حيوية للاعصاب والدماغ وحفظ بقية الأنسجة ، وكمية قليلة من الدهنيات للحفاظ على ظاهر الجسم ، وعندما يتم اكتمال بناء الجسم في العشرينيات من عمر الانسان ، تصبح كثرة تناول الطعام من هذه المواد بمثابة حقن الجسم بالسموم .
  ولذلك فان الرسل ( صلى الله عليه وأله وسلم ) والائمة ( عليهم السلام ) كانوا يكتفون بالخبز والتمر واللبن احياناً في وجباتهم الغذائية لأن الخبز ـ وهو يحتوي على الكاربوهيدرات ـ يمنح الجسم الطاقة ، والتمر ـ وهو يحتوي على سكر واملاح وفيتامينات ـ يحفظ حيوية الدماغ والاعصاب ، واللبن ـ وهو يحتوي على بروتينات وفيتامينات ـ يصلح الأنسجة ويحافظ على حيويتها ، اما بقية الحبوب والفاكهة والخضار فقد ورد استحباب أكلها لأنها تحتوي على كل هذه المواد النافعة لجسم الانسان .
  وورد التأكيد على الاعتدال في أكل اللحوم . وهذه المواد الغذائية البسيطة ، هي الاساس في تقوية وتحريك الجسم ، وما عداها زائد ليست له قيمة حقيقية في بناء جسم الفرد صحياً.
  1 ـ النظام الوقائي : ويعالج النظام الوقائي الحالة المرضية قبل وقوعها ، فاذا كانت كثرة الطعام تسبب آلاماً في الجهاز الهضمي مثلاً ، فمن الوقاية ان يجتنب الفرد كثرة الأكل ، وهذه القاعدة الصحية البسيطة لها تأثير فعال على صحة الأفراد ، لأن كمية الطعام ونوعيته مرتبطة بعدد كبير من الامراض التي تصيب الانسان .
  واذا نظرنا من وجهة نظر طبية ونفسية للتحريم الذي أوجبه الشارع على المأكولات تبين لنا ان للتحريم ـ اضافة الى معناه التعبدي ـ نتائج وقائية على مستوى عظيم من الأهمية ، ويمكن

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 126 _

ترتيب النقاط التالية حول النظام الوقائي في القرآن الكريم :
  اولاً : لما كان الفم الطريق الرئيسي لدخول الطعام الى جسم الانسان حيث تجري عليه مختلف العمليات الكيميائية من هضم وامتصاص وتمثيل وبناء خلايا ، فان نوعية الطعام الداخل لابد وان تؤثر على سير عمليات الجسم البيولوجية .
  ولاشك ان بعض المأكولات قد تسبب ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ امراضاً تختلف شدتها وقوة تأثيرها على الأجهزة المختلفة التي تتضافر على تسيير دفة حركة الجسم ، وعلى ضوء ذلك فقد نظم الاسلام نوعية المواد الغذائية المأكولة فحرم تناول لحوم الخنازير ، والدماء ، والميتة ، وما أهل لغير الله ، كما قال تعالى في كتابه الكريم : ( قل لا أجد فيما أوحي الي محرماً على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فانه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغٍ ولاعادٍ فان ربك غفور رحيم )(1) .
  وحرمت الكلاب والسباع (2) ، والمسوخ (3) ، والطيور المخلبية على تفصيلٍ (4) ، والحيوانات البحرية والاسماك التي ليس لها قشور (5) ، وحرمت الخمرة ـ وهو مطلق ما يسكر ـ لقوله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) (6) ، ( إِنَّمَا الْخَمْرُ
--------------------
(1) الانعام : 145.
(2) الكافي ج 6 ص 245.
(3) الخصال ج 2 ص 88.
(4) الجواهر ج 36 ص 304.
(5) اللمعة الدمشقية للشهيد الاول ج 7 ص 300.
(6) البقرة : 219.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 127 _
   وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (1) ، ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) (2) .
  والاثم ـ في عرف المفسرين ـ هو الخمر ، و ( تحريم الخمر من ضروريات الدين حتى ورد أنه أكبر الكبائر وانه لو صب في أصل شجرة ما أكل من ثمرها ، ولو وقع في بئر قد بنيت عليه منارة ما أذن عليها ، ونحو ذلك من الأخبار الدالة على المبالغة في تحريمها لكثرة مفاسدها ) (3) .
  وحرمت ايضاً كل الاعيان النجسة ، والسوائل المتنجسة ، وألبان الحيوانات المحرمة ، والمدار في التحريم قاعدة ( لاضرر ولاضرار في الاسلام ) (4) ؛ بمعنى ان أي طعام ينزل ضرراً معتداً به على الفرد يحرم تناوله الا في حالة الاضطرار ، كما ورد في قوله تعالى : ( وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (5).
  ثانياً : ولم توقف الاسلام على تحديد الأطعمة المحرمة ، بل اشار الى حلية الأطعمة المباحة كلحوم البهائم الاهلية مثل البقر والغنم والماعز والابل ، ولحوم البهائم البرية كالغزلان والابقار والحمير المتوحشة ، كما ورد في قوله تعالى : ( أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ ) (6) ، ( وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) (7) .
  والاسماك ذات القشور وبيوضها ، كما في قوله تعالى : ( أُحِلَّ
--------------------
(1) المائدة : 9.
(2) الاعراف : 32.
(3) قلائد الدرر للشيخ الجزائري ص 300.
(4) من لايحضره الفقيه ج 4 ص 243.
(5) البقرة : 195.
(6) المائدة : 1.
(7) الحج : 30.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 128_
  لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ) (1) ، والطيور بمختلف انواعها شرط ان لا تكون مخلبية ، وان يكون دفيفها أكثر من صفيفها ، وان تكون لها حواصل وقوانص وصيص : ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ ) (2) .
  ولما كانت اللحوم من أهم مصادر البروتينات التي لها علاقة عظيمة ببناء الخلايا الجسمية ، فان حليتها لابد ان يكون امراً حتمياً ، لأن الفرد يصعب عليه ان يحيا على النباتات فقط دون مصدر بروتيني غني كاللحوم ، ولاشك ان حلية تناول الخضار والثمار وكل ما ينفع الجسم الانساني من مواد غذائية ، واضحة ولاتحتاج الى مزيد من التفصيل ، ولعل اطلاق الآية الكريمة التالية يشملها ، وهو قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً ... ) (3).
  ثالثاً : الاعتدال في تناول الاطعمة المحللة ، وضرورة التركيز على نوعية الطعام لا كميته ، كما هو الظاهر من قوله تعالى : ( وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (4) .
  وقد أوصت الروايات بتقليل كمية الاطعمة الداخلة الى جسم الانسان والاقتصار منها على ما يقيم صلب الانسان ، وأوصت بالاعتدال في تناول اللحوم ، وضرورة طبخها جيداً ، ويدل على ذلك قوله تعالى في ضيف ابراهيم : ( فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ
--------------------
(1) المائدة : 96.
(2) المائدة : 4.
(3) البقرة : 168.
(4) الاعراف : 31.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 129 _
  حَنِيذٍ ) (1) ، أي محنوذ وهو الذي اجيد طبخه ونضجه ، وقال تعالى في وصف الطيبات : ( وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ) (2) والمن هو العسل ، والسلوى يعني اللحم ، سمي سلوى لأنه يسلى به على جميع الادام ولايقوم غيره مقامه ، والى ذلك اشار رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :( سيد الادام اللحم ) (3) ، ثم قال تعالى بعد ذكر المن والسلوى : ( كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) (4) ، فاعتبر اللحم والعسل من طيبات مارزقهم .
  وقد وردت أهمية الخبز باعبتاره اساس الوجبة الغذائية ، ومادته الكاربوهيدراتية هي التي تمنح الجسم الطاقة التي يتحرك بها ، فعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( اللهم بارك لنا في الخبز ولاتفرق بيننا وبينه ، فلولا الخبز ما صلينا ولاصمنا ولاأدينا فرائض ربنا ) (5) .
  ووردت ايضاً أهمية الخضار المطبوخة ، والفاكهة وخصوصاً التمور ، ومنتوجات الالبان بكافة انواعها واشكالها ، وكل هذه المواد الغذائية ـ اذا تناولها الفرد باعتدال ـ تساعد الجسم على القيام بوظائفه الطبيعية وتساهم في تنظيم الجهاز الهضمي وتنشيط الدورة الدموية وتجنب الفرد أمراض المعدة والامعاء وتصلب الشرايين وأمراض الكلية والجهاز البولي.
  رابعاً : ان الاصل في القاعدة الوقائية الاسلامية ، ان كل ما يعد فعله
--------------------
(1) هود 69.
(2) البقرة : 57.
(3) الكافي ج 6 ص 308.
(4) البقرة : 57.
(5) الكافي ج 6 ص 287.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 130 _
  في العرف الاجتماعي ضرراً فهو حرام ، فالمخدرات الطبيعية والصناعية التي تسبب ضرراً جسيماً بعقل الانسان ، والسموم الطبيعية ، وما يقطع العلم بكونه سماً يحرم تناوله بأي شكل من الاشكال الا في حالة الضرورة.
  خامساً : ان قاعدة الاضطرار ـ وهي ان الضرورات تبيح المحظورات ـ تعتبر من أكمل القواعد الصحية التي استهدفت التيسير والسعة وعدم الضرر ونفي الحرج على الفرد المضطر .
  فقد أعلن الاسلام ان الاصل في احكام الشريعة هو اليسر والسعة وعدم الضرر ، لقوله تعالى : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (1) ، ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (2) ، ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (3) .
  والمشهور من قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( لاضرر ولاضرار في الاسلام ) (4) .
  والرواية الواردة عن علي بن مهزيار عن الامام ابي الحسن العسكري ( عليه السلام ) قال : ( ... وكلما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر ) (5).
  والمضطر ـ حسب تعبير الفقهاء ـ هو ( الذي يخاف التلف على نفسه لو لم يتناول المحرم أو يخشى حدوث المرض أو زيادته ، أو انه يؤدي الى الضعف والانهيار ، أو يخاف الضرر والأذى على نفس اخرى محترمة ، كالحامل تخاف على حملها ، والمرضعة على رضيعها ) (6) ، وقد اشتهر بين
--------------------
(1) الحج : 78.
(2) البقرة : 185.
(3) الانعام : 145.
(4) من لايحضره الفقيه ج 4 ص 243.
(5) من لايحضره الفقيه ج 1 ص 120.
(6) المسالك للشهيد الثاني ـ باب الاطعمة الاشربة.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 131_
  الفقهاء بأن ( الضرورة تقدر بقدرها ) ويدل عليه قوله تعالى : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه ) (1) ، ولاشك ان الخوف على تلف نفس الانسان أو زيادة المرض أو الخشية عليه من الضعف والانهيار ، هو الذي دعا الى تشريع هذه القاعدة العظيمة .
  ومعنى ( ان الضرورة تقدر بقدرها ) ، هو ان على الفرد وقت الاضطرار تناول المواد الغذائية المحرمة بشكل يؤدي الى اجتناب الضرر فقط ولا يتعدى الى مادون ذلك لأن الاصل في الاضطرار هو اصلاح الضرر أو الفساد المحتمل حدوثه على جسم الفرد ، وليس بناء الجسم على المادة الغذائية الفاسدة المحرمة شرعاً.
  سادساً : ومن الواضح ان تأكيد الاسلام على السواك والتخلل ينسجم منطقياً مع دعوته الصحية في الوقاية من الأمراض ، خصوصاً فيما يتعلق بالفم كأمراض اللثة وتسوس الاسنان ، ويمتاز خشب الاراك المنصوص على استحبابه في السواك ، باحتوائه على رائحة طيبة تطهر الفم من النكهة المتغيرة بالنوم أو بالطعام .
  وقد ورد عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( ان افواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك ) (2) ، وفي الرواية عن ابن عباس قال : بت عند النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاستن ، وقوله : ( فاستن من الاستنان وهو الاستياك ، وهو دلك الاسنان وحكها بما يجلوها ، مأخوذ من السن وهو امرار الشيء الذي فيه خشونة على شيء آخر ومنه المسن الذي يشحذ به
--------------------
(1) البقرة : 173.
(2) المحاسن للبرقي ص 588.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 132 _
  الحديد ونحوه ) (1) ، ولاشك ان السواك والتخلل وتأثرهما على الاسنان واللثة يعتبران اساس طب الاسنان الوقائي الاسلامي وما عداهما اساس طب الاسنان العلاجي.
  سابعاً : ومن المسلم به ان الأرق والقلق النفسي يعتبران في النظام الصحي الغربي مشكلة طبية تستدعي علاجاً يقوم على أساس الدواء الكيميائي (2) .
  ولما كانت الحياة المبنية على التنافس الاقتصادي مصحوبة دائماً بالصراع النفسي والصخب والكدح المستند على حيازة أكبر قدر ممكن من المادة ، فان الأرق يصبح داء الفرد الرأسمالي ، لأن الاثارة التي تجلبها الحياة الرأسمالية لبعض الافراد تسلب عن أعينهم النوم .
  واذا أدخلنا عملية تطبيب النظام الاجتماعي التي يسعى النظام الصحي الغربي الى فرضها على المجتمع ، أصبح واضحاً لدينا ان الأرق في الحضارة الغربية يعتبر اليوم مرضاً توليه المؤسسة الطبية الغربية اهتماماً واسعاً ، وتزعم ان علاجه لايتم الا عن الطريق الكيميائي.
  الا ان النوم وآدابه في الاسلام يعتبران شكلاً من اشكال التكامل النفسي الذي ينعم به الفرد في المجتمع الاسلامي ، كما يقول تعالى : ( وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ) (3) ، فبالاضافة الى اطمئنان الفرد على حياته وعرضه وماله بسبب قانون العقوبات الاسلامي ، فان الاسلام
--------------------
(1) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري للعيني الحنفي ج 1 ص 953.
(2) ( نافارو فايسنت ) ، الطب تحت ظل الرأسمالية ، نيويورك : بروديست ، 1976 م.
(3) النبأ : 9 ـ 10.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 133 _
  يتحدث عن النوم باعبتاره قضية من القضايا التعبدية ، فالطهارة الشخصية وذكر الله تعتبران من أهم ميزات خلود الفرد للنوم (1) ، دون الحاجة الى المواد الكيميائية التي يتناولها الفرد في الأنظمة الاخرى.
  ثامناً : وتعتبر الطهارة المائية وغيرها من الطهارات ـ بالاضافة الى صورها التعبدية ـ من وسائل الوقاية الصحية ايضاً .
  حيث توجب الشريعة في الطهارة من الخبث ازالة البول والغائط والدم والمني بواسطة الماء المطلق ـ حكمية كانت النجاسة أو عينية ـ كما يقول تعالى : ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ ) (2) ، ( وانزلنا من السماء ماءً طهوراً ) (3) .
  وفي الطهارة من الحدث يجب الوضوء أو الغسل أو التيمم ، كما ورد في الذكر الحكيم فيما يخص الوضوء : ( ... فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ... ) (4) ، ( وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا) (5) ، ( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) (6) ، وفي التيمم : ( فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ) (7) .
  وتعتبر الشمس من المطهرات ايضاً للأرض وما عليها ، ولاشك ان تأكيد الاسلام على نظافة الشعر والأذنين والأنف والاسنان والاظافر ، وآداب دخول الحمام ونحوه ، والكثير
--------------------
(1) من لايحضره الفقيه ج 1 ص 123 ، ومصباح المتهجد ص 114.
(2) الانفال : 11.
(3) الفرقان : 48.
(4) المائدة : 6.
(5) النساء : 43.
(6) البقرة : 222.
(7) المائدة : 6.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 134_
  من المستحبات الخاصة بالتنظيف تعتبر من أهم اشكال الطب الوقائي التي تجنب الفرد الكثير من الأمراض المنقولة في الأوساط التي تفتقد الى النظافة والتطهير ، ولعل حثه تبارك وتعالى لرسوله الكريم (ص) في أوائل الدعوة بتطهير الثياب ، رمزٌ لطهارة الفرد في الاسلام على الاصعدة الروحية والجسدية والمعنوية ، كما قال : ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) (1).
  تاسعاً : وبطبيعة الحال ، فان صيام شهر كامل من أشهر السنة القمرية من طلوع الفجر وحتى الغروب يومياً يعتبر ـ بالاضافة الى صورته التعبدية ـ شكلاً من اشكال الطب الوقائي في معالجة الامراض المختصة بالجهاز الهضمي والدورة الدموية ، وشكلاً من أشكال الطب النفسي في الصبر وتقوية العزيمة والارادة .
  وقد وردت في ذلك جملة من الآيات القرآنية : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ) (2) ، ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) (3) ، (فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) (4) ، ( وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ ) (5) .
  ويتضافر الشكل الطبي للصيام بالشكل الاجتماعي الذي يشجع الافراد على المؤازرة والمؤاخاة والتعاون على اطعام الآخرين ، فيضيف بعداً آخر للاطمئنان الاجتماعي بين الافراد في المجتمع الاسلامي.
--------------------
(1) المدثر : 4 ـ 5.
(2) البقرة : 183.
(3) البقرة : 184.
(4) البقرة : 196.
(5) البقرة : 187.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 135 _
  2 ـ النظام الغذائي : ولايمكن المواظبة على العمل والانتاج وطلب العلم مالم يقم الفرد باتباع نظام غذائي يبعث فيه كل ألوان الطاقة والنشاط والتفكير ، وعليه نبه رب العزة بقوله : ( كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ) (1) ، ( كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) (2) .
  ومع ان تناول الطعام في نفسه يعد امراً ضرورياً ، الا ان الاحاديث الواردة في أهمية تناوله ، أكدت جميعاً على ضرورة تقليل كمية المتناول منه ، واشارت الى أهمية اقتصاره على الاساسيات التي تقوي صلب الفرد وتمنحه النشاط المطلوب ، ومن أجل توضيح المنهج الاسلامي في التغذية ، لابد من ترتيب النقاط التالية :
  أولاً : وجوب التذكية الشرعية ، وهو دليل قوي على ارتباط حلية المأكولات اللحمية بالقضايا التعبدية من جهة والصحية من جهة اخرى لثبوت المصلحة الشرعية التي تخص الفرد والنظام الاجتماعي .
  فلا يؤكل من الحيوانات الا ما كان قابلاً للتذكية الشرعية ، فتتحقق تلك التذكية بالذبح للحيوانات الاهلية : ( وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ) (3) ، والصيد للحيوانات المتوحشة : ( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ ) (4) ، والنحر للابل :
--------------------
(1) المؤمنون : 51.
(2) البقرة : 172.
(3) الانعام : 121.
(4) المائدة : 2.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 136 _
  ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) (1) ، والاخراج حياً من الماء للاسماك : ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ) (2) ، ( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ) (3).
  ومن نافلة القول ان نقول : ان أخطر ما يواجه النظام الطبي اليوم من مشاكل صحية هي مشكلة اللحوم وما يتبعها من تذكية وحفظ وطهي ؛ فهي مصدر الكثير من الامراض المنتشرة في العالم المتحضر كأمراض القلب والدورة الدموية والجهاز الهضمي والبولي ، ولاشك ان استبدال الاجهزة الحديثة في التبريد لحفظ اللحوم عن الطريقة القديمة السابقة التي كانت تستعمل التوابل ، لم يساعد على تقليل عدد الامراض التي تنتشر عادة عن طريق تناول تلك اللحوم ، بل غير من نوعها وشدتها فقط .
  فبدل تعرض الفرد للتسمم بتناوله لحماً متفسخاً ـ بالطريقة القديمة ـ أصبح نفس الفرد يتعرض لامراض القلب وتصلب الشرايين جراء تناوله لحماً محفوظاً في الاجهزة الحديثة.
  وليس لدينا ادنى شك من ان مشكلة اللحوم ستبقى من أخطر المشاكل التي يواجهها النظام الطبي في تعامله مع اسباب نشوء المرض ، لأن الحيوانات بكافة اشكالها وأنواعها تعتبر من أهم عناصر نقل الامراض الى خلايا الجسم البشري ، ولكن الانسان يصعب عليه الاستغناء عن اللحوم
--------------------
(1) الكوثر : 2.
(2) النحل : 14.
(3) فاطر : 12.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 137 _
  المطبوخة في وجباته الغذائية ، ولعل الطريقة الاسلامية في التذكية الشرعية ، تعتبر من أنشط العوامل في تجنب الامراض الناشئة عن تناول اللحوم.
  ثانياً : اشرنا عند حديثنا عن النظام الوقائي الى ان الاسلام تناول باسهاب حلية الأطعمة المباحة ، ونزيد هنا بذكر الآيات القرآنية الكريمة التي اشارت الى ذلك .
  ففي اللحوم قال تعالى : ( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) (1) ، وفي الاسماك : ( وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ) (2) ، وفي الفواكه : ( لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) (3) ، وفي الجواب : ( كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) (4) ، وبالاجمال في أكل الطيبات : ( يا ايها الناس كلوا مما في الارض حلالاً طيباً ) (5).
  ثالثاً : التأكيد على النظام الشفائي الغذائي المتمثل بالعسل ، وقد ورد في النص المجيد : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (6) ،( هنا فوائد منها ان في الآية دلالة على اباحة العسل واباحة التداوي به ، اما بنفسه واما مع التركيب مع غيره
--------------------
(1) النحل : 5.
(2) فاطر : 12.
(3) المؤمنون : 19.
(4) الانعام : 141.
(5) البقرة : 168.
(6) النحل : 68 ـ 69.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 138_
  كالحمضيات ونحوها ) (1) ، وورد في الاثر انه ( ما استشفى مريض بمثل العسل فان لعقة منه شفاء من كل داء ، وكان يعجب رسولا الله)(2) ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأكله حكمة ، قال تعالى : ( فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ )(3) .
  وبسبب احتوائه على نسبة كبيرة من الكلوكوز والفركتوز ، وهما نتاج آخر مراحل هضم المواد النشوية والسكرية التي تمتص في الدم ، فان العسل يعتبر طبياً من أفضل المواد الغذائية التي تساهم في شفاء الامراض الخاصة بالامعاء والمفاصل والعضلات ونحوها .
  ولما كان سكر الفاكهة ( الفركتوز ) أحد أهم نسب المواد السكرية في العسل ، أصبح تناول الفرد السليم أو المريض لهذا الغذاء القرآني امراً شفائياً ، لأنه لايزيد من نسبة السكر في الدورة الدموية للانسان.
  رابعاً : ان تأكيد الروايات على آداب الطعام وتناوله ، واخلاقية النظام الغذائي في الاسلام ، والافكار التي تحملها هذه الروايات مساندة تماماً لما جاء في القرآن الكريم ، وأهمها التأكيد على آداب الشيء المأكول خصوصاً تقليل كمية الطعام الذي يتناوله الفرد ، واعتدال درجة حرارته وقت التناول ، وتقديم الملح على الطعام ، ومص الماء مصاً ، والاعتدال في أكل اللحوم المطبوخة جيداً ، والاهتمام بتناول الفاكهة والخضروات والخبز ومنتوجات الالبان بكافة انواعها ، وكذلك التأكيد على ادآب المائدة
--------------------
(1) قلائد الدرر ص 314.
(2) الجواهر ج 36 ص 503.
(3) النحل : 69.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 139 _
  ـ كاستحباب غسل اليدين قبل تناول الطعام وبعده ، والأكل بثلاث اصابع ، واطالة الجلوس على المائدة ، والمضغ الشديد ، وتصغير اللقمة المأكولة ، والأكل مجتمعاً مع الآخرين ، واخيراً : التأكيد على آداب الأكل كاستحباب تناول الطعام وقت الاحساس بالجوع ، واكماله قبل الشبع ، وتفريغ البدن من الفضلات قبل النوم.
  وهذا التأكيد الشديد على ضرورة التدقيق في نوعية المادة الغذائية التي يتناولها الفرد وآداب تناولها ، يؤدي ـ دون شك ـ الى تقليل عدد الامراض التي تصيب افراد المجتمع ، والى تبديل شكل وتوجهات المؤسسة الصحية ، ومن أجل تفصيل ذلك ، نورد هذه الاشارات في فوائد النظام الغذائي الاسلامي :
  1 ـ ان تطبيق النظام الغذائي الاسلامي يساهم في تقليل عدد وشدة الامراض التي تصيب الافراد ، وهي الامراض الناتجة من سوء العادات الغذائية ، خصوصاً فيما يتعلق بالمضغ ، وحجم اللقمة ، والسرعة في تناول الوجبة الغذائية ، أو كمية الطعام المتناولة ونحوها.
  2 ـ ان اهتمام المؤسسة الطبية بنوعية الغذاء الذي يتناوله الافراد أنفع للنظام الاجتماعي ـ على الصعيد الانتاجي ـ وأكثر اقتصاداً من علاج الافراد عن طريق الأدوية والمعاجين الكيميائية المصنعة.
  3 ـ ان الاهتمام بالمواد الغذائية يشجع الاقتصاد الزراعي على النمو والتطور مما يفتح فرصاً اخرى لاشباع حاجات الافراد الغذائية ، فبدلاً من

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 140 _
  تطبيب النظام الاجتماعي كما هو الحاصل اليوم في النظام الغربي (1) ، يحاول النظام الاسلام تقوية صحة الافرد من خلال اتباع اسلوب غذائي سليم يتمثل في وجبات غذائية معتدلة كاملة يتناولها الافرد من سن الطفولة وحتى الشيخوخة والهرم.
  4 ـ ان تقليل كمية الطعام المستهلك من قبل الفرد سيوفر للافراد الآخرين طعاماً يشبع حاجاتهم الاساسية ، فبدلاً من تخمة البعض وجوع البعض الآخر ، يحاول النظام الغذائي الاسلامي إشباع جميع الافراد بكمية معقولة من الطعام تساعدهم على العمل والانتاج ، وفي الوقت نفسه تحافظ على حيوية اجسامهم ونشاطها الطبيعي.
  5 ـ ان ارتباط العادات الغذائية بالجانب العبادي ، يهذب الفرد ويجعله أكثر استعداداً لاحترام النظام الصحي والتعاون مع المؤسسة الطبية لايجاد نظام غذائي متكامل لجميع الافراد ، والدافع الاساسي في هذا التوجه هو الدافع العبادي المتجسد بالامتثال للاوامر الشرعية.
  3 ـ النظام العلاجي : ولاشك ان نجاح النظرية التجريبية في علاج الامراض يرجع فضله الى تراكم الخبرة الانسانية لآلاف السنين ، فقد حاول الانسان ـ منذ القدم ـ معرفة فسلجة الجسم الانساني باعضائه الدقيقية ؛ والمعت في افق الطب التجريبي اسماء متميزة من مختلف شعوب العالم امثال : ( هپوكراتيس ) و( كيلن ) الاغريقيين ، والرازي ( ت 923 م ) وابن سينا
--------------------
(1) ( صموئيل ايبشتاين ) . سياسة السرطان . سان فرانسسكو : كتب نادي سييرا ، 1978 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 141 _
  ( ت 1037 م ) الاسلاميين ، واطباء اوروبا امثال : ( اندرياس فيساليوس ) 1538 م ، و( وليم هارفي ) 1602 م . و( لويس پاستور ) و( روبرت كوخ ) 1876 م .
  وقد تطور الطب الحديث بعد اكتشاف النظرية الجرثومية ، وما اتبعها من اكتشاف اسباب المرض ، والعدوى ، واستخدام اساليب التعقيم ، والتخدير في العمليات الجراحية ، وقد جلب القرن العشرون تطورين مهمين على صعيد الطب العلاجي ، وهما : استخدام المضادات الحيوية ، وعملية نقل الاعضاء ، من فرد لآخر كالكلية والقلب .
  ولاشك ان اكتشاف البنسلين كان من أهم الاكتشافات التي حصلت في هذا القرن ايضاً (1) ، وكل الأدوية التي اكتشفت لاحقاً وساعدت اما على شفاء الامراض أو على اجراء العمليات الجراحية ، ساهمت في تطوير النظام الطبي العلاجي للامراض (2) .
  ولاشك ان الاسلام شجع الطب الحديث على معالجة الامراض لسببين : الاول : الارتكاز العقلائي الذي امضاه الشارع المقدس ، والثاني : احترام القرآن للحياة الانسانية ، كما ورد في اطلاق قوله تعالى : ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) (3).
--------------------
(1) ( البرت ليونز ) و( جوزيف بيتروسيلي ) ، الطب : تاريخ مصور ، سانت لويس : موزبي |تايمز مرر ، 1978 م.
(2) ( مارك زبورويسكي ) ، الناس في ألم ، سان فرانسسكو : جوسي ـ باس ، 1969 م.
(3) المائدة : 32.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 142 _
النظام الصحي في الاسلام
  ان الاسلام بحثه على العمل ، ومباركته للجهد الانساني ، وربطه العمل الانتاجي في الارض بالثواب والأجر في الحياة الآخرة ، أراد لكل الافراد في النظام الاجتماعي اداء أدوارهم المرسومة بكل جدية ونشاط ، لأن الانسانية لايمكن ان يتكامل نظامها الاجتماعي ولا أن يتطور بناؤها الفكري والفلسفي ، مالم يساهم الافراد جميعاً بالعمل الانتاجي المؤدي الى اشباع حاجاتهم الاساسية .
  ونزول المرض بفرد ما ، يعطل جهده الطبيعي في تأدية الدور الاجتماعي المناط به ، مما يؤدي الى تحرك النظام الاجتماعي للتعامل مع ذلك الاستثناء حتى يتم اصلاحه وعلاجه طبياً واجتماعياً.
  فاذا كان المرض مؤقتاً ويمكن علاجه بالطرق الطبية المعروفة ، خلد المريض الى الراحة ، وتدخل النظام الاجتماعي الاسلامي لمساعدته على ثلاثة محاور .
  المحور الاول : العلاج ، فيقدم له كل اسباب التطبيب والعلاج دون النظر لدخله السنوي أو طبقته الاجتماعية .
  والمحور الثاني : المساعدة المادية له ولعائلته اذا كان فقيراً ، فيحتسب مقدار حاجته وحاجة عائلته ، فيدفع له ذلك المقدار حتى يحين وقت الشفاء .
  والمحور الثالث : تدخل النظام الاجتماعي لسد دور المريض الشاغر في الحقل العملي ، فاذا كان المريض عاملاً في مؤسسة صناعية ، فان المؤسسة ملزمة باستئجار عامل آخر يحل

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 143 _
  محل العامل المريض ، وهذا يتم عادة في الامراض التي يستلزم علاجها فترة زمنية قصيرة كالانفلونزا والجروح والكسور وامراض الجهاز الهضمي والبولي.
  اما اذا كان المرض مزمناً ، كالشلل التام ، وامراض السرطان ، وامراض نقص المناعة الحادة ، والامراض القلبية ، فان النظام الاجتماعي ملزم بالتدخل ايضاً لمساعدة المريض طبياً ومالياً وايجاد من يسد دور المريض الشاغر في الحقل الاجتماعي بصورة دائمية ، ولايختلف تدخل النظام الاجتماعي في المرض المزمن عن المرض المؤقت الا بفارق الزمن ، حيث يتعين على ذلك النظام تخصيص معاش ثابت للمريض ولعائلته يفترض ان يستقطع من بيت المال ـ كما في الرواية المروية عن الامام امير المؤمنين ( عليه السلام ) مع الشيخ النصراني ـ وتعيين برنامج علاجي مستمر للمريض .
  بل ينبغي ان يستمر هذا المعاش والعلاج حتى آخر لحظة من حياة ذلك المريض ، وهذا على خلاف رأي النظرية الرأسمالية التي تعتبر المريض عنصراً مستهلكاً لاقدرة له على الانتاج (1) .
  ولكن نظرة الاسلام الشمولية واحترامها للحياة الانسانية أوجبت اكرام الانسان المعاق جسدياً ، حتى لو كان عاجزاً عن الانتاج ، وقد ورد في الروايات المروية عن اهل البيت ( عليهم السلام ) ان الامام علي ( عليه السلام ) عندما صادف النصراني ـ المذكور آنفاً ـ والذي كان يمد يده استجداءً لعدم قدرته على العمل ولكبر سنه ، تألم لحالته وانكر على عماله سلوكهم تجاهه وقال لهم : ( استعملتموه ، حتى اذا كبر وعجز منعتموه ) ، وأمر
--------------------
(1) ( اليوت فريدسون ) . المهنة الطبية نيويورك : دود وميد ، 1970 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 144_
  ان يصرف له من بين المال (1)،ويجعل الاسلام الولاية الشرعية ، مصدر المسؤوليات الاجتماعية ، فولي الاسرة مسؤول عن رعاية من يتولاهم من القاصرين ونحوهم ، وفي انعدام الولي يتحمل الامام أو نائبه ( أي الدولة ) مسؤولية الولاية لمن لا ولي له .
  وعليه ، فان القاصر عن التحصيل لمرض ونحوه يضمن اما من قبل الولي العام أو الولي الخاص ، بمعنى ان الانسان القادر على الانتاج يستطيع ان يسد حاجته الاساسية وحاجة الافراد الذين يتولاهم اصحاء كانوا أم مرضى ، واذا عجز الوي بسبب المرض عن اعاشة عائلته ، وجب ـ حينئذٍ ـ على الامام اعالتهم لحد الكفاية ، وهذا الاسلوب يضمن تكامل النظام المعيشي لكل الافراد في المجتمع الاسلامي ، وقد جاء هذا الايمان بكرامة الفرد وصيانته من الاهمال ضمن اطار المسؤولية الجماعية والاخوة الانسانية التي دعا اليها الاسلام.
  ولاريب ان تأكيد الاسلام على ربط العمل الانتاجي في الحياة الدنيوية بالثواب الاخروي ، وحثه على التزام الصدق والثقة المتبادلة والاعتدال ونهيه عن الكذب وشهادة الزور والجشع ، وجزمه في تثبيت أسس العدالة الاجتماعية سهل دور المؤسسة الصحية في تحديد ( من هو المريض ؟ ) .
  فمع تضافر هذه العوامل ، تجد من الصعوبة بمكان ان يجد المتمارضون ساحة لكسلهم ومجالاً لعيشهم عبئاً على بيت المال ؛ لأن المؤسسة الصحية تستطيعع تحديد ( من هو المريض ؟ ) عن طريق علامات
--------------------
(1) التهذيب ج 2 ص 88.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 145 _
  واعراض المرض ، وعن طريق دراسة شخصية وتاريخ المريض والتزامه بالاخلاق الدينية وتمسكه بالصدق والنزاهة والاستعفاف، ان امراض الحضارة الحديثة يفترض ان لاتجد لها مكاناً في المجتمع الاسلامي ، لأن الاسلام حرم شرب الخمر وأكل الميتة والدم والخنزير ، وهذه هي اساس امراض الكبد والجهاز الهضمي وامراض القلب .
  وحرم تناول كل ما يضر بالجسد ومنها استعمال المخدرات والتدخين الشديد التي هي المصدر الاساس في امراض سرطان الرئة والبلعوم والاضطراب العقلي ، وأوصى بالاعتدال بأكل اللحوم الحمراء ، خصوصا لحوم البقر والضأن وهذه هي مصدر أمراض القلب وتصلب الشرايين ، وأوصى باستعمال المسواك لتنظيف الاسنان وتطهير الفم ، وهو تمهيد لممارسة طب الانسان الوقائي .
  ولاشك ان للدولة الاسلامية مبدأ حق التدخل للحفاظ على البيئة الطبيعية من التلوث الصناعي ، لأن التلوث يعتبر أحد مصادر امراض السرطان وامراض الرئة بأنواعهما المختلفة ، وحرم الاسلام الاجهاض والانتحار وقتل النفس البريئة فأكفى الطب الدخول في هذا الحقل الذي يستنزف طاقات المؤسسة الصحية ، وأوجب الاسلام التذكية الشرعية ووضع شروطاً للصيد والذباحة ، وهذا الوجوب جنب النظام الصحي العديد من الامراض المتعلقة بالقلب وجريان الدورة الدموية .
  ولاريب ان الاطمئنان النفسي والراحة الشعورية التي ينزلها النظام الاسلامي على قلوب الأفراد من حيث محو نسبة الجرائم والاعتداءات والسرقات ، يساهم بشكل فعال في ازالة الأرق والقلق النفسي والقرحة والامراض العقلية التي

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 146 _

يعاني منها أفراد الحضارة الحديثة، ومن نافلة القول ان نذكر : ان صحة المتقدمين وتعميرهم تلك السنين الطويلة لم يكن نتيجة لمعاينة طبية أو نتيجة فهم للنظرية الجرثومية أو استخدام للعقاقير الطبية ، بل ان الوقاية وتنظيم النظام الغذائي كانتا من أهم اسباب العيش السليم من الأمراض ، وقد ورد في بعض الكتب التاريخية ان سلمان الفارسي (رض) عاش أكثر من ثلثمائة سنة ن ولو صحت هذه الرواية لكان الاجدر بالجهاز الطبي دراسة هذه الظاهرة الطبيعية وفهم منشأها واسبابها.
  ولا يمكننا الاعتماد على العلاج الكيميائي والشعاعي في جميع الحالات المرضية ، بل لابد ان نترك فسحة لتقدم العلاج الطبيعي والروحي ، لأن الكثير من الأمراض النفسية والأمراض الجسدية الناشئة عنها لايتم علاجها الا بالعلاج الغيبي .
  وقد ورد في النص المجيد الى ما يشير الى ذلك : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ) (1) ، (أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء ) (2) ، ( } وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِي ) (3) ، والعلاج الطبيعي مهم في شفاء الجروح العضلية والغضروفية .
  ولما كان الاسلام ولا يزال يهاجم النظام الطبقي ويدعو الى توزيع عادل للثروة الاجتماعية ، فان النظام الصحي الاسلامي سيجعل الانشطة الطبية جميعاً
--------------------
(1) الاسراء : 82.
(2) فصلت : 44.
(3) الشعراء : 80.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 147 _
  أنشطة يهمها العلاج الحقيقي للافراد ، لاتجارة تجني ارباحاً على حساب الفقراء والمستضعفين، ولا تتوقف وظيفة الطب على تحديد ( من هو المريض ؟ ) بل تتعدى الى قاعدة المحافظة على صحة الافراد عموماً ، حتى يستطيع النظام الاجتماعي تنشيط منهجه الاقتصادي في الانتاج وعدالة التوزيع .
  وبطبيعة الحال ، فان المؤسسة الصحية الاسلامية مسؤولة عن صحة الافراد في المجتمع الاسلامي على مستويين ، المستوى الاول : تثقيف افراد المجتمع تثقيفاً عاماً فيما يتعلق بفهم منشأ وسبب الامراض ، والتركيز على نظامي الوقاية والغذاء في تنمية الجسم البشري ، حيث يتم ذلك من خلال النشر والاعلام والتبليغ الفردي والجماعي .
  والمستوى الثاني : معالجة الافراد معالجة فردية في الظروف الطبيعية ، ومعالجة جماعية في الظروف الاستثنائية ، ومن ذلك توفير الحقن المضادة للأوبئة المعدية ، وتنقية مياه الشرب من الجراثيم ، والسيطرة على أنظمة المجاري العامة ، والتدقيق في الفحص الصحي للاسواق ومراكز بيع اللحوم والمواد الغذائية الاخرى والمطاعم والفنادق ، والسيطرة على الكائنات الناقلة للجراثيم كالذباب والبعوض والقمل.
  وبطبيعة الحال ، فان المؤسسة الطبية تساهم بشكل حاسم في تنظيم الحالة الاجتماعية من حيث منح شهادات الميلاد والوفيات حتى يتم توزيع الثروة الاجتماعية بشكل عادل ، وتساعد على فصل التخاصم في الارث والحقوق بين الافراد من خلال تشخيص الجينات الوراثية ، وكذلك تساعد

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 148_
  في السيطرة على الامراض ، واثبات أحقية المعوقين باستلام المساعدات المالية ، ودراسة الساحة الصحية الميدانية حتى يتم تحديد الطاقة الانتاجية للنظام الاجتماعي الاسلامي ، ولذلك ، فان المؤسسة الطبية تعتبر ركناً هاماً من أركان النظام الاجتماعي والديني والاخلاقي ايضاً.
  ولما كانت المنافسة الاقتصادية في الاسلام مرتبطة بالمعنى العبادي وبمفهوم تعمير الأرض ـ على خلاف المبدأ الرأسمالي الذي أقحم المؤسسة الطبية في المعركة الاقتصادية فأفقدها مفهومها الانساني ـ أصبحت الرعاية البدنية مرتبطة بالثواب والعقاب أيضاً ، لأنها من الضروريات التي يحتاجها الفرد بالخصوص ، والنظام الاجتماعي عموماً .
  ولاشك ان الدولة مكلفة بسد هذه الحاجة الاساسية من شتى المصادر المتوفرة لها ، حتى تقوي في الفرد روح الانتاج والعبادة ، وحتى تبعد النظام الصحي عن المنافسة الاقتصادية الرأسمالية وما تجر معها من ويلات ومظالم بحق الفقراء.
  ولاشك ان مناداة الاسلام ـ ايضاً ـ بالعدالة الاجتماعية وتضييق الفوراق الطبقية بين الافراد ، سيساهم في ازالة الامراض العقلية وغير العقلية بين الفقراء ، فيشترك الفقراء ـ حينئذٍ ـ مع أقرانهم في ادارة النظام الاجتماعي ، وكذلك فان مشاركة الطبقة الفقيرة في رفد المؤسسة الصحية بالاطباء في النظام الاسلامي سيخفف من حدة الفوارق الطبقية بين الافراد.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 149_
العلاقة بين الطبيب والمريض
  وتستند العلاقة بين الطبيب وكل ما يمثله من منتجات دوائية وأجهزة طبية ورأي شخصي من جهة ، وبين المريض وما يمثله من قوة شرائية من جهة اخرى ، الى النظام الاخلاقي الاسلامي ، الذي يرتكز على ثلاثة عناصر مهمة هي : الخبرة ، والثقة ، والاستعفاف عن المال .
  فالخبرة الطبية علامة حاسمة في تعريف الطبيب وتشخيصه عن غيره من الخبراء كالصيادلة والممرضين والكيميائيين ، والثقة عنصر مهم في التعامل الطبي ، وتعني هنا صدق الطبيب في تشخيص المرض .
  اما الاستعفاف فهو الاطار العام الذي يبلور شخصية الطبيب الاخلاقية ويمنحها فهماً وشفافيةً في التعامل مع المرض والموت ، بمعنى ان دور الطبيب ينبغي ان يفهم على انه يمثل رسالة رحمة لعلاج امراض الناس ، وليس تجارة يتصيد بها الحالات الاستثنائية لتجميع الثروة على حساب الآخرين ، وليس غريباً ان يقوم القرآن مقام الطبيب في علاج امراض الناس الروحية ، كما قال عز وجل : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ) (1) ، ( قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ
--------------------
(1) الاسراء : 82.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 150_
  وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ ) (1) ، ( أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء ) (2) ، وما الفارق بين الطبيب والمريض في المجتمع الاسلامي الا في امتلاك الخبرة وعدمها ، فالطبيب خبير ، والمريض فرد يبحث عن استثمار تلك الخبرة لتصحيح وضعه الصحي.
  ولما كان الطبيب مسؤولاً عن ربط الاعراض المرضية التي يظهرها المريض باسم طبي معروف ، فان دوره كخبير يتجاوز مجرد وضع العلاج الطبي ، ويذهب الى حد التدخل بشؤونه العبادية الشخصية كقضايا الطهارة مثل الوضوء والغسل ، وقضايا التعبد مثل اقامة الصلاة وتأدية الصيام ، والتدخل بشؤون الافراد مثل تصرفات المريض الذي يؤدي به مرضه الى الوفاة ، وما يترتب عليها من احكام تجاه الهبة والشركة والوصية .
  فالطبيب هو الذي يحدد المرض المتصل بالموت فيترتب على حكمه احكام تصرفات المريض ، وقد يمنع الطبيب مريضه من الصوم ، ولكن يجيزه على الغسل للصلاة الواجبة ، وقد ينهاه عن السفر بقصد الحج ولكن يجيزه على الصيام ، وقد يحكم على ان مرضه ليس متصلاً بالوفاة ، وفي هذه الحالات يتصرف الطبيب من وحي واجبه الشرعي كخيبر ، فيتجاوز بذلك الدور الذي وضعته له المؤسسة الصحية الى الدور الذي وضعه له الدين .
  وخبير له هذا الدور الخطير يجب ان يكون على اعلى مستويات الثقة حتى يطمئن الناس الى ممارسة اعمالهم العبادية ، حينما يتعلق الامر وينحصر بخبرته الطبية.
--------------------
(1) يونس : 57.
(2) فصلت : 44.