اتفقت المذاهب الفقهية على أنّ المتعة كانت نكاحاً حلالاً أحلها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بوحي منه سبحانه في برهة من الزمن ، وإنّما اختلفوا في استمرار حليتها ، والشيعة الاِمامية على بقاء حليتها وعدم ورود أي نسخ عليها خلافاً للمذاهب الاَربعة فهي على التحريم البات قائلة بالنسخ.
ولما كانت الحلية من مختصات فقه الشيعة ، آثرنا أن نبحث عنها في إطار الكتاب والسنّة ، على وجه الاجمال ، حتى يقف القارىَ على أنّ القول بأصل تشريعها وعدم نسخها ممّا يثبته الكتاب والسنّة ، وانّ قول بعضهم بعدم تشريعها بتاتاً أو ادّعاء نسخها يضادّهما ، وسيوافيك أنّ لفيفاً من الصحابة والتابعين كانوا يفتون بجوازها وعدم نسخها ، وإنّما منع عنها عمر بن الخطاب لحافز نفسي أو اجتهاد شخصي لا دليل عليه وليس حجّة على الآخرين ، وقد قال بنظيره في متعة الحج التي كانت في زمن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) .
فأمّا زواج المتعة : فهو عبارة عن تزويج المرأة الحرّة الكاملة نفسها إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع ـ من نسب أو سبب أو رضاع أو احصان أو عدّة أو غير ذلك من الموانع الشرعية ـ بمهر مسمّى إلى أجل مسمّى بالرضا والاتّفاق ، فإذا
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 116 _
انتهى الاَجل تبين منه من غير طلاق ، ويجب عليها مع الدخول بها ـ إذا لم تكن يائسة ـ أن تعتد عدّة الطلاق إذا كانت ممّن تحيض وإلاّ فبخمسة وأربعين يوماً (1)
وولد المتعة ـ ذكراً كان أو أُنثى يلحق بالاَب ولا يدعى إلاّ به ، وله من الارث ما أوصانا اللّه سبحانه به في كتابه العزيز ، كما يرث من الا َُم ، وتشمله جميع العمومات الواردة في الآباء والاَبناء والا َُمّهات ، وكذا العمومات الواردة في الاخوة والاَخوات والاَعمام والعمّـات.
وبالجملة : المتمتّع بها زوجة حقيقة ، وولدها ولد حقيقة ، ولا فرق بين الزواجين : الدائم والمنقطع إلاّ أنّه لا توارث هنا ما بين الزوجين ، ولا قسمة ولا نفقة لها إلاّ أن تشترط ذلك في العقد ، كما أنّ له العزل عنها.
وهذه الفوارق الجزئية فوارق في الاَحكام لا في الماهية ، لاَنّ الماهية واحدة غير أنّ أحدهما موَقت والآخر دائم ، وانّ الاَوّل ينتهي بانتهاء الوقت والآخر ينتهي بالطلاق أو الفسخ.
وقد أجمع أهل القبلة على أنّه سبحانه شرّع هذا النكاح في صدر الاِسلام ، ولا يشك أحد في أصل مشروعيّته ، وانّما وقع الكلام في نسخه أو بقاء مشروعيته.
والاَصل في مشروعيته قوله سبحانه : (وحلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أصْلابِكُمْ وأنْ تَجْمَعُوا بينَ الا َُختَينِ إلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحيماً * والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللّهِ عَلَيكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذَلِكُمْ أنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحصِنِينَ غَيرَ مُسافِحينَ فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَريضةً ولا جُناحَ عَلَيكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعدِ الفَريضَةِ إنَّ اللّهَ كانَ عَليماً حَكيماً) (2).
---------------------------
(1) لاحظ الكتب الفقهية للشيعة الاِمامية في ذلك المجال.
(2) النساء : الآية 23 ـ 24.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 117 _
والآية ناظرة إلى نكاح المتعة وذلك لوجوه :
1 ـ الحمل على النكاح الدائم يستلزم التكرار بلا وجه : إنّ هذه السورة ، أي سورة النساء ، تكفّلت ببيان أكثر ما يرجع إلى النساء من الاَحكام والحقوق ، فذكرت جميع أقسام النكاح في أوائل السورة على نظام خاص ، أمّا الدائم فقد أشار إليه سبحانه بقوله : (وإِنْ خِفْتُمْ ألاَّ تُقْسِطُوا في اليَتامى فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ ورُباعَ فإنْ خِفْتُمْ ألاَّ تَعدِلُوا فَواحِدَةً ...) (1)
وأمّا أحكام المهر فقد جاءت في الآية التالية : (وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَـيءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَريئا) (2)
وقال سبحانه : (يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يحلُّ لَكُم أن تَرِثُوا النِّساءَ كرهاً ولا تَعضِلوهنَّ لِتذهَبوا بِبعضِ ما آتَيتموهُنّ َ... ) (3)
وقال سبحانه : (وإنْ أردتُمُ استبدالَ زَوجٍ مَكان زوجٍ وآتَيتُم إحداهُنَّ قِنطاراً فَلا تَأخذوا منهُ شَيئاً أتأْخُذونَهُ بُـهتاناً وإثماً مُبيناً) (4)
وأمّا نكاح الاِماء فقد جاء في قوله سبحانه : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أنْ
---------------------------
(1) النساء : الآية 3.
(2) النساء : الآية 4.
(3) النساء : الآية 19.
(4) النساء : الآية 20.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 118 _
يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُوَْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ المُوَْمِناتِ واللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ ولا مُتّخِذاتِ أخْدانٍ ... ) (1)
فقوله سبحانه : (مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيمانُكُمْ) إشارة إلى نكاح السيّد لاَمته ، الذي جاء في قوله سبحانه أيضاً : ( إلاّ علَى أَزْواجِهِمْ أوْ مَا مَلكَتْ أيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ... ) (2)
وقوله سبحانه : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ) إشارة إلى تزويج أمة الغير.
فإلى هنا تم بيان جميع أقسام النكاح فلم يبق إلاّ نكاح المتعة ، وهو الذي جاء في الآية السابقة ، وحمل قوله سبحانه : (فما استمتعتم) على الزواج الدائم.
وحمل قوله : (فآتوهنّ أُجورهُنّ) على المهور والصدقات مستلزم للتكرار ، وسيوافيك وجود نكاح المتعة في صدر الاِسلام ، ولا يصح للشارع السكوت عن حكمها.
فالناظر في السورة يرى أنّ آياتها تكفّلت ببيان أقسام الزواج على نظام خاص ولا يتحقّق ذلك إلاّ بحمل الآية على نكاح المتعة كما هو ظاهرها أيضاً.
2 ـ تصريح جماعة من الصحابة بشأن نزولها : ذكرت أُمّة كبيرة من أهل الحديث نزولها فيها ، وينتهي نقل هوَلاء إلى أمثال ابن عباس ، وأُبي بن كعب ، وعبد اللّه بن مسعود ، وجابر بن عبد اللّه الاَنصاري ، وحبيب بن أبي ثابت ، وسعيد بن جبير ، إلى غير ذلك من رجال الحديث الذين لا يمكن اتهامهم بالوضع والجعل.
وقد ذكر نزولها من المفسّـرين والمحدّثين :
إمام الحنابلة أحمد بن حنبل في مسنده (1)
وأبو جعفر الطبري في تفسيره (2)
وأبو بكر الجصّاص الحنفي في أحكام القرآن (3)
وأبو بكر البيهقي في السنن الكبرى (4)
ومحمود بن عمر الزمخشري في الكشاف (5)
وأبو بكر بن سعدون القرطبي في تفسير جامع أحكام القرآن (6)
وفخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب (7)
إلى غير ذلك من المحدّثين والمفسّـرين الذين جاءوا بعد ذلك إلى عصرنا هذا ، ولا نطيل الكلام بذكرهم.
وليس لاَحد أن يتّهم هوَلاء الاَعلام بذكر ما لا يفتون به ، وبملاحظة هذه القرائن لا يكاد يشكّ في ورودها في نكاح المتعة.
ومعنى الآية : انّ اللّه تبارك وتعالى شرّع لكم نكاح ما وراء المحرّمات لاَجل
---------------------------
(1) أحمد : المسند : 4|436.
(2) الطبري : التفسير : 5|9.
(3) أحكام القرآن : 2|178.
(4) السنن الكبرى : 7|205.
(5) الكشاف : 1|360.
(6) جامع أحكام القرآن : 5|13.
(7) مفاتيح الغيب : 3|267.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 120 _
أن تبتغوا بأموالكم ما يحصنكم ويصون عفّتكم ويصدّكم عن الزنا ، فإذا تزوجتم استمتاعاً فآتوهنّ أُجورهنّ.
والغاية من النكاح مطلقاً هو صيانة النفس ، وهي موجودة في جميع الاَقسام ، النكاح الدائم ، والموَقت والزواج بأمة الغير المذكورة في هذه السورة من أوّلها إلى الآية 25.
هذا هو الذي يفهمه كلّ انسان من ظواهر الآيات غير أنّ من لا يروقه الاَخذ بظاهر الآية : (فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أُجورهنّ) لرواسب نفسية أو بيئية حاول أن يطبق معنى الآية على العقد الدائم ، وذكر في المورد شبهات ضعيفة لا تصمد أمام النقاش نجملها بما يلي : الشبهة الا َُولى : إنّ الهدف من تشريع النكاح هو تكوين الا َُسرة وإيجاد النسل ، وهو يختصّ بالنكاح الدائم دون المنقطع الذي لا يترتّب عليه إلاّ إرضاء القوّة الشهوية وصبّ الماء وسفحه (1)
ويجاب عنها : بأنّه خلط بين الموضوع والفائدة المترتّبة عليه ، وما ذكر إنّما هو من قبيل الحكمة ، وليس الحكم دائراً مدارها ، لضرورة أنّ النكاح صحيح وإن لم يكن هناك ذلك الغرض ، كزواج العقيم واليائسة والصغيرة.
بل أغلب المتزوجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلاّ قضاء الوطر واستيفاء الشهوة من طريقها المشروع ، ولا يخطر ببالهم طلب النسل أصلاً وإن حصل لهم قهراً ، ولا يقدح ذلك في صحّة زواجهم.
---------------------------
(1) وسنعود إلى هذه الشبهة في نقد كلام (الدرينيّ) أيضاً.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 121 _
ومن العجب حصر فائدة المتعة في قضاء الوطر ، مع أنّها كالدائم قد يقصد منها النسل والخدمة وتدبير المنزل وتربية الاَولاد والارضاع والحضانة وإن كانت قليلة.
ونسأل المانعين الذين يعتبرون نكاح المتعة ، مخالفاً للحكمة ، التي من أجلها شرّع النكاح ، نسألهم عن الزوجين اللذين يتزوّجان نكاح دوام ، ولكن ينويان الفراق بالطلاق بعد شهرين ، فهل هذا نكاح صحيح أو لا ؟ لا أظن أنّ فقيهاً من فقهاء الاِسلام يمنع ذلك إلاّ إذا أفتى بغير دليل ولا برهان ، وبهذا الشكل يتعين الجزم بأصحّية هذا النكاح ، فأي فرق يكون حينئذ بين المتعة وهذا النكاح الدائم سوى أنّ المدّة مذكورة في الاَوّل دون الثاني ؟
يقول صاحب المنار : إنّ تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنيّة الطلاق ، وإن كان الفقهاء يقولون إنّ عقد النكاح يكون صحيحاً إذا نوى الزوج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد ، ولكن كتمانه إيّاه يعدّ خداعاً وغشّاً وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت (1)
أقول : نحن نفترض أنّ الزوجين رضيا بالتوقيت لبّاً ، حتى لا يكون هناك خداع وغشّ ، فهو صحيح بلا اشكال.
الشبهة الثانية : إنّ تسويغ النكاح الموَقت ينافي ما تقرّر في القرآن كقوله عزّ وجلّ في صفة الموَمنين : ( والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إلاّ عَلَى أزواجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ مَلُومينَ*فَمَنِ ابْتَغْى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُون ) (2)
والمراد من قوله : (من ابتغى) هم المتجاوزون ما أحلّه اللّه لهم إلى ما حرّمه عليهم ، والمرأة المتمتّع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف.
إلاّ أنّه يرد عليها : انّها دعوى بلا دليل ، فإنّها زوجة ولها أحكام ، وعدم وجود النفقة والقسمة لا يخرجانها عن الزوجيّة ، فإنّ الناشزة زوجة ليست لها النفقة وحقّ القسمة ، ومثلها الصغيرة ، والعجب أن يستدل بعدم وجود الاَحكام على نفي الماهية ، فإنّ الزوجيّة رابطة بين الزوجين تترتّب عليها جملة من الاَحكام وربّما تختص بعض الاَحكام ببعض الاَقسام.
الشبهة الثالثة : إنّ المتمتّع في النكاح الموَقت لا يقصد الاحصان ، بل يكون قصده المسافحة ، وإن كان هناك نوع ما من الاحصان بالنسبة إليه حيث يمنعها من التنقّل في دِمنِ الزنا ، فإنّه لا يكون فيه شيء من الاِحصان بالنسبة إلى المرأة التي توَجر نفسها كل مدة من الزمن لرجل فتكون كما قيل : كرة حُذِفْت بصوالجة فتلقّفها رجل رجـل (1)
ويرد على هذه الشبهة : انّه من أين وقف على أنّ الاحصان في النكاح الموَقّت يختص بالرجل دون المرأة ، فإنّا إذا افترضنا كون العقد شرعياً ، فكل واحد من الطرفين يُحصن نفسه من هذا الطريق ، وإلاّ فلا محيص عن التنقل في دمن
---------------------------
(1) المنار : 5|13.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 123 _
الزنا ، والذي يصون الفتى والفتاة عن البغي أحد الا َُمور الثلاثة :
1 ـ النكاح الدائم.
2 ـ النكاح الموَقّت بالشروط الماضية.
3 ـ كبت الشهوة الجنسية.
فالاَوّل ربّما يكون غير ميسور خصوصاً للطالب والطالبة اللذين يعيشان بمنح ورواتب مختصرة يجريها عليهما الوالدان أو الحكومة ، وكبت الشهوة الجنسية أمر شاق لا يتحمّله إلاّ الاَمثل فالاَمثل من الشباب والمثلى من النساء ، وهم قليلون ، فلم يبق إلاّ الطريق الثاني ، فيحصنان نفسهما عن التنقّل في بيوت الدعارة.
إنّ الدين الاِسلامي هو الدين الخاتم ، ونبيّه خاتم الاَنبياء ، وكتابه خاتم الكتب ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فلا بد أن يضع لكل مشكلة اجتماعية حلولاً شرعية ، يصون بها كرامة الموَمن والموَمنة ، وما المشكلة الجنسية عند الرجل والمرأة إلاّ إحدى هذه النواحي التي لا يمكن للدين الاِسلامي أن يهملها ، وعندئذ يطرح هذا السوَال نفسه : ماذا يفعل هوَلاء الطلبة والطالبات الذين لا يستطيعون القيام بالنكاح الدائم ، وتمنعهم كرامتهم ودينهم عن التنقّل في بيوت الدعارة والفساد ، والحياة المادية بجمالها توَجّج نار الشهوة في نفوسهم ؟ فمن المستحيل عادة أن يصون نفسه أحد إلاّ من عصمه اللّه ، فلم يبق طريق إلاّ زواج المتعة ، الذي يشكّل الحل الاَنجح لتلافي الوقوع في الزنا ، وتبقى كلمة الاِمام علي بن أبي طالب ترن في الآذان
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 124 _
محذّرة من تفاقم هذا الاَمر عند إهمال العلاج الذي وصفه المشرّع الحكيم له ، حيث قال ـ عليه السّلام ـ : ( لولا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلاّ شقي أو شقيّة ).
وأمّا تشبيه المتعة بما جاء في الشعر فهو يعرب عن جهل الرجل بحقيقة نكاح المتعة وحدودها ، فإنّ ما جاء فيه هي المتعة الدورية التي ينسبها الرجل (1) وغيره إلى الشيعة ، وهم براء من هذا الاِفك ، إذ يجب على المتمتّع بها بعد انتهاء المدّة الاعتداد على ما ذكرنا ، فكيف يمكن أن توَجّر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل ؟ ! سبحان اللّه ما أجرأهم على الكذب على الشيعة والفرية عليهم ، وما مضمون الشعر إلاّ جسارة على الوحي والتشريع الاِلهي ، وقد اتّفقت كلمة المحدّثين والمفسّـرين على التشريع ، وأنّه لو كان هناك نهي أو نسخ فإنّما هو بعد التشريع والعمل.
الشبهة الرابعة : إنّ الآية منسوخة بالسنّة ، واختلفوا في زمن نسخها على أقوال شتّى :
1 ـ أُبيحت ثمّ نهي عنها عام خيبر.
2 ـ ما أُحلّت إلاّ في عمرة القضاء.
3 ـ كانت مباحة ونهي عنها في عام الفتح .
4 ـ أُبيحت عام أوطاس ثمّ نهي عنها(2)
---------------------------
(1) لاحظ كتابه : السنّة والشيعة : 65 ـ 66.
(2) لاحـظ للوقـوف على مصـادر هذه الاَقـوال مسائـل فقهـية : لشـرف الدين : 63 ـ 64 ، الغدير : 6|225 ، أصل الشيعة وأُصولها : 171 ، والاَقوال في النسخ أكثر مما جاء في المتن.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 125 _
وهذه الاَقوال تنفي الثقة بوقوع النسخ ، كما أنّ نسخ القرآن بأخبار الآحاد ممنوع جدّاً ، وقد صحّ عن عمران بن الحصين انّه قال : (إنّ اللّه أنزل المتعة وما نسخها بآية أُخرى ، وأمرنا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمتعة وما نهانا عنها ، ثمّ قال رجل برأيه) يريد به عمر بن الخطاب ، وسيوافيك مصدره.
إنّ الخليفة الثاني لم يدّع النسخ وإنّما أسند التحريم إلى نفسه ، ولو كان هناك ناسخ من اللّه عزّ وجلّ أو من رسوله ، لاَسند التحريم إليهما ، وقد استفاض قول عمر وهو على المنبر : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا أنهى عنهما وأُعاقب عليهما : متعة الحج ومتعة النساء.
بل نقل متكلّم الاَشاعرة في شرحه على شرح التجريد انّه قال : أيّها الناس ثلاث كنّ على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأنا أنهى عنهنّ ، وأُحرمهنّ ، وأُعاقب عليهنّ ، متعة النساء ، ومتعة الحج ، وحيّ على خير العمل (1)
وقد روي عن ابن عباس ـ وهو من المصرحين بحلّية المتعة وإباحتها ـ في رده على من حاجّه بنهي أبي بكر وعمر لها ، حيث قال : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر.
حتى أنّ ابن عمر لمّا سئل عنها ، أفتى بالاِباحة ، فعارضوه بقول أبيه ، فقال لهم : أمر رسول اللّهأحقّ أن يتّبع أم أمر عمر ؟
كلّ ذلك يعرب عن أنّه لم يكن هناك نسخ ولا نهي نبوي وإنّما كان تحريماً من جانب الخليفة ، وهو في حدّ ذاته يعتبر اجتهاداً قبالة النص الواضح ، وأنّه ما انفك يعلن جملة من الصحابة رفضهم له وعدم اذعانهم لاَمره ، وإذا كان الخليفة
---------------------------
(1) مفاتيح الغيب : 10|52 ـ 53 ، القوشجي : شرح التجريد : 484 طبع إيران.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 126 _
قد اجتهد لاَسباب رآها وأفتى على أساسها فكان الاَولى بمن لحقوه أن يتنبّهوا لهذا الاَمر لا أن يسرفوا في تسويغه دون حجة ولا دليل.
المنكرون للتحريم :
ذكرنا أنّ لفيفاً من وجوه الصحابة والتابعين أنكروا هذا التحريم ولم يقروا به ، ومنهم :
1 ـ علي أمير الموَمنين ، في ما أخرجه الطبري بالاسناد إليه أنّه قال : ( لولا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقيّ ) (1)
2 ـ عبد اللّه بن عمر ، أخرج الاِمام أحمد من حديث عبد اللّه بن عمر ، قال ـ وقد سئل عن متعة النساء ـ : واللّه ما كنّا على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) زانين ولا مسافحين ، ثمّ قال : واللّه لقد سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ( ليكوننّ قبل يوم القيامة المسيح الدجّال وكذّابون ثلاثون وأكثر ) (2).
3 ـ عبد اللّه بن مسعود ، روى البخاري عن عبد اللّه بن مسعود ، قال : كنّا نغزو مع رسول اللّهوليس لنا شيء ، فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ، ثمّ رخّص لنا أن تنكح المرأة بالثوب إلى أجل معيّن ، ثمّ قرأ علينا : ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ المُعْتَدين ) (3)(4)
---------------------------
(1) الطبري : التفسير : 5|9.
(2) أحمد : مسند : 2|95.
(3) المائدة : الآية 87.
(4) البخاري : الصحيح : 7|4 ، كتاب النكاح ، الباب 8 ، الحديث 3.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 127 _
4 ـ عمران بن حصين ، أخرج البخاري في صحيحه عنه ، قال : نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولم ينزل قرآن يحرّمها ولم ينه عنها حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء (1)
أخرج أحمد في مسنده عن أبي رجاء عن عمران بن حصين ، قال : نزلت آية المتعة في كتاب اللّه وعملنا بها مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فلم تنزل آية تمنعها ، ولم ينه عنها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى مات (2)
5 ـ كما أنّ الخليفة العباسي المأمون أوشك أن ينادي في أيام حكمه ، بتحليل المتعة إلاّ أنّه توقّف خوفاً من الفتنة وتفرّق المسلمين ، قال ابن خلّكان ، نقلاً عن محمّد بن منصور : قال : كنّا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة ، فقال يحيى بن أكثم لي ولاَبي العيناء : بكّرا غداً إليه فإن رأيتما للقول وجهاً فقولا ، وإلاّ فاسكتا إلى أن أدخل ، قال : فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ : متعتان كانتا على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى عهد أبي بكر ـ رضي اللّه عنه ـ وأنا أنهى عنهما ، ومن أنت يا جعل حتى تنهى عمّـا فعله رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو بكر ـ رضي اللّه عنه ـ ؟! فأومأ أبو العيناء إلى محمّد بن منصور وقال : رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلّمه نحن ؟ فأمسكنا ، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا ، فقال المأمون ليحيى : ما لي أراك متغيّراً ؟ فقال : هو غم يا أمير الموَمنين لما حدث في الاِسلام ، قال : وما حدث فيه ؟ قال : النداء بتحليل الزنا ، قال : الزنا ؟ قال : نعم ، المتعة زنا ، قال : ومن أين قلت هذا ؟ قال : من كتاب اللّه عزّ وجلّ ، وحديث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، قال
---------------------------
(1) البخاري : الصحيح : 6|27 ، كتاب التفسير ، تفسير قوله تعالى : (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) من سورة البقرة.
(2) أحمد : المسند : لاحظ مسائل فقهية للسيد شرف الدين : 70.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 128 _
اللّه تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ المُوَْمِنُون ) إلى قوله : ( والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُون * إلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيرُ ملومين * فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذَلِكَ فَأُوْلئِكَ هُمُ العادُون ) (1) يا أمير الموَمنين زوج المتعة ملك يمين ؟ قال : لا ، قال : فهي الزوجة التي عند اللّه ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها ؟ قال : لا ، قال : فقد صار متجاوز هذين ، من العادين (2)
أقول : هل عزب عن ابن أكثم ـ وقد كان ممّن يكنّ العداء لآل البيت ـ أنّ المتعة داخلة في قوله سبحانه : ( إلاّ على أزواجهم ) وانّ عدم الوراثة تخصيص في الحكم ، وهو لا ينافي ثبوتها ، وكم لها من نظير ، فالكافرة لا ترث الزوج المسلم ، وبالعكس ، كما أنّ القاتلة لا ترث وهكذا العكس ، وأمّا الولد فيلحق قطعاً ، ونفي اللحوق ناشىَ امّا من الجهل بحكمها أو التجاهل به.
وما أقبح كلامه حيث فسّـر المتعة بالزنا وقد أصفقت الا َُمّة على تحليلها في عصر الرسول والخليفة الاَوّل ، أفيحسب ابن أكثم أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حلّل الزنا ولو مدَّة قصيرة.
وهناك روايات مأثورة عن الخليفة نفسه ، تعرب عن أنّ التحريم كان صميم رأيه ، من دون استناد إلى آية أو رواية.
فقد روى مسلم في صحيحه : عن ابن أبي نضرة قال : كان ابن عباس يأمر بالمتعة ، وكان ابن الزبير ينهى عنها ، فذكر ذلك لجابر ، فقال : على يدي دار الحديث : تمتّعنا مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلمّا قام عمر قال : إنّ
اللّه كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء ، فأتمّوا الحجّ والعمرة وأبتّوا نكاح هذه النساء ، فلئِن أُوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته بالحجارة (1)
وروى الاِمام أحمد في مسنده عن أبي نضرة قال : قلت لجابر : إنّ ابن الزبير ينهى عن المتعة ، وانّ ابن عباس يأمر بها ، فقال لي : على يدي جرى الحديث : تمتّعنا مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ومع أبي بكر ، فلمّا ولّي عمر خطب الناس فقال : إنّ القرآن هو القرآن ، وإنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الرسول ، وإنّهما كانتا متعتان على عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إحداهما متعة الحج والا َُخرى متعة النساء (2)
وهذه المأثورات تعرب جملة من الملاحـظات نجملها بملاحظتين اثنتين :
أوّلاً : إنّ المتعة كانت باقية على الحلّ إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب ، وبقيت لوقت في أيامه حتى نهى عنها ومنع.
وثانياً : إنّه باجتهاده قام بتحريم ما أحلّه الكتاب والسنّة ، ومن المعلوم انّ اجتهاده ـ لو صحّت تسميته بالاِجتهاد ـ حجّة على نفسه لا على غيره.
وفي الختام نقول :
إنّ الجهل بفقه الشيعة أدّى بكثير من الكتّاب إلى التقوّل على الشيعة ، وخصوصاً في مسألة المتعة التي نحن بصدد الحديث عنها ، برميهم بآراء وأحكام ، يدلّ على جهل مطبق أو خبث سريرة لا يدمغ ، ومن هذه الاَقوال : إنّ من أحكام المتعة عند الشيعة أنّه لا نصيب للولد من ميراث أبيه ، وأنّ المتمتَّع بها لا عدّة لها ،
---------------------------
(1) مسلم : الصحيح : 4|130 ، باب نكاح المتعة الحديث 8 ، طبع محمد علي صبيح.
(2) أحمد : المسند : 1|52.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 130 _
وأنّها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل إن شاءت ، ومن أجل هذا استقبحوا المتعة واستنكروها وشنَّعوا على من أباحها.
وقد خفي الواقع على هوَلاء ، وانّ المتعة عند الشيعة كالزواج الدائم لا تتم إلاّ بالعقد الدال على قصد الزواج صراحة ، وانّ المتمتَّع بها يجب أن تكون خالية من جميع الموانع ، وانّ ولدها كالولد من الدائمة من وجوب التوارث ، والانفاق وسائر الحقوق المادية ، وانّ عليها أن تعتدّ بعد انتهاء الاَجل مع الدخول بها ، وإذا مات زوجها وهي في عصمته اعتدّت كالدائمة من غير تفاوت ، إلى غير ذلك من الآثار (1).
على أنّ الاَمر الذي ينبغي الالتفات إليه وإدراكه بوضوح ، انّ الشيعة رغم إدراكهم وإيمانهم بحلّية زواج المتعة وعدم تحريمه ـ وهو ما يعلنون عنه صراحة ودون تردد ـ إلاّ أنّهم لا يلجأون إلى هذا الزواج إلاّ في حدود ضيّقة وخاصة ، وليس كما يصوّره ويتصوّره البعض من كونه ظاهرة متفشية في مجتمعهم وبشكل مستهجن ممجوج.
---------------------------
(1) الاثنا عشرية وأهل البيت تأليف مغنية 46.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 131 _
نحن والدكتور محمد فتحي الدريني : قد وقفت ـ أخيراً ـ على كتاب حول المتعة بقلم : السائح علي حسين ، أسماه بهذا النحو : (الاَصل في الاَشياء ... ؟ ولكن المتعة حرام !! ) نشرته دار قتيبة ، وقدّم له الدكتور محمد فتحي الدريني ، عميد كلّية الشريعة بدمشق.
والذي دعاني إلى التعليق عليه أمران :
1 ـ اسم الكتاب ، حيث أسماه بما عرفت ، وحاول أن يقرّر أنّ الاَصل الاَوّلي في الاَشياء الحلّية ، والمتعة داخلة في هذا الاَصل ، ولكن خرج عنه بالدليل ولولاه لكانت محكومة بالحلّية ، وبعبارة أُخرى : حاول أن يتظاهر لصالح الخصم (القائل بحلّية المتعة) موَقَّتاً وأنّ الاَصل معه ، ولكنّه خرج عن الاَصل بدليل حاسم.
2 ـ تقديم الدكتور الدريني المحرّر بقلم نزيه من دون همز ولمز للمخالف الذي يرى كون المتعة حلالاً ، وموقفه من رعاية أدب المناظرة مشكور ، والحق انّ مثله قليل فيما كتب حول عقائد الشيعة بقلم أهل السنّة فإنّ الغالب ـ إلاّ ما شذّ وندر ـ لا يفارق اللذع واللدغ أو الطعن والسبّ ، وأحياناً التكفير أعاذنا اللّه من شرور أنفسنا.
ومع ذلك كلّه لنا تأمّلات فيما كتب يظهر بعضها من الامعان فيما سبق ، ولكن لاَجل إيقاف القارىَ على النقاط الخاطئة في كلامه ، نذكر أهم ما أفاده مع التعليق ، وإن مرّ بعضها عند مناقشة الشبهات.
أمّا حول الاِسم فنقول : إنّ قول الفقهاء والا َُصوليين الاَصل في الاَشياء الحلّية ، لا يعمُّ الدماء والاَعراض والاَموال فإنّ الاَصل فيها هو الحرمة ، يعرف ذلك
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 132 _
من له أدنى إلمام بالفقه ، فلاَجل ذلك نرى أنّ اللّه سبحانه يجعل الاَصل في الدماء الحرمة ، ويستثني مورداً واحداً وذلك إذا كان القتل عن حق فيقول : ( ولا يقتلُونَ النفسَ التي حرّمَ اللّهُ إلاّ بالحقِّ ) (الفرقان |68) كما أنّه سبحانه يأتي بذلك البيان في الاَعراض واستباحة الفروج ، فيقول : ( والذينَ هم لفروجِهِمْ حافظونَ * إلاّ على أزواجِهِمْ أو مَا مَلَكَتْ أيمانُهم فإنّهم غيرُ ملومينَ ) (الموَمنين |5 ـ 6).
ويكفي في كون الاَصل في الاَموال ، الحرمة قوله سبحانه : ( لا تأكلُوا أموالكُم بينكُم بالباطلِ إلاّ أَن تكونَ تجارةً عن تراضٍ مِنكُم ) (النساء | 29) وقول النبي الاَكرم : لا يحلّ مال امرىَ مسلم إلاّ بطيب نفسه (1) فالاَصل في التصرّف في مال الغير هو الحرمة إلاّ إذا طابت نفسه.
وعلى ضوء ذلك فالاَصل في المتعة بما أنّها استباحة للفروج هو الحرمة والخروج عن الاَصل يحتاج إلى دليل ، وما ذكره الا َُصوليون من كون الاَصل في الاَشياء هو الحلّية راجع إلى غير هذه الموارد ممّا يرجع إلى استفادة الانسان من مظاهر الطبيعة ومعطياتها.
وعلى ضوء ذلك فما حاوله موَلّف الكتاب من التظاهر بالمرونة في البحث وأنّه يوافق أخاه الشيعي في حلّية المتعة ـ حسب الاَصل الاَوّلي ـ ولكن الاَدلّة القطعية دفعته إلى القول بالتحريم ، محاولة خاطئة واقعة في غير محلّها ، وأظنُّ أنّ الكاتب قصير الباع في هذه المسائل.
والكتاب ـ بلا إنكار وبخس لحقوق المـوَلّف ـ أشبه بكـتاب قصصي ، لا فقهي ، وإنّـي استغربتُ من قيام الدكتور الدريني بالتقديم لهذا الكتاب ، ولذلك
---------------------------
(1) حديث رواه الفريقان.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 133 _
أعرضنا عن مناقشة محتوياته واكتفينا بما جاء في التقديم.
وأمّا التقديم فقد ذكرنا وصفه ولكن لنا فيما ذكره تأمّلات وتعليقات نذكرها بعد نقل كلامه موجزاً.
فإنّ نقل كل كلامه يوجب الاِطناب.
ولاَجل أن يسهل للقارىَ الوقوف على الفكرتين ، نفصِّـل كلَّ موضوع بعنوان معه رقم رياضي.
يقول الا َُستاذ : من المتفق عليه بين الا َُصوليين والفقهاء ممّن يُعتدّ برأيهم في ميزان العلم والاجتهاد أنّ أحكام التشريع الاِسلامي ذات مقاصد وغايات قد توخّى الشارع تحقيقها قطعاً من خلال تشريعه للاَحكام ، وقد أشار المحققون إلى هذا الاَصل : أنّ الاَحكام معلّلة بمصالح العباد ، ثمّ قال : وقد ألّف الاِمام الشاطبي كتاب الموافقات في أُصول الشريعة ومقاصدها وأثبت أنّ أحكام الشريعة ما عدا التعبُّديات ذات مقاصد معتبرة من قِبَل الشارع في تشريعه للحكم ، وأنّه لا عبرة بالوسيلة إذا تخلّفت عنها غايتها ، أو أفضتْ إلى النقيض منها.
يلاحظ على هذا الكلام بأُمور :
1 ـ إنّ كون الاَحكام معلّلة بمصالح ، أمر يُصدّقه الذكر الحكيم ، وأحاديث العترة الطاهرة ، يقول سبحانه : ( إِنَّما الخمرُ والميسِـرُ والاَنصابُ والاَزلامُ رجسٌ من عملِ الشيطانِ فاجتنبوهُ لعلّكُمْ تفلحونَ * إِنّما يريدُ الشيطانُ أنْ يوقِعَ بينكُمُ العداوةَ والبغضاءَ في الخمرِ والميسرِ ويصُدّكم عن ذِِكرِ اللّهِ وعنِ الصلوةِ فهلْ أنتُم
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 134 _
منتهُون ) (المائدة | 90 ـ 91) إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول تشريع الاَحكام ففيها إلماع إلى المصالح التي صارت سبباً لتشريعها.
وأمّا أحاديث أئمّة أهل البيت فقد جمعها الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه (306 ـ 381) في كتاب أسماه بـ (علل الشرائع) وهو نسخة من علوم أئمّة أهل البيت يليق بكل مسلم واع الرجوع إليها والصدور عنها ، وذلك قبل أن يولد الشاطبي أو يكون أثر من أُستاذه أو أُستاذ أُستاذه ، والشيعة الاِمامية معروفة بالقول بتبعية الاَحكام للمصالح تبعاً لاَئمّتهم كما هو ظاهر لِمَنْ راجع كتبهم الفقهية والا َُصولية ، فكان التركيز على هذا الاَصل أشبه بنقل التمر إلى هَجَر.
2 ـ إنّ الشيخ الاَشعري الاِمام الشهير لاَكثر أهل السنّة ممّن يخالف هذا الاَصل ويراه تحديداً لاِرادة اللّه تعالى ، ومزاحماً لاِطلاقها ، وهذا ظاهر لمن راجع كتب الاَشاعرة (1) في الا َُصول والفروع ، وهوَلاء هم المندّدون بالقائلين بتبعية الاَحكام للمصالح ، ومع ذلك فكيف يجعله الا َُستاذ قولاً متّفقاً عليه بين الا َُصوليين والفقهاء ، نعم قيّد القائلين بالتبعية بمن يعتد برأيهم في ميزان العلم والاجتهاد.
ولا أظن أن لا يكون الاِمام الاَشعري والجماهير التابعة له ممّن لا يعتدّ برأيهم في ذلك المجال.
3 ـ إنّ الا َُستـاذ تبعاً للاِمـام الشاطبي خصّ تبعية الاَحكام للمقاصد والمصالح بما عدا التعبّديات ، ولم يظهر لي وجه الاستثناء ، مع أنّ الدليل على
---------------------------
(1) لاحظ أُصول الدين للاِمام أبي منصور البغدادي : 150 طبع بيروت ، ونهاية الاِقدام للشهرستاني : 397 ، تحقيق (الفرد جيوم) والمواقفللايجي : 321 وغيرها.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 135 _
التبعية في الجميع واحد وهو صون فعل الحكيم عن اللغو ، وهذا يشارك فيه التعبّدي وغير التعبّدي.
نعم ربّما لا نصل إلى المقاصد الموجودة في التعبّديات ولكنّه غير كونها خالية عنها ، قال سبحانه : ( وأقِمِ الصَّلاةَ لذِكْرِي ) (طه | 14) وقال سبحانه : ( إنَّ الصلاةَ تنهَى عن الفحشاءِ والمنكر ) (العنكبوت| 45) وقال سبحانه في حق الصيام : ( كُتِبَ عليكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ على الَّذينَ مِنْ قبلِكُمْ لَعلَّكم تتَّقونَ ) (البقرة |183).
فاخراج التعبّديات عن تحت الضابطة أشبه بتخصيص القاعدة العقلية ومن المعلوم أنّ القاعدة العقلية لا تخصّص فلا يصح أن يقال : إنّ حاصل ضرب 2 × 2 = 4 إلاّ في مورد خاص.
إنّ القائلين بلزوم تبعية الاَحكام للمناطات والملاكات هم القائلون بحجّية العقل في مجال استنباط الاَحكام الشرعية في باب الملازمات العقلية ونظائرها ، والعقل الحاكم بتبعية الاَحكام للمصالح ، لا يفرّق بين العبادات وغيرها ، بين التعبّديات والتوصليات قائلاً بأنّ الشارع حكيم ، والحكيم مصون فعله عن اللغو والعبث فلاَحكامه وتشريعاته سبحانه ، غايات ترجع إلى العباد ، ومصالح تتم لصالح العاملين بها.
2 ـ المقصد الاَساسي للنكاح هو تكوين الا َُسرة : قال الدكتور : شُـرِّع النكاح في الاِسلام لمقاصد أساسية قد نصّ عليها القرآن الكريم صراحة ، ترجع كلّها إلى تكوين الا َُسرة الفاضلة التي تشكّل النواة الا
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 136 _
ولى للمجتمع الاِسلامي ، بخصائصه الذاتية من العفّة ، والطهر ، والولاية ، والنصرة والتكافل الاجتماعي ـ ثمّ استشهد بآيات على ذلك الاَصل ـ ثمّ يقول : إنّ اللّه إذ يربط الزواج بغريزة الجنس ، لم يكن ليقصد مجرّد قضاء الشهوة ، بل قَصد أن يكون على النحو الذي يحقّق ذلك المقصد بخصائصه من تكوين الا َُسرة التي شرّع أحكامها التفصيلية القرآن الكريم.
وعلى هذا فإنّ الاستمتاع مجرداً عن الاِنجاب وبناء الا َُسرة ، يحبط مقصد الشارع من كل أصل تشريع النكاح (1)
يلاحظ عليه أمران :
الاَوّل : أنّ الا َُستاذ خلط علّة التشريع ومناطه ، بحكمته ، فإنّ العلّة عبارة عمّـا يدور الحكم مدارها ، يحدث الحكم بوجودها ويرتفع بارتفاعها ، وهذا بخلاف الحكمة ، فربّما يكون الحكم أوسع منها ، وإليك توضيح الاَمرين :
إذا قال الشارع اجتنب المسكر ، فالسكر علّة وجوب الاجتناب بحجّة تعليقه على ذلك العنوان ، فما دام المائع مسكراً ، له حكمه ، فإذا انقلب إلى الخلّ يرتفع.
وأمّا إذا قال : ( والمطلّقاتُ يتربَّصنَ بأنفسهِنَّ ثلاثةَ قروءٍ ولا يحِلُّ لهنَّ أن يَكتُمْنَ ما خلقَ اللّهُ في أرحامِهِنَّ إِن كُنَّ يُوَمِنَّ بِاللّهِ واليومِ الآخِر ِ... ) (البقرة | 228).
---------------------------
(1) لاحظ أُصول الدين للاِمام أبي منصور البغدادي : 150 طبع بيروت ، ونهاية الاِقدام للشهرستاني : 397 ، تحقيق (الفرد جيوم) والمواقفللايجي : 321 وغيرها.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 137 _
فإنّ الامعان في الآية يكشف عن أنّ وجه التربّص لاَجل تبيّن وضع الرحم ، وإنّها هل تحمل ولداً أو لا ؟ ومن المعلوم أنّ هذا حكمة الحكم ، لا علّته ولاَجل ذلك نرى أنّ الحكم أوسع منها بشهادة أنّ الفقهاء يحكمون بوجوب التربّص على من نعلم بعدم وجود حمل في رحمها.
1 ـ كما إذا كانت عقيماً لا تلد أبداً.
2 ـ إذا كان الرجل عقيماً.
3 ـ إذا غاب عنها الزوج مدة طويلة كستة أشهر فما فوق ، ونعلم بعدم وجود حمل في رحمها.
4 ـ إذا تبيّنت عن طريق إجراء الفحوصات الطبّية خلو رحمها عنه.
فالآية محكمة وإن لم تكن حكمة الحكم موجودة ، وهذا لا ينافي ما توافقنا عليه من تبعية الاَحكام للمصالح ، فانّ المقصود منه هو وجود الملاكات في أغلب الموارد لا في جميعها.
إذا عرفت الفرق بين الحكمة والعلّة تقف على أنّ الا َُستاذ خلط بين العلة والحكمة ، فتكوين الا َُسرة والانجاب والتكافل الاجتماعي كلها من قبيل الحكم بشهادة أنّ الشارع حكم بصحّة الزواج في موارد فاقدة لهذه الغايات.
1 ـ يجوز زواج العقيم بالمرأة الولود.
2 ـ يجوز زواج المرأة العقيم بالرجل المنجب.
3 ـ يجوز نكاح اليائسة.
الاعتصام بالكتاب والسنة _ 138 _
4 ـ يجوز نكاح الصغيرة.
5 ـ يجوز نكاح الشاب من الشابة مع العزم على عدم الانجاب إلى آخر العمر.
أفيصح للا َُستاذ أن يشطب على هذه الاَنكحة بقلم عريض بحجّة افتقادها لتكوين الا َُسرة ؟!
على أنّ من الا َُمور الواضحة ، أنّ أغلب المتزوّجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلاّ قضاء الوطر ، واستيفاء اللذة من طريقها المشروع ، ولا يخطر ببالهم طلب النسل ، وإن كان يحصل لهم قهراً.
الثاني : يجب على الا َُستاذ التفصيل بين من يتزوّج متعة لغاية الاِنجاب وتشكيل الا َُسرة بخصائصها الذاتية من العفّة ، والطهر ، والولاية ، والنصرة ، والتكافل الاجتماعي ، وبين من يتزوّج لقضاء الوطر ، ودفع الشهوة بهذا الطريق ، وأمّا إنّه لماذا يتزوّج زواجاً موَقتاً فلاَجل وجود بعض التسهيلات في الموَقت دون الدائم.
إنّ الا َُستاذ كأكثر من كتب عن المتعة من أهل السنّة ، يتعامل مع المتمتع بها معاملة الغانيات المفتوحة أبوابهنّ ، يدخل عليهنّ في كل يوم رجل ويجتمع معها ذلك اليوم ثم يفارق ويأتي رجل آخر بهذه الخصوصية. فلو كان هذا معنى التمتّع بالمرأة والزواج الموَقت ، فالشيعة الاِمامية وأئمّتها ورسولها وكتابها بريئون من هذا التشريع الذي يرادف الزنا إلاّ في التسمية. ولكن المتعة يفارق ذلك مائة بالمائة ، فربّما يكون هناك نساء توفّـي عنهنّ أزواجهنّ ولهنّ جمالهنّ وكمالهنّ ، وربّما لا يتمكّن الرجل من الزواج الدائم لمشاكل اجتماعية ، ومع ذلك يرغب إلى هذه