الفهرس العام


الباب الثالث : وفيه ثلاثة فصول :
1 ـ وقفة مع المؤرّخين :
2 ـ من ذا سنختار من المصنّفين :



   مؤلّف نسمات الأسحار قال في كتابه (1) : ( ومحسناً أسقطته سقطاً ) .
  هذه أسماء الذين ذكروا أنّ المحسن كان سقطاً ، فوقفت على أسمائهم فعلاً ، ولا شك أنّه قد فاتني الكثير غيرهم ، كما لم أذكر معهم من مؤرخي القدامى كالمسعودي واليعقوبي وابن أعثم لعدّهم أو بعضهم من الشيعة ، وان اعتمدهم أو بعضهم غير واحد من السنة كالذهبي وابن حجر في مقامات أخرى .
  وإذا أمعنّا النظر في أعداد الأصناف الثلاثة نجدها جميعاً ناهزت المائة ، لأنّ رجال الفصل الأول كانوا أربعين ، ورجال الفصل الثاني نيّفوا على الثلاثين ، ورجال الفصل الثالث كانوا خمساً وعشرين ، وكلهم من رجال السنّة ، ولا يتطرق الريب إلى اتهامهم بالرفض جميعاً وممالاة الشيعة .
  وإذا قارنّا بين أعداد الفصول ، فنجد الفصل الأول فاق الفصلين الثاني والثالث ، ولمّا كان في مصادره ذكر المحسن فقط ، ولم تفصح عن موته فهل مات صغيراً كما في مصادر الفصل الثاني ؟ أو مات سقطاً كما هو في مصادر الفصل الثالث ؟ فحينئذٍ لا تعارض بينها .
  ومرّت بنا في مصادر الفصل الثاني بعض المؤشرات التي تدل على تعمد الابهام والايهام ، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك تعقيباً على ما قاله البلاذري والبري التلمساني ، وما قاله ابن حزم ، مما يجعلنا في ريبة من صدق قول الآخرين ، بل تعمّدهم كتمان الحقيقة في موت المحسن السبط وأنّه السقط ، كما جاء في مصادر الفصل الثالث .
  ونحن إذا قرأنا تاريخ سيدة النساء فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في أخريات أيام النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وما جرى لها من حديث معه في مرضه الذي توفي فيه ، نجد مؤشراً

---------------------------
(1) نسمات الاسحار : 109 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 127 _

  يلزمنا بالوقوف عنده ، وذلك حين نقرأ ما أخرجه كل من الطبراني ، وأبو نعيم ، وابن مندة ، وابن عساكر وغيرهم ، وأخرجه عنهم الهيثمي في مجمع الزوائد (1) ، كما رواه السيوطي في الجامع الكبير ، وعنه المتقي الهندي في كنز العمّال (2) ، ورواه الزرقاني في شرح المواهب (3) ، وإليك لفظ الحديث بلفظ مجمع الزوائد عن أبي رافع قال :
  جاءت فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بحسن وحسين إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في مرضه الذي قبض فيه ، فقالت : هذان ابناك فورثهما شيئاً ، فقال لها : أما حسن فله ثباتي وسؤددي ، وأما حسين فإنّ له حزامتي وجودي .
وبتفاوت يسير في اللفظ في المصادر الأخرى ، وقد رواه من الشيعة أيضاً الطبري الامامي في دلائل الإمامة (4) وغيره .
  والذي يسترعي الانتباه أنّها لم تذكر المحسن مع أخويه ، فهو لا يخلو حاله إما أن يكون بعدُ لم يولد ـ وهو كذلك لما سيأتي ـ وإما أن يكون قد ولد ومات صغيراً ، كما ذكره من زعمه ممن قد مرّ ذكرهم في الفصل الثاني ، فلذلك لم تذكره أمّه باعتباره سالبة بانتفاء الموضوع ، غير أنّ أولئك الذين ذكروا موته صغيراً ، لم يذكروا لنا عن عمره وزمان وسبب موته ولا شيئاً عن دفنه ، وهذا منهم على غير عادتهم حين يذكرون موت أبناء الذوات ، فضلاً عن أبناء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأسباطه ، فقد ذكروا شيئاً من ذلك في موت إبراهيم ابن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وذكروا عن موت عبد الله بن رقية بنت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ومرت الاشارة إلى بعض من ذلك .

---------------------------
(1) مجمع الزوائد 9 : 184 / 185 .
(2) كنز العمال 13 : 102 .
(3) شرح المواهب 2 : 207 .
(4) دلائل الامامة : 3 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 128 _

  فسكوتهم عن جميع ذلك في المحسن ، مع اعترافهم بأنّه كان ولداً لفاطمة واسمه المحسن ، وأنه مات صغيراً ، فيه تعمد استبهام ، وعليه أكثر من علامة استفهام ، لذلك يبقى الذين ذكروا أنّه مات سقطاً ، هم أقرب إلى واقع الحدث من غيرهم ، خصوصاً وانّ شواهد الأحداث المتلاحقة يوم إسقاطه تؤيّدهم .
  فثمة إتساق داخلي وواقعي بين مضمون رواية موته سقطاً من أثر زحم قنفذ وغيره ، وبين روايات أخرى تضمّنت ذكر الأحداث المريعة في ذلك اليوم ، كمجيء عمر بن الخطاب ومعه جماعة ـ كما سيأتي ذكرهم بأسمائهم ، نقلاً عن مصادر أتباعهم ـ ومعهم الحطب ، وهم يهددون بإحراق دار فاطمة على مَن فيها ، وممانعة فاطمة لهم ثم ، وثم ... إلى ما هنالك من أحداث متتالية .
  كل ذلك يستدعي الوقفة الفاحصة بالنظر إلى تلك الصور المرعبة والمريعة ، والتي لا تحتمل رؤيتها أنظار كثير من المسلمين لبشاعتها وفضاعتها ، إما لضغط الرواسب الموروثة في تقدير الشخوص والرموز ، أو لعظم الأحداث فلا يكاد يصدّق بها حتى من لم يؤمن بقداسة الموروث لعظيم الرزية وعظم الضحية ، ويبقى التصديق نصيب من وضحت عنده الرؤية ، بعد إزالة غشاء التضليل عن عينيه ، فيقرأ النص في ملابسات الحديث فيما له وعليه .
  وكم قرأنا نماذج تشير إلى حدوث السقط على استحياء أو استخذاء أمام الرأي العام المحكوم لإعلام الحاكمين ، وحتى في العصر الحديث ـ عصر حرية الرأي وحرية التعبير _ نجد بعض الكتّاب المحدثين يراوغ أو يصارع مع نفسه حين يقول : ( ولم يكن بالزهراء من سُقم كامن يعرف من وصفه ، فإنّ العرب وصّافون ـ وإن كان حولها من آل بيتها لمن أقدر العرب على وصف الصحة والسقم ـ فما وقفنا من كلامهم وهم يصفونها في أحوال شكواها على شيء يشبه أعراض الأمراض التي تذهب بالناس في مقتبل الشباب ، وكل ما يتبين من

المحسن السبط مولود أم سقط _ 129 _

  كلامهم أنه الجهد ، والضعف ، والحزن ، وربما اجتمع إليها اعياء الولادة في غير موعدها ، إن صح أنها أسقطت محسناً بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما جاء في بعض الأخبار (1) ).
  كما نجد نمطاً آخر من القدامى يذكرون خبر إسقاط المحسن وينسبونه إلى الشيعة ، ثم هم لا يزيدون على ذلك نفياً ، أليس يعني ذلك هو الإمضاء على استحياء أو استخذاء ، وربما هو التصديق ، ولكن على خوف عند التحقيق.
  فمن هؤلاء المقدسي ( ت 355 هـ ) في كتاب البدء والتاريخ (2) ، قال عند ذكر أولاد فاطمة ( عليها السلام ) : ( وولدت محسناً ، وهو الذي تزعم الشيعة أنّها أسقطته من ضربة عمر ).
  ومن هؤلاء أيضاً أبو الحسين الملطي ( ت 377 هـ ) في كتابه التنبيه والرد (3) ، قال : ... ( فزعم هشام ... إنّ أبا بكر مرّ بفاطمة ( عليها السلام ) فرفس في بطنها فأسقطت ، وكان سبب علتها ووفاتها ... وأنّه غصبها فدكاً ).
  أما آخرون ذكروا الحدث ـ إسقاط المحسن ـ ونسبوه إلى الشيعة ، ونددوا بهم إذ لم يتهضموا إدانة الشخوص ، ولم يأتوا بحجة مقبولة ، ولم يستندوا إلى ركن وثيق ، فمنهم ابن حجر المكي الهيتمي ( ت 974 هـ ) في الصواعق المحرقة (4) ، قال : ( ألا ترى إلى قولهم ـ يعني الشيعة ـ انّ عمر قاد علياً بحمائل سيفه ، وحصر فاطمة فهابت فأسقطت ولداً اسمه المحسن ... ).
  ومنهم العصامي المكي ( ت 1111 هـ ) في سمط النجوم العوالي (5) ، وقد اجتر ما قاله ابن حجر كما مر ولم يزد عليه شيئاً .
  ومنهم أحمد زيني دحلان ( ت 1304 هـ ) في الفتح المبين (6).

---------------------------
(1) عباس محمود العقّاد ( فاطمة الزهراء والفاطميون ) : 68 .
(2) البدء والتاريخ 5 : 20.
(3) التنبيه والرد : 25 / 26 .
(4) الصواعق المحرقة : 51 .
(5) سمط النجوم العوالي 2 : 295 .
(6) الفتح المبين 1 : 87 ، ( بهامش السيرة النبويّة ) .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 130 _

  وهكذا يبقى الشيعة هدفاً لاتهامات من لا يرعوي لصدق ولا يذعن لحق .
  وما أدري ما ذنب الشيعة إذا كانوا رووا ما رواه غيرهم أيضاً في أحداث يوم هجوم الشلّة على دار الزهراء ( عليها السلام ) ، وكان منها إسقاط المحسن ، وقد مرت بنا في الفصول الثلاثة أسماء من اعترفوا بالمحسن كحقيقة ثابتة ، ثم مرّ بنا في الفصل الثاني من زعم أنه مات صغيراً ، وذلك ستراً على المهاجمين ، ثم قرأنا أسماء من ذكروا أنه كان سقطاً ، وكل اولئك من غير الشيعة ، فلماذا يدان الشيعة ويُندّد بهم ؟
  والجواب بكل بساطة : لأنّهم تبعوا الحق فقالوا الحقيقة ، وهذا يدين رموز الخالفين بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) والإدانة فيها المهانة ، وهذا لا ينبغي في لغة الحاكمين ، ومع كل ما اتخذوا من وسائل الإغراء والوعيد في رفع الإصر عنهم لم يتمكنوا من كمّ الأفواه جميعاً ، فوصل إلينا ما قد وصل ، ولنا الحجة على المنكرين فيما حصل .
  ولنختم هذا الباب ـ الثاني ـ بحوار جرى بين ابن أبي الحديد المعتزلي ، وبين شيخه الشريف يحيى بن أبي زيد العلوي الزيدي ( المتوفى قبل644 هـ ) ، فقد روى ابن أبي الحديد في شرح النهج (1) عن ابن إسحاق خبر ترويع هبار بن الأسود الفهري لزينب بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فروّعها بالرمح وهي في الهودج وكانت حاملاً ، فلما رجعت طرحت ما في بطنها ، وقد كانت من خوفها رأت دماً وهي في الهودج ، فلذلك أباح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوم فتح مكة دم هبار بن الأسود (2) .

---------------------------
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 351 .
(2) قال ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة زينب ( عليها السلام ) : وتوفيت زينب بنت رسول الله في حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سنة ثمان من الهجرة ، وكان سبب موتها أنها لما خرجت من مكة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عمد لها هبار بن الاسود ورجل آخر ، فدفعها أحدهما فيما ذكروه ، فسقطت على صخرة فأسقطت وأهرقت الدماء، فلم يزل بها مرضها ذلك حتى ماتت سنة ثمان من الهجرة .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 131 _

  ثم قال ابن أبي الحديد : قلت : وهذا الخبر أيضاً قرأته على النقيب أبي جعفر ( رحمه الله ) فقال : إذا كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أباح دم هبّار بن الأسود لأنه روّع زينب فألقت ذا بطنها ، فظهر الحال أنه لو كان حياً لأباح دم من روع فاطمة حتى ألقت ذا بطنها ، فقلت : أروي عنك ما يقوله قوم إنّ فاطمة رُوّعت فألقت المحسن ؟ فقال : لا تروه عنّي ، ولا ترو عنّي بطلانه ، فإنّي متوقف في هذا الموضع ، لتعارض الأخبار عندي فيه .
  أقول : وإذا كان النقيب أبو جعفر متوقف في هذا الموضع لتعارض الأخبار عنده فيه ، فإنّا لسنا من المتوقفين فيه ، بل هو من الثابت عندنا لتواتر الخبر فيه عند الشيعة منذ عصر الحَدَث وحتى يومهم الحاضر ، وقد وردت روايات أهل البيت في ذلك ، بل لقد وردت رواية نبوية تشير إلى وقوع الحدث قبل وقوعه ، وهي في نفسها تكفي في الإثبات ، لأنّها من رواية الأثبات ، وحسبنا أنّها مما رواه ابن عباس ـ حبر الأمة وترجمان القرآن ـ عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأخرجها الحمويني الشافعي في كتابه فرائد السمطين (1) ، باسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : انّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان جالساً إذ أقبل الحسن ، فلما رآه بكى ، ثم قال : إليّ يا بني ... ثم أقبل الحسين فلما رآه بكى ، ثم قال : إليّ يا بني ... ثم أقبلت فاطمة ... فلما رآها بكى ، ثم قال : إلي ... ثم أقبل أمير المؤمنين فلما رآه بكى ، ثم قال : إلي ... فسأله أصحابه عن بكائه ، فقال ـ ثم ذكر ما سيجري على كل واحد منهم فكان مما قاله في حق ابنته فاطمة : ـ وأما ابنتي فاطمة فإنّها سيدة نساء العالمين ... وإنّي لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي ، كأنّي بها وقد دخل الذل بيتها ، وانتهكت حرمتها ، وغُصب حقها ،

---------------------------
(1) فرائد السمطين 2 : 34 / 35 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 132 _

  ومنعت إرثها ، وكسر جنبها ، وأسقطت جنينها ، وهي تنادي يا محمد فلا تجاب ، وتستغيث فلا تغاث ، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية ...
  وهذا الخبر قد مرّ بتمامه قبل هذا في ص 121 فراجع .
  وقد رواه الشيخ الصدوق في الأمالي بسند معتبر عن ابن عباس أيضاً (1) ، كما رواه الفضل بن شاذان في الفضائل (2).

---------------------------
(1) راجع الأمالي : 99 / 101 .
(2) الفضائل : 8 / 11 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 133 _

الباب الثالث : وفيه ثلاثة فصول :


  الفصل الأول :
  (1) وقفة مع المؤرّخين .
  (2) من ذا سنختار منهم .
  (3) نظرة في المصادر .
  الفصل الثاني :
  (1) ما هي الأحداث .
  (2) وقفة عند الأحداث .
  (3) نتائج الأحداث .
  الفصل الثالث :
  (1) تمهيد .
  (2) لكل سؤال جواب .
  (3) نصوص ثابتة .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 135 _

  الفصل الأول: ونقرأ فيه :
  1 ـ وقفة مع المؤرّخين .
  وأعني بهم ، كل من روى لنا رواية تتعلق بالحدث ، سواء كان من المؤرّخين الأخباريين ، أو من المحدّثين أهل الحديث .
  2 ـ من ذا سنختار منهم ؟
  3 ـ نظرة في المصادر .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 136 _

1 ـ وقفة مع المؤرّخين :

  والحاجة إليها لا لمحاسبتهم فقط على مواقفهم المتخاذلة في تسجيل الأحداث بصدق كما ينبغي ، وهذا هو جزء من الحساب عليه الثواب والعقاب يوم الحساب ، لكن الذي نقف عنده ونتساءل عنه تلك المعايير المزدوجة في تسجيلهم الأحداث ، وهو الذي يسترعي الإنتباه ، وهذا ما لمسناه عند مؤرخي الوقائع التي صاحبت شهادة ( المحسن السبط السقط ) من قبل ومن بعدُ .
  لذلك هم وحدهم يتحملون وزر ما يذكرون ، ولا يخفّف عنهم إصر التبعات ذكرهم اسناد الروايات ، فإنّ رجال السند أيضاً هم ناس أمثالهم ، فيهم الموثوق بروايته فيروي لنا ما يعرف ، وفيهم غير الموثوق بروايته ، فهو يهرف بما يعرف وما لا يعرف ، عن كل من هبّ ودبّ ، تبعاً لما عنده من أهواء وما لديه من انتماء ، فقد يميل عن سنن الحق وإن تلبس بلباس أهل الصدق ، غير آبهٍ أن يغضب لذلك مَن يغضب ، أو يرضى مَن يرضى ، والمهم عنده إرضاء نفسه وإشباع رغباته ون ـ زواته ، مما شب عليه من موروث .
  وهذه حال الناس في كلّ زمان ومكان ، إلاّ من صَانه الله بورع يحجزه عن اتباع الهوى ، ومهما احتطنا في أخذ الوقائع من كتب المؤرّخين ، سواء من وثّق تسجيله بإسناد ، أو أرسل ذكره ، فإنّا سنختار ثلّة تتفق رواياتهم ولو إجمالاً في أصل ذكر الحَدَث ، وإن اختلفوا في السند أو تفاصيل المتن ، ومن مختلفي الشرائح زماناً ومكاناً .
  كما إنّا سنقف على مجمل أحوالهم من خلال كتب الجرح والتعديل في تراجمهم ، لغرض التوثق في سياق الحجة واستبعاد التهمة عنهم .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 137 _

  ولا شك ليس كلهم على درجة واحدة في الإعتبار ، ومن ذا الذي يسلم من جرح ، وليس فيهم الأوحدي الذي خلصت سريرته فطهرت سيرته ، وقبلت روايته من دون تهميش بغمز أو بلمز .
  ولمّا كنّا أمام قراءة نصوص تحكي أخبار وقائع حدثت في الصدر الأول من عصر الصحابة ، وكان من رموزها ممّن تبوّأ مكان الصدارة في المجتمع ، بحق أو بغير حق ، بما فيهم من مهاجرين وأنصار الّذين تبوؤا الدار والإيمان ، إلاّ أنّهم أساؤوا إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) في خلافتهم إلى أهل بيته وعترته ، فلم يرعوا له فيهم حقاً ولا حرمة ، فعدوا عليهم بالإساءة وهو بعدُ بين ظهرانيهم ، لم يواروا الجدَثَ حتى أحدثوا الحدث .
  ومن الطبيعي أن يثير سلوكهم ذلك حفائظ الآخرين ممّن لم يزالوا مواظبين ومحافظين على ولائهم لأهل بيت نبيهم ، ولم يشيبوا إيمانهم بظلم أبداً .
  ومن هنا بدأت الفُرقة ، وتشرذمت الكلمة والجماعة ، وهُدّت دعائم الوحدة التي أقامها النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالمؤاخاة والمفادات .
  وصار التاريخ يروي لهؤلاء ولهؤلاء ، وفي المنقول بعض المعقول والمقبول كما فيه كثير من الهراء والافتراء ، فضاعت بعض الحقائق في ركام التقية لمصلحة المحكومين ، وضاعت أكثر في ضبابية التعتيم السياسي لمصلحة الحاكمين ، وفي إطار من العوامل النفسية العاصفة والمضطربة التي كانت سائدة حينذاك رويت ( قضية السقيفة ) التي هي أساس الفرقة والفجائع ، وما جرى هناك من غرائب الوقائع .
  وكلما ورد من الروايات عن تلك الفترة ، وما جرى فيها من أحداث رواها الرواة ، وسجّلها المؤرّخون ، فهي كما قال عنها الاستاذ عبد الفتاح مقصود المصري في كتابه ( السقيفة والخلافة ) (1) : ( إنك لتلمح في صور هذه الروايات

---------------------------
(1) السقيفة والخلافة : 34 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 138 _

  وأوضاعها ألواناً شتى من الدقائق والتفصيلات لها من ( الحبكة ) ما يظهرها _ لفرط إحكامها وتوثق نسجها _ وهي أشبه بما يقع في الأقاصيص الموضوعة منها بما يكون في واقع الحياة .
  ثم نعثر فيها على ( الصدفة ) التي تطرأ عفواً بلا مقدمات وعلى غير ميقات ، حتى ليوشك من يتحسّسها أن يحسبها قد أقحمت إقحاماً ، لتؤدي دوراً مرسوماً أريد لها أن تؤديه فأدّته بإحكام كما هو مرسوم .
  ثم تجد ( التعاقب الحَدَثي ) الذي ينساب في نسق منتظم طيّع ، إنسياب سلسلة لِدنةتماثلت حلقاتها كل التماثل ، طولاً وعرضاً ، وزناً وحجماً ، لوناً وهيئة ، أصلاً ومعدناً ، فلا تزيد منها حلقة أو تنقص حلقة عن أخواتها الأخريات بمثل ذرة من غبار ، حتى لتظهر حوادثها ـ لدقة تواترها وانتظامها ـ وهي أدنى إلى ما يجري على مسارح التمثيل .
  وليس من ريب في أنّ الإغراق كل الإغراق في التأليف بين هذه الجوانب والتفصيلات كفيل بأن يصيغها بصيغة الحقيقة ، ولكنها الصبغة التي لا يمكن أن تصنع من الزيف حقيقة .
  وليس أيضاً من ريب في أن الحرص البالغ على أن تبيّن بعض الأحداث المروية أمام الأفهام كأنها طبيعية ، خليق بأن يشي بأنها ليست طبيعية .
  ولسوف نتبيّن من بعد نماذج من ( الحبكة ) و ( الصدفة ) و ( التعاقب الحدثي ) المحكم الإنسياب ، وغيرها من سمات الروايات القصصية التي يدبّجها الابتداع ، واضحة جليّة في الروايات التاريخية التي جاءتنا بالسقيفة على ألسنة رواة الأخبار .
  لكن قطعة الزجاج المصقول المتلألئ ، لا يغيّر من طبيعتها أن تبدو كأنها من مأسي ، وقطعة الماس الغشيم الخام لا يغيّر من طبيعتها أن تبدو كأنها حصاة ، فالحقيقة ثابتة لا تضيع لأنها غير قابلة للذوبان في أحماض الترهات ، ولا للاحتراق في نيران المغالطات ).

المحسن السبط مولود أم سقط _ 139 _

  أقول : فعلينا أن لا نتسرع في الحكم رعاية لرضا من يرضى ، أو اغاضة سخط من يسخط ، فلسنا قضاة موقف ، بل علينا أن نستعرض الأحداث بجميع حيثياتها من خلال قراءة رواياتها ، من مصادرها المقبولة لدى الراضي والساخط ، بعد الانتقاء مما شيب بالتلميع أو التشنيع .
  أما اختيارنا لمجموعة المؤرّخين ، فسيكون كما أشرنا من قبل من مختلفي المشارب والمذاهب ، بل وحتى من مختلفي البقاع والاصقاع في الشرق والغرب ، فمن الدينور إلى الأندلس .
  وهؤلاء ليس فيهم جميعاً من الشيعة أحد، لأنّهم سرعان ما تتناولهم ألسنة الطاعنين بأسنّة القدح والتجريح ، وأنّهم لا يحتج بهم في المقام لأنّهم رافضة ؟ !
  ومع كل هذه الحيطة ، لم نعدم زعم الزاعمة ولا تنطع راغم : إنّ المؤرّخ الفلاني لا يعتمد قوله لأنّه يميل إلى الرفض ، كما قيل عن ابن جرير الطبري ، والحاكم النيسابوري ، والمسعودي الشافعي ، وغيرهم .
   بل تتصاعد حمّى التجريح للمؤرّخ إذا روى ما يدين السلف ، ويجرح كبرياء الذات لدى الجارح ، ألم يقولوا عن الشهرستاني صاحب الملل والنحل الذي هو في أشعريته أشهر من أن يذكر ، وأظهر من نار على علم ، قالوا : بأنّه غال في التشيع ؟
  والرجل في كتابيه ( الملل والنحل ) و ( نهاية الإقدام في علم الكلام ) يحمل على الشيعة بلا هوادة ، وأحسب فيما أظن أتاه التجريح لأنّه روى في كتابه ( الملل والنحل ) قول النظام ـ من شيوخ المعتزلة ـ في الهجوم على بيت الزهراء ( عليها السلام ) ، وضربها وإسقاطها المحسن السبط .
  وإن عزّت تلك التهم في إلصاقها بالمؤرخ ، فثمة نفثة تسرب الشك في نسبة المصدر إلى صاحبه ، ليسقط الكتاب الذي روى الحَدَث عن الإعتبار ما دام لم

المحسن السبط مولود أم سقط _ 140 _

  تصح نسبته إلى مؤلفه ، كما قيل ذلك في ابن قتيبة وكتابه ( الإمامة والسياسة = تاريخ الخلفاء الراشدين ) وسيأتي الحديث عنه مفصلاً ، واثبات صحة النسبة في الملحق الثالث في آخر الكتاب .
  وإذا أوصدت أبواب التجريح والشك في وجوه الباغين ، فثمة أبواب التصحيف والتحريف مفتوحة للراغبين ، وهذه الحال تسببت في ضياع كثير من الروايات ذات الدلالة على الإثبات ، كما وقع بعضه في كتاب ( المعارف ) لابن قتيبة ، وسيأتي ما ينفع في المقام في الملحق الثاني في آخر الكتاب .
  وما كان ذلك ليحدث لو كانت الذمم تراقب الله ورسوله وتخشى سوء الحساب ، ولكنّها عمدت وتعمّدت على إخفاء الحقائق انتصاراً لمن حادّ الله ورسوله ، وتضييعاً لمعالم الجريمة ، فضاعت حقائق كثيرة ، وما وصل إلينا فهو فلتة من فلتات الزمان ، وتبقى الإدانة مؤودة في سلة الخيانة :
كم   حادث   جلل  في  الكتب  نقرؤه      لذي   الكتاب   وللراوين   فيه  iiهوى
فضيّع  الحق  من  يهوى  لغير  هدى      ومبلغ العذر أقصى ان ندين لمن روى
  فإنّا لله وإنّا إليه راجعون .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 141 _

2 ـ من ذا سنختار من المصنّفين :

  إنّا سنختار بعون الله ـ وهو من وراء القصد ـ مجموعة من مشاهير المحدّثين والمورّخين ، بدءاً من القرن الثاني وانتهاء بالقرن العاشر الهجري ، ومروراً فيما بينهما من قرون ، ونختار من مؤلّف كلّ منهم نصّاً أو أكثر ممّا يدين السلف الجاني بسوء ما صنعوا ، ومن المتوقع أن تفح أفاعي النواصب ، إذ لا ترضى بكشف ما جهدوا على ستره بحجة : ذلك أمر حدث وانتهى دوره ، فلا حاجة إلى إعادة ذكره ونشر خبره ، وهذه نغمة قيلت ولا تزال تقال لإخفاء الحقائق وحجبها عن أجيال المسلمين ، لتُنسى ثم تُمحى من الذاكرة ، وفي هذا بلاء عظيم ، وسيأتي مزيد عن هذا في مواقف علماء التبرير .
  والآن إلى معرفة المصنّفين الّذين سننقل النصوص من كتبهم :
  1 ـ محمّد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي ( ت 152 هـ ) ، قال فيه شعبة : محمّد بن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث (1) ، وقال : لو كان لي سلطان لأمّرت ابن إسحاق على المحدّثين (2) .
  وقال يحيى بن معين وقد سئل عنه فقال : ليس هو عندي بذاك ولم يثبته وضعّفه ، ولم يضعفه جداً ، فقيل له : ففي نفسك من صدقه شيء ؟ قال : لا ، كان صدوقاً (3) .

---------------------------
(1) الكامل لابن عدي 6 : 107 .
(2) المصدر نفسه .
(3) المصدر نفسه 6 : 106 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 142 _

  ولم يسلم من جرح معاصره مالك بن أنس ، فقيل له : انّ محمّد بن إسحاق يقول : إعرضوا عليّ علم مالك فإنّي أنا بيطاره ، فقال : انظروا إلى دجال من الدجاجلة يقول : إعرضوا عليّ علمي (1) .
  وقد ترجمه الخطيب في تاريخ بغداد ودافع عنه فراجع، قال ابن عدي في الكامل (2) : ولو لم يكن لابن إسحاق من الفضل إلاّ أنّه صرف الملوك عن كتب لا يحصل منها شيء ، فصرف أشغالهم حتى اشتغلوا بمغازي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومبتدأ الخلق ومبعث النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فهذه فضيلة لابن إسحاق سبق بها ، ثم بعده صنفه قوم آخرون ، ولم يبلغوا مبلغ ابن إسحاق فيه ، وقد فتشت أحاديثه الكثيرة فلم أجد في أحاديثه ما يتهيأ أن يقطع عليه بالضعف ، وربما أخطأ أو وهم في شيء بعد الشيء ، كما يخطيء غيره ولم يتخلف عنه في الرواية عنه الثقات والأئمة وهو لا بأس به .
  2 ـ عبد الرزاق بن همام صاحب المصنف ( ت 211 هـ ) ، قال ابن عدي : ولعبد الرزاق بن همام أصناف وحديث كثير ، وقد رحل إليه ثقات المسلمين وأئمتهم وكتبوا عنه ، ولم يروا بحديثه بأساً ، إلاّ أنّهم نسبوه إلى التشيع ، وقد روى أحاديث غيرهم مما لم أذكره في كتابي هذا ، وأما في باب الصدق فأرجوا أن لا بأس به ، إلاّ أنّه قد سبق منه أحاديث في فضائل أهل البيت ومثالب آخرين مناكير (3) .
  أقول : ومن الغريب أن يقول ابن عدي ذلك ، وهو الذي روى لنا قول عبد الرزاق : الرافضي كافر (4) ، وروى لنا قوله : لأفضّل الشيخين بتفضيل عليّ إياهما

---------------------------
(1) المصدر نفسه 6 : 106 .
(2) المصدر نفسه 6 : 112 .
(3) المصدر نفسه 5 : 315 .
(4) المصدر نفسه 5 : 312 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 143 _

  على نفسه ، ولو لم يفضّلهما لم أفضّلهما ، كفى بي إزراء أن أحبّ علياً ثم أخالف قوله (1) .
  فأين التشيع الذي نسبوه إليه ؟ !
  وأما أحاديث الفضائل التي رواها مما لا يوافقه عليها أحد من الثقات ، فهذه دعوى تحتاج إلى إثبات ، وبين أيدينا كتابه المصنف وهو موسوعة جليلة ، وكل ما وقفنا عليه من أحاديث الفضائل وجدنا المحقق للكتاب ذكر في الهوامش تخريجها عن مصادر الآخرين .
  وحسبي الإشارة في المقام إلى ما أخرجه ابن عدي نفسه من حديث زعم نكارته فقال : حدّثنا أحمد بن محمّد الشرقي قال : ذكر أبو الأزهر قال : كان عبد الرزاق قد خرج إلى ضيعته ، فخرجت خلفه وهو على بغلة له فالتفت فرآني ، فقال : يا أبا الأزهر تعنّيت ها هنا ، فقال : اركب .
  قال : فأمرني فركبت معه على بغلة ، فقال : ألا أخصّك بحديث أخبرني معمر عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لعلي : أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة ، من أحبك فقد أحبني ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، وحبيبك حبيب الله ، وبغيضك بغيض الله ، والويل لمن أبغضك بعدي .
  قال أبو الأزهر : فلما قدمت بغداد كنت في مجلس يحيى بن معين ، فذاكرت رجلاً بهذا الحديث ، فارتفع حتى بلغ يحيى بن معين ، قال : فصاح يحيى بن معين فقال : من هذا الكذاب الذي يروي هذا عن عبد الرزاق ، قال : فقمت في وسط المجلس قائماً ، فقلت : أنا رويت هذا الحديث عن عبد الرزاق ، وذكرت له حتى خرجت به إلى القرية ، قال : فسكت يحيى ، قال ابن عدي : قال لنا الشرقي : هذا الحديث بعضه سمعت من أبي الأزهر .

---------------------------
(1) المصدر نفسه 5 : 312 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 144 _

  أقول : فهذا الحديث سبق وأن رواه في ترجمة أحمد بن الأزهر (1) وقال عقبه : وأبو الأزهر هذا بصورة أهل الصدق ، وقد روى عنه الثقات من الناس ، وأما هذا الحديث عن عبد الرزاق ، وعبد الله من أهل الصدق ، وهو ينسب إلى التشيع فلعله شبّه عليه لأنّه شيعي .
  هذا ما عقب به ابن عدي ، وهو مردود عليه بتثريب ، فقد مرّت منّا مناقشة تهمة التشيع لعبد الرزاق ، ثم انّ الحديث المذكور أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (2) في ترجمة أبي الأزهر بأسانيد متعددة ، ثم قال بعد ذكره الحديث : قلت : وقد رواه محمّد بن حمدون النيسابوري ، عن محمّد بن عليّ بن سفيان النجار ، عن عبد الرزاق ، فبرئ أبو الأزهر عن عهدته إذ قد توبع على روايته .
  ورواه الحاكم النيسابوري في المستدرك (3) بعدة أسانيد وقال : صحيح على شرط الشيخين، وأبو الأزهر باجماعهم ثقة ، وإذا تفرّد الثقة بحديث فهو على أصلهم صحيح ، وقال الذهبي في التلخيص : رواته ثقات ...
  ورواه أحمد بن حنبل في مناقب الإمام في الحديث رقم : 214 ، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط كما في مجمع الزوائد (4) وقال : رجاله ثقات ، ورواه المحب الطبري في الرياض النضرة (5) وقال : أخرجه أحمد في المناقب ، وأبو عمر ، وأبو الخير الحاكمي .
  فبعد هذا التظافر على نقل الحديث وتوثيق رواته لاجناح على عبد الرزاق لو رواه ، وقد وافقه على روايته الثقات ، لا كما قال ابن عدي .

---------------------------
(1) المصدر نفسه 1 : 193 ، ترجمة : أحمد بن الأزهر .
(2) تاريخ بغداد 4 : 41 .
(3) مستدرك النيسابوري 3 : 127 .
(4) مجمع الزوائد 9 : 133 .
(5) الرياض النضرة 2 : 219 ، و 334 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 145 _

  وأما اتهامه بروايته المثالب في الآخرين ، فلم يذكر لنا ابن عدي منها سوى حديث : ( إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه ) (1) .
  وهذا حديث ذكر له هو نفسه عدة أسانيد ، وقد رواه من الحفاظ جمع كثير منهم الخطيب البغدادي ، والخطيب الخوارزمي ، ونصر بن مزاحم ، وأحمد بن حنبل ، والطبري ، وابن أبي الحديد ، والذهبي ، وابن حجر ، والسيوطي ، والمناوي ، وأبو الفداء ، والبوصيري وغيرهم وغيرهم ، وقد تلاعبت الأهواء فيه بالتحريف والتصحيف بما لا يسع المجال ذكره ، وقد ذكرت جانباً منها في اعترافات خطيرة في تحريف الحديث والتاريخ والسيرة .
  3 ـ نصر بن مزاحم المنقري ( ت 212 هـ ) ، كوفي المنشأ بغدادي السكنى ، وحدّث ببغداد عن سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وآخرين ، كما روى عنه أبو الصلت الهروي وأبو سعيد الأشج وجماعة من الكوفيين .
  ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد (2) ، وترجم له ياقوت في معجم الأدباء (3) ، وقال : كان عارفاً بالتاريخ والأخبار ، وذكر مصنفاته ابن النديم في الفهرست (4) .
  وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال عنه ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي : ( فهو ثقة ، صحيح النقل ، غير منسوب إلى هوى ولا إدغال ، وهو من رجال أصحاب الحديث ) (5) .
  ولم يسلم من تجريح العقيلي في ضعفائه (6) حيث قال : شيعي ، في حديثه اضطراب وخطأ كثير ، من حديثه ما حدّثناه عليّ بن العباس ... قال : حدّثنا محمّد

---------------------------
(1) الكامل 5 : 314 .
(2) تاريخ بغداد 23 : 282 / 283 .
(3) معجم الأدباء 19 : 225 .
(4) الفهرست : 137 .
(5) شرح النهج 2 : 206 .
(6) الضعفاء للعقيلي 4 : 300 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 146 _

  بن عمارة بن صبيح ، قال : حدّثنا نصر بن مزاحم ، عن قيس ، عن جابر ، عن عامر ، عن ابن عباس ، قال : قيل : يا رسول الله متى كنت نبياً ؟ قال : وآدم بين الروح والجسد .
  حدّثنا محمّد بن محمّد الكوفي ، قال : حدّثنا محمّد بن عمرو السوسي ، قال : حدّثنا نصر بن مزاحم ، عن عمرو بن سعيد ، عن ليث ، عن مجاهد في قول الله ( عزّ وجلّ ) : ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) (1) ، ثم قال : الذي جاء بالصدق محمّد ( صلى الله عليه وآله ) ، والذي صدّق به عليّ ( رضي الله عنه ) .
  أما الحديث الأول فقد روي من غير هذا الوجه بإسناد أصح من هذا ، وأما الآخر فلايتابع إليه .
  أقول : إنّ الحديث الآخر الذي قال فيه لا يتابع عليه ، قويّ رواه الحاكم الحسكاني في شواهد التن ـ زيل عن جماعة بسنده عن الحسين بن الحكم الحبري بسنده إلى مجاهد ، وقال : رواه عنه ـ الحبري ـ جماعة بسنده عن العقيلي عن نصر بن مزاحم كما مرّ ، ثم قال : ورواه محمّد بن يحيى بن ضريس عن نصر مثله .
  ورواه الحسكاني أيضاً بسنده عن أبي بكر الجعابي بسنده إلى مجاهد .
  وقال الحسكاني : ورواه أيضاً أبو بكر السبيعي عن الحسين في العتيق .
  ورواه سعد بن أبي سعيد التغلبي عن أبيه ، عن مقاتل بن سليمان ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : هو النبي جاء بالصدق ، والذي صدّق به عليّ بن أبي طالب .
  ورواه الجوهري بسنده إلى ابن عباس كما سبق ، ورواه الحسكاني بسنده إلى أبي الطفيل عن عليّ قال : الذي جاء بالصدق رسول الله ، وصدّق به أنا ، والناس كلهم مكذبون كافرون غيري ... وغيره .

---------------------------
(1) الزمر : 33 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 147 _

  أقول : ورواه السيوطي الشافعي في الدر المنثور (1) في تفسير الآية عن ابن مردويه ، عن أبي هريرة قال : هو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ( وَصَدَّقَ بِهِ ) قال : هو عليّ بن أبي طالب .
  ورواه ابن المغازلي المالكي في المناقب (2) .
  كما رواه الكنجي الشافعي في كفاية الطالب (3) .
  ورواه القرطبي المالكي في تفسيره (4) .
  ورواه أبو حيان الأندلسي في البحر المحيط (5) .
  كما رواه ابن عساكر في تاريخه في ترجمة الإمام (6) .
  فهؤلاء جميعاً رووه بأسانيد متعددة ، وعن جماعة من الصحابة ولم ينبسوا بكلمة في نقد رواة الحديث ، وما أدري كيف يكون حد المتابعة عند العقيلي وقد جاوزوا العشرة ؟ ثم انّ ابن حبان ذكره في الثقات .
  ومع هذا فنصر بن مزاحم لهذا الحديث يبقى زائغ الحديث متروك عند أبي حاتم ، وعلى نوله تبعاً للعقيلي وللذهبي سدّى ابن حجر فطاله بلسانه في لسان ميزانه .
  وما ذلك منهم إلاّ لأنّه شيعي ، وكأنّ التشيع ذنب لا يغتفر ! وحسبنا الله ونعم الوكيل ، فلكم الله يا شيعة عليّ ، على ان أبا الفرج الأصبهاني في المقاتل وابن أبي الحديد قالا بعاميّته ومع ذلك وثّقاه .

---------------------------
(1) الدر المنثور 5 : 328 .
(2) المناقب : 269 .
(3) كفاية الطالب : 233 .
(4) تفسير القرطبي المالكي 15 : 256 .
(5) البحر المحيط 7 : 428 .
(6) تاريخ ابن عساكر 2 : 418 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 148 _

  4 ـ عبد الملك بن هشام الحميري ( ت 218 هـ ) ، صاحب السيرة المعروفة باسمه ( سيرة ابن هشام ) ، ولو حقّقنا في صحة تلك النسبة ، لرأينا الأولى أن تسمى بسيرة ابن إسحاق برواية ابن هشام ، أو باختصار ابن هشام ، ولم يكن بمستوى جرأة ابن إسحاق في ذكر الأحداث بأمانة ، فمثلاً ذكر ابن إسحاق اسم العباس مع جيش قريش الكفار في واقعة بدر وأسر المسلمين إياه ، فجاء ابن هشام فحذف الخبر خوفاً من العباسيين.
  وحسبنا اعترافه بذلك حيث قال : ... وتارك بعض ما يذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فيه ذكر ، ولانزل فيه من القرآن شيء ... وأشياء يشنع الحديث به وبعض يسوء بعض الناس ذكره ...
  ومهما تكن المؤاخذة عليه في ذلك ، فقد حفظ لنا الكثير من سيرة ابن إسحاق ، وكاد الناس ينسون معه مؤلف السيرة الأولى محمّد بن إسحاق ، وفي هذا فضل كبير .
  5 ـ محمّد بن سعد كاتب الواقدي ( ت 230 _ 231 هـ ) ، صاحب كتاب الطبقات الكبير ، وهذا أثنى عليه غير واحد ، بدءاً من قول تلميذه الحسين بن فهم : كان كثير العلم ، كثير الحديث والرواية ، كثير الكتب، ومروراً بقول ابن النديم : كان عالماً بأخبار الصحابة والتابعين ، وكان ثقة مستوراً (1) ، وقول الخطيب البغدادي : كان من أهل العلم والفضل (2) .
  وقول ابن خلكان : وكان صدوقاً ثقة (3) ، وقول ابن حجر : وأحد الحفاظ الكبار والثقات المتبحرين (4) .
  وأخيراً فلي دراسة وافية عنه وعن كتابه الطبقات والنصوص الضائعة منها عسى أن تسنح لي الفرصة بنشرها .

---------------------------
(1) الفهرست : 111 .
(2) تاريخ بغداد 5 : 321 .
(3) وفيات الأعيان 4 : 351 .
(4) تهذيب التهذيب 9 : 182 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 149 _

  6 ـ أبو بكر عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة ( ت 235 هـ ) ، صاحب ( المصنف ) قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (1) : الإمام العلم ، سيد الحفاظ ، وصاحب الكتب الكبار ( المسند ) و ( المصنف ) و ( التفسير ) ... وهو من أقران أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وعلي بن المديني في السن والمولد والحفظ ... حدث عنه الشيخان ـ البخاري ومسلم ـ وأبو داود ، وابن ماجة ... وروى عنه محمّد بن سعد الكاتب ، ومحمد بن يحيى ، وأحمد بن حنبل ، وأبو زرعة ... وأمم سواهم ، وأثنى عليه كل من ترجمه .
  7 ـ أحمد بن حنبل إمام الحنابلة ( ت 241 هـ ) ، كتبت له ترجمة في البحث عن حديث الثقلين وعملية الانقضاض عليه ، اقتبست الكثير فيها من كتاب المصعد الأحمد في ختم مسند الإمام أحمد للحافظ شمس الدين بن الجزري الذي نشره أحمد محمّد شاكر في مقدمة المسند الذي تولّى تحقيقه ، وهذه السطور من تلك الترجمة :
  قال قتيبة : ( أحمد بن حنبل إمام الدنيا ) وقال إسحاق : ( أحمد حجة بين الله وبين خلقه ) ، وكان عند أهل خراسان ( يرون أحمد بن حنبل أنّه لا يشبه البشر ، يظنّون أنّه من الملائكة ) ؟ ! وقال آخر : ( نظرة من أحمد تعدل عبادة سنة ) إلى غير ذلك من مزايدات في الكرامات نحن في غنى عن ذكرها .
  ولم يسلم مع ذلك من تجريح الخصوم ، وله كلمة في مسنده ارتفع بها إلى أعلا الغلو فقال : ( هذا الكتاب جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة ألف حديثاً وخمسين ألفاً ، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فارجعوا إليه ، فإن وجدتموه وإلاّ فليس بحجة ) .

---------------------------
(1) سير أعلام النبلاء 11 : 122 / 127 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 150 _

  وللعلماء حول كلمته هذه نقد وردّ وتوجيه ، حفاظاً على مكانة الصحاح خصوصاً صحيح البخاري الذي قالوا عنه أنّه أصح كتاب بعد كتاب الله ، وقد وردت فيه أحاديث لم يذكرها أحمد في مسنده ، وهكذا طال النقاش بين الأخذ والرد حول الموضوع ، وذكرته في البحث عن حديث الثقلين وعملية الانقضاض عليه .
  8 ـ محمّد بن اسماعيل البخاري ( ت 256 هـ ) ، صاحب الجامع الصحيح ، ذكر له ابن حجر في آخر هدى الساري (1) ترجمة مفصلة فيها كثير من المزايدات حتى الرؤى والأحلام ، وفيها من الغلو المرذول نحو قول من يقول : ( محمّد بن إسماعيل إمام فمن لم يجعله إماماً فاتهمه ) ومن يقول : ( عندي لو أنّ أهل الاسلام اجتمعوا على أن يصيبوا آخر مثل محمّد بن إسماعيل لما قدروا عليه ).
  إلى آخر ما ذكره ابن حجر من أقوال أبناء الحلال ، لكنّه لم يذكر ما ذكره الآخرون من عده في المدلسين ، وأخيراً إخراجه من بخارى لفتياه في الرضاع التي لم يوافقه عليها أحد من علماء المسلمين ، وهي نشر الحرمة بين من شرب ألبان البهائم ، فراجع بشأنها المبسوط للسرخسي الحنفي (2).
  9 ـ مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ( ت 261 هـ ) ، صاحب الصحيح ( أحد الأئمة الحفاظ ، وأعلام المحدثين ، رحل إلى الحجاز والعراق والشام ومصر ، وسمع يحيى بن يحيى النيسابوري ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وروى عنه الترمذي ، وكان من الثقات ).
  وقال الحافظ أبو عليّ النيسابوري : ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في علم الحديث ، وقال الخطيب البغدادي : فكان مسلم يناضل عن البخاري حتى أوحش ما بينه وبين محمّد بن يحيى الذهلي بسببه (3) .

---------------------------
(1) هدى الساري 2 : 250 / 266 .
(2) المبسوط للسرخسي 5 : 139 / 140 و 30 : 297 .
(3) وفيات الأعيان 5 : 193 .