وفاطمة الزهراء ليست بالتي تفتن عن دينها أو يعتريها ما يعتري النسوة وقد نزلت فيها اية التطهير من السماء ، وكانت لعصمتها وكمالاتها سيدة النساء ، وعلى فرض ذلك ـ كما تقول هذه الأحاديث ـ فلا خصوصية لابنة أبي جهل .
والنبي يعترف في خطبته بأن علياً ما فعل حراماً ، ولكن لا يأذن ، فهل إذنه شرط ؟! وحل يجوز حمل الصهر على طلاق زوجته إن تزوج بأخرى عليها ؟ !
كل هذا غير جائز ولا كائن . . .
سلّمنا أن فاطمة أخذتها الغيرة (1) ، والنبي أخذته الغيرة لابنته ، (2).
فلماذا صعد المنبر وأعلن القصة وشهر ؟ !
يقول ابن حجر : « وإنما خطب النبي ليشيع الحكم المذكور بين الناس ويأخذوا به ، إمّا على سبيل الإيجاب ، وإمّا على سبيل الأولوية » (3) وتبعه العيني (4).
والمراد بالحكم : حكم « الجمع بين بنت رسول الله وبنت عدو الله » لكن ألفاظ الحديث مختلفة ، ففي لفظ : « لا تجتمع . . . » وفي آخر : « ليس لأحد . . . » وفي ثالث : « لم يكن ذلك له » ، ولذا اختلفت كلمات العلماء في الحكم !
قال النووي : « قال العلماء : في هذا الحديث تحريم إيذاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) بكل حال وعلى كل وجه ، وإن تولد ذلك الإيذاء ممّا كان أصله مباحاً وهو حي ، وهذا بخلاف غيره ، قالوا : وقد أعلم بإباحة نكاح بنت أبي جهل لعلي بقوله : لست احرم حلالاً ، ولكن نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوصتين ، إحداهما : أن ذلك يؤدّي إلى أذى فاطمة فيتأذى حينئذٍ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيهلك من آذاه .
---------------------------
(1) ومن هنا ذكر ابن ماجة الحديث في باب الغيرة .
(2) ومن هنا عنون البخاري : « باب ذبّ الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف » ولم يذكر فيه إلآ هذا الحديث!!
(3) فتح الباري 7|68 .
(4) عمدة القاري 16|230 .
الرسائل العشرة _ 261 _
فنهى عن ذلك لكمال شفقته على عليّ وعلى فاطمة .
والثانية : خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة .
وقيل : ليس المراد به النهي عن جمعهما ، بل معناه : أعلم من فضل الله أنهما لا تجتمعان ، كما قال أنس بن النضر : والله لا تكسر ثنية الربيع ، ويحتمل أن المراد : تحريم جمعهما ، ويكون معنى لا احرم حلالاً ، أي : لا أقول شيئاً يخالف حكم الله ، فإذا أحلّ شيئاً لم أحرمه ، وإذا حرمه لم أحلله ولم أسكت عن تحريمه ، لأن سكوتي تحليل له ، ويكون من جملة محرمات النكاح الجمع بين بنتي عدوّ الله وبنت نبي الله »(1) .
وقال العيني : « نهى عن الجمع بينها وبين فاطمة ابنته لعلتين منصوصتين . . . » (2)
أقول : أمّا « الا تجتمع . . . » فليس صريحاً في التحريم ، ولذا قيل : ( ليس المراد به النهي عن جمعهما ، بل معناه : اعلم من فضل الله أنهما لا تجتمعان » .
وأمّا « ليس لأحد . . . » فظاهر في الحرمة لعموم المسلمين ، فيكون حكماً مخصّصاً لعموم أدلّة الجواز لكن لا يفتني به أحد . . . بل يكذبه عمل عمر بن الخطاب ، حيث خطب ـ فيما يروون ـ ابنة أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام وعنده غير واحدة من بنات أعداء الله كما لا يخفى على من راجع تراجمه .
وأما « لم يكن ذلك له » فصريح في اختصاص الحكم بعين ، فهل هو نهي تنزيهي أو تحريمي ؟ إن كان الثاني فلا بدّ أن يفرض مع جهل علي به ، لكن المستفاد من النووي وغيره هو الاوّل ، فهو ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) نهى عن الجمع للعلتين المذكورتين .
أما الثانية فلا تتصوّر في حق كثير من النساء المؤمنات فكيف بالزهراء الطاهرة المعصومة ! !
وأما الأولى فيردها : أن صعود المنبر ، والثناء على صهر آخر ، ثم القول بأنه
---------------------------
(1) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ـ هامش إرشاد الساري ـ 9|333.
(2) عمدة القاري 15|34 .
الرسائل العشرة _ 262 _
« إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلّق . . . » . . . ينافي كمال شفقته على علي وفاطمة . . .
ولعل ما ذكرناه هو وجه الأقوال الأخرى في المقام .
وقال ابن حجر بشرح : « إلا أن يريد ابن أبي طالب . . . » : « هذا محمول على أن بعض من يبغض علياً وشى به أنه مصمم على ذلك ، وإلا فلا يظنّ به أنه يستمر على الخطبة بعد أن استشار النبي ( صلى الله عليه آله وسلم ) فمنعه . وسياق سويد بن غفلة يدل على أن ذلك وقع قبل أن تعلم به فاطمة ، فكأنه لما قيل لها ذلك وشكت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد أن أعلمه علي أنه ترك ، أنه انكر عليه ذلك .
وزاد في رواية الزهري وإني لست أحرم حلالاً ولا أحلل حراماً ، ولكن ـ والله ـ لا تجمع بنت رسول الله وبنت عدوّ الله عند رجل أبداً ، وفي رواية مسلم : مكاناً واحداً أبداً ، وفي رواية شعيب : عند رجل واحد أبداً .
قال ابن التين : أصح ما تحمل عليه هذه القصة : أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حرم على عليّ أن يجمع بين ابنته وبين ابنة أبي جهل ، لأنه علل بأن ذلك يؤذيه ، وأذيته حرام بالاتفاق ، ومعنى قوله : لا أحرم حلالاً ، أي : هي له حلال لو لم تكن عنده فاطمة .
وآما الجمع بينهما الذي لا يستلزم تأذي النبي ( صلّى الله عليه الله وآله وسلّم ) لتأذي فاطمة به فلا .
وزعم غيره : أن السياق يشعر بأن ذلك مباح لعلي ، لكنه منعه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) رعاية لخاطر فاطمة ، وقبل هو ذلك امتثالاً لأمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
والذي يظهر لي : أنه لا يبعد أن يعد في خصائص النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن لا يتزوج على بناته .
ويحتمل أن يكون ذلك خاصاً بفاطمة عليها السلام » (1).
أقول : لايخفى الأضطراب في كلماتهم . . . ولا يخفى ما في كل وجهٍ من هذه الوجوه . . .
---------------------------
(1) فتح الباري 9|268 .
الرسائل العشرة _ 263 _
ولو ذكرنا التناقضات الأخرى الموجودة بينهم لطال بنا المقام . . .
ومن طرائف الأمور جعل البخاري كلام النبي خلعاً ، ولذا ذكر الحديث في باب الشقاق من كتاب الطلاق . . . ! ! لكن القوم لم يرتضوا ذلك فحاروا فيه :
قال العيني : « قال ابن التين : ليس في الحديث دلالة على ما ترجم . . .
أراد : أنه لا مطابقة بين الحديث والترجمة .
وعن المهلّب : حاول البخاري بإيراده أن يجعل قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) : ( فلا آذن ) خلعاً .
ولا يقوى ذلك ، لأنه قال في الخبر : ( إلآ أن يريد ابن أبي طالب أن يطلّق ابنتي ) فدلّ على الطلاق ، فإن أراد أن يستدلّ بالطلاق على الخلع فهو ضعيف . . .
وقيل : في بيان المطابقة بين الحديث والترجمة بقوله : يمكن أن تؤخذ من كونه ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) أشار بقوله : ( فلا آذن ) إلى أن علياً رضي الله تعالى عنه يترك الخطبة ، فإذا ساغ جواز الإشارة بعدم النكاح التحق به جواز الإشارة بقطع النكاح .
وأحسن من هذا وأوجه ما قاله الكرماني بقوله : أورد هذا الحديث هنا لأن فاطمة رضي الله تعالى عنها ما كانت ترضى بذلك ، وكان الشقاق بينها وبين علي رضي الله تعالى عنه متوقعاً ، فأراد ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) دفع وقوعه .
وقيل : يحتمل أن يكون وجه المطابقة من باقي الحديث ، وهو : ( إلا أن يريد علي أن يطلّق ابنتي ) فيكون من باب الإشارة بالخلع ، وفيه تأمل » (1).
وقال القسطلاني : « استشكل وجه المطابقة بين الحديث والترجمة وأجاب في الكواكب فأجاد : بأنّ كون فاطمة ما كانت ترضى بذلك فكان الشقاق بينها وبين علي
متوقعاً ، فأراد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) دفع وقوعه بمنع علي من ذلك بطريق إلإيماء والإشارة .
وقيل غير ذلك مما فيه تكلّف وتعسّف » (1).
أقول : وهل ما ذكره الكرماني في الكواكب واستحسنه العيني والقسطلاني خال من التكلف والتعسف ؟ !
إنه يبتني على احتمالين ، أحدهما : أن لا ترضى فاطمة بذلك ، والثاني : أن ينجر ذلك إلى الشقاق بينهما . . . ! !
وهل كان منعه ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) علياً من ذلك ـ دفعاً لوقوع الشقاق ـ بطريق الإيماء والإشارة؟! أو كان بالخطبة والتنقيص والغضّ والتهديد ؟ !
ونتيجة التأملات في ألفاظ هذا الحديث :
1 ـ إن قول المسور « وأنا محتلم » يورث الشك في سماعه الحديث من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) ، وكذا عدم المناسبة المعقولة بين طلبه للسيف من الإمام زين العابدين عليه السلام وإخباره بالقصّة ، ثم إلحاحه في طلب السيف ، لأن النبي ( صلى الله عليه واله وسلّم ) قال : فاطمة بضعة مني . . . !
2 ـ إن ألفاظ الحديث مختلفة ومعانيها متفاوتة جداً ، بحيث لم يتمكن شرّاحه من بيان وجه معقول للجمع بين تلك الألفاظ ، ولما كانت الحال هذه والقصّة واحدة فلا محالة يقع الشك في أصل الحديث . . .
3 ـ إن مدلول الحديث لا يتناسب وشأن أميرالمؤمنين والزهراء ، وفوق ذلك لا يتناسب وشأن النبي صاحب الشريعة الغراء ، وحتى لو فعل عليّ ما لايجوز . . . لما ثبت من أنه :
« كان إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل : ما بال فلان يقول ، ولكن يقول : ما بال أقوام يقولون : كذا وكذا » ، و : « كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قل ما يواجه رجلا في وجهه شيء يكرهه » .
وقال : « من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موؤدة » (1).
وقد التفت ابن حجر إلى هذه الناحية حيث قال : « وكان النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قل أن يواجه أحدا بما يعاب به » ثم اعتذر قائلا : « ولعلّه إنما جهر بمعاتبة علي مبالغة في رضا فاطمة عليها السلام . . . » (2).
لكنه كما ترى ، أمّا أولا : فلم يرتكب عليّ عيبا .
وأمّا ثانيا : فإن الذي صدر من النبي ما كان معاتبة .
وأما ثالثا : فإن المبالغة في رضا فاطمة عليها السلام إنما تحسن ما لم تستلزم هتكا لمؤمن فكيف بعليّ ، وليس دونها عنده إن لم يكن أعزوأحب .
4 ـ وكما أن هذا الحديث تكذبه أحكام الشريعة الإسلامية والسنن النبويّة والآداب المحمدية . . . كذلك تكذبه الأخبار الصحيحة في أن الله هو الذي اختار علياً لنكاح فاطمة ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ردّ كبار الصحابة وقد خطبوها (3) ومن المعلوم أن الله لا يختار لها من يؤذيها بشيء مطلقا .
5 ـ وتكذبه أيضا سيرة الإمام عليّ عليه السلام وأحواله مع أخيه المصطفى منذ نعومة أظفاره حتى آخر لحظة من حياة النبي الكريمة ، فلم ير منه شيء يخالف الرسول أو يكرهه .
---------------------------
(1) هذه الأحاديث متفق عليها ، رقد أخرجها أصحاب الصحاح كلّهم في باب الأدب وغيره . أنظر منها : سنن أبي داود 2|288 .
(2) فتح الباري 7|67 .
(3) أنظر : مجمع الزوائد 9|204، كنز العمال 6|152 ، ذخائر العقبى : 31 ـ 32 ، الرياض النضرة 2|183 ، الصواعق : 84 .
1 ـ لقد كانت فاطمة الزهراء سلام الله عليها بضعة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) حقاً ، ولقد كرر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) قوله : « فاطمة بضعة مني . . . » غير مرة ، تأكيداً على تحريم أذاها ، وأن سخطها وغضبها سخطه وغضبه ، وسخطه سخط الله وغضبه . . . وبألفاظ مختلفة متقاربة في المعنى .
وقد روى عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذا الحديث غير واحد من الصحابة ، منهم أميرالمؤمنين عليه السلام نفسه . . . قال ابن حجر : « وعن عليّ بن الحسين ، عن أبيه ، عن عليّ ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) لفاطمة : إن الله تعالى يرضى لرضاك ويغضب لغضبك » (1).
قال : « وأخرج ابن أبي عاصم ، عن عبد الله بن عمرو بن سالم المفلوج ، بسند من أهل البيت عن عليّ أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) قال لفاطمة : إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك » (2)
ولسنا ـ الآن ـ بصدد ذكر رواة هذا الحديث وأسانيده عن الصحابة . . . وبيان قول النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ذلك في مناسبات متعدّدة . . . فذاك أمر معلوم . . .
كما أن ترتيب المسلمين الأثر الفقهي عليه منذ عهد الصحابة وإعطائهم فاطمة ما كان للنبي من حكم ، معلوم .
فالسهيلي الحافظ حكم بكفر من سبّها وإن من صلى عليها فقد صلّى على أبيها ، وكذا الحافظ البيهقي ، وقال شراح الصحيحين بدلالته على حرمة أذاها(3) وقال الزرقاني المالكي : « إنها تغضب من سبها ، وقد سوى بين غضبها وغضبه ، ومن أغضبه كفر » (4)
---------------------------
(1) تهذيب التهذيب 12|469 ، الإصابة 4|378.
(2) الإصابة 4|378.
(3) فتح الباري ، إرشاد الساري ، عمدة القاري ، المنهاج ... وغيرها.
(4) شرح المواهب المدنية 3|205.
الرسائل العشرة _ 267 _
وقال المناوي : « استدلّ به السهيلي على أن من سبّها كفر ، لأنه يغضبه ، وأنها أفضل من الشيخين . . . قال الشريف السمهودي : ومعلوم أن أولادها بضعة منها فيكونون بواسطتها بضعة منه . . . » (1)
ومن قبلهم أبو لبابة الأنصاري نزّلها منزلة النبي بأمر من النبي . . . قال الحافظ السهيلي : « إن أبا لبابة رفاعة بن المنذر ربط نفسه في توبة ، وإن فاطمة أرادت حله حين نزلت توبته ، فقال : قد أقسمت الآ يحلّني إلاّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) : إن فاطمة بضعة مني ، فصلى الله عليه وعلى فاطمة ، فهذا حديث يدلّ على أن من سبها فقد كفر ، ومن صلى عليها فقد صلى على أبيها » ،
ليس المقصود ذلك .
بل المقصود هو أن هذا الحديث جاء في الصحيحين وغيرهما عن « المسور بن مخرمة » ـ في باب فضائل فاطمة ـ مجرداً عن قصّة خطبة عليّ ابنة أبي جهل ، قال ابن حجر : « وفي الصحيحين عن المسوربن مخرمة : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلّم ) على المنبر يقول : فاطمة بضعة مني ، يؤذيني ما آذاها ، ويريبني ما رابها » (2) روياه عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة ، عن المسور بن مخرمة .
بل لم نجده عند البيهقي والخطيب التبريزي إلا مجرداً كذلك (3) ، وكذا في الجامع الصغير ، حيث لا تعرض للقصّة لا في المتن ولا في الشرح (4)
والملاحظ أنه لا يوجد في هذا السند المجرد واحد من ابني الزبير والزهري والشعبي والليث . . . وأمثالهم . . .
---------------------------
(1) فيض القدير 4|241 .
(2) الإصابة 4|378 .
(3) سنن البيهقي 7|64 و10|201. مشكاة المصابيح 3|1732 وقال : متّفق عليه .
(4) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير ـ 4|241.
الرسائل العشرة _ 268 _
ونحن نحتجّ بهذا الحديث . . . كسائر الأحاديث . . . وإن جرحنا « المسور » و « ابن أبي مليكة » لأن « الفضل ما شهدت به الأعداء » .
لكن أغلب الظن أن القوم وضعوا قصة الخطبة ، وألصقوها بالمسور وروايته . . . لغرض في نفوسهم ، ومرض في قلوبهم . . . حتى جاء ابن تيمية المجدّد لآثار الخوارج ، والمشيّد للأباطيل على موضوعاتهم ليقول :
« إن هذا الحديث لم يرو بهذا اللفظ بل روي بغيره ، كما ذكر في حديث خطبة عليّ لابنة أبي جهل لمّا قام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) خطيباً ، فقال : إنّ بني هشام بن المغيرة . . . رواه البخاري ومسلم في الصحيحين من رواية علي بن الحسين والمسور! مخرمة ، فسبب الحديث خطبة علي لابنة أبي جهل . . . » (1)
لكن الحقيقة لا تنطلي على أهلها ، والله الموفق .
2 ـ قد أشرنا في مقدّمة البحث أن وجود الحديث ـ أي حديث كان ـ في كتابي البخاري ومسلم وغيرهما من الكتب المعروفة بالصحاح لا يلزمنا القول بصحته ، ولا يغنينا عن النظر في سنده ، فلا يغرنك إخراجهم الحديث في تلك الكتب ، ولا يهولنّك الحكم ببطلان حديث مخرج فيها . . . وهذا مما تنبه إليه المحققون من أهل السنة وبحث عنه غير واحد من علماء الحديث والكتاب المعاصرين . . . ولنا في هذا الموضوع بحث مشبع نشرناه في العدد ( 14 ) من هذه النشرة ، وصدر من بعد ضمن كتابنا « التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف » أيضاً .
وكأن القوم لم يكفهم وضع حديث خطبة ابنة أبي جهل ، فوضعوا حديثاً آخر ، فيه أن أمير المؤمنين عليه السلام خطب أسماء بنت عميس ! . . . لكنه واضح العوار جدّاً ، فلذا لم يخرجه أصحاب صحاحهم ، بل نصّ المحققون منهم على سقوطه :
---------------------------
(1) منهاج السنة 2|170.
الرسائل العشرة _ 269 _
قال ابن حجر : « أسماء بنت عميس قالت : خطبني عليّ بن أبي طالب » فبلغ ذلك فاطمة ، فأتت النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فقالت : إن أسماء متزوّجة علياً! فقال لها : ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله (1)
وقال الهيثمي : « رواه الطبراني في الكبير والأوسط ،
وفيهما من لم أعرفه » (2)
ونحن لا نتكلّم على هذا الموضوع الآخر سوى أن نشير إلى أن واضعه قال : « فأتت النبي فقالت : إن أسماء متزوّجة علياً » وليس : « هذا عليّ ناكح ابنة أبي جهل » ، وقال عن النبي أنه قال لفاطمة : « ما كان لما أن تؤذي الله ورسوله »ولم يقل عنه أنه صعد المنبر وخطب وقال : « ما كان له . . . » !
قد استعرضنا ـ بعون الله تعالى ـ جميع طرق هذا الحديث ، ودققنا النظر في رجاله وأسانيده ، وفي ألفاظه ومداليله . . . فوجدناه حديثاً مختلقاً من قبل آل الزبير ، فإن رواته :
« عبد الله بن الزبير » .
و « عروة بن الزبير » .
و « المسور بن مخرمة » وكان من أعوان « عبد الله » وأنصاره والمقتولين معه في الكعبة ، وكان من الخوارج ، وكان . . .
و « عبدالله بن أبي مليكة » وهو قاضي الزبير ومؤذنه .
و « الزهري » وهو الذي كان يجلس مع « عروة بن الزبير » وينالان من أمير المؤمنين عليه السلام . . . وكان . . .
و « شعيب بن راشد » وهو رواية « الزهري » .
---------------------------
(1) المطالب العالية 4|67 .
(2) مجمع الزوائد 9|203 .
الرسائل العشرة _ 270 _
و « ابو اليمان » وهو راويه شعيب . . .
هؤلاء رؤس الواضعين لهذه الاكذوبة البينة . . . وقد عرفتهم واحداً واحداً وكل هؤلاء على مذهب أمامهم « عبد الله بن الزبير » الذي اشتهر بعدائه لأهل البيت عليهم السلام ، وتلك أخباره في واقعة الجمل وغيرها ، ثم حصره بني هاشم في الشعب بمكة فإما البيعة له وإما القتل ، ثم إخراجه محمد بن الحنفية من مكة والمدينة وابن عباس إلى الطائف . . . وعدائه للنبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نفسه . . . حتى قطع ذكره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جمعا كثيرة ، فاستطعم الناس ذلك ، فقال : إني لا أرغب عن ذكره ، ولكن له أهيل سوء ، إذا ذكرته أتلعوا أعناقهم ، فأنا أحب أن أكبتهم ! ! مذكورة في التاريخ .
وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام كلمته القصيرة المعروفة : « ما زال الزبير رجلاً منا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم عبد الله » (1)
فليهذب السنة الشريفة حماتها الغيارى من هذه الافتراءات القبيحة ، والله أسأل أن يوثق المخلصين للعلم والعمل ، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ، إنه هو البر الرحيم .
---------------------------
(1) نهج البلاغة ـ فهرسة صبحي الصالح ـ : 555|453 ، الاستيعاب : 904 إلأ أنّه لم يذكر لفظة « المشؤوم ».
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين .
وبعد . . . فهذه رسالة موضوعها « الأحاديث المقلوبة في فضائل الصحابة » كتبتها حول هذا الجانب من تراثنا وقد كتب لها أن تنشر في « تراثنا » . . . كشفت فيها عن جانب من التلاعب الواقع في الأحاديث المروية عن سيّد البريّة لأغراضٍ سياسية . . .
وقد تعرضنا هنا إلى أربعة من تلك الأحاديث . . . وعلى هذه فقس ما سواها . . . والله الهادي إلى سواء السبيل.
لقد اتفق المسلمون على رواية حديث المنزلة في حق أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام . . . وأخرجه من علماء أهل السنة : البخاري ومسلم وغيرهما من أرباب الصحاح ، وكذا رواه أصحاب المسانيد والمعاجم . . . وغيرهم من كبار المحدّثين . . . القدماء والمتأخرين . . . وإليك نص الحديث كما في الصحاح .
أخرج البخاري قائلاً :
« حدثنا محمد بن بشار ، ثنا غندر ثنا شعبة ، عن سعد ، قال : سمعت إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، قال : قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى » (1)
قال : « حدثنا مسدّد ، قال : حدثنا يحيى ، عن شعبة ، عن الحكم ، عن مصعب بن سعد ، عن أبيه : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خرج إلى تبوك فاستخاف علياً فقال : أتخلفني في الصبيان والنساء ؟ قال : ألا ترض أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه ليس نبي بعدي » (2)
وأخرج مسلم ، قال : « حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وأبو جعفر محمد بن الصباح وعبيد الله القواريري وسريح بن يونس ، كلّهم عن يوسف بن الماجشون
---------------------------
(1) مناقب علي بن أبي طالب من كتاب المناقب .
(2) باب غزوة تبوك من كتاب المغازي .
الرسائل العشرة _ 272 _
واللفظ لابن الصباح ـ قال : نا يوسف أبو سلمة الماجشون ، قال : ثنا محمد بن المنكدر عن سعيد بن المسيّب ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلآ أنه لا نبي بعدي .
قال سعيد : فأحببت أن أشافه بها سعداًً ، فلقيت سعداً فحدّثته بما حدّثني به عامر ، فقال : أنا سمعته . قلت : أنت سمعته ؟ ! قال : فوضع إصبعيه على أذنيه فقال : نعم وإلأ فاستُكّتا .
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : نا غندر ، عن شعبة .
ح وحدثنا محمد بن مثنى وابن بشار ، قالا : نا محمد بن جعفر ، قال : نا شعبة ، عن الحكم ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : خلّف رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) علي بن أبي طالب في غزوة تبوك ، فقال : يا رسول الله تخلّفني في النساء والصبيان ؟ فقال : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي .
حدثناه عبيدالله بن معاذ ، قال : نا أبي ، قال : نا شعبة ، في هذا الإسناد .
حدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن عبّاد ـ وتقاربا في اللفظ ـ قالا : نا حاتم ـ وهو ابن إسماعيل ـ عن بكير بن مسمار ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب ؟ ! فقال : أما ما ذكرت ثلاثا قالهّن له رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فلن أسبه ، لئن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) يقول له ـ وخلّفه في بعض مغازيه ، فقال له عليّ : يا رسول الله ! خلفتني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبوّة بعدي .
وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، قال : فتطاولنا لها ، فقال : أدعوا لي علياً ، فأتي به أرمد ، فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه .
الرسائل العشرة _ 273 _
ولما نزلت هذه الآية : ( ندع أبناءنا وأبناءكم ) دعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) عليّاً وفاطمة وحسناً وحسينا ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي .
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا غندر عن شعبة .
ح وحدّثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا : ثنا محمد بن جعفر ، ثنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، قال : سمعت إبراهيم بن سعد ، عن سعد ، عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال لعليّ : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى » (1)
ثم إن القوم لمّا رأوا صحّة هذا الحديث سنداً ، بل تواتره من طرقهم المعتبرة عندهم التجأوا إلى التشكيك في دلالته على أفضلية أمير المؤمنين وخلافته عن رسول رب العالمين . . . فراجع كتب الحديث والكلام .
فجاء آخرون وانتبهوا إلى سقوط تلك التشكيكات فاضطروا إلى القدح في سنده ، وإن كان متفقاً عليه بين أرباب الصحاح وغيرهم من أئمة الحديث . . . كما لا يخفى على من راجع كتاب « الصواعق المحرقة » .
وهناك من رأى أن لا جدوى في الطعن بالسند والدلالة ، فعمد إلى لفظ الحديث وحرفه بما لا يتفوّه به مسلم . . . فقال بأن لفظه : عليّ مني بمنزلة قارون من موسى . . . ! ! ! كما لا يخفى على من راجع كتب الرجال بترجمة « حريز بن عثمان » .
وقلب آخرون الحديث إلى الشيخين :
قال الخطيب : « أخبرنا الطاهري ، أخبرنا أبو القاسم علي بن الحسن بن عليّ ابن زكريا الشاعر ، حدثنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري .
---------------------------
(1) باب فضائل عليّ بن أبي طالب من كتاب المناقب .
الرسائل العشرة _ _
حدثنا بشر بن دحية ، حدثنا قزعة بن سويد ، عن ابن أبر ، مليكة ، عن ابن عباس :
أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى » (1)
وقال المتقي :
« أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى ، خط ، وابن الجوزي في الواهيات ، عن ابن عبّاس » (2)
وكذا قال المناوي (3) .
أقول :
وهذا السند في غاية السقوط ، ففيه :
1 ـ ابن أبي مليكة ، وقد عرفته في بحثنا حول حديث « خطبة عليّ ابنة أبي جهل » الموضوع الباطل (4).
2 ـ قزعة بن سويد ،
روى ابن أبي حاتم عن أحمد : « مضطرب الحديث » وعن ابن معين « ضعيف » وعن أبيه أبي حاتم الرازي : « لا يحتج به » (5).
وذكر ابن حجر عن البخاري : « ليس بذاك القوي » وعن أبي دواد والعنبري والنسائي : « ضعيف »
---------------------------
(1) تاريخ بغداد 11|384 .
(2) كنز العمال 11|567 .
(3) كنوز الحقائق ـ حرف الألف .
(4) وهو موضوع الرسالة السادسة من هذه الرسائل .
(5) الجرح والتعديل 7|139 .
الرسائل العشرة _ 275 _
وعن ابي حبان : « كثير الخطأ ، فاحش الوهم ، فلما كثر ذلك في روايته سقط الاحتجاج بأخباره » (1).
وذكره الذهبي في « الميزان » وقال : « له حديث منكر عن ابن أبي مليكة ...» (2)،
وستأتي كلمة ابن الجوزي .
3 ـ بشر بن دحية ،
قال ابن حجر : « بشر بن دحية ، عن قزعة بن سويد ، وعنه محمد بن جرير الطبري ، ضعفه المؤلف في ترجمة عمار بن هارون المستملي في أصل الميزان . . . » .
أقول : وستقف على نص العبارة وفيها عن الذهبي : « هذا كذب ، وهو من بشر » .
وفيها قول ابن حجر : « وشيخ الطبري [يعني بشراً] ما عرفته ، فيجوز أن يكون هو المفتري » .
4 ـ عليّ بن الحسن الشاعر ،
وهذا الرجل كذبه غير واحد ، بل هو المتهم بوضع هذا الحديث عند بعضهم كما ستعرف .
ولقد نصّ جماعة من نقاد الحديث على أنه حديث كذب موضوع ، ومنهم : ابن عدي وابن الجوزي والذهبي وابن حجر العسقلاني ، ونحن في هذا المقام ننقل عبارة ابن الجوزي ثم عبارات ابن حجر ، وفيها الكفاية :
قال ابن الجوزي :
« أخبرنا أبو منصور القزّاز قال : أنا أبو بكر ابن ثابت ، قال : أخبرنا عليّ بن عبد العزيز الطاهري
قال : نا أبو القاسم عليّ بن الحسن بن علي بن زكريا الشاعر ، قال : نا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، قال : نا بشر بن دحية ، قال : نا قزعة بن سويد ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس : أن النبي قال : أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى .
قال المؤلف : هذا حديث لا يصحّ ، والمتّهم به الشاعر ، وقد قال أبو حاتم الرازي : لا يحتج بقزعة بن سويدة : وقال أحمد : هو مضطرب الحديث » (1) .
وقال ابن حجر بترجمة بشر بن دحية :
« بشر بن دحية ، عن قزعة بن سويد ، وعنه محمد بن جرير الطبري. ضعفه المؤلّف في ترجمة عمّار بن هارون المستملي في أصل الميزان ، فذكر عن ابن عديّ أنه قال : محمد بن نوح ، ثنا جعفر بن محمد الناقد ، ثنا عمار بن هارون المستملي ، أنا قزعة ابن سويد ، عن ابن أبي مليكة ، عن أبن عبّاس رفعه : ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر ، الحديث ، وفيه : وأبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى .
قال ابن عدي : وحدثناه ابن جرير الطبري ، ثنا بشر بن دحية ، ثنا قزعة بنحوه .
قال الذهبي : هذا كذب ، وهو من بشر .
قال : ثم قال ابن عديّ : ورواه مسلم بن إبراهيم عن قزعة .
قال الذهبي : وقزعة ليس بشيء .
قلت : فبريء بشر من عهدته ، وسيأتي في ترجمة عليّ بن الحسن بن عليّ بن زكريّا الشاعر أن المؤلف اتهمه به وأنه بريء من عهدته » (2)
وقال ابن حجر بترجمة الشاعر :
« علي بن الحسن بن عليّ بن زكريا الشاعر ، عن محمد بن جرير الطبري ، بخبر كذب هو المتهم به ، متنه :
أبو بكر (1) مني بمنزلة هارون من موسى . إنتهى . ولا ذنب لهذا الرجل فيه كما سأبينه .
قال الخطيب في تاريخه : أنا عليّ بن عبد العزيز الطاهري ، أنا أبو القاسم عليّ ابن الحسن بن عليّ بن زكريا الشاعر ، حدثنا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ، حدثنا بشر بن دحية ، حدثنا قزعة بن سويد ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ بهذا الحديث .
فشيخ الطبري ما عرفته ، فيجوز أن يكون هو المفتري ، وقد قدّمت كلام المؤلف فيه في ترجمته ، وأنّ ابن عديّ أخرج الحديث المذكور بأتمّ من سياقه عن ابن جرير الطبري بسنده . فبريء ابن الحسن من عهدته » (2)
ومن فضائل أهل البيت « حديث المباهلة » . . . فإنه لمّا نزلت الآية المباركة : ( فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين )(1) خرج رسول الله ( صلّى الله عليه واله وسلّم ) بعلي وفاطمة والحسنين عليهم السلام إلى المباهلة . . .
وقال السيوطي : « أخرج ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم عن الشعبي قال : كان أهل نجران أعظم قوم من النصارى قولاً في عيسى بن مريم ، فكانوا يجادلون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيه ، فأنزل الله هذه الآيات في سورة آل عمران : ( إن مثل عيسى عند الله) إلى قوله : ( فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) .
فأمر بملاعنتهم ، فواعدوه لغدٍ ، فغدا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومعه علي والحسن والحسين وفاطمة ، فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية ، فقال النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر لو تّموا على الملاعنة » (2)
قال : « وأخرج مسلم والترمذي وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن سعد ابن أبي وقاص قال
---------------------------
(1) سورة آل عمران 3 : 61 .
(2) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 2|39 .
الرسائل العشرة _ 278 _
لمّا نزلت هذه الآية : ( قل تعالوا ندع ابناءنا وأبناءكم ) دعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) عليّاً وفاطمة وحسنا وحسينا فقال : اللهم هؤلاء أهلي »(1) .
قال : « وأخرج الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن جابر قال : قدم على النبي السيد والعاقب . . . فغدا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) وأخذ بيد عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيباه وأقرا له ، فقال : والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمر الوادي عليهما ناراً .
قال جابر : فيهم نزلت : ( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ) الآية .
قال جابر : أنفسنا وأنفسكم : رسول الله وعلي ، وأبناءنا : الحسن والحسين ، ونساءنا : فاطمة » (2).
قال : « وأخرج ابن جرير عن علباء بن أحمر اليشكري : نزلت هذه الآية : ( قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ) الايه ، أرسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) إلى عليّ وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين ، ودعا اليهود ليلاعنهم .
فقال شاب من اليهود : ويحكم أليس عهدكم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة وخنازير ! لا تلاعنوا ! فانتهوا » (3).
فمن رواة الحديث :
1 ـ أبو بكر ابن أبي شيبة .
2 ـ سعيد بن منصور .
3 ـ عبد بن حميد .
4 ـ مسلم بن الحجّاج .
5 ـ أبو عيسى الترمذي .
6 ـ أبو عبد الله الحاكم .
7 ـ ابن المنذر
8 ـ محمد بن جرير الطبري .
9 ـ أبو بكر البيهقي .
10 ـ أبو نعيم الأصفهاني .
11 ـ جلال الدين السيوطي .
وأخرجه أحمد ، قال :
« ثنا قتيبة بن سعيد ، ثنا حاتم بن إسماعيل ، عن بكير بن مسمار ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه ، قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول له وخلفه في بعض مغازيه ، فقال عليّ رضي الله عنه : أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ قال : يا عليّ ، أما ترض أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلآ أنه لا نبي بعدي .
وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، فتطاولنا لها ، فقال : ادعوا لي علياً ـ رضي الله عنه ـ فأتي به أرمد ، فبصق في عينه ، ودفع الراية إليه ففتح الله عليه .
ولما نزلت هذه الآية : ( ندع أبناءنا وأبناءكم ) دعا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) علياً وفاطمة وحسنا وحسينا ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ فقال : اللهم هؤلاء أهلي » (1).
أقول : لا يخفى أن هذا الحديث هو نفس الحديث الذي أخرجه مسلم ، وقد تقدّم نصّه في الحديث الأول ، فقارن بين هذا اللفظ واللفظ المتقدّم لتعرف ما في لفظ أحمد من التحريف والتصرف :
وقد ذكر المفسرون خبر المباهلة بذيل الآية المباركة فلاحظ تفاسير : الزمخشري ، الفخر الرازي ، البيضاوي ، الخازن ، الجلالين ، الآلوسي . . . وغيرهم .
فلّما رأى بعض المتعصّبين اختصاص هذه الفضيلة بأهل البيت عليهم السلام ، لاسيّما وأنها تدلّ على عصمة أمير المؤمنين عليه السلام وإمامته ، وعلى أن الحسنين عليهما السلام ابنا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) كما نصّ عليه الفخر الرازي وغيره في تفسير الآية . . . عمد إلى وضع حديث ليقلب تلك المنقبة إلى غير أهل البيت وليقابل به حديث المباهلة :
قال ابن عساكر : « أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم ، أنبأ أبو الفضل ابن الكريدي ، أنبأ أبو الحسن العتيقي ، أنا أبو الحسن الدارقطني ، نا أبو الحسين أحمد بن قاج ، نا محمد بن جرير الطبري إملاء علينا ، نا سعيد بن عنبسة الرازي ، نا الهيثم بن عدي ، قال : سمعت جعفر بن محمد عن أبيه في هذه الاية : ( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ) قال : فجاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده » (1).
وعنه السيوطي بتفسير الآية كذلك (2).
نظرات في سنده :
وهذا الحديث كذب محض ، باطل سنداً ومتناً . . . ونحن نكتفي بالنظر في سنده . . . ففيه :
1 ـ سعيد بن عنبسة الرازي ،
وهذا الرجل ذكره ابن أبي حاتم الرازي فقال :
« سعيد بن عنبسة أبو عثمان الخزّاز الرازي . . . سمع منه أبي ولم يحدّث عنه وقال :فيه نظر .
---------------------------
(1) تاريخ دمشق ـ ترجمة عثمان بن عفان : 168 ـ 169 .
(2) الدر المنثور 2|40.
الرسائل العشرة _ 281 _
حدثنا عبد الرحمن ، قال : سمعت عليّ بن الحسين ، قال : سمعت يحيى بن معين ـ وسئل عن سعيد بن عنبسة الرازي ـ فقال : لا أعرفه.
فقيل : إنه حدّث عن أبي عبيدة الحدّاد حديث والان ؟ فقال : هذا كذاب .
حدثنا عبد الرحمن ، قال : سمعت علي بن الحسين يقول : سعيد بن عنبسة كذاب ،
سمعت أبي يقول : كان لا يصدق » (1).
2 ـ الهيثم بن عدي ،
وقد اتفقوا على أنه كذاب . . . قال ابن أبي حاتم : « سئل يحيى بن معين الهيثم بن عديّ فقال : كوفي ليس بثقة ، كذاب .
سألت أبي عنه فقال : متروك الحديث » (2).
وذكره ابن حجر فذكر الكلمات فيه :
البخاري : « ليس بثقة ، كان يكذب » .
يحيى بن معين : « ليس بثقة ، كان يكذب » .
أبو داود : « كذاب » .
النسائي وغيره : « متروك الحديث » .
ابن المديني : « لا أرضاه في شيء » .
أبو زرعة : « ليس بشيء » .
العجلي : « كذّاب » .
الساجي : « كان يكذب » .
أحمد : « كان صاحب أخبار وتدليس » .
الحاكم والنقاش : « حدّث عن الثقات بأحاديث منكرة » ،
محمود بن غيلان : « أسقطه أحمد ويحيى بن معين وأبو خيثمة » ،
ذكره ابن السكن وابن شاهين وابن الجارود والدارقطني في الضعفاء » ،
« وكذب الحديث ، لكون الهيثم فيه ، جماعة منهم : الطحاوي في مشكل الحديث ، والبيهقي في السنن ، والنقّاش والجوزجاني في ما صنّفا من الموضوعات وغيرهم » (1).
ومن الأحاديث المرويّة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) والثابتة عنه لدى المسلمين . . . في فضل الإمامين السبطين الطاهرين ، الحسن والحسين . . . هو قوله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) : « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » :
وقد رواه من أهل السنة علماء ومحدّثون لا يحصى عددهم كثرةً :
فقد أخرج الترمذي بسنده عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » (2).
وأخرج ابن ماجة بسنده عن عبدالله بن عمر ، قال : « قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وأبوهما خير منهما » (3).
وأخرج أحمد بإسناده عن حذيفة ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ملك من الملائكة لم يهبط إلى الأرض قبل هذه الليلة ، فاستأذن ربّه أن يسلّم علي ويبشّرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة » (4).
وأخرج الحاكم بسنده عن حذيفة عنه ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) قال : « أتاني جبرئيل فقال : إن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ثم قال لي رسول الله
---------------------------
(1) لسان الميزان 6|209 .
(2) صحيح الترمذي 2|306.
(3) سنن ابن ماجة 1|44.
(4) مسند أحمد 5|391 .
الرسائل العشرة _ 283 _
غفر الله لك ولامّك يا حذيفة » (1).
وصحّحه الذهبي في تلخيصه .
ومن رواته أيضاً :
ابن حبّان في صحيحه كما في موارد الظمان : 551 .
والنساني في خصائص أمير المؤمنين : 36 .
والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 9|231 .
وأبو نعيم في حلية الأولياء 4|190 .
وابن حجر العسقلاني في الإصابة 1|266.
وابن الأثير في أُسد الغابة 5|574 .
وذكره الزركشي في « التذكرة في الأحاديث المشتهرة » والسيوطي في « الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة » والسخاوي في « المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة » بل أورده الزبيدي في كتابه« لقط اللآلي المتناثرة في الأحاديث المتواترة » .
هذا هو الحديث كما في كتب القوم مصرحين بصحته . . . فقلبه بعض الكذابين إلى لفظ : « أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة » :
قال الترمذي : « حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، حدثنا محمد بن كثير العبدي ، عن الأوزاعي ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) لأبي بكر وعمر : هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأوّلين والآخرين إلأ النبيين والمرسلين .
قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه .
---------------------------
(1) المستدرك على الصحيحين 3|381 .
الرسائل العشرة _ 284 _
حدثنا عليّ بن حجر ، أخبرنا الوليد بن محمد الموقري ، عن الزهري ، عن عليّ ابن الحسين ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال :
كنت مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذ طلع أبو بكر وعمر ، فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) :
هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأوّلين والآخرين إلا النبيين والمرسلين ، يا عليّ لا تخبرهما .
قال : هذا حديث غريب من هذا الوجه ، والوليد بن محمد الموقري يضعف في الحديث ، ولم يسمع عليّ بن الحسين من
علي بن أبي طالب .
وقد روي هذا الحديث عن علي من غير هذا الوجه ،
وفي الباب عن أنس وابن عبّاس .
حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : ذكر داود ، عن الشعبي ، عن الحارث ، عن عليّ ، عن
النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأوّلين والآخرين ما خلا النبيين والمرسلين ، لا تخبرهما يا علي » (1).
وقال ابن ماجة : « حدثنا هشام بن عمار ، ثنا سفيان ، عن الحسن بن عمارة ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن الحارث ،
عن عليّ ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأوّلين
والآخرين إلا النبيين والمرسلين ، لا تخبرهما يا عليّ ما داما حيّين » (2).
وقال : « حدثنا أبو شعيب صالح بن الهيثم الواسطي ، ثنا عبد القدوس بن بكر ابن خنيس ، ثنا مالك بن مغول ، عن عون بن
أبي جحيفة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) : أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من
الاولين والآخرين إلآ النبيّين والمرسلين » (3).
---------------------------
(1) صحيح الترمذي 5|570.
(2) سنن ابن ماجة 1|36.
(3) سنن ابن ماجة 1|38.
الرسائل العشرة _ 285 _
وقال عبد الله بن أحمد : « حدّثني وهب بن بقية الواسطي ، ثنا عمر بن يونس ـ يعني اليمامي ـ عن عبدالله بن عمر
اليمامي ، عن الحسن بن زيد بن الحسن ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : كنت عند النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) فأقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، فقال : يا علي ، هذان سيدا كهول أهل الجنة وشبابها بعد النبيّين والمرسلين » (1).
نظرات في سنده :
أقول : قد ذكرنا أهمّ أسانيد هذا الحديث في أهمّ كتبهم ، فالترمذي يرويه بسنده عن أنس بن مالك ، وهو وابن ماجة وعبدالله بن
أحمد يروونه عن أمير المؤمنين عليه السلام . . . وابن ماجة يرويه عن أبي جحيفة . . . وربّما روي في خارج الصحاح عن بعض الصحابة لكن بأسانيد اعترفوا بعدم اعتبارها (2).
وأول ما في هذا الحديث اعراض البخاري ومسلم عنه ، فإنهما لم يخرجاه في كتابيهما ، وقد تقرر عند كثير من العلماء رد ما اتفقا على تركه ، بل إن أحمد بن حنبل لم يخرجه في مسنده أيضاً ، وإنما أورده ابنه عبدالله في زوائده (3)، وقد نصّ أحمد على
أن ما ليس في المسند فليس بحجّة حيث قال في وصف كتابه : « إن هذا كتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة
وخمسين ألفاً ، فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله فارجعوا إليه ، فإن كان فيه وإلأ فليس بحجّة » (4)
ثم إنه بجميع طرقه المذكورة ساقط عن الاعتبار :
---------------------------
(1) المسند 1|80 .
(2) مجمع الزوائد 9|53 ، فيض القدير 1|89 .
(3) لم يذكر في مادة « كهل » من معجم ألفاظ الحديث النبوي إلآ هذا المورد ، وهو من حديث عبدالله بن أحمد وليس لأحمد نفسه .
(4) لاحظ ترجمة أحمد في طبقات الشافعية الكبرى للسبكي .