الفهرس العام




  قال المرتضى : أوّل ما ابتدأ به قاضي القضاة حكايته عنّا استدلالنا على أنّه ( صلى الله عليه وآله ) مورّث بقوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنثَيَيْنِ ) (1) وهذا الخطاب عام يدخل فيه النبيّ وغيره .
  ثم أجاب ـ يعني قاضي القضاة ـعن ذلك ، فقال : إنّ الخبر الّذي احتج به أبو بكر ـ يعني قوله : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ـ لم يقتصر على روايته هو وحده حتى استشهد عليه عمر وعثمان وطلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن ، فشهدوا به ، فكان لا يحل لأبي بكر وقد صار الأمر إليه أن يقسم التركة ميراثاً ، وقد خبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأنّها صدقة وليست بميراث ، وأقلّ ما في هذا الباب أن يكون الخبر من أخبار الآحاد ، فلو أنّ شاهدين شهدا في التركة أنّ فيها حقاً ، أليس كان يجب أن يصرف ذلك عن الإرث ! فعلمه بما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع شهادة غيره أقوى .
  ولسنا نجعله مدّعياً لأنّه لم يدع ذلك لنفسه ، وإنّما بيّن أنّه ليس بميراث ، وأنّه صدقة ، ولا يمتنع تخصيص القرآن بذلك ، كما يخصّ في العبد والقاتل وغيرهما ، وليس ذلك بنقص في الأنبياء ، بل هو إجلالٌ لهم ، يرفع الله به قدرهم عن أن يورّثوا المال ، وصار ذلك من أوكد الدواعي ألاّ يتشاغلوا بجمعه ، لأن أحد الدواعي القوية إلى ذلك تركه على الأولاد والأهلين ، ولما سمعت فاطمة ( عليها السلام ) ذلك من أبي بكر كفّت عن الطلب فيما ثبت من الأخبار الصحيحة ، فلا يمتنع أن تكون غير عارفة بذلك ، فطلبت الإرث ، فلما روى لها ما روى كفّت ، فأصابت أولاً وأصابت ثانياً .
   وليس لأحد أن يقول : كيف يجوز أن يبيّن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذلك للقوم ولا حقّ لهم في الإرث ، ويدع أن يبيّن ذلك لمن له حق في الإرث ، مع أنّ التكليف يتصل به ،

---------------------------
(1) النساء : 11 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 377 _

  وذلك لأنّ التكليف في ذلك يتعلق بالإمام ، فإذا بيّن له جاز ألاّ يبيّن لغيره ويصير البيان له بياناً لغيره ، وإن لم يسمعه من الرسول ، لأنّ هذا الجنس من البيان يجب أن يكون بحسب المصلحة .
  قال : ثمّ حكى عن أبي عليّ أنّه قال : أتعلمون كذِبَ أبي بكر في هذه الرواية ، أم تجوّزون أن يكون صادقاً ؟ قال : وقد علم أنّه لا شيء يقطع به على كذبه ، فلابدّ من تجويز كونه صادقاً ، وإذا صحّ ذلك قيل لهم : فهل كان يحلّ له مخالفة الرسول ؟
  فإن قالوا : لو كان صِدقاً لظهر واشتهر ، قيل لهم : إنّ ذلك من باب العمل ، ولا يمتنع أن ينفرد بروايته جماعة يسيرة ، بل الواحد والاثنان ، مثل سائر الأحكام ومثل الشهادات ، فإن قالوا : نعلم أنّه لا يصحّ لقوله تعالى في كتابه : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ) (1) .
  قيل لهم : ومن أين أنّه ورثه الأموال، مع تجويز أن يكون ورثه العلم والحكمة ؟
  فإن قالوا : إطلاق الميراث لا يكون إلاّ في الأموال، قيل لهم : إن كتاب الله يُبطل قولَكم ، لأنّه قال : ( ثُمَّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (2) ، والكتاب ليس بمال ، ويقال في اللغة : ما ورثت الأبناء عن الآباء شيئاً أفضل من أدب حَسَن، وقالوا : العلماء ورثة الأنبياء ، وإنّما ورثوا منهم العلم دون المال ، على أنّ في آخر الآية ما يدلّ على ما قلناه ، وهو قوله تعالى حاكياً عنه : ( وَقَالَ يَا أيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَاُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْء إنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ ) (3) ، فنبّه على أنّ الّذي ورث هو هذا العلم وهذا الفضل ، وإلاّ لم يكن لهذا القول تعلق بالأول .

---------------------------
(1) النمل : 16 .
(2) فاطر : 32 .
(3) النمل : 16 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 378 _

  فإن قالوا : فقد قال تعالى : ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (1) ، وذلك يُبطل الخبر ! قيل لهم : ليس في ذلك بيان المال أيضاً ، وفي الآية ما يدلّ على أنّ المراد النبوّة والعلم ، لأنّ زكريا خاف على العلم أن يندرس ، وقوله : ( وَإنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ) (2) يدلّ على ذلك ، لأنّ الأنبياء لا تحرص على الأموال حرصاً يتعلق خوفها بها ، وإنما أراد خوفه على العلم أن يضيع ، فسأل الله تعالى وليّاً يقوم بالدّين مقامه ، وقوله : ( وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) يدلّ على أنّ المراد العلم والحكمة ، لأنّه لا يرث أموال يعقوب في الحقيقة ، وإنّما يرث ذلك غيره .
  قال : فأمّا مَن يقول إنّ المراد أنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ، ما تركناه صدقة ، أي ما جعلناه صدقة في حال حياتنا لا نورثه ، فركيك من القول ، لأنّ إجماع الصحابة يخالفه ، لأنّ أحداً لم يتأوّله على هذا الوجه ، ولأنّه لا يكون في ذلك تخصيص الأنبياء ، ولا مزية لهم ، ولأنّ قوله : ما تركناه صدقة ، جملة من الكلام مستقلّة بنفسها ، كأنّه ( عليه السلام ) مع بيانه أنّهم لا يورثون المال يبيّن أنّه صدقة ، لأنّه كان يجوز ألاّ يكون ميراثاً ، ويصرف إلى وجه آخر غير الصدقة .
  قال : فأمّا خبر السيف والبغلة والعمامة وغير ذلك ، فقد قال أبو عليّ : إنّه لم يثبت أنّ أبابكر دفع ذلك إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على جهة الإرث ، كيف يجوز ذلك مع الخبر الّذي رواه ، وكيف يجوز لو كان وارثاً أن يخصّه بذلك ولا إرث له مع العمّ لأنّه عصبة !
  فإن كان وصل إلى فاطمة ( عليها السلام ) فقد كان ينبغي أن يكون العباس شريكاً في ذلك وأزواج الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، ولوجب أن يكون ذلك ظاهراً مشهوراً ليُعرف أنّهم

---------------------------
(1) مريم : 5 / 6 .
(2) مريم : 5 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 379 _

  أخذوا نصيبهم من ذلك أو بدله ، ولا يجب إذا لم يدفع أبو بكر ذلك إليه على جهة الإرث ألا يحصل ذلك في يده ، لأنّه قد يجوز أن يكون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نحله ذلك ، ويجوز أيضاً أن يكون أبو بكر رأى الصلاح في ذلك أن يكون بيده لما فيه من تقوية الدين ، وتصدق ببدله بعد التقويم ، لأنّ الإمام له أن يفعل ذلك .
  قال : وحكى عن أبي عليّ في البُرد والقضيب أنّه لم يمتنع أن يكون جعله عدة في سبيل الله وتقوية على المشركين ، فتداولته الأئمة لما فيه من التقوية ، ورأى أنّ ذلك أولى من أن يتصدق به إن ثبت أنّه ( عليه السلام ) لم يكن قد نحله غيره في حياته ، ثمّ عارض نفسه بطلب أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله ) الميراث ، وتنازع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والعباس بعد موت فاطمة ( عليها السلام ) ، وأجاب عن ذلك بأن قال : يجوز أن يكونوا لم يعرفوا رواية أبي بكر وغيره للخبر .
  وقد روي أنّ عائشة لمّا عرّفتهنّ الخبر أمسكن ، وقد بيّنا أنّه لا يمتنع في مثل ذلك أن يخفى على من يستحق الإرث ، ويعرفه من يتقلّد الأمر ، كما يعرف العلماء والحكام من أحكام المواريث ما لا يعلمه أرباب الإرث ، وقد بيّنا أنّ رواية أبي بكر مع الجماعة أقوى من شاهدين لو شهدا أنّ بعض تركته ( عليه السلام ) دين ، وهو أقوى من رواية سلمان وابن مسعود لو رويا ذلك .
  قال : ومتى تعلّقوا بعموم القرآن أريناهم جواز التخصيص بهذا الخبر ، كما أن عموم القرآن يقتضي كون الصدقات للفقراء ، وقد ثبت أنّ آل محمّد لا تحلّ لهم الصدقة .
  هذا آخر ما حكاه المرتضى من كلام قاضي القضاة .
  ثم قال : نحن نبيّن أوّلاً ما يدل على أنّه ( صلى الله عليه وآله ) يورث المال ، ونرتّب الكلام في ذلك الترتيب الصحيح ، ثمّ نعطف على ما أورده ، ونتكلّم عليه .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 380 _

  قال ( رضي الله عنه ) : والذي يدلّ على ما ذكرنا قوله تعالى مخبراً عن زكريا ( عليه السلام ) : ( وَإنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) (1) .
  فخبر أنّه خاف من بني عمّه ، لأنّ الموالي هاهنا هم بنو العمّ بلا شبهة ، وإنّما خافهم أن يرثوا ماله فينفقوه في الفساد ، لأنّه كان يعرف ذلك من خلائقهم وطرائقهم ، فسأل ربّه ولداً يكون أحق بميراثه منهم .
  والذي يدل على أنّ المراد بالميراث المذكور ميراث المال دون العلم والنبوة على ما يقولون ، إنّ لفظة الميراث في اللغة والشريعة لا يفيد إطلاقها إلاّ ما يجوز أن ينتقل على الحقيقة من الموروث إلى الوارث ، كالأموال وما في معناها ، ولا يُستعمل في غير المال إلاّ تجوّزاً واتساعاً ، ولهذا لا يُفهم من قول القائل : لا وارث لفلان إلاّ فلان ، وفلان يرث مع فلان بالظاهر والإطلاق إلاّ ميراث الأموال والأعراض دون العلوم وغيرها ، وليس لنا أن نعدل عن ظاهر الكلام وحقيقته إلى مجازه بغير دلالة .
  وأيضاً فإنّه تعالى خبّر عن نبيّه أنّه اشترط في وارثه أن يكون رضيّاً ، ومتى لم يُحمل الميراث في الآية على المال دون العلم والنبوة لم يكن للاشتراط معنى ، وكان لغواً وعبثاً ، لأنّه إذا كان إنّما سأل من يقوم مقامه ، ويرث مكانه فقد دخل الرضا وما هو أعظم من الرضا في جملة كلامه وسؤاله، فلا مقتضى لاشتراطه ، ألا ترى أنّه لا يحسن أن يقول : اللهم ابعث إلينا نبياً واجعله عاقلاً ، [ومكلّفاً]، فإذا ثبتت هذه الجملة صحّ أنّ زكريا موروث ماله ، وصحّ أيضاً لصحتها أنّ نبينا ( صلى الله عليه وآله ) ممن يورث المال ، لأنّ الإجماع واقع على أنّ حال نبينا ( صلى الله عليه وآله ) لا يخالف حال الأنبياء المتقدّمين في ميراث المال ، فمن مثبت للأمرين ونافٍ للأمرين .

---------------------------
(1) مريم : 5 / 6 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 381 _

  قلت : إنّ شيخنا أبا الحسين قال في كتاب ( الغرر ) صورة الخبر الوارد في هذا الباب ، وهو الّذي رواه أبو بكر ! لا نورّث ، ولم يقل : نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ، فلا يلزم من كون زكريا يورث الطعن في الخبر ، وتصفّحت أنا كتب الصحاح في الحديث فوجدت صيغة الخبر كما قاله أبو الحسين ، وإن كان رسول[الله] ( صلى الله عليه وآله ) عنى نفسه خاصة بذلك فقد سقط احتجاج الشيعة بقصة زكريا وغيره من الأنبياء ، إلاّ أنّه يبعد عندي أن يكون أراد نفسه خاصة، لأنّه لم يَجْرِ عادته أن يخبر عن نفسه في شيء بالنون .
  فإن قلت : أيصح من المرتضى أن يوافق على أنّ صورة الخبر هكذا ، ثمّ يحتجّ بقصّة زكريا بأن يقول : إذا ثبت أنّ زكريا موروث ، ثبت أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يجوز أن يكون موروثاً ، لإجماع الأمة على أن لا فرق بين الأنبياء كلّهم في هذا الحكم !
  قلت : وإن ثبت له هذا الإجماع صحّ احتجاجه ، ولكن ثبوته يبعد ، لأنّ من نفى كون زكريا ( عليه السلام ) موروثاً من الأمة إنّما نفاه لاعتقاده أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : نحن معاشر الأنبياء (1) ، فإذا كان لم يقل هكذا ، لم يقل : إنّ زكريا ( عليه السلام ) غير موروث .
   قال المرتضى : ومما يقوي ما قدمناه أنّ زكريا ( عليه السلام ) خاف بني عمّه ، فطلب وارثاً لأجل خوفه ، ولا يليق خوفه منهم إلاّ بالمال دون العلم والنبوّة ، لأنّه ( عليه السلام ) كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيّاً ليس بأهل للنبوّة ، أو أن يورث علمه وحكمه من ليس أهلاً لهما ، ولأنّه إنّما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس ، فلا يجوز أن يخاف من الأمر الّذي هو الغرض في البعثة .
  
---------------------------
(1) لقد ورد بلفظ : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورّث . . . ) في جملة مصار من التراث السني منها : فتح الباري لابن حجر 12 : 8 ، ط دار الفكر بيروت ، وزاد المسير لابن الجوزي 5 : 209 ، ط دار الفكر بيروت ، واللئالئ المصنوعة للسيوطي 2 : 235 ، ط دار الكتاب العربي بمصر ، والبداية والنهاية لابن كثير 2 : 154 ، و 4 : 203 ، و 5 : 290 ، ط دار الفكر بيروت ، وتحفة الطالب لابن كثير 1 : 336 ، نشر دار حواء بمكة المكرمة سنة 1406 ، ومسند الربيع بن حبيب 2 : 62 ، تصوير مكتبة الثقافة وأخيراً موسوعة أطراف الحديث النبوي الشريف 10 : 17 ، ط عالم التراث .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 382 _

  فإن قيل : هذا يرجع عليكم في الخوف عن إرث المال ، لأنّ ذلك غاية الضن والبخل ، قلنا : معاذ الله أن يستوي الحال ، لأنّ المال قد يصحّ أن يرزقه الله تعالى المؤمن والكافر والعدو والوليّ ، ولا يصحّ ذلك في النبوّة وعلومها ، وليس من الظنّ أن يأسى على بني عمّه ـ وهم من أهل الفساد ـ أن يظفروا بماله فينفقوه على المعاصي ، ويصرفوه في غير وجوهه المحبوبة ، بل ذلك غاية الحكمة وحسن التدبير في الدين ، لأنّ الدين يحظر تقوية الفسّاق وإمدادهم بما يعينهم على طرائقهم المذمومة ، وما يعدّ ذلك شحاً ولا بخلاً إلاّ من لا تأمل له .
  فإن قيل : أفلا جاز أن يكون خاف من بني عمّه أن يرثوا علمه ، وهم من أهل الفساد على ما ادّعيتم فيستفسدوا به الناس ، ويموّهوا به عليهم ؟ قلنا : لا يخلو هذا العلم الّذي أشرتم إليه من أن يكون هو كتب علمه وصحف حكمته ـ لأنّ ذلك قد يسمّى علماً على طريق المجاز ـ أو يكون هو العلم الّذي يحل القلب ، وإن كان الأوّل فهو يرجع إلى معنى المال ، ويصحّ أنّ الأنبياء يورثون أموالهم وما في معناها ، وإن كان الثاني لم يخل هذا من أن يكون هو العلم الّذي بُعث النبيّ لنشره وأدائه ، أو أن يكون علماً مخصوصاً لا يتعلّق بالشريعة ، ولا يجب اطلاع جميع الأمّة عليه ، كعلم العواقب وما يجري في مستقبل الأوقات ، وما جرى مجرى ذلك .
  والقسم الأوّل لا يجوز على النبيّ أن يخاف من وصوله إلى بني عمّه ، وهم من جملة أمّته الّذين بعث لاطلاعهم على ذلك ، وتأديته إليهم ، وكأنّه على هذا الوجه يخاف ممّا هو الغرض من بعثته .
  والقسم الثاني فاسدٌ أيضاً ، لأنّ هذا العلم المخصوص إنّما يستفاد من جهته ، ويوقف عليه باطلاعه وإعلامه، وليس هو ممّا يجب نشره في جميع الناس ، فقد كان يجب إذا خاف من إلقائه إلى بعض الناس فساداً ألاّ يلقيه إليه ، فإنّ ذلك في يده ، ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 383 _

  قلت : لعاكسٍ أن يَعكِس هذا على المرتضى ( رحمه الله ) حينئذٍ ، ويقول له : وقد كان يجب إذا خاف من أن يرث بنو عمّه أمواله فينفقوها في الفساد أن يتصدق بها على الفقراء والمساكين ، فإنّ ذلك في يده ، فيحصل له ثواب الصدقة ، ويحصل له غرضه من حرمان أولئك المفسدين ميراثه .
  قال المرتضى ( رضي الله عنه ) : وممّا يدلّ على أنّ الأنبياء يورثون قوله تعالى : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ) (1) ، والظاهر من إطلاق لفظة الميراث يقتضي الأموال وما في معناها على ما دللنا به من قبل .
  قال : ويدلّ على ذلك أيضاً قوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنثَيَيْنِ . . . ) (2) الآية ، وقد أجمعت الأمّة على عموم هذه اللفظة إلاّ من أخرجه الدليل ، فيجب أن يتمسّك بعمومها ، لمكان هذه الدّلالة ، ولا يخرج عن حكمها إلاّ من أخرجه دليل قاطع .
  قلت : أمّا قوله تعالى : ( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ) ، فظاهرها يقتضي وراثة النبوّة أو الملك أو العلم الّذي قال في أوّل الآية : ( وَلَ ـ قَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً ) (3) ، لأنّه لا معنى لذكر ميراث سليمان المال ، فإنّ غيره من أولاد داود قد ورث أيضاً أباه داود، وفي كتب اليهود والنصارى أنّ بني داود كانوا تسعة عشر ، وقد قال بعض المسلمين أيضاً ذلك ، فأيّ معنىً في تخصيص سليمان بالذكر إذا كان إرث المال !   وأما : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أوْلادِكُمْ ) ، فالبحث في تخصيص ذلك بالخبر فرع من فروع مسألة خبر الواحد، هل هو حجة في الشرعيات أم لا ! فإن ثبت مذهب المرتضى في كونه ليس بحجة فكلامه هنا جيّد ، وإن لم يثبت فلا مانع من

---------------------------
(1) النمل : 16 .
(2) النساء : 11 .
(3) النمل : 15 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 384 _

  تخصيص العموم بالخبر ، فإنّ الصحابة قد خصّصت عمومات الكتاب بالأخبار في مواضع كثيرة .
  قال المرتضى : وأمّا تعلّق صاحب الكتاب بالخبر الّذي رواه أبو بكر ، وادعاؤه أنّه استشهد عمر وعثمان وفلاناً وفلاناً ، فأوّل ما فيه أنّ الّذي ادعاه من الاستشهاد غير معروف ، والذي روي أنّ عمر استشهد هؤلاء النفر لمّا تنازع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والعباس ( رضي الله عنه ) في الميراث ، فشهدوا بالخبر المتضمّن لنفي الميراث ، وإنّما مقول مخالفينا في صحّة الخبر الّذي رواه أبو بكر عند مطالبة فاطمة ( عليها السلام ) بالإرث على إمساك الأمّة عن النكير عليه ، والرّد لقضيّته .
  قلت : صدق المرتضى ( رحمه الله ) فيما قال ، أمّا عَقِيب وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ومطالبة فاطمة ( عليها السلام ) بالإرث ، فلم يروِ الخبر إلاّ أبو بكر وحده .
   وقيل : إنّه رواه معه مالك بن أوس بن الحدثان،وأمّا المهاجرون الّذين ذكرهم قاضي القضاة فإنّما شهدوا بالخبر في خلافة عمر، وقد تقدّم ذكر ذلك .
  قال المرتضى : ثمّ لو سلّمنا استشهاد مَنْ ذَكر على الخبر لم يكن فيه حجة ، لأنّ الخبر على كلّ حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم ، وهو في حكم أخبار الآحاد ، وليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجري هذا المجرى ، لأنّ المعلوم لا يخصّ إلاّ بمعلوم ، وإذا كانت دلالة الظاهر معلومة ، لم يجز أن يخرج عنها بأمرٍ مظنون .
  قال : وهذا الكلام مبنيٌّ على أنّ التخصيص للكتاب والسنّة المقطوع بها لا تقع بأخبار الآحاد ، وهو المذهب الصحيح ، وقد أشرنا إلى ما يمكن أن يعتمد في الدلالة عليه من أن الظن لا يقابل العلم ، ولا يرجع عن المعلوم بالمظنون .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 385 _

  قال : وليس لهم أن يقولوا : إنّ التخصيص بأخبار الآحاد يستند أيضاً إلى علم ، وإن كان الطريق مظنوناً ، ويشيروا إلى ما يدّعونه من الدّلالة على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة ، وأنّه حجّة ، لأنّ ذلك مبنىّ من قولهم على ما لا نسلّمه ، وقد دلّ الدليل على فساده ـ أعني قولهم : خبر الواحد حجة في الشرع ـ على أنّهم لو سلّم لهم ذلك لاحتاجوا إلى دليل مستأنف على أنّه يقبل في تخصيص القرآن، لأنّ ما دلّ على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع ، كما لا يتناول جواز النسخ به .
  قلت : أمّا قول المرتضى لو سلّمنا أنّ هؤلاء المهاجرين الستّة رووه لما خرج عن كونه خبراً واحداً ، ولما جاز أن يرجع عن عموم الكتاب به ، لأنّه معلوم والخبر مظنون .
  ولقائل أن يقول : ليته حصل في كل واحد من آيات القرآن رواية مثل هذه الستة ، حيث جمع القرآن على عهد عثمان ومن قبله من الخلفاء ، فإنّهم بدون هذا العدد كانوا يعملون في إثبات الآية في المصحف ، بل كانوا يحلفون من أتاهم بالآية (1) ، ومن نظر في كتب التواريخ عرف ذلك ، فإن كان هذا العدد إنّما يفيد الظنّ فالقول في آيات الكتاب كذلك ، وإن كانت آيات الكتاب أثبتت عن علم مستفاد من رواية هذا العدد ونحوه ، فالخبر مثل ذلك .

---------------------------
(1) هذا من أفظع الهذيان الذي ابتلي به المسلمون ، فالقرآن إنّما ثبت بالتواتر وليس بالبيّنة ، وهو كان مجموعاً ومكتوباً على عهد النبي ( صلى الله عليه وآله ) وحسبنا دليلاً على ذلك قوله ( صلى الله عليه وآله ) : ( إنّي تارك ـ مخلّف ـ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا . . . ) وفيه دلالة على أنّه كان مكتوباً ومجموعاً ، ولو لم يكن كذلك لما صحت الوصية على التمسك به ، إذ لا يصح إطلاق الكتاب عليه ، وهو غير مجموع ومكتوب ، كأن يكون محفوظاً في الصدور أو مكتوباً متفرقاً على العُسب والأكتاف واللخاف ، كما تمحل ابن حجر في تفسير الشاهدين على الآية ، كما حكاه عنه السيوطي في الاتقان ، وروايات الجمع على عهد الخالفين من بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) كلها مخدوشة سنداً ودلالة، أملتها سياسة الحاكمين .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 386 _

  فأمّا مذهب المرتضى في خبر الواحد ، فإنّه قولٌ انفرد به عن سائر الشيعة ، لأنّ من قبله من فقهائهم ما عوّلوا في الفقه إلاّ على أخبار الآحاد كزرارة ، ويونس ، وأبي بصير ، وابني بابويه ، والحلبي ، وابي جعفر القمّي وغيرهم ، ثمّ من كان في عصر المرتضى منهم كأبي جعفر الطوسي وغيره ، وقد تكلّمت في ( اعتبار الذريعة ) على ما اعتمد عليه في هذه المسألة ، وأمّا تخصيص الكتاب بخبر الواحد فالظاهر أنّه إذا صحّ كون خبر الواحد حجة في الشرع ، جاز تخصيص الكتاب به ، وهذا من فنّ أصول الفقه ، فلا معنى لذكره هنا .
  قال المرتضى ( رضي الله عنه ) : وهذا يسقط قول صاحب الكتاب : إنّ شاهدين لو شهدا أنّ في التركة حقاً لكان يجب أن ينصرف عن الإرث ، وذلك لأنّ الشهادة وإن كانت مظنونةً فالعمل بها يستند إلى علم ، لأنّ الشريعة قد قررت العمل بالشهادة ولم تقرر العمل بخبر الواحد ، وليس له أن يقيس خبر الواحد على الشهادة من حيث اجتمعا في غلبة الظن ، لأنّا لا نعمل على الشهادة من حيث غلبة الظنّ ، دون ما ذكرناه من تقرير الشريعة العمل بها ، ألا ترى أنّا قد نظنّ بصدق الفاسق والمرأة والصبي وكثير ممّن لا يجوز العمل بقوله ! فبان أن المعوّل في هذا على المصلحة الّتي نستفيدها على طريق الجملة من دليل الشرع .
  قال : وأبو بكر في حكم المدعي لنفسه ، والجارّ إليها بخلاف ما ظنّه صاحب الكتاب ، وكذلك من شهد له إن كانت هناك شهادة ، وذلك أنّ أبا بكر وسائر المسلمين سوى أهل بيت الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يحلّ لهم الصدقة ، ويجوز أن يصيبوا فيها ، وهذه تهمة في الحكم والشهادة .
  قال : وليس له أن يقول : فهذا يقتضي ألا يقبل شهادة شاهدين في تركةٍ فيها صدقة لمثل ما ذكرتم .
  قال : وذلك لأنّ الشاهدين إذا شهدا في الصدقة فحظّهما منها كحظ صاحب الميراث بل سائر المسلمين ، وليس كذلك حال تركة الرسول لأنّ كونها صدقة يحرمها على ورثته ، ويبيحها لسائر المسلمين .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 387 _

  قلت : هذا فرق غير مؤثر ، اللهم إلاّ أن يعني به تهمة أبي بكر والشهود الستة في جر النفع إلى أنفسهم يكون أكثر من تهمتهم لو شهدوا على أبي هريرة مثلاً أنّ ما تركه صدقة لأن أهل أبي هريرة يشاركون في القسمة ، وأهل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يشاركون الشهود فيما يصيبهم ، إذ هم لا تحلّ لهم الصدقة ، فتكون حصّة أبي بكر والشهود ممّا تركه رسول الله أكثر من حصتهم مما يتركه أبو هريرة ، فيكون تطرّق التهمة إلى أبي بكر والشهود أكثر حسب زيادة حصتهم .
وما وقفت للمرتضى على شيء أطرف من هذا ، لأنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مات والمسلمون أكثر من خمسين ألف إنسان ، لأنّه قاد في غزاة تبوك عشرين ألفاً ، ثمّ وفدت إليه الوفود كلّها بعد ذلك ، فليت شعري كم مقدار ما يتوفر على أبي بكر وستة نفر معه ، وهم من جملة خمسين ألفاً ، بين ما إذا كان بنو هاشم وبنو المطّلب ـ وهم حينئذٍ عشرة نفر ـ لا يأخذون حصة ، وبين ما إذا كانوا يأخذون ! أترى أيكون المتوفّر على أبي بكر وشهوده من التركة عشر عشر درهم ! ما أظنّ أنّه يبلغ ذلك ، وكم مقدار ما يقلل حصص الشهود على أبي هريرة إذا شركهم أهله في التركة ، لتكون هذه القلّة موجبةً رفع التهمة ، وتلك الزيادة والكثرة موجبة حصول التهمة ! وهذا الكلام لا أرتضيه للمرتضى (1) .
  قال المرتضى ( رضي الله عنه ) : وأما قوله : يخصّ القرآن بالخبر كما خصصناه في العبد والقاتل ، فليس بشيء ، لأنّا إنّما خصصنا من ذكر بدليل مقطوع عليه معلوم ، وليس هذا موجوداً في الخبر الّذي ادّعاه .

---------------------------
(1) سفسطة كلام وجعجعة من غير طحين ، فإن المرتضى ( رحمه الله ) إنّما وجّه كلامه رداً على قاضي القضاة في ان أبا بكر ومن شهد له على الخبر ، إنّما هم يجرّون نفعاً بدفعهم أهل البيت ( عليهم السلام ) عن حقهم ، سواء كان ذلك النفع مادياً ولو كان عشر عشر درهم ـ كما زعم ابن أبي الحديد ـ أو معنوياً وهو المطلوب لهم أولاً وبالذات ، على انّ أبا بكر أظهر وجه خصومته في زعمه ان أمر صدقات النبي ( صلى الله عليه وآله ) راجع إلى ولي الأمر بعده وأنه وليّه ، وهذا مكسبٌ عظيم وإن فرض غناه لأنها فدك ، وهو وليّ أمر الصدقات يعطي من يشاء ويمنع من يشاء .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 388 _

  فأمّا قوله : وليس ذلك ينقص الأنبياء ، بل هو إجلال لهم ، فمن الّذي قال له : إنّ فيه نقصاً ! وكما أنّه لا نقص فيه ، فلا إجلال فيه ولا فضيلة ، لأنّ الداعي وإن كان قد يقوّى على جميع المال ليخلف على الورثة ، فقد يقوّيه أيضاً إرادة صرفه في وجوه الخير والبرّ ، وكلا الأمرين يكون داعياً إلى تحصيل المال ، بل الداعي الّذي ذكرناه أقوى فيما يتعلّق بالدين .
  قال : وأمّا قوله : إنّ فاطمة لمّا سمعت ذلك كفّت عن الطلب فأصابت أوّلاً وأصابت ثانياً، فلعمري إنّها كفّت عن المنازعة والمشاحّة ، لكنّها انصرفت مغضبة متظلمة متألّمة، والأمر في غضبها وسخطها أظهر من أن يخفى على منصف ، فقد روى أكثر الرواة الّذين لا يتهمون بتشيّع ولا عصبيّة فيه من كلامها في تلك الحال ، وبعد انصرافها عن مقام المنازعة والمطالبة ، ما يدلّ على ما ذكرناه من سخطها وغضبها .
  أخبرنا أبو عبيد الله محمّد بن عمران المَرْزُبَاني قال : حدّثني محمّد بن أحمد الكاتب ، قال : حدّثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي ، قال : حدّثني الزيادي ، قال : حدّثنا الشرقي بن القطامي ، عن محمّد بن إسحاق ، قال : حدّثنا صالح بن كيسان ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فَدَك لاثت خمارها على رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمّة من حفدتها .
  قال المرتضى : وأخبرنا المَرْزُبَاني قال : حدّثنا أبو بكر أحمد بن محمّد المكّي قال : حدّثنا أبو العيناء بن القاسم اليمانيّ قال : حدّثنا ابن عائشة ، قال : لمّا قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أقبلت فاطمة إلى أبي بكر في لمّة من حفدتها ـ ثمّ اجتمعت الروايتان من هاهنا ... ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة ، ثمّ أنّت أنّهً أجهش لها القوم بالبكاء ، وارتجّ المجلس ، ثمّ

المحسن السبط مولود أم سقط _ 389 _

  أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم ، افتتحت كلامها بالحمد لله ( عزّ وجلّ ) والثناء عليه ، والصلاة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ثمّ قالت : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عليهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عليكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (1) ، فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم ، وأخا ابن عمّي دون رجالكم ، فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة ، مائلاً عن سنن المشركين ، ضارباً ثَبجهم ، يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، آخذاً بأكظام المشركين، يهشم الأصنام ، ويفلِّق الهام ، حتى انهزم الجمع وولّوا الدّبر ، وحتى تفرّى الليل عن صبحه ، وأسفر الحق عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقائق الشياطين ، وتمّت كلمة الإخلاص ، وكنتم على شفا حفرةٍ من النار ، نهزة الطامع ، ومذْقَة الشارب ، وقبْسة العجلان ، وموطأ الأقدام ، تشربون الطَّرْق ، وتقتاتون القِدّ، أذلة خاسئين ، يختطفكم الناس من حولكم ، حتى أنقذكم الله برسوله ( صلى الله عليه وآله ) بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مُني بهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، و(كُلَّمَا أوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أطْفَأهَا اللّهُ ) (2) ، أو نجم قرن الشيطان ، أو فغرت فاغرة قذف أخاه في لهواتها ، ولا ينكفي حتى يطأ صماخها باخمصه ويطفيء عادية لهبها بسيفه ـ أو قالت : يخمد لهبها بحدّه ـ مكدوداً في ذات الله ، وأنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون .
  إلى هنا انتهى خبر أبي العيناء عن ابن عائشة ، وأما عروة عن عائشة ، فزاد بعد هذا : حتى إذا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ، ظهرت حسيكةُ النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغَ خامل الآفكين ، وهدر فنيق المُبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه صارخاً بكم ، فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين ، ولقربه متلاحظين ، ثمّ استنهضكم فوجدكم خِفافاً ، وأحمشكم فألفاكم غضاباً ،

---------------------------
(1) التوبة : 128 .
(2) المائدة : 64 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 390 _

  فوسمتم غير إبلكم ، ووردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، إنّما زعمتم ذلك خوف الفتنة : ( ألا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ ) (1) ، فهيهات ! وأنّى بكم وأنى تؤفكون ، وكتاب الله بين أظهركم ، زواجره بيّنة ، وشواهده لائحة ، وأوامره واضحة ، أرغبةً عنه تريدون ، أم لغيره تحكمون ، بئس للظالمين بدلاً ! ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منهُ وهو في الآخرةِ من الخاسرين ، ثمّ لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها ، تُسرون حسواً في ارتغاء ، ونحن نصبر منكم على مثل حزّ المُدَى ، وأنتم الآن تزعمون ألاّ إرث لنا : ( أفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْم يُوقِنُونَ ) (2) يابن أبي قُحافة ، أترث أباك ولا أرث أبي ، لقد جئت شيئاً فريّاً ! فدونكها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ! ثمّ انكفأت إلى قبر أبيها ( عليه السلام ) ، فقالت :
قد   كان   بعدَكَ  أنباءٌ  iiوَهنبثةٌ      لو كنتَ شاهدَها لم تكثر الخُطَبُ
  إنّا  فقدناك  فقد  الأرض  وابِلَها      واختلّ  قومُك فاشهدهم ولا تَغِبِ
  وروى حرمي بن أبي العلاء مع هذين البيتين بيتاً ثالثاً : فليتَ بعدكَ كان الموت صَادَفنا لمّا قضيت وحالت دونَكَ الكُثُبُ
  قال : فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه وصلى على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) وقال : ياخَيْرَ النساء ، وابنة خير الآباء ، واللهِ ما عدوتُ رأيَ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا عملتُ إلاّ بإذنه ، وإنّ الرائد لا يَكذِب أهلَه ، وإنّي أشهد الله وكفى بالله شهيداً، أنّي سمعتُ رسول الله ( صلى الله عليه وآله )

---------------------------
(1) التوبة : 49 .
(2) المائدة 50 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 391 _

يقول : إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ذهباً ولا فضّة ولا داراً ولا عَقاراً ، وإنّما نورّث الكتاب والحكمة والعلم والنبوّة .
  قال : فلما وصل الأمر إلى عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) كُلّم في ردّ فَدَك ، فقال : إنّي لأستحيي من الله أن أرد شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر (1) .
  قال المرتضى : وأخبرنا أبو عبد الله المَرْزُبَاني ، قال : حدّثني عليّ بن هارون ، قال : أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر ، عن أبيه قال : ذكرت لأبي الحسين زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) كلام فاطمة ( عليها السلام ) عند منع أبي بكر إيّاها فَدَك ، وقلت له : إنّ هؤلاء يزعمون أنّه مصنوع وأنّه من كلام أبي العيناء ، لأنّ الكلام منسوق البلاغة .
  فقال لي : رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلّمونه أولادهم ، وقد حدّثني به أبي عن جدّي يَبْلغ به فاطمة ( عليها السلام ) على هذه الحكاية ، وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه قبل أن يوجد جدّ أبي العيناء ، وقد حدّث الحسين بن علوان ، عن عطية العوفي ، أنّه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسن يذكر عن أبيه هذا الكلام .
  ثم قال أبو الحسين زيد : وكيف تنكرون هذا من كلام فاطمة ( عليها السلام ) ، وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة ( عليها السلام ) ويحقّقونه لولا عداوتهم لنا أهل البيت ، ثمّ ذكر الحديث بطوله على نسقه ، وزاد في الأبيات بعد البيتين الأولين :
ضاقتْ  عليّ  بلادي  بعد ما رحُبتْ      وسِيمَ  سِبْطاكَ  خسفا فيه لي iiنَصَبُ
  فليت   قبلَك   كان  الموتُ  iiصادَفنا      قومٌ  تمنّوا  فأعطُوا  كلّ  ما  iiطلبوا
  تجهّمَتْنا    رجالٌ    واستُخفّ   iiبنا      مذ غبت عنّا وكلّ الإرث قد غصبوا

---------------------------
(1) الشافي : 230 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 392 _

 قال : فما رأينا يوماً أكثر باكياً أو باكية من ذلك اليوم .
   قال المرتضى : وقد روى هذا الكلام على هذا الوجه من طُرقٍ مختلفة ، ووجوه كثيرة ، فمن أرادها أخذها من مواضعها ، فكيف يدّعي أنّها ( عليها السلام ) كفّت راضية ، وأمسكت قانعة ، لولا البُهْت وقلّة الحياء !
   قلت : ليس في هذا الخبر ما يدلّ على فساد ما ادّعاه قاضي القضاة ، لأنّه ادّعى أنّها نازعت وخاصمت ، ثمّ كفّت لما سمعت الرواية وانصرفت تاركة للنزاع ، راضية بموجب الخبر المروي .
   وما ذكره المرتضى من هذا الكلام لا يدلّ إلاّ على سخطها حال حضورها ، ولا يدلّ على أنّها بعد رواية الخبر وبعد أن أقسم لها أبو بكر بالله تعالى أنّه ما روى عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلاّ ما سمعه منه ، انصرفت ساخطة، ولا في الحديث المذكور والكلام المروي ما يدلّ على ذلك ، ولست أعتقد أنّها انصرفت راضية كما قال قاضي القضاة ، بل أعلم أنّها انصرفت ساخطة ، وماتت وهي على أبي بكر واجِدة ، ولكن لا من هذا الخبر ، بل من أخبار اُخر ، كان الأولى بالمرتضى أن يحتجّ بها على ما يرويه في انصرافها ساخطة ، وموتها على ذلك السخط ، وأمّا هذا الخبر وهذا الكلام فلا يدلّ على هذا المطلوب .
   قال المرتضى ( رحمه الله ) : فأمّا قوله : إنّه يجوز أن يبيّن ( عليه السلام ) أنّه لا حقّ لميراثه في ورثته لغير الورثة ، ولا يمتنع أن يرد من جهة الآحاد ، لأنّه من باب العمل ، وكلّ هذا بناءً منه على أصوله الفاسدة في أنّ خبر الواحد حجّة في الشرع ، وأنّ العمل به واجب ، ودون صحة ذلك خَرْط القَتاد .
   وإنّما يجوز أن يبيّن من جهة أخرى إذا تساويا في الحجة ووقوع العمل ، فأمّا مع تباينهما فلا يجوز التخيير فيهما ، وإذا كان ورثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) متعبّدين بألاّ يرثوه ، فلابدّ من إزاحة عِلّتهم في هذه العبادة بأن يوقفهم على الحكم ، ويُشافِهَهم به ، ويلقيه إلى مَنْ يقيم الحجة عليهم بنقله ، وكل ذلك لم يكن .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 393 _

  فأمّا قوله : أتجوّزون صِدقَه في الرواية أم لا تجوزون ذلك ؟ فالجواب : إنّا لا نجوّزه ، لأنّ كتاب الله أصدق منه ، وهو يدفع روايته ويبطلها، فأمّا اعتراضه على قولنا : إنّ إطلاق الميراث لا يكون إلاّ في الأموال بقوله تعالى : ( ثُمَّ أوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (1) .
   وقولهم : ما ورثت الأبناء من الآباء شيئاً أفضل من أدب حسن ، وقولهم : العلماء ورثة الأنبياء ، فعجيب ، لأنّ كل ما ذكر مقيّد غير مطلق ، وإنّما قلنا : إنّ مطلق لفظ الميراث من غير قرينة ولا تقييد يفيد بظاهره ميراث الأموال ، فبعد ما ذكره وعارض به لا يخفى على متأمّل .
   فأما استدلاله على أنّ سليمان ورث داود علمه دون ماله بقوله : ( يَا أيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَاُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْء إنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ ) (2) وأنّ المراد أنّه وَرِث العلمَ والفضلَ ، وإلاّ لم يكن لهذا القول تعلّق بالأوّل ، فليس بشيء يعوّل عليه ، لأنّه لا يمتنع أن يريد به أنّه ورث المال بالظاهر والعلم بهذا المعنى من الاستدلال .
   فليس يجب إذا دلّت الدّلالة في بعض الألفاظ على معنى المجاز أن يقتصر بها عليه ، بل يجب أن يحملها على الحقيقة الّتي هي الأصل إذا لم يمنع من ذلك مانع، على أن لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصّة ، ثمّ يقول مع ذلك إنّا : ( عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ) ، ويشير ب ـ الفضل المبين إلى العِلم والمال جميعاً ، فله بالأمرين جميعاً فضلٌ على من لم يكن عليهما، وقوله : ( وَاُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْء ) يحتمل المال ، كما يحتمل العلم ، فليس بخالص ما ظنّه .

---------------------------
(1) فاطر : 32 .
(2) النمل : 16 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 394 _

  فأمّا قوله في قصّة زكريا : إنّه خاف على العلم أن يندرس ، لأنّ الأنبياء وإن كانوا لا يحرصون على الأموال ، وإنّما خاف أن يضيع العلم ، فسأل الله تعالى وليّاً يقوم بالدين مقامه، فقد بيّنا أنّ الأنبياء وإن كانوا لا يحرصون على الأموال ولا يبخلون بها ، فإنّهم يجتهدون في منع المفسدين من الانتفاع بها على الفساد ، ولا يعدّ ذلك بخلاً ولا حرصاً ، بل فضلاً وديناً، وليس يجوز من زكريا أن يخاف على العلم الاندراس والضياع ، لأنّه يعلم أن حكمة الله تعالى تقتضي حفظ العلم الّذي هو الحجة على العباد ، وبه تنزاح عللهم في مصالحهم ، فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله !
  فإن قيل : فهبوا أنّ الأمر كما ذكرتم من أنّ زكريا كان يأمن على العلم أن يندرس، أليس لابدّ أن يكون مجوزاً أن يحفظه الله تعالى بمن هو من أهله وأقاربه ، كما يجوز حفظه بغريب أجنبي ! فما أنكرتم أن يكون خوفه إنّما كان من بني عمّه ألا يتعلّموا العلم ولا يقوموا فيه مقامه ، فسأل الله ولداً يجمع فيه هذه العلوم حتى لا يخرج العلم عن بيته ، ويتعدّى إلى غير قومه ، فيلحقه بذلك وصمة !
  قلنا : أما إذا رتّب السؤال هذا الترتيب ، فالجواب عنه ما أجبنا به صاحب الكتاب ، وهو أنّ الخوف الّذي أشاروا إليه ليس من ضرر ديني ، وإنّما هو من ضررٍ دنياوي ، والأنبياء إنّما بُعِثوا لتحمل المضار الدنياوية ، ومنازلهم في الثواب إنّما زادت على كل المنازل لهذا الوجه ، ومن كانت حاله هذه الحال ، فالظاهر من خوفه إذا لم يعلم وجهه بعينه أن يكون محمولاً على مضار الدين ، لأنّها هي جهة خوفهم ، والغرض في بعثهم تحمّل ما سواها من المضارّ .
   فإذا قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أنا خائف ، فلم يعلم جهة خوفه على التفصيل ، يجب أن يصرف خوفه بالظاهر إلى مضار الدين دون الدنيا ، لأنّ أحوالهم وبعثهم يقتضي ذلك ، فإذا كنّا لو اعتدنا من بعضنا الزهد في الدنيا وأسبابها ، والتعفّف عن منافعها ،

المحسن السبط مولود أم سقط _ 395 _

  والرغبة في الآخرة ، والتفرّد بالعمل لها ، لكنّا نحمل على ما يظهر لنا من خوفه الّذي لا يعلم وجهه بعينه على ما هو أشبه وأليق بحاله ، ونضيفه إلى الآخرة دون الدنيا ، وإذا كان هذا واجباً فيمن ذكرناه فهو في الأنبياء ( عليهم السلام ) أوجب .
   قلت : ينبغي ألا يقول المعترض فيلحقه بذلك وصمة ، فيجعل الخوف من هذه الوصمة ، بل يقول : إنّه خاف ألاّ يُفلح بنو عمّه ولا يتعلّموا العلم ، لما رأى من الأمارات الدالة على ذلك ، فالخوف على هذا الترتيب يتعلّق بأمر ديني لا دنيوي ، فسأل الله تعالى أن يرزقه ولداً يرث عنه علمه ، أي يكون عالماً بالدينيات كما أنا عالم بها .
   وهذا السؤال متعلّق بأمر ديني لا دنيوي ، وعلى هذا يندفع ما ذكره المرتضى، على أنّه لا يجوز إطلاق القول بأنّ الأنبياء بُعِثوا لتحمل المضار الدنياوية ، ولا القول : الغرض في بعثتهم تحمل ما سوى المضار الدينية من المضار ، فإنّهم ما بعثوا لذلك ، ولا الغرض في بعثتهم ذلك ، وإنّما بعثوا لأمرٍ آخر ، وقد تحصل المضار في أداء الشرع ضمناً وتبعاً ، لا على أنّها الغرض ، ولا داخلة في الغرض .
   وعلى أنّ قول المرتضى : لا يجوز أن يخاف زكريا من تبديل الدين وتغييره ، لأنّه محفوظ من الله ، فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله، غير مستمرّ على أصوله ، لأنّ المكلّفين الآن قد حُرموا بغيبة الإمام عنده ألطافاً كثيرة الوصلة بالشرعيات كالحدود وصلاة الجمعة والأعياد ، وهو وأصحابه يقولون في ذلك إن اللوم على المكلّفين، لأنّهم قد حرموا أنفسهم اللطف ، فهلاّ جاز أن يخاف زكريا من تبديل الدين وتغييره ، وإفساد الأحكام الشرعية ! لأنّه إنّما يجب على الله تعالى التبليغ بالرسول إلى المكلّفين ، فإذا أفسدوا هم الأديان وبدّلوها لم يجب عليه أن يحفظها عليهم ، لأنّهم هم الّذين حرموا أنفسهم اللطف .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 396 _

 واعلم أنّه قد قرئ : ( وَإنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ) (1) ، وقيل : إنّها قراءة زين العابدين وابنه محمّد بن عليّ الباقر ( عليهم السلام ) وعثمان بن عفّان .
   وفسّروه على وجهين :
  أحدهما أن يكون ورائي بمعنى خلفي وبعدي ، أي قلّت الموالي وعجزوا عن إقامة الدين ، تقول : قد خفّ بنو فلان ، أي قلّ عددهم ، فسأل زكريا ربّه تقويتهم ومظاهرتهم بوليٍّ يرزقه .
   وثانيهما أن يكون ورائي بمعنى قدّامي ، أي خفّ الموالي وأنا حيّ ودرجوا وانقرضوا ، ولم يبق منهم من به اعتضاد ، وعلى هذه القراءة لا يبقى متعلّق بلفظة الخوف .
   وقد فسر قوم قوله : ( وَإنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ ) ، أي خفت الّذين يلون الأمر من بعدي ، لأنّ المولى يستعمل في الوالي ، وجمعه موالٍ ، أي خفت أن يلي بعد موتي أمراء ورؤساء يُفسدون شيئاً من الدين ، فارزقني ولداً تُنعِم عليه بالنبوّة والعلم ، كما أنعمت عليّ ، واجعل الدين محفوظاً به، وهذا التأويل غير منكر ، وفيه أيضاً دفع لكلام المرتضى .
   قال المرتضى : وأمّا تعلّق صاحب الكتاب في أنّ الميراث محمول على العلم بقوله : ( وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (2) ، لأنّه لا يرث أموال آل يعقوب في الحقيقة وإنّما يرث ذلك غيره ، فبعيد من الصواب، لأنّ ولد زكريا يرث بالقرابة من آل يعقوب أموالهم ، على أنّه لم يقل : يرث آل يعقوب ، بل قال : ( يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ، تنبيهاً بذلك على أنّه يرث من كان أحقّ بميراثه في القرابة .
   فأمّا طعنه على من تأول الخبر بأنّه ( عليه السلام ) لا يورث ما تركه للصدقة بقوله : إنّ

---------------------------
(1) مريم : 5 .
(2) مريم : 6 .

المحسن السبط مولود أم سقط _ 397 _

  أحداً من الصحابة لم يتأوّله على هذا الوجه ، فهذا التأويل الّذي ذكرناه أحد ما قاله أصحابنا في هذا الخبر ، فمن أين له إجماع الصحابة على خلافه ! وإنّ أحداً لم يتأوّله على هذا الوجه .
   فإن قال : لو كان ذلك لظهر واشتهر ، ولوقف أبو بكر عليه ، فقد مضى من الكلام فيما يمنع من الموافقه على هذا المعنى ما فيه كفاية .
   قلت : لم يكن ذلك اليوم ـ أعني يوم حضور فاطمة ( عليها السلام ) ، وقولها لأبي بكر ما قالت _ يوم تقيّة وخوف ، وكيف يكون يوم تقيّة وهي تقول له وهو الخليفة : يابن أبي قُحافة ، أترث أباك ولا أرث أبي ! وتقول له أيضاً : لقد جئت شيئاً فريّا ! فكان ينبغي إذا لم يؤثر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أن يفسّر لأبي بكر معنى الخبر أن يُعلِم فاطمة ( عليها السلام ) تفسيره ، فتقول لأبي بكر : أنت غالط فيما ظننت ، إنّما قال أبي : ما تركناه صدقة فإنّه لا يورث .
   واعلم أنّ هذا التأويل كاد يكون مدفوعاً بالضرورة ، لأنّ من نظر في الأحاديث الّتي ذكرناها وما جرت عليه الحال يعلم بطلانه علماً قطعيّاً .
   قال المرتضى : وقوله : إنّه لا يكون إذ ذلك تخصيص للأنبياء ولا مزية، ليس بصحيح ، وقد قيل في الجواب عن هذا : إنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يجوز أن يريد أنّ ما ننوي فيه الصدقة ، ونفرده لها من غير أن نخرجه عن أيدينا لا تناله ورثتنا ، وهذا تخصيص للأنبياء ، ومزية ظاهرة .
   قلت : هذه مخالفة لظاهر الكلام ، وإحالة للّفظ عن وضعه ، وبين قوله : ما ننوي فيه الصدقة ، وهو بعد في ملكنا ليس بموروث ، وقوله : ما نخلّفه صدقة ليس بموروث فرق عظيم ، فلا يجوز أن يُراد أحد المعنيين باللفظ المفيد للمعنى الآخر ، لأنّه إلباسٌ وتعمية .
   وأيضاً ، فإنّ العلماء ذكروا خصائص الرسول في الشرعيات عن أمته وعدّدوها ، نحو حل الزيادة في النكاح على أربع ، ونحو النكاح بلفظ الهبة على قول فرقةٍ من

المحسن السبط مولود أم سقط _ 398 _

  المسلمين ، ونحو تحريم أكل البصل والثوم عليه ، وإباحة شرب دمه ، وغير ذلك ، ولم يذكروا في خصائصه أنّه إذا كان قد نوى أن يتصدّق بشيء فانّه لا يناله ورثته ، لو قدرنا أنّه يورث الأموال ، ولا الشيعة قبل المرتضى ذكرت ذلك ، ولا رأيناه في كتابٍ من كتبهم ، وهو مسبوق بإجماع طائفته عليه ، وإجماعهم عندهم حجّة .
   قال المرتضى : فأمّا قوله : إنّ قوله ( عليه السلام ) : ما تركناه صدقة ، جملة من الكلام مستقلة بنفسها ، فصحيح إذا كانت لفظة ما مرفوعةً على الابتداء ، ولم تكن منصوبةً بوقوع الفعل عليها ، وكانت لفظة صدقة أيضاً مرفوعة غير منصوبة ، وفي هذا وقع النزاع، فكيف يدّعي أنّها جملة مستقلة بنفسها ! وأقوى ما يمكن أن نذكره أن نقول : الرواية جاءت بلفظ صدقةٌ بالرفع ، وعلى ما تأوّلتموه لا تكون إلاّ منصوبةً ، والجواب عن ذلك أنّا لا نسلّم الرواية بالرفع ، ولم تجر عادة الرواة بضبط ما جرى هذا المجرى من الإعراب ، والاشتباه يقع في مثله ، فمن حقّق منهم وصرّح بالرواية بالرفع يجوز أن يكون اشتبه عليه فظنّها مرفوعة ، وهي منصوبة .
   قلت : وهذا أيضاً خلاف الظاهر ، وفتح الباب فيه يؤدّي إلى إفساد الاحتجاج بكثير من الأخبار .
   أقول : سيأتي في الخاتمة وقفة ايضاح واستيضاح حول هذا الحديث المزعوم وروايته في الصحاح فراجع ، كما سيأتي ذكر مناظرة الشيخ المفيد مع أبي علي بن شاذان برواية الإمام أبي الوليد الباجي المالكي في كتابه المنتقى شرح الموطأ لمالك ، وهي حريّة بالمراجعة .
   على أن قراءة ( صدقة ) بالنصب إن لم تكن هي المتعينة ، فلا أقل من طرق الإحتمال ، وذلك يبطل على الخصم قراءة الرفع عند الاستدلال .
   قال : وأمّا حكايته عن أبي عليّ أنّ أبا بكر لم يدفع إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) السيف والبغلة والعمامة على جهة الإرث ، وقوله : كيف يجوز ذلك مع الخبر الّذي

المحسن السبط مولود أم سقط _ 399 _

  رواه ! وكيف خصّصه بذلك دون العم الّذي هو العصبة ! فما نراه زاد على التعجّب ، ومما عجب منه عجبنا ، ولم يثبت عصمة أبي بكر فينتفي عن أفعاله التناقض .
   قلت : لا يشكّ أحد في أنّ أبا بكر كان عاقلاً ، وإن شكّ قوم في ذلك ، فالعاقل في يومٍ واحد لا يدفع فاطمة ( عليها السلام ) عن الإرث ويقول : إنّ أباكِ قال لي : إنّي لا أورث ، ثمّ يورث في ذلك اليوم شخصاً آخر من مال ذلك المتوفى الّذي حكى عنه أنّه لا يورث ، وليس انتفاء هذا التناقض عن أفعاله موقوفاً على العصمة ، بل على العقل (1) .
   قال المرتضى : وقوله يجوز أن يكون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نَحَله إيّاه ، وتركه أبو بكر في يده ـ لِمَا في ذلك من تقوية الدين ـ وتصدّق ببدله، وكلّ ما ذكره جائز ، إلاّ أنّه قد كان يجب أن يظهر أسباب النحلة والشهادة بها ، والحجّة عليها ، ولم يظهر من ذلك شيء فنعرفه ، ومن العجائب أن تدّعي فاطمة فَدَك نحلةً ، وتستشهد على قولها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وغيره ، فلا يُصغى إلى قولها ، ويترك السيف والبغلة والعمامة في يد أمير المؤمنين على سبيل النَّحْلة بغير بيّنة ظهرت ، ولا شهادةٍ قامت !
  قلت : لعل أبا بكر سمع الرسول ( عليه السلام ) وهو ينحل ذلك عليّاً ( عليه السلام ) ، فلذلك لم يحتج إلى البيّنة والشهادة ، فقد روي أنّه أعطاه خاتمه وسيفه في مرضه وأبو بكر حاضر ، وأما البغلة فقد كان نحله إيّاها في حجة الوداع على ما وردت به الرواية، وأما العمامة فسلب الميّت ، وكذلك القميص والحجزة والحذاء ، فالعادة أن يأخذ ذلك ولد الميّت، ولا ينازع فيه لأنّه خارج ، أو كالخارج عن التركة ، فلما

---------------------------
(1) من أين علم ابن أبي الحديد انّ الشريف المرتضى ( قدّس سرّه ) قال بأنّ أبا بكر دفع السيف والعمامة للإمام ( عليه السلام ) في نفس اليوم الذي منع فيه فاطمة ( عليها السلام ) ميراثها ، وليس في كتاب الشافي ما يشير إلى ذلك ، فما قاله اجتهاد منه على غير علم أو قلة فهم !

المحسن السبط مولود أم سقط _ 400 _

  غُسِّلَ ( عليه السلام ) أخذت ابنته ثيابه الّتي مات فيها ، وهذه عادة الناس (1) ، على أنّا قد ذكرنا في الفصل الأوّل كيف دفع إليه آلة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودابته ، والظاهر أنّه فعل ذلك اجتهاداً لمصلحةٍ رآها، وللإمام أن يفعل ذلك .
   قال المرتضى : على أنّه كان يجب على أبي بكر أن يبيّن ذلك ، ويذكر وجهه بعينه ، لمّا نازع العباس فيه ، فلا وقت لذكر الوجه في ذلك أولى من هذا الوقت .
   قلت : لم ينازع العباس في أيّام أبي بكر ، لا في البغلة والعمامة ونحوها ، ولا في غير ذلك ، وإنّما نازع عليّاً في أيام عمر ، وقد ذكرنا كيفية المنازعة ، وفيماذا كانت .
   قال المرتضى ( رضي الله عنه ) في البُردة والقضيب : إن كان نحلةً ، أو على الوجه الآخر ، يجري مجرى ما ذكرناه في وجوب الظهور والاستشهاد ، ولسنا نرى أصحابنا _ يعني المعتزلة (2) ـ يطالبون أنفسهم في هذه المواضع بما يطالبوننا بمثله إذا ادعينا وجوهاً وأسباباً وعللاً مجوّزة ، لأنّهم لا يقنعون منّا بما يجوز ويمكن، بل يوجبون فيما ندّعيه الظهور والاستشهاد ، وإذا كان هذا عليهم نسُوه أو تناسوه .
   قلت : أمّا القضيب فهو السيف الّذي نحله رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عليّاً ( عليه السلام ) في مرضه ، وليس بذي الفقار ، بل هو سيفٌ آخر، وأما البُردة فإنّه وهبها كعب بن زهير ، ثمّ صار هذ السيف وهذه البردة إلى الخلفاء ، بعد تنقلات كثيرة مذكورة في كتب التواريخ (3) .

---------------------------
(1) هذا تبرير للخطأ وليس عليه شاهد .
(2) قول الشريف ـ أصحابنا يعني المعتزلة ـ لا يدل على اعتزاله، بل من نحو قول الله تعالى : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَاب ) ، [الكهف : 37] .
(3) وفي ذلك قال شاعر أهل البيت ( عليهم السلام ) :
ردّوا   تراث  محمّد  iiردّوا      ليس القضيب لكم ولا البرد