الفهرس العام

مقدمة المؤلف


النهضة الحسينية
خلافة يزيد وخلاف الحسين له
أهلية الحسين للخلافة
الحسين رمز الحق والفضيلة
الحركات الإصلاحية والضرورية
آثار الحركة الحسينية

  فشنّ عليه غارة واسعة وعنيفة بكلّ معنى العنف، ولم يترك لوناً من ألوان الرزاية بالكناية والتصريح إلاّ وصبغ به السيد أبا الحسن من فوق المنابر التي كان يرقاها ، فكان يتصرّف من فوقها بعقول المستمعين تصرّف المالك، ويميل بها أنّى شاء ، بما كان يملك من مقدرة وموهبة وجرأة رفعته إلى أعلى الدرجات في سماء الخطابة والبلاغة) (1).
  فأصدر السيّد أبو الحسن الأصفهاني فتوى حرّم بها الاستماع لقراءة السيّد صالح الحلي، فأرّخ ذلك الشيخ علي بازي قائلاً :

أبـو حسن أفتى بتفسيق ii(صالح)      قراءته أرّختها (غير صالحة )(2)
  وقال أيضاً يهجوه:
مُـذ تردّى الشقيّ بالغَي iiجهلاً      وإمـام  الـزمان طُـرّاً iiجفاه
قلت:  يا من قد أرخوا (أحقيق      قد رمى الله صالحاً بشقاه) (3)
  ويقال: إنّ السيّد رضا الهندي كان من المعارضين للسيد الأمين، وقد قال فيه:
ذريّـة  الزهراء إن iiعددت      يوماً ليطرى الناس فيها الثنا
فـلا تـعدّوا (محسناً) iiمنهم      لأنّـها  قـد أسقطت محسنا
  وقيل: إنّ هذين البيتين في السيد محسن أبو طبيخ(4).
  ووقف الشاعر الشيخ مهدي الحجّار (ت 1358 هـ) موقف المؤيّد للسيد

---------------------------
(1) هكذا عرفتهم 1 : 108.
(2) شعراء الغري 6 : 369 ، هكذا عرفتهم 1 : 111.
(3) شعراء الغري 6 : 369.
(4) هكذا عرفتهم 1 : 31.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 27_

  محسن الأمين، فأنشأ قائلاً :
يـاحُـر رأيـك لا تـحفل iiبـمنتقد      إنّ الـحقيقة لاتـخفى عـلى iiأحـد
فهل على الشمس بأس حيث لم ترها      عـين  أُصيبت بداء الجهل لا الرمد
ومـصلح فـاه ب (التنزيه) ليس iiله      غـير  الحقيقة إي والعدل من iiصدد
إنّـا عـلى (عـامل) نأسى لأنّ iiبها      مـن  لا يُـفرّق بـين الزُبد iiوالزَبد
تـأسّ يـا (مـحسن) فيما لقيت iiبما      لاقـاه جدّك من بغي ومن حسد (1)ii
  وكتب أحد الشعراء المدافعين عن السيد الأمين، مقطوعة شعرية ردّاً على بيت الشعر الذي كان يردّده المشاركون في العزاء الحسيني، وهو:
لـعـن  الله أُنـاساً      حرّموا ندب الحسين
  فكتب هذا الشاعر:
أبـعـد الله iiاُنـاساً      قـولهم كذب iiوهين
ألصقوا  بالدين iiممّا      قـد  أتوه كلّ iiشين
أظـهروا للدين حبّاً      وهو حبّ الدرهمين

---------------------------
(1) أعيان الشيعة 10 : 381 ، شعراء الغري 12 : 207 ، هكذا عرفتهم 1 : 208 ، أدب الطف 10 : 314.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 28_

قـطّ  مـا سالت iiعليه      مـنهم  دمـعة iiعـين
قد أعادوا عصر عمرو      يـوم  نصب iiالحكمين
ولـكم  سُبّ علي المر      تـضى فـي iiالخافقين
أســـد الله iiبـبـدر      وبـأُحـد  iiوحـنـين
بـعـلـيّ iiلـبـنـيه      شـبه فـي iiالـحالتين
ولـعثمان قـميص iiلم      يـزل فـي iiالـزمنين
أنـا لا أطـلب iiفـيهم      أثـراً  مـن بعد iiعين
كلّ  عصر في iiالورى      فيه يزيد والحسين (1)ii
  هذا ما عرفته عمّا دار في حلبة الشعر حول هذا الموضوع، ولعلّ المستقبل يطلعنا على أكثر من ذلك.

عامة الناس
  لم يكن الناس، سواء في العراق أو لبنان أو غيرهما من البلدان الإسلامية، بعيدين عن هذه المعركة الفكرية القائمة آنذاك.
  ومن طبيعة عوامّ الناس أن تحركهم العاطفة، خصوصاً إذا كان المتحدّثون أو القائمون على عمل معيّن من الذين يُجيدون التلاعب بعقول البسطاء، فكيف إذا كانت القضيّة تتعلّق بالشعائر الدينيّة ؟! فمن الطبيعي أن يُشارك الناس فيها مشاركة فعّالة ، ومن المتسالم عليه أن يخسر المصلحون الساحة لوقت ما ، لأنّ كلّ حركة إصلاحية لابدّ لها من تضحية.
  وفي هذه القضية بالذات كانت هنالك عدّة شخصيّات علميّة واجتماعيّة

---------------------------
(1) ثورة التنزيه : 51.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 29_

  بارزة قد أعطت رأيها، وعملت على تحريك الساحة ضدّ فتوى السيد الأمين:
  فبعض المراجع أصدر فتوى بالجواز.
  وبعض الكتاب ردّ على (التنزيه) برسائل طُبعت ووزّعت مجاناً.
  والعلاّمة الجليل المجتهد والمصلح الشيخ محمّد جواد البلاغي على كبر سنّه وضعفه يتقدّم مواكب العزاء بشكل مؤثّر جدّاً.
  والخطيب البارع المفوّه السيّد صالح الحلي، يُحرّض الناس على السيد الأمين من فوق المنابر التي يعتليها ، وهكذا.
  فكانت ردّة الفعل عنيفة جدّاً ، يصوّرها لنا أحد المعاصرين لها ، وهو الاُستاذ جعفر الخليلي قائلاً :
  وانقسم الناس إلى طائفتين ـ على ما اصطلح عليه العوام ـ : (علويين)، و (أمويين) ، وعُني بالأمويين : أتباع السيد محسن الأمين ، وكانوا قلّة قليلة لايعتدّ بها ، وأكثرهم كانوا متستّرين خوفاً من الأذى.
  واتخذ البعض هذه الدعوة وسيلة لمجرّد مهاجمة أعدائه واتهامه بالأموية ، فكثر الاعتداء على الأشخاص، واُهين عدد كبير من الناس، وضرب البعض منهم ضرباً مبرحاً.
  وبدافع إعجابي بالسيد محسن ، وانطباعاتي عنه منذ الصغر، وإيماني بصحة دعوته ، أصبحت أموياً وأموياً قُحاً في عرف الذين قسّموا الناس إلى أمويين وعلويّيين ، وكنت شاباً فائر الدم كثير الحرارة، فصببت حرارتي كلّها في مقالات هاجمت بها العلماء الذين خالفوا فتوى السيد أبي الحسن والذين هاجموا السيد محسن.
  وكنت أجد في كثير من الأحيان رسالة أو أكثر وقد اُلقي بها من تحت باب

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 30_

  الدار، وهي تتضمّن ـ إلى جانب التهديد بالقتل ـ شتائم بذيئة تدلّ على خسّة وجبن.
  وكان التيار جارفاً ، والقوّة كلّها كانت في جانب العلويّين، وكان هؤلاء العلويّون وأتباعهم يتفنّون في التشهير بالذين سمّوهم بالأمويّين.
  وبلغ من الاستهتار أن راح حملة القِرَب وسُقاة الماء في مأتم الحسين يوم عاشوراء ينادون مردّدين : (لعن الله الأمين ـ ماء)، بينما كان نداؤهم من قبل يتلخّص في ترديدهم القول: (لعن الله حرملة ـ ماء)، فأبدلوا (الأمين) بـ (حرملة) نكاية وشتماً.
  ولا تسل عن عدد الذين شُتموا وضُربوا واُهينوا بسبب تلك الضجة التي أحدثتها فتوى السيد الأمين يومذاك ، وكان السبب الأكبر في كلّ ذلك هو العامليون ـ أعني أهل جبل عامل ـ الذين كانوا يسكنون النجف طلباً للعلم ، وكان معظهم من مخالفي السيد محسن) (1).
  وقال الخليلي أيضاً:
  (لم يكن يمرّ على صدور هذه الرسالة أسبوع أو أكثر وتنتقل من الشام ـ حيث تمّ طبعها ـ إلى العراق حتى رافقها كثير من الدعايات ضدّها، ووجدت هذه الدعايات هوىً في نفوس البعض، فأشعلوها فتنة شعواء تناولت السيد محسن الأمين وأتباعه بقساوة لا تُوصف من الهجاء والذم والشتم المقذع.
  وخاف الذين آمنوا بقدسية هذه الرسالة وصحة فتاوى العلماء، لقد خافوا أن يُعلنوا رأيهم في وجوب الذبّ عن موضوع الرسالة والدفاع عن شخص مؤلّفها .

---------------------------
(1) هكذا عرفتهم 1 : 208 ـ 210.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 31_

  ومَنْ الذي كان يجرأ أن يُخالف الناس رأياً ؟! ومن كان يستطيع الظهور بمظهر المخالف في ذلك اليوم ؟) (1).
  والغريب في الأمر أنّ تسمية المؤيّدين لآراء السيد السيد محسن الأمين بـ (الأمويّين) و (المتسنّنين) لم يصدر من عوامّ الناس فحسب، بل صدر من بعض العلماء والفضلاء أيضاً:
  فالشيخ إبراهيم المظفّر قال في رسالته : (نصرة المظلوم):
  (فعلمت من أين جاءت هذه البليّة التي تقضي ـ إن تمّت ـ على حياة الشيعة، وتيقّنت إنّ كيد المموّهين والمنافقين وخاصة أفراد (الجمعية الأموية) ذلك الكيد الذي لا ينطلي إلاّ على السُذّج والبسطاء) (2).
  وقال المتتبّع الكبير الشيخ الطهراني (ت 1389 هـ) عند ذكره لهذه الرسالة (نصرة المظلوم): (كتبها جواباً على بعض المتجدّدين المتسنّنين) (3).
  وقال أيضاً عند ذكره لرسالة (النظرة الدامعة) التي ألّفها الشيخ مرتضى آل ياسين الكاظمي ردّاً على السيّد الأمين: (كتبه ردّاً على بعض المتسنّنين المتجدّدين). (4)
  والأغرب من ذلك كلّه أن الشيخ عبد الحسين قاسم الحلّي، في مقدّمة رسالته (النقد النزيه لرسالة التنزيه) أشار إلى السيّد مهدي البصري ـ باعتباره من أهل البصرة ـ وإلى السيد محسن الأمين ـ باعتباره من أهل الشام بقوله :

---------------------------
(1) هكذا عرفتهم 1 : 122.
(2) نصرة المظلوم : 3.
(3) الذريعة 24 : 178/921.
(4) الذريعة : 24/196/1030

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 32_


  (إنّ الحسين (عليه السلام) لما قُتل بكى عليه جميع ما خلق الله مما يُرى وممّا لا يُرى إلاّ ثلاثة أشياء لم تبك عليه : البصرة، والشام ، وآل الحكم بن أبي العاص) (1).
  وأخيراً نحمد لله سبحانه وتعالى على توفيقه لنا في خدمة العلم وأهله ، وخدمة المكتبات الواقعة في العتبات المقدّسة في العراق، اللهمّ اجعلها في ميزان أعمالنا، وارزقنا شفاعة أهل البيت (عليهم السلام)، والحمد لله رب العالمين أولاً وآخراً.
محمّد الحسّون
7 ذو القعدة 1427 هـ
الصفحة على الانترنيت: site.aqaed.com/Mohammad
البريد الالكتروني: muhammad@aqaed.com


---------------------------
(1) النقد النزيه : 3.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 33_

مقدّمة المؤلّف
بسم الله الرحمن الرحيم

  أما بعد الحمد والصلاة :
  فقد حدا بي إلى تأليف كتابي هذا غفلة الجمهور عن تاريخ الحركة الحسينية وأسرارها ومزايا آثارها ـ وهي النواة لحركات عالمية ـ حتى أنّ بعض الأغيار إذ وجد هياج العالم، وحداد الأمم، ومظاهرات العرب والعجم اندفع قائلاً : (ما هذا ؟ ، ولماذا ؟ ، وهل الحسين إلا رجل خرج على خليفة عصره ثم لم ينجح ؟).
  نعم! سنعرِّفه ما هذا ؟ ولماذا ؟ ومن الحسين الناهض ؟، ومن المعارض ؟، وماهي غايات الفريقين ؟ كل ذلك بهذا الكتاب الذي جمع المحاكمات التاريخية إلى النظرات الاجتماعية والمرويات الموثقة من كتب التواريخ المؤلفة قبل الاربعمائة الهجرية مثل:
  (مروج الذهب) لعلي بن الحسين المسعودي المتوفى سنة 345 هـ.
  و (مقاتل الطالبيين) لأبي الفرج علي بن الحسين الأموي المرواني الاصفهاني مؤلف (الأغاني) المتوفى سنة 336 هـ.
  و (تاريخ الأمم والملوك) لمحمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ.
  و (الإرشاد) للشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان المتوفى سنة 413 هـ .

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 34_

  و(العقد الفريد) لابن عبد ربه المغربي المتوفى قبل سنة 328 هـ.
  و (الامامة والسياسية) لعبد الله بن مسلم الدينوري المعروف بابن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ . وكتابه الآخر (المعارف).
  و(الأخبار الطوال) لأحمد بن داود الدينوري المتوفى سنة 328 هـ.
  و(الكافي) لمحمد بن يعقوب الكليني البغدادي المتوفى سنة 328 هـ.
  وذلك بأسلوب وجيز، مؤملاً من المتأملين فيه، ومن قراء مأتم سيدنا الحسين أن يتقبلوه منّي بقبول حسن.

بغداد في 24 رمضان 1343 هـ
هبة الدين الحسيني

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 35_

النهضة الحسينية

النهضة:
  قيام جماعة أو فرد بما يقتضيه نظام الشرع أو المصلحة العامة كالحركة التي قام بها الحسين بن علي (عليهما السلام) (1)
  وحقيقة النهضة سيالة في الأشخاص والأمم وفي الأزمنة والأمكنة ، ولكن بتبدّل أشكال واختلاف غايات ومظاهر ، وما تاريخ البشر سوى نهضات أفراد وجماعات وحركات أقوام لغايات ، فوقتاً الخليل (عليه السلام) ونمرود ، وحيناًمحمّد (صلى الله عليه وآله)

---------------------------
(1) الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أمه فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت محمّد المصطفى (صلى الله عليه وآله) من زوجته الكبرى خديجة أم المؤمنين (عليها السلام)، وهو أحد السبطين الريحانتين، وخامس أهل الكساء، ولد في المدينة عام الخندق في السنة الرابعة للهجرة في خامس شعبان الموافق شهر كانون لسنة 626 م ، وعاش مع جده النبي (صلى الله عليه وآله) ست سنوات وشهوراً وبقي معه أخيه الحسن أعواماً وشهوراً وكان مجموع عمره ستة وخمسين عاماً ، وكانت شهادته بعد الظهر من يوم الجمعة عاشر محرم الحرام سنة 61هـ المواق سنة 680 م بحاير الطف من كربلاء في العراق، واشترك في قتله شمر بن ذي الجوشن وسنان بن أنس وخولى بن يزيد من قواد جيش عمر بن سعد الذي أرسله والي الكوفة عبيد الله بن زياد بأمر من أمير الشام يزيد بن معاوية ليحصروا الحسين ورجاله ويقتلوهم وهم عطاشى ، فقتلوه ورجاله ونهبوا وسبوا عياله مسفَّرين إلى الكوفة ثم إلى الشام فالمدينة ، وإن اشتهار فضائل الحسين والآثار المرويه فيه ومنه وعنه في كتب الحديث والتاريخ ليغني عن التوسع في ترجمته الشريفة.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 36_

  وأبو سفيان (1) ويوماً علي ومعاوية.
  ولم تزل ولن تزال في الأمم نهضات أئمة هدى تجاه أئمة جور ، ونهضة الحسين من بين النهضات قد استحقّت من النفوس إعجاباً أكثر لا لمجرد ما فيها من مظاهر الفضائل وإقدام معارضيه على الرذائل، بل لأنّ الحسين (عليه السلام) في إنكاره على يزيد(2) كان يمثّل شعور شعب حي (3)، ويجهر بما تضمره أُمة مكتوفة اليد،

---------------------------
(1) هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس ، كان في الجاهلية بياع الزيت والأدم، ذميم الخلقة، هو من كبار قريش حتى قامت به قيامة قريش على الهاشميين قبيل الهجرة فترأس في المحالفة القرشية وأخذ على عاتقه مناوأة الإسلام ومقاتلة المسلمين، وله في عام الهجرة نحو سبع وخمسين سنة، ولم تقصر عنه أخته أم جميل العوراء في ايذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسعيها بالنميمة والفساد بين بني هاشم والقبائل ا، إذ كانت تحت أبي لهب والمقصود من آية (وامرأته حمالة الحطب ... الخ) ولم يبرح يثير الأقوام ويشكّل الأحزاب ضدّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما في بدر الكبرى وبدر الصغرى وفي أُحد والأحزاب وفي وقايعه الأخرى، ولم يهدأ ساعة عن معاداة النبي في السر والعلانية وبإثارة النفوس والجيوش ضدّه، ويجاهد المسلمين جهده إلى يوم فتح مكة حيث أسلم مع بقية قريش وأوّل مشاهد بني سفيان مع المسلمين كان في غزوة حنين فمنحه المصطفى (صلى الله عليه وآله) مائة بعير من غنائم الحرب منوّهاً به وبمكانته ، ثم اشترك أبو سفيان يوم الطائف فأصابته نبله في احد عينيه ففقئت واستعمل جابياً ، ثم اشترك في واقعة اليرموك في السنة الثالثة عشر للهجرة على عهد أبي بكر فأصابت نبلة عينه الثانية ففقأتها واصبح أعمى، ومقالته فيها تنم عن ميله للروم ، ومات في دمشق عند ولده معاوية سنة احدى وثلاثين هجرية عن ثماني وثمانين سنة ودفن بها.
(2) يزيد بن معاوية أُمه ميسون الكلابية ولد سنة خمس وعشرين فسماه أبوه باسم اخيه، وكان بديناً ، مجدراً ، رفيع الصوت ، على أنفه قرحة ، شديد السمرة، ولعاً بلعب النرد والصيد بالفهد ، شغوفاً بمعاقرة الخمور والفجور بأنواعها ، متجاهراً بالفسق حتى في سفر الحج، وفي مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) أخذ معاويه له بيعة الخلافة في حياته ثم استقرت له بعد وفاته في رجب سنة 60 هـ ومات بذات الرية في منتصف ربيع الأول سنة أربع وستين عن ثلاثة عشر ولداً أكبرهم معاوية بن يزيد.
(3) إنّ مشاهير الفضلاء يومئذ في الأمة الإسلامية ـ كسيدنا الحسين (عليه السلام) وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله ابن عمر، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ـ أنكروا على معاويه استخلافه ليزيد الخمور والفجور ، وقد توجس يزيد من مخالفة هؤلاء الوجوه خيفة ان يكون الرأي العام في جانبهم ، واهتم في اضطهاد هؤلاء وإرغامهم ، فثبت انّ الحسين (عليه السلام) يومئذ كان يمثّل في قيامه على يزيد رأي الجمهور وشعور الشعب الحي.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 37_

  مكمومة الفم، مرهقه بتأثير أمراء ظالمين ، فقام الحسين (عليه السلام) مقامهم في إثبات مرامهم ، وفدى بكل غال ورخيص لديه باذلاً في سبيل تحقيق أمنيته وأُمته من الجهود ما لا يطيقه غيره فكانت نهضته المظهر الأتم للحق، حينما كان عمل معارضيه المظهر الأتم للقوّة فقط من غير ماحقّ أو شبهة حق.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 39_

خلافة يزيد وخلاف الحسين له

  خلافة النبي (صلى الله عليه وآله) : نيابة عنه في الولاية على الأُمّة في جميع شؤونها ، أو جميع شؤونه إلاّ الوحي ، فهي أُخت النبوة وشريكتها في البيعة والعهد والرئاسة العامة ، وسمي المتولي لهذا العهد (إماماً) يجب الاقتداء بأفعاله والاهتداء بأقواله ، لذلك أجمعت أُمّة محمّد (صلى الله عليه وآله) : على اشتراط العدالة فيه مع الفضل الديني ما نص عليه القرآن الحكيم في آية إبراهيم : {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} كذلك اشترطوا في متن بيعته : العمل بكتاب الله وسنة رسوله خوفاً من حصول سوء الاختيار أو فسوق المختار.
  ولقد ثار المهاجرون والأنصار ومسلمو مصر والأمصار على عثمان بن عفان حتى كان ما كان من أمره وأمر مروان ، كل ذلك إنكاراً منهم لأحداث تخالف الكتاب والسنة ، ولقد كان الأحرى بالجمهور وأولياء الأُمور : أن يعتبروا بهذا الحادث ويأخذوا دروساً من الحوادث فلا يُؤمّروا إلا من ائتمنوه على الدين لكي يسير فيهم على الهدى والصلاح ، لكن ابن هند وعصبته ـ المستخفّة بالحق ـ لم يتبعوا سبيل المؤمنين يوم ملكوا رقاب المسلمين وأخضعوا أمام قوتهم حتى المهاجرين.
  هذا ، ولم يحس من الحسين بعد الحسن (عليهما السلام) موجة خلاف أو رغبة الخلافة،

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 40_

  بل أقام مسيرته الهادثة برهاناً ساطعاً على زهده عنها ، إذ كان يفضل هدوء الشعب على الشغب، ولكن على شريطة حفظ الشرع وظواهره والدين وشعائره ـ ولو نوعاً ما ـ أمّا أن يرى يزيد ممثّلاً عن جدّه الأمين وخليفته في المسلمين مع استهتاره وفسقه وفسق عمّاله فشيء لا يستطيع حمله صدر الحسين وأمثاله!
  وبالرغم من صبر الحسين واحتسابه مدّه أربعين عاماً من إمارة معاوية مرّت حوادث مُرّة ضاق عنها صدر ابن علي الرحب وأوغرت صدر يزيد من الجهة الأخرى أخص بالذكر منها حدثين بارزين استثار الواحد منهما حنق يزيد وكل ما في حفايظه من ضغائن ، وهو ما سنقصّه عليك من أمر أُرينب بنت إسحاق سيدة الجمال (1)، كما استثار الحدث الثاني من حسين الفتوة كل شهامة ومروة ، وحول وقوة ، وذلك اهتمام ابن هند لاستخلاف ولده يزيد إماماً للمسلمين وأميراً على المؤمنين إذ كان معاوية الدهاء يحاول ذلك من شتّى الوجوه بين الجد والهزل على ألسنة المتزلفين إليه.
  تذاكر معاوية يوماً مع الناس في بيعة يزيد والاحنف بن قيس جالس لا يتكلم فقال: مالك لا تقول يا أبا بحر؟ قال: أخافك إن صدقت وأخاف الله إن كذبت.
  ورووا عن معاوية أنه أظهر بعد موت زياد بن أبيه كتاباً مفتعلاً عن خطه بتحويل الخلافة وولاية عهدها إلى يزيد (2).
  وعن الحسن البصري أنه قال : (أفسد أمر هذه الأُمة اثنان: عمرو بن العاص في

---------------------------
(1) العقد الفريد ج 2 ص 100.
(2) العقد الفريد.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 41_

  التحكيم والمغيره بن شعبة ، فإنه كان عامل معاوية على الكوفة، فكتب إليه معاوية : إذا قرأت كتابي فأقبل معزولاً ، فأبطأ عنه، فلما ورد عليه قال : ما أبطأ بك ؟ قال أمر كنت أُوطؤه وأهيئه ، قال : ماهو : قال البيعة ليزيد من بعدك ، قال : أو قد فعلت ؟ قال : نعم ، قال : فارجع إلى عملك فلما خرج قال له أصحابه : ما وراؤك ؟ قال : وضعت رجل معاوية في غرزغي لا يزال فيه إلى يوم القيامة).
  ثمّ حجّ معاوية وفي صحبته يزيد يقدّمه إلى المهاجرين كمرشح للخلافة بعده ، فدخل عليه الحسين في المدينة وهو على ماهو عليه من التظاهر بالفجور وشرب الخمور فلم يسؤه يومئذ إلاّ التجاهر بانكار هذا العمل وانضم إلى صوته أصوات ثلة من أكابر الصحابة، وابن صخر من ورائه ينثر الذهب والفضة ويبث المواعيد حتى انحصرت أصوات المعارضين في أربعة، فحس ابن الرسول بأول خذلان من أُمته في مدينة جدّه ، وما عاد ابن صخر إلى الشام حتى راجت في المدينة وصايته بمباراة معارضيه الأربعة ولا سيما الحسين ابن فاطمة ، فهدأت سورة ابن البتول إذ وجد أمامه متسعاً ، ويرى أثر هذه الصدمة في قلوب الأمة وموجة الحركات العامة إن قضى طاغية الشام نحبه ، فدبّر ابن علي أمره حسبما تسمح له الظروف وتساعده الأحوال ، إلاّ أنّه فوجىء من يزيد بأخذ البيعة منه خاصة ومن الناس عامة وصحت مكيدة ابن هند في تخديره الأعصاب من وصيته بالحسين (عليه السلام) بينماكان ابن الرسول قالعاً منهم بالسكوت عنه ، لكنهم لم يقنعوا منه بالحيدة ولا بالعزلة ولا بالخروج إلى الثغور أو إلى أقصى المعمور.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 43_

أهلية الحسين للخلافة

  ربّما اتّخذوا استجابة الحسين (عليه السلام) لدعوة الكوفة وإرساله ابن عمه إليها لأخذ العهد منها دليلاً على أنّه رشّح نفسه للخلافة ، غير أنّ ذلك لا ينافي خطته الدفاعية ولا يوجد نحوه مغمزاً ، حيث اجتمعت لنهضة الحسين وتلبيته لدعوة الكوفة أسباب أربعة لو تعلّق كل رجل من المسلمين بواحد من تلكم الأسباب لأصبحت مقاومة يزيد عليه حتماً وإلزاماً :
  أوّلاً:
  أهلية يزيد للمخالفة وعدم أهليته للخلافة ، فقد امتلأت بطون التواريخ عن سوء سيرته وسريرته : من شرب الخمر ، وصيده بالنمر ، وخلاعته في فجوره حتى بالمحارم.
  ثم إنّه لم ينل عهد ملكه بوصاية أو وراثة ممّن استحقها من قبل ، فقد ابتز أبوه الامارة بالمكر والغدر ، وأخذ البيعة له بالعنف والقهر ، وبتهديد ألسنة الأسنة والحراب ، دون أدنى حرية للمسلمين في الشورى والانتخاب.
  فكان الواجب على الأُمّة خلع هذا الخليع الغاصب، وفيما صح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله (1): (سيد الشهداء عمي حمزة ، ورجل قام في وجه إمام جائر يأمره وينهاه

---------------------------
(1) صححه الحاكم والطبراني عن جابر و (علي).

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 44_

  ثم قتله) وقد تم هذا التنبؤ في عمل الحسين قبل غيره.
  ثانياً :
  علم ابن النبي من نفسه ومن آثار جّده وأبيه وأخيه : أنّه إمام المسلمين دون سواه ، ورشحته ألسنة المتجاهرين بالحق ، وصدَّقته البقية تحت ستار التقيّة ، فهل يكون لأحد من الوجوه مثل هذا ثم لا ينهض ؟!
  ثالثاً :
  تلوح من السيرة الحسينية المثلى أنّه مسبوق العلم بأنباء من جدّه وأبيه وأُمه وأخيه وحاشيته وذويه بأنّه مقتول بسيف البغي ـ خضع أو لم يخضع ، وبايع أو لم يبايع ـ فهلا يرسم العقل الناضج لمثل هذا الفتى المستميت خطة غير الخطة التي مشى عليها حسين الفضيلة، قوامها الشرع وزمامها النبل ولسان حاله:
مـشيناها  خطىً كتبت iiعلينا      ومن كتبت عليه خطىً مشاها
  رابعاً :
  تواتر الكتب إلى ابن النبي (صلى الله عليه وآله) من العراق وخلاصة أكثرها: (اقدم علينا يابن رسول الله، فليس لنا إمام غيرك، ويزيد فاسق فاجر ليس له بيعة في أعناقك، فعجّل بالمسير إلينا، وإن لم تفعل خاصمناك عند جدّك يوم القيامة).
  فماذا يكون ـ ياليت شعري ـ جواب مثل الحسين لمثل هؤلاء ؟ وهلا تراه ملوماً لو لم يستجب دعوتهم ؟!

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 45_

الحسين رمز الحق والفضيلة

  لا عجب إن عدّت نهضة الحسين (عليه السلام) المثل الأعلى بين أخواتها في التاريخ وحازت شهرة وأهميّة عظيمتين، فإنّ الناهض بها الحسين رمز الحق ومثال الفضيلة، وشأن الحق أن يستمر ، وشأن الفضيلة أن تشتهر ، وقد طبع اّل علي (عليهم السلام) على الصدق حتى كأنّهم لا يعرفون غيره، وفطروا على الحق فلا يتخطونه قيد شعرة.
  ولا بدع فقد ثبت في أبيهم عن جدهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) : (عليّ مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار) (1)، فكان علي لا يراوغ أعداءه ولا يداهن رقباءه، وهو على جانب عظيم من العلم والمقدرة وتاريخه كتاريخ بنيه يشهد على ذلك، فشعور التضحية ـ ذلك الشعور الشريف ـ كان في علي وبنيه ومن غرائزهم ولا سيما في الحسين بن علي (عليه السلام) وما في الآباء ترثه الأبناء.
  وقد تفادى علي لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه كرّات عديدة، كذلك الحسين تفادى لدين الرسول (صلى الله عليه وآله) وأُمته ، إذ قام بعملية أوضحت أسرار بني أُمية ومكائدهم وسوء نواياهم في نبي الإسلام ودينه ونواميسه .

---------------------------
(1) استدل الرازي في تفسيره بهذا الحديث وثبوته المتواتر على الجهر بالبسملة.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 46_

  وفي قضية الحسين حجج بالغة برهنت على أنّهم يقصدون التشفّي منه والانتقام، وأخذهم ثارات بدر وأحقادها ، وقد أعلن بذلك يزيدهم طغياناً ـ وهو على مائدة الخمر ونشوان بخمرتين خمرة الكرم وخمرة النصر ـ إذ تمثلّ بقول ابن الزّبعرى (1):
لـيت أشـياخي ببدر iiشهدوا      جزع الخزرج من وقع الأسل
  وأضاف عليها:
لـعبت  هـاشم بـالملك iiفـلا      خـبر  جـاء ولا وحـي iiنزل
لست من خندف (2) إن لم أنتقم      مـن بـني أحـمد ما كان iiفعل

---------------------------
(1) بكسر الزاي وفتح الباء وسكون العين وفتح الراء المهملتين : كنية شاعر الحزب السفياني.
(2) خندف : لقب أم مدركة بن إلياس بن مضر جد قريش.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 47_

الحركات الإصلاحية والضرورية

  إذا كان نجاح الأُمة على يد القائد لزمامها ، وإصلاحها يتوقف على صلاح إمامها فمن أسوء الخيانات والجنايات ترشيح غير الأكفّاء لرياستها ورياسة أعمالها، وسيان في الميزان أن ترضى بقتل أُمتك أو ترضى برياسة من لا أهلية لها عليها ، وأية أُمة اتخذت فاجرها إماماً، وخونتها حكاماً ، وجهالها أعلاماً، وجبناءها أجناداً وقواداً فسرعان ما تنقرض ولابد أن تنقرض.
  هذا خطر محدق بكل أُمة لو لم يتداركه ناهضون مصلحون وعلماء مخلصون وألسنة حق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فيضربون المعتدي على يده ، أو يوقفونه عند حدّه.
  وبتشريع هذا العلاج درأ نبي الإسلام عن أُمته هذا الخطر الوبيل، ففرض على الجميع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد تهديده المعتدين وضمانه للنهاضين وصح عنه (صلى الله عليه وآله) : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) ذلك لكي لا يسود على أُمته من لا يصلح لها فيفسد أمرها وتذهب مساعي الرسول ومن معه أدراج الرياح، وقد كان هذا الشعور الشريف حيّاً في نفوس المسلمين حتى عصر سيدنا الحسن السبط (عليه السلام).
  وناهيك انّ أبا حفص خطب يوماً فقال : (إن زغت فقوّموني) فقام أحد

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 48_

  الحاضرين يهز فيوجهه السيف ويقول: (إن لم تستقم قومناك بالسيف).
  غير أنّ امتداد السلطان لمعاوية بن أبي سفيان ، وإحداثه البدع،وإماتته السنن وإبادته الأبرار (1) والأحرار بالسيف والسمّ والنار (2)، وغشّه الأفكار وبثّه الأموال في وجوه الأمة أخرست الألسن، وأغمدت السيوف، وكمت الأفواه، وصمت الآذان، وحادت بالقلوب عن جادة الحق والحقيقة ورجالهما فمات أو كاد أن يموت ذلك الشعور الإسلامي السامي، وأوشك أن لا يحس أحد بمسؤوليته عن مظلمة اخيه ولا يعترف بحق محاسبة آمريه أو معارضة ظالميه.
  وكاد أن تحل قاعدة: (قبّلوا يداً تعجزون عن قطعها) محل آية: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}.

---------------------------
(1) من سنة 40 هـ إلى سنة 60 بعدما استعمل على العراق المغيرة بن شعبة وزياد بن سمية لاستيصال شأفة الحزب العلوي وقتل صلحاء الصحابة والتابعين ـ كحجر بن عدي وأصحابه ـ سراًوجهراً وغدراً وغيلة أودفناً في التراب حياًوشق بطونهم وسمل عيونهم ، عدا من قتلوا حرباً أو صلباً أونفيهم وقطع أرزاقهم أو التعرض بأعراضهم ، كل ذلك ليحملوا الأمة بكل وسيلة على سب أبي تراب والترحّم على عثمان وتسويغ المظالم.
(2) وقد أفرط معاوية في قتل صلحاء الصحابة والتابعين بدسّ السمّ في مأكلهم ـ أمثال ابن أبي وقاص، والحسن بن علي، ومالك الأشتر النخعي، وقال ابو الفرج الأموي في مقاتله : وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيء أثقل عليه من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص فدس اليهما سماً فماتا منه ... الخ.

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 49_

آثار الحركة الحسينية

  كان مآل الأحوال السالفة محق الحق بالقوة ، وسحق المعنويات بالماديات ، وانقراض الأئمة والأُمة بانقراض الاخلاق والمعارف لولا أن يقيض الرحمن لانقاذ هذه الأمة حسيناً آية للحق ، وراية للعدل ، ورمزاً للفضيلة ، ومثالاً للإخلاص يوازن نفسه ونفوس الأُمة في ميزان الشهامة، فيجد الرجحان الكافي لكفة الأُمة فينهض مدافعاً عن عقيدته ، عن حجته ، عن أُمته ، عن شريعته ، دفاع من لا يبتغي لقربانه مهراً ، ولا يسألكم عليه أجراً، ودون أن تلوي لواءه لائمة عدو أو لائمة صديق ، ولا يصده عن قصده مال مطمع ، أو جاه مصطنع ، أو رأفة بآله ، أو مخافة على عياله.
  هذا حسين التاريخ والذي يصلح أن يكون المثل الأعلى لرجال الإصلاح وقلب حكم غاشم ظالم دون أن تأخذه في الله لومة لائم، وقد بدت لنهضته اّثار عامة النفع جليلة الشأن فإنها:
  أولاً:
  أولدت حركة وبركة في رجال الإصلاح والمنكرين لكل أمر منكر حيث اقتفى بالحسين السبط أبناء الزبير، والمختار الثقفي، وابن الأشتر، وجماعة التوابين ، وزيد الشهيد، حتى عهد سَمِّيه الحسين بن علي شهيد فخ ، وحتى عهدنا الحاضر ممن لا يحصون في مختلف الأزمنة والأمكنة، فخابت آمال أُميه فيه ، إذ ظنت أنها قتلت حسيناً فأماتت بشخصه شخصيته وأبادت روحه ودعوته، كلا! ثم

نهضة الحسين (عليه السلام) _ 50_

  كلا! لقد أحيت حسيناً في قتله وأوجدت من كل قطرة دم منه حسيناً ناهضاً بدعوته داعياً إلى نهضته.
  أجل! فإن الحسين لم يكن إلاّ هاتف الحق، وداعي الله، ونور الحق لا يخفى ، ونار الله لا تطفى ، ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ويعم ظهوره.
  ثانياً :
  إنّ الحسين (عليه السلام) ـ بقيامه في وجه الجور والفجور مقابلا ومقاتلاً ـ أحيا ذلك الشعور الإسلامي السامي الذي مات في حياة معاوية أو كاد أن يموت ، ونبه العامة إلى حب الحياة، ورعاية الذات واللذات ، والتخوف على الجاه والعائلات ، لو كان تبرر لأولياء الدين مصافات المعتدين لكان الحسين أقدر وأجدر من غيره ، لكنه أعرض عنها إذ رآها تنافي الإيمان والوجدان ، وتناقض الشهامة والكرامة ، فجددت نهضته في النفوس روح التديّن الصادق وعزّة في نفوس المؤمنين عن تحمل الضيم والظلم وعن أن يعيشوا سوقة كالأنعام وانتعشت إحساسات تحرير الرقاب والضمائر من أغلال المستبدين وأوهام المفسدين.
  ثالثاً :
  إنّ النهضة الحسينية هزّت القرائح والجوارح نحو الإخلاص والتفادي، وأتبعت الصوائح بالنوائح لتلبية دعاة الحق واستجابة حماة العدل في العالم الإسلامي وإنعاش روح الصدق وهو رأس الفضائل.
  وبوجه الإجمال عدت نهضة الحسين (عليه السلام) ينبوع حركات اجتماعية باقية الذكر والخير في ممالك الإسلام، خففت ويلات المسلمين بتخفيف غلواء المعتدين، فأي خير كهذا الينبوع السيال والمثال السائر في بطون الأجيال.