الفهرس العام

هجرة الإمام من مدينة جدّه
الهجرة الحسينية وانقلابات حول الستين
الحسين وابن الزبير
وضعية الإمام في مكة
الحسين يختار الكوفة
بنو أُمية والخطر الحسيني
الكوفة بنظر الحسين
خروج الحسين من مكة
ابن زياد على الكوفة
مقتل مسلم وهانيء


  الاستقبال، وفي النهاية اختار الحسين (عليه السلام) هذا الرأي الأخير على حراجته ، وأوصى بذلك إلى إخوانه ورجال أُسرته وهم يلبونه فيما يرغب مهما كانوا كارهين مع التأهب لما يجب كما يجب إلاّ محمّد بن الحنفية فإنّه سأل أخاه البقاء في حرم جدّه بين أنصاره، فأجابه الحسين (عليه السلام) بمبلغ عداوة يزيد معه وسوء نيّته فيه وضعف ثقته في ناصريه.
  فقال ابن الحنفية: (إن كان ولا بدّ من ذلك فما معنى حملك النسوة والذرية ؟) فلم يجد الحسين (عليه السلام) مقنعاً لأخيه إلاّ أن يقول له : إنّه من فرط الحب المتبادل بينه وبينهن لا يستطيع فراقهن كما لا يرضين بفراقه ، ولو جرى عليهن ما شاء الله أن يجري، فقال ابن الحنفية: (إنك يا أخي أحب الناس إليّ وأعزهم عليَّ ، ولست أدخر النصيحة لغيرك ، تنح ببعيتك عن يزيد ، ثم ابعث رسلك إلى الناس، فإن بايعوك حمدت الله وإن اجتمعوا على غيرك لم ينقص دينك ولا فضلك ولم تذهب به مروتك) قال الحسين (عليه السلام): (فأين أذهب يا أخي ؟) قال : (انزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فيه وإلاّ لحقت بالرمال والجبال، ومن بلد إلى بلد حتى تنظر ما يصير إليه الناس فتكون أصوب رأياً) فجزاه الحسين خيراً.
  وقد استبقاه أخوه لضرورة وجود من يعتمد عليه في مركزه عماداً للبيت ومحافظاً لودايع أهله كما استبقى على مثل ذلك ابن عمه عبد الله بن جعفر الطيار.
  وكان عبد الله بن جعفر ختن الحسين على أخته وشقيقته زينب العقيلة بنت علي (عليه السلام) ، ولما علم عبد الله بتوجه الحسين من مكة نحو العراق، ألحقه بولديه عون ومحمّد (1) وكتب على أيديهما إليه كتاباً يقول فيه : (أما بعد; فإنّي اسألك بالله
لما
---------------------------
(1) في مقاتل الطالبيين: (إن عون بن عبد الله بن جعفر أُمه زينب العقيله إلى أن قال : والعقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة (عليها السلام) في فدك فقال : (حدثتني عقليتنا زينب بنت علي) أمّا أم محمّد فهي الخوصاء.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 77_

  انصرفت حين تنظر في كتابي ، فإنّي مشفق عليك من الوجه الذي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستيصال اهل بيتك ، وإن هلكت اليوم طفي نور الأرض، فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالمسير فإنّي في أثر كتابي والسلام).
  وسار عبد الله إلى عمرو بن سعيد فسأله أن يكتب للحسين (عليه السلام) أماناً ويمنيه ليرجع عن وجهه ، فكتب إليه عمرو بن سعيد ولحقه بحيى بن سعيد وعبد الله بن جعفر بعد نفوذ ابنيه ودفعا إليه الكتاب وجهدا في الرجوع فقال : (إنّي رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المنام وأمرني بما أنا ماض له) فقالا : (فما تلك الرؤيا ؟ ) قال : (ما حدثت أحداً بها ولا أنامحدث حتى ألقى ربّي عزّ وجلّ) فلما آيس منه عبد الله بن جعفر أمر ابنيه عوناً ومحمّداً بملازمة الحسين والمسير معه والجهاد دونه.
  لقد فشل ابن سعيد ـ والي الحجاز بعد الوليد ـ في تدابيره لاقناع الحسين بالرجوع إلى مكة كي يحصره فيها وفي منطقه نفوذه ، وقنع عبد الله بن جعفر الطيار عن الإمام بإجازة بقائه في وطنه وقنع الحسين (عليه السلام) منه بإرسال شبابيه الباسلين، وقد كانا ناصريه بالنفس والنفيس وكانت أُمهما زينب نصيرته في نهضته ، وخليفته على صبيته ، وسلوته من كل أحزانه، ومديرة أمر عياله وبيوت أصحابه ورجاله ، ولولاها لا نفرط عقد يتماه بعد قتله ، ولولاها لانتشر نظام أهله بعد انتهاب رحله ، ولولاها لقضي على خلفه العليل وانقرض نسله الأصيل.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 79_

هجرة الإمام من مدينة جدّه

  سار حسين النهضة من حرم جدّه ولم يقتصر في الوداع على قبره الطاهر إذ المسافر يوادع من وطنه المحبوب كلما وقع نظره عليه من صحاب وأحباب وغيرهما حتى الماء والتراب ، أما ركب الحسين (عليه السلام) فكانوا يوادعون الربوع وداع من لا يأمل الرجوع.
  خرج الحسين من حرم جدّه (صلى الله عليه وآله) خائفاً يتقرب يناجي ربه لينجيه من فراعنة مصره ونماردة عصره ذكراه رحمة ربه ، ومبدؤه خوف ربه ، وغايته ببيت ربه، سائراً في المنهج الأكبر ـ أي الشارع السلطاني ـ فقيل له : (لو تنكبت الطريق كما فعل ابن الزبير لئلا يلحقك الطلب) فقال : (لا والله لا أُفارق الطريق الأقوم حتى يقضي الله ماهو قاض) ونزل مكة يوم الجمعة ثالث شعبان وهو يتلو : {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 81_

الهجرة الحسينية وانقلابات حول الستين

  للحوادث أدوار تتعاقب كالليل والنهار ، والتاريخ يعيد نفسه باختلاف الأطوار، فما اشبه هجرة الحسين (عليه السلام) بأهله من المدينة إلى مكة خوفاً من اّل أبي سفيان بهجرة جدّه محمّد (صلى الله عليه وآله) بأهله إلى المدينة من مكة خوفاً من أبي سفيان وحزبه، وبين اليومين نحو ستين عاماً، كذلك مجد أُمية وأبي سفيان انقرض في فتح مكة على يدي محمّد بن عبد الله النبي الهاشمي (صلى الله عليه وآله) وانقرضت ثانيةً دولة آل أبي سفيان بعد مقتل الحسين (عليه السلام) ببضع سنين، وبين اليومين نحو ستين عاماً،.. ثم بنيت على أنقاضها حكومة مروانية عاشت نحو ستين عاماً، ثم انقرضت هي وكل مجد لأُمية على يدي محمّد بن عبد الله القائد الهاشمي.
  وأولوا المبادىء والهمم والعلماء بمجاري الحركات في العالم لا تبرد عزائمهم مهما خابت مساعيهم ويواصلون المسعى بالمسعى وإن فشلوا والدهر دوار ، وللتاريخ تكرار ، وللنفوس إقبال وإدبار ، فالناهض بفكرة صالحة لابدّ وأن يثابر على نشرها والدعوة إليها ثابت العزم راسخ القدم لا تزحزحه عواصف العواطف ولا تزلزله قواصف المخاوف، ولكن عليه أن يستخدم في سبيلها العبر والغير والأحوال ، وبقاء الحال محال ، حتى لو وجد محيطه بالغ الفساد غير صالح للإصلاح استبدل عن المكان بمكان ، وعن الجيران بجيران ، تلك سنّة الأنبياء

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 82_

  والمصلحين حتى إذا فاز بهيئة صالحة وقوة مسلحة عاد إلى مركزه ـ والعود أحمد ـ كذلك محمّد (صلى الله عليه وآله) من مكة ثم اليها وذياك موسى من مصره ثم إليه.
  وليس حسين التاريخ بدعاً من رسل الإصلاح إذا هاجر من موطنه خوفاً على مسلكه أو أملاّ بنهضته وكيف كان فقد سمعت الأسباب التي دعت حسيناً أن يغادر يثرب خائفاً يترقب فاسمع الآن آثار هذه الهجرة وحسن انعكاسها في العالم الإسلامي ، وقد سبق أنّ المخابرات بين المدينة والمدن كانت تحت المراقبة ومفقودة الوسائل والوسائط فصارت حركة الحسين (عليه السلام) قضيه ذات بال تناقلتها المحافل والقوافل والناس بعد حلول أم القرى ومن حولها سوابل جاريةً إلى الجهات، فانتشر الخبر بأهمية لا مزيد عليها حتى صار حدث كل اثنين يجتمعان.
  س ـ ما وراك ؟
  ج ـ هاجر الحسين (عليه السلام) من مدينة جدّه.
  س ـ لماذا ؟
  ج ـ لأنّ يزيد قصد إرغامه على مبايعته.
  س ـ نعم ! نِعم ما صنع الحسين (عليه السلام) فإنّه لو بايع يزيد الجائر المتجاهر بفسقه فعلى الإسلام السلام، إذاً ماترى أن يكون ؟
  ج ـ ليس سوى اجتماع المسلمين حوله ونصبه خليفة كأبيه علي (عليه السلام) ليحيي بعلمه معالم دين جدّه ، ويحامي بغيرته الهاشمية عن مصالح المسلمين، وينفذ بقوة إيمانه العلوي أحكام القرآن النازل في بيته.
  هذه وأمثالها كانت أحاديث أكثر المجاميع يومئذ في الحجاز أولاً وفي سائر الأقطار بعده ، وما فاز الحسين بهذه الإذاعة والإشاعة إلاّ بخروجه من المدينة مظلوماً وناقماً على الظالمين.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 83_

الحسين وابن الزبير

  استقوت بحركة الحسين (عليه السلام) عزائم ابن الزبير، وجهر بخلاف يزيد ، ورفض بيعته، ولازم مكة أُم القرى يسلك مسلك الحسين، إلاّ أنّ غايته كانت الدعوة إلى نفسه في حين أنّ الحسين (عليه السلام) لم يصرِّح بالدعاء إلى شخصه وإنما أجهر برفض بيعة يزيد فقط ، وبالتقيّة من شرّ أمية راضياً بأن يخلّى له السرب كي ينفذ إلى ثغر من الثغور ، كذلك الشريعة تقضي على المسلم إذا لم يسعه إظهار دينه في بلده أن يهاجر منها إلى مأمن لا يضطر إلى التقيّة، وسبط الرسول (صلى الله عليه وآله) أحرى بالتزام شريعته ، وكان يتسع نطاق شيعته يوماً فيوم لإخلاص الحسين (عليه السلام) في أمره ، وجلي فضله ، وسمو شرفه ، وكرم محتده.
  لكن حزب ابن الزبير ـ وإن كان صغيراً ـ قد نفع الحسين في تنفير العامة من بني أُمية وكانت لابن الزبير وأبيه سابقة سوء مع علي (عليه السلام) في بدء خلافته بالرغم من القربى الماسة بينهم حتى قال عنهما علي : (لم يزل الزبير منا حتى نشأ ابنه عبد الله) لكنما الغاية المشتركة من خوف وضعف اتجاه العدو القوي دعتهما إلى تجديد عهود الولاء ونسيان سوالف البغضاء، فصار يزور كل منهما الآخر عشية وضحاها وقد صار لمظهر اتحاد ابن الزبير مع الحسين أثر حسن ورهبة في نفوس من عاداهم ومن عداهم ، وذهبت الرسل من الحرمين الى يزيد بأخبار مذعرة

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 84_

  وبصورة مكبرة دعته إلى التأهب عليهما بكل ما أُوتي من قوة ومكيدة ، فأرسل عمرو بن سعيد والياً على المدينة وأميراً على الموسم مزوداً بالتعاليم وموعوداً بالتأييد ، فقدم مكة ليلة التروية.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 85_

وضعية الإمام في مكة

  حل الحسين في حرم الله مستجيراً به ممن يريدون إرغامه على مبايعته لرجل الجور والفجور ، وقد استحسن المسلمون اعتصامه بالتقاليد المقدسة عند المسلمين فأخذ القادمون إلى الحجّ يتهافتون عليه ، ويهتفون بالدعوة اليه ، ويطوفون حوله هذا يلتمس العلم والحديث وذاك يقتبس منه الحكم النافعة والكلم الجامعة ليهتدي بأنوارهما في ظلمات الحياة والرجل بينهم مرآة الكرامة والشهامة ومثال الحكمة والسلامة ، فطارت في الأقطار أخباره وآثاره ، وتواترت الكتب والرسل والوعود والوفود لا سيما من كوفة العراق ـ عاصمة أبيه ـ من وجوه شيعته ومواليه إذ بلغهم هلاك معاوية فأرجفوا بيزيد وعرفوا خبر الحسين وامتناعه من بيعته وما كان من أمر ابن الزبير في ذلك وخروجهما إلى مكة ، فاجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي فذكروا معاوية فحمد الله سليمان وأثنى عليه ثم قال :
  (إنّ معاوية قد هلك وإنّ حسيناً أعلن على القوم خلافه وخرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا اليه، وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه.
  قالوا : لا ، بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه).

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 86_

  كتبوا إليه في أواخر شعبان ، وشذّ أن ترى في الكتب المرسلة إليه كتاباً بإمضاء الواحد والاثنين ، وإنما هي رقاع (مضابط) موقعة بأسماء آحاد وعشرات من وجهاء ورؤساء وشيوخ يعترفون بإمامته ويتمنون قدومه إليهم، بألفاظ جذابة ولكنها كذابة ، ومواعيد جلابة لكنها خلابة ، المشهور أحصوا عليه في أيام قلائل اثني عشر ألف كتاباً ، فاختلفت عند ذلك الإشارات عليه من أصحابه وخاصته : فمنهم المشير عليه بإقامة مكة وإرسال عمّاله ودعاته إلى الجهات، ومنهم المشير عليه بالذهاب إلى اليمن منبت الإخلاص والإيمان ومهب الحكمة والعروبة ، وقد سبق منهم لأبيه ولاؤهم الصادق منذ ولايه النبي (صلى الله عليه وآله) عليهم ـ لولا أنّ المتوجه إلى اليمن ينقطع خط رجعته كما تنقطع مواصلاته مع الآفاق ـ ومنهم المشير عليه بالمسير إلى العراق، عاصمة أبيه، وموطن أصحابه ومواليه ، ومعدن الفروسية والفراسة ، ومنبت الأموال والرجال ، وهما قوام كل حكومة.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 87_

الحسين يختار الكوفة

  كانت خطة الحسين (عليه السلام) إلى حين تواتر الرسل والكتب إليه خطة دفاع عن نفسه والالتجاء من اّثام بيعة يزيد إلى ملجأ حصين.
  غير أنّ صريخ البلاد والعباد وهتاف الأنصار والأمصار به وله وإليه حوّلا فكره من دفاع محدود إلى دفاع وسيع النطاق، رجاء نصرة الدين ودفع عادية الظلمة عن المسلمين فاستخار الله وندب إلى العراق ـ بعد ما كتب إليهم ـ ليث بني عقيل مسلماً ابن عمّه حتى إذا وجدهم على ما كتبوا إليه توجه إليهم بنفسه وأهله.
  وكان مسلم كبقية آل علي رجل الصدق والصفاء ومثال الشجاعة والإيمان ، فقام لأمر صهره وسيّده الحسين (عليه السلام) وماقدم الكوفة إلاّ وتكوّنت جماهير الرؤساء لأخذ يمينه يبايعونه نائباً عن الحسين وقد كان لآل علي (عليه السلام) وفي صدورهم عتاب مع أهل الكوفة في خذلانهم الحسن بن علي (عليه السلام) واغترارهم بدراهم معاوية ، إلاّ أنّ حسن استقبالهم لمسلم محا كل عتاب وكفّر كل ذنب ، لا سيما وأنّ الكرام سريعو الرضا والمصلح لا يحفظ غلاً أو حقداً.
  فكتب مسلم إلى الحسين (عليه السلام) بإقبال العامّة وإخلاص الخاصّة، نادمين على ما فرّطوا في جنب البيت الهاشمي الذي كان سلطانه أنفع لدينهم ودنياهم، وحث الحسين (عليه السلام) على القدوم إلى العراق ليجدد على ربوعه معالم أسلافه.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 89_

بنو أُمية والخطر الحسيني

  أخذت قضية الحسين (عليه السلام) تحرك العزائم وتنبه المشاعر في الدوائر الأُموية، وساد القلق على حلفائهم وأوليائهم وهم عالمون أنّ حسيناً يضرب على أيدي الجائرين ولا يولّي فاسقاً أمر المسلمين، فغدت رجال الحكم الأموي ألسنة وعيوناً وأقلاماً وسيوفاً ضد الحركة الحسينية ـ لا سيما في مناطق العراق والحجاز ـ واستفزوا قبل كلّ شيء حكومة الشام والهيئة المركزية بالتأهب للخطر الهاشمي.
  فكتب عمر بن سعد وعمارة بن عقبة وعبد الله بن مسلم وأضرابهم إلى يزيد: (أما بعد، فإن مسلم بن عقيل قدم الكوفة وبايعته الشيعة للحسين (عليه السلام) فإن يكن لك حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك، فإن النعمان بن بشير ـ والي الكوفة ـ رجل ضعيف أو يتضعّف) وكأنهم ورسلهم استلفتوا أنظار حكومة الشام إلى أنه إذا رسخت أقدامه بين النهرين وأهلوهما شيعة أبيه ومدائن كسرى تواليه ـ منذ وليها سلمان وتزوج بشاه زنان ـ فأنوار مبادئه تشعّ ربوع إيران فيكون له منهم أنصار المال، وأنصار الحرب، وأنصار الرأي والإدارة، وأنصار لنشر معارف القرآن وعلوم شرع جدّه الزاهر. فإذا توفق بهم على تكوين حكومة راقية صار أولى من أُمية بالولاية على الأقطار حتى الحجاز والشام، لأنّ المهيمن على العراق يهدد الحرمين وخطوط مواصلات الشام إليهما، وربما يجدد العراق على الشام حرب صفين حينما أرض الشام خالية من الداهيتين معاوية

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 90_

  وابن العاص.
  أما يزيد فلم يكن منه بادىء بدء سوى استشارة (سرجون) مولى أبيه معاوية في كتب القوم إليه، فأشار عليه باستعمال عبيدالله بن زياد على العراق، وكانت بينه وبين يزيد برودة وأبرز سرجون ليزيد عهداً كان معاوية قد كتبه في هذا الشأن قبيل وفاته حسب ما ذكره المؤرخون (1) فوافق يزيد على ذلك وأنهى إلى ابن زياد عهده وكتب إليه: (أما بعد ، فإنّه كتب إليّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفها وتوثقه أو تقتله أو تنفيه) فأخذ ابن زياد من كتاب يزيد ورسوله قوة وبصيرة وصلاحية واسعة في المال وبث المواعيد.
  رأت حكومة يزيد من الدهاء والحزم سكوتها عن ابن الزبير موقتاً حتى يحسم الزمان أمر الحسين (عليه السلام) الذي أصبح يهدد كيان أُمية أي تهديد، فإذا قضت أُمية لبانتها من الحسين سهل أمر ابن الزبير عليها، لأنّ الرعب يسود على أضداد يزيد بعد الإجهاز على الحركة الحسينية ، ولأنّ موقع ابن الزبير في النفوس ليس كموقع الحسين منها، لا سيما وابن الزبير شحيح ـ ولا يسود إلاّ من يجود ـ ولأنّ ابن الزبير لم يرتبط ببلاد ذات خيرات وبركات كالعراق حتى يستفيد من ميزتها وذخيرتها لجيشه لو انتضى له جيش، فلو فرض استمراره على خلاف يزيد بعد الحسين فجند أُمية تحاصره في بلاد الحجاز القاحلة بين الجبال والرمال حتى يسلم هو وجنده أو يقاتل وحده، والوحيد مغلوب .

---------------------------
(1) كما في العقد الفريد ج2 ص306 وإرشاد المفيد ص84.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 91_

الكوفة بنظر الحسين

  شاعت مبايعة العراق للحسين (عليه السلام) بالإمامة ففرح أولياءه وأهل الحرمين وتفاؤلوا من ذلك بعود الحق إلى أهله، عسى أن تموت البدع وتحيا السنن، لكن خاصة الحسين ـ بعد الاطلاع على سفرمسلم إلى العراق ـ كانوا بين محبذ ومخطّىء ويمثل الأخير عبد الله بن عباس فجاء إلى الحسين (عليه السلام) يحذّره من الرواح إلى العراق ويذكّره بخذلانهم أخاه وعصيانهم أباه في حين أنّهم لم يكونوا يحلمون بإمام كأبي الحسن (عليه السلام) أشرف الناس، وأذكاهم ، وأفصحهم وأسخاهم ، وأعلمهم، وأتقاهم يلبس الخشن ويكسوهم حلله، ويبيت طاوياً وينفق عليهم مأكله ، ويكد من سعي وسقي، وتصدق على الفقراء ، وإذا شنّت علهيم الغارات فهو في مقدمة المدافعين عنهم، يخوض بنفسه حومة الوغى حتى يهزم الجمع ويولون الدبر، فأي إمام يكون لهم كعلي وكيف كافئووه وأهله في حياته وبعد وفاته ؟!
  نعم، ابن عباس كان حبر الأُمّة وولي الأئمة، ربّاه أميرالمؤمنين (عليه السلام) وعلّمه وأسرّ إليه من صفوة معارفه ، وكان راجح العقل والفضل والخلق ، وكان من أعز أقرانه على الحسين، فإنّ علياً قام في سنوات اعتزاله الخلافة بتربية غلمة في المدينة من أُسرته وأحبّته.
  لكن الإمام لم يأخذ برأي محذّر إذ كان يحسب نفسه فيواد والمحذّر في واد.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 92_

  فحسين الفتوّة ـ ونفس أبيه بين جنبيه ـ لا يسعه إلاّ أن يلبّي المستغيث به ولا يطيق الصبر على محق الدين وسحق الموحّدين ولو ذاق في جهاده الأمرّين.
  إنّ غاية ما كان يراه (عليه السلام) في تحذير المحذّرين أنّ العراق لا يفي بوعده ولا يقوم على عهده ، فهب أنّ ذلك كذلك فما ضرّ الإمام أن يتم الحجّة عليهم قبل أن يتموا الحجّة عليه، فإن ظفر بمطلبه من إبادة الظالمين فبها ونعمت وإلاّ سار عنهم إلى الثغور القاصية حتى يفتح الله عليه بالحق وهو خير الفاتحين، أو يأتيه الموت فيلاقي ربّه غير خاضع لأعدائه.
  أمّا رحل الحسين (عليه السلام) وفتيته فكانوا كلّما ذكروا العراق تجلّت لديهم ذكرياته الحسنى، وتذكّروا حنانه نحو الغريب وطلاوة الحديث الجذاب والعواطف الرقيقة، وذكروا عذوبة مائة وطيب هوائه علاوة على ذكر من لقوه بالكوفه ممن تبودلت بينه وبينهم الحقوق والنعم والعواطف الحسنات.
  فكانت هذه والتي سبقت خواطر مهمة أدّت إلى المسير نحو العراق وقبول ما استدعاه وكيله الأمين مسلم في كتابه، غير أن الجميع واثقون من أن الرحيل إلى العراق لو كان; فإنّما يكون بعد فريضة الحج وبعد الأضحى.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 93_

خروج الحسين من مكة

  كان الحسين (عليه السلام) أوسع علماً وأقوى ديناً ممن انتقدوا عليه الخروج من مكة قبل إكمال الحج مستبدلاً حجه بعمرة مفردة ليتسنّى له الخروج يوم التروية (1) ومجاوزة حدود الحرم بأقرب وقت ممكن إذ صار بين جاذب ودافع تجذبه ظاهراً أنباء حجاج العراق بأن ابن زياد تأهب للخروج من البصرة نحو الكوفة، والحسين يعرف مبلغ دهائه وريائه وقوة إقدامه وجسارته ، وأنّه إذا سبق الحسين (عليه السلام) إلى الكوفة قلب القلوب وقطع عليه الدروب واستعمل لخذلان مسلم كل وسيلة وحيلة، وأنّ مسلماً بنفسيته الحربية قد تخفى عليه الحركات السياسية فلا ينجح مع ذلك الشيطان وهو رجل المروءة والإيمان، فخرج إلى الكوفة مسرعاً انقاذاً لمسلم وللمسلمين.
  وأما دفاعه عن الحرم فعلمه بالمكايد المدبّرة من خصومه لحصره أو اغتياله في مكة من حين تفرّق الحاج منها ، فيصبح إمّا مقتولاً أو مقاتلاً وفي كلا الأمرين هتك للحرم الممنوع فيه سفك الدماء، وقد بدت بوادر مناوأته من قدوم عمرو بن سعيد عامل يزيد قبل التروية بيوم ، وتقدّمه الصلاة بالمسلمين ، وبثّه العيون حول الحسين وحول ابن الزبير، فصلّى الإمام وطاف وسعى وحلّ الإحرام ثم خرج.

---------------------------
(1) وقصّة خروجه مذكورة في إرشاد المفيد ص198.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 94_

  وبعدما عرف عمرو بن سعيد صرخ بالناس قائلاً: (اركبوا كل بعير بين السماء والأرض واطلبوا حسيناً) ولم يحتشم حرمة البلد الأمين ولا النبي الأمين.
  بادر الحسين (عليه السلام) بمسيره قبل أن يبادر العدو إلى صدّه وإحصاره واغتياله، وألجأته الضرورة إلى حركة غير منتظرةوخارجة عن الحسبان، وأوجد بمسيره هذا ثورة فكرية أوجبت انتشار خبره بسرعة البرق، وحقاً أقول: إنّ الحسين (عليه السلام) مجتهد في نيّته ومستفرغ كل ما فيوسعه لنشر دعوته في كل عصر ومصر شحت وسائل النشر فيها ، فكان لخروجه في غير أوانه دوي يرن صداه في الداخل والخارج والناس يتساءلون عن نبأه العظيم وعن أنّ الحسين هل حج وخرج ؟ ولماذا ؟ ومتى ؟ وكيف ؟ والى أين ؟.
  هذا والحسين (عليه السلام) يسير بموكبه الفخم وحوله أهله كهالة حول القمر كأنّ موكبه داعية من دعاته، فإنّ الخارج يومئذ من أرض الحج والناس متوجّهون الى الحج لابد أن يستلفت إلى نفسه الأنظار وإن كان راكباًواحداً فكيف بركب وموكب... إنّه لأمر مريب وغريب يستوقف الناظر ويستجوب كل عابر.
  وهذه أيضاً عملية من شأنها شهرة أمر الإمام وانتشار خبره الهام، وممن كان قادماً إلى الحج واستجلب نظره الركب والموكب الفرزدق الشاعر قال : (حججت بأُمّي في سنة ستين فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم إذ لقيت الحسين بن علي (عليهما السلام) خارجاً من مكة مع أسيافه وأتراسه فقلت : (لمن هذا القطار ؟ قيل : (الحسين بن علي) فأتيته وسلّمت عليه وقلت له : (أعطاك الله سؤلك بأبي أنت وأُمي يا ابن رسول الله، ما أعجلك عن الحج ؟) فقال : (لو لم أعجل لأخذت) ثم قال لي : (من أنت ؟) قلت : (امرؤ من العرب) فلا والله ما فتشني عن أكثر من ذلك، ثم قال لي : (أخبرني عن الناس خلفك) فقلت : (من الخبير سألت ، قلوب الناس معك وأسيافهم عليك والقضاء

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 95_

  ينزل من السماء) وسألته عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها وحرّك راحلته وقال: (السلام عليك).
  وكان موكب الحسين (عليه السلام) يسير في بطون الفيافي والمفاوز وقوافل القلوب تشايعه من بعد بعيد وخفيف اللحاق من عشاقه مصمم على الالتحاق بموكبه بعد أداء فريضة الحج بأقرب ساعة، لكن الإمام يجد في مسراه والقمر دليل الركب ورفيقه ولما بلغ بطن عقبة لقيه شيخ من بني عكرمة فسأله:
  (أين تريد ؟) فقال الإمام: (الكوفة) ، فقال الشيخ: (أنشدك الله لما انصرفت، فوالله ما تقدم إلاّ على الأسنة وحدّة السيوف، وأن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطأوا لك الأشياء فقمت عليهم كان ذلك رأياً).
  فقال له الإمام: (ليس يخفى عليّ الرأي(1) ولكن الله تعالى لا يغلب على أمره) ثم قال (عليه السلام): (والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذل فرق الأمم).

---------------------------
(1) هنا حق الجواب عمن اعترض على حسين الشرف: ولماذا لم يصالح يزيد كصلح الحسن (عليه السلام) لمعاويه فينجو بنفسه وعياله من الهلكة ؟ بلى جرّب آل النبي غدر بني أمية عدّة مرات ولم ينجحوا ، إذ تصالح الحكمان في دومة الجندل، وغدر ابن العاص مندوب معاوبة بأبي موسى الأشعري مندوب الإمام (عليه السلام) وصالح سيدنا الحسن معاوية فغدره هذا في وعوده وعهوده وأخيراً دس إليه السم فقتله، ثم جردوا ابن عمه مسلماً من سلاحه بالأيمان والعهود وسرعان ما حنثوا ونكثوا وقتلوه، أفبعد هذا كله يثق حسين العلاء بوعود هؤلاء أو نظن في صلحهم السلامه ؟ ومن جرّب المجرّب حلّت به الندامة، نعم علم الحسين (عليه السلام) أنّه مقتول إذا بايع ومقتول إذا لم يبايع، وفي حالة خطرة كهذه لا يسوّغ شرع أو عقل اختيار قتلة خسيسة على قتلة شريفة (فقتل امرىء في جانب الله أفضل) لا سيما وفي إعلانه الخلاف ظن النصرة والنجدة ومظنة إرجاع مجده وإحياء شعائر شرع جدّه (صلى الله عليه وآله).

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 97_

ابن زياد على الكوفة

  أمّا عبيدالله بن زياد فقد ضمّ يزيد الكوفة إليه مع البصرة فحسب ذلك ضرباً من الرفعة لا سيما وقد أُعطي سعة النفوذ والسلطة التامة العامة، فمهّد أمره في البصرة وعهد بأزمّتها إلى أخيه عثمان والى أعوانه المجرّبين خوفاً من الدعاية فيها لابن الزبير أو الحسين (عليه السلام) وتأهب إلى الكوفة ومعه شريك الحارثي من حيث لم يعلم العامة أمرهما، وسرعان ما قدمها بكل جسارة ودخلها متنكّراً ومتلثّماً وعليه عمامة سوداء يوهم الناس أنّه الحسين بن علي (عليهما السلام) (1) وصار من يصادفونه في خطط الكوفة وطرقاتها يزعمونه الحسين السبط فيسلمون عليه بالإمامة، ويحيّونه بكل كرامة، ويقبّلون يديه ورجليه، وهولا يكلّم أحداً فوق راحلته، حتى بلغ قصر الإمارة، فطرق الباب على واليها المحصور النعمان بن بشير ، حتى إذا عرفه فتح الباب ودخل.
  عند ذلك فشى خبره ، وأنه ابن زياد فباتت تلك الليلة تغلي كالمرجل ، والناس بين مثبّت ومثبّط ، وابن زياد دخل البلدة وحده وعلى حين غرّة ولم ينزل إلاّ في مركز الحكم، وأخذ في قبضته المال والسلاح ، ورتب في ليلته على الدوائر المهمة من لم يتجاهروا بصحبة مسلم ، وأصبح مناديه يجمع الناس لخطابته في الجامع الأعظم، فرقى المنبر بكل جسارة ـ وجسارة الخطيب تعطي

---------------------------
(1) كما في الإرشاد ص 185.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 98_


  كلامه قوة وتأثيراً على الأوهام ـ فصار يعد ويوعد لا عن الله ورسوله ، بل عن لسان أميره يزيد ، فبلغهم سلامه ولكن الناس لم يردّوا السلام عليه أولاً حتى أخذ يطمع المطيع بمواعد جسام ويهدد مخالفيه بجدّ الحسام ـ والسيف مصلت بيده ـ فعند ذلك ردّ السلام عليه نفر قليل ثم أضحى مناديه بجمع الرؤساء والعرفاء إليه لأخذ المواثيق وإنجاز المواعيد وتوزيع العطايا ومعاقبة المتخلفين عقوبة صارمة، فهرع لندائه خلق كثير انقلبت القلوب وانحرفت الوجوه وتبدّلت لهجات الأندية ونشرات الشيع.
  نعم! لا ينقضي العجب من خيبة الكوفة في نهضتها إلاّ بعد التدبر في أسبابها وأسرارها، إذ باغت ابن زياد الكوفيين بزي الحسين (عليه السلام) حتى استقر في دار الإمارة بين حامية مستعدة ، وقد كان الواجب على أهل الكوفة بعد ما لبى الحسين دعوتهم وإرساله مسلماً وكيلاً عنه أن تجتمع أحياؤها ويتحدّث رؤساؤها فيخرجوا عامل يزيد وحاشيته ، ويسلِّموا دوائرها إلى وكيل الحسين (عليه السلام) ، وأن يقترحوا عليه من الأعمال المهمة ماهم أدرى به وأعرف ، ومسلم لم يقدم عليهم كوال مختار أو مفوض مطلق ليستقل في أعماله وأعمالهم بالتصرف والمسؤولية ، وإنما بعثه الحسين (عليه السلام) كمعتمد يشرف على أمرهم ويستطلع حقيقة خبرهم ، لكن الكوفيين ـ يا للأسف ـ غروا مسلماً واغتروا ، ولم يغتنموا صفاء جوهم وتواني عددهم إلى أن دهمهم ابن زياد وفرّق جمعهم بالوعد والوعيد وسكن فورتهم بالطمع والتهديد ، حتى إذا سكت الضجيج من حول مسلم نفى الرجال العاملين لمعونة مسلم من بلده ، وزج في السجن من وجوه الشيعة ـ أمثال المختار الثقفي، والمسيب بن نجبة ، وسليمان، ورفاعة وغيرهم ـ ممن لم تؤثر عليهم التضييقات ولا اغتروا بباطل الوعد واستوظف آخرين، ثم اختفى بعد ذلك أكثر المتهوسين في زوايا البيوت.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 99_

مقتل مسلم وهانيء

  إنّ مسلماً ـ وهو الذي بايعه أكثر من ثلاثين ألف مسلم ـ بقي وحيداً فريداً بعد القبض على الوجوه من أوليائه، فلاذ بصديقه هانىء ـ أكبر مشايخ الكوفة سناً وشأناً وبصيرة وعشيرة ـ إذ كان معمّراً فوق الثمانين وشيخ كندة أعظم أرباع الكوفة، وكان إذا صرخ لبّه ثلاثون ألف سيف ، وكان هو وأبوه من أحبة علي (عليه السلام) وأنصاره في حروبه العراقية الثلاث.
  فأنزل هانىء مسلماً على الرحب والسعة والحفاظ حتى يفرج الله عنه، وتظاهر هانىء بالتمارض مجاملة مع ابن زياد في عدم إجابته لدعوته ، لكن ابن زياد يطمع في هانىء وسابقته معه ويرى في جذب أمثاله من المتنفذين معونة كبرى لإنفاذ مقاصده.
  ويروى أن هانئاً (1) اقترح على عميد آل عقيل ومندوب الحسين (مسلم) الفتك بابن زياد غيلة وغفلة لكن مسلماً لم يجب بسوى كلمة (إنّا أهل بيت نكره الغدر).
  كلمة كبيرة المغزى بعيدة المرمى، فإنّ آل علي (عليه السلام) من قوة تمسكهم بالحق

---------------------------
(1) كما في العقد الفريد ج2 ص306 ، ومقاتل الطالبيين وتاريخ الطبري وغيرها.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 100_


  والصدق نبذوا الغدر والمكر حتى لدى الضرورة واختاروا النصر الآجل بقوة الحق على النصر العاجل بالخديعة ، شنشنة فيهم معروفة عن أسلافهم وموروثةً في أخلافهم كأنّهم مخلوقون لإقامة حكومة الحق والفضيلة في قلوب العرفاء الأصفياء، وقد حفظ التاريخ لهم الكراسي في القلوب.
  وبالجملة ، فقد دبّر ابن مرجانة حيلة الفتك بهانىء فأحضره لديه بحجة مداولة الرأي معه في الشؤون الداخلية، غير أنّ هانئاً عندما حضر لديه غدر به ابن زياد، وشتم عرضه، وهشم أنفه، وقطع رأسه.
  وكان لهذه الحادثة دوي في الرؤوس وفي النفوس، واستولت بذلك دهشةً على الجمهور أدت إلى تفرّق الناس من حول مسلم ، فأمسى وحيداً حائراً بنفسه ومبيته، وأشرف في طريقه على امرأة صالحة في كندة ـ تسمّى طوعة، هي أم ولد حازت شرف التاريخ، إذ عرفت قيمة الفضيلة، بينما قومها ضيّعوا هذا الشرف الخالد وغرّتهم المطامع ـ جالسة على باب دارها فاستسقاها ماء فجاءته به وشرب ثم وقف يطيل النظر إلى مبدء الشارع تاره والى منفذه أخرى ـ كأنّه يتوقف من يتطلبه ـ فتوسمت المرأة فيه غربته وسألته فقال : (نعم أنا مسلم بن عقيل ، خذلني هؤلاء) فاستعظمت طوعة ذلك ودعته إلى بيتها لتخفيه حتى الصباح، وفرشت له في بيتها وعرضت عليه العشاء فلم يأكل ، ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها وقد كان مع الغوغاء، فأوهمه تردد أُمّه إلى البيت وقال لأُمّه : (والله ليريبني كثرة دخولك هذا البيت) ثم ألحّ عليها فأخذت عليه العهود كي لا يفشي سرّها وسرّ مندوب الحسين (عليه السلام) وأخبرته بالأمر بعد الأيمان، ثم إنّ الغلام غدا عند الصباح إلى ابن الأشعث وأفشى له سرّ مسلم ومبيته، فأبلغ بذلك ابن زياد فأرسل الجموع للقبض عليه.