الفهرس العام

بعد مقتل الحسين


زينب في عاصمة أبيها
السبي النبوي في قصر الإمارة
في الشام عاصمة أُمية
طلائع الانتباه
محرم ... وتاريخ العزاء الحسيني

  قتل الظالمون حسين الفضيلة وفرحوا بمقتله فرحاً عظيماً، إذ حسبوا أنّهم قتلوا به شخصيته ودعوته وصرعوا به كلمته، وحسبوا أنّهم أخذوا به ثأر أسلافهم وانتقام أشياخهم ، داسوا بخيلهم جناجن صدر الحسين (عليه السلام) وسحقوا جثمانه ، وزعموا أنّهم سحقوا به كلمة الحسين ومحقوا دعوته.
  تركوا جسد الحسين وأجساد من معه عراة على العراء بلا غسل ولا كفن ولا صلاة عليها ولا دفن ، زاعمين أنّهم أهملوا بذلك شخصية الحسين وأهمية الحق والإيمان ، مثّلوا بجثة الحسين ـ وقد منع الإسلام عن المثلة ـ زاعمين أنّهم جعلوا داعية العدل وآية الحق أُمثولة الخيبة والفشل ، وأنّه سيضرب به المثل، لعبوا برأسه على القنا وبرؤوس آله وصحبه أمام العباد والبلاد ، زاعمين أنّهم سيلعبون بعده بعقائد العباد ومصالح البلاد وما داموا ودامت ، سلبوه وسلبوا أهله ونهبوا رحله وأحرقوا خيمه وأبادوا حُرمه ، زاعمين أنّها هي الضربة القاضية، فلن ترى بعدئذ من باقية.
  ظن ذلك القوم وأيّدهم كل شواهد الأحوال يومئذ حتى دفن ابن سعد جميع قتلى جنده في يومه ، ودفن معهم كل خشية أو خيبة كانت تجول في واهمته، ورحل عن كربلاء برحل الحسين (عليه السلام) وأهله والرؤوس الى ابن زياد، وترك أشلاء حامية الحق وداعية العدل جرداء في العراق بين لهيب الشمس والرمضاء

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 178_

  وعرضة للنسور والعقبان، ومما يثير الشجون والأحزان أنّ عليّ الإيمان حارب البغاة من أقطاب الحركة الأموية في صفين والجمل ، وبعد قتلهم أجرى عليهم سنن التجهيز والدفن مراعياً حرمة الإسلام وحشمة الشهادتين، أمّا المنتقمون من حسين الحق وصحبه فلم يحترموا فيه أي شعار ديني أو أدب قومي ، قنعوا منهم بدمائهم عن التغسيل وبالترب عن التحنيط وبنسيج الرياح عن التجهيز.
  وليت شعري ! ماذا يصنع أولياء الحق بصلاة أولياء الشيطان ؟ وحسبهم منهم أن صلّت على جسومهم سيوفهم ، وشيّعت أجسادهم نبالهم ، وألحدت أشلاءهم العوادي والعاديات ، فعليهم وإليهم صلوات الله والصالحين ودعوات طلاب العدل وعشاق الحق ما لاحت الإصباح وروحت الرياح.
  هذا وما عتمت عشية الثاني عشر من محرم إلاّ وعادت الى أرياف كربلاء عشائرها الطاعنة عنها بمناسبة القتال وقطان نينوى والغاضريات من بني أسد ـ وفيهم كثير من أولياء الحسين (عليه السلام) وقليل ممن اختلطوا برجّالة جيش الكوفة ـ فتأملوا في أجساد زكية تركها ابن سعد في السفوح وعلى البطح تسفي عليها الرياح، وتساءلوا عن أخبارها العرفاء فما مرت الأيام والأعوام إلاّ والمزارات قائمة ، وعليها الخيرات جارية ، والمدائح تتلى ، والحفلات تتوالى ، ووجوه العظماء على أبوابها، وتيجان الملوك على أعتابها، وامتدت جاذبية الحسين (عليه السلام) وصحبه من حضيرة الحائر الى تخوم الهندوالصين وأعماق العجم وما وراء الترك والديلم والى أقصى من مصر والجزيرة والمغرب الأقصى يرددون ذكرى فاجعته بممر الساعات والأيام، ويقيمون مأتمه في رثائه ومواكب عزائه ، ويجدون في إحياء قضيته في عامة الأنام ، ويمثلون واقعته في ممر الأعوام، هذا بعض ما فاز به حسين النهضة من النصر الآجل والنجاح في المستقبل {وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 179_

  وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.
  أمّا الحزب السفياني فقد خاب فيما خاله وخسرت صفقته وذاق الأمرّين بعد مقتل الحسين (عليه السلام) في سبيل تهدئة الخواطر وإخماد النوائر حتى صار يعالج الفاسد بالأفسد ويستجير من الرمضاء بالنار ، كقيامه باستباحة مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) وإخافة أهلها، وقتله ابن الزبير في مكة حرم الله والبلد الأمين، حتى حاصروه ورموه بالمنجنيق ، وقطعوا سبل الحج على المسلمين، وهتكوا معظم شعائر الدين.
  ونهض المختار الثقفي وزعماء التوابين العراقيين طالبين ثأر الحسين (عليه السلام) فقتلوا ابن زياد وابن سعد وأشياعهما شرّ قتلة، وأهلكوا شمراً بكل عذاب ، وأحرقوا حرملة حيّاً ، وتتبعوا قتلة الحسين (عليه السلام) ومحاربيه في كل دير ودار ، وقتلوهم تحت كل حجر ومدر ، وأصلوهم الحميم والجحيم، واستجاب الله دعوة الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء إذ قال : (وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبّرة).
  ولم تزل عليهم ثائرة إثر ثائرة ونائرة حرب تلو نائرة حتى أذن الله سبحانه بزوال ملك أمية وسقوط دولة بني مروان على يدي السفاح الهاشمي أبي العباس بن عبد الله العباسيوإخوته وأعمامه، والقائد الباسل أبي مسلم الخراساني، وثلة من فحولة هاشم، فثلّت عروش تلك الدولة الجائرة، ودكّت أركان حكومتها الغدّارة، واستأصلوا شأفتهم وأبادوهم رجالاً ونساءً حتى لم يبق منهم آخذ ثار ولا نافخ نار، وأحرقوا من آثارهم حتى الرميم المنبوش، ولُعِنوا حيثما ذُكروا، وقُتلوا أينما ثُقِفوا ، فتجد حتى اليوم قبر يزيد الجور في عاصمة ملكه كومة أحجار ومسبة المارة، لا يذكر في شرق الأرض وغربها إلاّ بكل خزي وعار.
  هذه عاقبة الجائر الفاجر وتلك عقبى المجاهد الناصح {إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 181_

زينب في عاصمة أبيها

  إن كان أبو حفص أوّل من اختط الكوفة للجند والمؤونة فأبو الحسن (عليه السلام) أوّل من مصّرها وعمّرها ومدّنها واتخذها عاصمة لحكومته(1) فصارت في أيامه مشهد القضاء والخطابة، ومعهد العلم والعبادة ، وكانت ابنته زينب أميرة الكوفة حينماكان أبوها أمير المؤمنين، ومعزز مجدها إخوتها الأمجاد ، وزوجها سيّد الأجواد عبد الله ابن عمها جعفر الطيارـ الذي اشتهر بالجود ـ حتى أنّه أقرض شخصاً واحداً ـ وهو الزبير ـ ألف ألف درهم ثم وهب الصك لابن الزبير.
  وبيت زينب في الكوفة ملجأ الفقراء والأُمراء ، حتى كان أبوها يضيف عندها أحياناً ـ كماروي ذلك عنه في ليلة مقتله ـ فإلى مثل هذا البلد أو الى مقر عزها وعاصمة أبيها كان سبي زينب الخطوب وعقيلة بني هاشم ، وتدخلها بجملة ربائب الخدر من آل الرسول، وحولها يتامى وذراري أبيها علي ، على محامل غير مجللة بالغطاء ، وهنّ لا يملكن من السواتر غير الحياء، يسوقهنّ الجيش المنتصر أمام الركاب كالإماء ، وأهل الكوفة في عَبرة وعِبرة من هذا المشهد الغريب، يضجون ويعجون مما جرى على آل الرسول ، وفيهم من يناولون الأطفال بعض الخبز

---------------------------
(1) روي ذلك القرماني في أواخر الدول.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 182_

  والتمر رأفة ورحمة.
  فحري بالحرة الهاشمية سليلة الرسول أن تصرخ بهم وتقول: (إنّ الصدقة محرَّمة علينا أهل البيت) ونساء الأزقة والسطوح باكيات على هؤلاء.
  قال خزيمة الأسدي : دخلت الكوفة فصادفت منصرف علي بن الحسين بالذرية من كربلاء الى ابن زياد ، ورأيت نساء الكوفة يومئذ قياماً يندبن، متهتكات الجيوب، وسمعت علي بن الحسين وهو يقول بصوت ضئيل قد نحل من شدة المرض: (يا أهل الكوفة إنّكم تبكون عليناً فمن قتلنا غيركم ؟) ورأيت زينب بنت علي (عليه السلام) فلم أر والله خَفِرَةً أنطق منها كأنّما تفرغ عن لسان أميرالمؤمنين ، فأومأت الى الناس أن اسكتوا ، فسكتت الأنفاس وهدأت الأجراس فقالت:
  (الحمد لله والصلاة على محمّد وآله الطيبين الأخيار، أمّا بعد : يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر ، أتبكون ؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرّنّة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ، ألا وهل فيكم إلاّ الصّلف النّطف، والصّر الشّنف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة ، أوكفضة على ملحودة : {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}.
  أتبكون وتنتحبون ؟ إي والله! فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل أبداً، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، وسيّد شباب أهل الجنة، وملاذ خبرتكم ومفزع نازلتكم ، ومنار حجّتكم، ومُدرة سنّتكم ، ألا ساء ما تزرون وبعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السّعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضُربت عليكم الذلة والمسكنة.
  ويلكم يا أهل الكوفة ! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم ، وأي كريمة له أبرزتم، وأي دم له سفكتم ، وأي حرمة له انتهكتم؟ ولقد جئتم بها خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو ملأ

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 183_

  السماء أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ولعذاب الآخرة وأنتم لا تنصرون.
  فلا يستخفنّكم المهل فإنّه لايخفره البدار، ولايخاف قوة الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد).
  يقول راوي هذه الخطبة: (فوالله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيت شيخاً واقفاً الى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته وهو يقول : بأبي أنتم وأمي ، كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا ينزى).

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 185_

السبي النبوي في قصر الإمارة

  نزلوا بالسبايا في قصر الإمارة على عبيدالله وقد سبقها رأس الحسين (عليه السلام) لأنّ ابن سعد ساعة ما قتل الحسين أرسل رأسه الى ابن زياد مع خولي الأصبحي، فبات في بيته وأصبح عنده في طست بين يديه ـ ومجلسه مكتظ بالشيوخ ورؤساء الأحياء ـ فصار يبتسم من عظيم سروره وابتهاجه ، وينكت رأس الحسين بقضيب في يده ويضرب شفتيه ، غير مكترث ولا محتشم لأحد، ولا أحد ينكر عليه فعلته هذه إلاّ الصحابي العظيم زيد بن أرقم، صرخ قائلاً:
  (ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين، فقد والله رأيت رسول الله يضع شفتيه على هاتين ويقبّلهما) ثم بكى ، فسبه ابن زياد وقال له : (أبكى الله عينيك، فلولا أنّك شيخ كبير قد كبرت وخرفت لضربت عنقك) فخرج زيد يقول للناس : (أنتم يا معشر العرب عبيد بعد اليوم، تقتلون ابن فاطمة وتؤمّرون ابن مرجانة).
  ولما أدخلوا سبايا الحسين (عليه السلام) على ابن زياد تنكرت أخته زينب بين النساء وحفت بها جواريها لكي لا تعرف ، فقال ابن زياد: (من هذه المتنكرة المتكبرة ؟) فلم تجبه ثم كررها ثلاثاً وهي لاتكلمه ، فقالت له إحدى الجواري: (هذه زينب بنت فاطمة) ، فقال ابن زياد: الحمدلله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أُحدوثتكم!! فقالت زينب : (الحمدلله الذي كرّمنا بمحمّد وطهّرنا تطهيراً لا كما تقول ، وإنما يفتضح

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 186_

  الفاسق ويكذب الفاجر هو غيرنا)، فقال ابن زياد: (كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك ؟) فقالت : (هؤلاء كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتخصمون عنده فتنظر لمن الفلج).
  فغضب ابن زياد واستشاط، فقال له عمر بن حريث: (يا أمير إنّها امرأة، والمرأة لاتؤاخذ بشيء من منطقها)، فقال ابن زياد لزينب: (شفى الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك)، فقالت : (لعمري لقد قتلت كهلي، وأبرزت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك فقد اشتفيت)، قال ابن زياد لجلسائه: (هذه سجاعة وقد كان أبوها أسجع منها).
  ثم التفت الى علي بن الحسين قائلاً : (ما اسمك ؟) قال: (علي بن الحسين) قال : (أوليس الله قد قتل عليّاً ؟) قال : (كان لي أخ يُسمّى علياً قتله الناس)، قال ابن زياد : (بل قتله الله)، قال علي (عليه السلام) : (الله يتوفّى الأنفس حين موتها ، وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن الله)، فغضب ابن زياد وأمر بقتله ، فتعلقت به عمته زينب قائلة : (حسبك يا ابن زياد من دمائنا! أما رُويت واشتفيت، وهل أبقيت منا أحداً ؟ اسألك بالله إن كنت مؤمناً أن تقتلني معه إن كنت قاتله) ، فنظر ابن زياد إليهما طويلاً ثم قال : (عجباً للرحم، تود أن تقتل دونه، دعو الغلام ينطلق مع نسائه).
  ثم كثر الزّحام على ابن زياد من الطامعين والطامحين، إذ أزفت ساعة الوفاء بالوعود وتأدية أجور الاملين، لكن ابن مرجانة رأى أنّ الخزانة لا تفي بمصرف الجنود فضلاً عن الوفاء بالوعود ، وإنّما أغراهم بالمواعيد دهاءً ومكراً ، وطبيعة الكوفة أنها تنصب رقابها سلماً لرقبائها قبل إبرام الوثائق، فتمسي ولها الوزر ولغيرها الأجر، فغدر ابن زياد بهم بعد مقتل الإمام، وحَرَم الكثير منهم حتى عن القليل بأقل بادرة وأدنى حجة ، ونكث عهد ابن سعد بولاية الري.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 187_

  ولما جاءه سنان بن أنس قائلاً:

إمـلأ ركابي فضة iiوذهباً      إنّي  قتلت السيّد iiالمحجّبا
قتلت خير الناس أُمّاً iiوأبا      وخيرهم إذ ينسبون النسبا
  ردّه عبيدالله قائلاً : (فلم قتلته لو تعرفه كذلك ؟) وأحال ابن زياد قسماً من هؤلاء العاملة الى أميره يزيد في الشام ليستوفوا الجوائز هناك، وجهز معهم سبايا الحسين، وقائد الركب زجر وقائد الجند المحافظ لهم شمر ، ومعهم كافة الرؤوس، وذلك لأنّه عرف أنّ الكوفة سريعة التبدل، وشعر ببوادر انقلاب القلوب مما ذكرناه في بقاء آل الرسول في الكوفة خطر، والسجون مشحونة بشيوخ القبائل.
  وليس ابن زياد كيزيد يلهو بالحالة الحاضرة عما ورائها ويضيع الفرص على نفسه ، فاستعجل بارسال أهل الحسين الى الشام، فضلوا يعانون مشاقّ السّفر حتى وصلوا دمشق الشام في أوائل شهر صفر.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 189_

في الشام عاصمة أُمية

  الحوادث في النهضة الحسينية سلسلة مصائب تؤخذ بدايتها في الأكثر من مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) وتنطفي شعلة الختام في الشام، إلاّ أنّ المتأمل في فصولها يعسر عليه في أكثر الأحيان ربط الحلقات وتعليل الحوادث ومعرفة المؤثّرات، فيقف التاريخ بالقارئ غالباً وقفة الحائر واضعاً سبابته على شفتيه بدل أن يضعها على جملة تاريخية كهيئة المشير الى السبب، وكيف لا تستولي عليه الحيرة وحوله ما يدهش اللب ويقضي بالعجب ، إذ عن اليمين فضائل جمة تمركزت في شخصية الحسين (عليه السلام) هي ذي مآثر فُضلى تستوجب إكرام صاحبها ـ قام أو قعد ـ بينما عن يسار المتأمل صحيفة سوداء، للخصوم هي ذي مآثم تستدعي احتقار صاحبها ولعنه ـ أينما سار أو وقف ـ وأمام المتأمل فجائع وفضائع وما لا يستحله عدد من ألد أعدائه من إيذاء صبية ، وذبح ذرية، وسبي نساء، وقتل أبرياء، وضرب المرضى، وسب الموتى وإحصار الضعفاء على ظمأ ، ومثلة بأشلاء الى غيرها مما تقشعر منه الجلود.
  فهل هذا كله لأحقاد أورثتها الجدود للأحفاد ؟ حينما نرى الخصومات تنتهي في العرب وغير العرب في ساعة الغلب، فلا يبقى بعد ذلك في المنظر أثر حقد على المنكسر، بل يصون منه الحرمة، وتتحول فيه النقمة الى الرحمة.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 190_

  لكنما المؤسف كل الأسف أنّ يزيد لم يعامل خصمه من آل الرسول (صلى الله عليه وآله) معاملة خصوم العرش والتاج، ولا وقفت مظالمه فيهم عند حد الغلب والسلب، حتى أسر النسوة بكل قسوة وسيرها عشرات المنازل من كربلاء الى الشام سبايا على أقتاب المطايا، وأوقفهن بين يديه كالإماء شعث الشعور متربة الوجوه ممزقة الثياب، الأمر الذي يدعو الى الاعتقاد بأنّ القضية قضية الأحقاد لا قضية العرش والتاج ، ولا سيما عندما أظهر التشفي حين نكت بخيزرانة في يده ثغر الحسين وشفتيه قائلاً : (يوم بيوم بدر) فأنكر عليه أبو بردة الأسلمي قائلاً : (ويحك يا يزيد، أتنكت ثغر الحسين ابن فاطمة؟! أشهد لقد رأيت النبي يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول : أنتما سيّدا شباب أهل الجنة، فقتل الله قاتلكما ولعنه).
  فغضب يزيد وأمر بإخراجه سحباً ثم تمثل بأبيات ابن الزبعرى المعروفة (ليت أشياخي ببدر شهدوا ... الخ) وزاد عليها ـ كما في رواية الشعبي وغيره ـ أبياتاً منها هذا البيت:
لست من خندف إن لم أنتقم      من  بني أحمد ما كان iiفعل
  ثم صارت فاطمة بنت الحسين من ورائه تطاول رأسها لترى رأس أبيها ويزيد يطاول برأسه لئلا تراه ، وصار يتمثل بأبيات الحصين المري:   نفلِّق هاماً من رجال أعزّة علينا وقد كانوا أعقّ وأظلما
  فصاح علي بن الحسين ـ وكان مغلول اليدين ـ : (يا يزيد! ما ظنّك برسول الله لو رآنا على هذه الحالة ؟) فأمر يزيد بإطلاق يديه وقال : (أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني في سلطاني فصنع الله به ما قد رأيت)، فأجابه علي: {مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبة فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَاب مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 191_

  فَخُور}.   وقام شامي أحمر وأشار الى فاطمة بنت الحسين قائلاً: (يا أمير هب لي هذه الجارية)، فارتعدت فاطمة وتعلقت بعمتها زينب، فصاحت زينب الفصاحة: (مه! ليس ذلك لك ولا لأميرك)، فغضب يزيد وقال: (إنّ ذلك لي ولو شئت لفعلت).فأجابته زينب: (كذبت والله، ليس ذلك لك إلاّ أن تخرج عن ملتنا وتدين بغير ديننا)، فاستطار يزيد غضباً وقال: (إياي تستقبلين بهذا ؟ إنّما خرج عن الدين أبوك وأخوك)، فقالت: (بدين الله ودين أبي اهتديت أنت وأبوك إن كنت مسلماً، وإنّما أنت أمير تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك).
  ثم لم تقنع بنت أميرالمؤمنين في تلك القاعة الرهيبة التي لا تقصر مهابة عن ميادين الوغى، بل عمدت الى كشف القناع عن مخازي القوم وبيان صلاتها بصميم الإسلام، فقامت مصليّة على رسول الله قائلة:
  الحمدلله رب العالمين، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين.
  صدق الله: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ}.
  أظننت يا يزيد! حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى أنّ بنا على الله هواناً وبك عليه كرامة ، ؤانّ ذلك لعظم خطرك، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متّسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا.
  مهلاً مهلاً! أنسيت قول الله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} ؟!
  أمن العدل يا ابن الطلقاء! تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 192_

  سبايا، قد هُتكت ستورهن ، وأُبديت وجوههن ، تحدوّ بهنّ الأعداء من بلد الى بلد ، ويستشرف وجوههنّ أهل المناهل والمعاقل ، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد ، والدني والشريف ، ليس معهن من رجالهنّ ولي ولا من حماتهن حمي.
  وكيف يُرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء ؟ وكيف يستبطىء في بغضنا ـ أهل البيت ـ من نظر إلينا بالشنف والشّنآن والإحن والأضغان ؟!
  ثم تقول ـ غير متأثم ولا متعظم:
لأهلّوا  واستهلّوا iiفرحاً      ثم قالوا يا يزيد لا تشل
  منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك ، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة واستأصلت الشأفة بإراقتك دماء ذرية محمّد (صلى الله عليه وآله) ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك زعمت أنّك تناديهم ، فلتردنّ وشيكاً موردهم ، ولتودّن أنّك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت.
  اللهم خذ بحقنا ، وانتقم من ظالمنا ، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا.
  فوالله ما فريت إلاّ جلدك، ولا حززت إلاّ لحمك ، ولتردنّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما تحمّلت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم ، ويأخذ بحقهم.
  {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.
  حسبك بالله حاكماً ، وبمحمد خصيماً، وبجبريل ظهيراً ، وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً ، وأيّكم شر مكاناً وأضعف جنداً.
  ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك إنّي لاستصغر قدرك ، واستعظم تقريعك، واستكبر توبيخك ، لكنّ العيون عبرى، والصدور حرّا.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 193_

  ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنظف من دمائنا ، والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفوا أُمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدن وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت ، وما ربّك بظلام للعبيد ، فإلى الله المشتكى وعليه المعوّل.
  فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فند ، وأيامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد ، يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على الظالمين.
  فالحمد لله الذي ختم لأولّنا بالسعادة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 195_

طلائع الانتباه

  لقد كان لخطبة زينب في تلك الحفلة الرهيبة ـ التي كانت تضم بين جنبيها عدداً كبيراً من مختلف الناس ـ صدىً عظيم ، بحيث نبّهت الناس وأيقظتهم من نومتهم ، كأنهم كانوا في سبات عميق ذهبت بعقولهم ومشاعرهم.
  أزاحت ربّة الخدر حجب الشبهات عن عيون أعيان الشام الذين كانوايزعمون أنّ هؤلاء من سبي الروم والتتر، حتى كان أحدهم يطالب يزيد إحدى بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) تكون أمة له وخادمة في بيته ، فانكشفت لأعيان الشام حقيقة السبي وأنّه من العنصر الهاشمي الزكي والبيت النبوي الطاهر ، فعندما أمر يزيد بالحبال فقطعت من أعناقهن وأيديهن، وتوجه بالحنان الى زين العابدين وطلب منه أن يصعد المنبر ويعتذر ليزيد من أمر أبيه الحسين (عليه السلام) ، فرقى ابن الخيرتين المنبر فحمدالله وأثنى عليه وذكر الرسول فصلّى عليه ثم قال (1):
  (... أيها الناس أُعطينا ستّاً وفُضِّلنا بسبع : أعطينا العلم، والحلم، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة، والمحبة في قلوب المؤمنين، وفُضّلنا بأنّ منّا النبي المختار محمّداً ، ومنا الصديق، ومنا الطيّار، ومنا أسد الله وأسد رسوله ومنّا سبطا هذه الأمة

---------------------------
(1) إنّ هذه الخطبة العظيمة التي أُلقيت على مسامع أهل الشام كانت مفصّلة جداً رأينا اختصارها بمقتضى هذا الكتاب وانتخبنامنها بعض الجمل والفصول فقط ، وتفصيل هذه الخطبة مذكورة في كتاب بحار الأنوار ج10.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 196_

  ومنا مهديّ هذه الأمة ، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي : ... أنا ابن محمّد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى... أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء ...)، وهكذا لم يزل يقول أنا ابن، أنا ابن حتى ضج الناس بالبكاء وخشي يزيد أن تحدث فتنة وانقلاب، فأمر المؤذن أن يؤذن حتى ينقطع كلام الإمام، فجعل المؤذن يؤذن حتى قال: (اشهد أنّ محمّداً رسول الله) التفت العليل من فوق المنبر الى يزيد وقال: (محمّد هذا جدّي أم جدك يا يزيد ؟! فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدّي فلم قتلت عترته ؟!).
  هذه الخطبة الرنّانة تمكّن علي بن الحسين (عليه السلام) أن يوجّه نحوه وجوه أهل الشام ـ كما أثّرت من قبل خطبة عمّته زينب في أعيان الشام ـ.
  ومما مضى نعلم أنّ النهضة الحسينية ـ التي دار محورها حول تنبيه الأُمة على سيئات بني أُمية ـ لم ينقطع سيرها بانقطاع حياة الحسين في طف كربلاء ـ كما قلنا ذلك في الفصل السابق ـ بل قامت مقامه شقيقته زينب وأزالت الستار عن مخازي بني أُمية الجور حتى في عاصمتهم، وفي نوادي ابن زياد ويزيد ، وكذا قام بدوره علي شبل الحسين السبط في هذه المواضع الرهيبة منبهاً للغافلين، وناقماً على الظالمين، ومبشراً بمبادىء جدّه الأمين ـ ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حيي عن بينة.
  عند ذلك قلب يزيد ظهر المجن، وأظهر الندم من قتل الحسين قائلاً : (لعن الله ابن مرجانة ، لقد كنت اكتفي منه عن الحسين بأقل من هذا) وطلب من علي ابن الحسين أن يعرض عليه حاجته ، فقال له : (أُريد منك أن تريني وجه أبي، وأن تعيد على النساء ما أُخذ منهن ، ففيها مواريث الآباء والأُمهات، وإذا كنت تريد قتلي فأرسل مع العيال من يؤدي بهن الى المدينة) فأجابه بقوله : (أمّا وجه أبيك فلن تره ، وأما ما أُخذ

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 197_

  منكم فيرد إليكم، وأمّا النسوة فلا يردهن غيرك، وقد عفوت عن قتلك).
  هنا وفي هذه الساعة انطفأت جذوة الانتقام ـ التي كان لهبها يستعر في صدر يزيد من قبل ـ ، وهنا خاتمة المصائب.
  هنا أذن يزيد لأهل البيت النبوي إقامة العزاء لفقد سيّدهم لياليوأياماً، وعلت من بيوت يزيد ونسوته أصوات البكاء والعويل ـ كحمامات الدوح يتجاوبن النوح مع النوادب من آل الرسول على سيد شباب أهل الجنة ـ.
  ثم أمر يزيد الخنا النعمان بن بشير أن يسير بآل الرسول الى المدينة المنورة في العشرين من صفر، وينزل بعيداً عنهم، ويسير كذلك ولا ينزل إلاّ بأمرهم ولا يرحل إلاّ بمثله، وأن يراعي في حسن خدمتهم كل ما فيوسعه من عطف ورأفة.
  بلغ السبي النبوي المدينة ولكن بأية حالة؟! تعرف مبلغ التأثير في أهل البيت مما خاطبت زينب المدينة قائلة:
مـديـنة جـدّنا لا iiتـقبلينا      فـبالحسرات والأحزان iiجينا
خـرجنا منك بالأهلين iiجمعاً      رجـعنا لا رجـال ولا iiبنينا
وكنا في الخروج بجمع iiشمل      رجـعنا  حـاسرين iiمسلبينا
وكـنا  فـي أمان الله iiجهراً      رجـعنا بـالقطيعة خـائفينا
ومـولانا  الحسين لنا iiأنيس      رجـعنا  والحسين به iiرهينا
فـنحن  الضائعات بلا iiكفيل      ونـحن النائحات على iiأخينا
ونحن السائرات على المطايا      نشال  على جمال iiالمبغضينا
  ثم أخذت بعضادتي باب مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) وقالت بلهفة : (يا جدّاه! إنّي ناعية إليك أخي الحسين) ولازالت بعد ذلك لا تجف لها عبرة، ولا تفتر من البكاء والنحيب، وكلما نظرت الى علي بن الحسين (عليه السلام) تجدد أحزانها وزاد وجدها.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 199_

محرم ... وتاريخ العزاء الحسيني

  في التاريخ مصارع كثيرة ... وفجائع مثيرة يذهل الفكر أمامها حائراً ... ولكن فاجعة (كربلاء) قد أجمع المؤرخون بأنها من أشد الفجائع أثراً في النفوس ... وأقسى المصارع وقعاً على القلوب... ذلك لما وقع على ساحة الطف في كربلاء بالعراق من مجزرة بآل النبي وأصحابهم يوم العاشر من محرم سنة إحدى وستين للهجرة الموافق لسنة 85 ميلادية، حيث حوصر فيها الإمام أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) هو وآله وفتية من بني هاشم وجملة من أصحابه من أهل العراق والحجاز ...واستُشهدوا جميعاً من قبل الجيش الأموي بقيادة عمر بن سعد بن أبي وقاص وبأمر من عبيدالله بن زياد عامل يزيد على الكوفة... لا لذنب سوى تمسكهم القوي بمبادئهم القويمة... وإحساسهم القوي بالمسؤولية الملقاة على عواتقهم إزاء السياسة الأموية القائمة... لذلك كلما بدت طلعة العام الهجري (1) تذكّر المسلمون ببالغ الأسى وعظيم

---------------------------
(1) يعتقد فريق من المسلمين ضرورة الاحتفال بهلال محرم الحرام باعتباره مفتتح العام الهجري، وأنّه يلزم أن يكون موضع فرح وسرور ساعة حلوله ... وأن يتخذ له مظاهر الأنس والابتهاج أسوة بسائر الأقوام التي اتخذت من مفتتح أعوامها أبهج يوم أو أعظم عيد ... ولذلك بدأت بعض الأقطار الإسلامية تأييد هذا التقليد بإقامة مباهج الاحتفاء ومجالس التكريم بهذه المناسبة ليلة الأول من شهر محرم ويومه باعتبار هذا اليوم يوم الهجرة النبوية... ويحلق المتحدثون تحت هذا العنوان ... عامدين على اتخاذه عيداًدونما اعتناء بمشاعر الآخرين ... وتقام على هذا الأساس مظاهر الزينة ومعالم الأفراح في بعض الأقطار العربية... وتتبادل التهاني (بيوم الهجرة) أو (بعيد الهجرة) في حين أنّ يوم الهجرة النبوية كان بإجماع المؤرخين دونما اختلاف في يوم الاثنين من مطلع شهر ربيع الأوّل من سنة 622 ميلادية وإنّ الرسول صلوات الله عليه ترك مكة ليلاً وهاجر مع صاحبه (أبي بكر) الى المدينة وترك ابن عمه علياً في فراشه تلك الليلة... وليس هناك من رابط بين هذه الهجرة وأول شهر محرم ولم يرد في التاريخ الإسلامي ذكر للاحتفال بهذه المناسبة في مطلع شهر محرم ... وإنّما في عهد (عمر) جرى الاتفاق على اعتبار هجرة الرسول بداية لتدوين التاريخ الإسلامي ... واعتبار أول محرم كما كان المعتاد بداية للعام الهجري لغرض الحساب ... وأمّا الاحتفال به كعيد لرأس السنة الهجرية وعطلة رسمية ... فهي فكرة حديثة ومن محدثات السنين الأخيرة.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 200_

  التأثر مصارع آل الرسول وأهل بيته وما أمعنه الجيش الأموي فيهم من القتل والتنكيل والتمثيل ... وتذكروا كيف دكّت حوافر خيول هذا الجيش جناجن صدورهم وظهورهم بشكل لم يشهد التاريخ نظيرها فظاعة وبشاعة ... وكيف ساروا برؤوس القتلى على الرماح مع نساء الرسول سبايا الى الكوفة فالشام باسم سبايا الروم ثم الى مدينة جدّهم يثرب عاريات في أحزن منظر (1) ... كل هذا والدين الحنيف في أول عهده ... والإسلام في ربيع حياته...
  لذلك حين يحل هذا التاريخ من كل عام ... ويهل هلال محرم الحرام يستعد المسلمون في معظم أنحاء المعمورة للتعبير عن شعورهم إزاء هذه الذكرى الدامية

---------------------------
(1) وقد استقبلهم بنو هاشم بصورة لا ينساها المسلمون والعلويون من حيث الروعة والبكاء والعويل ... وقد أنشدت بنت عقيل بن أبي طالب هذه الأبيات تصف بها الحالة:
مـاذا  تـقولن إن قال النبي لكم ii؟      مـاذا  فـعلتم وأنـتم آخـر iiالأمم
بـعترتي  وبـأهلي بـعد iiمفتقدي      منهم أسارى وصرعى ضرجوا بدم
ما  كان هذا جزائي إذ نصحت iiلكم      أن تخلفوني بسوء في ذوي iiرحمي
تاريخ العلويين ـ محمّد غالب الطويل