الفهرس العام


النقطة الثالثة : ماذا يعني إصرار الإمام في تسمية أبنائه بحرب :
النقطة الرابعة : الدوافع المغرية في شخصية حرب :
النقطة الخامسة : في كنى الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :



  أفهل يُعقل أنّ أباوهب الجشمي ، وهو رجل كانت له صحبة كما يصفونه ، يروي هذا الحديث وعلي لا يرويه ولا يدريه ؟ وهو هو في سابقته وصحبته ومكانته وحظوته ؟ وهو القائل : ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه ، يرفع لي كلّ يوم علماً من أخلاقه ، ويأمرني بالاقتداء به (1) .
  أوليس يدل اصرار الإمام على التسمية بحرب ـ سواء قلنا بأنّه اسم معنى أي ضد السلم ، أو قلنا بأنّه اسم علم كما يحلو لواضعيه ـ أنّ علياً يصرّ على مخالفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأستغفر الله من ذلك .
  قال ابن قيّم الجوزية في زاد المعاد (2) :
  ( فصل ) ولمّا كان مسمى الحرب والمرة أكره شيء للنفوس وأقبحها عندها ، كان أقبح الأسماء حرباً ومرة ، وعلى قياس هذا حنظلة وحزن وما أشبههما ، وما أجدر هذه الأسماء بتأثيرها في مسمياتها كأثر اسم حزن الحزونة في سعيد وأهل بيته .
  وقال أيضاً في فصل آخر بعده : ولمّا كان الأنبياء سادات بني آدم ... كانت أسماؤهم أشرف الأسماء ، فندب النبي ( صلى الله عليه وآله ) أمّته إلى التسمّي بأسمائهم ، كما في سنن أبي داود والنسائي عنه : تسمّوا بأسماء الأنبياء .
  ولو لم يكن في ذلك من المصالح إلاّ أنّ الاسم يذكّر بمسماه ، ويقتضي التعلق بمعناه لكفى به مصلحة ، مع ما في ذلك من حفظ أسماء الأنبياء وذكرها ، وأن لا تنسى وأن يذكر أسماؤهم بأوصافهم وأحوالهم .

---------------------------
(1) نهج البلاغة ، شرح محمّد عبدة 2 : 182 .
(2) زاد المعاد لابن قيّم الجوزية 2 : 6 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 52 _

  أقول : فإذا كان الحال هكذا في الأسماء ، فمنها محبوب ومنها مبغوض ، وكان حرب من الأسماء المبغوضة ، فهل يعقل أنّ الإمام عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، كان يحب الاكتناء بأبي حرب ـ الاسم المبغوض ـ ليكون على ذكر منه ؟ إنّها فرية عليه ، ولكم افترى عليه أعداؤه .
  والآن لابدّ لنا من وقفة وتأمل عند هذا الإصرار المزعوم ، لنطلع من خلال ذلك على طبيعة الحدث الذي عاشه الإمام يوم أحب أن يكتني بأبي حرب كما يزعمون .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 53 _

النقطة الثالثة : ماذا يعني إصرار الإمام في تسمية أبنائه بحرب :

  النقطة الثالثة : ماذا كان يعني إصرار الإمام ـ إن صدقت الأحلام ـ في تسمية أبنائه بحرب ؟
  إنّ في زعم إصرار الإمام عليّ ( عليه السلام ) تكرار التجربة الفاشلة ـ إن صدقت أحلام صُنّاعي الحديث ـ حمل كثير من الآصار على عليّ ؟ !   فعليٌ يحب أن يُسمي أوّل أبنائه حرباً _ الاسم المبغوض ـ وكأنّه إنسان لا يعلم أنّ ذلك من أقبح الأسماء ؟ وعلي يكرّر تلك الرغبة الملحّة مع تغيير النبي ( صلى الله عليه وآله ) لذلك الاسم أول مرّة ، وعلي لا ينتفع بتلك التجربة ، ولا يأخذ منها عبرة ، وكأنّه إنسان لا تعظه التجارب ! فيعاود مُصرّاً على اسم حرب والنبي ( صلى الله عليه وآله ) يغيّره ، وعلي يكرر تجربته الثالثة ـ كما يقولون ـ ثم يغيّر النبي ( صلى الله عليه وآله ) الاسم .
  ثم عليّ ( عليه السلام ) لا يدرك مغزى قول النبي : ( صلى الله عليه وآله ) ( ما شأن حرب هو حسن ) ومرّة ثانية يقول كلمته : ( ما شأن حرب هو حسين ) وثالثة يقول أيضاً : ( ما شأن حرب هو محسن ) ؟
  ففي كلّ هذه المرّات وعلي ( عليه السلام ) بعد على اصراره ؟ يا لله أهكذا كان أبو الحسن عليّ بن أبي طالب يضحي بكل ما لديه من رصيد الجهاد والجهود في خدمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ودينه الحنيف ، وهو أول من آمن به ! كيف يضحي بجميع ذلك على مذبح الشهوات والرغبات ؟ أهي الأنانية ؟ ليحقق مكسباً عظيماً حين يسمي أحد أبنائه حرباً ولا يصغي لتغيير النبي ( صلى الله عليه وآله ) سمعاً ؟ أهذا هو عليّ الذي همّ أو

المحسن السبط مولود أم سقط _ 54 _

  أحب أو سمّى أبناءه حرباً فغيّرها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ؟ نعم ، فهو كذلك بهذه الصورة التي رسمها له أعداؤه من خلال هذا الحديث ، ولكن أهكذا كان عليّ ( عليه السلام ) حقيقة ؟
  لاها الله إنّها الشناشن الأخزمية ، والضغائن الجاهلية ، ووراء ذلك كله بعدُ سر مصون ، ليس في الغيب المكنون ، ولكن من باب ذر الرماد في العيون ، وإذا تمّ لهم ما يريدون ، ففي ذلك مكسب عظيم يجني المفترون الأفّاكون ، في طمس الحقائق وتشويه التاريخ ، وسنكشف عنه بعد أن نقرأ البيان عن النوازع المغرية في اسم حرب ، وذلك في النقطة الرابعة .
  ولم يكن هذا هو الافتراء الوحيد على عليّ ( عليه السلام ) ، فقد افترى عليه في زمانه وبعد زمانه ، كما افتري على أخيه الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله ) من قبل ، وما ذلك الافتراء إلاّ نتائج الحكم الأموي البغيض ، الذي شوّه ما استطاع لذلك سبيلاً ، فكانت سماسرة الوضع يلهثون وراء أصفره الرنّان ، فيضعون له ما يشاء ويطلب منهم الحكام ، ولا نريد الخوض في تفاصيل ذلك لئلاّ يطول الكلام .
  ولنرجع البصر إلى خصوص الافتراء على عليّ ( عليه السلام ) في خصوص الأسماء ، فقد أخرج الكليني في الكافي والطوسي في التهذيب (1) باسنادهما عن معمر بن خثيم قال : قال لي أبو جعفر ( عليه السلام ) : ما تكتني ؟ قال : ما اكتنيت بعدُ ، ومالي من ولد ولا امرأة ولا جارية ، قال : فما يمنعك من ذلك ؟ قال : قلت : حديث بلغنا عن عليّ ( عليه السلام ) قال : من اكتنى وليس له أهل فهو أبو جعر ، فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : شوه ، ليس هذا من حديث عليّ ، إنّا لنكنّي أولادنا في صغرهم مخافة النبز أن يلحق بهم .
  فانظر بربك إلى هذا الحديث الذي كشف عن دوافع الافتراء المؤلم في أيّام الإمام الباقر ( عليه السلام ) الذي توفي سنة 114 ، فما ظنك بما حدث من بعد ذلك ؟

---------------------------
(1) الكافي 2 : 87 ، التهذيب للطوسي 7 : 438 و 2 : 246 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 55 _

النقطة الرابعة : الدوافع المغرية في شخصية حرب :


  النقطة الرابعة : في بحث الدوافع المغرية في شخصية حرب بدءاً من آبائه ومروراً به وانتهاءاً بأبنائه .
  ليس العجب من رواة السوء حين يروون مثل ذلك الحديث المزعوم ، وليس العجب من زوامل الأسفار الّذين يثبتون الحديث في أسفارهم ، وليس العجب من تهالك بعض الحفاظ في تصحيح الاسناد ، ليثبت للأشهاد أنّه حصل على صك الغفران بصحة السند ، وكأنّ ذلك يكفي ويغني عن النظر في المتن ، وإن كان منكراً من القول وزوراً .
  ليس العجب من كل أولئك ، ما داموا جميعاً في صف المعسكر المناوئ لعلي ( عليه السلام ) ، أو ممّن شايع مناوئيه .
  ولكن العجب كل العجب أن نقرأ الحديث في بعض كتب شيعة عليّ ( عليه السلام ) ، ينقلونه عن الخصوم ويمرّون عليه مرور الكرام ، وكأنّهم لم يفقهوا ما فيه ، وتلك ـ لعمر الحق _ مصيبة سلامة الطوية التي تجني البلية ، مع فقدان الرويّة ، وفتح الشهيّة لجمع كل ما هبّ ودبّ مما روى الأولياء والأعداء من دون تمحيص ، غافلين عن دس السم في العسل .
  وأعجب من ذلك كلّه أن يكون ضحية الكذب والافتراء عليه شخصية الإسلام الأولى بعد نبيه الكريم ، والذي صحّ فيه قول زائره : ( أشهد أنّك أوّل مظلوم وأوّل من غصب حقه ) .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 56 _

  وقد يهون ذلك العجب إذا تذكرنا أنّ الافتراء عليه كان منذ عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى أن الأفّاكين رفعوا عليه شكاوى إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فلم يشكهم ونهرهم وقال لهم : ما تريدون من عليّ ، عليّ منّي وأنا من عليّ (1) .
  ولكن العجب أشد العجب من أن يفترى على عليّ فيضحى به باسم الإسلام ، وهو أوّل من آمن به ، فيجعل منه إنسان كأنّه لا يفقه من الإسلام حكماً ولا أدباً ، وهو الذي لولاه ما قام للإسلام عمود ، ولا اخضرّ له عود ، وحين تقرع طبول أعدائه ، وتتراقص على أنغامهم أقلام بعض السذّج من أوليائه ، دون أن يشعروا ، بأنّ ذلك الطبل إنّما كان للحرب ، وليس هو طبل الميلاد أو طبل الأفراح ، ولم يشعروا _ ويا للأسف ـ أنّ بني حرب ـ حزب الشيطان ـ قد حاربوا علياً بكل حول وطول ، وبشتى الوسائل التي واتتهم السبل إليها .
  فلئن حاربوه بالسيف ولم يشف ذلك غليلهم ، ولئن حاربوه باللعن على منابر المسلمين تنقيصاً له ولم يبرد بذلك أوار حقدهم ، ولئن قعدوا له بكل مرصد فافتروا عليه خطبة ابنة أبي جهل ، ونسجوا لها ما ساعدتهم أنوالهم ، ولئن ... ولئن ... وفي كل ذلك لم يصنعوا شيئاً ، بل كانت النتائج عكس ما أرادوا .
  فهم كلّما أرادوا النيل منه وإذا هم كأنّما يأخذون بضبعيه ، ويرفعونه إلى سماء المجد والعظمة ، والآن ماذا يمنعهم أن يصوروه إنساناً يحبهم ؟ وإن كانوا هم لا يحبّونه ؟ وما الذي يمنعهم أن يبنوا لهم صرحاً ممرداً من قوارير الأحلام على قاعدة عليّ ( عليه السلام ) الصُلبة في الإسلام ، فيجعلوا من آبائهم وأجدادهم شخوصاً محببة ، يتمنّى إنسان مثل عليّ في مكانته المفضّلة أن يكتني باسم جدهم ، وهذا هو ما يوحيه الحديث المزعوم ، حديث يروي : كان عليّ يحب أن يكتني بأبي حرب .

---------------------------
(1) راجع كتاب ( عليّ إمام البررة ) 2 : 80 / 95 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 57 _

  والآن لنقرأ عن حرب وآبائه وأبنائه في مواقفهم من آباء وأجداد عليّ ، لنرى هل يُعقل أن يكون عليّ أحبّ أن يكتني بأبي حرب ؟ فنقول :
  في ذكر حرب بن أميّة :
  إنّه حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، وفي عبد مناف يجتمع نسب عليّ ( عليه السلام ) والهاشميين مع أبناء عبد شمس .
  قال المقريزي : وقد كانت المنافرة لا تزال بين بني هاشم وبين عبد شمس (1) .
  وقال : وكانت المنافرة بين هاشم بن عبد مناف بن قصي ، وبين ابن أخيه أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، وسببها أن هاشماً كانت إليه الرفادة مع السقاية ، وذلك أنّ أخاه عبد شمس كان يسافر وكان يقيم بمكة ، وكان رجلاً مقلاً وله ولد كثير ، فاصطلحت قريش على أن يلي هاشم السقاية والرفادة ، وكان هاشم رجلاً موسراً ، وكان إذا حضر موسم الحج قام في قريش فقال :
  يا معشر قريش إنّكم جيران الله وأهل بيته ، وإنّكم يأتيكم في هذا الموسم زوّار الله يعظمون حرمة بيته ، وهم ضيوف الله ، وأحق المضيّف بالكرامة ضيفه ، وقد خصّكم الله بذلك وأكرمكم به ، حفظه منكم أفضل ما حفظ جار من جاره ، فأكرموا ضيفه وزوّاره ، فإنّهم يأتون شعثاً غُبراً من كلّ بلد على ضوامر كالقداح ، وقد أزحفوا وتفلوا وقملوا ، فأقروهم وأنموهم وأعينوهم .
  وكانت قريش ترافد على ذلك ، حتى أن كان أهل البيت يرسلون اليسير على قدرهم ، فيضمّه هاشم إلى ما أخرج من ماله وما جمع مما يأتيه به الناس فإن عجز كمّله ، وكان هاشم يخرج في كلّ سنة مالاً كثيراً ، وكان قوم من قريش يترافدون فكانوا أهل يسار ، فكان كلّ إنسان منهم ربما أرسل بمائة مثقال هرقلية .
  وكان هاشم يأمر بحياض من أدُم فتجعل في موضع زمزم ـ من قبل أن تحفر زمزم ـ ثم يستقي فيها من البئار التي بمكة فيشرب الحاج ، وكان أوّل ما

---------------------------
(1) النزاع والتخاصم : 18 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 58 _

  يطعمهم قبل التروية بيوم بمكة ، ويطعمهم بمنى وبعرفة وبجمع ، فكان يثرد لهم الخبز ، واللحم والخبز والسمن ، والسويق والتمر ، ويحمل لهم الماء حتى يتفرق الناس لبلادهم ، وكان هاشم يسمّى عمرواً ، وإنّما قيل له هاشم لهشمه الثريد بمكة ، وفيه يقول مادحه :
عمرو العلا هشم الثريد لقومه      ورجال  مكة مسنتون iiعجاف
  وكان أمية بن عبد شمس ذا مال ، فتكلّف أن يفعل كما فعل هاشم من إطعام قريش فعجز عن ذلك ، فشمت به ناس من قريش وعابوه ، فغضب ونافر هاشماً على خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة ، وعلى جلاء عشر سنين ، وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي ـ جد عمرو بن الحمق _ وكان منزله عسفان ، وخرج مع أمية أبو همهمة حبيب بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر بن مالك الفهري .
  فقال الكاهن : والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر ، وما بالجو من طائر ، وما اهتدي بعَلَم مسافر ، من مُنجد وغائر ، لقد سبق هاشمُ أمية إلى المآثر ، أوّل منه وآخر ، وأبو همهمة بذلك خابر .
  وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعم لحمها من حضر ، وخرج أمية إلى الشام فأقام بها عشر سنين (1) .
  قال العقّاد : فكان هذا أوّل عداوة وقعت في بني هاشم وبني أمية .
  أقول : وتجد حديث هذه المنافرة في جملة من المصادر التاريخية منها المنمّق لمحمد بن حبيب (2) ، ثم قال ابن حبيب :
  ومن ثم يقال : انّ أمية استلحق أبا عمرو ابنه ، وهو ذكوان وهو رجل من أهل صفورية ، فخلف أبو عمرو على امرأة أبيه بعده ، فأولدها أمية وهو أبو معيط ، ويقال : استلحق ذكوان أيضاً أبان .

---------------------------
(1) شخصيات اسلامية ضمن موسوعة العقّاد : 549 .
(2) المنمق : 103 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 59 _

  أقول : وما ذكره ابن حبيب منسوباً إلى القيل ، فقد ذكره المقريزي في النزاع والتخاصم (1) كحقيقة ثابتة وبما هو أقبح من ذلك ، حيث قال : وصنع أمية في الجاهلية شيئاً لم يصنعه أحد من العرب ، زوّج ابنه أبا عمرو بن أمية امرأته في حياة منه ، والمقتيون في الاسلام هم الّذين أولدوا نساء آبائهم واستنكحوهن من بعد موتهم ، وأما أن تزوجها في حياته ويبنى عليها وهو يراه ، فإنّ هذا لم يكن قط (2) ، وأمية جاوز هذا المعنى ولم يرض بهذا المقدار حتى نزل عن ماله وزوّجها منه ثم قال : وأبو معيط بن أبي عمرو بن أمية قد زاد في المقت درجتين ، يشير إلى ما مرّ عن ابن حبيب .
  قال المقريزي في النزاع والتخاصم (3) : ولم يكن أمية في نفسه هناك ، وإنما يرفعه أبوه وبنوه ، وكان مضعوفاً ، وكان صاحب عهار ، يدل على ذلك قول نفيل بن عبد العزى جد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين تنافر حرب بن أمية وعبد المطلب بن هاشم ، فنفر عبد المطلب ، وتعجب من اقدامه عليه وقال :
أبوك  معاهر وأبوه iiعفّ      وذاد الفيل عن بلد الحرام
  وذلك أنّ أمية كان تعرض لامرأة من بني زهرة ، فضربه رجل منهم ضربة بالسيف ، وأراد بنو أمية ومن تابعهم إخراج بني زهرة من مكة ، فقام دونهم قيس بن عدي السهمي وكانوا أخواله ، وكان منيع الجانب ، شديد العارضة ، حميّ الأنف ، أبيّ النفس ، فقام دونهم وقال : ( أصبح ليل ) فذهبت مثلاً ، ونادى : ( ألا إنّ الظاعن

---------------------------
(1) النزاع والتخاصم : 22 .
(2) ذكر ذلك الجاحظ في رسالته الثانية من رسائله ، وهي من كتاب فضل هاشم على عبد شمس راجع ص 75 ، جمع وتحقيق حسن الهندوبي ، ط : مصر سنة 1352 هـ .
(3) النزاع والتخاصم : 21 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 60 _

  مقيم ) ففي هذه القصة يقول وهب بن عبد مناف بن زهرة :
مهلاً    أميّ    فإنّ   البغي   iiمهلكة      لا    يكسبنّك    يومٌ    شرّه    ذكر
تبدو    كواكبه    والشمس   iiطالعة      يصبّ في الكأس منه الصاب والمقر
  أقول : فهذا أمية والد حرب ، وكان كأبيه فقد حسد عبد المطلب بن هاشم على مآثره ، فنافره إلى نفيل بن عبد العزّى جد عمر بن الخطاب ، فقال حين تنافرا إليه وقد عجب من اقدام حرب على منافرة عبد المطلب ، فقال كما في النزاع والتخاصم (1) كما مرّ :
أبوك  معاهر وأبوه iiعفّ      وذاد الفيل عن بلد الحرام
  ثم قال له : يا أبا عمرو أتنافر رجلاً هو أطول منك قامة ، وأعظم منك هامة ، وأوسم منك وسامة ، وأقلّ منك لامة ، وأكثر منك ولداً ، وأجزل منك صفداً _ عطاءً _ .
وحديث هذه المنافرة في المحبّر والمنمّق وغيرهما فليرجع إليهما طالبها (2) .
  هذا هو حرب الذي زعموا أنّ علياً أحب اسمه فأراد أن يكتني به ، فهل نسي عليّ ( عليه السلام ) أنّه الذي نافر جديه هاشم وعبد المطلب فحكم لهما المحكمون ، وأخزوه حتى أجلي عن مكة إلى الشام ، فأقام بها عشر سنين ؟
  ثم هل أنّ علياً نسي أنّ حرب هو والد أبي سفيان رأس الكفر والشقاق ، والذي كان زنديقاً (3) كما يقول عنه المؤرّخون ، ويكفي في خزايته ، مواقفه بدءاً من بدء الدعوة ومروراً بحروب بدر وأحد والأحزاب ، وأخيراً بفتح مكة ؟

---------------------------
(1) المصدر نفسه .
(2) المحبّر : 173 ، المنمّق : 94 .
(3) عليّ سامي النشار في كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام 1 : 231 ، وقال في كتابه أيضاً 2 : 66 : وكان من أخطر الزنادقة أبو سفيان الأموي وعدو الإسلام العتيد .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 61 _

  ثم هل نسي عليّ أنّ حرب هو والد أم جميل ـ وهي حمالة الحطب ـ التي كانت تؤذي النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى نزلت سورة في ذمها وذم زوجها ، فقال تعالى : ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَب وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَد ) (1) فهل يُعقل أنّ علياً لا يعرف مَن هو حرب ؟ ومن هم آباء حرب ؟ ومن هم أبناء حرب حتى يغرم باسم حرب ؟
  والآن بعد هذا الخطو السريع في رحاب التاريخ ، فهل رأينا من دافعٍ أو شافع مغرٍ يحمل علياً على التهالك في تسمية أبنائه ( بحرب ) ؟
  هل كانت بين البيتين في ميزان التفاضل موازنة صحيحة ، في منكب أو موكب يتساوى فيها رجال البيتين ؟ هل كانت لدى المقارنة بين رجال الحييّن مساواة في حول أو طول ؟
   ثم أليس هو القائل في هذا المضمار رداً على معاوية حفيد حرب :
  وأما قولك : إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحن ، ولكن ليس أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق ، ولا المحق كالمبطل ، ولا المؤمن كالمدغل ، ولبئس الخلف خلفاً يتبع سلفاً هوى في نار جهنم (2) .
  ألم يسمع علي قول أبيه في بني حرب حيث يقول :
قديماً   أبوهم   كان   عبداً  لجدنا      بني  أمة  شهلاء جاش بها iiالبحر
لقد   سفهوا   أحلامهم  في  محمّد      فكانوا كجعر بئس ما ظفطت جعر(3)

---------------------------
(1) المسد : 1 / 5 .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 219 .
(3) نفس المصدر 4 : 467 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 62 _

  كيف لم يسمع ؟ وكيف لم يعلم ؟ والأمر بين الحييّن من الوضوح حتى كان يعرفه بنو هاشم كما يعرفه أبناء حرب أنفسهم .
  فهذا ابن جعفر يقول ليزيد بن معاوية مفاخراً له بحضور أبيه معاوية : بأيّ آبائك تفاخرني ؟ ! أبحرب الذي أجرناه ؟ أم بأمية الذي ملكناه ؟ أم بعبد شمس الذي كفلناه ؟ فقال معاوية : لحرب بن أمية يقال هذا ؟ ما كنت أحسب أن أحداً في عصر حرب يزعم أنّه أشرف من حرب ، فقال عبد الله بن جعفر : بلى أشرف منه من كفأ إناءه عليه وجلّله بردائه ، فنهى معاوية ولده عن مفاخرة بني هاشم ، وأنّهم لا يجهلون ما علموا ، ولا يجد مبغضهم لهم سباً (1) .
  فاتضح من خلال ما تقدم أن ليس في شخصية حرب من دوافع مغرية تدعو الإمام علياً ( عليه السلام ) لأن يحب أن يكتنى باسمه ، فيبقى الحديث المزعوم الذي لم يثبت لصنّاعه ما أرادوه ، حبراً على ورق فلا يسمن ولا يغني إذا ما قرأنا ما أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (2) بسنده عن سورة بنت مشرح قالت : كنت فيمن حضر فاطمة ( رضي الله عنها ) حين ضربها المخاض في نسوة ، فأتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : ( كيف هي ؟ ) قالت : إنها لمجهودة يارسول الله ، قال : ( فإذا هي وضعت فلا تسبقين فيه بشيء ) قالت : فوضعت فسروّه ولغفوه في خرقة صفراء ، فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقال : ( ما فعلت ؟ ) قالت : قد ولدت غلاماً وسررته ولففته في خرقة ، قال : ( عصيتني ) قالت : أعوذ بالله من من معصية الله ومن غضب رسوله ، قال : ( ائتيني به ) فأتيته به ، فألقى الخرقة الصفراء ، ولفّه في خرقة بيضاء ، وتفل في فيه ، وألبأه بريقه ، فجاء علي ( رضي الله عنه ) فقال : ( ما سميته يا علي ؟ ) قال : سمّيته جعفراً يا رسول الله ، قال : ( لا ولكن حسن وبعده حسين ، وأنت أبو حسن الخير ) (3) .

---------------------------
(1) نفس المصدر 4 : 435 .
(2) المعجم الكبير 3 : 23 .
(3) قال محقق الكتاب في الهامش : قال في المجمع 9 : 175 ، رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما، عمر بن فيروز وعمر بن عمير ولم أعرفهما ، وبقية رجاله وثّقوا ، وسيأتي ( 786 / 24 ) ، أقول : ولدى مراجعة الموضع المشار إليه ، وجدت الحديث كما هو إلا أن فيه اسم القابلة سودة بنت مسرح ، ولم ينبه المحقق على ذلك ، والصواب ما في الموضع الثاني ، وقد ذكرها ابن عبد البر في الاستيعاب بهامش الإصابة 4 : 318 ، وأشار إلى الحديث المذكور باختصار .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 63 _

  فالآن حصحص الحق ، وتبيّن الصدق ، بأنّ علياً أراد تسمية ابنه الأول باسم أخيه جعفر شهيد مؤتة ، إلا أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) سمّاه حسناً كما سمى الوليد الثاني حسيناً قبل أن يولد ، مما دلّ على أن الوحي الإلهي تصرّف في المقام ، فأين يكون موضع الحديث المزعوم بعد ما نقرأ حديث سورة بنت مسرح القابلة ؟
  وبعد بيان زيف الحديث المزعوم من هذا الجانب ، فهل ثمة جانب آخر يريد الوضاعون الاستفادة منه ؟
  نعم ، وذلك هو الجانب الأهم ، وهو الذي أخفوه أو حاولوا إخفاءه وذلك هو : إثبات ولادة المحسن السبط الثالث للرسول ( صلى الله عليه وآله ) في عهده ، وهذا الوليد الذكر هو الثالث من أبناء الإمام أمير المؤمنين من الصديقة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) .
  وهذا ما سنقرأ عنه شيئاً في النقطة السادسة .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 65 _

النقطة الخامسة : في كنى الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :

  كان من حق هذا الموضوع تقديمه في البحث على ما سيق لو كنّا نبحث عن كنى الإمام ( عليه السلام ) وكم هي ؟ وما هي ؟ إلاّ أن بحثنا لم يكن في ذلك ، وإنما تطرقنا إليه بسبب حديث الاكتناء بأبي حرب الذي نسجه النسّاجون ، وطبّل له المهرّجون ، فحمله زوامل الاسفار والمخرّفون ولمّا انتهينا إلى تزييفه سنداً ومتناً ، لزمنا أن نعرّج على موضوع كنى الإمام ( عليه السلام ) ، لنرى هل كانت له كنى يعرف بها قبل ولادة أبنائه ؟ وبماذا كان يكنى ؟ ومن كنّاه ؟ وما هي أحب كنا إليه ؟
  والجواب عن جميع هذه التساؤلات إنّما يكفي فيه البحث عن كنيته بأبي تراب دون بقية كناه كأبي الحسن وأبي الحسين أو أبي الحسنين أو أبي الرياحنتين أو أبي السبطين ، ونحو ذلك ما هو حادث بعد ولادة الأبناء له ، وإن كانت بعضها كنّاه بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) كأبي الريحانتين ، وقد سلّم بها عليه كما في حديث جابر قال ( عليه السلام ) : سلام عليك أبا الريحانتين ، أوصيك بريحانتي من الدنيا فعن قليل ينهد ركناك والله خليفتي عليك ، قاله لعلي ( أبو نعيم وابن عساكر _ عن جابر ) (1) .
  ولمّا كان الحديث عن كنيته ( بأبي تراب ) يستدعي معرفة الزمن الذي حصلت فيه ، وإذا عرفنا أنها وردت في أحاديث كثيرة وكانت من النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقد

---------------------------
(1) كنز العمّال 12 : 220 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 66 _

  كنّاه بها مراراً حين يراه في كل مرّة متوسداً التراب وقد أثر فيه ، فيقول له : أنت أبو تراب ، وتلك الأحاديث اختلف زمانها وتفاوتت أحداثها ، فلابد لنا من عرضها حسب تسلسلها الزمني :
  المرة الأولى في حديث المؤاخاة :
  وهو حديث مستفيض نقلاً ، أخبت بصحته الحفّاظ ، وأخرجه أصحاب الحديث والسير والتواريخ ، ولا يتطرق إليه ريب ، ويكفي في روايته المصادر التالية : المعجم الكبير (1) والأوسط وهما للطبراني ، ومجمع الزوائد للهيثمي (2) عن ابن عباس قال :   لما آخى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فلم يؤاخ بين علي بن أبي طالب وبين أحد منهم ، وخرج مغضباً حتى أتى جدولاً فتوسّد ذراعه فسفت عليه الريح ، فطلبه النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى وجده ، فوكزه برجله فقال له : قم فما صلحت أن تكون إلا أبا تراب ؟ أغضبت عليّ حين آخيت بين المهاجرين والأنصار ولم أؤاخ بينك وبين أحد منهم ؟ أما أن ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبي بعدي ، ألا من أحبّك حُفّ بالأمن والإيمان ، ومن أبغضك أماته الله ميتة جاهلية ، وحوسب بعمله في الإسلام .
  أقول : وأخرجه المتقي الهندي في كنز العمال (3) ، والخوارزمي الحنفي في المناقب (4) ، وابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة (5) .

---------------------------
(1) المعجم الكبير 11 : 62 .
(2) مجمع الزوائد للهيثمي 9 : 111 .
(3) كنز العمّال 12 : 206 .
(4) المناقب : 22 .
(5) الفصول المهمّة : 22 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 67 _

  وهذا الحديث أخرجه ابن عساكر في تاريخه (1) بسنده عن سماك بن حرب ، قال : قلت لجابر : إنّ هؤلاء القوم ـ يعني بني أمية ـ يدعونني إلى شتم علي ، قال : وما عسيت أن تشتمه به ؟ قال : أكنيه بأبي تراب .
  قال : فوالله ما كانت لعلي كنية أحب إليه من أبي تراب ، انّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) آخى بين الناس ولم يؤاخ بينه وبين أحد ، فخرج حتى أتى كثيباً من رمل فنام عليه ، فأتاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : قم أبا تراب ، وجعل ينفض التراب عن ظهره وبردته ويقول : قم أبا تراب ، أغضبت إن أنا آخيت بين الناس ولم أواخ بينك وبين أحد ؟ قال : نعم ، فقال له : أنت أخي وأنا أخوك .
وجاءت عدة أحاديث بهذا المعنى .
  وإذا عرفنا أنّ المؤاخاة كانت مرّتين مرّة قبل الهجرة وأخرى بعد الهجرة بخمسة أشهر ، فإنّ تكنية النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلي بأبي تراب كانت في الثانية ، كما هو صريح حديث ابن عباس، لذكر المؤاخاة فيها بين المهاجرين فقط ، وبناء على ذلك فتكون تكنية النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأبي تراب قد وقعت بعد الهجرة بخمسة أشهر ، وهذا التحديد الزمني يعني أنّها كانت قبل ولادة الحسن أول أبنائه بأكثر من سنتين ونصف تقريباً ، لأنّ ولادة الحسن ( عليه السلام ) كانت في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة .
  ولئن كانت تلك المرة هي الأولى التي كنى بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) علياً بأبي تراب ، فانّها لم تكن الأخيرة ، فقد تكررّت أيضاً مرّة أخرى .
  المرة الثانية في غزوة العُشيرة :   أخرج ابن عساكر في تاريخه (2) بأسانيده عن عمار بن ياسر ، والنسائي في الخصائص (3) عن عمار بن ياسر واللفظ له ، قال : كنت أنا وعلي بن أبي طالب

---------------------------
(1) تاريخ ابن عساكر ( ترجمة الإمام ) 1 : 23 .
(2) المصدر نفسه 3 : 285 .
(3) الخصائص : 39 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 68 _

  رفيقين في غزوة العُشيرة من بطن ينبع ، فلما نزلها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أقام بها شهراً ، فصالح فيها بني مدلج وحلفاءهم من ضمرة فوادعهم ، فقال لي علي : هل لك يا أبا اليقظان أن نأتي هؤلاء النفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ، فننظر كيف يعملون ؟ قال : قلت : إن شئت ، فجئناهم فنظرنا إلى أعمالهم ساعة ، ثم غشينا النوم ، فانطلقت أنا وعلي حتى اضطجعنا في ظل صور (1) من النخل وفي دقعاء (2) من التراب فنمنا ، فوالله ما أهبنا إلا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يحرّكنا برجله ، وقد تربنا من تلك الدقعاء التي نمنا فيها .
  فيومئذٍ قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعلي : مالك يا أبا تراب ؟ لما يرى عليه من التراب ، ثم قال : ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين ؟ قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : أحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك على هذه ـ ووضع يده على قرنه ـ حتى يبلّ منها هذه ، وأخذ بلحيته .
  وهذا الحديث أخرجه أحمد في مسنده (3) ، وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (4) عن البزار ، والأسفراييني في معالم الاسلام كما في تاريخ ابن الوردي (5) ، والديار بكري في تاريخ الخميس (6) ، وورد في شرح المواهب للزرقاني (7) ، ودلائل النبوة لأبي نعيم ، وليس فيه : ( قم أبا تراب ) فمن الذي حذف

---------------------------
(1) الصور وصيران وأصوار : النخل الصغير .
(2) الدقعاء : التراب اللين .
(3) مسند أحمد بن حنبل 2 : 262 ، والحاكم في المستدرك 3 : 140 ، والطحاوي في مشكل الآثار 1 : 351 ، والمتقي الهندي في كنز العمّال 15 : 123 ، وقال أخرجه البغوي ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، وابن عساكر ، وابن النجار .
(4) مجمع الزوائد 9 : 136 .
(5) تاريخ ابن الوردي 1 : 219 .
(6) تاريخ الخميس 1 : 364 .
(7) شرح المواهب 1 : 395 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 69 _

  ذلك يا ترى ؟ وأخرجه الحسكاني في شواهد التنزيل ، والحمويني في فرائد السمطين (1) وغيرهم .
  أقول : إنّ غزوة العُشيرة ـ بضم العين مصغراً بالشين وقيل بالسين المهملة آخرها هاء _ بخلاف العسرة فهي غزوة تبوك ، أما هذه فمنسوبة لموضع بني مدلج بينبع .
  وإذا رجعنا نستجوب كتب السيرة عن زمانها ، فهي تعيّن زمانها بأنّه ( صلى الله عليه وآله ) خرج إليها في جمادى الأولى أو الآخرة على رأس ستة عشر شهراً من الهجرة ، وسبب تلك الغزوات كانت وقعة بدر ، وقد ذكر الحلبي (2) حديث تكنية النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلي بأبي تراب ، فعلى هذا التحديد الزمني ظهر أن التكنية كانت للمرّة الثانية ، وبعد مرور ما يقرب على سنة بعد المرة الأولى ، وأيضاً هي قبل ولادة الحسن ( عليه السلام ) أول أبناء الإمام بأكثر من سنة ونصف .
  المرة الثالثة في المسجد النبوي الشريف :
  أخرج ابن عساكر في تاريخه في ترجمة الإمام (3) بأسانيده عن أبي حازم أنّ رجلاً جاء إلى سهل بن سعد فقال :   هذا فلان ـ لأمير المدينة ـ يدعو علياً عند المنبر ، قال : فيقول ماذا ؟ قال : يقول له : أبو تراب ، فضحك قال : والله ما سمّاه إلاّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وما كان له اسم أحبّ إليه منه ، فاستطعمت الحديث سهلاً وقلت : يا أبا عباس كيف ؟ قال : دخل علي على فاطمة ثم خرج فاضطجع في المسجد ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أين ابنُ عمّكِ ؟ قالت : في المسجد ، فخرج إليه فوجد رداءه قد سقط عن ظهره وخلص التراب إلى ظهره ، فجعل يمسح التراب عن ظهره فيقول : اجلس يا أبا تراب يا أبا تراب مرّتين .

---------------------------
(1) فرائد السمطين 1 : 384 .
(2) السيرة الحلبية 2 : 126 ، وسيرة زيني دحلان بهامش الحلبية 1 : 361 .
(3) تاريخ ابن عساكر في ترجمة الإمام 1 : 22 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 70 _

  وهذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه في أربعة مواضع بتفاوت في ألفاظه مع انتهاء إسناده إلى راوٍ واحد ، وتلكم المواضع هي :
  1 ـ كتاب بدء الخلق في باب مناقب علي بن أبي طالب (1) .
  2 ـ كتاب الصلاة في باب نوم الرجال في المسجد (2) .
  3 ـ كتاب الأدب في باب التكني بأبي تراب (3) .
  4 ـ كتاب الاستيذان في باب القائلة في المسجد (4) .
ورواه أيضاً في الأدب المفرد في باب من كنى رجلاً بشيء هو فيه .
ورواه الطبري في تاريخه (5) .
وأخرجه مسلم في صحيحه في مكانين :
  1 ـ في باب مناقب أمير المؤمنين (6) .
  2 ـ كتاب الصلاة في باب نوم الرجل في المسجد (7) .
  وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8) .
  وتوجد عدة أحاديث وردت فيها تكنية النبي ( صلى الله عليه وآله ) لعلي ( عليه السلام ) بأبي تراب ، ولم يذكر فيها زمان أو مكان يمكن أن نحدد على ضوئها زمان الصدور .
  1 ـ فمنها حديث علي ( عليه السلام ) قال : طلبني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فوجدني في جدول نائماً ، فقال : ما ألوم الناس يسمونك أبا تراب ، فرآني كأنّي وجدت في نفسي من

---------------------------
(1) صحيح البخاري ، كتاب بدء الخلق في باب مناقب علي بن أبي طالب 5 : 18 .
(2) المصدر نفسه ، كتاب الصلاة في باب نوم الرجال في المسجد 1 : 92 .
(3) المصدر نفسه ، كتاب الأدب في باب التكني بأبي تراب 8 : 45 .
(4) المصدر نفسه ، كتاب الاستيذان في باب القائلة في المسجد 8 : 63 .
(5) تاريخ الطبري 2 : 124 / 363 .
(6) صحيح مسلم ، في باب مناقب أمير المؤمنين 7 : 124 وفيه ذكر المغاضبة .
(7) صحيح مسلم ، كتاب الصلاة في باب نوم الرجل في المسجد .
(8) السنن الكبرى للبيهقي 2 : 446 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 71 _

  ذلك ، فقال : قم والله لأرضينّك ، أنت أخي وأبو ولدي ، تقاتل على سنتي ، وتبرئ ذمتي ، من مات في عهدي فهو كبّر الله ، ومن مات في عهدك فقد قضى نحبه ، ومن مات يحبك بعد موتك ختم الله له بالأمن والإيمان ما طلعت شمس أو غربت ، ومن مات يبغضك مات ميتة جاهلية وحوسب بما عمل في الإسلام .
أخرجه أبو يعلى في مسنده ، والسيوطي في الجامع الكبير كما في كنز العمّال (1) ، وقال البوصيري : رواته ثقات .
  2 ـ ومنها حديث أبي الطفيل قال : جاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلي نائم في التراب ، فقال : أحق اسمائك أبو تراب ، أنت أبو تراب .
أخرجه ابن عساكر في تاريخه في ترجمة الإمام (2) ، والطبراني في معجمه الكبير والأوسط ، وعنه الهيثمي في مجمع الزوائد (3) وقال : ورجاله ثقات .
  3 ـ ومنها ما رواه ابن هشام في سيرته بعد ذكره لحديث عمار المتقدم ، قال ابن إسحاق : وقد حدّثني بعض أهل العلم أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إنّما سمّى علياً أبا تراب أنّه كان إذا عتب على فاطمة في شيء لم يكلّمها ولم يقل لها شيئاً تكرهه إلا أنّه يأخذ تراباً فيضعه على رأسه ، قال : فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا رأى عليه تراباً عرف أنّه عاتب على فاطمة ، فيقول : مالك يا أبا تراب ؟
  وعقّب ابن هشام على ذلك بقوله : فالله أعلم أيّ ذلك كان ، وليس في تعقيبه ما يدعونا إلى التعليق عليه إذ يبدوا أنّه لم يجزم بواحد منهما ، ولكنه لا يعدوها .
  ولكن هلمّ الخطب فيما يقوله السهيلي في الروض الانف (4) ، وهو في شرح سيرة ابن هشام ، قال السهيلي وقد ذكر الحديثين الأولين في تكنية علي بأبي

---------------------------
(1) كنز العمّال 12 : 206 .
(2) تاريخ ابن عساكر في ترجمة الإمام 1 : 24 .
(3) مجمع الزوائد للهيثمي 9 : 101 .
(4) الروض الأنف للسهيلي 2 : 58 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 72 _

  تراب : وأصحّ من ذلك ما رواه البخاري في جامعه ، وهو أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وجده في المسجد نائماً ، وقد ترب جنبه فجعل يحث ـ كذا في النسخة ولعل الأصوب يحتّ بالمثناة ـ التراب عن جنبه ويقول : قم أبا تراب ، وكان قد خرج إلى المسجد مغاضباً لفاطمة .
  وهذا معنى الحديث ، وما ذكره ابن إسحاق عن حديث عمار مخالف له إلا أن يكون رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كنّاه بها مرّتين ، مرّة في المسجد ومرّة في هذه الغزوة ، فالله أعلم .
  أقول : ونحن قد ذكرنا مواضع الحديث في صحيح البخاري ، وأنّه ذكره في أربعة مواضع من جامعه ، وأشرنا إلى أنّه لم تتفق صور رواياته للحديث على صورة واحدة ، مع أنّها عن راوٍ واحد ، وهو أبو حازم عن سهل بن سعد ، مما يكشف عن عدم دقة البخاري في نقله ، ومع ذلك التفاوت في روايات البخاري ، فراجع وقارن بين ما حكاه السهيلي عن البخاري ، وبين ما هو موجود في الجامع الصحيح ، فسوف تجده لا يتفق مع أيّ صورة منها .
  نعم ، لقد تخلّص السهيلي بلباقة حيث قال موهماً : وهذا معنى الحديث ! فهل يعني أنّ ما حكاه عن البخاري كان نقلاً بالمعنى لما رواه البخاري ؟ وكان عليه أن يعيّن الرواية التي أرادها ، ومهما يكن ذلك فلا يهمنا تفسيره ، ونتركه له ولقومه .
  ذكر الزرقاني في شرح المواهب (1) ما قاله السهيلي ، وما ذكره غيره كابن حجر الذي أبى وأصرّ إلا أن تكون التكنية مرّة واحدة ، وقال بامتناع الجمع بين ما جاء في حديث المؤاخاة في حديث عمار ، وبين ما جاء في حديث سهل بن سعد ، ثم قال : ولم يظهر من تعليله امتناع الجمع فإنه ممكن بمثل ما جمعوا به بين الحديثين قبله ، فيكون كنّاه ثلاث مرّات :
  أولها : يوم المؤاخاة في المسجد .

---------------------------
(1) شرح المواهب للزرقاني 1 : 396 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 73 _

  وثانيها : في هذه الغزوة في نخل بني مدلج .
  وثالثها : بعد بدر في المسجد لما غاضب الزهراء ( ؟ ) وإنما يمتنع لو قال في رواية الصحيحين أنه أول يوم كنّاه فيه كما ادعى ابن القيّم .
  أقول : أتدري لماذا يصرّ القوم على الالتزام بما جاء في صحيح البخاري في المقام، لأنّه ذكر في رواياته أن سبب خروج علي إلى المسجد كان مغاضبته الزهراء ، وبذلك يكون علي قد أغضب فاطمة ، ومن أغضب فاطمة أغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ومن أغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقد أغضب الله ، ومن أغضب الله فقد باء بغضبٍ منه وعذاب أليم ؟ !
   فتكون النتيجة أنّ علياً ما دام مغاضباً للزهراء فهو لا يستحق الولاية ، لأنّ الله سبحانه يقول في آخر سورة الممتحنة : ( يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ) (1) وهذا هو بعض المطلوب لمن لا يخفى نصبه وعناده .
  ولنترك البخاري وأحاديثه ومن هلج في تركاضه وراءه ، فيكفي في رد فرية المغاضبة نفس حديث التسمية بأبي تراب ، فإذا عرفنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هو الذي سمّاه بأبي تراب ـ كما مرّ في حديث ابن عباس وحديث عمّار _ عرفنا لماذا كان علي يعتزّ بذلك ، ولم يكن أحبّ إلى علي من ذلك الاسم ، كما في حديث سهل بن سعد وجابر، لأنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سمّاه به دون غيره ، وعرفنا كذلك أيضاً لماذا كان بنو أمية ينتقصون علياً بذلك الإسم منذ حياته وحتى بعد وفاته ، لأنّهم كانوا يحسدونه وينفذون من وراء سبّه إلى سبّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهذا ما أدركه غير واحد من الحفاظ .
  فمنهم الحاكم ابن البيع فقد قال : كان بنوا أمية تنقص علياً ( عليه السلام ) بهذا الاسم الذي سمّاه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ويلعنوه على المنبر بعد الخطبة مدة ولايتهم ، وكانوا

---------------------------
(1) الممتحنة : 13 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 74 _

  يستهزئون به ، وانّما استهزأوا الذي سمّاه به ، وقد قال الله تعالى : ( قُلْ أبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمَانِكُمْ ) الآية (1) .
  ومنهم الحافظ سبط ابن الجوزي ، قال في التذكرة (2) معقباً على قول الحاكم وقد ذكره : والذي ذكره الحاكم صحيح ، فإنّهم يتحاشون من ذلك ، بدليل ما روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنّه دخل على معاوية بن أبي سفيان فقال : ما منعك أن تسبّ أبا تراب ، الحديث (3) .
  ومنهم أبو رياش قال في شرحه على هاشميات الكميت (4) كما سيأتي : فجعل ذلك بنو أمية من حسدهم ذماً له ( رضي الله عنه ) انتهى .
  والشواهد على ذلك كثيرة ، ويكفي أنّ بني أمية كانوا إذا غضبوا على الرجل لموالاته لعلي قالوا له : ترابي .
فهذا معاوية ـ وهو أول من سنّ السبّ لعلي بذلك ـ قال لعبد الله الحضرمي ، وقد أرسله إلى البصرة فأوصاه بقوله : ودع عنك ربيعة فلن ينحرف عنك أحد سواهم لأنّهم كلهم ترابية (5) .
  وجاء في تاريخ ابن الأثير (6) في ذكر سرية أرسلها معاوية بقيادة زهير بن مكحول العامري لتغير على أطراف السماوة ، وبلغ الإمام علي ( عليه السلام ) فأرسل سرية بقيادة الحلاّس بن عمير لردّ عادية الغزاة ، جاء في تلك الحادثة قول الغزاة لراعٍ هناك : أين أخذ هؤلاء الترابيون ؟

---------------------------
(1) التوبة : 65 / 66 .
(2) تذكرة الخواص : 4 .
(3) صحيح مسلم 7 : 120 .
(4) شرح هاشميات الكميت : 36 .
(5) تاريخ ابن الأثير 3 : 165 .
(6) المصدر نفسه 3 : 165 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 75 _

  وجاء في حديث الحجاج مع الحسن البصري ، وقد سكت عن الخوض في سب الإمام : ترابي عراقي (1) .
  ويكفي في شيوع ذلك اللقب على الشيعة ما جاء في مختصر فتح رب الأرباب بما أهمل في لب الألباب من واجب الأنساب (2) : ( الترابي ) إلى أبي تراب كنية أمير المؤمنين ـ كرّم الله وجهه ـ وهو في أيام بني أمية من يميل إلى أبي تراب المذكور ، وعلى ذلك جاء قول الكميت بن زيد الأسدي (3) :
وقالوا    ترابيّ   هواه   iiورأيه      بذلك    أدعى    فيهم    iiوألقّب
على ذلك أجرياي فيكم ضريبتي      ولو  أجمعوا  طُراً عليّ وأجلبوا
  نعود فنقول : إذا عرفنا جميع ذلك فهل يبقى مجال لمجرد التوهم ـ فضلاً عن الظن واليقين ـ أن علياً أحبّ أن يكتني بأبي حرب ، وهو الذي كانت كنيته أبا تراب ، وكنّاه بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وكانت أحبّ كناه إليه ؟ يا ترى ما الذي حدث لأن يحب ثانياً غير حبه الأول ؟ وهل أبقى الحب الأو ل مكاناً ليحب ثانياً أن يكتني بأبي حرب ؟
  نعم ، اللهمّ إلاّ أن يطرأ طارئ فيزيل الحب الأول عن مكانه ، وهذا لم يحدث أبداً ، إذن ما الذي حدث حتى ذكروا أنّه أحب حرباً وأحب أن يكتني بأبي حرب ؟ إنّ كل ما حدث هو أنّ الحكام الأمويين اتخذوا بطانة سوء ، تضع لهم ما يشاؤون من أحاديث بحسب أهوائهم ، فكان حديث حبّ الاكتناء بأبي حرب من بعض تلك المفتريات .

---------------------------
(1) شواهد التن ـ زيل للحسكاني 1 : 94 / 95 .
(2) مختصر فتح رب الأرباب : 10 .
(3) الهاشميات : 36 / 37 .