الفهرس العام

مسألة اخرى



  فإن قالوا : أفليس قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبا بكر في حياته على جميع أهل بيته وأصحابه ، حيث أمره أن يصلي بالناس في مرضه مع قوله ( عليه السلام ) ( الصلاة عماد الدين ) (1) ، وقوله ( عليه السلام ) : ( إمامكم خياركم ) (2) وهذا أوضح دليل على إمامته بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وفضله على جميع أمته ؟!
  جواب :
  قيل لهم : أما الظاهر المعروف فهو تأخير رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبا بكر عن الصلاة وصرفه عن ذلك المقام ، وخروجه مستعجلا وهو من ضعف الجسم بالمرض على ما لا يتحرك معه العاقل إلا بالاضطرار ، ولتدارك ما يخاف بفوته عظيم الضرر والفساد ، حتى كان عزله عما كان تولاه من تلك الصلاة .

---------------------------
(1) كنز العمال 7: 284 / 18889 و 18891 .
(2) كنز العمال 7 : 596 / 30433 ، عوالي اللئالي 1 : 37 / 27، وفيهما : ليؤمكم خياركم .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 202 _

  فأما تقدمه على الناس فكان بقول عائشة دون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وبذلك جاءت الأخبار وتواترت الأحاديث والآثار ، ومن الدعي غير ذلك فعليه حجة البرهان والبيان.
  فصل
  على أننا لو صححنا حديث عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وسلمنا لهم صدقها فيه (1) تسليم جدل ، وإن كانت الأدلة تبطله وتقضي بفساده من كل وجه ، لما أوجب ما ادعوه من فضله على الجماعة، لأنهم مطبقون على أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صلى خلف عبد الرحمن بن عوف الزهري (2) ، ولم يوجب ذلك له فضلا عليه ولا غيره من المسلمين.
  ولا يختلفون أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمر عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر وجماعة من المهاجرين والأنصار ، وكان يؤمهم طول زمان إمارته في الصلاة عليهم ، ولم يدل ذلك على فضله عليهم في الظاهر ، ولا عند الله تعالى على حال من الأحوال .
  وهم متفقون على أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لأمته : ( صلوا خلف كل بر وفاجر ) (3) وأباح لهم الصلاة خلف الفجار ، وجوز بذلك إمامة إمام لهم

---------------------------
(1) (صدقها فيه) ليس في ب.
(2) صحيح مسلم 1 : 230 / 81 ، سنن ابن ماجة 1 : 392 / 1236 ، سنن النسائي 1 : 77 ، سنن أبي داود 1 : 38 / 1552.
(3) كنز العمال 6 : 54 / 1481 عن سنن البيهقي ، عوالي اللئالي 1 : 37 / 28 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 203 _

  في الصلاة منقوص مفضول ، بل فاسق فاجر مرذول ، بما تضمنه لفظ الخبر ومعناه ، وإذا كان الأمر على ما ذكرناه بطل ما اعتمدوه من فضل أبي بكر في الصلاة .
  فصل
  ثم يقال لهم : قد اختلف المسلمون في تقديم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبا بكر للصلاة .
  فقال المسمون السنة : إن عائشة أمرت بتقديمه عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  وقالت الشيعة: إنها أمرته بذلك عن نفسها دون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، بلا اختلاف بينهم أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خرج إلى المسجد وأبو بكر في الصلاة، فصلى تلك الصلاة، فلا يخلو أن يكون صلاها إماما لأبي بكر والجماعة ، أو مأموما لأبي بكر مع الجماعة، أو مشاركا لأبي بكر في إمامتهم، وليس قسم رابع يدعى فنذكره على التقسيم.
  فإن كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صلاها إماما لأبي بكر والجماعة فقد صرفه بذلك عما أوجب فضله عند كم من إمامة القوم ، وحطه عن الرتبة التي ظننتم حصوله فيها بالصلاة، وبطل ما اعتمدتموه (1) من ذلك ، ووجب له خلافه من النقص والخروج عن الفضل على التأبيد، إذا كان آخر أفعال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جار حكمها على التأبيد (2) وإقامة الشريعة وعدم

---------------------------
(1) في ح : ما ادعيتموه .
(2) في ح ، م : الندب .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 204 _

  نسخها إلى أن تقوم الساعة ، وهذا بين لا ريب فيه .
  وإن كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مأموما لأبي بكر فقد صرف إذن عن النبوة ، وقدم عليه من أمره الله تعالى بالتأخير عنه ، وفرض عليه غض الطرف عنده ، ونسخ بذلك نبوته وما يجب له بها من إمامة الجماعة ، والتقدم عليهم في الدين ، وهذا ما لا يطلقه مسلم.
  وإن كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إماما للجماعة مع أبي بكر على الاشتراك في إمامتهم ، وكان ذلك آخر أعماله في الصلاة ، فيجب أن يكون سنة ، وأقل ما فيه جوازه وارتفاع البدعة منه ، والاجماع منعقد على ضد ذلك ، وفساد إمامة نفسين في الصلاة معا لجماعة من الناس ، وإذا كان الأمر على ما وصفناه فقد سقط ما تعلق به القوم من صلاة أبي بكر ، وما ادعوه له بها من الفضل على تسليم الخبر دون المنازعة فيه ، فكيف وقد بينا سقوطه بما قدمناه .
  فصل
  على أن الخبر بصلاة أبي بكر وإن كان أصله من حديث عائشة ابنته خاصة على ما ذكروه ، فإنه قد جاء عنها في التناقض والاختلاف وذلك شاهد بفساده على البيان : فروى أبو وائل ، عن مسروق ، عن عائشة ، قال : صلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعدا (1) .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري 4 : 1812 ، السيرة الحلبية 3 : 464.

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 205 _

  وروى إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة في حديث في الصلاة أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صلى عن يسار أبي بكر قاعدا ، وكان أبو بكر يصلي بالناس قائما (1) .
  وفي حديث وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة أيضا ، قالت : صلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مرضه عن يمين أبي بكر جالسا ، وصلى أبو بكر قائما بالناس (2) .
  وفي حديث عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : صلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحذاء أبي بكر جالسا ، وكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر (3) .
  فتارة تقول : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إماما بأبي بكر ، وتارة تقول : كان أبو بكر إماما ، وتارة تقول : صلى عن يمين أبي بكر ، وتارة تقول : صلى عن يساره ، وتارة تقول : صلى بحذائه ، وهذه أمور متناقضة تدل بظاهر ما فيها من الاضطراب والاختلاف على بطلان الحديث ، وتشهد بأنه موضوع .
  فصل آخر
  على أن الخبر الثابت عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من قوله : ( إنما جعل

---------------------------
(1) السيرة الحلبية 3 : 464 .
(2) السيرة الحلبية 3 : 467 ، سيرة ابن هشام 4 : 302 .
(3) السيرة الحلبية 3 : 464 و 465 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 206 _

  الإمام إماما ليؤتم به ، فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين ) (1) يبطل أيضا حديث صلاة أبي بكر ، ويدل على اختلافه، لأنه يتضمن مناقضة ما أمر به ، مع ترك المتمكن منه على فاعله ، ومتى ثبت أوجب تضليل أبي بكر وتبديعه على الإقدام على خلاف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  واستدلوا بمثل ذلك في رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذ كان هو المؤتم بأبي بكر ، وفي كلا الأمرين بيان فساد الحديث مع ما في الوجه الأول من دليل فساده .
  فصل آخر
  مع أن الرواية قد جاءت من غير طريق عن عائشة أنها قالت : جاء بلال فأذن بالصلاة ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مغمى عليه ، فانتظرنا إفاقته وكاد الوقت يفوت ، فأرسلنا إلى أبي بكر يصلي بالناس (2) .
  وهذا صريح منها بأن صلاته كانت عن أمرها ورأيها ، دون أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإذنه ورأيه ورسمه .
  والذي يؤيد ذلك ويكشف عن صحته ، الاجماع على أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خرج مبادرا معجلا بين يدي رجلين من أهل بيته

---------------------------
(1) مسند أحمد بن حنبل 2 : 214 ، 420 ، صحيح البخاري 1 : 171 / 44 ، صحيح مسلم 1 : 308 / 77 ، صحيح الترمذي 2 : 194 / 361 ، سنن ابن ماجة 1 : 276 / 846 ، سنن النسائي 2 : 83 .
(2) كنز العمال 5 : 634 / 4116 عن اللالكائي في السنة.

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 207 _

  حتى تلافى الأمر بصلاته وعزل الرجل عن مقامه .
  ثم الاجماع أيضا على قول البني ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين أفاق لعائشة وحفصة : ( إنكن كصويحبات يوسف ( عليه السلام ) )(1) ذما لهما على ما أفتنا به أمته ، وإخبارا عن إرادة كل واحدة منهما المنزلة بصلاة أبيها بالناس ، ولو كان هو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تقدم بالأمر لأبي بكر بالصلاة لما حال بينه وبين تمامها ، ولا رجع باللوم على غيره فيها ، وهذا ما لا خفاء به على ذوي الأبصار.
  وفي هذه المسألة كلام كثير ، قد سبق أصحابنا رحمهم الله إلى استقصائه، وصنف أبو عيسى محمد بن هارون الوراق (2) كتاب مفردا في معناه سماه كتاب ( السقيفة ) يكون نحو مائتي ورقة ، لم يترك لغيره زيادة عليه فيما يوضح عن فساد قول الناصبة وشبههم التي اعتمدوها من الخبر بالصلاة ، وأشار إلى كذبهم فيه ، فلذلك عدلت عن الإطالة في ذكر البراهين على ما قدمت ، واقتصرت على الاختصار، وإن كان فيما أثبته كفاية لذوي الأبصار ، والحمد لله .

---------------------------
(1) كنز العمال 5 : 634 / 4116 عن اللالكائي في السنة .
(2) ترجم له النجاشي في رجاله : 372 / 1016 وعد من تصانيفه كتاب السقيفة ، وأطراه المحقق الداماد في الراشحة الثامنة من الرواشح السماوية وقال : هو من أجلة المتكلمين من أصحابنا وأفاضلهم .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 209 _

  مسألة أخرى
  فإن قالوا : إن لأبي بكر من الإنفاق على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمواساة بماله ما لم يكن لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ولا لغيره من الصحابة، حتى جاء الخبر عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أنه قال : ( ما نفعنا مال كمال أبي بكر )(1) .
  وقال ( عليه السلام )في موطن آخر : ( ما أحد من الناس أعظم نفعا علينا حقا في صحبته وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ) (2).
  جواب :
  قيل لهم : قد تقدم لنا من القول فيما يدعى من إنفاق أبي بكر ما يدل المتأمل له على بطلان مقال أهل الخلاف ، وإن كنا لم نبسط الكلام في معناه بعد ، فإن أصل الحديث في ذلك عائشة ، وهي التي ذكرته عن

---------------------------
(1) مسند أحمد 2: 253 و 366 ، وأخرجه في كنز العمال 11 : 549 / 32576 و 555 / 32608 ، 12 : 505 / 35648 عن مسند أحمد ، وابن ماجة ، وحلية الأولياء ، وابن عساكر .
(2) كنز العمال 11 : 554 / 32604 عن الطبراني في المعجم الكبير .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 210 _

  رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأضافته بغير حجة، وقد عرفت ما كان من خطأها في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وارتكابها معصية الله تعالى في خلافه حتى نزل فيها وفي صاحبتها حفصة بنت عمر بن الخطاب : { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير }(1).
  ثم الذي كان منها في أمر عثمان بن عفان حتى صارت أوكد الأسباب في خلعه ، وقتله، فلما كان من أمره ما كان ، وبايع الناس لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام )حسدته على ذلك، وكرهت أمره ، ورجعت عن ذم عثمان بن عفان إلى مدحه ، وقذفت أمير المؤمنين ( عليه السلام )بدمه ، وخرجت من بيتها إلى البصرة إقداما على خلاف الله تعالى فيما أمرها به في كتابه ، فألبت عليه ودعت إلى حربه ، واجتهدت في سفك دمه واستئصال ذريته وشيعته ، وأثارت من الفتنة ما بقي في الأمة ضررها في الدين إلى هذه الغاية.
  ومن كانت هذه حالها لم يوثق بها في الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولا آمنت على الأدغال (2) في دين الله تعالى ، لا سيما فيما تجربه نفعا إليها وشهادة بفضل متى صح لكان لها فيه الحظ الأوفر ، وهذا ما لا يخفى على ذوي حجا .

---------------------------
(1) سورة التحريم 66 : 4 .
(2) أدغل في الأمر : أدخل فيه ما يخالفه ويفسده ، ( الصحاح ـ دغل ـ 4 : 1697 ) .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 211 _

  فصل
  على أنه لو كان لأبي بكر إنفاق على ما تدعيه الجهال ، لوجب أن يكون له وجه معروف ، وكان يكون ذلك لوجه ظاهر مشهور ، كما اشتهرت صدقة أمير المؤمنين ( عليه السلام )بخاتمه ، وهو في الركوع حتى علم به الخاص ، والعام ، وشاعت نفقته بالليل والنهار والسر والاعلان ، ونزول بها محكم القرآن ، ولم تخف صدقته التي قدمها بين يدي نجواه ، حتى أجمعت عليها أمة الإسلام، وجاء بها صريح القول في البيان ، واستفاض إطعام المسكين (1) واليتيم والأسير ، وورد الخبر به مفصلا في { هل أتى على الإنسان }(2).
  فكان أقل ما يجب في ذلك أن يكون كشهرة نفقة عثمان بن عفان في جيش العسرة ، حتى لم يختلف في ذلك من أهل العمل اثنان (3) ، ولما خالف الخبر في إنفاق أبي بكر ما ذكرناه ، وكان مقصورا على ابنته خاصة ، ويكفي في ما شرحناه ، ومضافا إلى من في طريقه من أمثال الشعبي وأشباهه المعروفين بالعصبية لأبي بكر وعمر وعثمان ، والتقرب إلى بني أمية بالكذب والتخرص والبهتان ، مما يدل على فساده بلا ارتياب .

---------------------------
(1) ( حتى أجمعت... المسكين ) ليس في ح ، وفي ب : وصدقته حين أجمع المسكين.
(2) سورة الإنسان 76 : 1.
(3) ( فكان أقل... اثنان ) ليس في ب ، ح ، م .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 212 _

  فصل
  مع أن الله تعالى قد أخبر في ذلك بأنه المتولي عناء نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن سائر الناس ، ورفع الحاجة عنه في الدين والدنيا إلى أحد من العباد ، فقال تعالى { ألم يجدك يتيما فآوى * ووجدك ضالا فهدى * ووجدك عائلا فأغنى }(1).
  فلو جاز أن يحتاج مع ذلك إلى نوال أحد من الناس لجاز أن يحتاج في هداه إلى غير الله تعالى ، ولما ثبت أنه غني في الهدى بالله وحده، ثبت أنه غني في الدنيا بالله تعالى دون الخلق كما بيناه .
  فصل
  على أنه لو كان فيما عدده الله تعالى من أشياء يتعدى الفضل إلى أحد من الناس ، فالواجب أن تكون مختصة بآبائه ( عليهم السلام ) ، وبعمه أبي طالب رحمة الله، وولده عليه السلام، وبزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها ، ولم يكن لأبي بكر في ذلك حظ ولا نصيب على كل حال .
  وذلك أن الله تعالى آوى يتمه بجده عبد المطلب ، ثم بأبي طالب من بعه ، فرباه وكفله صغيرا ، ونصره وواساه ووقاه من أعدائه بنفسه وولده كبيرا ، وأغناه بما رزقه الله من أموال آبائه رحمهم الله تعالى وتركاتهم وهم ملوك العرب ، وأهل الثروة منهم واليسار بلا اختلاف ، ثم ما أفاده من

---------------------------
(1) سورة الضحى 93 : 6 ـ 8.

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 213 _

  بعده في خروجه إلى الشام من الأموال، وما كان انتقل إليه من زوجته خديجة بنت خويلد .
  وقد علم جميع أهل العلم ما كانت عليه من سعة الأحوال، وكان لها من جليل الأموال، وليس لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهم من سائر الناس سوى من سميناه سبب لشئ من ذلك ، يتعدى به فضلهم إليه (1) على ما بيناه ، بل كانوا فقراء فأغناهم الله بنبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكانوا ضلالا فدعاهم إلى الهدى، ودلهم على الرشاد، وكانوا أذلة فتوصلوا بإظهار اتباع نبوته إلى الملك والسلطان .
  وهب أن في هؤلاء المذكورين من كان له قبل الإسلام من المال ما ينسب به إلى اليسار ، وفيهم من له شرف بقبيلة يبين به ممن عداه ، هل لأحد من سامعي الأخبار وأهل العلم بالآثار ريب في فقر أبي بكر وسوء حاله في الجاهلية والإسلام ، ورذالة قبيلته من قريس كلها ، وظهور المسكنة في جمهورهم على الاتفاق ؟
  ولو كان له من السعة ما يتمكن به من صلة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والإنفاق عليه ونفعه بالمال ، كما ادعاه الجاهلون ، لا غنى أباه ببعضه عن النداء على مائة ة عبد الله بن جدعان(2) بأجرة على ذلك(3) بما يقيم به

---------------------------
(1) في أ : فضل منه إليهم ، وفي ب : فضله إليهم .
(2) في أ : لينتال .
(3) ( بأجرة على ذلك ) ليس في م .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 214 _

  رمقه ، ويستر به عورته بين الناس ، ولارتفع هو عن الخياطة وبيع الخلقان (1) بباب بيت الله الحرام إلى مخالطة وجوه التجار ، ولكان غنيا به في الجاهلية عن تعليم الصبيان ومقاساة (2) الأطفال في ضرورته إلى ذلك لعدم ما يغنيه عنه ما وصفناه ، وهذا دليل على ضلال الناصبة فيما ادعوه له من الإنفاق للمال ، وبرهان يوضح عن كذبهم فيما أضافوه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مدحه على الإنفاق.
  فصل آخر
  مع أنه لو ثبت لأبي بكر نفقة مال على ما ظنه الجهال لكان خلو القرآن من مديح له على الاجماع وتواتر الأخبار ، مع نزوله بالمدح على اليسير من ذوي الإنفاق ، دليلا على أنه لم يكن لوجه الله تعالى ، وأنه يعتمد بالسمعة والرياء ، وكان فيه ضرب من النفاق .
  وإذا ثبت أن الله تعالى عدل كريم لا ينوه بذكر اليسير من طاعاته ، ويخفي الكثير ، ولا يمدح الصغير ، ويهمل الكبير ، ففي خلو القرآن من ذكر إنفاق أبي بكر أو مدحه له بذكر الإنفاق على الشرط الذي وصفناه أوضح برهان على ما قدمناه .
  ثم يقال لهم : قد علمت الكافة أن نفقات الصحابة على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنما كانت في السلاح والكراع ومعونة الجهاد وصلات

---------------------------
(1) الخلقان : جمع خلق ، الثوب البالي ، ( الصالح ـ خلق 4 : 1472 ) .
(2) المقاساة : المكابدة والمعالجة ، ( تاج العروس ـ قسا ـ 10 : 293 ) .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 215 _

  فقراء المسلمين، وتزويد المرملين (1) ، ومعونة المساكين ، ومواساة المهاجرين ، وأن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يسترفد (2) أحدا منهم ولا استوصله ، ولا جعل عليه قسما من مؤنته ، ولا التمس منهم شيئا أهله وعشيرته ، وقد حرم الله تعالى عليه وعلى أهل بيته أكل الصدقات، وأسقط عن كافتهم الأجر له على تبليغهم عن الله تعالى الرسالات ، ونصب الحجج لهم وإقامة البينات، في دعائهم إلى الأعمال الصالحات ، واستنقاذهم بلطفه من المهلكات، وإخراجهم بنور الحق عن الظلمات.
  وكان صلى ا لله عليه وآله من أزهد الناس في الدنيا وزينتها، ولم يزل مخرجا لما في يديه من مواريث آبائه ، وما أفاء الله تعالى من الغنائم والأنفال، وجعله له خالصا دون الناس إلى فقراء أصحابه ، وذوي الخلة من أتباعه حتى استدان من المال (3) ما قضاه أمير المؤمنين ( عليه السلام )بعد وفاته ، وكان هو المنجز لعداته (4) فأي وجه مع ما وصفناه من حاله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لإنفاق أبي بكر على ما ادعوه، لولا أن الناصبة لا تأنف من الجهل ولا تستحيي من العناد ؟!

---------------------------
(1) المرمل : الذي نفد زاده ، ( الصحاح ـ رمل ـ 4 : 1713 ) .
(2) الاسترفاد : الاستعانة ، ( مجمع البحرين ـ رفد ـ 3 : 54 ) .
(3) في ب : الشرع بدل ( المال ).
(4) تهذيب الآثار 1 : 60 ، فردوس الأخبار 3 : 61 / 4170 ، شواهد التنزيل 1 : 373 ؟ 515 و 516 ، وأخرجه في كنز العمال 7 : 249 / 18782 عن ابن أبي شيبة وقال : رجاله ثقات .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 216 _

  فصل
  مع أنا لا نجدهم يحيلون على وجه فيما يذكرونه من إنفاق أبي بكر ، إلا على ما ادعوه من ابتياعه بلال بن حمامة (1) من مواليه ، وكانوا عزموا بعد الإيمان ليردوه عنه إلى الكفر والطغيان .
  وهذا أيضا من دعاويهم الباطلة المتعرية من الحجج والبرهان، وهو راجع في أصله إلى عائشة ، وقد تقدم من القول فيما ترويه وتضيفه إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ما يغني عن الزيادة فيه والتكرار.
  ولو ثبت على غاية أمانيهم في الضلال لما كان مصححا لروايتهم مدح أبي بكر عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وإخباره بانتفاعه بنفقته عليه ومواساته بالمال ، لأن بلالا لم يكن ولدا للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولا أخا ولا والدا ، ولا قريبا ولا نسيبا ، فيكون خلاصه من العذاب بمال أبي بكر نافعا للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولا مختصا به دون سائر أهل الإسلام .
  ولو تعدى ما خص بلالا من الانتفاع بمال أبي بكر إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، لموضع إيمانه برسالته ، وإقراره بنبوته ولكونه في جملة أصحابه، لتعدى ذلك إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وجميع ملائكة الله تعالى وأنبيائه وعباده الصالحين، لأن الإيمان برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتضمن الإيمان بجميع النبيين والملائكة والمؤمنين والصديقين والشهداء

---------------------------
(1) هو بلال بن رباح ، وحمامة أمه ، مؤذن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، توفي بدمشق في الطاعون سنة (18) وقيل غير ذلك ، أنظر ترجمته في رجال الكشي : 38 / 79 ، رجال الطوسي : 8 / 4 ، معجم رجال الحديث 3 : 364 ، سير أعلام النبلاء 1 : 347 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 217 _

  والصالحين ، وقد انكشف عن جهالات الناصبة وتجرئهم في بدعهم ، وضعف بصائرهم ، وسخافة عقولهم ، ومن الله نسأل التوفيق.
  فصل
  على أن الثابت من الحديث في مح النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خديجة بنت خويلد رضي الله عنها دون أبي بكر ، والظاهر المشهور من انتفاع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمالها ، يوضح عن صحته واختصاصها به دون من ادعى له بالبهتان ، وقد اشترك في نقل الحديث الفريقان من الشيعة والحشوية ، وجاء مستفيضا عن عائشة بنت أبي بكر على البيان.
  فروى عبد الله بن المبارك ، عن مجالد (1) ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا ذكر خديجة أحسن الثناء عليها ، فقلت له يوما : ما تذكر منها وقد أبدلك الله خيرا منها ؟!
  فقال : ما أبدلني الله خيرا منها ، صدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله الولد منها ولم يرزقني من غيرها )(2) وهذا يدل على بطلان حديثها في مدح أبي بكر بالمواساة ، ويوجب تخصيصها بذلك دونه ، ويوضح عن بطلان ما تدعيه الناصبة أيضا من

---------------------------
(1) في ب ، ح ، م : مجاهد ، وهو تصحيف صوابه ما في المتن من نسخة أو المصادر، وانظر ترجمة مجالد بن سعيد ، في طبقات ابن سعد 6 : 243 ، تهذيب التهذيب 10 : 39 ، سير أعلام النبلاء 6 : 284 .
(2) مسند أحمد بن حنبل 6 : 117 عن شيخه علي بن إسحاق ، عن ابن المبارك ، سير أعلام النبلاء 2 : 117 ، كنز العمال 12 : 132 .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 218 _

  سبق أبي بكر جماعة الأمة إلى الإسلام ، إذ فيه شهادة من الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتقدم إيمان خديجة رحمها الله على سائر الناس .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 219 _

  مسألة أخرى
  فإن قالوا : فما تصنعون في الخبر المروي عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال لأصحابه : ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر )(1)؟
  أليس هذا نص منه على إمامتهما ، وإيجاب على الأمة جميعا فرض طاعتهما ، وفي ذلك أدل دليل على طهارتهما وصوابهما فيما صنعاه من التقدم على أمير المؤمنين، وصحة خلافتهما ؟!
  جواب
  قيل لهم : هذا حديث موضوع ، والخلل في سنده مشهور ، والتناقض في معناه ظاهر ، وحاله في متضمنه لائحة للمعتبر الناظر.
  فأما خلل إسناده : فإنه معزى إلى عبد الملك بن عمير (2) ، عن

---------------------------
(1) مسند أحمد بن حنبل 5 : 382 و 385 و 399 و 402 ، سنن ابن ماجة 1 : 37 / 97 ، سنن الترمذي 5 : 609 / 3662 ، مستدرك الحاكم 3 : 75 ، مصابيح السنة 4 : 162 / 4742 و 218 / 4889 .
(2) قال الشيخ الطوسي في تلخيص الشافي 3 : 33 : كان فاسقا جريئا على الله، وهو الذي قتل عبد الله بن يقطر رسول الحسين بن علي إلى مسلم بن عقيل ... وكان مروانيا .
=>

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 220 _

  ربعي بن حراش ، ثم من بعده تارة يعزى إلى حذيفة بن اليمان ، وتارة إلى حفصة بنت عمر بن الخطاب .
  فأما عبد الملك بن عمير فمن أبناء الشام ، وأجلاف محاربي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، المشتهرين بالنصب والعداوة له ولعترته ، ولم يزل يتقرب إلى بني أمية بتوليد الأخبار الكاذبة في أبي بكر وعمر ، والطعن في أمير المؤمنين ( عليه السلام )حتى قلدوه القضاء ، وكان يقبل فيه الرشا ، ويحكم بالجور والعدوان ، وكان متجاهرا بالفجور والعبث بالنساء ، فمن ذلك أن الوليد بن سريع خاصم أخته كلثم بنت سريع إليه في أموال وعقار ، وكانت كلثم من أحسن نساء وقتها وأجملهن فأعجبته ، فوجه القضاء على أخيها تقربا إليها ، وطمعا فيها ، فظهر ذلك عليه واستفاض عنه ، فقال فيه هذيل الأشجعي (1) :
أتــاه  ولـيـد بـالـشهود iiيـقودهم      على ما ادعى من صامت المال والخول
يـسـوق  إلـيـه كـلـثما iiوكـلامها      شـفاء  مـن الـداء الـمخامر والخبل
فـما بـرحت تـومي إلـيه iiبـطرفها      وتـومض  (2) أحيانا إذا خصمها iiغفل


---------------------------
<=
وقال أحمد بن حنبل : مضطرب الحديث جدا مع قلة روايته ، وذكر إسحاق الكوسج عن أحمد أنه ضعفه جدا ، أنظر ترجمته في الجرح والتعديل : 5 : 360 ، تهذيب التهذيب 6 : 411 ، سير أعلام النبلاء 5 : 438 .
(1) هو هذيل بن عبد الله بن سالم بن هلال الأشجعي ، شاعر كوفي معروف ، وله هجاء في ثلاثة من قضاة الكوفة : عبد الملك بن عمير ، الشعبي ، ابن أبي ليلى ، أنظر جمهرة أنساب العرب : 249 ، الأعلام للزركلي 9 : 72.
(2) أومضت المرأة : سارقت النظر ، ( الصحاح ـ ومض ـ 3 : 1113 ) .

الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) _ 221 _

وكــان لـهـا دل وعـين iiكـحيلة      فـأدلت بـحسن الـدل منها وبالكحل
فـأفتنت الـقبطي حـتى قـضى لها      بـغير قـضاء الله في المال iiوالطول
فـلو كـان من في القصر يعلم iiعلمه      لـما اسـتعمل القبطي فينا على عمل
لـه  حين يقضي للنساء تخاوص (1)ii      وكـان  ومـا منه التخاوص iiوالحول
إذا  ذات دل كـلـمـته iiبـحـاجـة      فـهم  بـأن يـقضي تنحنح أو iiسعل
وبــرق  عـيـنيه ولاك iiلـسـانه      يرى كل شئ ما خلا سخطها خبل (2)

  ثم الذي عزاه إليه هو ربعي بن حراش عند أصحاب الحديث من المعدودين في جملة الروافض المستهزئين على أبي بكر وعمر (3) ، وإضافته إليه ـ مع ما وصفناه ـ ظاهرة البطلان ، مع أن المشهور عن حذيفة بن اليمان في أصحاب العقبة يضاد روايته هذا الحديث عنه.
  وأما روايته عن حفصة بنت عمر بن الخطاب فهي من البرهان على فساده ، ووجوب سقوطه في باب الحجاج ، لأن حفصة متهمة فيما ترويه من فضل أبيها وصاحبه ، ومعروفة بعداوتها لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وتظاهرها ببغضه وسبه والاغراء به ، والانحطاط في هوى أختها عائشة بنت أبي بكر في حربه والتألب عليه ، ثم لاجترارها بما يتضمنه أفضل وجوه النفع إليهما به ، وقد سلف (4) كتاب في هذا المعنى ما يستغنى به

---------------------------
(1) تخاوص : غض من بصره شيئا ، وهو في كل ذلك يحدق النظر كأنه يقوم سهما ، ( لسان العرب ـ خوص 7 : 31 ) .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 : 62 .
(3) أنظر تاريخ بغداد 8 : 433 .
(4) زاد في ب : منا .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 222 _

  حقهم ، ولم يقل ذلك في شئ من الأشياء غير ذلك ، وإنما أمر العامة أن يبلغوا العامة حجة من لا يبلغ عن رسول الله جميع ما بعثه الله به غيرهم ، ألا ترى يا طلحة أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لي ـ وأنتم تسمعون -: ( يا أخي إنه لا يقضي عني ديني ولا يبرئ ذمتي غيرك ، تبرئ ذمتي ، وتؤدي ديني وغراماتي ، وتقاتل على سنتي ) فلما ولي أبو بكر قضى عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عداته ودينه ، فاتبعتموه جميعا ، فقضيت دينه وعداته ، وقد أخبرهم أنه لا يقضي عنه دينه وعداته غيري ، ولم يكن ما أعطاهم أبو بكر قضاء لدينه وعداته ، وإنما كان الذي قضى من الدين والعدة هو الذي أبرءه منه ، وإنما بلغ عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جميع ما جاء به من عند الله من بعد الأئمة الذين فرض الله في الكتاب طاعتهم ، وأمر بولايتهم ، الذين من أطاعهم فقد أطاع الله، ومن عصاهم فقد عصى الله.
  فقال طلحة: ( فرجت عني ، ما كنت أدري ما عنى بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى فسرته لي ، فجزاك الله يا أبا الحسن عن جميع أمة محمد الجنة، يا أبا الحسن شيئا أريد أن أسألك عنه ، رأيتك خرجت بثوب مختوم ، فقلت: أيها الناس إني لم أزل مشتغلا برسول الله بغسله ، وكفنه ، ودفنه ، ثم اشتغلت بكتاب الله حتى جمعته ، فهذا كتاب الله عندي مجموعا لم يسقط حتى حرف واحد ، ولم أر ذلك الذي كتبت وألفت ، وقد رأيت عمر بعث إليك أن ابعث به إلي فأبيت أن تفعل فدعا عمر الناس فإذا شهد رجلان على آية كتبها ، وإن لم يشهد عليها غير رجل واحد أرجأها (1) فلم يكتب ، فقال عمر: وأنا أسمع إنه قد قتل يوم اليمامة قوم كانوا يقرؤون قرآنا لا يقرأه غيرهم، فقد ذهب وقد جاءت شاة إلى صحيفة وكتاب يكتبون فأكلتها وذهب ما فيها والكاتب يومئذ عثمان ، وسمعت عمر وأصحابه الذين ألفوا ما كتبوا على عهد عمر وعلى عهد عثمان يقولون: إن الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة، وإن النور ستون ومائة آية، والحجر تسعون ومائة آية ، فما هذا ؟
  وما يمنعك يرحمك الله أن تخرج كتاب الله إلى الناس، وقد عهد عثمان حين أخذ

---------------------------
(1) أرجأها: أخرها.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 223 _

  ما ألف عمر فجمع له الكتاب، وحمل الناس على قراءة واحدة، فمزق مصحف أبي بن كعب ، وابن مسعود ، وأحرقهما بالنار ؟
  فقال له علي ( عليه السلام ) ، يا طلحة إن كل آية أنزلها الله جل وعلا على محمد عندي بإملاء رسول الله وخط يدي ، وتأويل كل آية أنزلها الله على محمد وكل حرام وحلال أو حد أو حكم أو شئ تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة مكتوب بإملاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخط يدي ، حتى أرش الخدش (1).
  قال طلحة: كل شئ من صغير وكبير أو خاص أو عام كان أو يكون إلى يوم القيامة فهو عندك مكتوب ؟
  قال: نعم وسوى ذلك ، إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أسر إلي في مرضه مفتاح ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب ، ولو أن الأمة منذ قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اتبعوني وأطاعوني لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، يا طلحة ألست قد شهدت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين دعا بالكتف ليكتب فيه ما لا تضل أمته، فقال صاحبك إن نبي الله يهجر (2)، فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتركها ؟ فقال ، بلى قد شهدته .

---------------------------
(1) الأرش: الدية.
(2) في شرح النهج لابن أبي الحديد ص 20 من الج 2 مسندا عن علي بن عبد الله بن العباس عن أبيه قال: ـ لما حضرت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الوفاة ـ وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ـ قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): ( إئتوني بكتاب وصحيفة ، أكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي ) فقال عمر: كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم قال: عندنا القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف من في البيت واختصموا فمن قائل يقول: ( القول ما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومن قائل يقول: ) القول ما قال عمر ( فلما أكثروا اللغط واللغو والاختلاف ، غضب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال: ( قوموا إنه لا ينبغي لنبي أن يختلف عنده هكذا ) فقاموا ، فمات رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ذلك اليوم ، ـ فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية: ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 224 _

  قال: فإنكم لما خرجتم أخبرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالذي أراد يكتب ويشهد عليه العامة ، فأخبره جبرئيل أن الله قد قضى على أمتك الاختلاف والفرقة ثم دعا بصحيفة فأملى علي ما أراد أن يكتب في الكتف، وأشهد على ذلك ثلاثة رهط: سلمان ، وأبا ذر ، والمقداد ، وسمى من يكون من أئمة الهدى الذين أمر الله بطاعتهم إلى يوم القيامة (1) فسماني أولهم، ثم ابني هذا وأشار بيده إلى الحسن والحسين ، ثم تسعة من ولد ابني الحسين، كذلك كان يا أبا ذر ويا مقداد ؟ فقاما ثم قالا: نشهد بذلك على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  فقال طلحة: والله لقد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول: ( ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق ولا أبر عند الله من أبي ذر ) وأنا أشهد أنهما لم يشهدا إلا بالحق ، ولأنت عندي أصدق وأبر منهما .
  ثم أقبل علي عليه السلام فقال: اتق الله يا طلحة وأنت يا زبير ، وأنت يا سعد ، وأنت يا بن عوف ، اتقوا الله وآثروا رضاه ، واختاروا ما عنده ، ولا تخافوا في الله لومة لائم .

---------------------------
<=
قال ابن أبي الحديد قلت: هذا الحديث قد خرجه الشيخان: محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج القشيري في صحيحيهما ، واتفق المحدثون كافة على روايته.
(1) ينابيع المودة ص 440 قال:
وفي فرائد السمطين بسنده عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
قدم يهودي يقال له: ( الأعتل ) فقال: يا محمد أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين، فإن أجبتني عنها أسلمت على يديك ، قال: ( سل يا أبا عمارة ) فقال: يا محمد صف لي ربك ... إلى أن قال: صدقت فاخبرني عن وصيك من هو؟ فما من نبي إلا وله وصي ، وإن نبينا موسى بن عمران أوصى يوشع بن نون ، فقال: ( إن وصي علي بن أبي طالب وبعده سبطاي الحسن والحسين ، تتلوه تسعة أئمة من صلب الحسين ) ، قال:
يا محمد فسمهم لي قال: ( إذا مضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى على فابنه محمد، فإذا مضى محمد فابنه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، فإذا مضى موسى فابنه علي، فإذا مضى على فابنه محمد، فإذا مضى محمد فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه الحسن، فإذا مضى الحسن فابنه الحجة محمد المهدي فهؤلاء اثنى عشر ) الخ.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 225 _

  ثم قال طلحة: لا أراك يا أبا الحسن أجبتني عما سألتك عنه من أمر القرآن إلا تظهره للناس ؟
  قال: يا طلحة عمدا كففت عن جوابك ، فاخبرني عما كتب عمر وعثمان أقرآن كله أم فيه ما ليس بقرآن ؟ قال طلحة: بل قرآن كله .
  قال: إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار، ودخلتم الجنة، فإن فيه حجتنا وبيان حقنا، وفرض طاعتنا .
  قال طلحة حسبي أما إذا كان قرآن فحسبي ، ثم قال طلحة: فاخبرني عما في يدك من القرآن وتأويله، وعلم الحلال والحرام ، إلى من تدفعه ومن صاحبه بعدك؟ قال: إن الذي أمرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن أدفعه إليه وصبي وأولي الناس بعدي بالناس ابني الحسن، ثم يدفعه ابني الحسن إلى ابني الحسين، ثم يصير إلى واحد بعد واحد من ولد الحسين حتى يرد آخرهم حوضه ، هم مع القرآن لا يفارقونه والقرآن معهم لا يفارقهم ، أما إن معاوية وابنه سيليان بعد عثمان، ثم يليها سبعة من ولد الحكم بن أبي العاص، واحد بعد وأحد ، تكملة اثنا عشر أمام ضلالة، وهم الذين رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على منبره: يردون الأمة على أدبارهم القهقري (1) عشرة منهم من بني أمية ورجلان أسسا ذلك لهم وعليهما مثل جميع أوزار هذه الأمة إلى يوم القيامة .
  وفي رواية أبي ذر الغفاري (2) أنه قال: لما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جمع

---------------------------
(1) تفسير الطبري ج 15 ص 73 والقرطبي ج 10 ص 283 من طريق سهل ابن سعد قال:
رأى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بني أمية ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكا حتى مات ، وأنزل الله تعالى: ( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ، الأسراء: 60
(2) أبو ذر الغفاري ، واسمه ، جندب ـ بالجيم المضمومة والنون الساكنة والدال غير المعجمة المفتوحة ، والباء المنقطة تحتها نقطة ـ بن جنادة ـ بالجيم المضمومة والنون
=>