الثالث : أن الرسول مأمور بخفض الجناح للمؤمنين ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) ، ومأمور بالإعراض عن المشركين ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) وكلا الآيتين من سورة الحجر (1) وقد نزلت قبل سورة عبس ، فالالتزام بكون الآية نازلة في الرسول معناه أن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أعرض عن المؤمنين وخفض الجناح للمشركين .
الرابع : كان بإمكان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أن يلفت انتباه ابن أم مكتوم أنه مشغول مع القوم وأن يأتي له في وقت آخر حتى يكون بخدمته ، لا أن يعبس في وجهه ويعرض عنه ، ولو كان هكذا لما توانى ابن أبي مكتوم في تلبية طلب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، لأنه يرجو من كل قلبه أن يُسلم صناديد قريش ، كما أن كل من له حظاً من الأخلاق الحسنة إذا كان مشغولاً مع قوم في حديث مهم ودخل عليه من يقطع كلامه مع القوم يلتفت إلى المعترض ويقول له بأدب ولطف : لو سمحت دعني والقوم ، وأجل حديثك إلى وقت آخر ، فكيف بالموصوف في القرآن بانه خلقه عظيم وأنه شفوق وعطوف ورؤوف بالمؤمنين .

--------------------
(1) قال تعالى في سورة الحجر ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ . . . فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) ، ومثلها قوله تعالى في سورة القلم ( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) .

أسطورة العبوسة _ 27 _

الخامس : لو كان المقصود من الآيات هو النبي ( صلى الله عليه وآله ) فكيف نلائم بين قوله تعالى مدحاً للرسول ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (1) وبين قوله ( وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) ، إذ هو ( صلى الله عليه وآله ) مخاطب ومقصود بتزكية الناس جميعاً فكيف يخاطب في هذه السورة بأنه ليس مسؤولاً عن تزكية قومه ، فيتعين ما ذهب إليه القمي قدس سره من كون معنى الآية : لا تبالي أزكي كان الغني أم لم يكن ، واذا تعيّن هذا التفسير ـ وهو كذلك ـ فالقول بأن المقصو منه هو الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) جرأة وإنكار لما هو ضروري .
   قال السيد المرتضى : وكيف يقول له ( وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) وهو ( صلى الله عليه وآله ) مبعوث للدعاء والتنبيه ، وكيف لا يكون عليه ذلك (2) .
   إن قلت : أن ما فعله ابن أم مكتوم كان نوعاً من أساءة الأدب ، فيحسن تأديبه بالإعراض عنه والعبوس (3) ، قلت : لو كان ذلك صحيحاً إذن فَلِمَ هذا العتاب من قبل الله عز وجل على أمر يستحقه ابن أم مكتوم ، أضف إلى أن العتاب متوجه بصورة مؤكدة على من يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء ، فمنشأ الإعراض عن ابن أم مكتوم لكونه من فئة الفقراء والمحتاجين ، فلهذا تأكّد العتاب والتوبيخ وتغلّظ .

--------------------
(1) بناءً على التفسير الأول للآية فراجع .
(2) تنزيه الأنبياء : 163 .
(3) تفسير الفخر الرازي : ج 31 / 55 .


أسطورة العبوسة _ 28 _
   ومنه تعرف جواب ما في تفسير « من وحي القرآن » من قوله : أن « العبوس » لن يكن عبوس احتقار ، وإنما كان عبوس مضايقة بسبب قطع ابن أم مكتوم لكلامه مع صناديد قريش ، إذ لو كان كذلك يأتي نفس الجواب لِمَ هذا العتاب الشديد على عبوس منشأه المضايقة لا الاحتقار ، وما الربط بين العبوس المضايقي والتصدي للأغنياء والتلهي عن الفقراء والمؤمنين ؟ ! ! .

وحدة الحال :
   وقوله : إن دراستنا لعلاقة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بهذا الأعمى تدل على أن هناك صلة وثيقة بينهما بحيث كان يدخل على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو جالس بين زوجاته ، وقد اشتهرت الرواية التي تتضمن دخوله عليه وعنده عائشة وأم سلمة ، فقال لهما : احتجبا فقالتا : إنه أعمى ، فقال : أنتما ؟ . . . بالإضافة الى استخلافه عليها عند خروجه إلى الغزو فإنه يدل على عمق الصلة منذ البداية . . . أن ذلك كله قد يوحي بوحدة الحال بينه وبين النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحيث يغيب عن العلاقة أي طابع رسمي ، مما يجعل أعراض النبي ( صلى الله عليه وآله ) اعتماداً على ما بينه وبينه من الصلة التي تسمح له بتأخير الحديث معه إلى فرصة أخرى من دون أن يترك أي أثر سلبي في نفسه (1) لا سيما إذا كان ذلك لمصلحة الدين التي تهم أي مسلم في زمن الدعوة الأول أن يحصل النبي على إيمان أي شخص من كفار قريش الوجهاء في مجتمعهم باعتبار أن ذلك يخفف العذاب والحصار على المسلمين المستضعفين ومنهم ابن أم مكتوم ، وبذلك يكون أعرض النبي ( صلى الله عليه وآله ) عنه كإعراضه عن أحد أفراد أصحابه أو عائلته اتكالاً على ما بينه وبينه (2) .

--------------------
(1) وقد تقدم أن عدم التأثر لا يلازم عدم القبح فراجع مستهل البحث .
(2) من وحي القرآن : ج 24 / 66 .


أسطورة العبوسة _ 29 _
   ففيه : أولا أنا لا نسلم بهذه الوحدة إذ شأن ابن أم مكتوم كشأن بقية الصحابة ، ولكونه أعمى لا تحرز من دخوله بيوت النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وما ذكره من روايات منقولة عن العامة وأهل الحشو إن سلّمنا بصحتها (1) فقاصرة عن اثبات وحدة الحال ، واستخلافه على المدينة مرتين لا يلازم ذلك .
   أضف إلى أن وحدة الحال والتي بمعنى غياب الطابع الرسمي ، بين الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وبين ابن أم مكتوم ـ إن سلمنا بها ـ لا يعني الخروج عن الآداب الشرعية والعبس في وجوه الأهل والأصدقاء ، فرفع التكلف مع الأصدقاء لا يعني التجرأ عليهم واستحقارهم وعدم الاهتمام بهم وقلة الأدب معهم ، فالمرفوع مع الأهل والأصدقاء هو التكلف لا الأدب ، فما في القول المشهور « بين الأحباب تسقط الآداب » معناه تسقط الكُلفة والرسميات ، وفي هذا قال ضرار واصفاً لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) « كان فينا كأحدنا . . . » .
   أضف أن الآخرين قد لمسوا منه نفوره من ابن أم مكتوم وهذا كاف في الحكم بالقبح ، بتقريب أنه سوف يتبادر للحاضرين ان الذي يدعوهم إنما يدعوهم لكونهم أغنياء ، وإنه لو كان ابن أم مكتوم من الأغنياء لما عامله هذه المعاملة .

--------------------
(1) مع أنها خارجة عن موضوع الحجية .

أسطورة العبوسة _ 30 _
كلمات بعض الأعلام في نزول الآية :
   قال الفيض الكاشاني : وأما ما اشتهر من تنزيل هذه الآيات في النبي ( صلى الله عليه وآله ) دون عثمان فيأباه سياق مثل هذه المعاتبات الغير اللائقة بمنصبه وكذا ما ظهر بعدها إلى آخر السورة كما لا يخفى على المتأمل بأساليب الكلام ، ويشبه أن يكون مختلقات أهل النفاق والحشوية الذي من عادتهم الافتراء على الأنبياء ونسبة السوء إليهم في بعض الأمور ، وذلك لغرض مخصوص وهو أن ما نسب إلى بعض ولاة أمورهم وما صدر من القبائح عنهم وصح صدوره لا يكون قادحاً في إمارتهم ، ولذا ينسبون بعض الأمور إلى أعاظم الأنبياء خلطاً للمبحث (1) .
   وقال السيد المرتضى : أما ظاهر الآية فغير دال على توجهها إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا فيها ما يدل عل أنها خطاب له ، بل هي خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه ، وفيها ما يدل عند التأمل على أن المعني بها غير النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأنه وصفه بالعبوس وليس هذا من صفات النبي ( صلى الله عليه وآله ) في القرآن ولا خبر من الأعداء المبايين فضلاً عن المؤمنين المسترشدين .

--------------------
(1) مقتنيات الدرر ج 12 / 67 .

أسطورة العبوسة _ 31 _
   ثم وصفه بأنه يتصدى للأغنياء ويتلهى عن الفقراء وهذا مما لا يصف به نبينا ( صلى الله عليه وآله ) من يعرفه فليس هذا مشبهاً لأخلاقه الواسطة وتحننه على قومه وتعطفه . . . وقيل : إن هذه السورة نزلت في رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان منه هذا الفعل المنعوت فيها ، ونحن إن شككنا في عين من نزلت فيه فلا ينبغي أن نشك في أنها لم يعن بها النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأي تنفير أبلغ من العبوس في وجوه المؤمنين والتلهي عنهم والإقبال على الأغنياء الكافرين والتصدي لهم ، وقد نزه الله النبي ( صلى الله عليه وآله ) عما دون هذا في التنفير بكثير (1) .
   وقال شيخ الطائفة الطوسي : وهذا فاسد (2) ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد أجل الله قدره عن هذه الصفات ، وكيف يصفه بالعبوس والتقطيب ، وقد وصفه بأنه ( لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (3) وقال ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ) (4) وكيف يعرض عمن تقدم وصفه مع قوله تعالى ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) ومن عرف النبي ( صلى الله عليه وآله ) وحسن أخلاقه وما خصه الله تعالى به من مكارم الأخلاق وحسن الصحبة حتى قيل إنه لم يكن يصافح أحداً قط فينزع يده من يده ، حتى يكون ذلك الذي ينزع يده من يده ، فمن هذه صفته كيف يقطب في وجه أعمى جاء يطلب الإسلام ، على أن الانبياء ( عليهم السلام ) منزهون عن مثل هذه الأخلاق وعما هو دونها لما في ذلك من التنفير عن قبول قولهم والإصغاء إلى دعائهم ، ولا يجوَّز مثل هذا على الانبياء من عرف مقدارهم وتبين نعتهم (5) .

--------------------
(1) تنزيه الأنبياء : 119 .
(2) أي القول بكونها نازلة في الرسول ( صلى الله عليه وآله ) .
(3) القلم : 4 .
(4) آل عمران : 159 .
(5) تفسير التبيان : ج 10 / 268 .


أسطورة العبوسة _ 32 _
   وقال العلامة الطباطبائي : وليس الآيات ظاهرة الدلالة على أن المراد بها هو النبي ( صلى الله عليه وآله ) . . . وقد عظم الله خلقه ( صلى الله عليه وآله ) إذ قال ـ وهو قبل نزول هذه سورة ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) والآية واقعة في سورة « ن » التي اتفقت الروايات المبينة لترتيب نزول السور على أنها نزلت بعد سورة اقرأ باسم ربك ، فكيف يعقل أن يعظم الله خلقه في أول البعثة ويطلق القول في ذلك ثم يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقية ويذمه بمثل التصدي للأغنياء وإن كفوراً والتلهي عن الفقراء وإن آمنوا واسترشدوا .
   وقال تعالى أيضاً ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) فأمر بخفض الجناح للمؤمنين والسورة من السور المكية والآية في سياق قوله ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) النازلة في أوائل الدعوة .
   وكذا قوله ( لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) وفي سياق الآية قوله ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) النازل في أول الدعوة العلنية فكيف يتصور منه ( صلى الله عليه وآله ) العبوس والإعراض عن المؤمنين وقد أمر باحترام إيمانهم وخفض الجناح وأن لا يمد عينه إلى دنيا أهل الدنيا .
   على أن قبح ترجيح غنى الغني ـ وليس ملاكاً لشيء من الفضل ـ على كمال الفقير وصلاحه بالعبوس والإعراض عن الفقير والإقبال على الغني لغناه قبح عقلي مناف لكريم الخلق الانساني لا يحتاج في لزوم التجنب عنه إلى نهي لفظي .

أسطورة العبوسة _ 33 _
   وبهذا وما تقدمه يظهر الجداب عما قيل : إن الله سبحانه لم ينهه ( صلى الله عليه وآله ) عن هذا الفعل إلا في هذا الوقت فلا يكون معصية منه إلا بعده وأما قبل النهي فلا ، وذلك أن دعوى أنه تعالى لم ينهه إلا في هذا الوقت تحكم (1) ممنوع ، لو سلّم فالعقل حاكم بقبحه ومعه ينافي صدوره كريم الخلق وقد عظّم الله خلقه ( صلى الله عليه وآله ) قبل ذلك إذ قال ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) وأطلق القول والخلق ملكة لا تتخلف عن الفعل المناسب لها (2) .
   وقال الشيخ مكارم الشيرازي : إن المشهور بين المفسرين في شأن النزول هو نزولها في شخص النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولكن ليس في الآية ما يدل بصراحة على هذا المعنى (3) .

المقام الثاني : البحث الروائي
   وفي هذا المقام لا توجد إلا روايتان مرسلتان (4) :
الأولى : صرحت أن العابس هو عثمان بن عفان . والثانية : ربّما يستفاد منها أن العابس هو الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ذكرهما الطبرسي في مجمع البيان ، قال : روي عن الصادق ( عليه السلام ) أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي ( صلى الله عليه وآله ) فجاء ابن أم مكتوم فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه .

--------------------
(1) أي بلا دليل وحجة .
(2) تفسير الميزان : 20 / 223 .
(3) التفسير الأمثل : ج 19 / 364 ، وقصده مفسيرين العامة دون الخاصة .
(4) ومعنى الإرسال : عدم اتصال سند الرواية إلى المعصوم .

أسطورة العبوسة _ 34 _
* وقال : وروي عن الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم ، قال : مرحباً ، والله لا يعاتبني الله فيك أبداً ، وكان يصنع به من اللطف حتى كان يكف عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) مما يفعل به (1) ، وبما أن الروايتين مرسلتان فلا يمكن الاعتماد عليهما وترجيح أحدهما على الأخرى ، إذ الترجيح فرع الحجية ، ولا حجية لهما للإرسال ، والفاصلة بين الطبرسي والإمام الصادق ( عليه السلام ) كبيرة جداً ، فلو كان المرسل هو الكليني في الكافي ، أو الصدوق في كل كتبه وبالخصوص في كتابه « من لا يحضره الفقيه » أو علي بن ابراهيم في كتابه التفسير (2) لأمكن اعتبار هذا الإرسال .

--------------------
(1) مجمع البيان : 0 / 664 .
(2) فقد ذهب سيد الفقهاء والمجتهدين الخوئي قدس سره ـ مع ماهو معرف عنه من التشدد والصرامة في التوثيق ـ إلى وثاقة كل من وقع في تفسير علي بن ابراهيم ، فما عن بعض المعاصرين « كليات في علم الرجال » من عدم اعتبار تفسير علي بن ابراهيم لعدم السند الصحيح إليه وكون مقدمة الكتاب ـ الموثقة لرجاله اجمالا ـ ليس لعلي بن ابراهيم وإنما لتلميذه العباس ـ ، وسوسة زائدة ، وهروباً من وصم الخاصة برواية والمسانيد والمعاجم صريح في سقوط آيات بل سور قرآنية وليس هو من نسخ التلاوة الموهوم .
فعن ابي موسى الأشعري أنه جمع قراء البصرة فكانوا ثلاث مئة رجل وقال لهم في كلام له : كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها « لو كان لابن آدم واديان من مال لا بتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب » وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ، فأنسيتها ، غير أني حفظت منها « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ » فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون يوم القيامة ، راجع صحيح مسلم ج 3 / 100 ، صحيح الترمذي ج 5 / 666 ، والمستدرك ج 2 / 224 ، ومسند أحمد ج 5 / 131 ، 132 وغيرهم كثير ، « الرضوي » .

أسطورة العبوسة _ 35 _
البحث التنزّلي :
   وإذا غضضنا الطرف عن السند والإرسال فإن الصناعة الدرائية والروائية والأصولية تقتضي ترجيح الرواية الأولى لاعتضادها بما في تفسير علي بن ابراهيم وقد تقدم تفسيره للآية ، والاشكال بأنه لم يصرح بكون ذلك رواية ، في غاية الضعف ، إذ ليس المقام في تفسير الآية حتى يقال لعله اجتهاد منه بل في سبب النزول وفيمن نزلت الذي لا سبيل لمعرفته إلا بالرواية (1) .
* ومع عدم التسليم بذلك هناك مرجحات أخرى للرواية الأولى وهي :
الأول : أن الرواية الثانية مخالفة للقرآن الكريم الواصفة للرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) بأنه ذو خلق عظيم وأنه رؤوف بالمؤمنين عطوف عليهم ، وقد أمر الأئمة ( عليهم السلام ) أصحابهم بعرض الأحاديث على كتاب الله فإن وافقت كتاب الله فهي ، وإلا ضربت عرض الحائط .
   ففي صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله عز وجل أو من قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وإلا فالذي جاءكم به أولى به (2) .
   وفي صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : خطب النبي ( صلى الله عليه وآله ) بمنى ، فقال : أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم بخلاف كتاب الله فلم أقله (3) .

--------------------
(1) مؤيداً بما ذكره الشيخ الطوسي في التبيان 10 / 269 من كون الآيات نزلت في رجل من بني أمية .
(2) الكافي : 1 / 55 .
(3) الكافي : 1 / 56 ، والأحاديث في ذلك متعددة .

أسطورة العبوسة _ 36 _
العبس وترك الأولى (1) :
   فإن قيل : أن العبس من ترك الأولى فلا ينافي العصمة (2) وخلقه العظيم وكونه بالمؤمنين رؤوف رحيم ، ففيه :
1 ـ أن العبس لو سلمنا أنه من ترك الأولى فهو مقبول في حق بقية الأنبياء دون النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله ) (3) .
2 ـ كما يمكن القول بأن ترك الأولى إن كان متصوراً في بقية الأنبياء والمرسلين لكن ذلك فيما كان قبل النبوة والاجتباء لا ما كان بعد الاجتباء ، فتناول آدم عليه السلام من الشجرة كان من ترك الأولى وكان ذلك قبل اجتبائه ثم بعد ذلك اجتباه الله تعالى بقوله ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) (4) وعليه فلا يتصور ترك الأولى بعد الاجتباء فتدبر .
3 ـ أن ترك الأولى وأن كان لا ينافي العصمة النسبيّة ، فيمكن أن تجتمع العصمة بدرجة معينة مع ترك الأولى ، لكن هذا فيما كان العمل المتعنون بكونه تركاً للأولى مرتبطاً بالله وبالرسول ، دون ما إذا كان مرتبطاً بالرسول وبقية البشر ، وبتعبير آخر العبس ترك للأولى بالنسبة للمحرمات المرتبطة بالأحكام الشرعية المدونة في رسائل الفقهاء ، أما بالنسبة للأخلاق فهو منافٍ لها لا أنه من ترك الأولى ، هذا حسب ما يقتضيه الخلق العادي فكيف بمن وصف بأن خلقه عالٍ وعظيم بلسان الوحي ، فمما لا يمكن أن يتصور في حقه العبس والتقطيب في وجوه المستضعفين أصحاب القلوب الرقيقة والحساسة .

--------------------
(1) ترك الأولى من أمثلته ترك الأهم والاشتغال بالمهم .
(2) ذكر ذلك جمع من المفسرين العامة ، ومن الخاصة على فرض كون الآيات نازلة في الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) .
(3) ومما ينبغي أن يلاحظ أن الفعل المتعنون تحت عنوان « ترك الأولى » إنما هو كذلك بالنسبة لنا لا بالنسبة للرسول فتدبر .
(4) طه : 121 .

أسطورة العبوسة _ 37 _
   فصحيح أن العبس لا ينافي العصمة من الذنوب والمحرمات لكنه ينافي الأخلاق العادية فضلاً عن الأخلاق العالية العظيمة ، فلا يمكن القول به في حق الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، إذ مع تحققه يكون غير معصوم بهذا المستوى ، وقد قامت الأدلة على أن النبي الأمي ( صلى الله عليه وآله ) مؤيد بروح القدس لا يسهو ولا يلهو ، فمن باب الأولوية القطعية أنه لا يتصف بصفة العبس في وجوه المؤمنين ، فنفي السهو عنه معناه نفي كل ما هو بمستواه أو أشدّ منه ، ومن الواضح أن التعبيس والتقطيب ليس بمستوى السهو قبحاً ، وعليه فنفي الأقل قبحاً عنه ( صلى الله عليه وآله ) يستلزم نفي الأشد كما لا يخفى .
   أضف إلى أن العابس ـ كما قلنا مراراً ـ لم يكتف بعملية العبس بل تولى وأعرض مع ما هو من عادته وطبيعته من التصدي للأغنياء والتلهي عن الفقراء والمستضعفين .
الثاني : أن الرواية الثانية موافقة للعامة ورواياتهم ، وقد استفاضت الأخبار عن طريق أهل البيت ( عليهم السلام ) أنه إذا اختلفت الأخبار عنهم يؤخذ بما خالف العامة ويترك ما وافقهم .
   ففي صحيحة الحسن بن جهم قال : قلت للعبد الصالح ( عليه السلام ) : هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلا التسليم لكم ؟ فقال : لا والله لا يسعكم إلا التسليم لنا ، فقلت : فيروى عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) شيء ، ويروى عنه خلافه ، فبأيهما نأخذ ؟ فقال : خذ بما خالف القوم ، وما وافق القوم فاجتنبه (1) .
   قلت : قال الرضا ( عليه السلام ) « شيعتنا المسلَمون لأمرنا ، الآخذون بقولنا ، المخالفون لأعدائنا ، فمن لم يكن كذلك فليس منا » وقال الصادق ( عليه السلام ) « كذب من زعم أنه من شيعتنا وهو متمسك بعروة غيرنا » .

--------------------
(1) الوسائل : أبواب صفات القاضي باب 9 حديث 29 ، 30 ، 31 ، 32 ، 33 ، 34 ، 24 ، 46 ، 1 ، وغيرها .

أسطورة العبوسة _ 38 _
الثالث : أن الآيات في مقام عتاب وتأنيب وتوبيخ للعابس المتولي وقد ورد عن ابن أبي عمير عمن حدثه عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : ما عاتب الله نبيه فهو يعني به من قد مضى في القرآن مثل قوله ( وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ) (1) عني بذلك غيره (2) .
   وعن علي بن محمد بن الجهم عن أبي الحسن ( عليه السلام ) مما سأله المأمون : فقال : أخبرني عن قول الله عز وجل ( عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ) ، قال الرضا ( عليه السلام ) : هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة ؛ خاطب الله عز وجل بذلك نبيه ( صلى الله عليه وآله ) وأراد به أمته ، وكذلك قوله تعالى ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) وقوله تعالى ( وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ) قال : صدقت يابن رسول الله (3) .
   فيكون العابس ليس هو الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) إذ لا أحد يشك بأن الآية فيها عتاب وتوبيخ ، فإذا كان قوله ( عَفَا اللّهُ عَنكَ ) وفيه عتاب خفيف ليس هو المقصود منه فما هو أشد منه في التأنيب والتوبيخ من باب الأولوية القطعية ليس هو المقصود منه ، من قبيل قوله تعالى ( فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ) فإذا كان « الأف » منهي عنه فما هو أشد منه كذلك للأولوية القطعية .

--------------------
(1) الإسراء : 74 .
(2) تفسير العياشي : ، ورواه الكليني مرسلاً وقد تقدم ذكره في مستهل البحث ، هذا وقد أجمعت الطائفة ـ كما في عدة الشيخ الطوسي ـ على العمل بمرسلات ابن أبي عمير في الأحكام الشرعية فكيف بغيرها .
(3) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) : ج 1 / 408 ، باب 37 حديث 1 .

أسطورة العبوسة _ 39 _
الرابع : وهو ضابطة كلية شاملة لكل آيات الذكر الحكيم وهي قول الباقر ( عليه السلام ) لمحمد بن مسلم « يا محمد إذا سمعت الله ذكر أحداً من هذه الأمة بخير ، فهم نحن ، وإذا سمعت الله ذكر قوماً بسوء ممن مضى ، فهم عدونا » (1) وقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) « سموهم بأحسن أمثال القرآن ـ يعني عترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ـ هذا عذب فرات فاشربوا ، وهذا ملح أجاج فاجتنبوا » (2) .
   ومن الواضح أن التعبيس والتولي والتصدي للأغنياء لغناهم والتلهي عن الفقراء قول سوء ، سهم كما في الروايات المستفيضة « المثل الأعلى لله » وقد وصف الله سبحانه وتعالى الوليد بن المغيرة بأنه عبس وبسر ، فالقول بأن العابس والمتولي هو الرسول جرأة عليه ( صلى الله عليه وآله ) وجعله في مصاف أعداء الله عز وجل ، بل يكون حال العتل الزنيم الوليد بن المغيرة أهون من الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) لأنه عبس في وجوه الأعداء والمناوئين .
   ولا أحد يشك بأن الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) هو الإنسان الكامل فلو كان هو العابس والمتولي لما كان هو المصداق الأتم للإنسان الكمال وللخلق الإنساني .

--------------------
(1) تفسير العياشي : 1 / 13 ، بسنده عن محمد بن مسلم ، وللعياشي إلى ابن مسلم أكثر من ستة طرق ، فلا يتوهم عدم تصحيح السند للإرسال وحذف مستنسخ الكتاب أسانيده .
(2) تفسير العياشي : 1 / 13 عن مسعدة بن صدقة عن الصادق عن أبيه عن جده ( عليهم السلام ) ، ونقله في البحار ، ونقله في البحار : ج 2 / 99 عن الإرشاد للشيخ المفيد في خطبة طويلة للأمير عليه السلام وعن نهج البلاغة للشريف الرضي ، وفي 2 / 284 عن الاحتجاج فراجع .

أسطورة العبوسة _ 40 _
عتاب الرسول على أخطاء أمته :
   هذا كله : على فرض استفادة أن العابس هو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الرواية الثانية ، واستفادة ذلك محل إشكال ، إذ القول المنسوب له ( عليه السلام ) على لسان الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) « والله لا يعاتبني الله فيك أبداً » لا يستلزم كون العابس هو بأبي وأمي وأهلي ومالي وأسرتي ، إذ عتاب الزعيم على أفعال رعيته مما لا يخفى على أحد ، حتى بالنسبة للقادة الصغار ورؤساء القبائل والقرى ، فكيف بمن بعثه الله لهداية وتربية البشر ففي قوله تعالى ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) نسب الذنب إلى الرسول الأكرم مع أنه في عدة من الروايات الذنوب المغفورة في ذنوب شيعته وأصحابه المخلصين .
   ففي صحيحة عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : قول الله في كتابه ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) قال : ما كان له ذنب ، ولا همَ بذنب (1) ، ولكن الله حمّله ذنوب شيعته ثم غفرها له (2) .
   فالعتاب هنا من هذا النمط ، فترجيح الرواية الثانية علىالأولى بعد كل هذه الأمور ، تقليد للعامة وتأثّر بهم وتقديم رواياتهم على روايات الخاصة ، وهو عكس ما أوصى به أهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام ، أضف إلى أنه تنقيض لحق سر العالمين ( صلى الله عليه وآله ) الذي لا ينبغي ترك الأولى في حقه ولا يجوز ، فكيف ينسب إليه العبس والتقطيب والتصدي لأعداء الله والتلهي والتشاغل عن أحبائه .

--------------------
(1) روى الصدوق في الأمالي : 159 مجلس 21 حديث 8 ، وكمال الدين : 524 ، بسند صحيح جداً جداً عن هشام بن سالم عن الصادق ( عليه السلام ) قال : إن داود ( عليه السلام ) خرج ذات يوم يقرأ الزبور . . . فإذا على الجبل نبي عابد يقال له حزقيل . . . فقال داوود ( عليه السلام ) : يا حزقيل ، هل هممت بخطيئة ، فقال حزقيل : لا ؛ فإذا كان حزقيل لم يهم بخطيئة وهي أعم من المعصية فكيف بمن هو أطهر خلق الله قاطبة .
(2) تفسير القمي : 2 / 314 ، ومثلها رواية المروزي رواها الصدوق ورواية المفضل بن عمر رواها الطبرسي في تفسيره وغيرها .

أسطورة العبوسة _ 41 _
لا ، ولن ، ولم :
   هذا مضافاً إلى أن قوله « لا يعاتبني الله فيك أبداً » في مقام النفي ، والنفي بـ « لا » كما حقق في النحو يقتضي نفي ذلك قبلاً وبعداً ، ويفيد عدم امكان ذلك في حق الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، المؤكد بقوله « أبداً » ، فالنفي بـ « لم » كقولنا : لم أذهب إلى البيت ، يقتضي نفي ذلك في السابق ، والنفي بـ « لن » يقتضي نفي ذلك في الزمان اللاحق وهناك خلافٌ في نفيه للسابق ، أما « لا » فهي للنفي مطلقاً ، فقولنا : لا يأكل زيد السمك ، عدم أكله ذلك أعم من الماضي والحاضر (1) .
   ونفي العتاب عنه ليس فيه قدحاً لأحد وتكرار هذه المقولة عند رؤية ابن أم مكتوم حتى لا يقال بأن الذي عبس هو الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، والتعريض بهذه المقولة للعابس الحقيقي ليس فيه بأس ، إذ آيات الذكر الحكيم وخطابات الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) في التعريض بالمنافقين والكافرين والعصاة فوق حد الإحصاء .

--------------------
(1) فهو كقول الصادق ( عليه السلام ) في حقّ عمر بن حنظلة « إذا لا يكذب علينا » فدخول « لا » على الفعل المضارع يفيد نفي الكذب مطلقاً عن عمر بن حنظلة ، لا أنه لم يكذب علينا في هذه المقولة .

أسطورة العبوسة _ 42 _
العابس والدور الرسالي :
   وما في : تفسير « من وحي القرآن » من تعيّن كون العابس هو الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) وترجح الرواية الثانية على الأولى بدعوى أن الحديث عن رجل من بني أمية لا تتناسب مع أجواء الآيات لأن الظاهر من مضمونها أن صاحب القضية يمتلك دوراً رسالياً ويتحمل مسؤولية تزكية الناس ، حتى يفرض توجيه الخطاب إليه للحديث معه عن الفئة التي تحمل مسؤولية تزكيتها (1) ، غير صحيح لأمور :
الأول : كون العابس له دوراً رسالياً لا يلزم منه وليس بالضرورة أن يكون هو الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، إذ كل المسلمين آنذاك مطالبون بنشر الرسالة وبث الهداية في المجتمع المكي وغيره .
الثاني : استفادة أن العابس له دور رسالي أول الكلام ، إذ ليس بالضرورة أن يكون العابس له ذلك ، إذ الموقف كان بحضرة الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، وكان هم هذا العابس إسلام أصحاب رؤوس الأموال والمترفين من صناديد قريش لما يترتب على إسلامهم من قوة وعزة للإسلام ، فحينما يأتي الغني يتصدى له هذا العابس وحينما يأتي الفقير والمستضعف يتلهى عنه ولا يرغب في إسلامه حتى لا يقال بأن الداخلين في الإسلام ما هم إلا أراذل مكة وباديء الرأي والفقراء والعبيد .

--------------------
(1) تفسير من وحي القرآن : ج 24 / 75 .

أسطورة العبوسة _ 43 _
   فنزلت هذه السورة بعد ذلك الموقف مع الأعمى ترشد وتأمر المسلمين إلى المساواة في الدعوة ، وأن لا يفرقوا بين الغني والفقير والصغير والكبير والعبد والسيد والرجل والمرأة ، وأن لا تكون في نفوسهم حزازة من إسلام الفقراء والمساكين ، فعزة الدين ليس بإسلام الأغنياء والمترفين (1) ، وإنما عزته بالتقوى والخشوع لله تعالى من أي شخص كان فقيراً أو غنياً فليس للغنى والفقر أي قيمة في عزة الإسلام وقوته ، بل لله العزة ولرسوله وللمؤمنين حتى وإن كان من الفقراء والعبيد ، إذ قد كان لهم دور كبير جداً في تقدم الإسلام وازدهاره كما ينبأ بذلك التاريخ .
   هذا إن أحسنا الظن بالعابس وحملنا عمله على الصحة وفسرنا قوله تعالى ( وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) أي ليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام بعد أن بلغت ما عليك ، أما إذا كان معنى الآية أي لا تبالي زكياً كان الغني أو غير زكي كما ذكر ذلك علي بن ابراهيم في تفسيره والسيد المرتضى (2) وغيرهما ـ وهو ظاهر بل صريح الآية كما تقدم ـ فهذا التوجيه لا وجه له أصلاً .

--------------------
(1) إن قلت : بأن الإسلام كما في القول المأثور قام على ثلاث : أخلاق محمد ( صلى الله عليه وآله ) ومال خديجة ( عليهما السلام ) وسيف علي ( عليه السلام ) ، فالمال له دور في تقدم الإسلام وعزته ، وعليه يكون للغني قيمة واهتمام زائد على الفقير .
   قلت : هذا في فرض انفاق هذا الغني المسلم أمواله في خدمة الإسلام وتوظيفها في نشر الرسالة ، وواقع الحال من أكثر الصحابة الأغنياء خلاف ذلك ، والشاهد عليه حينما نزلت آية المناجات ( إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) لم يتقدم أحد من الصحابة الأغنياء وكذا الفقراء إلا علي ( عليه السلام ) فهو الذي فاز بتطبيق هذه الآية ولا غرو في ذلك فإنه يقاتل على تأويل وتطبيق القرآن كما قاتل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) على تنزيله كما في الحديث الصحيح المروي عن طريق الخاصة والعامة .
(2) تنزيه الأنبياء : 163 ، حيث قال « وكيف يقول له ( وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ) وهو ( صلى الله عليه وآله ) مبعوث للدعاء والتنبيه ، وكيف لا يكون عليه ذلك » قلت وهو الذي يقتضيه السياق وظاهر الآية فتدبر جيداً ، وإنما أُستظهر التفسير الآخر لوهم أنها نازلة في الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) .

أسطورة العبوسة _ 44 _
الثالث : أن منشأ ذهابه إلى كون العابس له دور رسالي قوله تعالى ( وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى ) فلو لم يكن له دور رسالي لم يأت له من يخشى طلباً للهداية والتزكية ، ونحن قد أجبنا على مثل هذا وقولنا بأن هذا الخطاب من قبيل « إياك أعني واسمعي يا جارة » ومن يسافر مع آيات الذكر الحكيم يجد أماكن كثيرة الخطاب موجه إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) والمقصود غيره ، ومن لا يلتفت إلى هذه القاعدة يتصور بأن المقصود هو شخص النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
* وسبب هذا النمط من الخطاب على ما نستوحيه من تفسير « من وحي القرآن » ولنعم ما استظهره وَلَيتَه جزم به في المقام : ليكون الخطاب للأمة من خلال النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليكون ذلك أكثر فاعلية وتأثيراً ايجابياً في أنفسهم ، لأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) إذا كان يخاطب بهذه الطريقة في احتمالات الانحراف والموارد المستعبدة فكيف بغيره .
   ثم أضاف : أن القسوة الملحوظة في الآيات في الحديث مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) تمثل ظاهرة واضحة في أكثر الآيات التي تتصل بسلامة الدعوة واستقامة خطها ، حتى يفهم الدعاة من بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) بأن عليهم أن يقفوا في خط الاستقامة حتى بالمستوى الذي لا يمثل تصرفهم فيه عملاً غير أخلاقي ، لأن الغفلة عن الخطوط الدقيقة في المسألة قد تجرُّ إلى الانحراف بطريقة لا شعورية (1) .

--------------------
(1) تفسير من وحي القرآن : ج 24 / 66 .

أسطورة العبوسة _ 45 _
   كما أنه هناك سبباً آخراً وهو الذي يقتضيه الخلق القرآني ومراعات المشاعر والأحاسيس وعدم فسح المجال للناس للانحراف والضلال ، فلو كانت الآيات تخاطب من نزلت فيه بشكل مباشر وتحدده من بين المسلمين بصفاته وأفعاله الخارجية لتأذى من ذلك وأصبح عار عليه وعلى من يأتي بعده من أهله ، ولربما ازداد في غيّه وجهله وقد يرتد عن دينه ويحارب الإسلام والمسلمين ، من هنا اقتضت الحكمة الإلهية توجيه كل ذلك إلى الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) .
   وهذا أسلوب متخذ لدى كل المربّين ، من عدم خطاب العاصي والمذنب بشكل مباشر حتى لا يتأذى ويصر على ذنبه ومعصية ، بل خطابه عن طريق مخاطبة جميع الناس أو أعز الأصدقاء إليه أو ولي أمره وكأنه هو الذي فعل ذلك الذنب وتلك المعصية .
   ويمكن أن يستظهر هذا من قول الإمام الهادي ( عليه السلام ) جواباً على أسئلة يحيى بن أكثم : أما قوله ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ ) فإن المخاطب بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولم يكون في شك مما أنزل الله عز وجل (1) ، ولكن قالت الجهلة : كيف لا يبعث إلينا نبيا من الملائكة ، إنه لم يفرق بينه وبين غيره في الاستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق فأوحى الله عز وجل إلى نبيه ( فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ) بمحضر من الجهلة هل يبعث الله رسولاً قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أسوة وإنما قال : وإن كنت في شك ولم يقل ولكن ليتبعهم كما قال له ( صلى الله عليه وآله ) فقل ( تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ . . . فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) ولو قال : تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله عليكم لم يكونوا يجيبون للمباهلة ، وقد عرف أن نبيه ( صلى الله عليه وآله ) مؤدى عنه رسالته وما هو من الكاذبين ، وكذلك عرف النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه صادق فيما يقول ولكن أحب أن ينصف من نفسه (2) .

--------------------
(1) وهذا موضع الشاهد ، فهو صلى الله عليه وآله المخاطب ولكنه ليس المقصود من الخطاب ، لكونه من الشك ، وهل يمكن أن يبعث الله رسولاً شاكاً في رسالته ؟ ! !
(2) علل الشرائع : 156 باب 107 حديث 1 .

أسطورة العبوسة _ 46 _
   وهناك أمر رابع سيأتي ذكره في ما بعد ، مستند إلى القراءة التي نسبت إلى الإمام الباقر ( عليه السلام ) من قراءته قوله تعالى « تُصدى ، تُلهى » بضم التاء على هيئة الفعل المبني للمجهول .
   وليُعلم : أنّا في مقام نفي كون العابس والمتولى هو الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، أما كونه عثماناً أو رجلاً آخر من بني أمية ، أو أن الأعمى هو ابن أم مكتوم أو غيره فلا يهمّنا ذلك بعد نفي كون الآيات نازلة في الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، فليكن العابس عثمان أو غيره لا يهم .

مثائل الآيات :
   فهذه الآيات على غرار قوله تعالى ( وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (1) وقوله ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) (2) إذ ذكر في أسباب النزول أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحرث بن نوفل وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل جاؤوا في أشراف من بني عبد مناف من الكفار إلى أبي طالب فقالوا يا أبا طالب لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءنا فإنما هم عبيدنا وعسفاؤنا كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له ، فجاء أبو طالب النبي ( صلى الله عليه وآله ) فحدثه بلذلك فقال عمر بن الخطاب لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون وإلى ما يصيرون من قولهم ، فأنزل الله عز جل ( وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ . . . أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ) ، فلما نزلت الآية أقبل عمر بن الخطاب فأتى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فاعتذر في مقالته (3) .

--------------------
(1) الأنعام : 52 .
(2) الكهف : 28 .
(3) تفسير الطبري ج 7 / 202 ، تفسير ابن كثير : ج 2 / 136 .

أسطورة العبوسة _ 47 _
   فليس الذي همَّ بطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي هو الرسول ( صلى الله عليه وآله ) مع أن الخطاب موجه إليه ، وإلا لكان من الظالمين ، ولكون ذلك ظلم جاء عمر بن الخطاب واعتذر عمّا بدر منه من ظلم لهذه الفئة المستضعفة (1) ، وللأسف الشديد ذهب جماعة من المفسرين ومنهم بعض الخاصة ـ احتمالاً ـ كون الذي هم بالطرد هو النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) .
   فالرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) أول ما بدأ بالدعوة غالب من أتبعه كان من المستضعفين من الناس والفقراء والعبيد والإماء ولم يتبعه من الأشراف إلا القليل القليل ، وهكذا هو شأن كل الأنبياء على مرّ التاريخ المشار إليه في الذكر الحكيم ( وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ) فالمحيط الذي كان يعيشه الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) هو محيط الفقراء والمستضعفين والمعدمين فهو أبو اليتامى والمساكين .
   ومن الطبيعي أن صناديد قريش والمترفين من أهل مكة المعروفين بالتكبّر والخيلاء لا يمكنهم ولا يعجبهم الجلوس مع الفقراء والمساكين ومع العبيد والمستضعفين ، وكان هناك بعض من الصحابة المجالسين للرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) والمحيطين به يهمهم إسلام وإيمان المترفين من أهل مكة والأشراف من قريش ممّا أدى إلى عدم اهتمامهم بالفقراء والمستضعفين الطالبين للإسلام والساعين نحو الخشوع والإيمان .

--------------------
(1) وكان على رأسهم ابن مسعود والمقداد وعمار وبلال .

أسطورة العبوسة _ 48 _
   فإذا أقبل إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أحد المترفين والأشراف هيّؤوا الأجواء المناسبة له ووسعوا له المجالس وأقبلوا عليه بكل ما يمتلكون من صفات حسنة وكلمات طيبة وجعلوا الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) يتصدى له ، أما إذا جاء أحد من المستضعفين والفقراء لهووا الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) وأشغلوه عن التصدي والتعرض له ، وإلى هذه الحالة تشير قراءة الإمام الباقر ( عليه السلام ) لقوله « تُصدى . . . تُلهى » بضم التاء على صيغة الفعل المبني للمجهول (1) .
   وهذا السلوك هو السائد في كل المجتمعات وأصحاب الدعوات إلا من عصم الله ، من تقديمهم للغني والتعرض والإقبال عليه وتأخيرهم للفقير والمستضعف والتلهي والتشاغل عنه ، فحينما عبس رجل من الصحابة في وجه ابن أبي أم مكتوم وكان من تلك الفئة الذين يهمهم التعرض للأشراف والأغنياء نزلت هذه الآية بالمناسبة مشيرة إلى ذلك المرض الذي يصاب به أصحاب الدعوات من توهمهم أن الأغنياء والأشراف لهم حق الأولوية في الدعوة إذ بإسلامهم اسلام جمع عظيم ممن يتبعهم ويدين بولايتهم .

--------------------
(1) وبناءاً على هذه القراءة لا يمكن أن يحتمل أن العابس له دور رسالي فضلاً عن أن يجزم به ، إذ الخاشع الساعي يأتي إلى الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) وهذا العابس يلهي الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) عن التصدي له .

أسطورة العبوسة _ 49 _
   وقد غاب عن ذهنهم أن الله لا يريد إسلاماً وإيماناً منشأه العصبية القبلية والطمع الدنيوي ، بل يريد إسلام الطمأنية والاعتقاد القلبي الصادق المتكئ على الإيمان بأحقانية هذه الرسالة الخالدة ، ولذا كانت دعوة الرسول إلى الكل بمستوى واحد ، إن لم نقل بأنه هناك بعض الاهتمام والتأكيد لطبقة الضعفاء والمستضعفين ، على خلاف كل الدعوات التي أول ما تبدأ تبدأ بأصحاب رؤوس الأموال والوجهاء والأشراف من الأقوام .

قاعدة الأهم والمهم :
   فما هي : كثيرٍ من الكلمات من تبرير عَبس الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وتلهيه وانشغاله عن ابن أم مكتوم (1) لقاعدة أن الأهم مقدم على المهم ، بتقريب أن إسلام صناديد قريش والأغنياء منهم اسلام لجمع عظيم فاعتراض ابن أم مكتوم بين الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وأشراف قريش قطع للخير الكثير لغرض قليل وخير ضئيل (2) .
   خاطئ : إذ ذلك لا يقل قبحاً من عملية التعبيس والتلهي عن المؤمنين والخاشعين ، لما ذكرناه آنفاً من رفض الله تعالى ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) اسلامَ الطمع والعصبية القبلية ، إذا اسلام كهذا لا يسمن ولا يغني من جوع ، وضره على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلى المؤمنين أكثر من نفعه ، وهو الذي أوجد أكبر مشكلة واجهها الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وهي مشكلة النفاق ، إذ ليس المنافقون إلا مِن فئة مَن كان اسلامه للطمع والعصبية ، وفئة قليلة أظهرت الإسلام خوفاً ، فعمدة المنافقين من كان اسلامه للطمع والعصبية .

--------------------
(1) بعد ذهابهم إلى أن العابس هو الرسول ( صلى الله عليه وآله ) .
(2) تفسير الفخر الرازي : ج 31 / 54 .

أسطورة العبوسة _ 50 _
   ولو أن الرسول الاكرم ( صلى الله عليه وآله ) يرغب في إسلام صحاب الأمول أكثر من رغبته في إسلام الفقراء والمستضعفين لكانت سيرته تختلف عما كانت عليه ، وذلك لأن الله تعالى ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) وأوليائه ( عليهم السلام ) لا نظر لهم إلى تلك الامتيازات الاعتبارية التي يتفاخر بها الناس ويتباهون ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ) فكثرة الأموال والأولاد لا يعجب الله ورسوله وإنما يعجب الكفار ، فهذه القاعدة كبروياً صحيحة ، ولكنها لا تنطبق على المقام .

روايات العامة :
   وروايات العامة في سبب نزول الآية كلّها مرددة بين ضعف السند والإرسال فيه ، لأنها تنتهي إلى كل من أنس بن مالك وابن عباس وعائشة ، أما الأول فإنه مدني لم يكن بمكة وقت نزول الآية وكان صغيراً أيضاً ، وأما الثاني وعائشة فإما أن يكونا رضعين أو لم يولدا ، ولو أن هذه السورة نزلت في الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) لَمَا انحصر رواية ذلك عن أناس لم يدركوا الواقعة ، ولكان ابن أم مكتوم له في كل يوم مجلساً يذكر فيه سبب نزول الآية وأن الذي جاء رسول الله وهو يخشى ليس إلا هو ، فهو الخاشع الساعي بنص القرآن الكريم وليس هناك وسام أشرف وأفضل من أن يشهد القرآن لشخص بأنه خاشع ساعي نحو الإيمان والتزكية والعمل الصالح .

أسطورة العبوسة _ 51 _
   هذا مع اختلاف الروايات في تحديد من كان الرسول ( صلى الله عليه وآله ) يناجيه ، ففي بعضها أنه عتبة وشيبة ، وفي أخرى أنه جمع من وجوه قريش منهم أبو جهل وعتبة بن ربيعة ، وفي رواية ثالثة أنه عتبة والعباس وأبو جهل ، وفي رابعة أنه العباس وأمية وصفوان ،وقد قيل بأن ابن أم مكتوم لم يجتمع مع المذكورين في مكة .
   قال ابن العربي الفقيه : أما قول علمائنا أنه الوليد بن المغيرة فقد قال آخرون أنه أمية بن خلف والعباس ، وهكذا كله باطل وجهل من المفسرين الذين لم يتحققوا الدين ذلك أن أمية بن خلف والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما ولا حضرا معه وكان موتهما كافرين أحدهما قبل الهجرة والآخر ببدر ولم يقصد قط أمية المدينة ولا حضر عنده مفرداً ولا مع أحد الثلاثة (1) .

مراجعات في عصمة الأنبياء :
   ولقد صدر كتاب ضخم تحت عنوان « مراجعات في عصمة الأنبياء » لبعض الكتّاب من الخاصة صنّف فيه اتجاهات المفسرين في سبب نزول الآية إلى ثلاثة :
الأول : القائلون بعدم نزولها في الرسول ، وهم على فئتين : الأولى الجازمون بذلك ، والثانية المرجحون في عدم نزولها في النبي مع إمكان كونها نازلة فيه .
الثاني : القائلون بنزولها في النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وهم أيضاً على فئتين : الأولى الجازمون بذلك ، والثانية المرجحون نزوله فيه مع إمكان كونها نازلة في غيره (2) .

--------------------
(1) تفسير القرطبي : ج 19 / 212 .
(2) من المرجّحين والقائلين بنزولها في النبي ( صلى الله عليه وآله ) ابن أبي جامع العاملي والشيخ جواد مغنية والسيد محمد حسين فضل الله ، أما السيد محسن الأمين فقد جزم بذلك .


أسطورة العبوسة _ 52 _

الثالث : والمتوقفون والمحايدون ، ثم ذكر جماعة من المفسرين المرجحين والقائلين بعدم نزولها في النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، مع إمكانية نزولها فيه من دون أن يمسّ ذلك بعصمته وأخلاقيته ، من هذه الجماعة الطبرسي في مجمع البيان ، والسيد ابن طاوس والمجلسي ومكارم الشيرازي والسبحاني والسيد كاظم الحائري وغيرهم ، وما نسبه ـ إلى هؤلاء المفسرين والمحققين من عدم الجزم بكونها نازلة في غير الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وأن نزولها فيه له وجه ودليل علمي لكن الدليل الأقوى قام على عدم نزولها فيه ـ خلافٌ صريحٌ لظاهر كلماتهم ، بل هم من الجازمين بعدم نزولها في النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وكونها نازلة فيه قولا افتراضياً لا دليل علمي له .
   توضيح ذلك : إذ هذه السورة من الأدلة التي تمسك بها جماعة من العامة والحشوية على عدم عصمة الأنبياء والمرسلين ، فكان جواب الأعلام عليهم نفي نزولها في النبي ( صلى الله عليه وآله ) لقطع أصل الاستدلال بها ، ثم البحث العلمي يقتضي التنزّل ومجارات الخصم في كونها نازلة في الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، لا لكون ذلك ممكناً وله وجه عند المستدل على عصمة الأنبياء كما توهمه هذا الكاتب من الخاصة ، بل لسد جميع المنافذ التي توسل بها الخصم لإثبات عدم عصمة الأنبياء في غير الوحي (1) .
   والشاهد على ذلك أنهم ليسوا في مقام ذكر الدليل على نزولها في الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، بل في مقام نفي أن يكون ذلك منافياً للعصمة على فرض أنها نازلة فيه ( صلى الله عليه وآله ) ، بعد نفي أن تكون نازلة في النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) .

--------------------
(1) إذ التوسل فقط بنفي كونها نازلة في الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) لا ينفع فحسب في افحام الخصم ، لإمكانه أن يقول بأن الأحاديث الصحيحية عندي دلت على أن نزول الآية كان في الرسول ، وإن لم تكن صحيحة عندك .

أسطورة العبوسة _ 53 _
   قال الطبرسي : بعد أن ذكر كلام الشريف المرتضى المتقدم في نفي نزول الآية في الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : فإن قيل فلو صح الخبر الأول (1) فهل يكون العبوس ذنباً أم لا ، فالجواب أن العبوس والانبساط مع الأعمى سواء إذ لا يشق عليه ذلك فلا يكون ذنباً ، فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق وينبه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد ويعرفه أن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعاً في إيمانه . . . (2) .
   فنجد أن الطبرسي رحمه الله ليس في مقام ذكر الدليل على صحة نزولها في النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، بل في مقام افتراض ذلك وأنه لا ينافي العصمة ، وقال ابن طاووس : هذا قول كثير من المفسرين (3) ، ولعل المراد معاتبة من كان على الصفة التي تضمنتها السورة على معنى « إياك أعني واسمعي يا جارة » وعلى معنى قوله تعالى في آيات كثير يخاطب به النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمراد به أمته دون أن تكون هذه المعاتبة للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وإنما كان يعبس لأجل ما يمنعه من طاعة الله ، وأين تقع المعاتبة على من هذه صفته (4) .

--------------------
(1) الذي روته العامة في نزولها في النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقد تقدم ذكره في مستهل البحث ، و « لو » للفرض .
(2) مجمع البيان : ج 5 / 437 ، أما ما ذكره في جمع الجوامع فهو عين رواية العامة ، فإن كان البناء هو الاعتماد على رواياتهم فلا بد من المتابعة مطلقاً لا في خصوص المورد ، إن قلت : يصح متابعتهم في ماهو مؤيد لرواياتنا ، قلت : هذا في ما إذا لم يكن هناك تعارض وتضارب بين الروايات ، ومعه فلا بد من المصير إلى خلاف ما رووه .
(3) من العامة والحشوية .
(4) مراجعات في عصمة الأنبياء : 465 نقلاً عن سعد السعود لابن طاووس .


أسطورة العبوسة _ 54 _
   قلت : وليس في كلامهم ما يدل صراحة على استوجاهه نزول الآيات في الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، إذ فرّق بين كون الآية خاطباً الرسول وبين كونه هو المقصود ، وتصريحه أن ذلك قول كثير من المفسرين لا يلازم تصويبه لهم كما أن قوله في ذيل كلامه « وإنما كان يعبس . . . » خارج عن موضع الكلام ، إذ الذي يمنعه من طاعة الله ليس هو المؤمن الذي يخشى الله وإنما هو المشرك العابد للوثن ، فهو ( صلى الله عليه وآله ) يعبس في وجوه المشركين امتثالاً لقوله تعالى ( أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) وقوله ( أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ) وقوله ( وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً ) وقوله ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ) .
   وقال المولى المجلسي : أقول بعد تسليم نزولها فيه ( صلى الله عليه وآله ) كان العتاب على ترك الأولى ، أو المقصود منه إيذاء الكفار وقطع أطماعهم عن موافقة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لهم ، وذمهم على تحقير المؤمنين كما مر مراراً (1) ، فقوله قدس سره « بعد تسليم » أي أنّا لا نسلم وإنما نذكر ذلك من باب الفرض والتنزل ، وهذا واضح لمن طالس وخالط كلمات الأعلام في الفقه والأصول والتفسير ، فهو تسليم افتراضي لإقناع الخصم وإلقاء الحجة عليه ونقاشه في كل ما تمسك به من عدم حجية دليله من جهة ومن عدم إفادة دليله ما يبتغيه منه بعد تسليم حجيته من جهة أخرى .

--------------------
(1) البحار : ج 17 / 78 .

أسطورة العبوسة _ 55 _
   فتوجيه المجلسي قدس سره بعد افتراضه نزولها في الرسول ( صلى الله عليه وآله ) لا يعني عدم رفضه لنزول السورة في النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقطعه بذلك ، وهذا واضح جداً فكيف خفي عليه !!
   وقال الشيخ السبحاني بعد أن نفى كون الآيات نازلة في الرسول الاكرم : على فرض صحة الرواية الأولى لابد أن يقال : أن الرواية إن دلت على شيء فإنما تدل على أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان موضع عنايته سبحانه ورعايته فلم يكن مسؤولاً عن أفعاله وحركاته وسكناته فقط ، بل كان مسؤولاً عن نظراته وانقباضه ملامح وجهه . . . الخ (1) .
   وقال مكارم شيرازي : وعلى فرض صحة الرأي الأول في شأن النزول - وفرض المحال ليس بمحال ـ فإن فعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) والحال هذه لا يخرج من كونه « تركاً للأولى » وهذا ما ينافي العصمة للأسباب التالية . . . (2) .
   فكونها نازلة في الرسول عنده من المحالات الوقوعية كما هو نص كلامه ، لا أنه قول علمي له دليله الخاص فيمكن وقوعاً أن تكون الآية نازلة فيه ( صلى الله عليه وآله ) ، فذكره في فئة المرجحين في عدم نزول الآية في الرسول مع إمكان نزولها فيه غفلة واضحة جداً .
   وقال السيد كاظم الحائري : لنفترض أن التفسير الآخر هو الصحيح ، وهو أن الخطاب موجه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأن الله تعالى عاتب رسوله . . . فلنتأمل شيئاً ما لنرى ما هو الذنب الذي صدر من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (3) .

--------------------
(1) مفاهيم القرآن : ج 5 / 133 .
(2) الأمثل : ج 19 / 362 .
(3) مراجعات في عصمة الأنبياء : 473 نقلاً عن الإمامة وقيادة المجتمع ، والكتاب لا يحضرني .


أسطورة العبوسة _ 56 _
وخلاصةً :
  عدم الدقة في تفهم كلمات الأعلام ولوازم المسائل المطروحة لديهم ، وعدم التفريق بين ما هو في مقام الافتراض والتنزل وما هو في مقام الاستوجاه ، هو الذي أدى إلى اشتباه هذا الكاتب من الخاصة وعزوه ذهاب جملة من المحققين والأعلام إلى إمكان نزول السورة في الرسول صلى الله عليه وآله وأن القول بذلك رأياً علمياً (1) ولكن هناك قول أقوى منه ، مع أن ظاهر بل صريح كلماتهم أن القول بكون السورة نازلة في الرسول ليس بقولٍ علمي بل هو محض افتراض وتنزل ومجارات .
   ولعمري : اتعاب النفس والجهاد بالقلم في سبيل نفي كل شائبة ومغمز مطلقاً عن ساحة الأنبياء والمرسلين والأولياء لهو أنجع وأنفع وأثوب وأفضل وأحسن من إثبات ما يسمى بـ « ترك الأولى » لبعض الأنبياء والرسل بتأويلات وتوجيهات مختلفة ترجع في لبّها إلى الخدشة في ساحة الأنبياء والرسل في بعض الموارد الخاصة الجزئية التي لا تتنافى مع العصمة .
   فالتأدب مع الأنبياء والمرسلين وعلى رأسهم سر العالمين النبي الأمّي ( صلى الله عليه وآله ) يقتضي ويوجب علينا رفض كل ما يشينهم عليهم السلام حتى وإن كان ما يسمى بـ « ترك الأولى » أو تأويل المعصية بتأويلات باردة ظاهرها نفي المعصية عنهم ولبّها اثبات ذلك بوجه من الوجوه ، وأن لا نتشبث في إثبات « ترك الأولى » لغير النبي الأمين ( صلى الله عليه وآله ) (2) بالأحاديث المرسلة والمروية عن حشوية العامة (3) .

--------------------
(1) أي رأياً له دليله الخاص به ، لكن هناك دليل أقوى منه ، من قبيل تعبير الفقهاء « أن وجوب كذا وكذا له وجه ، أو لا يخلو من قوة ، إلا أن الصحيح كذا وكذا وكذا » .
(2) إذ ترك الأولى كما تقدم في حقه خلاف عصمته المطلقة وكماله الأتم وخلقه الأكمل وعصمته العظمى .
(3) بل لا بد من دليل قطعي ولا تقبل أحاديث الآحاد .


أسطورة العبوسة _ 57 _
   ولا شك أن نسبة العبس والتولي لمن بعثه الله رحمة للعالمين والجزم أو ترجيح أن السورة نزلت فيه ـ بنظر الألمعي ـ منافٍ للتأدب وفيه جرأة واضحة ، والوجدان هو الحاكم .
   كما أن من مقتضيات التأدب معهم ( عليهم السلام ) انتقاء الألفاظ والكلمات التي تتلاءم مع عظمتهم وقدسيتهم ، والابتعاد عن الألفاظ المجملة المتشابهة المطاطية القابلة للحمل على عدة من المعاني خوفاً من أن يفهم الناس خلاف ما هو المراد من المقصود من ترك الأولى ، وحتى لا يقع الإنسان في مصادمات ويورط نفسه في مشاكل مع من يتحمس لتنزيه الأنبياء والمرسلين ونفي كل ما يشينهم ويخدش في ساحتهم ، وحتى لا يضطر كذلك إلى تفسير كلامه وتأويله وبيان مراده الجدي بما يتناسب مع ترك الأولى .
   عصمنا الله وإياكم من الزلل والاشتباه وأخذ بأيدينا لما في الصلاح والفلاح وحشرنا مع زمرة الأنبياء والمرسلين والشهداء والصديقين ، وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين .