الفهرس العام

مسألة


  والغرض فيما نورده الآن ـ بمعونة الله عز وجل ـ بعد الذي ذكرناه ، ووصفنا حاله وبيناه ، تلخيص جنس مفرد لم يتميز بالتحديد فيما أسلفناه ، ولا وجدناه على ما نؤمه لأحد من أصحابنا المتقدمين رضي الله عنهم ولا عرفناه ، مع صدق الحاجة إليه فيما كلفه الله تعالى جميع من ألزمه فروضه وأمره ونهاه (1) ، إذ كان به تمام الاخلاص لمن اصطفاه سبحانه من خلقه وتولاه ، وكمال الطاعة في البراءة إليه ممن بمعصيته (2) له عاداه ، وبالله استعين ، وإياه أستهدي إلى سبيل الرشاد.

---------------------------
(1) في ب ، م : ونهيه .
(2) في ب : ممن يرى بمعصية ، وفي أ ، ح : ممن يرى منه معصيته .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 27 _

  إن سأل سائل ، فقال : أخبروني عن الإمامة ، ما هي في التحقيق على موضوع الدين واللسان ؟
  قيل له : هي التقدم فيما يقتضي طاعة (1) صاحبه ، والاقتداء به فيما تقدم فيه على البيان .
  فإن قال : فحدثوني عن هذا التقدم، بماذا حصل لصاحبه :
  أبفعل نفسه ، أم بنص مثله في الإمامة عليه ، أم باختياره ؟
  قيل له : بل بإيثار سبق ظهور حاله أوجب له ذلك عند الله تعالى ليزكي أعماله ، فأوجب على الداعي إليه بما يكشف عن مستحقه النص عليه ، دون ما سوى ذلك مما عددت في الأقسام.
  فإن قال : فخبروني عن المعرفة بهذا الإمام ، أمفترضة على الأنام ، أم مندوب إليها كسائر التطوع الذي يؤجر فاعله ، ولا يكتسب تاركه الآثام ؟

---------------------------
(1) ( طاعة ) ليس في ب ، م .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 28 _

  قيل له : بل فرض لازم كأوكد فرائض الإسلام.
  فإن قال : فما الدليل على ذلك ، وما الحجة فيه والبرهان ؟
  قيل له : الدليل على ذلك من أربعة أوجه :
  أحدها: القرآن، وثانيها : الخبر عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وثالثها:
  الاجماع ، ورابعها : النظر القياسي والاعتبار .
  فأما القرآن : فقول الله سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } (1) فأوجب معرفة الأئمة من حيث أوجب طاعتهم ، كما أوجب (2) معرفة نفسه ، ومعرفة نبيه ـ عليه وآله السلام ـ بما ألزم من طاعتهما (3) على ما ذكرناه .
  وقول الله تعالى : { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا }(4) وليس يصح أن يدعى أحد بما لم يفترض عليه علمه والمعرفة به .
  وأما الخبر : فهو المتواتر (5) عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال : ( من مات وهو لا يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية )(6) وهذا صريح بأن الجهل

---------------------------
(1) سورة النساء 4 : 59 .
(2) ( معرفة الأئمة ... كما أوجب ) ليس في أ.
(3) في أ : طاعتها .
(4) سورة الإسراء 17 : 71.
(5) في أ : التواتر.
(6) كمال الدين 2 : 412 / 10 ، الكافي 1: 308 / 3 ، غيبة النعماني : 330 / 5 ، حلية الأولياء 3 : 224 ، مسند أحمد بن حنبل 4 : 96 ، مجمع الزوائد 5 : 218 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 29 _

  بالإمام يخرج صاحبه عن الإسلام.
  وأما الاجماع : فإنه لا خلاف بين أهل الإسلام أن معرفة إمام (1) المسلمين واجبة على العموم ، كوجوب معظم الفرائض في الدين.
  وأما النظر والاعتبار : فإنا وجدنا الخلق منوطين بالأئمة في الشرع ، إناطة يجب بها عليهم معرفتهم على التحقيق ، وإلا كان ما كلفوه من التسليم لهم في أخذ الحقوق منهم ، والمطالبة لهم في أخذ مالهم ، والارتفاع إليهم في الفصل عند الاختلاف ، والرجوع إليهم في حال الاضطرار ، والفقر إلى حضورهم لإقامة الفرائض من صلوات وزكوات وحج وجهاد ، تكليف ما لا يطاق ، ولما استحال ذلك على الحكيم الرحيم سبحانه ، ثبت أنه فرض معرفة الأئمة ، ودل على أعيانهم بلا ارتياب .
  فإن قال : فخبروني الآن من كان الإمام بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والقائم في رئاسة الدين مقامه ، لأعرفه فأؤدي بمعرفته ما افترض له علي من الولاء ؟
  قيل له : من أجمع المسلمون على اختلافهم في الآراء والأهواء على إمامته بعد النبي صلى الله عليه وآله (2) ، ولم يختلفوا من بعد وفاته فيما أوجب له ذلك من اجتماع خصال الفضل له والأقوال فيه والأفعال : أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .

---------------------------
(1) في أ ، ح ، م : أئمة.
(2) في أ ، ح زيادة : على حال.

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 30 _

  فإن قال : أبينوا لي عن صحة هذا المقال ، فإني أراكم مدعين الاجماع فيما ظاهره الاختلاف، ولست أقنع منكم فيه إلا بالشرح لوجهه والبيان (1).
  قيل له : ليس فيما حكيناه من الاجماع (2) اختلاف ظاهر ولا باطن ، فإن ظننت ذلك لبعدك عن الصواب ، أفلا ترى أن الشيعة من فرق الأمة تقطع بإمامته ( عليه السلام ) بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلا فصل ، وتقضي له بذلك إلى وقت وفاته ، وتخطئ من شك في هذا المقال على كل حال ؟
  والحشوية (3) والمرجئة (4) والمعتزلة متفقون على إمامته ( عليه السلام ) بعد عثمان، وأنه

---------------------------
(1) في ب ، م : والمقال .
(2) ( من الاجماع ) ليس في ب ، م.
(3) سميت الحشوية بهذا الاسم ، لأنهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أي يدخلونها فيها وليست منها ، وهم من فرق المرجئة يقولون بالجبر والتشبيه ، وإن الله تعالى موصوف عندهم بالنفس واليد والسمع والبصر ، وقالوا : كل ثقة من العلماء يأتي بخبر مسند عن النبي فهو حجة ، ( المقالات والفرق : 6 ، 136 ) ، وأراد المصنف بالحشوية هنا أهل السنة عموما ، أنظر ص 91 و 216 .
(4) المرجئة : اختلف فيهم على أقوال : فقيل هم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضير مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله تعالى أرجأ تعذيبهم عن المعاصي ، أي أخره عنهم .
وقيل : هم الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل ، لأنهم يقدمون القول ويؤخرون العمل.
وقيل : ما عدا الشيعة من العامة ، وسموا مرجئة لأنهم زعموا أن الله تعالى أخر نصب الإمام ليكون نصبه باختيار الأمة بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ( المقالات والفرق : 5 ، 131 ، مجمع البحرين ـ رجا ـ 1 : 177 ) .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 31 _

  لم يخرج عنها حتى توفاه الله تعالى راضيا عنه، سليما من الضلال ؟
  والخوارج ـ وهم أخبث أعدائه وأشدهم (1) عنادا ـ يعترفون له بالإمامة ، كاعتراف الفرق الثلاث ، وإن فارقوهم بالشبهة في انتهاء الحال ؟
  ولا سادس في الأمة لمن ذكرناه يخرج بمذهبه عما شرحناه ، فيعلم بذلك وضوح ما حكمنا به من الاجماع على إمامته (2) بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كما وصفناه .
  فأما الاجماع على ما يوجب له الإمامة من الخلال : فهو إجماعهم على مشاركته ( عليه السلام )لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في النسب ، ومساهمته له في كريم الحسب ، واتصاله به في وكيد السبب (3) ، وسبقه كافة الأمة إلى الاقرار ، وفضله على جماعتهم في جهاد الكفار، وتبريزه عليهم في المعرفة والعلم بالأحكام ، وشجاعته وظاهر زهده اللذين لم يختلف فيهما (4) اثنان ، وحكمته في التدبير وسياسة الأنام ، وغناه بكماله في التأديب المحوج إليه المنقص (5) عن الكمال ، وببعض هذه الخصال يستحق الإمامة فضلا عن جميعها على ما قدمناه .
  وأما الاجماع على الأفعال الدالة على وجوب الإمامة والأقوال :

---------------------------
(1) في أ ، ح زيادة : له .
(2) في أ : بإمامته .
(3) في أ : النسب.
(4) في أ : الذي لم يختلف فيه .
(5) في ب ، ح ، م : النقص .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 32 _

  فإن الأمة متفقة على أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قدمه في حياته ، وأمره على جماعة من وجوه أصحابه ، واستخلفه في أهله واستكفاه أمرهم عند خروجه إلى تبوك قبل وفاته ، واختصه لإيداع أسراره ، وكتب عهوده ، وقيامه مقامه في نبذها إلى أعدائه ، وقد كان ندب ليعرض ذلك من تقدم عليه ، فعلم الله سبحانه أنه لا يصلح له ، فعزله بالوحي من سمائه .
  ولم يزل (1) يصلح به إفساد من كان على الظاهر من خلصائه، ويسد به خلل أفعالهم المتفاوتة بحكمه وقضائه ، وليس يمكن أحد ادعاء هذه الأفعال من الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لغير أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، على اجتماع ولا اختلاف ، فيقدح بذلك في أس (2) ما أصلناه وبيناه .
  وأما الأقوال المضارعة لهذه الأفعال في الدلالة: فهي أكثر من أن تحصى على ما شرطناه (3) في الاختصار ، وإن كنا سنورد منها ما فيه كفاية ، إن شاء الله تعالى : فمنها : ما سلم لروايته الجميع من قول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بغدير خم (4) ، بعد أن قرر أمته على المفترض له من الولاء الموجب لإمامته عليهم، والتقدم لسائرهم في الأمر والنهي والتدبير ، فلم ينكره أحد منهم ،

---------------------------
(1) ( يزل ) ليس في أ .
(2) الأس: الأصل ، ( الصحاح ـ أسس ـ 3 : 903 ) .
(3) في أ ، ب ، ح : على شرطنا .
(4) خم : بئر حفرها مرة بن كعب ، ونسب إلى ذلك غدير خم ، وهو بين مكة والمدينة ، ( معجم البلدان 2 : 388 ) .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 33 _

  وأذعنوا بالإقرار له طائعين : ( من كنت مولاه فعلي مولاه (1) فأعطاه بذلك حقيقة الولاية ، وكشف به عن مماثلته له في فرض الطاعة والأمر لهم ، والنهي والتدبير والسياسة (2) والرئاسة ، وهذا نص ـ لا يرتاب بمعناه من فهم اللغة ـ بالإمامة .
  ومنها أيضا : قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلا اختلاف بين الأمة : ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ) (3) فحكم له بالفضل على الجماعة، والنصرة والوزارة والخلافة ، في حياته وبعد وفاته ، والإمامة له ، بدلالة أن هذه المنازل كلها كانت لهارون من موسى ( عليه السلام ) في حياته ، وإيجاب جميعها لأمير المؤمنين ( عليه السلام )إلا ما أخرجه الاستثناء منها ظاهرا ، وأوجبه بلفظ يعدله من بعد وفاته ، وبتقدير ما كان يجب لهارون من موسى لو بقي بعد أخيه ، فلم يستثنه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، فبقي لأمير المؤمنين ( عليه السلام )عموم ما حكم له من المنازل ، وهذا نص على إمامته ، لا خفاء به على من تأمله ، وعرف وجوه القول فيه ، وتبينه .
  ومنها : قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الاتفاق: ( اللهم ائتني بأحب خلقك إليك ، يأكل معي من هذا الطائر ) (4) فجاءه بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فأكل

---------------------------
(1) الكافي 1 : 227 / 1 ، علل الشرائع : 144 ، أمالي الصدوق : 291 ، حلية الأولياء 4 : 23 ، مسند أحمد 1 : 331 ، المستدرك للحاكم 3 : 134 .
(2) ( والسياسة ) ليس في أ .
(3) علل الشرائع : 222 ، أمالي الصدوق : 146 / 7 ، عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 10 / 23 ، سنن الترمذي 5 : 641 / 3731 ، مسند أحمد 6 : 438، مجمع الزوائد 9 : 108 .
(4) عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) 2 : 187 / 2 ، أمالي الصدوق : 521 / 3، الخصال: 555 ، صحيح الترمذي 5 : 636 / 3721 ،
المستدرك 3 : 130 ، مجمع الزوائد 7 : 138 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 34 _

  معه ، وقد ثبت أن أحب الخلق إلى الله تعالى أفضلهم عنده ، إذ كانت محبته منبئة عن الثواب دون الهوى وميل الطباع ، وإذا صح أنه أفضل خلق الله تعالى ثبت أنه كان الإمام ، لفساد تقدم المفضول على الفاضل في النبوة وخلافتها العامة في الأنام.
  ومنها : قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم خيبر : ( لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه )(1) فأعطاها من بين أمته جميعا عليا ( عليه السلام ) ، ثم بين له من الفضيلة بما بان به من الكافة ، ولولا ذلك لاقتضى الكلام خروج الجماعة من هذه الصفات على كل حال ، وذلك محال ، أو كان التخصيص بها ضربا من الهذيان ، وذلك أيضا فاسد محال ، وإذا وجب أنه أفضل الخلق بما شرحناه ، ثبت أنه كان الإمام دون من سواه ، على ما رتبناه .
  وأمثال ما ذكرناه مما يطول به (2) التقصاص من تفضيله له ( عليه السلام )على كافة أصحابه وأهل بيته ، بأفعاله به وظواهر الأقوال فيه ومعانيها المعقولة ، لمن فهم الخطاب والشهادة له بالصواب ، ومقتضى العصمة من الذنوب والآفات ، مما يدل على غناه عن الأمة ، ويكشف بذلك عن كونه

---------------------------
(1) أمالي الطوسي 1: 313 ، إرشاد المفيد : 36 ، إعلام الورى: 99 ، مسند أحمد 1 : 185 ، صحيح مسلم 4 : 1871 / 32 ، صحيح الترمذي 5 : 639 ، المناقب لابن المغازلي : 177 .
مناقب الخوارزمي : 105 ، ذخائر العقبى : 72 ، الرياض النضرة 3 : 148 و 151 .
(2) في أ : بذكره ، والتقصاص : التتبع ، أنظر المعجم الوسيط 2 : 739 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 35 _

  إماما بالتنزيل الذي رسمناه ، وقد استقصينا القول في أعيان هذه المسائل على التفصيل والشرح والبيان في غير هذا المكان (1) ، فلا حاجة بنا إلى ذكره هاهنا مع الغرض الذي أخبرنا به عنه ووصفناه .
  واعلم ـ أرشدك الله تعالى ـ أن فيما رسمناه من هذه الأصول أربع مسائل ، يجب ذكرها والجواب عنها ، لتزول به شبهة أهل الخلاف : أولها : السؤال عن وجه الدلالة من الاجماع الذي ذكرناه في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام )بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على إمامته من بعده على الفور ، دون من قام ذلك المقام ممن يعتقد الجمهور في فعله الصواب .
  ثانيها : عن الدلالة على أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الأفضل عند الله تعالى من الجميع ، وإن كان أفضل منهم في ظاهر الحال .
  ثالثها : عن الدليل على فساد إمامة المفضول على الفاضل بحسب ما ذكرناه .
  رابعها : عن حجة دعوى الاجماع في سائر ما عددناه ، مع ما يظن فيه من خلاف البكرية والعثمانية والخوارج ، وما يعتقدونه من الدفع لفضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام )الجواب عن السؤال الأول: أنه إذا ثبت بالحجة القاهرة من الاجماع وجود إمام بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلا فصل : وثبوت إمامته على الفور ، ولم يكن على من ادعي ذلك له سوى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إجماع على حال

---------------------------
(1) أنظر رسالته ( تفضيل أمير المؤمنين على سائر الصحابة ) والفصول المختارة من العيون والمحاسن 1 : 64 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 36 _

  من الأحوال ، لما يعرف من مذاهب شيعة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، في العباس وأبي بكر ، وتقدمه في ذلك المقام ، ونفي الإمامة عنه على كل حال ، ومذهب شيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام )في ما تدعيه الراوندية (1) من إمامة العباس وأنها لم تصح له في حال ، ولم يكن دليل من كتاب ولا سنة ، ولا اعتبار على إمامة المتقدم فينوب ذلك مناب الاجماع ، ثبت أن أمير المؤمنين ( عليه السلام )كان إماما في تلك الحال ومستقبلها إلى أن قبضه الله تعالى إلى جنته على ما وصفناه ، وإلا خرج الحق عن الاجماع (2)، وبطل قول كافة الأمة فيما شهدوا به من وجود الإمام (3) وثبوت الإمامة له على القطع والثبات، وذلك فاسد بالنظر الصحيح والاجماع .
  والجواب عن السؤال الثاني : أن الدلائل قد قامت على أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم ينطق عن الهوى ، ولا فعل في شرعة شيئا ولا قال إلا بوحي (4) يوحى ، وقد علمنا أن الوحي من الله جل اسمه العالم بالسر وأخفى ، وأنه جل اسمه لا يحابي خلقه ، ولا يبخس أحدا منهم حقه .
  فلولا أن أمير المؤمنين ( عليه السلام )كان الأفضل عنده جل اسمه لما فرض على نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التفضيل له على الكافة ، والتنويه بفضله من بين

---------------------------
(1) الراوندية: هم شيعة ولد العباس بن عبد المطلب ، قالوا : إن أحق الناس بالإمامة بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) العباس بن عبد المطلب لأنه عمه ووارثه وعصبته ، ( المقالات والفرق :
180 ، فرق الشيعة : 46 ) .
(2) ( عن الاجماع ) ليس في أ.
(3) في أ : الإمامة.
(4) في أ : شيئا وقال إن هو إلا وحي ، وفي ب ، م : شيئا إلا بوحي .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 37 _

  الجماعة ، والاقرار له من التعظيم بما لم يشركه فيه غيره ، لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لكان محابيا له وباخسا لغيره حقه ، أو غير عالم بحقيقة الأمر في مستحقه، وذلك كله محال ، فثبت أن الفضل الذي بان به
  أمير المؤمنين ( عليه السلام )في الظاهر من الجماعة بأفعال الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأقواله ، أدل دليل على فضله في الحقيقة ، وعند الله سبحانه على ما ذكرناه .
  والجواب عن السؤال الثالث : ما قدمناه في فساد نبوة المفضول على الفاضل، ومشاركة الإمامة للنبوة في معنى التقدم والرفعة والرئاسة وفرض الطاعة ، وبما يفسد به علو المفضول على الفاضل في الثواب ، ودلالة التعظيم الديني على منزلة المعظم في استحقاق الجزاء بالأعمال ، وثبوت علو تعظيم الإمام على الرعية في شرعية الإسلام ، وفي كل ملة ، وعند أهل كل نحلة وكتاب .
  والجواب عن السؤال الرابع : أنا لا نعلم بكريا ولا عثمانيا ولا خارجيا دفع إجماع المختلفين على تسليم ما رويناه من فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام )وعددناه ، وكيف ينكرون رواية ذلك وهم أنفسهم قد رووه ، ونقوله عن أسلافهم وتقبلوه ، وأعملوا أفكارهم في الاستخراج بوجوهه وتأولوه ؟! وليس خلافهم للشيعة فيما تعلقوا به من معانيه خلافا في صحة سنده والتسليم لرواته ، كما أن اختلاف المسلمين في تأويل القرآن لا يوجب إنكارهم للتنزيل .
  ومن دفع ما وصفناه من هذه الحال وجب رده إلى أصحاب

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 38 _

  الحديث ممن سميناه ، وإن كان الموجود في أصولهم ـ من نقلهم (1) ـ شاهدا عليهم بما ذكرناه ، على أننا لا ننكر أن يدفع المتفق عليه واحد من أهل النظر أو اثنان ، أو ألف من العامة أو ألفان ، لكنه لا يكون ذلك باتفاق الحجة قادحا فيما انعقد به الاجماع ، لوجود أمثاله فيما نعتناه .
  وإنما مدار الأمر على اصطلاح (2) معظم العلماء، واجتماع المختلفين على التسليم عند السلامة من العصبية ، وحال السكون عن المماراة (3) والمجادلة ، ونقل المتضادين في الآراء والاعتقادات مع العداوة في أصل الديانات والمناصبة ، ولولا أن الأمر كذلك لما ثبت إجماع (4) على شئ من شريعة الإسلام ، لوجود المختلفين فيها على كل حال .
  وها هنا منصفة بيننا وبين أهل الخلاف ، وهي أن يذكروا شيئا من فرائض الشريعة وواجبات الأحكام ، أو مدائح قوم من الصحابة ، أو تفضيلا لهم على غيرهم من الأنام ، ممن يلجؤون في صحته إلى الاجماع ، فإن لم نوجدهم خلاف فيه ، من أمثال المنكرين لما عددناه من فضائل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وإلا فقد ظهرت الحجة لهم فيما ادعوه ، وهيهات .
  فإن قال قائل (5): فإذا كان أمير المؤمنين ( عليه السلام )هو الإمام بعد

---------------------------
(1) في أ ، ح : نقله ، والمراد ظاهرا الحديث .
(2) يقال اصطلح القوم : زال ما بينهم من خلاف واتفقوا ، ( المعجم الوسيط 1 : 520 ) .
(3) المماراة : الجدال والنزاع ، ( الصحاح ـ مرا 6 : 2491 ) .
(4) في ب ، م : إجماع ف ي.
(5) ( قائل ) ليس في ب ، ح ، م .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 39 _

  النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دون سائر الناس ، فعلى أي وجه تقدم عليه أبو بكر وعمر وعثمان ، وادعوا الإمامة دونه ، وأظهروا أنهم أحق بها على كل حال ؟
  قيل له : لقد كان ذلك على وجه الدفع له ( عليه السلام )عن حقه، والخلاف عليه في مستحقه ، وليس ذلك بمستحيل ممن ارتفعت عنه العصمة ، وإن كان في ظاهر الأمر على أحسن الصفات.
  فإن قال : فكيف يجوز ذلك ممن سميناه ، وهم وجوه أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمهاجرين والسابقين إلى الإسلام ؟
  قيل له : أما وجوه الصحابة ورؤساء المهاجرين وأعيان السابقين إلى الإيمان بواضح الدليل وبين البرهان فهو أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أخو رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووزيره وناصره ووصيه وسيد الأوصياء ، وعم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء رضوان الله عليهم ، وابن عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جعفر بن أبي طالب الطيار مع الملائكة في الجنان رضي الله عنه ، وابن عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه ، الذين سبقوا من سميت إلى الإيمان ، وخرجوا في مواساة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن الديار والأوطان ، وأثنى الله عليهم في محكم القرآن ، وأبلوا دون أصحابه (1) في الجهاد وبارزوا الأقران ، وكافحوا الشجعان ، وقتلوا الأبطال ، وأقاموا عمود الدين وشيدوا الإسلام .

---------------------------
(1) في أ: أصحابك.

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 40 _

  ثم الطبقة التي تليهم ، كخباب (1) وعمار وأبي ذر والمقداد وزيد بن حارثة ، ونظرائهم في الاجتهاد وحسن الأثر والبلاء والاخلاص لله ولرسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في السر والاعلان .
  وبعد : فلو سلمنا لك دعواك لمن ادعيت الفضل لهم على ما تمنيت ، لم يمنع مما ذكرناه ، لأنه لا يوجب لهم العصمة من الضلال ، ولا يرفع عنهم جواز الغلط والسهو والنسيان ، ولا يحيل منهم تعمد العناد.
  وقد رأيت ما صنع شركاؤهم في الصحبة والهجرة والسبق إلى الإسلام حين رجع الأمر إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) باختيار الجمهور منهم والاجتماع (2) ، فنكث بيعته طلحة والزبير ، وقد كانا بايعاه على الطوع والإيثار ، وطلحة نظير أبي بكر ، والزبير أجل منهما على كل حال ، وفارقه سعد بن أبي وقاص وهو أقدم إسلاما من أبي بكر ، وأشرف منه في النسب ، وأكرم منه في الحسب ، وأحسن آثارا من الثلاثة في الجهاد.
  وتبعه على فراقه وخذلانه محمد بن مسلمة وهو من رؤساء الأنصار ، واقتفى آثارهم في ذلك وزاد عليها بإظهار سبه (3) والبراءة منه حسان ، فلو كانت الصحبة مانعة من الضلال لمنعت من ذكرناه ومعاوية

---------------------------
(1) خباب بن الأرت التميمي ، صحابي ، من نجباء السابقين ، شهد المشاهد كلها ، ونزل الكوفة فمات سنة (37) هـ ، ( سير أعلام النبلاء 2 : 323 / 62 ، حلية الأولياء 1 : 359 ، الإصابة 2 : 101 / 2206 ، رجال الشيخ الطوسي : 19 / 3 .
(2) ( والاجتماع ) ليس في ب ، م .
(3) في ب ، ح ، م : وزاد عليهم في سبه .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 41 _

  ابن أبي سفيان وأبا (1) موسى الأشعري، وله من الصحبة والسبق ما لا يجهل ، وقد علمتم عداوتهم لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وإظهارهم البراءة منه ، والقنوت عليه (2) ، وهو ابن عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأميره على أبي بكر وعمر وعثمان .
  ولو كانت الصحبة أيضا مانعة من الخطأ في الدين والآثام لكانت مانعة لمالك بن نويرة ، وهو صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الصدقات، ومن تبعه من وجوه المسلمين (3) من الردة عن الإسلام .
  ولكانت صحبة السامري لموسى بن عمران ( عليهما السلام ) وعظم محله منه ومنزلته ، تمنعه من الضلال باتخاذ العجل والشرك بالله عز وجل ، ولاستحال أيضا على أصحاب موسى نبي الله ( عليه السلام ) ، وهم ستمائة ألف إنسان ، وقد شاهدوا الآيات والمعجزات ، وعرفوا الحجج والبينات ، أن يجتمعوا على خلاف نبيهم وهو حي بين أظهرهم ، وباينوا خليفته وهو يدعوهم ويعظهم ويحذرهم من الخلاف ، وينذرهم فلا يصغون إلى شئ من قوله، ويعكفون على عبادة العجل من دون الله عز وجل .
  ولكان أيضا أصحاب عيسى ( عليه السلام )معصومين من الردة ، ولم يكونوا كذلك ، بل فارقوا أمره ، وغيروا شرعه ، وادعوا عليه أنه كان يأمرهم بعبادته ، واتخاذه إلها مع الله تعالى تعمدا للكفر والضلال ، وإقداما على العناد من غير شبهة ولا سهو ولا نسيان .

---------------------------
(1) نصبت عطفا على الاسم الموصول (من).
(2) في ب ، م: حتى دعوا عليه في قنوت الصلاة.
(3) في أ: المؤمنين.

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 42 _

  فإن قال : فإذا كان الأمر على ما ذكرتموه ، وكان القوم قد دفعوا حقا لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) كما وصفتموه ، فلم أقرهم (1) على ذلك أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، واتبعهم عليه الأنصار والمهاجرون ، وما بال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لم يجاهدهم كما جاهد الناكثين والقاسطين والمارقين ؟
  قيل له : لم يقرهم على ذلك جميع المسلمين، ولا تبعهم عليه سائر الأنصار والمهاجرين ، وإن كان الراضي بذلك منهم الجمهور ، والمؤثر في العدد هم الأكثرون، وليس ذلك علامة على الصواب ، بل هو في إلا غلب دليل على الضلال ، وقد نطق بذلك القرآن، قال الله تعالى : { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين }(2).
  وقال تعالى { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } (3).
  وقال تعالى : { وأن أكثركم فاسقون }(4).
  وقال تعالى : { وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات }(5) .
  وقال تعالى : { وما آمن معه إلا قليل }(6) في آيات يطول بإثباتها الكتاب.

---------------------------
(1) في ب: أمرهم .
(2) سورة يوسف 12 : 103 .
(3) سورة يوسف 12 : 106 .
(4) سورة المائدة 5 : 59 .
(5) سورة ص 38 : 24 .
(6) سورة هود 11 : 40 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 43 _

  على أن هذا القول ، وإن كان حجة فيما ذكرناه ، فالوجود شاهد به لصحته على ما وصفناه ، ألا ترى أن أكثر الخلق على مرور الأيام والأوقات (1) عصاة لله تعالى، والقليل منهم مطيعون له على الاخلاص ، والجمهور الأكثر منهم جهال على كل حال ، والعلماء قليل يحصرهم العدد بلا ارتياب ، وأهل التصون (2) والمروءة من بين الخلق أفراد ، وأهل المناقب في الدين والدنيا آحاد ، فيعلم بذلك أن الأكثر لا معتبر بهم في صحيح الأحكام.
  وبعد : فإنه لم يتمكن قط متملك (3) إلا وكان حال الخلق معه حالهم مع أبي بكر وعمر وعثمان ، وهذه عادة جارية إلى وقتنا هذا وإلى آخر الزمان ، ألا ترى إلى اجتماع الأمة (4) على متاركة (5) معاوية بن أبي سفيان حين ظهر أمره عند مهادنة الحسن بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
  وسكوت الكافة عنه وهو يلعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام )على المنابر ، ويقنت عليه في الصلوات ، ويضرب رقاب المسلمين على الولاية له ، ويجيز على البراءة منه بالأموال .
  وكذلك كانت حالهم مع يزيد لعنه الله، وقد قتل الحسين بن

---------------------------
(1) في أ : على مرور الأزمات ، وفي ح ، م : على مرور الأوقات .
(2) التصون : حفظ النفس من المعائب ( أقرب الموارد ـ صون ـ 1: 671 ) .
(3) في ب ، م : ملك .
(4) ( الأمة ) ليس في ب .
(5) المتاركة : المسالمة ، والمصالحة ، ( أقرب الموارد ـ ترك ـ 1: 76 ) ، وفي ب ، ح ، م : مشاركة .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 44 _

  علي ( عليه السلام )ولد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحبيبه وقرة عينه ظلما وعدوانا ، وسبي أهله ونساءه وذراريه (1) ، وهتكهم بين الملأ ، وسيرهم على الأقتاب في الفلوات ، واستباح حرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في وقعة الحرة (2) ، وسفك دماء أهل الإيمان ، وأظهر الردة عن الإسلام ، فلم يجاهره أحد من الأمة بنكيرة ، وأطبقوا على إظهار التسليم له والائتمام به ، والاتباع له والانقياد .
  ولم يزل الأمر يجري في الأمة (3) بعد يزيد لعنه الله مع الجبارين من بني أمية ومروان على ما وصفناه ، وكذلك كانت صورتهم على عهد آدم ( عليه السلام ) وإلى وقت من سميناه ، ومن بعدهم إلى الآن، وإنما ينظر الناس إلى من حصل له الاتفاق في الرئاسة والسلطان ، وينقادون له كما ذكرناه، ويجتنبون خلافه على ما بيناه ، سواء كان من الله أو من الشيطان ، أو كان عادلا في الرعية أو كان ظالما من الفجار.
  بل قد وجدنا الجمهور في كثير الأحوال يتحيزون (4) عن أولياء

---------------------------
(1) في أ: وذريته .
(2) وقعة الحرة: حدثت في أيام يزيد بن معاوية في سنة (63 ه) ، وكان أمير الجيش فيها مسلم بن عقبة ، وسموه لقبيح صنيعه مسرفا ، حيث قدم المدينة ونزل ( حرة وأقم ) ـ شرق المدينة ـ فخرج أهل المدينة لمحاربته فكسرهم ، وقتل من الموالي ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل ، ومن الأنصار ألفا وأربعمائة ، وقيل ألفا وسبعمائة ، ومن قريش ألفا وثلاثمائة ، ودخل جنده المدينة فنهبوا الأموال وسبوا الذرية واستباحوا الفروج ، وأحضروا أعيان المدينة لمبايعة يزيد بن معاوية ، ( مروج الذهب 3 : 69 والكامل في التاريخ 3: 63 ) .
(3) ( يجري في الأمة ) ليس في ب .
(4) في ب ، م : يحترزون ، وتحيز عنه : تنحى .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 45 _

  الله تعالى ، ويخالفون أنبياءه ، ويسفكون في العناد لهم الدماء، ويطبقون على طاعة أعداء الله عز وجل ، ويسلمون لهم على الطوع والإيثار ، وربما اتفق للظالم المتغلب والناقص الغبي الجاهل من الجماعة الرضا به والاتباع ، فانقادت الأمور له على منيته فيها والمحاب ، واختلفت (1) على العادل المستحق الكامل الحكيم العالم (2) ، واضطربت عليه الأمور ، وكثرت له المعارضات ، وحصلت في ولايته الفتن والمنازعات ، والخصومات والمدافعات (3) .
  وقد عرف أهل العلم ما جرى على كثير من أنبياء الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الأذى والتكذيب ، والرد لدعواهم ، والاستخفاف بحقوقهم ، والانصراف عن إجابتهم ، والاجتماع على خلافهم ، والاستحلال لدمائهم .
  فأخبر الله تعالى بذلك فيما قص به (4) من نبأهم في القرآن ، فكان من الأتباع للفراعنة والنماردة وملوك الفرس والروم على الضلال ، ما لا يحيل (5) على ذي عقل ممن سمع الكتاب ، ليعلم بما شرحناه أنه لا معتبر في الحق بالاجتماع ، ولا معتمد في الباطل على الاختلاف ، وإنما مدار

---------------------------
(1) في أ ، ب ، ح : واختلف .
(2) ( العالم ) ليس في ب ، ح ، م .
(3) في م : المرافعات .
(4) في أ : بهم .
(5) في أ : لا يحل .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 46 _

  الأمر في هذين البابين على الحجج والبينات ، لما وصفناه من وجود الاجتماع على الظلال ، والاختلاف والتباين في الهدى ، والصواب بما بيناه ، ولا سبيل إلى دفعه إلا بالعناد .
  فصل
  فأما قوله : فلم لا يجاهدهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كما جاهد الناكثين والقاسطين والمارقين؟ فقد ذكر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فيما تظاهر عنه من الأخبار ، فكان من (1) الجواب حيث يقول : ( أما والله، لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر (2) ، وما أخذ الله على العلماء (3) أن لا يقاروا على كظة (4) ظالم ، ولا سغب (5) مظلوم ، لألقيت حبلها على غاربها ، ولسقيت آخرها بكأس أولها )(6) .
  فدل على أنه ( عليه السلام ) إنما ترك جهاد الأولين لعدم الأنصار ، وجاهد الآخرين لوجود الأعوان ، وكان ذلك هو الصلاح الشامل على معلوم الله تعالى وشرائط حكمته في التدبيرات .

---------------------------
(1) في ب ، ح ، م : هو .
(2) في أ ، ح : لولا حضور الناصر ، ولزوم الحجة .
(3) في أ ، ح : على أولياء الأمر .
(4) الكظة : شئ يعتري الإنسان عند الامتلاء من الطعام ، والمراد استئثار الظالم بالحقوق .
( الصحاح ـ كظظ ـ 3 : 1178 ) .
(5) السغب : الجوع ، والمراد منه هضم حقوق المظلوم ، ( الصحاح ـ سغب 1 : 147 ) .
(6) نهج البلاغة ، الخطبة الشقشقية : 31 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 47 _

  فإن قال : أفليس قد روي عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : ( ما كان الله ليجمع أمتي على ضلال ) (1) فكيف يصح اجتماع الأمة على دفع المستحق عن حقه والرضا بخلاف الصواب، وذلك ضلال بلا اختلاف ؟
  قيل له : أول ما في هذا الباب أن الرواية لما ذكرت غير معلومة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وإنما جاءت بها الأخبار على اختلاف من المعاني والألفاظ ، وقد دفع صحتها جماعة من رؤساء أهل النظر والاعتبار ، وأنكرها إمام المعتزلة وشيخها إبراهيم بن سيار النظام (2) وبعد : فلو ثبت ما ضرنا فيما وصفناه ، لأنا لا نحكم بإجماع أمة الإسلام على الرضا بما صنعه المتقدمون على أمير المؤمنين ( عليه السلام )فكيف نحكم بذلك ونحن نعلم يقينا ـ كالاضطرار ـ خلاف الأنصار في عقد الإمامة على المهاجرين ، وإنكار بني هاشم وأتباعهم على الجميع في تفردهم بالأمر دون أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقد جاءت الأخبار مستفيضة بأقاويل جماعة من وجوه (3) الصحابة في إنكار ما جرى ، وتظلم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من ذلك (4) برفع الصوت والإجهار ؟!

---------------------------
(1) أنظر الرد على هذا الحديث في الاحتجاج : 115 ، الخصال 2 : 549 / 30 .
ومن مصادره سنن الترمذي 4 : 466 / 2167 ، مسند أحمد 5 : 145 ، سنن الدارمي 1 : 29 .
(2) أنظر ترجمته في : ( تاريخ بغداد 6 : 97 / 3131 ، سير أعلام النبلاء 10 : 541 / 172 ، لسان الميزان 1 : 67 / 173 ، الكنى والألقاب 3 : 253 ) .
(3) ( وجوه ) ليس في ب ، م .
(4) ( من ذلك ) ليس في ب .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 48 _

  وكان من قول العباس بن عبد المطلب عم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما قد عرفه الناس، ومن أبي سفيان بن حرب والزبير بن العوام أيضا ما لا يخفى على من سمع الأخبار، وكذلك من عمار بن ياسر وسلمان وأبي ذر والمقداد وبريدة الأسلمي وخالد بن سعيد بن العاص في جماعات يطول بذكرها الكلام.
  وهذا يبطل ما ظنه الخصم من اعتقاد (1) الاجماع على إمامة المتقدم (2) على أمير المؤمنين ( عليه السلام )على أنه لا شبهة تعرض في إجماع (3) الأمة على أبي بكر وعمر وعثمان إلا وهي عارضة في قتل عثمان بن عفان ، وإمامة معاوية من بعد صلح الحسن عليه السلام، وطاعة يزيد بعد الحرة، وإمامة بني أمية وبني مروان .
  فإن وجب (4) لذلك القطع بالإجماع على الثلاثة المذكورين حتى تثبت إمامتهم ويقضى لهم بالصواب ليكون جميع من ذكرناه شركاءهم في الإمامة ، وثبوت الرئاسة الدينية والسلطان ، إذ العلة واحدة فيما أوجب لهم ذلك ، فهو ظاهر التسليم والانقياد على الاجتماع ، وترك النكير والخلاف ، وهذا ما يأباه أهل العلم كافة ، ولا يذهب إليه أحد من أهل التمييز لتناقضه في الاعتقاد .

---------------------------
(1) في أ : اعتقادنا .
(2) في ب : من تقدم .
(3) في ب ، م : في التعرض على إجماع .
(4) (وجب) ليس في ب .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 49 _

  فإن قال : أليس قد روى أصحاب الحديث عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : ( خير القرون القرن الذي أنا فيه ، ثم الذين يلونه (1) )(2) .
  وقال ( عليه السلام ) : ( إن الله تعالى اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) (3) .
  وقال ( عليه السلام ) : ( أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم )(4) فكيف يصح مع هذه الأحاديث أن يقترف (5) أصحابه السيئات، أو يقيموا على الذنوب والكبائر الموبقات ؟!
  قيل له : هذه أحاديث آحاد، وهي مضطربة الطرق والإسناد ، والخلل ظاهر في معانيها والفساد ، وما كان بهذه الصورة لم يعارض الاجماع ولا يقابل (6) حجج الله تعالى وبيناته الواضحات (7) ، مع أنه قد عارضها من الأخبار التي جاءت بالصحيح من الإسناد، ورواها الثقات

---------------------------
(1) في ب : ثم الذي يليه .
(2) مسند أحمد 2 : 228 ، سنن أبي داود 4 : 214 / 4657 ، صحيح مسلم 4 : 1962 / 210 ، وفيها : خير أمتي القرن...
(3) مسند أحمد 1 : 80 و 2 : 295 ، صحيح مسلم 4 : 1941 / 161 ، صحيح البخاري 6 : 363 / 383 ، سنن الدارمي 2 : 313 .
(4) لسان الميزان 2 : 137 ، تفسير البحر المحيط 5 : 528 ، أعلام الموقعين 2 : 223 ، كنز العمال 1 : 199 / 1002 ، كشف الخفاء ومزيل الالباس 1 / 132 .
وانظر تلخيص الشافي 2 : 246 .
(5) في م : يعترف .
(6) في أ : يعترض الإجماعات ولا قايل ، في ب : تعترض الإجماعات ولا تقابل .
(7) في أ : وموضحاته .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 50 _

  عند أصحاب الآثار ، وأطبق على نقلها الفريقان من الشيعة والناصبة على الاتفاق ، ما ضمن خلاف ما انطوت (1) عليه فأبطلها على البيان : فمنها : ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في حجر ضب لاتبعتموهم ) ، فقالوا : يا رسول الله، اليهود والنصارى ؟ قال : ( فمن إذن ؟! )(2).
  وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مرضه الذي توفي فيه : " أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع آخرها أولها ، الآخرة (3) شر من الأولى ) (4) .
  وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حجة الوداع لأصحابه : ( ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، ألا لأعرفنكم ترتدون بعدي كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا إني قد شهدت وغبتم )(5).
  وقال ( عليه السلام )لأصحابه أيضا: ( إنكم محشورون إلى الله تعالى يوم

---------------------------
(1) في أ : انطق .
(2) مسند أحمد 2 : 511 ، سنن ابن ماجة 2 : 1322 / 3994 ، صحيح البخاري 4 : 326 / 249 .
(3) في ب : آخره.
(4) مسند أحمد 3 : 489 ، مجمع الزوائد 9 : 24 ، سنن ابن ماجة 2 : 1310 / 3961 .
(5) الجامع الصحيح للترمذي 4 : 461 / 2159 و 486 / 2193 ، صحيح البخاري 7 : 182 و 8 : 285 / 14 و 9 : 90 / 27 ، صحيح مسلم 3 : 1305 / 29 ـ 31 ، سنن أبي داود 4 : 221 / 4686 قطعة منه ، مسند أحمد 1 : 230 ، سنن النسائي 7 : 127 قطعة منه ، سنن الدارمي 2 : 69 قطعة منه .