قال المرتضى : فأما قوله : فإنّ أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنّما طلبن الميراث لأنّهنّ لم يعرفنَ رواية أبي بكر للخبر ، وكذلك إنّما نازع عليّ ( عليه السلام ) بعد موت فاطمة ( عليها السلام ) في الميراث لهذا الوجه ، فمن أقبح ما يقال في هذا الباب ، وأبعدِه عن الصواب !
وكيف لا يعرف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رواية أبي بكر ، وبها دُفعت زوجته عن الميراث ! وهل مثل ذلك المقام الّذي قامته ، وما رواه أبو بكر في دفعها يخفى على من هو في أقاصي البلاد ، فضلاً عمّن هو في المدينة حاضر شاهد يراعي الأخبار ، ويُعنى بها ! إنّ هذا لخروج في المكابرة عن الحدّ !
وكيف يخفى على الأزواج ذلك حتى يطلبنه مرّة بعد آخرى ، ويكون عثمان الرسول لهنّ ، والمطالب عنهنّ ، وعثمان على زعمهم أحد من شهد أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يورث، وقد سمعن على كل حال أنّ بنت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم تورث ماله ، ولابدّ أن يكنّ قد سألن عن السبب في دفعها ، فذكر لهنّ الخبر ، فكيف يقال : إنّهن لم يعرفنه !
قلت : الصحيح أنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لم ينازع بعد موت فاطمة في الميراث ، وإنّما نازع في الولاية لِفَدك وغيرها من صدقات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وجرى بينه وبين العباس في ذلك ما هو مشهور ، وأما أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فما ثبت أنهنّ نازعن في ميراثه ، ولا أنّ عثمان كان المرسل لهنّ ، والمطالب عنهنّ ، إلاّ في رواية شاذة (1) .
---------------------------
(1) أقول : روى البخاري في صحيحه في ( باب حديث بني النضير ومخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إليهم في آية الرجلين وما أرادوا من الغدر برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ) 5 : 90 ط بولاق بسنده عن عروة ، ان عائشة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) تقول : أرسل أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) عثمان إلى أبي بكر يسألنه ثمنهن مما أفاء الله على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) فكنت أردهنّ فقلت لهنّ : ألا تتقين الله ؟ ! ألم تعلمن أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يقول : ( لا نورث ما تركنا صدقة ) ـ يريد بذلك نفسه ـ إنّما يأكل آل محمّد ( صلى الله عليه وآله ) في هذا المال ؟ فانتهى أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلى ما أخبرتهنّ ،
فهذه رواية البخاري في صحيحه عن عائشة ومع ذلك يصفها ابن أبي الحديد بأنّها رواية شاذة، ومن يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 402 _
والأزواج لمّا عرفن أنّ فاطمة ( عليها السلام ) قد دُفِعتْ عن الميراث أمسكن ، ولم يكنّ قد نازعن ، وإنّما اكتفين بغيرهنّ ، وحديث فَدَك وحضور فاطمة عند أبي بكركان بعد عشرة أيام من وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والصحيح أنّه لم ينطق أحدٌ بعد ذلك من الناس من ذكر أو أنثى بعد عود فاطمة ( عليها السلام ) من ذلك المجلس بكلمة واحدة في الميراث .
قال المرتضى : فإن قيل : فإذا كان أبو بكر قد حكم بالخطأ في دفع فاطمة ( عليها السلام ) عن الميراث ، واحتجّ بخبرٍ لا حجّة فيه ، فما بال الأمّة أقرته على هذا الحكم ، ولم تُنكِر عليه ، وفي رضاها وإمساكها دليلٌ على صوابه !
قلت : قد مضى أنّ ترك النّكير لا يكون دليل الرضا إلاّ في هذا الموضع الّذي لا يكون له وجه سوى الرضا ، وذكرنا في ذلك قولاً شافياً ، وقد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب ( العباسية ) عن هذا السؤال جواباً حسن المعنى واللفظ ، نحن نذكره على وجهه ، ليقابل بينه وبين كلامه في العثمانية وغيرها .
قلت : ما كنّاه المرتضى ( رحمه الله ) في غير هذا الموضع أصلاً ، بل كان ساخطاً عليه ، وكنّاه في هذا الموضع ، واستجاد قوله ، لأنّه موافق غرضه ، فسبحان الله ما أشد حبّ الناس لعقائدهم (1) !
قال : قال أبو عثمان : وقد زعم أناس أنّ الدليل على صدق خبرهما ـ يعني أبا بكر وعمر ـ في منع الميراث وبراءة ساحتهما ، ترك أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) النكير عليهما .
ثم قال : قد يقال لهم : لئن كان ترك النكير دليلاً على صدقهما ، ليكوننّ ترك النكير على المتظلمين والمحتجين عليهما ، والمطالبين لهما ، دليلاً على صدق دعواهم ، أو استحسان مقالتهم ، ولا سيما وقد طالت المناجاة ، وكثرت المراجعة
---------------------------
(1) ولنا أن نقول لابن أبي الحديد عن نفسه مثل قوله : فسبحان الله ما أشدّ حب الناس لعقائدهم ، فاستماتته في الدفاع عن شيخه أبي عليّ وعن الشيخين ما لا يحتاج إلى بيان أو إقامة برهان .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 403 _
والملاحاة ، وظهرت الشكيّة ، واشتدّت الموجدة ، وقد بلغ ذلك من فاطمة ( عليها السلام ) حتى انّها أوصت ألاّ يصلّي عليها أبو بكر .
ولقد كانت قالت له حين أتته طالبةً بحقّها ، ومحتجّة لرهطها : مَنْ يرثك يا أبا بكر إذا متّ ؟ قال : أهلي وولدي، قالت : فما بالنا لا نرث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) !
فلمّا منعها ميراثها ، وبخسها حقّها ، واعتلّ عليها ، وجلح في أمرها ، وعاينت التهضم ، وأيست من التورع ، ووجدت نشوة الضعف وقلّة الناصر ، قالت : والله لأدعونّ الله عليك ، قال : والله لأدعونّ الله لكِ ، قالت : والله لا أكلّمك أبداً ، قال : والله لا أهجرك أبداً .
فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلاً على صواب منعها، إنّ في ترك النكير على فاطمة ( عليها السلام ) دليلاً على صواب طلبها ! وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت ، وتذكيرها ما نسيت ، وصرفها عن الخطأ ، ورفع قدرها عن البذاء ، وأن تقول هجراً ، أو تجوّر عادلاً ، أو تقطع واصلاً، فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعاً فقد تكافأت الأمور ، واستوت الأسباب ، والرجوع إلى أصل حكم الله من المواريث أولى بنا وبكم ، وأوجب علينا وعليكم .
قال : فإن قالوا : كيف تظن به ظلمها والتعدي عليها ! وكلّما ازدادت عليه غلظةً ازداد لها ليناً ورقّة ، حيث تقول له : والله لا أكلّمك أبداً ، فيقول : والله لا أهجركِ أبداً ، ثمّ تقول : والله لأدعونّ الله عليك ، فيقول : والله لأدعونّ الله لكِ ، ثمّ يحتمل منها هذا الكلام الغليظ ، والقول الشديد في دار الخلافة ، وبحضرة قريش والصحابة ، مع حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه ، وما يجب لها من الرفعة والهيبة ! ثمّ لم يمنعه ذلك أن قال معتذراً متقرّباً ، كلام المعظِّم لحقّها ، المُكبر لمقامها ، والصائن لوجهها ، المتحنّن عليها : ما أجد أعزّ عليّ منك فقراً ، ولا أحب إليّ منك غنىً ، ولكنّي سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ، ما تركناه فهو صدقة !
المحسن السبط مولود أم سقط _ 404 _
قيل لهم : ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم ، والسلامة من الجور ، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريباً ، وللخصومة معتاداً ، أن يُظهر كلام المظلوم ، وذلّة المنتصف وحدب الوامق ، ومِقَة المحقّ .
وكيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة ، ودلالة واضحة ، وقد زعمتم أنّ عمر قال على منبره : مُتعتان كانتا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : متعة النساء ومتعة الحج ، أنا أنهى عنهما ، وأعاقب عليهما، فما وجدتم أحداً أنكر قوله ، ولا استشنع مخرج نهيه ، ولا خطّأه في معناه ، ولا تعجّب منه ، ولا استفهمه !
وكيف تقضون بترك النكير وقد شهد عمر يوم السقيفة وبعد ذلك أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) قال : الأئمة من قريش ، ثمّ قال في شكاته : لو كان سالمٌ حيّاً ما تخالجني فيه شكّ ، حين أظهر الشكّ في استحقاق كل واحد من الستّة الّذين جعلهم شورى ، وسالمٌ عبدٌ لامرأة من الأنصار ، وهي أعتقته وحازت ميراثه ، ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر ، ولا قابل إنسان بين قوله ، ولا تعجّب منه .
وإنّما يكون ترك النكير على مَنْ لا رغبة ولا رهبة عنده دليلاً على صدق قوله ، وصواب عمله ، فأمّا ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة ، والأمر والنهي ، والقتل والاستحياء ، والحبس والإطلاق ، فليس بحجة تشفي ولا دلالة تضيئ .
قال : وقال آخرون : بل الدليل على صدق قولهما ، وصواب عملهما ، إمساك الصحابة عن خلعهما ، والخروج عليهما ، وهم الّذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل ، ورد النصوص، ولو كان كما تقولون وما تصفون ، ما كان سبيل الأمة فيهما إلاّ كسبيلهم فيه ، وعثمان كان أعزّ نفراً ، وأشرف رهطاً ، وأكثر عدداً وثروة ، وأقوى عدة .
قلنا : إنّهما لم يجحدا التنزيل ، ولم ينكرا النصوص ، ولكنّهما بعد إقرارهما بحكم الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة ادّعيا رواية ، وتحدّثا بحديث لم يكن
المحسن السبط مولود أم سقط _ 405 _
مُحالاً كونه ، ولا ممتنِعاً في حجج العقول مجيئُه ، وشهد لهما عليه من علّته مثل علّتهما فيه ، ولعلّ بعضهم كان يرى تصديق الرجل إذا كان عَدلاً في رهطه ، مأموناً في ظاهره ، ولم يكن قبلَ ذلك عرفه بفَجْرة ، ولا جرت عليه غَدْرة ، فيكون تصديقه له على جهة حُسن الظنّ ، وتعديل الشاهد .
ولأنّه لم يكن كثيرٌ منهم يعرف حقائقَ الحجج ، والّذي يقطع بشهادته على الغيب ، وكان ذلك شبهة على أكثرهم ، فلذلك قلّ النّكير وتواكل الناس ، فاشتبه الأمر ، فصار لا يُتخلّص الى معرفة حقّ ذلك من باطله إلاّ العالمُ المتقدّم ، أو المؤيّد المرشد ، ولأنّه لم يكن لعثمان في صدور العوام ، وقلوب السَّفِلة والطَّغام ما كان لهما من المحبّة والهيبة ، ولأنّهما كانا أقلّ استئثاراً بالفيء ، وتفضّلاً بمالِ الله منه ، ومِن شأن الناس إهمال السلطان ما وفّر عليهم أموالَهم ، ولم يستأثر بخراجهم ، ولم يعطّل ثغورَهم .
ولأنّ الّذي صنع أبو بكر من منع العِتْرة حقّها ، والعمومة ميراثَها ، قد كان موافقاً لجلّة قريش وكبراءِ العرب ، ولأنّ عثمان أيضاً كان مضعوفاً في نفسه ، مستخفّاً بقدره ، لا يمنع ضَيْماً ، ولا يَقمَع عدوّاً، ولقد وثب ناس على عثمان بالشتم والقذف والتشنيع والنكير ، لأمور لو أتى أضعافها وبلغ أقصاها لما اجترؤا على اغتيابه ، فضلاً على مبادأته والإغراء به ومواجهته ، كما أغلظ عُيَينةُ بن حِصْن له فقال له : أما إنّه لو كان عمر لقمَعَك ومَنَعك، فقال عُيينة : إنّ عمر كان خيراً لي منك ، أرهبني فاتّقاني .
ثم قال : والعجب أنّا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على اختلافهم في التشبيه والقدر والوعيد ، يردّ كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه وخصومه ما هو أقرب إسناداً ، وأصحّ رجالاً ، وأحسن اتّصالاً، حتّى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) نسخوا الكتاب ، وخصّوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما ردّوه ، وأكذبوا قائليه ، وذلك أنّ كلّ إنسان منهم إنّما يجري إلى هواه ، ويصدّق ما وافق رضاه ،( هذا آخر كلام الجاحظ ) .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 406 _
ثم قال المرتضى ( رضي الله عنه ) : فإن قيل : ليس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال بترك النكير ، وقوله : كما لم ينكروا على أبي بكر ، فلم ينكروا أيضاً على فاطمة ( عليها السلام ) ولا على غيرها من الطالبين بالإرث ، كالأزواج وغيرهنّ معارضة صحيحة ، وذلك أنّ نكير أبي بكر لذلك ، ودفعها والاحتجاج عليها ، يكفيهم ويغنيهم عن تكلّف نكير آخر ، ولم ينكر على أبي بكر ما رواه منكر فيستغنوا بإنكاره .
قلنا : أوّل ما يُبطل هذا السؤال أنّ أبا بكر لم ينكر عليها ما أقامت عليه بعد احتجاجها من التظّلم والتألّم ، والتعنيف والتبكيت ، وقولها على ما روى : والله لأدعونّ الله عليك ، ولا أكلّمك أبداً ، وما جرى هذا المجرى، فقد كان يجب أن ينكره غيره ، ومن المنكَر الغضب على المنصف ، وبعد ، فإن كان إنكار أبي بكر مقنعاً ومغنياً عن إنكار غيره من المسلمين ، فإنكار فاطمة حكمه ، ومقامها على التظلّم منه مغنٍ عن نكير غيرها، وهذا واضح .
القسم الثالث : في أنّ فدك هل صحّ كونها نِحْلَة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لفاطمة ( عليها السلام ) أم لا ؟ !
نذكر في هذا القسم ما حكاه المرتضى عن قاضي القضاة في ( المغني ) ، وما اعترض به عليه ، ثمّ نذكر ما عندنا في ذلك .
قال المرتضى حاكياً عن قاضي القضاة : وممّا عظمت الشيعة القول في أمر فَدَك ، قالوا : وقد روى أبو سعيد الخدري أنّه لما أنزلت : ( وَآتِ ذَا القُرْب ـ َى حَقَّهُ ) (1) ، أعطى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فاطمة ( عليها السلام ) فَدَك ، ثمّ فعل عمر بن عبد العزيز مثل ذلك ، فردّها على ولدها . قالوا : ولا شكّ أن أبا بكر أغضبها، إن لم يصحّ كل الّذي روي في هذا الباب ، وقد كان الأجمل أن يمنعهم التكرّم ممّا ارتكبوا منها فضلاً
---------------------------
(1) الإسراء : 26 .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 407 _
عن الدين ، ثمّ ذكروا أنّها استشهدت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأمّ أيمن ، فلم يقبل شهادتهما ، هذا مع تركه أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حجرهنّ ، ولم يجعلها صدقة ، وصدقهنّ في ذلك أنّ ذلك لهنّ ولم يصدّقها .
قال : والجواب عن ذلك أنّ أكثر ما يروون في هذا الباب غير صحيح، ولسنا ننكر صحّة ما روى من ادعائها فَدَك ، فأمّا أنّها كانت في يدها فغير مسلم ، بل إن كانت في يدها لكان الظاهر أنّها لها ، فإذا كانت في جملة التركة فالظاهر أنّها ميراث ، وإذا كان كذلك فغير جائز لأبي بكر قبول دعواها ، لأنّه لا خلاف في أنّ العمل على الدعوى لا يجوز ، وإنّما يعمل على مثل ذلك إذا علمت صحّته بمشاهدة ، أو ما جرى مجراها ، أو حصلت بيّنة أو إقرار ، ثمّ إنّ البينة لابدّ منها ، وإنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لما خاصمه اليهودي حاكمه ، وأنّ أم سلمة الّتي يطبق على فضلها لو ادعت نحلاً ما قبلت دعواها .
ثم قال : ولو كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هو الوالي ، ولم يعلم صحة هذه الدعوى ، ما الّذي كان يجب أن يعمل ؟ فإن قلتم : يقبل الدعوى ، فالشرع بخلاف ذلك ، وإن قلتم : يلتمس البينة ، فهو الّذي فعله أبو بكر .
ثم قال : وأما قول أبي بكر : رجل مع الرجل ، وامرأة مع المرأة ، فهو الّذي يوجبه الدين ، ولم يثبت أنّ الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، بل الرواية المنقولة أنّه شهد لها مولى لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع أمّ أيمن .
قال : وليس لأحد أن يقول : فلماذا ادّعت ولا بيّنة معها ، لأنّه لا يمتنع أن تجوّز أن يحكم أبو بكر بالشاهد واليمين ، أو تجوز عند شهادة من شهد لها أن تذكر غيره فيشهد ، وهذا هو الموجب على ملتمس الحقّ ، ولا عيب عليها في ذلك ، ولا على أبي بكر في التماس البيّنة ، وإن لم يحكم لها لما لم يتمّ ولم يكن لها خصم ، لأنّ التركة صدقة على ما ذكرنا ، وكان لا يمكن أن يعوّل في ذلك على يمين أو نكول ، ولم يكن في الأمر إلاّ ما فعله .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 408 _
قال : وقد أنكر أبو عليّ ما قاله السائل من أنّها لما ردّت في دعوى النحلة ادعته إرثاً ، وقال : بل كان طلبت الإرث قبل ذلك ، فلما سمعت منه الخبر كفّت وادعت النحلة .
قال : فأما فِعل عمر بن عبد العزيز فلم يثبت أنّه ردّه على سبيل النحلة ، بل عمل في ذلك ما عمله عمر بن الخطاب بأن أقرّه في يد أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ليصرف غلاتها في المواضع الّتي كان يجعلها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيه ، فقام بذلك مدّة ، ثمّ ردّها إلى عمر في آخر سنته ، وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز، ولو ثبت أنّه فعل بخلاف ما فعل السلف لكان هو المحجوج بفعلهم وقولهم .
وأحدُ ما يقوّى ما ذكرناه أنّ الأمر لما انتهى إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ترك فَدَك على ما كان ، ولم يجعله ميراثاً لولد فاطمة ، وهذا يبيّن أنّ الشاهد كان غيره ، لأنّه لو كان هو الشاهد لكان الأقرب أن يحكم بعلمه، على أنّ الناس اختلفوا في الهبة إذا لم تقبض ، فعند بعضهم تستحقّ بالعقد ، وعند بعضهم أنّها إذا لم تقبض يصير وجودها كعدمها ، فلا يمتنع من هذا الوجه أن يمتنع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من ردّها ، وإن صحّ عنده عقد الهبة ، وهذا هو الظاهر ، لأنّ التسليم لو كان وقع لظهر أنّه كان في يدها ، ولكان ذلك كافياً في الاستحقاق .
فأمّا حجر أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) فإنّما تركت في أيديهنّ لأنّها كانت لهنّ ، ونصّ الكتاب يشهد بذلك ، وقوله : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) (1) . وروى في الأخبار أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) قسّم ما كان له من الحجر على نسائه وبناته ، ويبيّن صحة ذلك أنّه لو كان ميراثاً أو صدقة لكان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لمّا أفضى الأمر إليه يغيّره .
قال : وليس لأحد أن يقول : إنّما لم يغيّر ذلك لأنّ الملك قد صار له ، فتبرّع به ، وذلك أنّ الّذي يحصل له ليس إلاّ ربع ميراث فاطمة ( عليها السلام ) ، وهو الثمن من ميراث
---------------------------
(1) الأحزاب : 33 .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 409 _
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد كان يجب أن ينتصف لأولاد العباس وأولاد فاطمة منهنّ في باب الحجر ، ويأخذ هذا الحقّ منهنّ ، فتركه ذلك يدلّ على صحة ما قلناه ، وليس يمكنهم بعد ذلك إلاّ التعلق بالتقيّة ، وقد سبق الكلام فيها .
قال : ومما يذكرونه أنّ فاطمة ( عليها السلام ) لغضبها على أبي بكر وعمر أوصت ألاّ يصلّيا عليها ، وأن تدفن سرّاً منهما ، فدفنت ليلاً ، وهذا كما ادّعوا رواية رووها عن جعفر بن محمّد ( عليهما السلام ) وغيره ، أنّ عمر ضرب فاطمة ( عليها السلام ) بالسوط ، وضرب الزبير بالسيف ، وأنّ عمر قصد منزلها وفيه عليّ ( عليه السلام ) والزبير والمقداد وجماعة ممّن تخلّف عن أبي بكر وهم مجتمعون هناك ، فقال لها : ما أحد بعد أبيك أحبّ إلينا منك ، وأيم الله لئن اجتمع هؤلاء النفر عندك لنحرقنّ عليهم ! فمنعت القوم من الاجتماع .
قال : ونحن لا نصدّق هذه الروايات ولا نجوّزها ، وأمّا أمر الصلاة فقد روى أنّ أبا بكر هو الّذي صلّى على فاطمة ( عليها السلام ) وكبّر عليها أربعاً ، وهذا أحد ما استدلّ به كثير من الفقهاء في التكبير على الميّت ، ولا يصحّ أيضاً أنّها دفنت ليلاً ، وإن صحّ ذلك فقد دفن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليلاً ، ودفن عمر ابنه ليلاً ، وقد كان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يدفنون بالنهار ويدفنون بالليل ، فما في هذا مما يطعن به ، بل الأقرب في النساء أنّ دفنهنّ ليلاً أستر وأولى بالسنّة .
ثم حكى عن أبي عليّ تكذيب ما روي من الضرب بالسوط، قال : والمروي عن جعفر بن محمّد ( عليه السلام ) أنّه كان يتولاّهما ، ويأتي القبر فيسلّم عليهما مع تسليمه على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، روى ذلك عباد بن صُهيب ، وشعبة بن الحجاج ، ومهدي بن هلال ، والدَّراوَرْدي ، وغيرهم ، وقد روى عن أبيه محمّد بن عليّ ( عليه السلام ) ، وعن عليّ بن الحسين مثل ذلك .
فكيف يصحّ ما ادعوه ! وهل هذه الرواية إلاّ كروايتهم على أنّ عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) هو إسرافيل ، والحسن ميكائيل ، والحسين جبرائيل ، وفاطمة ملك
المحسن السبط مولود أم سقط _ 410 _
الموت ، وآمنة أم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليلة القدر ! فإن صدّقوا ذلك أيضاً قيل لهم : فعمر بن الخطاب كيف يقدر على ضرب ملك الموت ! وإن قالوا : لا نصدّق ذلك ، فقد جوزوا ردّ هذه الروايات ، وصحّ أنّه لا يجوز التعويل على هذا الخبر ، وإنّما يتعلّق بذلك من غرضه الإلحاد كالوراق ، وابن الراوندي ، لأنّ غرضهم القدح في الإسلام .
وحكي عن أبي عليّ أنّه قال : ولما صار غضبها إن ثبت كأنّه غضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من حيث قال : فمن أغضبها فقد أغضبني ، بأولى من أن يقال : فمن أغضب أبا بكر وعمر فقد نافق وفارق الدين ، لأنّه روى عنه ( عليه السلام ) قال : حب أبي بكر وعمر إيمان ، وبغضهما نفاق ، ومن يورد مثل هذا فقصده الطعن في الإسلام ، وأن يتوهّم الناس أن أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نافقوا مع مشاهدة الأعلام ليضعفوا دلالة العلم في النفوس .
قال : وأما حديث الإحراق فلو صحّ لم يكن طعناً على عمر ، لأنّ له أن يهدد من امتنع من المبايعة إرادة للخلاف على المسلمين لكنّه غير ثابت ، انتهى كلام قاضي القضاة .
قال المرتضى : نحن نبتدئ فندلّ على أنّ فاطمة ( عليها السلام ) ما ادّعت من نحل فَدَك إلاّ ما كانت مصيبة فيه ، وأن مانعها ومطالبها بالبينة متعنّت ، عادل عن الصواب ، لأنّها لا تحتاج إلى شهادة وبينة ، ثمّ نعطف على ما ذكره على التفصيل ، فنتكلّم عليه .
أما الّذي يدلّ على ما ذكرناه ، فهو أنّها كانت معصومة من الغلط ، مأموناً منها فعل القبيح ، ومن هذه صفته لا يحتاج فيما يدعيه إلى شهادة وبينة .
فإن قيل : دلّلوا على الأمرين ، قلنا : بيان الأوّل قوله تعالى : ( إنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (1) والآية تتناول جماعة منهم
---------------------------
(1) الأحزاب : 33 .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 411 _
فاطمة ( عليها السلام ) بما تواترت الأخبار في ذلك ، والإرادة هاهنا دلالة على وقوع الفعل للمراد .
وأيضاً فيدل على ذلك قوله ( عليه السلام ) : فاطمة بضعة منّي ، من آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ( عزّ وجلّ ) ، وهذا يدلّ على عصمتها، لأنّها لو كانت ممّن تقارف الذنوب ، لم يكن من يؤذيها مؤذياً له على كل حال ، بل كان متى فعل المستحق من ذمّها ، أو إقامة الحد عليها ، إن كان الفعل يقتضيه سارّاً له ومطيعاً ، على أنّا لا نحتاج أن ننبّه في هذا الموضع على الدلالة على عصمتها ، بل يكفي في هذا الموضع العلم بصدقها فيما ادعته ، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين ، لأنّ أحداً لا يشك أنّها لم تدّع ِما ادعته كاذبة ، وليس بعد ألا تكون كاذبة إلاّ أن تكون صادقة ، وإنّما اختلفوا في هل يجب مع العلم بصدقها تسليم ما ادّعته بغير بيّنة أم لا يجب ذلك !
قال : الّذي يدلّ على الفصل الثاني أنّ البينة إنّما تراد ليغلب في الظن صدق المدّعي ، ألا ترى أنّ العدالة معتبرة في الشهادات لما كانت مؤثّرة في غلبة الظنّ لما ذكرناه ، ولهذا جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة ، لأنّ علمه أقوى من الشهادة ، ولهذا كان الإقرار أقوى من البيّنة ، من حيث كان أغلب في تأثير غلبة الظن ، وإذا قدّم الإقرار على الشهادة لقوّة الظن عنده ، فأولى أن يقدّم العلم على الجميع ، وإذا لم يحتج مع الإقرار إلى شهادة لسقوط حكم الضعيف مع القويّ ، لا يحتاح أيضاً مع العلم إلى ما يؤثر الظنّ من البيّنات والشّهادات .
والذي يدل على صحّة ما ذكرناه أيضاً ، انّه لا خلاف بين أهل النقل في أنّ أعرابياً نازع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ناقة ، فقال ( عليه السلام ) : هذه لي ، وقد خرجت إليك من ثمنها فقال الأعرابي : من يشهد لك بذلك ؟ فقال خزيمة بن ثابت : أنا أشهد بذلك ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : من أين علمت وما حضرت ذلك ؟ ، قال : لا ، ولكن علمت ذلك من
المحسن السبط مولود أم سقط _ 412 _
حيث علمت أنّك رسول الله ، فقال : قد أجزت شهادتك ، وجعلتها شهادتين فسمّى ذا الشهادتين .
وهذه القصة شبيهة لقصة فاطمة ( عليها السلام ) ، لأنّ خزيمة اكتفى في العلم بأنّ الناقة له ( صلى الله عليه وآله ) ، وشهد بذلك من حيث علم أنّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا يقول إلاّ حقّاً ، وأمضى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذلك له من حيث لم يحضر الابتياع وتسليم الثمن ، فقد كان يجب على مَن علم أنّ فاطمة ( عليها السلام ) لا تقول إلاّ حقاً ألا يستظهر عليها بطلب شهادة أو بينة ، هذا وقد روي أنّ أبا بكر لمّا شهد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كتب بتسليم فَدَك إليها ، فاعترض عمر قضيته ، وخرق ما كتبه .
روى إبراهيم بن السعيد الثقفي ، عن إبراهيم بن ميمون قال : حدّثنا عيسى بن عبد الله بن محمّد بن عليّ بن أبي طالب ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عليّ ( عليه السلام ) قال : جاءت فاطمة إلى أبي بكر وقالت : إنّ أبي أعطاني فَدَك ، وعليّ وأمّ أيمن يشهدان ، فقال : ما كنتِ لتقولي على أبيك إلاّ الحق ، قد أعطيتُكها ، ودعا بصحيفة من أدَم فكتب لها فيها ، فخرجت فلقيت عمر ، فقال : من أين جئتِ يا فاطمة ؟ قالت : جئت من عند أبي بكر ، أخبرته أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أعطاني فَدَك ، وأنّ عليّاّ وأمّ أيمن يشهدان لي بذلك ، فأعطانيها وكتب لي بها، فأخذ عمر منها الكتاب ، ثمّ رجع إلى أبي بكر فقال : أعطيت فاطمة فَدَك ، وكتبت بها لها ؟ قال : نعم ، فقال : إنّ عليّاً يجرّ إلى نفسه ، وأم أيمن امرأة ، وبصق في الكتاب فمحاه وخرّقه .
وقد روى هذا المعنى من طرقٍ مختلفة ، على وجوه مختلفة ، فمن أراد الوقوف عليها ، واستقصاءها أخذها من مواضعها .
وليس لهم أن يقولوا : إنّها أخبار آحاد ، لأنّها وإن كانت كذلك فأقلّ أحوالها أن توجب الظنّ ، وتمنع من القطع على خلاف معناها ، وليس لهم أن يقولوا : كيف يسلّم إليها فَدَك وهو يروي عن الرسول أنّ ما خلّفه صدقة ، وذلك لأنّه لا تنافي بين
المحسن السبط مولود أم سقط _ 413 _
الأمرين ، لأنّه إنّما سلّمها على ما وردت به الرواية على سبيل النحل ، فلمّا وقعت المطالبة بالميراث روى الخبر في معنى الميراث ، فلا اختلاف بين الأمرين .
فأمّا إنكار صاحب الكتاب لكون فدك في يدها ، فما رأيناه اعتَمَد في إنكار ذلك على حجّة ، بل قال : لو كان ذلك في يدها لكان الظاهر أنّها لها ، والأمر على ما قال ، فمن أين أنّه لم يخرج عن يدها على وجه يقتضي الظاهر خلافه ! وقد روي من طرقٍ مختلفة غير طريق أبي سعيد الّذي ذكره صاحب الكتاب أنّه لمّا نزل قوله تعالى : ( وَآتِ ذَا القُرْب ـ َى حَقَّهُ ) (1) دعا النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاطمة ( عليها السلام ) فأعطاها فَدَك ! وإذا كان ذلك مرويّاً فلا معنى لدفعه بغير حجة .
وقوله : لا خلاف أنّ العمل على الدعوى لا يجوز ، صحيح ، وقد بيّنا أنّ قولها كان معلوماً صحّته ، وإنّما قوله : إنّما يعمل على ذلك متى علم صحّته بشهادة أو ما يجري مجراها ، أو حصلت بيّنة أو إقرار ، فيقال له : إمّا علمت بمشاهدة فلم يكن هناك ، وامّا بيّنة فقد كانت على الحقيقة ، لأنّ شهادة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من أكبر البيّنات وأعدلها ، ولكن على مذهبك أنّه لم تكن هناك بيّنة ، فمن أين زعمت أنّه لم يكن هناك عِلْم ! وإن لم يكن عن مشاهدة فقد أدخلت ذلك في جملة الأقسام .
فإن قال : لأنّ قولها بمجرّده لا يكون جهةً للعلم، قيل له : لم قلت ذلك ؟ أو ليس قد دللنا على أنّها معصومة ، وأن الخطأ مأمون عليها ! ثمّ لو لم يكن كذلك لكان قولها في تلك القضية معلوماً صحّته على كل حال ، لأنّها لو لم تكن مصيبة لكانت مبطلة عاصية فيما ادّعته ، إذ الشبهة لا تدخل في مثله، وقد أجمعت الأمّة على أنّها لم يظهر منها بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) معصية بلا شك وارتياب، بل أجمعوا على أنّها لم تدّع إلاّ الصحيح ، وإن اختلفوا، فمن قائل يقول : مانعها مخطئ ، وآخر يقول : هو أيضاً مصيب ، لفقد البيّنة وإن علم صدقها .
---------------------------
(1) الإسراء : 26 .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 141 _
وأما قوله : إنّه لو حاكم غيره لطولب بالبينة ، فقد تقدّم في هذا المعنى ما يكفي ، وقصّة خزيمة بن ثابت وقبول شهادته تُبطل هذا الكلام .
وأمّا قوله : إنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حاكَمَ يهوديّاً على الوجه الواجب في سائر الناس ، فقد روي ذلك ، إلاّ أنّ أمير المؤمنين لم يفعل من ذلك ما كان يجب عليه أن يفعله ، وإنّما تبرّع به ، واستظهر بإقامة الحجة فيه، وقد أخطأ من طالبه ببيّنة كائناً من كان .
فأمّا اعتراضه بأمّ سلمة فلم يثبت من عصمتها ما ثبت من عصمة فاطمة ( عليها السلام ) ، فلذلك احتاجت في دعواها إلى بيّنة .
فأمّا إنكاره وادعاؤه أنّه لم يثبت أنّ الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين ، فلم يزد في ذلك إلاّ مجرد الدعوى والإنكار ، والأخبار مستفيضة بأنّه ( عليه السلام ) شهد لها ، فدفع ذلك بالزّيغ لا يغني شيئاً ! وقوله : إنّ الشاهد لها مولىً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هو المنكر الّذي ليس بمعروف .
وأمّا قوله : إنّها جوّزت أن يحكم أبو بكر بالشاهد واليمين فطريف، مع قوله فيما بعد : إنّ التركة صدقة ، ولا خصم فيها ، فتدخل اليمين في مثلها، أفترى أن فاطمة لم تكن تعلم من الشريعة هذا المقدار الّذي نبّه صاحب الكتاب عليه ! ولو لم تعلمه ما كان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وهو أعلم الناس بالشّريعة يوافقها عليه .
وقوله : إنّها جوّزت عند شهادة مَنْ شهد لها أن يتذكّر غيرهم فيشهد باطل ، لأنّ مِثلَها لا يتعرّض للظِّنّة والتهمة ، ويعرّض قوله للردّ ، وقد كان يجب أن تعلم مَنْ يشهد لها ممّن لا يشهد حتى تكون دعواها على الوجه الّذي يجب معه القبول والإمضاء ، ومَنْ هو دونها في الرتبة والجلالة والصيانة من أفناء الناس لا يتعرّض لمِثل هذ الخطّة ويتورّطها ، للتجويز الّذي لا أصل له ، ولا أمارة عليه .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 415 _
فأمّا إنكار أبي عليّ لأن يكون النحل قبل ادعاء الميراث وعكسه الأمر فيه ، فأوّل ما فيه أنّا لا نعرف له غرضاً صحيحاً في إنكار ذلك ، لأنّ كون أحد الأمرين قبل الآخر لا يصحّح له مذهباً ، فلا يفسد على مخالفه مذهباً .
ثم إنّ الأمر في أنّ الكلام في النحل كان المتقدم ظاهراً ، والروايات كلّها به واردة، وكيف يجوز أن تبتدئ بطلب الميراث فيما تدّعيه بعينه نحلاً ! أو ليس هذا يوجب أن تكون قد طالبت بحقها من وجه لا تستحقّه منه مع الاختيار ! وكيف يجوز ذلك والميراث يشركها فيه غيرها ، والنحل تنفرد به !
ولا ينقلب مثل ذلك علينا من حيث طالبت بالميراث بعد النحل، لأنّها في الابتداء طالبت بالنحل ، وهو الوجه الّذي تستحق فَدَك منه ، فلمّا دُفعت عنه طالبت ضرورة بالميراث ، لأنّ للمدفوع عن حقّه أن يتوصّل إلى تناوله بكلّ وجه وسبب ، وهذا بخلاف قول أبي عليّ ، لأنّه أضاف إليها ادعاء الحق من وجه لا تستحقه منه ، وهي مختارة .
وأما إنكاره أن يكون عمر بن عبد العزيز ردّ فَدَك على وجه النحل ، وادعاؤه أنّه فعل في ذلك ما فعله عمر بن الخطاب من إقرارها في يد أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ليصرف غلاتها في وجوهها ، فأوّل ما فيه أنّا لا نحتجّ عليه بفعل عمر بن عبد العزيز على أيّ وجه وقع ، لأنّ فعله ليس بحجّة ، ولو أردنا الاحتجاج بهذا الجنس من الحجج لذكرنا فعل المأمون ، فإنّه ردّ فَدَك بعد أن جلس مجلساً مشهوراً حكم فيه بين خصمين نصبهما ، أحدهما لفاطمة ، والآخر لأبي بكر ، وردّها بعد قيام الحجة ووضوح الأمر .
ومع ذلك فإنّه قد أنكر من فعل عمر بن عبد العزيز ما هو معروف مشهور بلا خلاف بين أهل النقل فيه ، وقد روى محمّد بن زكريا الغلابيّ عن شيوخه ، عن أبي المقدام هشام بن زياد مولى آل عثمان ، قال : لما ولي عمر بن عبد العزيز ردّ فدك
المحسن السبط مولود أم سقط _ 416 _
على ولد فاطمة ، وكتب إلى واليه على المدينة أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك ، فكتب إليه : إنّ فاطمة قد ولدت في آل عثمان ، وآل فلان وفلان ، فعلى من أردّ منهم ؟ فكتب إليه : أما بعد ، فإنّي لو كتبت إليك آمرك أن تذبح شاةً لكتبت إليّ : أجمّاء أم قَرْناء ؟ أو كتبت اليك أن تذبح بقرة لسألتني : ما لونها ؟ فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة ( عليها السلام ) من عليّ ( عليه السلام ) ، والسلام .
قال أبو المقدام : فنقمت بنو أميّة ذلك على عمر بن عبد العزيز وعاتبوه فيه ، وقالوا له : هجّنتَ فعل الشيخين ، وخرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة ، فلمّا عاتبوه على فعله قال : إنكم جهلتم وعلمت ، ونسيتم وذكرت ، إنّ أبا بكر محمّد بن عمرو بن حزم حدّثني عن أبيه عن جده أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : فاطمة بضعةٌ منّي يسخطها ما يسخطني ، ويرُضيني ما أرضاها ، وإنّ فَدَك كان صافية على عهد أبي بكر وعمر ، ثمّ صار أمرها إلى مروان ، فوهبها لعبد العزيز أبي ، فورثتها أنا وإخوتي عنه ، فسألتهم أن يبيعوني حصّتهم منها ، فمن بائع وواهب ، حتى استجمعت لي ، فرأيت أن أردّها على ولد فاطمة ، قالوا : فإن أبيت إلاّ هذا فأمسك الأصل ، وأقسم الغلّة ، ففعل .
وأمّا ما ذكره من ترك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فَدَك لما أفضى الأمر إليه ، واستدلاله بذلك على أنّه لم يكن الشاهد فيها ، فالوجه في تركه ( عليه السلام ) رد فَدَك هو الوجه في إقراره أحكام القوم وكفّه عن نقضها وتغييرها ، وقد بيّنا ذلك فيما سبق ، وذكرنا أنّه كان في انتهاء الأمر إليه في بقية من التقية قوية .
فأمّا استدلاله على أنّ حجر أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانت لهنّ بقوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) (1) فمن عجيب الاستدلال ، لأنّ هذه الإضافة لا تقتضي المِلك ، بل
---------------------------
(1) الأحزاب : 33 .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 417 _
العادة جاريةٌ فيها أن تستعمل من جهة الكنى ، ولهذا يقال : هذا بيت فلان ومسكنه ، ولا يراد بذلك المِلك ، وقد قال تعالى : ( لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إلاّ أنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَة مُبَيِّنَة ) (1) ، ولا شبهة في أنّه تعالى أراد منازل الرجال الّتي يُسكِنون فيها زوجاتهم ، ولم يرد بهذه الإضافة الملك .
فأما ما رواه من أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قسم حجره على نسائه وبناته ، فمن أين له إذا كان الخبر صحيحاً أنّ هذه القسمة على وجه التمليك دون الإسكان والإنزال ! ولو كان قد ملّكهنّ ذلك لوجب أن يكون ظاهراً مشهوراً .
فأما الوجه في ترك أمير المؤمنين لما صار الأمر إليه في يده منازعة الأزواج في هذه الحجر فهو ما تقدّم وتكرّر .
وأما قوله : إنّ أبا بكر هو الّذي صلّى على فاطمة وكبّر أربعاً ، وإنّ كثيراً من الفقهاء يستدلّون به في التكبير على الميّت ـ وهو شيء ما سُمِع إلاّ منه ، وإن كان تلقّاه عن غيره ـ فمّمن يجري مجراه في العصبية (2) ، وإلاّ فالروايات المشهورة
---------------------------
(1) الطلاق : 1 .
(2) روى ابن عدي في الكامل 4 : 258 ، نقلاً عن موطأ مالك قال : أخبرنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : ( توفيت فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليلاً، فجاء أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعيد وجماعة كثيرة سماهم مالك فقال أبو بكر لعليّ : تقدم فصلّ عليها ، قال : لا والله لا تقدمت وأنت خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قال : فتقدم أبو بكر فصلى عليها فكبّر عليها أربعاً ودفنها ليلاً ) ،
أقول : ولم أقف على الخبر في الموطأ برواية يحيى بن يحيى الليثي المطبوع بشرح السيوطي المسمى تنوير الحوالك ، كما قد خلت النسخة الناقصة المطبوعة بتونس برواية ابن زياد ، ولم يذكره ابن عبد البر في كتابه التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ، وقد ذكر في ج 1 : 316 ، ما ورد في الموطأ من حديث جعفر بن محمد وقال : لمالك عن جعفر بن محمد في الموطأ من حديث النبي ( صلى الله عليه وآله ) تسعة أحاديث منها خمسة متصلة أصلها حديث واحد وهو حديث جابر الطويل في الحج، والأربعة منقطعة تتصل من غير رواية مالك من وجوه ... ولم يشر إلى رواية مالك عن جعفر بن محمد على ما هو موقوف عليه .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 418 _
وكتب الآثار والسير خالية من ذلك ، ولم يختلف أهل النقل في أنّ عليّاً ( عليه السلام ) هو الّذي صلّى على فاطمة ، إلاّ رواية نادرة شاذّة وردت بأنّ العباس صلّى عليها .
وروى الواقدي : بإسناده في تاريخه ، عن الزهري، قال : سألت ابن عباس : متى دفنتم فاطمة ( عليها السلام ) ؟ قال : دفنّاها بليل بعد هدأة، قال : قلت : فمن صلّى عليها ؟ قال : عليّ .
وروى الطبري عن الحارث بن أبي أسامة ، عن المدائني ، عن أبي زكريا العجلاني أنّ فاطمة ( عليها السلام ) عُمل لها نعش قبل وفاتها ، فنظرت إليه ، فقالت : سترتُموني ستركم الله !
قال أبو جعفر محمّد بن جرير : والثبت في ذلك أنّها زينب ، لأنّ فاطمة دفنت ليلاً ، ولم يحضرها إلاّ عليّ و العباس والمقداد والزبير .
وروى القاضي أبو بكر أحمد بن كامل بإسناده في تاريخه ، عن الزهري، قال : حدّثني عروة بن الزبير أنّ عائشة أخبرته أنّ فاطمة عاشت بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ستة أشهر ، فلمّا توفيت دفنها عليّ ليلاً ، وصلّى عليها . وذكر في كتابه هذا أنّ عليّاً والحسن والحسين ( عليهم السلام ) دفنوها ليلاً ، وغيّبوا قبرها .
وروى سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن بن محمّد بن الحنفيّة ، أنّ فاطمة دُفنت ليلاً .
وروى عبد الله بن أبي شيبة ، عن يحيى بن سعيد القطّان ، عن معمر ، عن الزهري مثل ذلك .
وقال البلاذريّ في تاريخه : إنّ فاطمة ( عليها السلام ) لم تُرَ متبسّمة بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولم يعلم أبو بكر وعمر بموتها .
والأمر في هذا أوضح وأشهر من أن نُطنب في الاستشهاد عليه ، ونذكر الروايات فيه .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 419 _
فأمّا قوله : ولا يصحّ أنّها دفنت ليلاً ، وإن صحّ فقد دُفن فلان وفلان ليلاً، فقد بيّنا أنّ دفنها ليلاً في الصحّة أظهر من الشمس ، وأنّ مُنكر ذلك كالدافع للمشاهدات ، ولم يجعل دفنها ليلاً بمجرده هو الحُجة ليقال : لقد دُفن فلان وفلان ليلاً ، بل يقع الاحتجاج بذلك على ما وردت به الروايات المستفيضة الظاهرة الّتي هي كالتواتر، أنّها أوصت بأن تدفن ليلاً حتى لا يصلّي الرجلان عليها ، وصرّحت بذلك وعهدت فيه عهداً بعد أن كانا استأذنا عليها في مرضها ليعوداها ، فأبت أن تأذن لهما ، فلما طالت عليهما المدافعة رَغِبا إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في أن يستأذن لهما ، وجعلاها حاجةً إليه ، وكلّمها ( عليه السلام ) في ذلك ، وألحّ عليها ، فأذنت لهما في الدخول ، ثمّ أعرضت عنهما عند دخولهما ولم تكلمهما ، فلمّا خرجا قالت لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : هل صنعت ما أردت ؟ قال : نعم ، قالت : فهل أنت صانع ما آمرك به ؟ قال : نعم ، قالت : فإنّي أنشدك الله ألاّ يُصلّيا على جنازتي ، ولا يقوما على قبري !
وروى أنّه عَفَّى قبرها وعلّم عليه ، ورشّ أربعين قبراً في البقيع ، ولم يرشّ قبرها حتى لا يُهتدى إليه ، وأنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها ، وإحضارهما الصلاة عليها ، فمن هاهنا احتججنا بالدّفن ليلاً ، ولو كان ليس غير الدفن بالليل من غير ما تقدّم عليه وما تأخّر عنه ، لم يكن فيه حجة .
وأما حكايته عن أبي عليّ إنكار ضرب الرجل لها ، وقوله : إنّ جعفر بن محمّد وأباه وجدّه كانوا يتولّونهما ، فكيف لا ينكر أبو عليّ ذلك ، واعتقاده فيهما اعتقاده ! وقد كنّا نظنّ أنّ مخالفينا يقتنعون أن ينسبوا إلى أئمتنا الكفّ عن القوم والإمساك ، وما ظننّا أنّهم يحملون أنفسهم على أن يُنسبُوا إليهم الثناء والوَلاء .
وقد علم كل أحد أنّ أصحاب هؤلاء السادة المختصّين بهم ، قد رووا عنهم ضدّ ما روى شعبة بن الحجّاج وفلان وفلان ، وقولهم : هما أوّل من ظلمنا حقّنا ،
المحسن السبط مولود أم سقط _ 420 _
وحمل الناس على رقابنا ، وقولهم : إنّهما أصفيا بإنائنا ، واضطجعا بسبلنا ، وجلسا مجلساً نحن أحقّ به منهما ، إلى غير ذلك من فنون التظلّم والشّكاية ، وهو طويل متّسع ، ومن أراد استقصاء ذلك فلينظر في كتاب ( المعرفة ) لأبي إسحاق إبراهيم بن سعيد الثقفي ، فإنّه قد ذكر عن رجل من أهل البيت بالأسانيد النيّرة ما لا زيادة عليه ، ثمّ لو صحّ ما ذكره شعبة لجاز أن يُحمَل على التقيّة .
وأمّا ذكره إسرافيل وميكائيل فما كنّا نظنّ أنّ مثله يذكر ذلك ، وهذا من أقوال الغُلاة الّذين ضلّوا في أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأهل البيت ، وليسوا من الشّيعة ولا من المسلمين ، فأيّ عيب علينا فيما يقولونه ! ثمّ إنّ جماعة من مخالفينا قد غلوا في أبي بكر وعمر ، ورووا رواياتٍ مختلفة فيهما تجري مجرى ما ذكره في الشناعة ، ولا يلزم العقلاء وذوي الألباب من المخالفين عيب من ذلك .
وأمّا معارضة ما روي في فاطمة ( عليها السلام ) بما روي في : أنّ حبّهما إيمان ، وبغضهما نفاق ، فالخبر الّذي رويناه مجمع عليه ، والخبر الآخر مطعونٌ فيه ، فكيف يعارَض ذلك بهذا !
وأمّا قوله : إنّما قصد من يورد هذه الأخبار تضعيف دلالة الأعلام في النفوس ، من حيث أضاف النفاق إلى من شاهدها، فتشنيعٌ في غير موضعه ، واستنادٌ إلى ما لا يجدي نفعاً ، لأن من شاهد الأعلام لا يضعفها ولا يوهن دليلها ، ولا يقدح في كونها حجة ، لأنّ الأعلام ليست ملجئة إلى العلم ، ولا موجبة لحصوله على كلّ حال ، وإنّما تثمر العلم لمن أمعن النظر فيها من الوجه الّذي تدلّ منه ، فمَن عَدَل عن ذلك لسوء اختياره لا يكون عدوله مؤثراً في دلالتها .
فكم قد عدل من العقلاء وذوي الأحلام الراجحة والألباب الصحيحة عن تأمّل هذه الأعلام وإصابة الحق منها ! ولم يكن ذلك عندنا وعند صاحب الكتاب قادحاً في دلالة الأعلام .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 421 _
على أنّ هذا القول يوجب أن ينفي الشك والنّفاق عن كل من صحب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعاصره وشاهد أعلامه كأبي سفيان وابنه ، وعمرو بن العاص ، وفلان وفلان، ممّن قد اشتهر نفاقهم ، وظهر شكّهم في الدين وارتيابهم باتّفاق بيننا وبينه، وإن كانت إضافة النّفاق إلى هؤلاء لا تقدح في دلالة الأعلام ، فكذلك القول في غيرهم .
فأمّا قوله : إنّ حديث الإحراق لم يصحّ ، ولو صحّ لساغ لعمر مثل ذلك، فقد بيّنّا أنّ خبر الإحراق قد رواه غير الشيعة .
وقوله : إنّه يسوغ مثل ذلك، فكيف يسوغ إحراق بيت عليّ وفاطمة ( عليهما السلام ) ! وهل في ذلك عُذْر يصغى إليه أو يسمع ! وإنّما يكون عليّ وأصحابه خارقين للإجماع ومخالفين للمسلمين، لو كان الإجماع قد تقرّر وثبت ، وليس بمتقرّر ولا ثابت مع خلاف عليّ وحده ، فضلاً عن أن يوافقه على ذلك غيره .
وبعد ، فلا فرق بين أن يُهدّد بالإحراق لهذه العلّة ، وبين أن يضرب فاطمة ( عليها السلام ) لمثلها ، فإنّ إحراق المنازل أعظم من ضرب سوط أو سوطين، فلا وجه لامتعاض المخالف من حديث الضّرب إذا كان عنده مثل هذا الاعتذار !
قال ابن أبي الحديد : قلت : أمّا الكلام في عصمة فاطمة ( عليها السلام ) فهو بفنّ الكلام أشبه ، وللقول فيه موضع غير هذا .
وأمّا قول المرتضى : إذا كانت صادقة لم يبق حاجةٌ إلى مَنْ يشهد لها، فلقائل أن يقول : لم قلت ذلك ؟ ولم زَعمت أنّ الحاجة إلى البينة إنّما كانت لزيادة غلبة الظنّ ؟ ولم لا يجوز أن يكون الله تعالى يُعبّد بالبيّنة لمصلحة يعلمها، وإن كان المدّعي لا يكذب ! أليس قد تعبّد الله تعالى بالعدّة في العجوز الّتي قد أيِست من الحمل، وإن كان أصل وضعها لاستبراء الرحم !
وأما قصّة خُزيمة بن ثابت، فيجوز أن يكون الله تعالى قد علم أنّ مصلحة المكلّفين في تلك الصورة أن يكتفي بدعوى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحدها، ويستغني فيها عن
المحسن السبط مولود أم سقط _ 422 _
الشهادة ، ولا يمتنع أن يكون غير تلك الصورة مخالفاً لها ، وإن كان المدّعي لا يكذّب .
ويبين ذلك أنّ مذهب المرتضى جواز ظهور خوارق العادات على أيدي الأئمة والصالحين، ولو قدّرنا أنّ واحداً من أهل الصلاح والخير ادّعى دعوى ، وقال بحضرة جماعة من الناس من جملتهم القاضي : اللهم إن كنتُ صادقاً فأظهر عليّ معجزة خارقة للعادة، فظهرت عليه ، لعلمنا أنّه صادق، ومع ذلك لا تقبل دعواه إلاّ ببيّنة .
وسألت عليّ بن الفارقيّ مدرّس المدرسة الغربية ببغداد ، فقلت له : أكانت فاطمة صادقة ؟ قال : نعم ، قلت : فلم لم يدفع إليها أبو بكر فَدَك وهي عنده صادقة ؟ فتبسّم ، ثمّ قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحُرْمته وقلّة دعابته ، قال : لو أعطاها اليوم فَدَك بمجرّد دعواها ، لجاءت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه ، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء، لأنّه يكون قد أسجل على نفسه أنّها صادقة فيما تدّعي كائناً ما كان من غير حاجة إلى بيّنة ولا شهود . وهذا كلام صحيح ، وإن كان أخرجه مخرج الدُّعابة والهزْل .
فأما قول قاضي القضاة : لو كانت في يدها لكان الظاهر أنّها لها ، واعتراض المرتضى عليه بقوله : إنّه لم يعتمد في إنكار ذلك على حجّة ، بل قال : لو كانت في يدها لكان الظاهر أنّها لها ، والأمر على ما قال ، فمن أين أنّها لم تخرج عن يدِها على وجه ! كما أنّ الظاهر يقتضي خلافه، فإنّه لم يجب عمّا ذكره قاضي القضاة، لأنّ معنى قوله : إنّها لو كانت في يدها ، أي متصرفة فيها لكانت اليد حجّة في الملكيّة، لأنّ اليد والتصرّف حجّة لا محالة ، فلو كانت في يدها تتصرّف فيها وفي ارتفاقها كما يتصرّف الناس في ضياعهم وأملاكهم لما احتاجت إلى الاحتجاج بآية الميراث ولابِدعوى النحل ، لأنّ اليد حجّة .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 423 _
فهلا قالت لأبي بكر : هذه الأرض في يدي ، ولا يجوز انتزاعها منّي إلاّ بحجة ! وحينئذٍ كان يسقط احتجاج أبي بكر بقوله : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ، لأنّها ما تكون قد ادّعتها ميراثاً ليحتجّ عليها بالخبر ، وخبر أبي سعيد في قوله : فأعطاها فدك ، يدلّ على الهبة لا على القبض والتصرّف، ولأنّه يقال : أعطاني فلان كذا فلم أقبِضه ، ولو كان الإعطاء هو القبض والتصرّف لكان هذا الكلام متناقضاً .
فأمّا تعجّب المرتضى من قول أبي عليّ : إنّ دعوى الإرث كانت متقدّمة على دعوى النحل ، وقوله : إنّا لا نعرف له غرضاً في ذلك ، فإنّه لا يصح له بذلك مذهب ، ولا يبطل على مخالفيه مذهب، فإنّ المرتضى لم يقف على مراد الشيخ أبي عليّ في ذلك، وهذا شيء يرجع إلى أصول الفقه ، فإنّ أصحابنا استدلّوا على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بإجماع الصحابة ، لأنّهم أجمعوا على تخصيص قوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أوْلادِكُمْ ) (1) برواية أبي بكر عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا نورّث ، ما تركناه صدقة .
قالوا : والصحيح في الخبر أنّ فاطمة ( عليها السلام ) طالبت بعد ذلك بالنحل لا بالميراث ، فلهذا قال الشيخ أبو عليّ : إنّ دعوى الميراث تقدّمت على دعوى النحل ، وذلك لأنّه ثبت أنّ فاطمة انصرفت عن ذلك المجلس غير راضية ولا موافقة لأبي بكر ، فلو كانت دعوى الإرث متأخّرة ، وانصرفت عن سخط لم يثبت الإجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد .
أمّا إذا كانت دعوى الإرث متقدّمة ، فلمّا روى لها الخبر أمسكت وانتقلت إلى النزاع من جهة أخرى ، فإنّه يصحّ حينئذٍ الاستدلال بالإجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، فأمّا أنا فإنّ الأخبار عندي متعارضة ، يدلّ
---------------------------
(1) النساء : 11 .
المحسن السبط مولود أم سقط _ 424 _
بعضها على أنّ دعوى الإرث متأخرة ، ويدلّ بعضها على أنّها متقدّمة، وأمّا في هذا الموضع متوقّف .
وما ذكره المرتضى من أنّ الحال تقتضي أن تكون البداية بدعوى النحل فصحيح ، وأما إخفاء القبر وكتمان الموت وعدم الصلاة وكل ما ذكره المرتضى فيه ، فهو الّذي يظهر ويقوى عندي ، لأن الروايات به أكثر وأصحّ من غيرها ، وكذلك القول في مَوجدتها وغضبها ، فأمّا المنقول عن رجال أهل البيت فإنّه يختلف ، فتارة وتارة ، وعلى كل حال فميل أهل البيت إلى ما فيه نصرة أبيهم وبيتهم .
وقد أخلّ قاضي القضاة بلفظة حكاها عن الشيعة فلم يتكلّم عليها وهي لفظة جيدة .
قال : قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرّم مما ارتكبا منها فضلاً عن الدين ، وهذا الكلام لا جواب عنه ، ولقد كان التكرّم ورعاية حقّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وحفظ عهده يقتضي أن تعوّض ابنته بشيء يرضيها إن لم يستنزل المسلمون عن فَدَك وتُسلم إليها تطييباً لقلبها ، وقد يسوغ للإمام أن يفعل ذلك من غير مشاورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه ، وقد بعد العهد الآن بيننا وبينهم ، ولا نعلم حقيقة ما كان ، وإلى الله ترجع الأمور (1) .
---------------------------
(1) ونحن أيضاً نقول وإلى الله ترجع الاُمور ، ورحم الله الشاعر العلوي القائل :
ليت شعري ما كان iiضرّهما الحفظ لعهد النبيّ لو iiحفظاها كان اكرام خاتم الرسُلُ iiالهادي البشير النذير لو iiأكرماها ولو ابتيع ذلك بالثمن iiالغالي لما ضاع في اتباع iiهواها أترى المسلمين كانوا يلومونهما في العطاء لو iiأعطياها كان تحت الخضراء بنت iiنبيّ صادق ناطق أمين iiسواها
المحسن السبط مولود أم سقط _ 425 _
النص الثامن : قال ابن أبي الحديد (1) في شرح قوله ( عليه السلام ) :
أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ ، وَمُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فلمَّا مَضى ( صلى الله عليه وآله ) تنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الأمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَوَاللهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي ، وَلاَ يَخْطُرُ بِبَالِي ، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هذَا الأمْرَ مِنْ بَعْدِهِ ( صلى الله عليه وآله ) عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ، وَلاَ أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ ، فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلاَن يُبَايِعُونَهُ ، فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الاِْسْلاَمِ ، يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دِينِ محمّدٍ ( صلى الله عليه وآله ) ، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الاِْسْلاَمَ وأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً ، تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عليّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَيَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلاَئِلَ ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ ، كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ ، أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ ، فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الاَْحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ ، وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ .
روى أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لمّا مات اجتمعت أسدٌ وغطفانُ وطيئ على طُلَيْحة بن خُويلد إلاّ ما كان من خواصّ أقوام في الطوائف الثلاث ، فاجتمعت أسد بسميراء ، وغطفان بجنوب طيبة ، وطيئ في حدود أرضهم ، واجتمعت ثعلبة بن أسد ومن يليهم من قيس بالأبرق من الربذة ، وتأشّب إليهم ناسُ من بني كنانة ، ولم تحملهم البلاد ، فافترقوا فرقتين : أقامت إحداهما بالأبرق ، وسارت الأخرى إلى ذي القصة ، وبعثوا وفوداً إلى أبي بكر يسألونه أن يقارّهم على إقامة الصلاة ومنع الزكاة ، فعزم الله لأبي بكر على الحق ، فقال : لو منعوني عِقالاً لجاهدتهم عليه .
ورجع الوفود إلى قومهم فأخبروهم بقلة من أهل المدينة ، فأطمعوهم فيها ، وعلم أبو بكر والمسلمون بذلك ، وقال لهم أبو بكر : أيّها المسلمون ، إنّ الأرض
---------------------------
(1) شرح ابن أبي الحديد 17 : 151 / 168 .