أمّا الحديث عن عليّ عليه السلام :
فقد رواه عنه الترمذي بطريقين ، وعبد الله بن أحمد بطريق ثالث .
أما الطريق إلأوّل فقد نبه على ضعفه الترمذي :
أولاً : بأن علي بن الحسين لم يسمع من عليّ بن أبي طالب ، والواسطة بينهما غير مذكور وهذا قادح عل مذهب أهل السنة .
وثانياً : بأن الوليد بن محمد الموقري يضعّف في الحديث .
وقال ابن المديني : ضعيف لا يكتب حديثه .
وقال الجوزجاني : كان غير ثقة ، يروي عن الزهري عدّة أحاديث ليس لها أصول .
وقال أبو زرعة الرازي : لين الحديث .
وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث .
وقال النساني : ليس بثقة ، منكر الحديث.
وقال ابن خزيمة : لا يحتجّ به .
وقال ابن حبّان : روى عن الزهري أشياء موضوعة .
بل قال ابن معين ـ في رواية عنه ـ : كذاب . وكذا قال غيره (1).
قلت :
وهذا الحديث عن الزهري ! !
وأمّا « الزهري » ، فقد ترجمنا له في بعض بحوثنا السابقة فلا نعيد.
---------------------------
(1) تهذيب التهذيب 11|131.
الرسائل العشرة _ 287 _
وامّا الطريق الثاني :
فهو عن الشعبي عن الحارث عن عليّ . . . عند الترمذي . . .
وكذا . . . عند ابن ماجة . . .
اما الشعبي ، فقد ترجمنا له في بعض البحوث السابقة .
وامّا الحارث ، وهو « الحارث بن عبدالله الأعور » فإليك بعض كلماتهم فيه :
أبو زرعة : لا يحتجّ بحديثه .
أبو حاتم : ليس بقوي ولا مّمن يحتج بحديثه .
النساني : ليس بالقويّ .
الدارقطني : ضعيف .
ابن عديّ : عامّة ما يرويه غير محفوظ .
بل وصفه غير واحد منهم بالكذب !
بل عن الشعبي ـ الراوي عنه ـ : كان كذاباً ! ! وقد وقع هذا عندهم موقع الإشكال ! كيف يكذّبه ثم يروي عنه ؟ ! إن
هذا يوجب القدح في الشعبي نفسه !
فقيل : إنه كان يكذب حكاياته لا في الحديث ، وإنما نقم عليه إفراطه في حبّ علي ! (1).
قلت : إن كان كذلك فقد ثبت القدح للشعبي ، إذ الإفراط في حبّ عليّ لا يوجب القدح ولا يجوز وصفه بالكذب ، ومن هنا ترى
أن غير واحد ينصّ على وثاقة الحارث . . .
هذا ، ولا حاجة إلى النظر في حال رجال السندين حتى الشعبي ، وإلآ فإن « الحسن بن عمارة » عند ابن ماجة :
قال الطيالسي : قال شعبة : انت جرير بن حازم فقل له : لا يحلّ لك أن تروي عن الحسن بن عمارة فإنه يكذب . . .
---------------------------
(1) لاحظ ذلك كلّه بترجمة الحارث من تهذيب التهذيب 2|126 .
الرسائل العشرة _ 288 _
وقال ابن المبارك : جرحه عندي شعبة وسفيان ، فبقولهما تركت حديثه .
وقال أبو بكر المروزي عن أحمد : متروك الحديث .
وقال عبدالله بن المديني عن أبيه : كان يضع .
وقال أبو حاتم ومسلم والنسائي والدارقطني : متروك الحديث .
وقال الساجي : ضعيف متروك ، أجمع أهل الحديث على ترك حديثه .
وقال الجوزجاني : ساقط .
وقال ابن المبارك عن ابن عيينة : كنت إذا سمعت الحسن بن عمارة يحدّث عن الزهري جعلت إصبعي في أذني .
وقال ابن سعد : كان ضعيفاً في الحديث .
وقال السهلي : ضعيف بإجماع منهم (1)
قلت : فهذا حال هذا الرجل الذي روى عنه ابن ماجة! وروى عنه سفيان مع علمه بهذه الحال ! وإذا كان سفيان جارحاً
له فكيف يروي عنه ؟! ألا يوجب ذلك القدح في سفيان كذلك وسقوط جميع رواياته ، عنه ؟! وهذا الحديث من ذلك !
وأمّا الطربق الثالث :
فهو رواية عبد الله ، ففيه :
اولاً : إنه مّما أعرض عنه أحمد بناء على ما تقدّم .
وثانياً : إن فيه الحسن بن زيد... قال ابن معين : ضعيف .
وقال ابن عدي : « أحاديثه عن أبيه أنكر مّما
روى عن عكرمة » (2)
قلت : وهذا الحديث من ذاك !
---------------------------
(1) لاحظ هذه الكلمات وغيرها بترجمته من تهذيب التهذيب 2|263.
(2) تهذيب التهذيب 2|243.
الرسائل العشرة _ 289 _
وثالثاً : إن لفظه يشتمل على « وشبابها » وهذا يختص بهذا السند وهو كذب قطعاً .
وأمّا الحديث عن أنس :
فهو الذي أخرجه الترمذي ، ففيه :
« قتادة » وكان مدلساً ، يرمى بالقدر رأساً في بدعة يدعو إليها ، خاطب ليل ، حدّث عن ثلاثين رجلاً لم يسمع منهم
. . . إلى غير ذلك مّما قيل فيه (1)
و« أنس بن مالك » نفسه لا يجوز الاعتماد عليه ، لا سيما فى مثل هذا الحديث ، فقد ثبت كذبه في حديث الطائر المشوي
(2) وكتمه للشهادة بالحق حتى دعا عليه عليّ عليه السلام ، وهو مع الحق (3)
وأمّا حديث أبي جحيفة :
فهو الذي أخرجه ابن ماجة ، ففيه :
« عبد القدّوس بن بكر بن خنيس » قال ابن حجر : « ذكرمحمود بن غيلان عن أحمد وابن معين وأبي خيثمة أنهم
ضربوا على حديثه » (4)
---------------------------
(1) لاحظ ترجمته في التهذيب 8|317.
(2) حديث الطائر المشويّ من أشهر الاحاديث الدالة على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام وخلافته ، أخرجه عشرات الأئمّة والعلماء الأعلام في كتبهم ، منه : الترمذي والحاكم والطبراني وابو نعيم والخطيب وابن عساكر وابن الاثير ...
راجع منها المستدرك 3|130.
(3) كان ذلك في قضيّة مناشدة أمير المؤمنين عليه السلام الناس في رحبة الكوفة بأنّ من شهد منهم غدير خٌمّ فليقم ويشهد ، فشهد جماعة من الحاضرين وامتنع أنس في نفرٍ منهم ... فدعا عليهم الإمام عليه السلام ... روى ذلك : ابن قتيبة
والبلاذري وابن عساكر وآخرون ... راجع كتاب الغدير 1|192.
(4) تهذيب التهذيب 6|329.
الرسائل العشرة _ 290 _
تتمة :
إنه لا يخفى اختلاف لفظ آخر الحديث عن علي ، ففي لفظ : « لا تخبرها يا علي » وفي آخر : « لا تخبرهما يا عليّ ما داما حيّين » وفي ثالث لم يذكر هذا الذيل أصلا . . . !
أما في الحديث عن أنس فلا يوجد أصلاً . . .
ولماذا نهى عليّاً من أن يخبرهما؟! ولماذا لم ينه أنس عن ذلك ، بل بالعكس أمره بأن يبشرهما ـ وعثمان ـ في حديث يروونه عنه وسيأتي نصّه في كلام العيني . . .
لم أجد ـ في ما بيدي من المصادر ـ لذلك وجهاً . . . إلاّ عند ابن العربي المالكي . . . فإنه قال : « قال ذلك لعلي ليقرر عند تقدّمهما عليه » ! ! وأنه « نهاه أن يخبرهما لئلا يعلما قرب موتهما في حال الكهولة » ! ! (1) .
وهل كان يحتاج عليّ إلى الإقرار إن كان تقدّمهما عليه بحق ؟ !
وهل كان يضرهما العلم بقرب موتهما في حال الكهولة ؟ ! وهل كانا يخافان الموت ؟ ! ولماذا؟ !
ومن الأحاديث الصحيحة الثابتة المشهورة ، بل المتواترة . . . الواردة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) في شأن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام . . . حديث « سدّوا الأبواب إلاّ باب علي » . . . وهذه نصوص من ألفاظه :
أخرج الترمذي بسنده عن ابن عبّاس : « أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) أمر بسدّ الأبواب إلاّ باب علي » (2) .
وأخرج عن أبي سعيد قال : « قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعليّ : يا عليّ ، لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك .
قال عليّ بن المنذر : قلت لضرار بن صرد : ما معنى هذا الحديث ؟ قال : لا يحل لأحد يستطرقه جنباً غيري وغيرك » (3) .
وأخرج أحمد بسنده عن عبدالله بن الرقيم الكناني ، قال : « خرجنا إلى المدينة زمن الجمل ، فلقينا سعد بن مالك بها فقال : أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بسدّ الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي » (4) .
وأخرجه أحمد كذلك بأسانيد مختلفة عن غير واحد من الصحابة(5) .
---------------------------
(1) عارضة الأحوذي 13|131 .
(2) صحيح الترمذي 2|301 .
(3) صحيح الترمذي 2|300 .
(4) مسند أحمد 1|175 .
(5) راجع المسند 1|175 ، 330 ، و 2|26 ، و 4|369 .
الرسائل العشرة _ 291 _
وأخرج الحاكم بسنده عن زيد بن أرقم قال : « كانت لنفرٍ من أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أبواب شارعة في المسجد ، فقال يوماً : سدوا هذه الأبواب إلاّ باب علي .
قال : فتكلم في ذلك الناس ، فقام رسول الله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أمّا بعد ،
فإني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي فقال فيه قائلكم ، والله ما سددت شيئاً ولا فتحته ، ولكن أمرت بشيء فاتبعته ، هذا حديث صحيح الإسناد » (1) .
وأخرج بسنده عن أبي هريرة قال : « قال عمر بن الخطاب : لقد أعطي علي ابن أبي طالب ثلاث خصال لئن تكون لي خصلة منها أحب إليّ من أن أعطى حمر النعم.
قيل : وما هن يا أمير المؤمنين ؟ قال : تزوّجه فاطمة بنت رسول الله ، وسكناه المسجد مع رسول الله يحل له فيه ما يحل له ، والراية يوم خيبر ،
هذا حديث صحيح الإسناد » (2) .
وأخرج النسائي بسنده عن الحارث بن مالك قال : « أتيت مكة فلقيت سعد ابن أبي وقاص فقلت له : سمعت لعلي منقبة؟ قال : كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المسجد فروى فينا لسدّه ليخرج من في المسجد إلاّ آل رسول الله وآل عليّ .
قال : فخرجنا ، فلما أصبح أتاه عمه فقال : يا رسول الله أخرجت أصحابك وأعمامك وأسكنت هذا الغلام ؟ ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
ما أنا أمرت بإخراجكم ولا بإسكان هذا الغلام ، إن الله هو أمر به .
قال النسائي : قال فطر : عن عبد الله بن شريك ، عن عبدالله بن أرقم ، عن سعد :
إن العباس أتى النبي فقال : سددت أبوابنا إلاّ باب علي ؟! فقال : ما أنا فتحتها ولا أنا سددتها » (3) .
---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 3|125 .
(2) المستدرك على الصحيحين 3|125 .
(3) خصائص عليّ بن أبي طالب : 13 .
الرسائل العشرة _ 292 _
هذه بعض ألفاظ الحديث كما أخرجها الأئمة ، ولو أردنا استقصاء طرقه وألفاظه المختلفة عن الصحابة الذين رووه لطال بنا المقام ، وربّما نقف على بعضها أيضاً في خلال البحث . . . وبالجملة فإن الخبر قد تعدّى الرواية وبلغ حد الدراية . . . ونحن إنّما ذكرنا طرفاً من ذلك تمهيداً لما أخرج في الصحيحين من حديث الخوخة ، وما ترتب على ذلك من نظرات وبحوث عند الشراح وكبار أئمة الحديث .
لقق قلبوا حديث « سدّ الأبواب » عن « علي » إلى « أبي بكر » ووضعوا أيضاً « حديث الخوخة » وأخرجه البخاري ومسلم في كتابيهما والترمذي وأحمد . . . وغيرهم ممن تقدّم وتأخر . . .
والعمدة ما جاء في كتابي البخاري ومسلم . . . فإذا درسناه وتوصّلنا إلى واقع الحال فيه أغنانا عن النظر في غيره . . . ولربما تعرضنا لغيره في خلال البحث .
الحديث المقلوب عند البخاري :
والبخاري أخرجه في أكثر من باب . . . ففي « باب الخوخة والممرّ في المسجد » قال : « حدّثنا عبد الله بن محمد الجعفي ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدّثنا أبي ، قال : سمعت يعلى بن حكيم ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس ، قال : خرج رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في مرضه الذي مات فيه عاصباً رأسه بخرقة فقعد على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إنّه ليس من الناس أحد أمن عليّ في نفسه وماله . من أبي بكر بن أبي قحافة ؛ ولو كنت متخذاً من الناس خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن خلّة الإسلام أفضل
؛ سدّوا عنّي كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر » .
وفي « باب هجرة النبي وأصحابه إلى المدينة » قال : « حدّثنا إسماعيل بن عبدالله ، قال : حدّثني مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيدالله عن عبيد ـ يعني ابن حنين
الرسائل العشرة _ 293 _
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )
جلس على المنبر فقال : إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختارما عنده ، فبكى أبو بكر وقال : فديناك بآبائنا وامهاتنا ، فعجبنا له وقال الناس : أنظروا إلى هذا الشيخ ، يخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن عبدٍ خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده ، وهو يقول : فديناك بآبائنا وأمّهاتنا .
فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو المخير وكان أبو بكر هو أعلمنا به .
وقال رسول ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) : إن من أمن الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر إلاّ خلة الإسلام ، لا يبقين في المسجد خوخة إلاّ خوخة أبي بكر » .
الحديث المقلوب عند مسلم :
وأخرجه مسلم في باب فضائل الصحابة فقال :
« حدّثني عبدالله بن جعفر بن يحيى بن خالد ، حدثنا معن ، حدّثنا مالك ، عن أبي النضر ، عن عبيد بن حنين ، عن أبي سعيد : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) جلس على المنبر فقال : عبد خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده ؛ فبكى أبو بكر وبكى فقال : فديناك بآبائنا وأمهاتنا .
قال : فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) هو المخيّر وكان أبو بكر أعلمنا به .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) : إن أمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر ، ولو كنت متّخذا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ، لا يبقين في المسجد خوخة إلاّ خوخة أبي بكر .
حدثنا سعيد بن منصور ، حدّثنا فليح بن سليمان ، عن سالم أبي النضر ، عن عبيد بن حنين وبسر بن سعيد ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : خطب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) الناس يوماً ، بمثل حديث مالك » .
الرسائل العشرة _ 294 _
تحريف البخاري الحديث المقلوب :
ثم إن البخاري بعد أن أخرج الحديث عن ابن عبّاس في « باب الخوخة والممر في المسجد » كما عرفت حرّفه في « باب المناقب » حيث قال : « باب قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : سدّوا الأبواب إلاّ باب أبي بكر ، قاله ابن عبّاس عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم » .
فاضطرب الشراح في توجيه هذا التحريف ، فاضطروا إلى حمل ذلك على أنه نقل بالمعنى : قال ابن حجر : « وصله المصنّف في الصلاة بلفظ : سدّوا عني كل خوخة ، فكأنه ذكره بالمعنى » (1) .
وقال العيني : « هذا وصله البخاري في الصلاة بلفظ : سدّوا عنّي كلّ خوخة في المسجد ، وهذا هنا نقل بالمعنى . . . » (2)
وهل يصدق على أن نقل « الخوخة » إلى « الباب » نقل بالمعنى ؟ ! على أن
ابن حجر نفسه غير جازم بذلك فيقول : « كأنه . . . » !
وكما حرف الحديث عن ابن عبّاس ، كذلك حرف حديث أبي سعيد الذي أخرجه في « باب هجرة النبي » كما عرفت ، فقال في « باب المناقب » :
« حدثني عبدالله بن محمد ، حدّثني أبو عامر ، حدّثنا فليح ، قال : حدثني سالم أبو النضر ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال :
خطب رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم )وقال : إن الله خيّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله ؛ قال : فبكى أبو بكر ؛ فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن عبد خيّر ، فكان رسول الله هو المخيّر وكان أبو بكر أعلمنا .
---------------------------
(1) فتح الباري 1|442.
(2) عمدة القاري 4|245 .,
الرسائل العشرة _ 295 _
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن من أمن الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربّي لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوّة الإسلام ومودته ؛ لا يبقين في المسجد باب إلاّ سدّ إلاّ باب أبي بكر » .
وهنا أيضا اضطرب الشراح فراجع كلماتهم .
قدمنا حديث الخوخة بسنده ولفظه في الصحيحين . . . وقد عرفت أن البخاري ومسلماً يرويانه عن ابن عبّاس وأبي سعيد الخدري . . . لكنه ساقط عن درجة الاعتبار عن كليهما :
أما الحديث عن ابن عباس :
فهو عند البخاري فقط . . . ويكفي في سقوطه ـ بعد غضّ النظر عن بعض الكلام في « وهب بن جرير » (1) وعما قيل في أبيه « جرير بن حازم » فإن البخاري يقول : « ربّما يهّم » ويقول يحيى بن معين : « هو عن قتادة ضعيف »
والذهبي يقول : « تغيرّ قبل موته فحجبه ابنه وهب » (2) ـ إن راويه عن ابن عبّاس هو « عكرمة البربري » مولاه ، وإليك طرفاً من أوصاف هذا الرجل :
موجز ترجمة عكرمة مولى ابن عبّاس :
1 ـ إنّه كان يرى رأي الخوارج وكان داعية إليه ، وقد أخذ كثيرون من أهل أفريقية رأي الصفرية من عكرمة. قال الذهبي : قد تكلّم الناس في عكرمة لأنه كان
يرى رأي الخوارج .
2 ـ وكان يطعن في الدين ويستهزئ بالأحكام ، فقد نقلوا عنه قوله : إنمّا أنزل الله متشابه القرآن ليضل به .
وقال في وقت الموسم : وددت أني اليوم بالموسم وبيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالا ، ووقف على باب مسجد النبي وقال : ما فيه إلاّ كافر .
3 ـ وكان كذاباً ، حتى أوثقه عليّ بن عبد الله بن عباس على باب كنيف الدار ، فقيل له : تفعلون هذا بمولاكم ؟ ! فقال : إن هذا يكذب على أبي .
وأشتهر قول عبد الله ابن عمر لمولاه نافع : اتق الله ، لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس .
وعن ابن سيرين ويحيى بن معين ومالك وجماعة غيرهم : كذاب .
4 ـ وعكوفه على أبواب الأمراء للدنيا مشهور ، حتى قيل له : تركت الحرمين وجئت
إلى خراسان ؟! فقال : أسعى على بناتي . وقال لآخر : قدمت آخذ من دنانير
ولاتكم ودراهمهم .
5 ـ ولأجل هذه الأمور وغيرها ترك الناس جنازته ، فما حمله أحد ، وأكتروا له أربعة رجال من السودان (1).
وأمّا الحديث عن أبي سعيد الخدري :
فقد رواه البخاري عن : إسماعيل بن أبي أويس ، عن مالك ، عن أبي النضر ، عن
عبيد بن حنين ، عن أبي سعيد الخدّري . . .
ورواه مسلم ـ في طريقه الأول ـ عن عبد الله بن جعفر بن يحيى بن خالد ، عن معن ، عن مالك . . .
---------------------------
(1) ذكرنا ترجمته في كتابنا : التحقيق في نفي التحريف : 248 ـ 253 عن :
تهذيب الكمال ، وتهذيب التهذيب 7|263 ، وطبقات ابن سعد 5|287 ، ووفيات
الأعيان 1|319 ، وميزان الاعتدال 3|93 ، والمغني في الضعفاء 2|84 ، والضعفاء
الكبير 3|373 ، وسير أعلام النبلاء 5|9 .
الرسائل العشرة _ 297 _
ورواه الترمذي عن أحمد بن الحسن ، عن عبيدالله بن مسلمة ، عن مالك . . . وقال : هذا حديث حسن صحيح (1) فمداره على « مالك بن أنس » .
ومالك بن أنس وإن كان أحد الأئمة الأربعة ، تقلّده طائفة كبيرة من أهل السنة . . . فهو لا يعتمد على رواياته ، خاصة في مثل هذا المقام . . . لعقيدته التي انفرد بها حول الإمام عليه السلام . . . والتي خرج بها عن إجماع اهل الإسلام . . . ! !
وقد اقتض هذا المقام أن نفصّل الكلام في ترجمة مالك بن أنس :
1 ـ كونه من الخوارج :
فأوّل ما فيه كونه يرى رأي الخوارج . . . قال المبرّد في بحث له حول الخوارج :
« وكان عدّة من الفقهاء ينسبون إليه ، منهم : عكرمة مولى ابن عبّاس ، وكان يقال ذلك في مالك بن أنس .
ويروي الزبيريّون : أن مالك بن أنس كان يذكر عثمان وعليّ وطلحة والزبير فيقول :
والله ما اقتتلوا إلاّ على الثريد الأعفر » (2).
2 ـ رأيه الباطل في مسالة التفضيل :
وكان مالك يرى مساواة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لسائر الناس ، فكان يقول بأن
أفضل الأمّة هم أبو بكر وعمر وعثمان ثم يقف ويقول : هنا يتساوى الناس (3).
---------------------------
(1) صحيح الترمذي 5|568.
(2) الكامل ـ للمبرّد ـ 1|159 .
(3) ترتيب المدارك ـ ترجمة مالك.
الرسائل العشرة _ 298 _
وكان في هذا الرأي تبعاً لابن عمر في رأيه حيث قال : كنا نقول على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) : أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت . يعني فلا نفاضل .
هذا الرأي الذي ذكره ابن عبد البر وأنكره جدّاً ، قال : « وهو الذي أنكره ابن معين وتكلم فيه بكلام غليظ ، لأن القائل بذلك قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أهل السنة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر : أن علياً أفضل الناس بعد عثمان ، وهذا مما لم يختلفوا فيه ، وإنما اختلفوا في تفضيل علي وعثمان ، واختلف السلف أيضاً في تفضيل علي وأبي بكر . وفي إجماع الجميع الذي وصفنا دليل على أن حديث ابن عمر وهم غلط ، وأنه لا يصح معناه وإن كان إسناده صحيحا ... » (1).
3 ـ تركه الرواية عن امير المؤمنين عليه السلام :
ثم إنه لانحرافه عن أمير المؤمنين عليه السلام لم يخرج عنه شيئاً في كتابه « الموطأ » ! . . . الأمر الذي استغرب منه هارون الرشيد ، فلمّا سأله عن السبب اعتذر بأنه : لم يكن في بلدي ولم ألق رجاله!! (2).
هذا مع روايته عن معاوية وعبد الملك بن مروان . . . واستناده إلى آرائهما . . . !
وروايته عن هشام بن عروة مع قوله : هشام بن عروة كذاب ! ! (3).
وقال بعضهم : نهاني مالك عن شيخين من قريش وقد أكثر عنهما في الموطأ (4) ».
---------------------------
(1) الاستيعاب 3|1116 .
(2) تنوير الحوالك 1|7. شرح الموطّأ ـ للزرقاني ـ 1|9.
(3) تاريخ بغداد 1|223 ، الكاشف عن أسماء رجال الكتب الستة ـ ترجمة هشام ،
هدى الساري 2|169.
(4) تهذيب التهذيب 9|41.
الرسائل العشرة _ 299 _
4 ـ كان مدلّساً :
وهو ـ مضافاً إلى ذلك ـ كان مدلّساً :
قال عبدالله بن أحمد :
« سمعت أبي يقول : لم يسمع مالك بن أنس من بكير بن عبدالله شيئاً ، وقد حدّثنا وكيع عن مالك عن بكير بن عبدالله . قال أبي : يقولون : إنّها كتب ابنه
» (1) ».
وقال الخطيب في ذكر شيء من أخبار بعض المدلّسين :
« ويقال : إن ما رواه مالك بن أنس عن ثور بن زيد عن ابن عبّاس ، كان ثور
يرويه عن عكرمة عن ابن عبّاس ، وكان مالك يكره الرواية عن عكرمة فأسقط اسمه من
الحديث وأرسله .
وهذا لا يجوز ، وإن كان مالك يرى الاحتجاج بالمراسيل ، لأنه قد علم ان الحديث عمّن ليس بحجة عنده . وأمّا المرسل فهو أحسن حالة من هذا ، لانه لم يثبت من حال من أرسل عنه أنه ليس بحجّة » (2) ».
5 ـ اجتماعه بالأمراء وسكوته عن منكراتهم :
وكان مالك في غاية الفقر والشدّة ، حتى ذكروا أنه باع خشبة سقف بيته (3) ».
ولكن حاله تبدّلت وتحسّنت منذ أن أصبح بخدمة السلطات والحكّام ، فكانت الدنانير تدرّ
عليه بكثرة ، حتى أنه أخذ من هارون ألف دينار وتركها لورّاثه (4) » .
ومن الطبيعي حينئذٍ أن يكون مطيعاً للسلاطين ، مشيداً لسياستهم ، ساكتاً عن منكراتهم
ومظالمهم . . .
---------------------------
(1) العلل ومعرفة الرجال ـ لأحمد بن حنبل ـ 1|44.
(2) الكناية في علم الرواية : 365 .
(3) ترتيب المدارك ـ ترجمته ، الديباج المذهّب : 25 .
(4) العقد الفريد 1|274 .
الرسائل العشرة _ 300 _
قال عبدالله بن أحمد :
« سمعت أبي يقول : كان ابن أبي ذئب ومالك يحضران عند الأمراء فيتكلم ابن أبي
ذئب يأمرهم وينهاهم ومالك ساكت . قال أبي : ابن أبي ذئب خير من مالك وأفضل
» (1).
أقول : فهو في هذه الحالة مثل شيخه الزهري ، فيتوجه إليه ما ذكره الإمام السجاد عليه السلام في كتابه إلى الزهري (2).
6 ـ حمل الحكومة الناس على الموطأ وفتاوى مالك :
وكان من الطبيعي أيضاً أن يقابل من قبل الحكام بالمثل :
فقد قال له المنصور اجعل هذا العلم علماً واحداً . . . ضع الناس كتاباً أحملهم عليه . . . نضرب عليه عامّتهم بالسيف ، ونقطع عليه ظهورهم بالسياط . . . (3).
وقال له : لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف ، ولأبعثن به إلى الآفاق فأحملهم عليه . . . (4) أن يعملوا بما فيها ولا يتعدّوه إلى غيرها (5)
ولما أراد الرشيد الشخوص إلى العراق قال لمالك : ينبغي أن تخرج معي ، فإني
عزمت أن احمل الناس على الموطّأ كما حمل عثمان الناس على القرآن (6) .
ثم اراد هارون أن يعلّق الموطّأ على الكعبة! (7)
ونادى منادي الحكومة : « ألا لا يفتي الناس إلاّ مالك بن أنس »(8)
---------------------------
(1) العلل ومعرفة الرجال 1|179 .
(2) لاحظ ترجمة الزهري في بحثنا المنشور في « تراثنا » العدد 23 .
(3) الديباج المذهّب : 25 . شرح الزرقاني 1|8 ، الوافي بالوفيات ـ ترجمته
.
(4) تذكرة الحفاظ 1|290 .
(5) كشف الظنون 2|1908 ، عن طبقات ابن سعد.
(6) مفتاح السعادة 2|87.
(7) كشف الظنون 2|1908.
(8) وفيات الأعيان 3|284 مفتاح السعادة 2|87 ، مرآة الجنان 1|375.
الرسائل العشرة _ 301 _
ومن الطبيعي أن لا يعامل غيره هذه المعاملة :
فقد قدم ابن جريج على أبي جعفر المنصور فقال له : إني قد جمعت حديث جدّك
عبدالله بن عباس وما جمعه أحد جمعي . فلم يعطه شيئاً (1).
ولذا لمّا قيل لشيخه ربيعة الرأي : « كيف يحظى بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك ؟ ! » ! قال : « أما علمتم أن مثقالا من دولةً خير من حملي علم »(2).
7 ـ كان يتغنّى بالآلات :
واشتهر مالك بن أنس بالغناء ، وهذا ما نص عليه غير واحد(3).
وقد ذكر القرطبي أنه « لا تقبل شهادة المغني والرقاص » (4).
وقال الشوكاني : « استماع الملاهي معصية ، والجلوس عليها فسق ، والتلذّذ بها كفر » (5).
8 ـ جهله بالمسائل الشرعية :
ومما يجلب الانتباه ما ذكره المترجمون له ، من أنه كان إذا سئل عن مسألة تهرب من الإجابة ، أو قال : لا أدري . . . (6).
فقد ذكروا أنه سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنين وثلاثين منها : لا أدري !! (7).
---------------------------
(1) العلل ومعرفة الرجال 1|348.
(2) طبقات الفقهاء ـ لأبي إسحاق الشيرازي ـ : 42 .
(3) نهاية الأرب 4|229 ، الأغاني 2|75 .
(4) تفسير القرطبي 14|56.
(5) نيل الأوطار 8|264.
(6) حلية الأولياء 6|323 ـ 324.
(7) الديباج المذهب : 23 ، شرح الزرقاني 1|3 .
الرسائل العشرة _ 302 _
وسأله عراقي عن أربعين مسألة فما أجابه إلاّ عن خمس !! (1).
وسأله رجل عن مسائل فلم يجبه بشيء أصلاً (2).
وكان مالك يصرح بأنه أدرك سبعين من المشايخ يحدّثون عن رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلّم ) فلم يأخذ من أحدهم شيئا ! ! (3).
9 ـ بكاؤه على الفتيا بالرأي :
وأجمع المؤرّخون على رواية خبر بكائه في مرض موته وقوله : « ليتني جُلدت بكل
كلمة تكلّمت بها في هذا الأمر بسوط » (4)
ولا بُدّ له أن يبكي . . . ومن أحق منه بالبكاء كما قال ؟ ! وهل ينفعه ؟ !
فقد قال الليث بن سعد : « قد أحصيت على مالك سبعين مسألة كلّها مخالفة لسنة
النبي مّما قال مالك فيها برأيه . قال : ولقد كتبت إليه بذلك في ذلك » (5).
10 ـ تكلّم الأعلام فيه :
هذا . . . وقد تكلّم في مالك وعابه جماعة من أعلام الأئمّة :
قال الخطيب : « عابه جماعة من أهل العلم في زمانه » (6). ثم ذكر : ابن أبي ذؤيب ، وعبدالعزيز الماجشون ، وابن أبي حازم ، ومحمد بن إسحاق (7).
وقال يحيى بن معين : « سفيان أحب إليّ من مالك في كلّ شيء » .
---------------------------
(1) الانتقاء ـ لابن عبدالبرّ ـ 38.
(2) العقد الفريد 2|225 .
(3) حلية الأولياء 6|323 ، الديباج المذهّب : 21 .
(4) وفيات الأعيان 3|286 . جامع بيان العلم 2|145 ، شذرات الذهب 1|292.
(5) جامع بيان العلم 2|148.
(6) تاريخ بغداد 10|223.
(7) تاريخ بغداد 10|224.
الرسائل العشرة _ 303 _
وقال سفيان في مالك : « ليس له حفظ » (1).
وقال ابن عبدالبرّ « تكلّم ابن أبي ذؤيب في مالك بن أنس بكلام فيه جفاء وخشونة كرهت ذكره » (2)
وتكلّم في مالك إبراهيم بن سعد ، وكان يدعو عليه .
وكذلك تكلم فيه عبدالرحمن بن زيد بن أسلم وابن أبي يحيى (3).
وناظره عمر بن قيس ـ في شيء من أمر الحج بحضرة هارون ـ فقال عمر لمالك : «
أنت أحياناً تخطئ وأحياناً لا تصيب . فقال مالك : كذاك الناس » (4).
ترجمة ابن أبي أويس
والراوي عن مالك ـ عند البخاري ـ هو « إسماعيل بن أبي أويس » وهو ابن أخت
مالك ـ :
قال النسائي : « ضعيف » (5).
وقال يحيى بن معين : « هو وأبوه يسرقان الحديث ».
وقال الدولابي : « سمعت النضر بن سلمة المروزي يقول : كذاب ».
وقال الذهبي بعد نقل ما تقدّم : « ساق له ابن عدي ثلاثة أحاديث ، ثم قال : روى عن خاله مالك غرائب لا يتابعه عليها أحد » (6).
وقال إبراهيم بن الجنيد عن يحيى : « مخلّط ، يكذب ، ليس بشيء » (7).
---------------------------
(1) تاريخ بغداد 10|164.
(2) جامع بيان العلم 2|157.
(3) جامع بيان العلم 2|158 .
(4) تهذيب التهذيب 7|432 .
(5) الضعفاء والمتروكون : 14 .
(6) ميزان الاعتدال 1|222 .
(7) تهذيب التهذيب 1|312 .
الرسائل العشرة _ 304 _
وقال ابن حزم في « المحلّى » : قال أبو الفتح الأزدي : حدثني سيف بن محمد
: « أن ابن أبي أويس كان يضع الحديث » (1).
وقال العيني : « أقرّ على نفسه بالوضع كما حكاه النسائي »(2).
ورواه مسلم بطريق آخر ليس فيه « مالك » بل هو : « عن فليح بن
سليمان ، عن أبي النضر ، عن عبيد بن حنين وبسر بن سعيد ، عن أبي سعيد الخدري
» .
ترجمة فليح بن سليمان
لكن فيه : « فليح بن سليمان » :
قال النسائي : « ليس بالقوي »(3).
وكذا قال أبو حاتم ويحيى بن معين (4).
وقال يحيى عن أبي كامل مظفر بن مدرك : « ثلاثة يتقى حديثهم : محمد بن طلحة ابن مصرف ، وأيوب بن عتبة ، وفليح بن سليمان » (5).
وقال الرملي عن داود : « ليس بشيء »(6).
وقال ابن أبي شيبة : قال علي بن المديني : « كان فليح وأخره عبدالحميد ضعيفين » (7).
وذكره كل من العقيلي والدارقطني والذهبي في الضعفاء ، وذكره ابن حبّان في المجروحين . . .
قد عرفت أن البخاري حرف حديث الخوخة الذي أخرجه هو وغيره عن ابن عباس وأبي سعيد .
اما تحريفه حديث ابن عباس فلم يذكر له سنداً ، وأمّا تحريفه حديث أبي سعيد فهو بالسند التالي :
« حدثني عبد الله بن محمد ، حدثني أبو عامر ، حدثني فليح ، قال : حدثني سالم أبو النضر ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي سعيد الخدري . . . »
كذا في « باب المناقب » .
وفي « باب الخوخة والممرّ في المسجد » : « حدثنا محمد بن سنان ، قال :
حدّثنا فليح ، قال : حدّثنا أبو النضر ، عن عبيد بن حنين ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي سعيد الخدريّ . . . »
ومداره على « فليح بن سليمان » وقد عرفته في النظر في الطريق الثاني من رواية
مسلم ، وعلمت أن لفظه عند مسلم عن الرجل « الخوخة » لا « الباب » فما عند
البخاري محرف ، وقدّ تقدم محاولة بعض الشراح توجيهه .
ثمّ إن في سند البخاري هنا في « باب الخوخة والممر » مشكلة أخرى ، فقد جاء فيه « عن عبيد بن حنين ، عن بسر بن سعيد » مع أن « عبيداً » المذكور لا يروي عن « بسر » . . . وهذا ما اضطرب القوم في توجيهه كذلك :
فقال ابن حجر : « قال الدارقطني : هذا السياق غير محفوظ ، واختلف فيه على
فليح ، فرواه محمد بن سنان هكذا ، وتابعه المعافى بن سليمان الحراني .
ورواه سعيد بن منصور ويونس بن محمد المودّب وأبو داود الطيالسي عن فليح ، عن أبي النضر ،عن عبيد بن حنين وبسر بن سعيد جميعاً ، عن أبي سعيد ،
قلت : أخرجه مسلم عن سعيد ، وأبو بكر ابن أبي شيبة عن يونس ، وابن حبّان في صحيحه من حديث الطيالسي .
الرسائل العشرة _ 306 _
ورواه أبو عامر العقدي عن فليح ، عن أبي النضر ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي سعيد ، ولم يذكر عبيد بن حنين أخرجه البخاري في مناقب أبي بكر
فهذه ثلاثة أوجه مختلفة » .
ثم شرع في الجواب عن هذا الاعتراض والدفاع عن البخاري (1).
وكذلك تعرض للموضوع بشرح الحديث وحاول تصحيحه بأن الحديث عند « أبي
النضر » عن شيخين يعني « بسراً » و« عبيداً » وأن « فليحاً » كان
يجمعهما مرة ويقتصر على أحدهما مرة ، ولكنه اعترف بالخطأ فقال : « فلم يبق إلاّ
أن محمد بن سنان أخطأ في حذف الواو العاطفة ، مع احتمال أن يكون الخطأ من فليح
حال تحديثه له به ! » (2).
ثم إن بعض الوضّاعين شاء أن يزيد في حديث أنس صراحة في الدلالة على الفضيلة والخصيصة ! ! فزاد عليه جملة . . . لكن الخطيب البغدادي وابن الجوزي والسيوطي . . . نصوا على أن الزيادة وهم ، وأصل الحديث منقطع ، فقد جاء في « اللآلي المصنوعة » :
« أنبأنا محمد بن عبدالباقي البزار ، أنبأنا أبو محمد الجوهري ، أنبأنا عمر بن أحمد الواعظ ، حدّثنا الحسن بن حبيب بن عبدالملك ، حدثنا فهد بن سليمان ، حدثنا عبدالله بن صالح ، حدثنا الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعيد ، عن أنس :
أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خطب الناس فقال : سدّوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلاّ باب أبي بكر. فقال الناس : سدّ الأبواب كلها إلاّ باب خليله ! فقال : إني رأيت على أبوابهم ظلمةٍ ورأيت على باب أبي بكر نوراً ن فكانت الآخرة عليهم أعظم من الأولى.
---------------------------
(1) مقدّمة فتح الباري ، الحديث الرابع من الأحاديث التي اعترض فيها على البخاري .
(2) فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ، ولاحظ أيضاً : عمدة القاري للعيني
الحنفي .
الرسائل العشرة _ 307 _
قال الخطيب : هذا وهمّ ، والليث روى صدّره عن يحيى بن سعيد منقطعا ، ورواه كله عن معاوية بن صالح منقطعاً » (1)
الاستدلال بالحديث المقلوب بكلمات مضطربة ولمّا كان حديث « الخوخة » يدل بزعمهم على فضل لأبي بكر ، لا سيّما وأنه مخرج في الكتابين الصحيحين عند أكثرهم . . . فقد جعلوا هذه القضية خصيصة لأبي بكر
وفضيلة دالة على إمامته وخلافته :
قال النووي : « وفيه فضيلة وخصيصة ظاهرة لأبي بكر » (2).
وقال ابن حجر : « قال الخطابي وابن بطال وغيرهما : في هذا الحديث اختصاص ظاهر لأبي بكر ، وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه للخلافة ، ولا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبي ( صلى الله عليه واله وسلم )في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمهم
إلاّ أبو بكر .
وقد ادعى بعضهم : أن الباب كناية عن الخلافة ، والأمر بالسدّ كناية عن طلبها ، كأنه قال : لا يطلبن أحد الخلافة إلاّ أبا بكر فإنه لا حرج عليه في طلبها .
وإلى هذا جنح ابن حبان ، فقال بعد أن أخرج هذا الحديث : في هذا الحديث دليل على أنه الخليفة بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) ، لأنه حسم بقوله : ( سدّوا عني كل خوخةٍ في المسجد ) أطماع الناس كلهم على أن يكونوا خلفاء بعده .
وقوّى بعضهم ذلك : بأن منزل أبي بكر كان بالسنح من عوالي المدينة ـ كما سيأتي قريباً بعد باب ـ فلا يكون له خوخة إلى المسجد .
---------------------------
(1) اللالي المصنوعة 1|352 .
(2) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ـ هامش القسطلاني ـ 9|252 .
الرسائل العشرة _ 308 _
وهذا الاستناد ضعيف ، لأنه لا يلزم من كون منزله كان بالسنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد ، ومنزله الذي كان بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار وقد كان له إذ ذاك زوجة أخرى ـ وهي أسماء بنت عميس ـ بالاتفاق ، وأمّ رومان على القول بأنها كانت باقية .
وقد تعقّب المحبّ الطبري كلام ابن حبّان فقال : وقد ذكر عمر بن شبة في أخبار المدينة : أن دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد ، ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه فباعها . . . » (1).
وقال العيني ـ بعد الحديث في كتاب الصلاة ـ : « ذكر ما يستفاد منه من الفوائد :
الأولى : ما قاله الخطابي وهو : أن أمره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بسدّ
الأبواب غير الباب الشارع إلى المسجد إلاّ باب أبي بكر يدلّ على اختصاص شديد لأبي بكر وإكرام له ، لأنهما كانا لا يفترقان .
الثانية : فيه دلالة على أنه قد أفرده في ذلك بأمر لا يشارك فيه ، فأولى ما يصرف إليه التأويل فيه أمر الخلافة . وقد أكثر الدلالة عليها بأمره إياه بالإمامة في الصلاة التي بني لها المسجد .
قال الخطاب : لا أعلم أن إثبات القياس أقوى من إجماع الصحابة على استخلاف أبي بكر مستدلّين في ذلك باستخلافه إياه في أعظم أمور الدين وهو الصلاة ، فقاسوا عليها سائر الأمور ، ولأنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يخرج من باب بيته وهو في المسجد للصلاة ، فلما غلّق الأبواب إلاّ باب أبي بكر دلّ على أنه يخرج منه للصلاة ، فكأنه أمر بذلك على أن من بعده يفعل ذلك هكذا » (2).
وفي باب المناقب ، أورد كلام الخطابي وابن بطّال وابن حبان الذي ذكره ابن حجر وأضاف : « وعن أنس قال : جاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) فدخل بستاناً وجاء آتٍ فدقّ الباب ، فقال : يا أنس ، افتح له وبشره بالجنة وبشره بالخلافة بعدي .
قال : فقلت : يا رسول الله أعلمه ؟ قال : أعلمه ؟ فإذا أبو بكر .
فقلت : أبشر بالجنة وبالخلافة من بعد النبي عليه الصلاة والسلام .
قال : ثمّ جاء آتٍ فقال : يا أنس ، افتح له وبشره بالجنة وبالخلافة من بعد أبي بكر .
قلت : أعلمه ؟ قال : نعم ، قال : فخرجت فإذا عمر فبشرته ،
ثمّ جاء اتٍ فقال : يا أنس ، افتح له وبشره بالجنة وبشره بالخلافة من بعد عمر وأنه مقتول ، قال : فخرجت فإذا عثمان . قال : فدخل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : إني والله ما نسيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيد بايعتك !
قال : هو ذاك .
رواه أبو يعلى الموصلي من حديث المختار بن فلفل عن أنس وقال : هذا حديث حسن » (1).
وفي باب هجرة النبي بشرحه : « فأمر الشارع بسدها كلّها إلاّ خوخة أبي بكر ليتميّز بذلك فضله ، وفيه إيماء إلى الخلافة »(2).
والكرماني أورد كلمات القوم في دلالته على الإمامة مرتضياً إياها (3).
والقسطلاني قال بشرحه في الصلاة : « فيه دلالة على الخصوصية لأبي بكر الصديق بالخلافة بعده والإمامة دون سائر الناس ، فأبقى خوخته دون خوخة غيره ، وهو يدلّ على أنه يخرج منها إلى الصلاة ، كذا قرره ابن المنير » (4).
وفي المناقب : « قيل : وفيه تعريض بالخلافة له ، لأن ذلك إن أريد به الحقيقة فذاك ، لأن أصحاب المنازل الملاصقة للمسجد كان لهم الاستطراق منها إلى المسجد .
فأمر بسدها سوى خوخة أبي بكر ، تنبيها للناس على الخلافة ، لأنه يخرج منها إلى المسجد للصلاة ، وإن أريد به المجاز فهو كناية عن الخلافة وسدّ أبواب المقالة دون التطرق والتطلّع إليها .
قال التوربشتي : وأرى المجاز اقوى ، إذ لم يصحّ عندنا أن أبا بكر كان له منزل بجنب المسجد ، وإنما كان منزله بالسنح من عوالي المدينة . انتهى .
وتعقبه في الفتح بأنه استدلال ضعيف ، لأنه لا يلزم من كون منزله كان بالسنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجده ومنزله الذي كان بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار . . . » (1).
وفي هجرة النبي : « فأمر رسول الله بسدها كلها إلاّ خوخة أبي بكر تكريماً له وتنبيهاً على أنه الخليفة بعده ، أو المراد المجاز فهو كناية عن الخلافة وسد أبواب المقالة دون التطرق ، ورجّحه الطيّبي محتجاً بأنه لم يصح عنده أن أبا بكر كان له بيت بجنب المسجد ، وإنما كان منزله بالسنح من عوالي المدينة » (2)
هذه كلمات شرّاح الحديث .
وفي الكتب المؤلفة في العقائد . . . تجد الاستدلال بحديث الخوخة في باب الفضائل المزعومة لأبي بكر وفي أدلّة إمامته وخلافته بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . . . ولا حاجة إلى ذكر نصوص عباراتهم ، ولربما أشرنا إلى بعضها في غضون البحث .
أقول : لا يخفى الاضطراب والاختلاف بين القوم في كيفية الاستدلال ، بل إن الباحث المحقق يجد كلمات الواحد منهم في موضع تختلف عن كلماته في الموضع الآخر . . . ونحن نلخص ما قالوا ونعلّق عليه باختصار حتى يتبين الحال :
---------------------------
(1) إرشاد الساري 6|83 .
(2) إرشاد الساري 6|214 .
الرسائل العشرة _ 311 _
أمّا النووي . . . فما قال إلآ أن « فيه فضيلة وخصيصة ظاهرة لأبي بكر » فلم يتعرض للإمامة والخلافة ، ولم يدّع دلالة الحديث عليها لا بالصراحة ولا بالكناية . . .
ونقول : أمّا « الفضيلة » فتتوقف على ثبوت القضيّة ، وأمّا كونها « خصيصة » فتتوقف ـ بالإضافة إلى الثبوت ـ على عدم ورود مثل ذلك في حق غيره .
وأمّا الخطابي وغيره . . . فزعموا « الخصيصة » و « الإشارة القويّة إلى استحقاقه للخلافة ، ولا سيّما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبي ، في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمهم إلاّ أبو بكر » بل جعل بعضهم « الباب » كناية عن « الخلافة » والأمر بالسدّ كناية عن طلبها . . .
ونقول : أمّا « الخصيصة » فقد عرفت ما في دعواها ، وأمّا « الإشارة القوية . . . » فلا دليل عليها إلاّ ما زعمه من القرينة الحالية . . . لكن القول بأنه ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) أمر أبا بكر بالصلاة كذب (1)
وهل هذه « الإشارة القويّة » مبنية على إرادة الحقيقة أو المجاز؟ قولان . . .
والقسطلاني . . . بعد أن زعم الدلالة في موضع ، نسبها في موضع اخر إلى « قيل » وذكر القولين من الحمل على الحقيقة أو المجاز ، واكتفى بنقل الخلاف فقال : « قيل : وفيه تعريض بالخلافة له ، لأن ذلك إن أريد به الحقيقة فذاك . . . وإن أريد به المجاز فهو كناية عن الخلافة . . . » .
وقد عرفت أن الأصل في الكلام حمله على الحقيقة ، لكن الدلالة على الخلافة متوقفة على ثبوت أصل القضية ، ثم ثبوت عدم ورود مثلها في حق غيره ! !
فالعجب من مثل ابن حجر العسقلاني . . . كيف يسكت على دعوى دلالة الحديث على الإمامة ـ إن لم نقل بكونه من القائلين بذلك ـ بعد رده على دعوى المجاز كما عرفت وإثباته ورود مثل الحديث في حق علي عليه السلام كما ستعرف ؟ !
---------------------------
(1) انظر : الرسالة الرابعة من هذه الرسائل .