ولاية الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وولاية الامام ( عليه السلام ) ، وولاية الفقيه المجتهد الجامع للشرائط.
  ولاشك ان وجوب طاعة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الاحكام الشرعية : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (1) ، وفي الرئاسة التنفيذية : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (2) ، وفي الولاية على المال والنفس : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (3) ، تعتبر من اروع الامثلة للولاية التشريعية بمفهومها القيادي الواسع ، فهي لاتختص بتبليغ الاحكام الشرعية الشخصية او ممارسة القضاء فحسب بل تمثل قيادة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للدولة الاسلامية بكل مؤسساتها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية.
  اما الفقيه ـ وهو الذي يبذل وسعه لتحصيل الظن بالحكم ـ فله طريقان في سبيل تحقيق ذلك ، هما : الدليل والاصل ، وظنية الطريق تؤدي الى العلم بالحكم الشرعي ، وهي لا تنافي قطعية الحكم المستفاد من دليله الاجتهادي المحصور بالكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والعقل ، وعند عدم وجود الدليل يرجع الفقيه الى اصل من الاصول الاربعة وهي : البراءة ، والاستصحاب ، والتخيير ، والاحتياط.
--------------------
(1) النساء : 59.
(2) المائدة : 55.
(3) الاحزاب : 6.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 204 _
  وولاية الفقيه في زمن الغيبة حتمية لابد منها ، لاسباب منها ، اولاً : ان هذه الولاية هي امتدادد لولاية الله عز وجل : (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ ) (1) والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (2) ، والائمة ( عليهم السلام ) : ( وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (3) .
  وثانياً : لان للفقيه حق استنباط الحكم الشرعي في الاحكام الثانوية فضلاً عن الاحكام الاولية لادارة شؤون الافراد في النظام الاجتماعي ، وهذه الادارة لابد من تحققها لضمان استقرار المجتمع ؛ فيستحيل ان يمارس المجتمع حياته الطبيعية ما لم يتدخل حكم الله في تثبيت اركان النظام الاجتماعي على المستويين الفردي والاجتماعي.
  فالاحكام الاولية تشمل التكاليف المستخرجة من مصادر التشريع الاربعة : الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، العقل ، وهذه هي الاحكام الثابتة على نطاق التشريع ، والاحكام الثانوية ـ وتشمل الفتاوى والاحكام التي تستند على اساس المصلحة والمفسدة وتختص بالمباحات الاولية ـ هي الاحكام المتحركة المتغيرة بتغير الظروف الاجتماعية العرفية .
  ويطلق على الاحكام الثانوية ايضاً الاحكام الموضوعية ، لانها من الاحكام التي تكون موضوعاً لحكم شرعي ، كعلاقة الفرد بالشؤون الفنية كالزراعة والصناعة والحرب ونحوها أو الشؤون الشخصية كقضايا الزواج ونحوها ، فلابد للفقيه فيها من التشاور مع المتخصصين أو مع المبتلين بمواضيع هذه الاحكام.
--------------------
(1) الكهف : 44.
(2) الاحزاب : 6.
(3) النساء : 59.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 205 _
  فدور الفقيه في التشريع ـ اذن ـ هو الكشف عن التشريعات الثابتة للوصول الى الواقع الموضوعي للحكم والافتاء به ، وملء منطقة الفراغ التشريعي التي لحقت عصر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويثبت عن ولاية الفقيه الشرعية للمجتهد : الافتاء ، والقضاء ، والتصرف في أموال الناس وأنفسهم ، وهو يعكس بشكل صريح اساس الحكومة في النظام الاجتماعي.
  أولاً : ولاية الافتاء ، وهي ثابتة حتماً للفقيه للنص القرآني الشريف : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1) ، والنص الآخر : ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (2) ، والرواية الواردة عن الامام صاحب العصر ( عليه السلام ) في توقيعه لاسحاق بن يعقوب : ( واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا ، فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله ) (3) ، والرواية الاخرى الواردة عنه ( عليه السلام ) : ( من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه ) (4) .
  وهي ثابتة له لأنها من ضرورات الدين وتجب عليه كفاية لأن له ملكة الترجيح وقوة الاستنباط من مظان الاحكام الشرعية من ادلتها التفصيلية ، ولاشك ان التقليد واجب على كل الافراد الذين لم يصلوا درجة الاجتهاد في الفقه والاصول لدليل الاجماع اولاً ، وبقاء التكليف في ذمة المكلف ثانياً ، فلا يجوز لبقية الافراد في النظام
--------------------
(1) التوبة : 122.
(2) النحل : 43.
(3) الغيبة للشيخ الطوسي ص 198.
(4) الاحتجاج للطبرسي ص 163.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 206_
  الاجتماعي ـ حسب فقه الامامية ـ تعطيل ادوارهم الاجتماعية ، بل عليهم الاجتهاد في تعيين الفقيه الذي يقلدونه ، بخصوص الحياة والأعلمية والعدالة.
  ثانياً : ولاية القضاء والمرافعات ، وهي للمجتهد ايضاً ، فيوجب الاسلام على الرعية الترافع اليهم وقبول أحكامهم ، ويدل على ثبوتها اطلاق الآية الشريفة : ( وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ) (1) .
  وهو لاشك يدل على الحكم في مورد القضاء الشرعي ؛ وقوله تعالى : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ) (2) دليل آخر على ثبوتها ايضاً ، وكذلك يدل على ثبوتها الروايات المتضافرة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) ؛ ومنها مشهورة ابي خديجة عن الامام الصادق ( عليه السلام ) : ( اياكم اذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الاخذ والعطاء ان تحاكموا الى أحد من هؤلاء الفساق ، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا ، فاني قد جعلته عليكم قاضياً ، واياكم ان يخاصم بعضكم بعضاً الى السلطان الجائر ) (3) .
  ومنها : مقبولة عمر بن حنظلة عن الامام الصادق ( عليه السلام ) ايضاً بعد ان نهى عن التحاكم الى السلطان الظالم وقضاة الجور ، وجه اصحابه الى رجل منهم : ( قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فاني قد جعلته عليكم حاكماً فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه ، فانما استخف بحكم الله
--------------------
(1) النساء : 58.
(2) النساء : 59.
(3) التهذيب ج 6 ص 303.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 207 _
  وعلينا رد ، والراد علينا كالراد على الله ) (1)، ثالثاً : ولاية اجراء الحدود والتعزيرات ، وتثبت لقاعدة : ( عمل الحاكم بعلمه في حقوق الله ) ، لرواية حفص بن غياث عند سؤال الامام الصادق ( عليه السلام ) : من يقيم الحدود : السلطان أو القاضي ؟ فقال (ع) : ( اقامة الحدود الى من اليه الحكم ) (2).
  رابعاً : ولاية التصرف باموال اليتامى ، للنص القرآني المجيد : ( وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (3) ، اولاً ، ولأن الصغير ممنوع من التصرف في ماله ، ثانياً ، وللروايات المتعددة المحمولة على جواز التصرف بأموال اليتامى ، ثالثاً ، خامساً : ولاية التصرف بأموال المجانين والسفهاء ، لقوله تعالى : ( وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ ) (4) ، ( فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) (5).
  وهناك ولايات اخرى كولاية التصرف بأموال الغيب وولاية انكحة الصغار والمجانين والسفهاء ، وولاية التصرف بأموال الامام من نصف الخمس ، والمال المجهول مالكه ، ومال من لا وارث له ، وما ثبت مباشرة الامام له من امور الرعية كطلاق المفقود زوجها بعد الفحص والتبين ، وبيع
--------------------
(1) من لايحضره الفقيه ج 3 ص 5.
(2) التهذيب ج 6 ص 314.
(3) الانعام : 152.
(4) النساء : 5.
(5) النساء : 6.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 208 _
  مال المفلس ، وكل فعل لابد من ايقاعه للأدلة اللبية والشرعية ، كعزل الأوصياء ، والتصرف في الاوقاف العامة.
  وولاية الفقيه للدولة والنظام الاجتماعي هي امتداد لولايته في الاموال والنفوس ، فاذا كانت للفقيه الجامع للشرائط صلاحية التصرف بالنفوس ، واصدار فتوى بالجهاد لحفظ النظام الاسلامي ، والحكم بالقصاص والدية والقضاء ، وصلاحية التصرف باموال القاصرين ، والاموال المجهولة المالك ، كان الاولى وجوب بسط يده لحفظ النظام الاسلامي عن طريق الولاية الشرعية على السلطات الثلاث القضائية والشوروية والتنفيذية .
  ويؤكد هذا الرأي العديد من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) ، منها : سؤال زرارة عن سبب تفوق الولاية على بقية أركان الاسلام مثل الصوم والصلاة والحج والزكاة ، فيجيبه ( لأنها مفتاحهن ) ، بمعنى ان حماية النظام الاسلامي لحرية الأفراد بممارسة واجباتهم التعبدية هو مفتاح اقامة اركان الاسلام بكل جوانبها العبادية والروحية والاجتماعية والسياسية ، ويدل على ذلك ايضاً قول الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( واما ما فرضه الله عز وجل من الفرائض في كتابه ، فدعائم الاسلام ، وهي خمس دعائم ، وعلى هذه الفرائض بني الاسلام ، فجعل سبحانه وتعالى لكل فريضة من هذه الفرائض اربعة حدود : لايسع احداً جهلها ، اولها الصلاة ، ثم الزكاة ، ثم الصيام ، ثم الحج ، ثم الولاية وهي خاتمتها ، والحافظة لجميع الفرائض والسنن ) (1).
--------------------
(1) رسالة المحكم والمتشابه للسيد المرتضى ص 77.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 209_
  وهل يعقل ان يأمر المولى عز وجل بولاية الاسرة ويترك ولاية الأمة على غاربها ؟ واذا كانت ولاية الآباء والاجداد والأوصياء والازواج والموالي والوكلاء منحصرة فيما ثبتت الولاية فيه شرعاً ، فان ولاية الفقيه الأعلم على الامة تتحقق باعبتاره أمين الرسل ، والحاكم ، والقاضي ، والحجة من قبلهم ، وان على يده مجاري الامور والاحكام ، وانه الكافل لأيتام الامة ، وانه ولي من لا ولي له ، وانه حصن الاسلام ، ومثل الانبياء بمنزلتهم ، والمتصرف بأموال اليتامى والمجانين والسفهاء ، والمتصرف بمال المجهول مالكه ، وان على يده تقام الحدود والتعزيرات ، والقضاء ، والمرافعات ، وفردٌ بهذه المواصفات القيادية وهذه الصلاحيات الواسعة ، لابد وان يكون قائداً للامة ونظامها الاجتماعي بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ واوصاف.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 210 _
السلطات الثلاث
  ولاشك ان السلطات الثلاث في الاسلام تستمد قوتها التشريعية وطاقتها الابداعية من الله سبحانه وتعالى باعبتاره مصدر التشريع ، ومن الافراد باعتبارهم أهلاً للتكليف والطاعة والتنفيذ.
  ولكن ، اختلط على عدد من المفكرين الاعلام مفهومي الشورى والولاية الشرعية ، حيث بذل البعض منهم جهداً استثنائياً في استقصاء الفكرتين والبحث عن جذريهما ، وانقسم علماء المسلمين الى طرفين : طرف يؤيد اتجاه الشورى في الحكم ، والآخر يؤيد الولاية الشرعية للفقيه الجامع للشرائط زمن الغيبة ، واتخذ فقهاء أهل البيت ( عليهم السلام ) موقفاً سلبياً من الاتجاه الاول ، لأن فكرة الشورى تؤمن بأن الولاية قد اعطيت بالأصل للمسلمين على انفسهم ، وان لهم الحق بمنحها الى أي فرد من ابناء الاسلام ضمن شروط وضوابط يتفق عليها ، بينما اعتقد الاتجاه الثاني بان الولاية تتحقق اما بالنص من قبل الله سبحانه وتعالى ، او الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أو بالنيابة العامة عن الولي.
  ونظرة دقيقة لمباحث الشورى والولاية تكشف لنا ان الاختلاف المزعوم الذي تبارت الاقلام لتجسيده وكأنه مشكلة اساسية في نظرية الحكم الاسلامي لا وجود له بالمرة بسبب اختلاف الموضوع ، فالولاية

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 211 _
  الشرعية التي يختص بها الفقيه ـ اضافة الى القضاء والفتوى ـ المرجعية في " الحوادث الواقعة " ، وهو ماعبر عنها بالعناصر المتحركة في التشريع ، أو بمعنى آخر : القضايا الاجتهادية التي تحتاج الى جهد وتفريغ سعة في البحث ومنها ـ بالتأكيد ـ ادارة شؤون المجتمع الاسلامي عن طريق مؤسسات الدولة الاسلامية .
  اما الشورى فهي شأن من شؤون أهل الاختصاص في المعارف الاخرى غير المعارف الدينية ، فتخطيط الشوارع ، وتنظيم المرور ، وتصميم المدن ، وتنظيم الجهاز الصحي والتعليمي والدفاعي للدولة مثلاً ليست من اختصاصات الفقيه المباشرة ، بل للفقيه تعيين أهل الاختصاص في ذلك ، وانما تنحصر مهمته في الاشراف على مؤسسات الدولة ككل ، والتأكيد من التزامها بالمنهج الاسلامي .
  وكانت الشورى التي مارسها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تجسد عمق هذا الاتجاه ، فهو وان شاورهم في حفر الخندق ، والخروج من المدينة الى احد ، والمسير الى آبار بدر ، الا انه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يشاورهم قط بخصوص الاحكام الشرعية اصالة أو نيابة ، وكذلك فعل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فشاورهم قبل خروجه الى معركة صفين ، ولكنه لم يستشرهم في شيء من الاحكام الشرعية ، بمعنى ان الولاية قضية حكمية شرعية ، والاستشارة قضية موضوعية.
  وقوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (1) ، لا تعني ان سلطة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الشرعية مقيدة برأي الامة ، لأن المولى عز وجل لم يوجب عليه ـ بصفته الرسالية ـ الأخذ بما يشار عليه من صحابته
--------------------
(1) آل عمران : 159.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 212 _
  أو من غيرهم ، واذا ورد النص التشريعي من قبل الله أو الرسول ، فليس لأحد الاجتهاد ، بل عليهم الأخذ به حتماً : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (1) ، ( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَام ) (2) .
  فالمشاورة التي أمر الله سبحانه رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الأخذ بها كانت منحصرة في الامور العرفية ، ولكن اطلاق النص في الآية الشريفة جعل القوم ينحون مناحي شتى في تفسيرها وتأويلها.
 وقد استشار رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اصحابه في غزوة بدر الكبرى (3) ، وفي غزوة أحد (4) ، وفي غزوة الخندق (5) ، ولكنه ( صلى الله عليهى وآله وسلم ) لم يشاورهم في كل القضايا المصيرية التي كانت تهم الدولة الفتية ، فقد عقد (ص) معاهدته مع اليهود دون استشارة أحد من المسلمين ، وعقد صلح الحديبية رغم معارضة بعض الصحابة لذلك ، وأعلن الحرب على قريش بإرسال السرايا دون استشارتهم .
  والمدار في كل ذلك انه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يعلم المصلحة العليا للاسلام في قرارته لأنه كان قريباً من منبع الوحي ومهبط التنزيل ، وحتى في بدر فإنه استشارهم في المكان الذي نزل فيه ، ولم يستشرهم في أصل لزوم القتال أو عدمه ، فيكون مقتضى قوله : ( وشاورهم في الامر ) المشاورة
--------------------
(1) الاحزاب : 36.
(2) النحل : 116.
(3) سيرة ابن هشام ج 1 ص 447.
(4) تاريخ الطبري ج 2 ص 500.
(5) تاريخ الطبري ج 2 ص 573.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 213-_
  الاختصاصية ، لأن الأصل في المشاورة العلم والاختصاص، وعلى ضوء ذلك يمكننا الآن ترتيب النقاط التالية في مسألة السلطات الثلاث :
  أولاً : ان لله سبحانه وتعالى الحاكمية المطلقة : ( وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ) (1) ، وهو مصدر السلطات الشرعية التي يستند عليها اساس الدولة ، بمعنى الغاء كل اشكال عبودية الانسان للانسان ، واثبات العبودية الحقيقية لله تعالى من قبل جميع الافراد على اختلاف الوانهم وطبقاتهم وانتماء اتهم العائلية والنسبية.
  ثانياً : النيابة العامة في هذا العصر للمجتهد المطلق الجامع للشرائط عن الامام ، وفقاً للنص الشريف : ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (2) ، والرواية المروية عن الامام صاحب العصر ( عليه السلام ) : ( واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وأنا حجة الله ) (3).
  ولاريب ان اطاعة ولي الامر الفقيه الاعلم الزامية على جميع الافراد ، فلابد لهم من الانقياد له والتسليم لحكمه ، وهو حكم الله ـ حكماً ظاهرياً كان ام حكماً واقعياً ـ : ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ) (4) ، ولاشك ان عمق فهم الامة لرسالة الاسلام ، وادراك مبانيها
--------------------
(1) الرعد : 15.
(2) النحل : 43.
(3) الغيبة للشيخ الطوسي ص 198.
(4) النساء : 65.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 214_
  الاجتماعية سيجعل أمر الطاعة وتطبيق القوانين امراً ميسورا ، على عكس الامم الاخرى التي لا تملك فهماً ولا ادراكاً لرسالاتها.
  ثالثاً : الولايات الشرعية الثلاث المتمثلة بالولاية القضائية ، وولاية الشورى ، والتنفيذية مستمدة من الشريعة الاسلامية ويشرف عليها الفقيه الجامع للشرائط ، وينفرد الفقيه بالاشراف المباشر على الجهاز القضائي بخصوص الحكم على الخصومات بين الأفراد أنفسهم أو بين الأفراد والدولة : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ) (1) ، والفتاوى المتعلقة بالأحكام العبادية الفردية والجماعية : ( ... لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ ) (2) ، والاشراف الاجمالي على الولايتين الاخريين .
  فولاية الشورى ، والولاية التنفيذية تسندان للامة لسببين ؛ الاول : ان اعضاء مجلس الشورى يمكن اعتبارهم وكلاء عن الامة في ادارة شؤونها اليومية ، فإطلاق أدلة الوكالة ، كما ورد في قوله تعالى : ( فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ) (3) ، ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) (4) .
  والثاني : ان الجهاز التنفيذي المتمثل بالرئيس والوزراء يمثلون التخصص ، وهنا تلعب الشورى التخصصية دوراً خطيراً في ادارة الدولة على الاصعدة الصناعية والزراعية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية.
--------------------
(1) النساء : 59.
(2) التوبة : 122.
(3) الانعام : 89.
(4) السجدة : 11.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 215 _
  وللامة دور اساسي في المشاركة في النظام السياسي لقوله (ص) : ( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) (1) ، فهي التي تشخص قيادة ولي الامر الفقيه الاعلم عن طريق سعيها الحثيث في الكشف عن الاعلم عن طريق اهل الخبرة والاختصاص من المجتهدين ، وهي التي تحدد موضوعات الاحكام الشرعية ، وهي التي تشخص الحرج والعسر وموارد الضرر والضرورة ، وهي التي تقوم بتوكيل اعضاء مجلس الشورى او الحل والعقد عن طريق الانتخاب ، لتنظيم الاجهزة الادارية للدولة.
  ولابد ان تكون الامة واعية في انتخاب ولي الامر الفقيه الاعلم ، فالقيمة لرأي الجمهور العالم بالحق ، كما قال عز من قائل : ( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ) (2) ، فمعيار التشخيص هو رأي العلماء ، وليس رأي من لا يملك ادراكاً واضحاً لدور النظام الاجتماعي في الحياة الاسلامية ، ولابد من ملاحظة مسألة مهمة ، وهي انالشريعة ترجع الموضوعات الخارجية للعرف ، وتبقي الاحكام الشرعية تحت اشرافها المباشر ، بمعنى ان الامة من خلال التوكيل والاختصاص تساهم بشكل فعال في ادارة الدولة من النواحي المالية والثقافية والصحية والعسكرية.
  وتسند الولايتان للامة ايضاً باعتبارها المسؤولة عن حمل الامانة الجماعية في تنظيم شؤون النظام الاجتماعي لقوله تعالى : ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ
--------------------
(1) صحيح البخاري ج 2 ص 6.
(2) سبأ : 1.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 216_
  عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ) (1) ، واعراض السموات والارض والجبال عن حمل الامة والمسؤولية الاجتماعية يعبر عن عدم صلاحيتها للتكليف الشرعي الذي اختص به الانسان كافراد وكجماعة ، ولكن تحمل الامة مسؤولية تسيير دفة الحكم وتنظيم شؤون الدولة لا يعني تخلي الفقيه في عصر الغيبة عن مسؤوليته الشرعية في الاشراف على مسيرة الدولة بالشكل الاجمالي المعهود ، بل تعني ان الفقيه الاعلم ، والامة بكافة افرادها واختصاصاتها يعملان جنباً الى جنب من اجل تكامل النظام الاجتماعي بمؤسساته الحيوية ، واقامة العدل ، وتحقيق الامن لكل الافراد ، واطلاق حرية عبادة الخالق عز وجل وحمايتها.
  وبطبيعة الحال ، فان النظام الاجتماعي بجميع افراده مكلف بتنفيذ الاحكام الشرعية ، فالفرد في الجماعة المسلمة مسؤول عن تطبيق الحكم الشرعي الخاص به بدافع تقوى الله والالزام الاخلاقي والتكليف الشرعي ، وهذه العوامل مجتمعة تساعد الدولة على تثبيت اساس الحكم السياسي بعيداً عن الاساليب المتبعة في انظمة الحكم الاخرى من حيث الترغيب والترهيب ، فالكل راع والكل مسؤول عن رعيته ، والى ذلك يشير النص القرآني المجيد باستخلاف الامة الاسلامية : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 217 _
  قَبْلِهِمْ ... ) (1) ، ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ) (2) ، بمعنى اننا جعلنا لكم فيها السلطان والقوة و( الإقدار عليها بالعلم ) (3) ، والقدرة على ادارة النظام الاجتماعي في توزيع الخيرات على الافراد بشكل عادل ، وهذا هو اصل فكرة النظام السياسي.
  رابعاً : وتعكس قاعدة الشورى مبدأ الخلافة العامة للامة التي يحق لها ممارسة هذا الاسلوب من العمل الجماعي في الجهاز التنفيذي وجهاز الحل والعقد ، ويكون من مهامها التشريع القانوني في المساحة التي تخرج عن اختصاص الفقيه ، كتخطيط الجهاز الصحي في البلاد من حيث عدالة توزيع الاطباء والممرضين حسب الاختصاصات التي تحتاجها المناطق المبتلاة بتعدد الامراض او كثرتها ؛ وتخطيط النظم التعليمي ، بتوزيع الجامعات والمعاهد العلمية حسب الكثافة السكانية ، وحسب تواجد الموارد الطبيعية والزراعية مما يسهل على الطلبة الاستفادة من العينات الارضية في تجاربهم وبحوثهم ، وتخطيط النظام الدفاعي من حيث تعيين عدد الجنود وكمية الوسائل الدفاعية ونوعيتها ، فالامة اذن ـ ممثلة بمجلسها الذي يعكس هو الآخر خلاصة تفكير وعقلية الافراد في النظام الاجتماعي الاسلامي ـ هي التي تتحمل المسؤولية الشرعية الجماعية امام الله سبحانه وتعالى ، لان الدولة لا تبنى ولايمكن حمايتها الا عن طريق الجماعة.
--------------------
(1) النور : 55.
(2) الاعراف : 10.
(3) مجمع البيان ج 4 ص 245.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 218 _
  والمقياس في وضع القوانين الخاصة بادارة الدولة من قبل مجلس الشورى او الحل والعقد هو اتباع الحق وتحديد المصلحة الاجتماعية ، بغض النظر عن آراء الاغلبية البسيطة او الاغلبية التمثيلية ، لقوله تعالى : (لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (1) ، ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى ) (2) ، ( فمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ) (3) ، فالاسلام لا يجعل كثرة العدد ميزاناً للحق او الباطل : ( قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ) (4) ، وعلى ضوء ذلك ، فان المجلس لابد وان يناقش المواضيع والمشاكل المطروحة حتى يصل الى حل يرتضيه الجميع عن طريق الاقناع والتحليل العقلائي ، وليس على اساس الاغلبية البسيطة.
  والقوانين التي يصدرها مجلس الشورى بشأن توزيع ثروات البلاد واستثمارها لمصلحة الافراد ، او مجلس ادارة الدولة ( مجلس الوزراء ) بخصوص تنفيذ خطط اشباع حاجات الناس الغذائية والتعليمية والصحية ينبغي ان تخضع للشورى ايضاً ، لقوله تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ) (5) ، وان يكون هدفها بالاصل المصلحة الاسلامية العليا.
--------------------
(1) الزخرف : 78.
(2) يونس : 35.
(3) يونس : 32.
(4) المائدة : 100.
(5) آل عمران : 159.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 219 _
  ولاشك ان فكرة مجلس الشورى او الحل والعقد نابعة من مفهوم ان للامة الحق في توكيل من تشاء للتعبير عن رأيها في ادارة شؤون الدولة ، فيكون للوكلاء نفس الحقوق التي يملكها موكلوهم ، ولما كان التوكيل عملاً شرعياً في المعاملات التجارية والاقتصادية والعقود والايقاعات ، كما ذكرنا ذلك سابقاً ، فانه يصح في المعاملات السياسية ايضاً لاطلاق ادلة الوكالة وعدم تقييدها بحقل معين من التوكيل .
  وقد ورد في سيرة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) انه قال للمسلمين في بيعة العقبة الثانية : ( اخرجوا لي منكم اثنى عشر نقيباً ) فاختار القوم تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس ، فكان هؤلاء النقباء وكلاء وممثلي اقوامهم عند الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودولته الفتية ، وقد ورد من مصادر علماء اهل الحديث ان الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خصص في المدينة اربعة عشر رجلاً ، سبعة عن الانصار وسبعة عن المهاجرين كانوا نقباء اقوامهم وجماعاتهم ، فكان يرجع اليهم في الامور الاستشارية التخصصية العرفية ، ولو صح ذلك ، لتبين ان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يدرب الامة على فكرة ( اهل الحل والعقد ) التي لا تعبر الاعن التوكيل والشورى في الامور التخصصية .
  خامساً : ان الامة هي التي تقوم بانتخاب رئيس الجهاز التنفيذي الذي ينبغي ان يكون مؤهلاً وجامعاً للشرائط الدينية التي تساعده على اداء دوره الخطير في تنفيذ سياسة الدولة ضمن اطار القواعد الشرعية ، فقد ورد في كتب السيرة ان النساء بايعنه ( صلى الله عليه وىله وسلم ) بعد بيعة الرضوان في الحديبية ، كما يشير النص الشريف الى ذلك : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 220 _
  بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (1) ، والاصل في الدولة ورئيسها التنفيذي حماية اموال الناس وانفسهم واعراضهم ، وتحقيق عدالة توزيع الثروات بين الافراد ، وحماية حرية عبادة الافراد للخالق عز وجل.
--------------------
(1) الممتحنة : 12.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 221_
خصائص النظام السياسي الاسلامي   ولسنا هنا في مقام تحليل اسباب نشوء النظام السياسي في المجتمع الانساني ، حسب نظريات علم نشوء الانسان ( الانثروبولوجي ) ، ولكننا نجمل القول حول نشوء الدولة ونقول ان الرسالات السماوية هي التي حددت نظام الدولة بجهازها الاداري لحفظ حقوق الافراد الاجتماعية ضد الظلم والتسلط والاستبداد ، وليس غريباً ان نلاحظ ان منهاج الرسالات السماوية كان يعبر عن تحدي الأنظمة السياسية المستبدة بحقوق الافراد في المجتمع الانساني ، لأن اطروحة الانبياء ( عليهم اللسلام ) تتلخص بنظرية اساسية تقول ان تحرير الانسان من قيوده الاجتماعية التي فرضها عليه انسان آخر ، سيجعله حراً في عبادة الخالق عز وجل ، فاذا ضمنت حرية الانسان من الاغلال والقيود الاجتماعية الظالمة ، ضمنت عبادته لله جل وعلا ، وعلى ذلك سار الانبياء ( عليهم السلام ) في المناداة بتنظيم شؤون الاجتماع الانساني ، حتى يستطيع الفرد التعبد بكل حرية ودون قيد أو خوف.
  ولاشك ان وجود الدولة يعتبر عنصراً اساسياً في تحقيق العدالة الاجتماعية التي نادى بها الاسلام ، فهي تشرف على توزيع الخيرات ، وتخطط لمستقبل البلاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، وتقيم علاقاتها مع الدول الاخرى حتى يتحقق العدل الاجتماعي في جميع اقطار الارض.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 222 _
  فتشابك مصالح الافراد على الساحة الاجتماعية يستلزم انشاء القوانين التي تنظم حياتهم وتحفظ مصالحهم ، وعلى ضوء ذلك يتولى الفقيه الاعلم تطبيق القوانين الجنائية السمتمدة من الشريعة الاسلامية ، وهي التي تتعلق بمعاقبة المنحرفين، كالقصاص والدية التعزير ونحوها ، اما القوانين المدنية ـ وهي التي تتعلق بحفظ حقوق الافراد والجماعة والدفاع عنها ـ فيشرف عليها الفقيه اشرافاً عاماً ، ولكن يرجع في اصدارها الى أهل الاختصاص في الحكومة والموكلين في مجلس الشورى ، فحق التعليم ثابت لكل الافراد في المجتمع الاسلامي ، لكن تعيين المدرسين وتحديد مؤهلاتهم ، وبناء المدارس وتحديد صلاحياتها لاستقبال الطلبة ، ووضع المناهج الدراسية وتحديد محتواها العلمي ، يرجع الى مجلس الشورى ووزارة المعارف او التربية لاستصدار القوانين اللازمة لتنفيذها.
  وكذلك الامر في توزيع الخيرات ، فالدولة من خلال استثمارها الموارد الطبيعية تستطيع سد حاجات افرادها الغذائية والصحية والسكنية ، ورفع مستوى الناس في كل النواحي التي يتطلبها الاجتماع الانساني بل ان فائض موارد الدولة يمكن ان يصرف على تشجيع طلب العلم ، والبحوث العلمية التجريبية التي تنفع الانسان وتقربه من معرفة اسرار الكون والخلق ، حتى يستطيع عبادة خالقة العظيم عن طريق العلم والوعي الادراك ، فالدولة الاسلامية يجب ان تكون الدولة الرائدة بين دول العالم بخصوص قيادة الابحاث التجريبية التي توصل الى معرفة الله سبحانه ، ومنفعة البشرية.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 223_
  ويعتبر التخطيط لمستقبل البلاد ـ بطبيعة الحال ـ من أهم واجبات الدولة الاسلامية ، ولعل حديثه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع الاعرابي عندما ترك ناقته ودخل المسجد متوكلاً على الله ، فقال له : ( اعقل وتوكل ) ، ووصية الامام علي ( عليه السلام ) لمالك الاشتر يقربان من فهمنا لمسألة تخطيط الدولة ، وتوجيه دفة النظام الاجتماعي نحو الكمال ، فعقل الناقة أو ربطها نموذج مصغر للسيطرة على ذلك الحيوان والاطمئنان الى عدم فراره ، وهي قضية موضوعية على نطاق المستوى الفردي ، اما على المستوى الجماعي العام ، فلابد من الاطمئنان الى سير السفينة الاجتماعية نحو هدف معلوم ضن تخطيط واضح مدروس ، ولما كانت البلاد الاسلامية محاطة بالاعداء غالباً ، فان الدولة هي التي تخطط لمستقبل البلاد العسكري عن طريق التجنيد ، والتصنيع الحربي ، واختراع الاجهزة المتطورة للتفوق على العدو ، وارغامه على الخضوع للحق.
  ولاشك ان العقد الاجتماعي بين الفرد والدولة ، الذي نادى به ( توماس هوبس ) في القرن السابع عشر الميلادي ، وأكد فيه على ان الفرد يجب ان يقبل بالتضحية بحريته الاجتماعية مقابل تجنب الفوضى الاجتماعية (1) ، ليس مورد بحث في النظرية الاجتماعية الاسلامية لعدة اسباب منها : اولاً : ان الله سبحانه وتعالى أمر جميع المكلفين بطاعة الرسل ( عليهم السلام ) ، كما ورد في قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ... ) (2).
--------------------
(1) ( توماس هوبس ) ، الدولة ، نيويورك : مطبعة الفنون الليبرالية ، 1958 م ، الطبعة الاولى عام 1598 م.
(2) النساء : 64.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 224_
  ولما كانت الرسل ( عليهم السلام ) تنادي بانشاء الدولة القائمة على أسس العدالة الاجتماعية ، فان اطاعة قوانينها يعتبر الزاماً شرعياً لجميع المكلفين ، فالقضية هنا ليست حرية الفرد مقابل نظام الجماعة ، بقدر ما هي طاعة الفرد المكلف لله تعالى ضمن نظام الجماعة ، وبالتالي الطاعة الجماعية للخالق عز وجل ضمن النظام الاجتماعي ، ثانياً : ان للامة الاسلامية دوراً اساسياً في المشاركة السياسية ، وهذا هو معنى الاستخلاف الذي أوردته الآيات القرآنية الشريفة : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ... ) (1) ، ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) (2) .
  وعلى ضوء ذلك فان العقد الاجتماعي بين الفرد والدولة لا يتحقق ، لأن الفرد في النظام الاسلامي مكلف بالقيام بدور النيابة والاستخلاف في الارض من قبل الحاكم المطلق عز وجل ، بمعنى ان الفرد في المجتمع الاسلامي يشعر بأنه هو الدولة ، فكيف يعقد الفرد عقداً اجتماعياً بينه وبين نفسه ، ثالثاً : ان رابطة الاخوة الانسانية بين الافراد في النظام الاسلامي تلغي أي عقد من العقود الاجتماعية السياسية ، لأن الاخوة في النظام الاجتماعي قضية تقتضيها الطبيعة الانسانية ذاتها ، فالمتآخون نسبياً أو سببياً أو عقائدياً يعيشون في موقع واحد ، ويأكلون من رغيف واحد ، ويستنشقون الهواء من جو واحد ، ولا يفرض عليهم العقد الاجتماعي ذلك ، بل ان أحاسيسهم ودوافعهم
--------------------
(1) البقرة : 30.
(2) النور : 55.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 225_
  الذاتية هي التي تجرهم الى التكاتف والتآزر الاجتماعي، ولذلك فان الدولة ضرورية للاجتماع الانساني ، لرعاية مصالح الافراد ، وحفظ حقوقهم الاجتماعية ضمن اطار الاخوة والعقيدة الدينية والايمان بالخالق عز وجل ، وصيانة حرية الانسان كما عبر عن ذلك قول أمير المؤمنين (ع) : ( لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً ) (1).
  والدولة في الاسلام ، لا ترعى مصالح الطبقة الغنية ضد الطبقة الفقيرة ، كما تزعم نظرية الصراع الاجتماعي (2) ، بل ان ارسال الانبياء والرسل ( عليهم السلام ) كان يهدف اساساً الى تحقيق العدالة الاجتماعية بين الافراد ، ودعوتهم الى عبادة الخالق دون سواه ، وكيف يقف الانبياء ( عليهم السلام ) ضد الفقراء ، كما تزعم نظرية الصراع ، وهم الذين تحدوا النظام الاجتماعي المتمثل بالطبقة الثرية الظالمة ، ونادوا بضرورة تطبيق العدالة الاجتماعية ؟ وهل وقف نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد ( عليهم أفضل الصلاة ولاسلام ) ضد الفقراء أم ضد طواغيت وظلمة عصرهم ؟ أو ليست المراحل التي مرت بها البشرية من العبودية ، الى الاقطاع ، الى الرأسمالية ، الى الاشتراكية ، وديكتاتورية البروليتاريا من صنع الانسان نفسه وظلمة لاخيه الانسان ؟ بل هل استبعد نبي من انبياء الله فرداً من الافراد ؟ او ليست الاديان كلها دعوات بل صرخات مدوية لتحرير الانسان من العبودية والرق والاستعباد ؟ أو لم يستخدم الاسلام نظام تحرير الرقاب في الكفارات
--------------------
(1) نهج البلاغة ص 401.
(2) ( راندال كولينز ) ، علم اجتماع الصراع : نحو علم توضيحي ، نيويورك : الاكاديمية ، 1974 م.