الفهرس العام

فصل


  القيامة حفاة عراة ، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا رب ، أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم )(1).
  وقال ( عليه السلام )( أيها الناس ، بينا أنا على الحوض إذ مر بكم زمرا ، فتفرق بكم الطرق ، فأناديكم : ألا هلموا إلى الطريق ، فيناديني مناد من ورائي : إنهم بدلوا بعدك ، فأقول : ألا سحقا ، ألا سحقا ) (2).
  وقال (عليه السلام ) : ( ما بال أقوام يقولون : إن رحم (3) رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا تنفع يوم القيامة ، بلى ـ والله ـ إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة ، وإني ـ أيها الناس ـ فرطكم على الحوض ، فإذا جئتم ، قال الرجل منكم :
  يا رسول الله أنا فلان بن فلان ، وقال الآخر : أنا فلان بن فلان ، فأقول : أما النسب فقد عرفته ، ولكنكم أحدثتم بعدي فارتددتم القهقري )(4).
  وقال ( عليه السلام )وقد ذكر عنده الدجال : ( أنا لفتنة بعضكم أخوف مني لفتنة الدجال ) (5).

---------------------------
(1) صحيح البخاري 6 : 108، صحيح مسلم 4 : 2194 / 58 ، الجامع الصحيح للترمذي 4 : 615 / 2423 ، سنن النسائي 4 : 117 .
(2) مسند أحمد 6 : 297 .
(3) (إن رحم) ليس في ب ، ح ، م .
(4) مسند أحمد 3 : 18 و 62 قطعة منه .
(5) كنز العمال 14 : 322 / 28812 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 52 _

  وقال ( عليه السلام ) ( إن من أصحابي من لا يراني بعد أن يفارقني )(1).
  في أحاديث من هذا الجنس يطول شرحها ، وأمرها في الكتب عند أصحاب الحديث أشهر من أن يحتاج فيه إلى برهان ، على أن كتاب الله عز وجل شاهد بما ذكرناه ، ولو لم يأت حديث فيه لكفى في بيان ما وصفناه :
  قال الله سبحانه وتعالى : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين }(2)، فأخبر تعالى عن ردتهم بعد نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على القطع والثبات.
  وقال جل اسمه : { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب } (3) فأنذرهم الله سبحانه من الفتنة في الدين، وأعلمهم أنها تشملهم على العموم، إلا من خرج بعصمة الله من الذنوب .
  وقال سبحانه وتعالى: { ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون }(4) وهذا صريح في الخبر عن

---------------------------
(1) مسند أحمد 6 : 307 .
(2) سورة آل عمران 3 : 144 .
(3) سورة الأنفال 8 : 25 .
(4) سورة العنكبوت 29 : 1 ـ 4.

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 53 _

  فتنتهم بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالاختبار ، وتمييزهم بالأعمال .
  وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه }(1) إلى آخر الآية ، دليل على ما ذكرناه .
  وقوله تعالى : { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم }(2) يزيد ما شرحناه .
  ولو ذهبنا إلى استقصاء ما في هذا الباب من آيات القرآن، والأخبار عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )، لانتشر القول فيه، وطال به الكتاب.
  وفي قول أنس بن مالك -: دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المدينة، فأضاء منها كل شئ ، فلما مات ( عليه السلام )أظلم منها كل شئ ، وما نفضنا عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الأيدي ونحن في دفنه حتى أنكرنا قلوبنا (3) ـ شاهد عدل على القوم بما بيناه .
  مع أنا نقول لهذا السائل المتعلق بالأخبار الشواذ المتناقضة ما قدمنا حكايته ، وأثبتنا أن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذين توهمت أنهم لا يقارفون الذنوب ، ولا يكتسبون السيئات ، هم الذين حصروا عثمان ابن عفان ، وشهدوا عليه بالردة عن الإسلام، وخلعوه عن إمامة الأنام ،

---------------------------
(1) سورة المائدة 5 : 54 .
(2) سورة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) 47 : 29 .
(3) الجامع الصحيح للترمذي 5 : 588 / 3618 ، مسند أحمد بن حنبل 3 : 221 / 268 ، سنن ابن ماجة 1 : 522 / 1631 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 54 _

  وسفكوا دمه على استحلال ، وهم الذين نكثوا بيعة أمير المؤمنين ( عليه السلام )بعد العهود والإيمان ، وحاربوه بالبصرة ، وسفكوا دماء أهل الإسلام ، وهم القاسطون بالشام ، ومنهم رؤساء المارقة عن الدين والإيمان ، ومن قبل منع جمهورهم الزكاة حتى غزاهم إمام عدل عندكم (1) ، وسبي ذراريهم ، وحكم عليهم بالردة والكفر والضلال.
  فإن زعمت أنهم (2) فيما قصصناه من أمرهم (3) على الصواب ، فكفاك خزيا بهذا المقال ، وإن حكمت عليهم أو على بعضهم (4) بالخطأ وارتكاب الآثام بطلت أحاديثك ، ونقضت ما بينته (5) من الاعتلال (6) .
  ويقال له أيضا : وهؤلاء الصحابة الذين رويت ما رويت فيهم من الأخبار، وغرك منهم التسمية لهم بصحبة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، وكان أكابرهم وأفاضلهم أهل بدر ، الذين زعمت أن الله قطع لهم المغفرة والرضوان ، هم الذي نطق القرآن بكراهتهم للجهاد ، ومجادلتهم للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في تركه ، وضنهم بأنفسهم من نصره ، ورغبتهم في الدنيا ، وزهدهم في الثواب ، فقال جل اسمه : { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى

---------------------------
(1) ( عندكم ) ليس في ب ، م .
(2) في أ ، ح : أن جميعهم .
(3) في أ : أمورهم .
(4) ( أو على بعضهم ) ليس في ب ، م .
(5) في أ : بنيته .
(6) في أ : الاعتدال .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 55 _

  الموت وهم ينظرون * وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون }(1).
  ثم زجرهم الله تعالى عن شقاق نبيهم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لما علم من خبث نياتهم وأمرهم بالطاعة والاخلاص ، وضرب لهم فيما أنبأ به من بواطن (2) أخبارهم وسرائرهم الأمثال ، وحذرهم من الفتنة بارتكابهم قبائح الأعمال ، وعدد عليهم نعمه ليشكروه ويطيعوه فيما دعاهم إليه من الأعمال ، وأنذرهم العقاب من الخيانة لله جلت عظمته، ولرسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون * إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون * يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون * واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب * واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم

---------------------------
(1) سورة الأنفال 8: 5 ـ 8 ، وفي م زيادة : نفاقهم .
(2) في أ : مواطن .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 56 _

  تشكرون * يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون * واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم } (1).
  ومن قبيل هذا ما أكده عليهم من فرض الصبر في الجهاد ، وتوعدهم بالغضب على الهزيمة ، لما علم من ضعف بصائرهم ، فلم يلتفتوا إلى وعيده ، وأسلموا نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى عدوه في مقام بعد مقام .
  فقال سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون }(2).
  { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير } (3).
  هذا وقد أخبر جل اسمه عن عامة من حضر بدرا من القوم ، ومحبتهم للحياة ، وخوفهم من الممات ، وحضورهم ذلك المكان طمعا في الغنائم والأموال ، وأنهم لم يكن لهم نية في نصرة الإسلام ، فقال تعالى : { إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة وإن الله

---------------------------
(1) سورة الأنفال 8 : 20 ـ 28 .
(2) سورة الأنفال 8 : 45 .
(3) سورة الأنفال 8 : 15 ، 16 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 57 _

  لسميع عليم * إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور } (1) .
  وقال في القوم بأعيانهم ، وقد أمرهم نبيهم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالخروج إلى بدر ، فتثاقلوا عنه ، واحتجوا عليه ، ودافعوه عن الخروج معه : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا * أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } (2) الآية .
  وقال تعالى فيهم وقد كان لهم في الأسرى من الرأي : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } (3).
  فأخبر سبحانه بالنص الذي لا يحتمل التأويل أنهم أرادوا الدنيا دون الآخرة ، وآثروا العاجلة على الآجلة ، وتعمدوا من العصيان ما لولا

---------------------------
(1) سورة الأنفال 8 : 42 ، 43 .
(2) سورة النساء 4 : 77 ، 78 .
(3) سورة الأنفال 8 : 67 ، 68 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 58 _

  سابق علم الله وكتابه ، لعجل لهم العقاب.
  وقال تعالى فيما قص (1) من نبأهم في يوم أحد ، وهزيمتهم من المشركين ، وتسليم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ): { إذ تصعدون ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون } (2).
  وقال جل اسمه في قصتهم بحنين ، وقد ولوا الأدبار ولم يبق مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحد غير أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، وسبعة من بني هاشم ليس معهم غيرهم من الناس (3) :
  { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ... }(4) يعني أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، والصابرين معه من بني هاشم دون سائر المنهزمين .
  وقال سبحانه في نكثهم عهود النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو حي بين أظهرهم موجود : { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد

---------------------------
(1) في أ : فيما نص به .
(2) سورة آل عمران 3 : 153 .
(3) إرشاد المفيد : 74 ، مجمع البيان 5 : 28 ، السيرة الحلبية 3 : 67 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 62 ، مع اختلاف .
(4) سورة التوبة 9 : 25 ، 26 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 59 _

  الله مسؤولا }(1).
  وقد سمع كل من سمع من الأخبار، ما كان يصنعه كثير منهم ، والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حي بين أظهرهم ، والوحي ينزل عليه بالتوبيخ لهم والتعنيف والإيعاد، ولا يزجرهم ذلك عن أمثال ما ارتكبوه من الآثام :
  فمن ذلك ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يخطب على المنبر في يوم الجمعة، إذ جاءت عير لقريش قد أقبلت (2) من الشام، ومعها من يضرب بالدف ويصفر (3) ، ويستعمل ما حظره الإسلام، فتركوا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قائما على المنبر، وانفضوا عنه إلى اللهو واللعب ، رغبة فيه ، وزهدا في سماع موعظة النبي صلى الله وآله، وما يتلوه عليهم من القرآن.
  فأنزل الله عز وجل فيهم : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين }(4).
  وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذات يوم (5) يصلي بهم، إذ أقبل رجل

---------------------------
(1) سورة الأحزاب 33: 15 .
(2) في أ: أفلت .
(3) ( ويصفر ) ليس في ب ، م .
(4) تأويل الآيات 2 : 693 / 3 ، تفسير القمي 2 : 367 ، مجمع البيان 10 : 433 ، مسند أحمد 3: 313 و 370 ، صحيح البخاري 6 : 267 / 393، الجامع الصحيح للترمذي 5 : 414 / 3311 ، جامع البيان للطبري 28 : 67 ، الدر المنثور 8: 165، والآية من سورة الجمعة 62: 11 .
(5) ( ذات يوم ) ليس في أ .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 60 _

  ببصره سوء يريد المسجد للصلاة ، فوقع في بئر كانت هناك فضحكوا منه واستهزؤوا به ، وقطعوا الصلاة ، ولم يوقروا الدين، ولا هابوا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلما سلم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قال : ( من ضحك فليعد وضوءه والصلاة ) (1) .
  ولما تأخرت عائشة وصفوان بن المعطل (2) في غزوة بني المصطلق، أسرعوا إلى رميها بصفوان، وقذفوها بالفجور ، وارتكبوا في ذلك البهتان.
  وكان منهم في ليلة العقبة من التنفير لناقته ( صلى الله عليه وآله وسلم )، والاجتهاد في رميه عنها وقتله بذلك ما كان.
  ثم لم يزالوا يكذبون عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الأخبار حتى بلغه ذلك، فقال : ( كثرت الكذابة علي فما أتاكم عني من حديث فاعرضوه على القرآن ) (3) .
  فلو لم يدل على تهاونهم بالدين ، واستخفافهم بشرع نبيهم ( صلى الله عليه وآله وسلم )، إلا أنهم كانوا قد تلقوا عنه أحكام الإسلام على الاتفاق ، فلما مضى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من بينهم جاؤوا بجميعها على غاية الاختلاف ، لكفى في ظهور حالهم ووضح به أمرهم وبان ، فكيف وقد ذكرنا من ذلك طرفا

---------------------------
(1) سنن الدارقطني 1: 161 - 172 بعدة طرق ، تاريخ بغداد 9 : 379 ، وكنز العمال 9 : 331 / 26281 .
(2) أنظر ترجمته في أسد الغابة 3 : 26 ، الجرح والتعديل 4 : 420 / 1844 ، سير أعلام النبلاء 2 : 545 / 115 ، الإصابة 3 : 250 / 8084.
(3) الاحتجاج 2 : 447 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 61 _

  يستبصر به أهل الاعتبار ، وإن عدلنا عن ذكر الأكثر إيثارا للاختصار .
  فأما من كان منهم يظاهر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالإيمان (1) ، ممن يقيم معه الصلاة ، ويؤتي الزكاة ، وينفق في سبيل الله، ويحضر الجهاد ، ويباطنه بالكفر والعدوان (2) ، فقد نطق بذكره القرآن كما نطق بذكر من ظهر منه النفاق :
  قال الله تعالى { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا }(3).
  وقال جل اسمه فيهم : { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون }(4).
  وقال تعالى : { وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم }(5).
  وقال سبحانه : { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم

---------------------------
(1) في ب ، م : فأما من كان منهم زمن حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بظاهر الإيمان .
(2) في ب ، م : وبباطنه الكفر والعدوان .
(3) سورة النساء 4 : 142 .
(4) سورة التوبة 9 : 54 .
(5) سورة التوبة 9 : 101 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 62 _

  ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم }(1).
  وقال عز وجل : { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فأحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون }(2).
  وقال فيهم وقد أحاطوا بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، وجعلوا مجالسهم منه عن يمينه وشماله، ليلبسوا بذلك على المؤمنين: { فمال الذين كفروا قبلك مهطعين * عن اليمين وعن الشمال عزين * أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا إنا خلقناهم مما يعلمون }(3).
  ثم دل الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على جماعة منهم وأمره بتألفهم ، والاغضاء عمن ظاهره بالنفاق منهم ، فقال : { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون }(4).
  وقال : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }(5).
  وقال تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه

---------------------------
(1) سورة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) 47 : 30 .
(2) سورة المنافقون 63 : 4 .
(3) سورة المعارج 70 : 36 ـ 39 .
(4) سورة التوبة 9 : 95 .
(5) سورة الأعراف 7 : 199 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 63 _

  عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم }(1).
  وجعل لهم في الصدقة سهما منصوصا ، وفي الغنائم جزءا مفروضا، وكان من عددناه، وتلونا فيه القرآن، وروينا في أحواله (2) الأخبار ، قد كانوا من جملة الصحابة (3) ، وممن شملهم اسم الصحبة ، ويتحقق إلى الاعتزاء إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على طبقاتهم في الخطأ والعمد والضلال والنفاق بحسب ما شرحناه ، فهل يتعلق عاقل بعد هذا بذكر الصحبة ، ومشاهدة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في القطع على فعل الصواب، وهل يوجب بذلك (4) العصمة والتأييد ، إلا بأنه مخذول مصدود (5) عن البيان ؟!

---------------------------
(1) سورة فصلت 41 : 34 ، 35.
(2) في ب : أحوالهم .
(3) في أ ، ح : العصابة.
(4) في ب ، م زيادة : بدون .
(5) في ب ، : الإمامة حاشا فإنه غني .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 65 _

  فصل
  فإن قال قائل : لسنا ندفع أنه قد كان في وقت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طوائف من أهل النفاق يستترون (1) بالإسلام ، وأن منهم من كان أمره مطويا عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، منهم من فضحه الوحي وعرفه الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولا ندفع أيضا أنه قد وقع من جماعة من الصحابة الأخيار ذلك سهوا عن الصواب ، وخطأ في الهزيمة من الذي فرض عليهم مصابرته في الجهاد ، فإن الله تعالى قد عفا عنهم بما أنزله في ذلك من القرآن.
  لكنا ندفعكم عن تخطئة أهل السقيفة ، ومن اتبعهم من أهل السوابق والفضائل ، ومن قطع له رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالسلامة ، وحكم له بالصواب (2)، وأخبر عنه أنه من أهل الجنان ، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ( عليه السلام ) ، وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف الزهري وأبي عبيدة بن الجراح ، الذين (3) قال

---------------------------
(1) في م : يستهزؤن .
(2) في أ ، ح : بالثواب .
(3) ( وأبي عبيدة بن الجراح ، الذين ) ليس في ب .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 66 _

  النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيهم : ( عشرة من أصحابي في الجنة ) (1) على ما جاء به الثابت في الأخبار ، ومن قاربهم في الفضائل ، وماثلهم في استحقاق الثواب، فيجب أن يكون الكلام في هؤلاء القوم على الخصوص ، دون العموم في الأتباع والأصحاب.
  قيل لهم: لو كان سؤالكم فيما سلف عن خاصة من عممتموه على الاطلاق ، لصدر جوابنا عنه بحسب ذلك على التمييز والإفراد ، لكنكم تعلقتم بالاسم الشامل ، فاغتررتم باستحقاق التسمية بالصحبة والاتباع على الاطلاق ، فأوضحنا لكم عن غلطكم فيما ظننتموه منه بما لا يستطاع دفعه على الوجوه كلها والأسباب .
  وإذا كنتم الآن قد رغبتم عن ذلك السؤال ، واعتمدتم في المسألة عمن ذكرتموه على الخصوص دون كافة الأصحاب ، فقد سقطت أعظم أصولكم في الكلام ، وخرجت الصحبة والاتباع والمشاهدة وسماع الوحي والقرآن ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والإنفاق والجهاد من إيجاب الرحمة والرضوان ، وسقط الاحتجاج في الجملة ، بالعصمة من كبائر الآثام والردة عن الإسلام بذلك ، وبما رويتموه عن (2) النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الأخبار ، ولم يبق لكم فيمن تتولونه وتدينون (3) بإمامته إلا الظن والعصبية

---------------------------
(1) سنن أبي داود 4 : 211 / 4649، سنن الترمذي 5 : 648 / 3748 ، كنز العمال 11 : 638 / 33105، و 646 / 33137 مع اختلاف.
(2) ( وسماع الوحي ... رويتموه عن ) من نسخة أ.
(3) في أ: فيما توالونه وتتقون .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 67 _

  للرجال ، والتقليد في الاعتقاد ، والاعتماد على ما يجري مجرى الأسمار (1) والخرافات ، وما لا يثبت على السير والامتحان (2)، وسنقفكم على حقيقة ذلك فيما نورده من الكلام ، إن شاء الله تعالى .
  فصل
  وعلى أن الذي تلوناه في باب الأسرى، وإخبار الله تعالى عن إرادة المشير به لعرض الدنيا ، وحكمه عليه باستحقاق تعجيل العقاب، لولا ما رفع عن أمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من ذلك ، وأخره للمستحقين منهم إلى يوم المآب، لخص أبا بكر ومن شاركه في نيته وإرادته فيه ، لأنه هو المشير في الأسرى بما أشار على الاجماع من الأمة والاتفاق ، فما عصمته السوابق والفضائل على ما ادعيتموه له من الأخبار بعاقبته ، والقطع له بالجنان ، حسبما اختلفتموه من الغلط في دين الله عز وجل ، والتعمد لمعصية الله، وإيثار عاجل الدنيا على ثواب الله تعالى ، حتى وقع من ذلك ما أبان الله به عن سريرته ، وأخبر لأجله عن استحقاقه لعقابه ، وهو وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة بن الجراح في جملة من انهزم يوم أحد ، وتوجه إليهم الوعيد من الله عز وجل ، ولحقهم التوبيخ والتعنيف على ما اكتسبوه بذلك من الآثام في قوله

---------------------------
(1) أي أحاديث الليل ، أنظر النهاية 2 : 399 .
(2) في ب : والاستحسان .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 68 _

  تعالى: { إذ تصعدون ولا تلون على أحد }(1) الآية .
  وكذلك كانت حاله يوم حنين ، بلا اختلاف بين نقلة الآثار ، ولم يثبت أحد منهم مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكان أبو بكر هو الذي أعجبته في ذلك اليوم كثرة الناس ، فقال : لم نغلب اليوم من قلة ، ثم كان أول المنهزمين، ومن ولى من القوم الدبر ، فقال الله تعالى : { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين }(2) فاختص من التوبيخ به لمقاله بما لم يتوجه إلى غيره، وشارك الباقين في الذم على نقض العهد والميثاق .
  وقد كان منه ومن صاحبه يوم خيبر ما لا يختلف فيه من أهل العلم اثنان ، وتلك أول حرب حضرها المسلمون بعد بيعة الرضوان ، فلم يفيا لله تعالى بالعقد مع قرب العهد ، وردا راية رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على أقبح ما يكون من الانهزام ، حتى وصفهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالفرار ، وأخرجهما من محبة الله عز وجل ، ومحبة رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بفحوى مقاله لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، أو ما يدل عليه الخطاب حيث يقول : ( لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه ) (3) فأعطاها أمير المؤمنين عليه السلام.
  هذا وقد دخل القوم كافة سوى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في قوله تعالى:

---------------------------
(1) سورة آل عمران 3 : 153 .
(2) سورة التوبة 9 : 25 .
(3) تقدم مع تخريجاته في ص 34 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 69 _

  { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا }(1).
  فأما ما تعلقوا به في العفو عنهم في قوله تعالى : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم }(2) الآية ، فإنه طريف ، يدل على جهلهم ، وضعف عقولهم ، وذلك أنهم راموا بما تعلقوا به من السوابق التي زعموا لأئمتهم ، والقضايا والأخبار عن العواقب دفعا عن إضافة الظلم إليهم ، والخطأ في دفع النص على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وجحد حقوقه بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بما جلب عليهم إيجاب التخطئة لهم في حياة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والحكم عليهم بنقض العهود ، وارتكاب كبائر الذنوب، وتوجه الذم إليهم من أجل ذلك والوعيد ، ثم اشتغلوا بطلب الحيل في تخليصهم من ذلك (3) وتمحل وجوه العفو عنهم فيما لا يمكنهم دفاعه من خلافهم على الله تعالى ، وعلى نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو بين أظهرهم ، وما كان أغناهم عن هذا التخليط والتهور لو سلكوا طريق (4) الرشاد ، ولم تحملهم العصبية على تورطهم ، وتدخلهم في (5) العناد!

---------------------------
(1) سورة الأحزاب 33 : 15 .
(2) سورة آل عمران 3 : 155 .
(3) ( من ذلك ) ليس في ب ، م .
(4) في أ : طرق .
(5) في أ : ويدخلهم فيه .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 70 _

  وبعد : فإن العفو من الله سبحانه قد يكون عن العاجل من العقاب ، وقد يكون عن الآجل من العذاب ، وقد يكون عنهما جميعا إذا شاء ، وليس في الآية أنه عفا عنهم على كل حال ، ولا أنه يعفو عنهم في يوم المآب، بل ظاهرها يدل على الماضي دون المستقبل ، ويؤيده قوله تعالى : { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا }(1).
  فقد ثبت أنه لا يكون العفو في كل حال ، وإن عفا فقد عفا عن السؤال ، فإذن لا بد أن يكون معنى العفو على ما قلناه في الدنيا عن العاجل دون الآجل ، كما عفا سبحانه عنهم في يوم بدر ، لما كان منهم من الرأي في الأسرى ، وقد أخبر أنه لولا ما سبق في كتابه ، من دفع العقاب عن أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وترك معاجلتهم بالنقمات ، لمسهم منه جل جلاله عذاب عظيم ، أو يكون العفو عن خاص من القوم دون العموم ، وإلا لتناقض (2) القرآن.
  وعلى أي الوجهين ثبت العفو عن المذكورين ، فقد خرج الأمر عن يد خصومنا في براءة ساحة من يذهبون إلى إمامته وتعظيمه والولاية له (3) لأنه لا تتميز الدعوى إلا بدليل ، ولا دليل للقوم إلا ما تلوناه في العفو، وذلك غير موجب بنفسه التغيير والتمييز بخروجه عن

---------------------------
(1) سورة الأحزاب 33 : 15 .
(2) في أ : تناقض .
(3) ( وتعظيمه والولاية له ) ليس في ب .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 71 _

  الاستيعاب ، وعن الوقوع على كل حال.
  على أنا لو سلمنا لهم العفو عنهم على ما تمنوه ، لما أوجب ذلك لهم العفو عما اكتسبوه من بعد من الذنوب ، ولا دل (1) على عصمتهم فيما يستقبل من الأوقات ، ولا خروجهم عن العمد في المعاصي والشبهات ، فأين وجه الحجة لهم فيما اعتمدوه لولا ضعف الرأي واليقين ؟!
  فأما ما ادعوه على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من قوله : ( عشرة من أصحابي في الجنة )(2) ثم سموا أبا بكر وعمر وعثمان ومن تقدم ذكره فيما حكيناه ، فإنه ساقط من غير وجه: أحدها : أن الذي رواه فيما زعموا عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سعيد بن زيد ابن نفيل ، وهو أحد العشرة بما تضمنه لفظ الحديث على شرحهم إياه ، وقد ثبت أن من زكى غيره بتزكية نفسه لم تثبت تزكيته لذلك في شريعة الإسلام، ومن شهد لغيره بشهادة له فيها نصيب لم تقبل شهادته باتفاق .
  ومنها : أن سعيدا واحد ، ورواية الواحد لا يقطع بها على الحق عند الله سبحانه .
  ومها : أن دليل العقل يمنع من القطع بالجنة والأمان من النار لمن تجوز منه مواقعة قبائح الأعمال ، ومن ليس بمعصوم من الزلل والضلال ، لأنه متى قطع له بما ذكرناه ، وهو من العصمة خارج بما

---------------------------
(1) في أ : ولا دليل .
(2) تقدمت مصادر الحديث ص 66 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 72 _

  وصفناه ، كان مغرى بمواقعة الذنوب والسيئات ، مرحا في ارتكاب ما تدعوه إليه الطبائع والشهوات ، لأنه يكون آمنا من العذاب ، مطمئنا إلى ما أخبر به من حسن عاقبته ، وقطع له به من الثواب في الجنات ، وذلك فاسد لا يجوز على الحكيم سبحانه ، ولا يصح منه تدبير العباد .
  وإذا وجب ما ذكرناه ، وكانت الأمة مجمعة على ارتفاع العصمة عمن ضمن الخبر أسماءهم ، سوى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، لما تذهب إليه الشيعة من عصمته ، ومفارقته للجماعة في التوفيق للصواب ، ثبت أن الحديث باطل مختلق ، مضاف إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  فصل على أنه يقال لهم لو كان الخبر كما زعمتم صحيحا ، وكان الاتفاق عليه من الجماعة ما تدعون واقعا ، لكان الأمان من عذاب الله لأبي بكر وعمر وعثمان به حاصلا ، وكان الذم عنهم في حقيقة ذلك زائلا ، ولو كان الأمر كذلك لما جزع القوم عند احتضارهم من لقاء الله تعالى ، ولا اضطربوا من قدومهم على أعمالهم ، مع اعتقادهم أنها مرضية لله سبحانه ، ولا شكوا بالظفر في ثواب الله عز وجل .
  ولجروا في الطمأنينة لعفو الله تعالى ، لثقتهم بخبر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، مجرى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في التضرع إلى الله عز وجل في حياته أن يقبضه الله تعالى إليه ، ويعجل له السعادة بما وعده من الشهادة ، وعند احتضاره أظهر من سروره بقرب لقائه برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، واستبشاره بالقدوم

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 73 _

  على الله عز وجل ، لمعرفته بمكانه منه، ومحله من ثوابه ، وقد سبق من كلام الصالحين أن من أطاع الله أحب لقاءه ، ومن عصاه كره لقاءه .
  والخبر الظاهر أن أبا بكر جعل يدعو بالويل والثبور عند احتضاره ، وأن عمر تمنى أن يكون ترابا عند وفاته ، وود لو أن أمه لم تلده ، وأنه نجا من أعماله كفافا ، لا له ولا عليه ، وما ظهر من جزع عثمان ابن عفان عند حصر القوم له ، وتيقنه بهلاكه ، دليل على أن القوم لم يعرفوا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما تضمنه الخبر من استحقاقهم الجنة على كل حال ، ولا أمنوا من عذاب الله سبحانه لقبيح ما وقع منهم الأعمال.
  وبعد : فكيف ذهب عن عثمان بن عفان الاحتجاج بهذا الخبر ـ إن كان حقا ـ على حاصريه في يوم الدار ، وما الذي منعه من الاحتجاج به عليهم في استحلال دمه ، وقد ثبت في الشرع حظر دماء أهل الجنان ، وما باله تعلق في دفعهم عن نفسه بكل ما وجد إليه السبيل من الاحتجاج ، ولم يذكر هذا الخبر في جملة ما اعتمده في هذا المقال ؟!
  كلا لو كان الأمر على ما ظنه الجهال من صحة هذا الحديث عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أو روايته في وقت عثمان ، لما ذهب عليه التعلق به على ما بيناه .
  مع أنا لو سلمنا لهم ما يتمنونه من ثبوت الخبر عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لما أمكنهم به دفع ما ذكرناه من إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وجحد القوم لفرض طاعته على الشبهة والعناد ، لأنهم قد علموا ما جرى بين أمير

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 74 _

  المؤمنين ( عليه السلام )وبين طلحة والزبير من المباينة في الدين ، والتخطئة من بعضهم لبعض والتضليل والحرب ، وسفك الدم على الاستحلال به دون التحريم، وخروج الجميع من الدنيا على ظاهر التدين بذلك ، دون الرجوع عنه بما يوجب العلم واليقين .
  فإن كان ما وقع من الفريقين صوابا ـ مع ما ذكر ناه ـ لم ينكر أن يعتقد أمير المؤمنين ( عليه السلام )أنه الإمام بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلا فصل ، ويرى أبو بكر وعمر وعثمان خلاف ذلك ، وكونهم على صواب .
  وإن كان أحد الفريقين على خطأ ، لم ينكر أيضا أن يكون المتقدمون على المؤمنين ( عليه السلام )في النص وإنكاره على خلاف الصواب ، وإن كانوا جميعا من أهل الثواب (1) .
  وإن كان الفريقان في حرب البصرة على ضلال ، وذلك لا يضرهما في استحقاق النعيم والأمان من الجحيم، كان المتقدمون في الإمامة ودفعها على خطأ ، وإن كانوا من أهل النعيم ، ولم يضر ذلك بأمانهم (2) من عذاب السعير ، وهذا أقرب لأنه جرى ما جرى من أهل البصرة ، وفي ذلك زيادة عليه بالحرب وسفك الدماء ، وإظهار البراءة والتفسيق .
  وإن زعم مخالفونا أن المحق من الفريقين أمير المؤمنين ( عليه السلام )

---------------------------
(1) في أ : الصواب .
(2) تحرفت في النسخ إلى: بإمامتهم .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 75 _

  وأصحابه دون من خالفهم ، غير أن المخالفين تابوا قبل خروجهم من الدنيا فيما بينهم وبين الله عز وجل ، بدلالة الخبر وما تضمنه من استحقاقهم لثواب الله تعالى على التحقيق .
  فكذلك يقال لهم : إن المتقدمين على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كانوا بذلك ضالين ، ولكنهم تابوا قبل خروجهم من الدنيا في سرائر هم وفيما بينهم وبين خالقهم ، وإن لم يكن ذلك منهم على الظهور ، بدلالة الخبر على ما رتبوه ، وهذا يدمر معتمدهم فيما تعلقوا به من الحديث في دفع النص على إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام )لتقدم من سموه ، وزعموا أنه (1) من أهل الجنة ، ولا يجوز لهم دفع الحق على كل الوجوه ، والله الموفق.

---------------------------
(1) في ب ، م: أنهم.