وكأن العيني التفت إلى أن الحديث ـ مع ذلك كلّه ـ قاصر عن « الإشارة » فضلا عن « الدلالة » على الخلافة فقال : « وقد ادّعى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة . . . وإلى هذا مال ابن حبّان . . . » ثمّ قال : « وعن أنس قال : جاء رسول الله فدخل بستانا . . . » إلى آخر الحديث ، وقد تقدّم . . .
فإن ذكر هذا الحديث في هذا المقام بعد كلمة « وقد ادّعى . . . » ظاهر في عدم الموافقة على ما قيل ، ولذا التجأ إلى الاستدلال ـ أو الاستشهاد ـ للمدعى بحديث آخر ،
لكنه حديث باطل سنداً ومتناً ، والاستدلال به من العيني في هذا الموضع بشرح البخاري عجيب جدّاً . . . لكنه الاضطرار وضيق الخناق ! ! .
وإن كنت في ريب مّما قلنا . . . فإليك عبارة ابن حجر في الحديث ورجاله :
« الصقر بن عبدالرحمن أبو بهز سبط مالك بن مقول ، حدث عن عبد الله بن إدريس ، عن مختار بن فلفل ، عن أنس بحديث كذب : قم يا أنس فافتح لأبي بكر وبشره بالخلافة من بعدي ، وكذا في عمر وعثمان .
قال ابن عدي : كان أبو يعلى إذا حدثنا عنه ضعّفه .
وقال أبو بكر ابن أبي شيبة : كان يضع الحديث .
وقال أبوعليّ جزرة : كذاب .
وقال عبد الله بن علي بن المديني : سألت أبي عن هذا الحديث فقال : كذب موضوع » .
ثمّ روى ابن حجر الحديث . . . وقال :
« لو صح هذا لما جعل عمر الخلافة في أهل الشورى ، وكان يعهد إلى عثمان بلا نزاع ، والله المستعان » (1).
وأقول :
وإن كل حديث جاء في مناقب الخلفاء وذكرت أساميهم على الترتيب حديث موضوع بلا ريب . . .
ثمّ إنا نجد أنساً في هذا الحديث يقوم كل مرة ويفتح الباب بكل سرعة ، ولا يقابلهم بما قابل به أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الطير حيث ردّه غير مرة ، ولما غضب عليه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) اعتذر بأنه كان يرجو أن يكون الذي سأل النبي حضوره رجلا من الأنصار ! ! .
ثم إن بعضهم لم يقنع برواية الحديث المختلق المقلوب والاستدلال به حتى جعل يقدح في الحديث الأصل . . . قال العيني بشرح حديث الخوخة :
« فإن قلت : روي عن ابن عبّاس أنه ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) .
قال : سدّوا الأبواب إلاّ باب عليّ ،
قلت : قال الترمذي : هو غريب ، وقال البخاري : حديث إلاّ باب أبي بكر أصحّ ، وقال الحاكم : تفرد به مسكين بن بكير الحرّاني عن شعبة ، وقال ابن عساكر : وهو ، وهم ، وقال صاحب التوضيح : وتابعه إبراهيم بن المختار » (1).
بل تجاوز بعضهم عن هذا الحدّ . . . حتى زعم أن الحديث الأصل من وضع الرافضة :
قال ابن الجوزي ـ بعد أن رواه في بعض طرقه ـ : « فهذه الأحاديث كلّها من وضع الرافضة قابلوا بها الحديث المتفق على صحته في : سدّوا الأبواب إلاّ باب أبي بكر » (2).
وقال ابن تيمية : « هذا مّما وضعته الشيعة على طريق المقابلة » (1).
وقال ابن كثير : « ومن روى إلاّ باب عليّ ـ كما في بعض السنن ـ فهو خطأ ، والصواب ما ثبت في الصحيح » (2).
قلت :
لا شك في أن الأمر بسدّ أبواب الصحابة إلاّ باب واحد منهم فضيلة وخصيصة . . . ولمّا رأى المناوئون لأمير المؤمنين عليه السلام المنكرون فضائله وخصائصه ـ كمالك ابن أنس ونظائره ـ حديث « سدوا الأبواب إلاّ باب عليّ » ولم يتمكنوا من إنكاره لصحّة طرقه عمدوا إلى قلبه إلى أبي بكر وجعل حديث الخوخة في حقه . . . ثم اختلفت مواقف المحدّثين والشراح تجاه الحديثين .
فمنهم من لم يتعرض لحديث « سدّوا الأبواب إلاّ باب علي » لا نفياً ولا إثباتا . . . كالنووي والكرماني في شرحيهما على مسلم والبخاري وابن سيّد الناس في سيرته . . .
ومنهم من تعرض له واختلف كلامه ، كالعيني . . . فظاهره في موضع طرحه أو ترجيح حديث الخوخة عليه ، وفي آخر الجمع بما ذكره الطحاوي وغيره .
ومنهم من حكم بوضعه . . . كابن الجوزي ومن تبعه . . .
ومنهم من اعترف بصحته وثبوته ، وردّ على القول بوضعه أوضعفه . . . وحاول الجمع بين الحديثين . . . كالطحاوي وابن حجر العسقلاني ومن تبعهما . . .
أما السكوت وعدم التعرض فلعدم الجرأة على ردّ حديث « إلاّ باب علي » وعدم تماميّة وجه للجمع بين الحديثين . . . بعد فرض صحة حديث الخوخة لكونه في الصحيحين . . .
وأمّا الطعن في حديث « إلاّ باب عليّ » فلأن الفضيلة والخصيصة لا تتّم لأبي بكر إلاّ بالطعن في ذاك الحديث ، بعد فرض عدم تمامية وجهٍ للجمع بينهما .
---------------------------
(1) منهاج السنة 3|9 .
(2) تفسير ابن كثير 1|501 .
لكنّ الطعن في حديث « إلاّ باب عليّ » مردود عند أكابر المحدّثين وشراح الحديث بل نصوا على أنه تعصّب قبيح . . .
قال ابن حجر بشرحه : « تنبيه : جاء في سدّ الأبواب التي حول المسجد أحاديث يخالف ظاهرها حديث الباب .
منها : حديث سعد بن أبي وقاص قال : أمرنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) بسدّ الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب عليّ ، أخرجه أحمد والنسائي ، وإسناده قويّ .
وفي رواية للطبراني في الأوسط ـ رجالها ثقات ـ من الزيادة : فقالوا : يا رسول الله سددت أبوابنا ! فقال : ما أنا سددتها ولكن الله سدّها .
وعن زيد بن أرقم قال : كان لنفرٍ من الصحابة أبواب شارعة في المسجد. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ): سدوا هذه الأبواب إلاّ باب عليّ ، فتكلّم ناس في ذلك فقال رسول الله : إني والله ما سددت شيئاً ولا فتحته ولكن أمرت بشيء فاتبعته ، أخرجه أحمد والنسائي والحاكم ، ورجاله ثقات .
وعن ابن عباس قال : أمر رسول الله بأبواب المسجد فسدت إلاّ باب علي ، وفي روايةٍ : وأمر بسدّ الأبواب غير باب علي ، فكان يدخل المسجد وهو جنب ليس له طريق غيره ، أخرجهما أحمد والنسائي ، ورجالهما ثقات .
وعن جابر بن سمرة قال : أمرنا رسول الله بسدّ الأبواب كلها غير باب عليّ ، فربّما مر فيه وهو جنب ، أخرجه الطبراني .
وعن ابن عمر قال : كنا نقول في زمن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) : رسول الله خير الناس ثمّ أبو بكر ثمّ عمر ، ولقد أعطي عليّ بن أبي طالب ثلاث خصال لئن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم : زوجه رسول الله ابنته وولدت له ، وسدّ الأبواب إلاّ بابه في المسجد ، وأعطاه الراية يوم خيبر. أخرجه أحمد وإسناده حسن .
الرسائل العشرة _ 316 _
وأخرج النسائي من طريق العلاء بن عرار ـ بمهملات ـ قال : فقلت لابن عمر : أخبرني عن عليّ وعثمان ، فذكر الحديث وفيه : وأما عليّ فلا تسأل عنه أحداً وانظر إلى منزلته من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قد سدّ أبوابنا في المسجد وأقرّ بابه .
ورجاله رجال الصحيح إلاّ العلاء وقد وثّقه يحيى بن معين وغيره ،
وهذه الأحاديث يقوّي بعضها بعضاً ، وكل طريق منها صالح للاحتجاج فضلاً عن مجموعها .
وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات ، أخرجه من حديث سعد ابن أبي وقاص وزيد بن أرقم وابن عمر ، مقتصراً على بعض طرقه عنهم ، وأعله ببعض من تكلم فيه من رواته ، وليس ذلك بقادح ، لما ذكرت من كثرة الطرق .
وأعلّه أيضاً بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر ، وزعم أنه من وضع الرافضة قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر ، انتهى.
وأخطأ في ذلك خطأ شنيعاً ، فإنه سلك في ذلك ردّ الأحاديث الصحيحة بتوهّمه المعارضة ، مع أن الجمع بين القصتين ممكن . . . » (1) ولابن حجر كلام مثله في كتابه « القول المسدد » (2).
وقد أورد السيوطي كلام ابن حجر في معرض الردّ على ابن الجوزي حيث قال :
« قلت : قال الحافظ ابن حجر في القول المسدد في الذبّ عن مسند أحمد : قول أبن الجوزي في هذا الحديث أنه باطل وأنه موضوع ، دعوى لم يستدلّ عليها إلاّ بمخالفة الحديث الذي في الصحيحين ، وهذا إقدام على رد الأحاديث الصحيحة بمجرد
التوهّم .
---------------------------
(1) فتح الباري 6|11 ـ 12 .
(2) القول المسدد في الذب عن مسند أحمد : 16 ـ 20 .
الرسائل العشرة _ 317 _
ولا ينبغي الإقدام على حكم بالوضع إلاّ عند عدم إمكان الجمع ، ولا يلزم من تعذّر الجمع في الحال أنه لا يمكن بعد ذلك ، لأن فوق كل ذي علم عليم .
وطريق الورع في مثل هذا أن لا يحكم على الحديث بالبطلان ، بل يتوقف فيه إلى أن يظهر لغيره ما لم يظهر له ، وهذا الحديث من هذا الباب ، هو حديث مشهور له طرق متعدّدة ، كل طريق منها على انفراده لا تقصر عن رتبة الحسن ، ومجموعها مّما يقطع بصحّته على طريقة كثير من أهل الحديث .
وأمّا كونه معارضاً لما في الصحيحين فغير مسلم ، ليس بينهما معارضة . . .
وها أنا أذكر بقية طرقه ثم أبين كيفية الجمع بينه وبين الذي في الصحيحين . . . » .
ثمّ قال بعد ذكر طرقٍ للحديث :
« فهذه الطرق المتضافرة بروايات الأثبات تدلّ على أن الحديث صحيح ذو دلالة قوية ، وهذه غاية نظر المحدّث . . . فكيف يدعى الوضع على الأحاديث الصحيحة بمجرد هذا التوهّم ؟ ! ولو فتح هذا الباب لردّ الأحاديث لأدّى في كثير من الأحاديث الصحيحة البطلان ، ولكن يأبى الله ذلك والمؤمنون . . . » (1).
وقال القسطلاني بشرح حديث الخوخة : « وعورض بما في الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : سدوا الأبواب إلاّ باب علي .
وأجيب بأن الترمذي قال : إنه غريب ، وقال ابن عساكر : إنه وهم ،
لكن للحديث طرق يقوّي بعضها بعضاً ، بل قال الحافظ ابن حجر في بعضها : إسناده قويّ ، وفي بعضها : رجاله ثقات » (2).
وقال بعد ذكر طرق لحديث « إلاّ باب علي » : « وبالجملة فهي ـ كما قال الحافظ ابن حجر ـ : أحاديث يقوّي بعضها بعضاً ، وكل طريق منها صالح للاحتجاج فضلاً عن مجموعها » (3).
---------------------------
(1) اللآلي المصنوعة 1|347 ـ 352 .
(2) إرشاد الساري 1|453 .
(3) إرشاد الساري 6|84 ـ 85 .
الرسائل العشرة _ 318 _
وقال ابن عراق الكناني بعد كلام ابن الجوزي : « تعقبه الحافظ ابن حجر الشافعي في القول المسدّد فقال : هذا إقدام على رد الأحاديث الصحيحة بمجرد التوهم ، ولا معارضة بينه وبين حديث الصحيحين ، لأن هذه قصة أخرى ، فقصة عليّ في الأبواب الشارعة وقد كان أذن له أن يمر في المسجد وهو جنب ، وقصة أبي بكر في مرض الوفاة في سدّ طاقّات كانوا يستقربون الدخول منها ، كذا جمع القاضي إسماعيل في أحكامه والكلاباذي في معانيه والطحاوي في مشكله . . . » (1).
قد ظهر إلى الآن اضطراب القوم في حلّ المشكل . . .
لكن السكوت عن وجود حديث « إلاّ باب عليّ » ظلم ، وما الله بغافل عمّا يعمل الظالمون . . . وإن إبطاله أمر يأباه الله والمؤمنون . . .
فأمّا الاعتراف باختلاق حديث « الخوخة » . . . لكن الحقيقة مرة . . .
وإما الجمع بين الحديثين بطريق يرتضيه ذوو الأفكار الحرة . . . ! !
وقد سلك ابن حجر وجماعة ممّن تقدّم وتأخر مسلك الجمع . . . لكنها كلمات متناقضة . . . ومحاولات يائسة . . .
قال ابن روزيهان : « كان المسجد في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) متصلاً ببيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلى ساكن بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لمكان ابنته ، وكان الناس من أبوابهم في المسجد يتردّدون ويزاحمون المصلين ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بسدّ الأبواب إلاّ باب علي ، وقد صح في الصحيحين : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمر بسد كل خوخةٍ في المسجد إلاّ خوخة أبي بكر .
---------------------------
(1) تنزيه الشريعة 1|384 .
الرسائل العشرة _ 319 _
والخوخة الباب الصغير، فهذا فضيلة وقرب حصل لأبي بكر وعلي » (1).
أقول : في هذا الكلام نقاط :
الأولى : إن علياً عليه السلام كان يسكن بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولم يكن له هنالك بيت
وهذا إنكار للحقيقة الراهنة التي تدلّ عليها أخبار الباب ، ولذا لم نجد أحداً يدعي هذه الدعوى ، نعم ، هناك غير واحد منهم ينفي أن يكون لأبي بكر بيت إلى جنب المسجد ، أما بالنسبة إلى أمير المؤمنين عليه السلام فالأمر بالعكس . . . وفي عبارة ابن كثير الاتية تصريح بذلك .
والثانية : إنه كان الناس من أبوابهم في المسجد يتردّدون ويزاحمون المصلّين ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بسدّ الأبواب إلاّ باب عليّ ومحصّل هذا أن السبب للأمر بسدّ الأبواب مزاحمة المصلين ، وهذا مّما لا شاهد عليه في الأخبار ، بل مفاد الأخبار في هذا الباب وغيره أن السبب الذي من أجله أمر بسدّ الأبواب عن المسجد هو تنزيه المسجد عن الأرجاس وتجنيبه عن الأدناس . . . واستثنى نفسه وعلياً وأهل بيته لكونهم طاهرين مطهرين ، أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .
والثالثة : جمعه بين حديث « باب عليّ » و « خوخة أبي بكر » بأن هذا فضيلة وقرب حصل لكليهما . . . والمقصود من هذا الجمع ـ وإن لم يشتمل على زعم دلالة حديث الخوخة على خلافة أبي بكر كما تقدّم عن بعضهم ـ إنكار اختصاص هذه الفضيلة بأمير المؤمنين عليه السلام . . . وستعرف الإشكال فيه من كلام الحلبي . . .
---------------------------
(1) إبطال نهج الباطل/ في ردّ« نهج الحق » للعلاّمة الحلّي .
وقال ابن كثير بشرح حديث « إلاّ باب عليّ » : « وهذا لا ينافي ما ثبت في صحيح البخاري من أمره عليه السلام في مرض الموت بسدّ الأبواب الشارعة إلى المسجد إلاّ باب أبي بكر الصديق ، لأن نفي هذا في حق علي كان في حال حياته لاحتياج فاطمة إلى المرور من بيتها إلى بيت أبيها ، فجعل هذا رفقاً بها. واما بعد وفاته فزالت هذه العلة ، فاحتيج إلى فتح باب الصديق لأجل خروجه إلى المسجد ليصليّ بالناس ، إذ كان الخليفة عليهم بعد موته عليه السلام ، وفيه إشارة إلى خلافته » (1).
أقول :
1 ـ فيه تصريح بأنه كان لعليّ عليه السلام هناك بيت غير بيت النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) ! . . . وإعراض عما قاله المتقدّمون عليه في مقام الجمع ! .
2 ـ جعل السبب في إبقاء باب علي مفتوحاً « احتياج فاطمة إلى المرور » من بيتها إلى بيت أبيها » ولم يذكر السبب في سدّ سائر الأبواب ! .
3 ـ إذا كان السبب لترك بابها مفتوحاً هو« المرور من بيتها إلى بيت أبيها » فلماذا لم يترك باب أبي بكر رفقاً بعائشة ! ! كي تمر من « بيتها إلى بيت أبيها » ؟ ! .
4 ـ وإذ « احتيج إلى فتح باب الصدّيق . . . » فهل سدّ باب عليّ من تلك الساعة أو لاً ؟ ! إن كان يدّعي سدّه فأين الدليل ؟ ! وكيف وليس له إلاّ باب واحد ؟ ! لكنه لا يدعي هذا ، بل ظاهر العبارة بقاوّه مفتوحاً غير إنه فتح باب أبي بكر . . . فأين الإشارة إلى الخلافة ؟ ! .
5 ـ ثم إن هذا كله يتوقف على أن يكون لأبي بكر بيت إلى جنب المسجد . . . وهذا غير ثابت . . .
---------------------------
(1) البداية والنهاية 7|342 .
الرسائل العشرة _ 321 _
6 ـ هذا ، وابن كثير نفسه يروي عن أم سلمة :
« خرج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) في مرضه حتى انتهى إلى صرحة المسجد فنادى بأعلى صوته أنه لا يحل المسجد لجنب ولا لحائض إلاّ لمحمّد وأزواجه وعلي وفاطمة بنت محمّد ، إلاّ هل بينت لكم الأسماء أن تضلّوا » (1).
وهذا الحديث يبين السبب في سدّ الابواب إلاّ باب عليّ عليه السلام ويبطل جميع ما ذكره أبن الأثير . . . ومن الطبيعي والحال هذه أن يقدح في سنده ! .
وقال ابن حجر : « إن الجمع بين القصتين ممكن ، وقد أشار إلى ذلك البزار في مسنده فقال : ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حسان في قصة علي ، وورد من روايات أهل المدينة في قصة أبي بكر ، فإن ثبتت روايات أهل الكوفة فالجمع بينهما بما دل عليه حديث أبي سعيد الخدري ، يعني : الذي أخرجه الترمذي أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) قال : لا يحلّ لأحد أن يطرق هذا المسجد جنباً غيري وغيرك .
والمعنى : أن باب علي كان إلى جهة المسجد ولم يكن لبيته باب غيره ، فلذلك لم يؤمر بسدّه ، ويؤيّد ذلك ما أخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القران من طريق المطلب ابن عبد الله بن حنطب أن النبي لم يأذن لأحد أن يمر في المسجد وهو جنب إلاّ لعلي ابن أبي طالب ، لأن بيته كان في المسجد .
ومحصل الجمع أن الأمر بسدّ الأبواب وقع مرتين ، ففي الأولى : استثني عليّ لما ذكر ، وفي الأخرى استثني أبو بكر ، ولكن لا يتم ذلك إلاّ بأن يحمل ما في قصّة علي على الباب الحقيقي ، وما في قصّة أبي بكر على الباب المجازي ، والمراد به الخوخة ، كما صرح به في بعض طرقه ، وكأنهم لمّا أمروا بسد الأبواب سدّوها وأحدثوا خوخاً يستقربون الدخول إلى المسجد منها ، فأمروا بعد ذلك بسدها .
---------------------------
(1) البداية والنهاية 7|343 .
الرسائل العشرة _ 322 _
فهذه طريقة لا بأس بها في الجمع بين الحديثين ، وبها جمع بين الحديثين المذكورين أبو جعفر الطحاوي في ( مشكل الآثار ) وهو في أوائل الثلث الثالث منه ، وأبو بكر الكلاباذي في ( معاني الأخبار ) وصرح بأن بيت أبي بكر كان له باب من خارج المسجد وبيت علي لم يكن له باب إلاّ من داخل المسجد. والله أعلم » (1)
وكذا قال في « القول المسدّد » وأورده السيوطي ووافقه (2) وذكر القسطلاني ملخصه في مقام الجمع بين الحديثين (3).
أقول :
1 ـ إن هذا الجمع الذي ذكره يبتني ـ كغيره ـ على أن يكون لأبي بكر بيت إلى جنب المسجد ، وقد عرفت أن غير واحدٍ من محققيهم ينفي ذلك ، ومن هنا حمل البعض الحديث على أنه كناية عن الخلافة ! وابن حجر ، وإن ضعّف القول المذكور قائلاً : « وهذا الاستناد ضعيف » لكنه لم يذكر لدعواه مستنداً قوياً ، وما ذكره من خبر ابن شبّة ضعيف سنداً (4).
2 ـ إن هذا الجمع الذي ذكره عن الطحاوي وغيره مما قد وقف عليه النووي وأمثاله قطعاً ، وإذ لم يتعرضوا لهذا الجمع فهم معرضون عنه وغير معتمدين عليه . . . وهذا هو الصحيح ، وستعرف بعض الوجوه الدالة على سقوطه .
3 ـ فيما نقله ابن حجر عن البزار نقاط :
الأولى : إن رواة قصّة علي « كوفيون » ورواة قصّة أبي بكر « مدنيون » وهذا ما لم نتحققه .
---------------------------
(1) فتح الباري 7|12 .
(2) اللآلي المصنوعة 1|347 .
(3) إرشاد الساري 6|83 .
(4) أخبار المدينة المنوّرة ـ لابن شبة ـ 1|242 .
الرسائل العشرة _ 323 _
والثانية : إنّ روايات قصّة علي « بأسانيد حسان » .
وهذا ما يخالف الواقع ولا يوافق عليه ابن حجر . . . وقد تقدمت عبارته في رده على كلام ابن الجوزي .
والثالثة : تشكيكه في روايات قصّة عليّ بقوله : « إن ثبتت » وهذا تشكيك في الحقيقة الواقعة ، ولا يوافق عليه ابن حجر كذلك .
والرابعة : كون معنى « لا يحل لأحد أن يطرق المسجد جنباً غيري وغيرك » هو « إن باب عليّ كان إلى جهة المسجد ولم يكن لبيته باب غيره فلذلك لم يؤمر بسدّه » باطل جدّا .
أمّا أولاً : فلأنّ الحديث المذكور لا يدل إلاّ على أختصاص هذا الحكم بهما عليهما السلام ، فأين الدلالة على المعنى المذكور ؟ ! .
وأمّا ثانياً : فلأنه لو كان السبب في أنه لم يؤمر بسد بابه أنه « لم يكن لبيته باب غيره » لم يكن وجه لاعتراض الناس وتضجّرهم مما فعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) لا سيّما عمه حمزة حيث جاء ـ فيما يروون ـ وعيناه تذرفان بالدموع . . . !
ولكان الأجدر برسول الله أن يعتذر بأنه : ليس له باب غيره فلذا لم أسدّ بابه وأنتم لبيوتكم بابان باب من داخل وباب من خارج ، لا أن يسندّ سدّ الأبواب إلاّ بابه إلى الله قائلاً : « ما أنا سددت شيئا ولا فتحته ، ولكن أمرت بشيء فاتبعته » ! .
ولكان لمن سأل ابن عمر عن عليّ ـ فأجابه بقوله : أما عليّ فلا تسأل عنه أحدا وانظر إلى منزلته من رسول الله : قد سدّ أبوابنا في المسجد وأقر بابه ـ أن يقول له : وأي منزلة هذه منه ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) و « لم يكن لبيته باب غيره » ؟ ! .
ولكان لقائل أن يقول له : كيف تكون هذه الخصلة أحب إليك من حمر النعم ، وتجعلها كتزويجه من بضعته الزهراء ، وإعطائه الراية في خيبر ، وقد كان من الطبيعي أن لا يسدّ بابه لأنه « لم يكن لبيته باب غيره » ؟ !
ولو كان كذلك لم يبق معنى لقول بعضهم : « تركه لقرابته ، فقالوا : حمزة أقرب منه وأخوه من الرضاعة وعمّه » ! ولا لقول آخرين : « تركه من أجل بنته » ! حتى بلغت أقاويلهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فخرج إليهم . . . في حديث ننقله بكامله لفوائده :
الرسائل العشرة _ 324 _
« بينما الناس جلوس في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) إذ خرج مناد فنادى : ايها الناس ، سدّوا أبوابكم ، فتحسحس الناس لذلك ولم يقم أحد ، ثمّ خرج الثانية فقال : آيها الناس ، سدوا أبوابكم ، فلم يقم أحد ، فقال الناس : ما أراد بهذا ؟ فخرج فقال : إيها الناس ، سدوا أبوابكم قبل أن ينزل العذاب ، فخرج الناس مبادرين ، وخرج حمزة بن عبد المطّلب يجر كساءه حين نادى : سدوا أبوابكم .
قال : ولكل رجل منهم باب إلى المسجد ، أبو بكر وعمر وعثمان ، وغيرهم .
قال : وجاء عليّ حتى قام على رأس رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) .
فقال : ما يقيمك ؟ إرجع إلى رحلك ، ولم يأمره بالسدّ .
فقالوا : سدّ أبوابنا وترك باب عليّ وهو أحدثنا ! فقال بعضهم : تركه لقرابته فقالوا : حمزة أقرب منه ، وأخوه من الرضاعة ، وعمّه ! وقال بعضهم : تركه من أجل ابنته .
فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فخرج إليهم بعد ثالثة ، فحمد الله وأثنى عليه محمراً وجهه ـ وكان إذا غضب احمر عرق في وجهه ـ ثمّ قال : أما بعد ذلكم ، فإن الله أوحى إلى موسى أن اتخذ مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاّ هارون وأبناء هارون شبراً وشبيراً وإن الله أوحى إلي أن أتخذ مسجداً طاهراً لا يسكنه إلاّ أنا وعلي وأبناء عليّ حسن وحسين ، وقد قدمت المدينة واتخذت بها مسجداً ، وما أردت التحول إليه حتى أمرت ، وما أعلم إلاّ ما علّمت ، وما أصنع إلاّ ما أمرت ، فخرجت على ناقتي ، فلقيني الأنصار يقولون : يا رسول الله انزل علينا. فقلت : خلّوا الناقة ، فإنها مأمورة ، حتى نزلت حيث بركت .
والله ما أنا سددت الأبواب وما أنا فتحتها ، وما أنا أسكنت علياً ، ولكن الله أسكنه » (1).
4 ـ ما ذكره بعد قوله : « ومحصّل الجمع . . . » ليس محصلاً لما ذكره قبله ، فقد
---------------------------
(1) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 1|478.
الرسائل العشرة _ 325 _
تأملت فيه فوجدته وجهاً مغايراً للوجه السابق . . . !
ثمّ وجدت السمهودي ينصّ على ذلك فيقول بعد نقل العبارة : « قلت : والعبارة تحتاج إلى تنقيح ، لأنّ ما ذكره بقوله : ( ومحصّل الجمع ) طريقة أخرى في الجمع غير الطريقة المتقدّمة ، إذ محصّل الطريقة المتقدّمة أن البابين بقيا ، وأن المأمورين بالسدّ هم الذين كان لهم أبواب إلى غير المسجد مع أبواب من المسجد .
وأما علي فلم يكن بابه إلا من المسجد ، وأن الشارع ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خصه بذلك ، وجعل طريقه إلى بيته المسجد لما سبق ، فباب أبي بكر هو المحتاج إلى الاستثناء ، ولذلك اقتصر الأكثر عليه ، ومن ذكر باب علي فإنما أراد بيان أنه لم يسدّ ، وأنه وقع التصريح بإبقائه أيضا .
والطريقة الثانية تعدد الواقعة ، وأن قصة علي كانت متقدمة على قصة أبي بكر ، ويؤيد ذلك ما أسنده يحيى من طريق ابن زبالة وغيره عن عبدالله بن مسلم الهلالي ، عن أبيه ، عن أخيه ، قال : لما أمر بسدّ أبوابهم التي في المسجد خرج حمزة بن عبد المطلب يجرّ قطيفة له حمراء وعيناه تذرفان يبكي يقول : يا رسول الله أخرجت عمّك واسكنت ابن عمّك ! فقال : ما أنا أخرجتك ولا أسكنته ، ولكن الله أسكنه ، فذكره حمزة رضي الله عنه في القصة يدلّ على تقدّمها . . . » (1).
5 ـ وفي الجمع الثاني ـ وهو وقوع الأمر بسدّ الأبواب مرتين ـ نقطتان التفت إليهما ابن حجر نفسه :
أحداهما : أن هذا الجمع لا يتم إلا بأن يحمل ما في قصّة علي على الباب الحقيقي ، وما في قصة أبي بكر على الباب المجازي ، والمراد به الخوخة كما صرح به في بعض طرقه .
والثانية : ما أشار إليه بقوله : وكأنهم لما أمروا بسدّ الأبواب سدّوها وأحدثوا خوخاً . . .
---------------------------
(1) وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 1|480 .
الرسائل العشرة _ 326 _
أقول : أما في الأولى فلقد تقدّم أن البخاري هو الذي حرف الحديث من « الخوخة » إلى « الباب » وقد ذكرنا هناك توجيه ابن حجر ذلك بأنه نقل بالمعنى ولا يخفى التنافي بين كلامه هناك وكلامه هنا .
واما في الثانية : فإن الوجه في قوله : « وكأنهم . . . » هو أن قصة حديث « إلأ باب عليّ » متقدّمة على قصة « حديث الخوخة » بزمن طويل .
فتلك كانت قبل أُحدٍ كما عرفت ، وهذه في أيام مرضه الذي توفي فيه كما ذكروا ، فإذا كان قد أمر بسدّ الأبواب فأيّ معنى للأمر بسدّ الخوخ ؟ ! فلا بدّ من أن يدعى أنهم أطاعوا أمره بسدّ الأبواب لكنهم أحدثوا خوخا يستقربون الدخول إلى المسجد منها! لكن ابن حجر يقول : « وكأنهم . . . » فهو غير جازم بهذا . . .
وأقول :
1 ـ هل من المعقول أن يأمر بسدّ الأبواب ويأذن بإحداث خوخ يستقربون الدخول إلى المسجد منها؟! إن كانت الخوخ المستحدثة يستطرق منها إلى المسجد فما معنى الأمر بسدّ الأبواب ؟ !
2 ـ إنه لا يوجد في شيء من ألفاظ حديث « سدّ الأبواب إلأ باب علي » ما يدلّ على إذن النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) . . .
3 ـ هناك في غير واحد من الأحاديث تصريح بالمنع عن إحداث الخوخ بعد الأمر بسدّ الأبواب. . .
ففي حديث : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « سدّوا أبواب المسجد إلأ باب علي ، فقال رجل : أترك لي قدر ما أخرج وأدخل ؟ فقال رسول الله : لم أؤمر بذلك . قال : أترك بقدر ما أخرج صدري يا رسول الله ؟ ! فقال رسول الله : لم أؤمر بذلك ، وانصرف ، قال رجل : فبقدر رأسي يا رسول الله ؟ فقال رسول الله : لم أؤمر بذلك ، وانصرف واجداً باكيا حزيناً ، فقال رسول الله : لم أؤمر بذلك ، سدّوا الأبواب إلأ باب علي » (1).
وفي آخر : « قال له رجل من أصحابه : يا رسول الله دع لي كوّة أنظر إليك منها حين تغدو وحين تروح . فقال : لا والله ولا مثل ثقب الإبرة » (1).
ومن هنا قال السمهودي :
« وقد اقتضى ذلك المنع من الخوخة أيضا ، بل وممّا دونها عند الأمر بسدّ الأبواب أوّلا . . . » (2)
إلى هنا وقد ظهر أن الحق مع المعرضين عن الجمع . . .
وابن عراق حيث نقل كلام ابن حجر أعرض عما قال ابن حجر قبل : « ومحصل الجمع » وإنها ذكر في وجه الجمع : « أن هذه قصة أخرى فقصّة علي في الأبواب الشارعة ، وقد كان أذن له أن يمر في المسجد وهو جنب ، وقصّة أبي بكر في مرض الوفاة في سدّ طاقات كانوا يستقربون الدخول منها ، كذا جمع القاضي إسماعيل في أحكامه والكلاباذي في معانيه والطحاوي في مشكله » (3) فتراه يقتصر على الجمع الثاني وهو اختلاف القصتين ، ويعرض عن دعوى أن السبب في عدم سدّ باب علي كون بابه من داخل المسجد ! ! والموضوع في القصة الأولى « الأ بواب » وفي الثانية : « طاقات » ! !
والذي ينسبه إلى المتقدّمين في وجه الجمع هو هذا المقدار فقط ! ! .
والمباركفوري وافق ابن حجر في أن أحاديث « باب عليّ » يقوي بعضها بعضا ، وكل طريق منها صالح للاحتجاج فضلا عن مجموعها ، ثم تهرب عن الدخول في تفصيل المطلب وقال : « فهذه الأحاديث تخالف أحاديث الباب ، قال الحافظ : ويمكن الجمع بين القصتين وقد أشار إلى ذلك البزار في مسنده . . . » (1)
والحلبي صاحب السيرة التفت إلى وهن هذا الجمع فأورده مع تفسيرات وتغييرات من عنده . . . فقال :
« وجمع بعضهم بأن قصة عليّ متقدّمة على هذا الوقت ، وأن الناس كان لكل بيت بابان ، باب يفتح للمسجد وباب يفتح خارجه ، إلأ بيت عليّ كرم الله وجهه فإنه لم يكن له إلأ باب من المسجد وليس له باب من خارج ، فأمر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بسدّ الأبواب ، أي التي تفتح للمسجد ، أي بتضييقها وصيرورتها خوخا إلأ باب عليّ كرم الله وجهه ، فإن علياً لم يكن له إلآ باب واحد ليس له طريق غيره كما تقدم ، فلم يأمر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بجعل خوخة ثم بعد ذلك أمر بسدّ الخوخ إلأ خوخة أبي بكر ، وقول بعضهم : حتى خوخة عليّ كرم الله وجهه ، فيه نظر ، لما علمت أن علياً كرم الله وجهه لم يكن له إلأ باب واحد ، فالباب في قصة أبي بكر ليس المراد به حقيقته بل الخوخة ، وفي قصّة عليّ كّرم الله وجهه المراد به حقيقته » (2)
أقول : لقد غير العبارة من : « وأحدثوا خوخاً . . . » إلى تضييق الأبواب وصيرورتها خوخا » على أن المراد من « سدّوا الأبواب إلأ باب علي » هو : ضيّقوها واجعلوها خوخا . . . فبا لله عليك هل تفهم هذا المعنى من « سدّوا الأبواب . . . » ! ! لكنّه اضطر إلى هذا التمحّل لما رأى بطلان كلام ابن حجر . . .
كما أنه ترك قول ابن حجر : « يستقربون إلى المسجد منها » لالتفاته إلى أنها حينئذ « أبواب » لا « الخوخ » !
لكنه مع ذلك كله نبّه على ما نبّه عليه السمهودي من أن الأحاديث الواردة تنفي الإذن بجعل « الخوخ » بعد « سدّ الأبواب » . . . فقال :
« وعلى كون المراد بسدّ الأبواب تضييقها وجعلها خوخاً يشكل ما جاء (1) . . . فعلى تقدير صحة ذلك يجتاج إلى الجواب عنه » .
ولكن لا جواب ، لا منه ولا من غيره ! !
ثم قال : « وعلى هذا الجمع يلزم أن يكون باب علي كرم الله وجهه استمر مفتوحا
في المسجد مع خوخة أبي بكر ، لما علم أنه لم يكن لعلي باب آخر من غير المسجد،
وحينئذ قد يتوقف في قول بعضهم : في سدّ الخوخ إلآ خوخة أبي بكر إشارة إلى
استخلاف أبي بكر لأنه يحتاج إلى المسجد كثيرا دون غيره » (2).
أقول : وفي هذا رد على الخطابي وابن بطال ومن تبعهما . . . وعلى ابن حجر
نفسه الذي اختار هذا الجمع وهو مع ذلك ينقل كلمات أولئك . . . اللهم إلا أن يقال بعدم ارتضائه لها لما أشرنا إليه سابقا من قوله لدى نقلها : « وقد ادعى . . . »
أقول : قد رأيت عدم تمامية شيء مما ذكروا في وجه الجمع بين القصتين ، وأن
---------------------------
(1) ذكر العباس في قضية « سد الأبواب إلا باب علي » غلط ، بل هو حمزة عليه
السلام ، لأن العباس أسلم عام الفتح وقصة علي قبل أُحد... وهذا واضح وقد نبه
عليه غير واحد. .. ثم رأيت ابن سيد الناس في عيون الأثر 2|336 يذكر طلب
العباس واعتراضه في قضية « إلأ باب أبي بكر » المزعومة ... وكأنه لغرض
تثبيت قصّة أبي بكر !!
(2) إنسان العيون 3|461 .
الرسائل العشرة _ 330 _
كلمات القوم في المقام متهافتة للغاية ، وما ذلك إلأ لامتناعهم عن الإدلاء بالحق
والاعتراف بالواقع . . .
وحقيقة الحال في هذا الحديث هو : أن رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) أمر بسدّ الأبواب الشارعة إلى المسجد تنزيهاً له عن الأدناس وتجنيبا عن الأرجاس . . . وحتى باب عمّه حمزة سيد الشهداء عليه السلام سدّه على ما كان عليه من الفضل والقرابة والشأن الرفيع . . . والأحاديث الدالة على كون ما ذكرناه هو السبب في سدّ الأبواب كثيرة عند الفريقين . . .
لكنه إنما لم يؤمر بسدّ بابه وباب علي وأجاز مكث علي وأهل بيته ومرورهم من المسجد ـ في حال الجنابة ـ لكونهم طاهرين مطهرين بحكم آية التطهير النازلة من رب العالمين .
وغير هذه الآية من أدلة عصمة أهل البيت وامتيازهم بهذه الخصيصة عن سائر الخلق أجمعين . . . فبابهم لم يسدّ لعدم الموجب لسدّه كما كان بالنسبة إلى غيرهم . . . وبهذا ظهرت ميزة أخرى من مميزاتهم (1) . . . الأمر الذي أثار عجب قوم وحسد أو غضب قوم اخرين . . .
ثم إن هذا الحسد لم يزل باقيا في نفوس أتباع أولئك . . . كمالك وأمثال مالك . . . فحملهم الحسدّ لعليّ والحب لأبي بكر ـ وهو ممّن سدّ بابه كما هو صريح أخبار الباب ـ على أن يضعوا له في المقابل حديثا ويقلبوا الفضيلة . . . ! .
والواقع : أن هذا الوضع ـ في أكثره ـ من صنع أيام معاوية . . . لكن وضع على لسان النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) في أواخر أيام حياته . . . وله نظائر عديدة . . . لقد نصبوا أبا بكر للخلافة وبايعوه . . . وهم يعلمون بعدم وجود نصّ عليه وبعدم توفّر مؤهّلات فيه كما اعترف هو بذلك فيما رووه . . . فحاولوا أن يضعوا أشياء وينسبوها
إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن قالها في أيام مرضه زعموا أن فيها إشارة قوية إلى خلافته . . . ليصبغوا ما صنعوا بصبغة الشرعية . . . وليضيفوا ما وقع منهم
---------------------------
(1) وممن نص علي هذه الميزة والاختصاص المحب الطبري في ذخائر العقبى :
77 .
الرسائل العشرة _ 331 _
إلى الإرادة الإلهّية . . .
ومن هذه الأحاديث المختلقة في هذه الفترة :
حديث : « مروا أبا بكر فليصل بالناس » .
وقد بحثنا عنه في رسالة مفردة . . .
وحديث : « . . . يأبى الله والمؤمنون إلآ أبا بكر . . . » .
ولعلنا نبحث عنه في مجال آخر
وحديث : « سدوا الأبواب إلآ باب أبي بكر » او : سدّوا الخوخ إلآ خوخة أبي
بكر » .
وهو موضوع رسالتنا هذه . . . حيث أثبتنا عدم تماميّته سنداً ومعنىً ودلالةً ، حتى أن القوم حاروا في معناه واضطربت كلماتهم وتهافتت مواقفهم تجاهه . . . حتى التجأ بعضهم إلى دعوى أن حديث « إلآ باب علي » هو الموضوع المقلوب ! ! .
ولقد كان الأولى والأجدر بأبن الجوزي القول بالحق والاعتراف بالحقيقة . . . وهو
: كون الحديث في أبي بكر موضوعاً ، لقلًة طرقه جدّاً ، وضعف كلّها سنداّ ، وعدم وجود شاهد له أبداّ . . . ما صب الله في صدري شيئاّ إلآ وصببته في صدر أبي بكر :
وقد وجدنا ابن الجوزي وغيره يعترفون بوضع أحاديث في فضل أبي بكر ، كحديث «
ما صب الله في صدري شيئاً إلآ وصببته في صدر أبي بكر » هذا الحديث الموضوع
الذي ربما استدل به بعضهم في فضل أبي بكر واحتجّ به غيره في مقابلة حديث « أنا
مدينة العلم وعلي بابها » المتواتر بين الفريقين . . .
يقول ابن الجوزي : « وما أزال أسمع العوامّ يقولون عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال :
الرسائل العشرة _ 332 _
( ما صب الله في صدري شيئاً إلآ وصببته في صدر أبي بكر)!
و( إذا اشتقت إلى الجنة قبّلت شيبة أبي بكر) !
و( كنت أنا وأبو بكر كفرسي رهان ، سبقته فاتبعني ولو سبقني لاتبعته )!
في أشياء ما رأينا لها أثراً ، لا في الصحيح ولا في الموضوع ،
ولا فائدة في الإطالة بمثل هذه الأشياء » (1) .
ويقول : المجد الفيروزآبادي :
« وأشهر الموضوعات في باب فضائل أبي بكر :
حديث : إن الله يتجلي يوم القيامة للناس عامة ولأبي بكر خاصّة!
وحديث : ما صب الله في صدري شيئاً إلأ وصببته في صدر أبي بكر! وحديث :
كان رسول الله إذا اشتاق إلى الجنة قبل . . . !
وحديث : أنا وأبو بكر كفرسي رهان . . . !
وحديث : إن الله تعالى لما اختارالأرواح اختار روح أبي بكر!
وأمثالها من المفتريات الواضح بطلانها ببداهة العقل » (2) .
ويقول الفتني ـ نقلاً عن كتاب الخلاصة في أصول الحديث للطيبي ـ ما نصّه :
« في الخلاصة : ما صب الله في صدري شيئاً إلا وصببته في صدر أبي بكر ،
موضوع » (3).
ويقول القاري ـ نقلا عن ابن القيم ـ : « ومّما وضعه جهلة المنتسبين إلى السّنة في
فضل الصّديق :
حديث : إن الله يتجلّى للناس عامة يوم القيامة ولأبي بكر خاصة!
وحديث : ما صب الله في صدري شيئا إلآ صببته في صدر أبي بكر ! .
---------------------------
(1) الموضوعات 1|219 .
(2) سفر السعادة ـ خاتمة الكتاب .
(3) تذكرة الموضوعات : 93 .
الرسائل العشرة _ 333 _
وحديث : كان إذا اشتاق إلى الجنة قبّل شيبة أبي بكر !
وحديث : أنا وأبو بكر كفرسي رهان !
وحديث : إن الله لما اختار الأرواح اختار روح أبي بكر !
وحديث عمر : كان رسول الله عليه السلام وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما !
وحديث : لو حدثتكم بفضائل عُمَر عُمْر نوح في قومه ما فنيت ، وإّن عمر حسنة من حسنات أبي بكر !
وحديث : ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ، وإنما سبقكم بشيء وقر في صدره ! وهذا من كلام أبي بكر ابن عياش » (1)
ويقول الشوكاني :
« حديث : ما صبّ الله في صدري شيئاً إلاّ وصببته في صدر أبي بكر ، ذكره
صاحب الخلاصة وقال : موضوع » (2)
لو لم أُبعث لبُعث عمر :
وقال ابن الجوزي في ما وضع في فضل عمر :
« الحديث الثاني : أنبأنا إسماعيل بن أحمد ، قال : أنبأ ابن مسعدة ، قال : أنبأ حمزة ، قال : أنبأ ابن عدي ، قال : ثنا علي بن الحسن بن قديد ، قال : ثنا زكريابن يحيى الوقار ، قال : ثنا بشر بن بكر ، عن أبي بكر بن عبدالله بن أبي مريم ، عن حمزة بن حبيب ، عن عصيف بن الحارث ، عن بلال بن رباح ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو لم أبعث فيكم لبُعث عمر!
قال ابن عديّ : وثنا عمر بن الحسن بن نصر الحلبي ، قال : ثنا مصعب بن سعد
أبو خيثمة .
---------------------------
(1) الموضوعات الكبرى : 132.
(2) الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة : 152 .
الرسائل العشرة _ 334 _
قال : ثنا عبدالله بن واقد ، قال : حدّثنا حياة بن شريح ، عن بكر بن عمر ، وعن مشرح بن هاعان ، عن عقبة بن عامر ، قال :
قال رسول الله : لو لم أبعث فيكم لبعث عمر !
قال المصنف : هذان حديثان لا يصحان عن رسول الله .
أمّا الأول ، فإن زكريا ابن
يحيى كان من الكذابين الكبار. قال ابن عديّ : كان يضع الحديث .
وأما الثاني ، فقال أحمد ويحيى : عبدالله بن واقد ليس بشيء ، وقال النسائي : متروك الحديث ، وقال ابن حبان : انقلبت على مشرح صحائفه فبطل الاحتجاج به » (1)
خذوا شطر دينكم عن الحميراء :
ومن الأحاديث الموضوعة في فضل عائشة :
« خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء » .
وهو حديث مشهور . . . لكنهم أجمعوا على أنه موضوع :
قال ابن أمير الحاج : « ذكر الحافظ عماد الدين ابن كثير أنه سأل الحافظين المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه » ،
وقال : « قال شيخنا الحافظ ـ ابن حجر العسقلاني ـ : لا أعرف له إسناداً ، ولا
رأيته في شيء من كتب الحديث . . . » (2)
وتبعهم السخاوي (3) .
وقال السيوطي : « لم أقف عليه ، وقال الحافظ عماد الدين ابن كثير في تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب : هو حديث غريب جداً ، بل هو حديث منكر. سألت عنه . . . » (4) ---------------------------
(1) الموضوعات 1|320 .
(2) التقرير والتحبير في شرح التحرير 3|99 .
(3) المقاصد الحسنة : 198 .
(4) الدرر المنتثرة : 79 .
الرسائل العشرة _ 335 _
وكذا قال القاري (1)
والزرقاني المالكي . (2)
وغيرهم . . . دعوة إلى التحقيق والقول بالحق
وبعد ، فهذه أربعة أحاديث . بحثنا عنها في هذه الرسالة . . . في السند والدلالة . . . وعلى ضوء الشواهد والأدلة . . . وما أكثر النظائر لهذه الأخبار في بطون الكتب والأسفار . . .
وإني لأدعو ذوي الفكر وأصحاب الفضيلة . . . إلى التحقيق في السنة النبوبة
الشريفة ، وإعادة النظر في الأحاديث التي قرّر السابقون صحتها . . . وبنوا في
الأصول والفروع على أساسها . . . ثم القول بالصدق والإعلان عن الحق . . . فقد ولّت عصور التعصب واتباع الهوى والتقليد الأعمى . . .
وفي ذلك خدمة للشريعة الحنيفة والسنة الشريفة ، وتحقيق للوحدة والوئام بين أهل الإسلام . . .
والله وليّ التوفيق . . . وصلى الله على محمد وآله أجمعين .
---------------------------
(1) الموضوعات الكبرى : 190 ، المرقاة 5|616 .
(2) شرح المواهب اللدنّيّة 3|233 .