قال أبو محمد الحسن بن علي الثاني (عليه السلام) : ولد (عليه السلام) بالمدينة يوم الجمعة غرة رجب (1) سنة سبع وخمسين من الهجرة (2) ، قبل (3) قتل الحسين (عليه السلام) بثلاث سنين ، فأقام مع جده ثلاث سنين ، ومع أبيه علي أربعا وثلاثين سنة وعشرة أشهر.
وعاش بعد أبيه أيام إمامته بقية ملك الوليد ، وملك سليمان بن عبد الملك ، وملك عمر بن عبد العزيز ، وملك يزيد بن عبد الملك ، وملك هشام بن عبد الملك ، وملك الوليد ابن يزيد (4) ، وملك إبراهيم بن الوليد.
وقبض في أول ملك إبراهيم (5) ، في شهر ربيع الآخر (6) سنة مائة وأربع عشرة من الهجرة ، فكانت أيام إمامته تسع عشرة سنة وشهرين ، وصار إلى كرامة الله (عز وجل) وقد
---------------------------
(1) وقيل : في الثالث من صفر ، انظر : روضة الواعظين : 207 ، إعلام الورى : 264 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 210 ، كشف الغمة 2 : 117 ، نور الأبصار : 289.
(2) الكافي 1 : 390 ، الارشاد : 262 ، كفاية الطالب : 455 ، الفصول المهمة : 211.
(3) في ( ع ، م ) زيادة : أن.
(4) سقط هنا : يزيد بن الوليد ، انظر : الجوهر الثمين 1 : 103.
(5) مناقب ابن شهرآشوب 4 : 210 ، وفي إعلام الورى : 265 وتاج المواليد : 117 أنه توفي في ملك هشام ابن عبد الملك ، وهو الموافق للصواب ، لأن ملكه امتد بين (105 ـ 125 هـ) انظر : الجوهر الثمين 1 : 98.
(6) في ( ط ) : الأول ، انظر : تاريخ أهل البيت : 80 ، روضة الواعظين : 207 ، إعلام الورى : 264.
دلائل الإمامة _ 216 _
كمل عمره سبعا وخمسين سنة (1).
وكان سبب وفاته أن إبراهيم بن الوليد سمه (2).
ودفن بالبقيع مع أبيه علي (3) ، وعم أبيه الحسن (عليهما السلام) (4).
محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.
ويكنى : أبا جعفر.
لقبه :
الباقر ، لأنه بقر علوم النبيين ، والشاكر (5) ، والهادي ، والأمين ، ويدعى : الشبيه ، لأنه كان يشبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) (6).
---------------------------
(1) الكافي 1 : 390 ، الارشاد : 262 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 210 ، كفاية الطالب : 455 ، كشف الغمة 2 : 123 ، الصواعق المحرقة : 201.
(2) مناقب ابن شهرآشوب 2 : 210 ، الفصول المهمة : 221.
(3) (علي) ليس في ( ط ).
(4) تاريخ الأئمة : 31 ، الكافي 1 : 390 ، الهداية الكبرى : 238 ، الارشاد : 262 ، تاج المواليد : 117.
(5) في مناقب ابن شهرآشوب : الشاكر لله.
(6) مناقب ابن شهرآشوب 4 : 210 ، تذكرة الخواص : 336 ، الفصول المهمة : 211 ، نور الأبصار : 288.
(7) الكافي 6 : 473 / 2 ، وروي فيه غير ذلك ، انظر : مكارم الأخلاق : 92 ، كشف الغمة 2 : 119.
دلائل الإمامة _ 217 _
بوابه
جابر بن يزيد الجعفي (1). ذكر ولده (عليه السلام)
جعفر الإمام الصادق (عليه السلام) ، وعلي ، و عبد الله ، وإبراهيم ، وابنته : أم سلمة فقط (2). وأمه :
فاطمة بنت الحسن بن علي (عليهما السلام) (3) ، ويروى فاطمة أم الحسن بنت الحسن (4) ، وهي أول علوية ولدت لعلوي (5).
ويروى أنه تزوج [أبو محمد علي بن الحسين (عليهما السلام) (6) بأم عبد الله بنت الحسن بن علي ، وهي أم أبي جعفر ، وكان يسميها الصديقة.
ويقال : إنه لم يدرك في (آل) الحسن (امرأة) مثلها (7).
---------------------------
(1) تاريخ الأئمة : 33 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 211 ، الفصول المهمة : 211 ، نور الأبصار : 289.
(2) تاريخ الأئمة : 19 ، الارشاد : 270 ، تاريخ مواليد الأئمة : 184 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 210 ، تذكرة الخواص : 341 ، كشف الغمة 2 : 119 ، نور الأبصار : 292 ، ينابيع المودة : 380.
(3) في ( ع ، م ) : بنت الحسن ويروى فاطمة بنت علي ، وفي ( ط ) : بنت الحسن ويروى بنت علي ، وما أثبتناه هو الموافق لسائر المصادر ، انظر : تاريخ الأئمة : 24 ، الكافي 1 : 390 ، روضة الواعظين : 207 ، تاج المواليد : 115 ، تاريخ مواليد الأئمة : 184 ، إعلام الورى : 264 ، كشف الغمة 2 : 117 ، نور الأبصار : 289.
(4) في ( ع ، م ) : فاطمة بنت الحسن بن الحسين ، وفي ( ط ) : فاطمة بنت الحسن بن الحسن ، وما أثبتناه هو الصواب ، انظر : تاج المواليد : 115 ، تاريخ مواليد الأئمة : 184 ، كشف الغمة 2 : 117.
(5) في ( ط ) : ولدت علويا.
(6) ما بين المعقوفتين أثبتناه من الهداية الكبرى : 240.
(7) أثبتناه من الكافي 1 : 390 ، الهداية الكبرى : 240 ، دعوات الراوندي : 69 / 165.
دلائل الإمامة _ 218 _
وروي أنها كانت عند جدار فتصدع الجدار فقالت بيدها : لا وحق المصطفى ، ما أذن الله لك في السقوط ، فبقي معلقا في الجو حتى جازت ، فتصدق عنها علي بن الحسين (عليه السلام) بمائة دينار (1).
137 / 1 ـ وأخبرني أبو طالب محمد بن عيسى القطان ، قال : أخبرني أبو محمد هارون بن موسى ، قال : حدثنا أبو علي محمد بن همام ، عمن رواه ، عن الصادق (2) (عليه السلام) قال : جاء علي بن الحسين بابنه محمد الإمام إلى جابر بن عبد الله الأنصاري ، فقال له : سلم على عمك جابر.
فأخذه جابر فقبل ما بين عينيه ، وضمه إلى صدره ، وقال : هكذا أوصاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقال لي : يا جابر ، يولد لعلي بن الحسين زين العابدين ولد ، يقال له محمد ، فإذا رأيته يا جابر فأقرئه مني السلام ، واعلم يا جابر ، أن مقامك بعد رؤيته قليل.
قال : فعاش جابر بعد أن رآه أياما يسيرة ، ومات (رضي الله عنه) (3).
138 / 2 ـ قال أبو جعفر : حدثنا أبو محمد سفيان ، عن أبيه ، عن الأعمش ، قال : قال قيس بن الربيع : كنت ضيفا لمحمد بن علي (عليه السلام) وليس في منزله غير لبنة (4) ، فلما حضر العشاء قام فصلى وصليت معه ، ثم ضرب بيده إلى اللبنة فأخرج منها قنديلا مشعلا ومائدة مستو عليها كل حار وبارد ، فقال لي : كل ، فهذا ما أعده الله
---------------------------
(1) الكافي 1 : 39 / 1 ، الهداية الكبرى : 241 ، الدعوات للراوندي 68 / 165.
(2) في ( ط ) زيادة : جعفر بن محمد.
(3) مدينة المعاجز : 322 / 2 ، ونحوه في كشف الغمة 2 : 119 ، والفصول المهمة : 215 ، ونور الأبصار : 288.
(4) اللبنة : التي يبنى بها ، وما ضرب من الطين مربعا ( لسان العرب ـ لبن ـ 13 : 375 ).
دلائل الإمامة _ 219 _
لأوليائه ، فأكل وأكلت ، ثم رفعت المائدة في اللبنة ، فخالطني الشك ، حتى إذا خرج لحاجته قلبت اللبنة فإذا هي لبنة صغيرة ، فدخل وعلم ما في قلبي ، فأخرج من اللبنة أقداحا وكيزانا (1) وجرة فيها ماء ، فشرب وسقاني ، ثم أعاد ذلك إلى موضعه ، وقال : مثلك معي مثل اليهود مع المسيح (عليه السلام) حين لم يثقوا (2) به ، ثم أمر اللبنة أن تنطق فتكلمت (3).
139 / 3 ـ قال أبو جعفر : وحدثنا سفيان ، عن وكيع ، عن الأعمش ، قال : قال لي المنصور ـ يعني أبا جعفر الدوانيقي ـ : كنت هاربا من بني أمية ، أنا وأخي أبو العباس ، فمررنا بمسجد المدينة ومحمد بن علي الباقر جالس ، فقال لرجل إلى جانبه :
كأني بهذا الأمر وقد صار إلى هذين ، فأتى الرجل فبشرنا به ، فملنا إليه ، وقلنا : يا بن رسول الله ، ما الذي قلت ؟
فقال : هذا الأمر صائر إليكم عن قريب ، ولكنكم تسيئون إلى ذريتي وعترتي ، فالويل لكم عن قريب ، فما مضت الأيام حتى ملك (4) أخي وملكتها (5).
140 / 4 ـ قال أبو جعفر : وحدثنا الحسن بن عرفة العبدي ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا العلاء بن محرز ، قال : شهدت محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وبيده عرجونة ـ يعني قضيبا دقيقا ـ يسأله عن أخبار بلد بلد ، فيجيبه ويقول : زاد الماء بمصر كذا ، ونقص بالموصل كذا ، ووقعت الزلزلة بإرمينية ، والتقى حادن وحورد (6) في موضع ـ يعني جبلين ـ ثم رأيته يكسرها ويرمي بها فتجمع فتصير (7) قضيبا (8).
---------------------------
(1) الكيزان : جمع كوز ، إناء يحفظ فيه الماء.
(2) في ( ع ، م ) : يثق.
(3) نوادر المعجزات : 133 / 2 ، إثبات الهداة 5 : 315 / 78 ، مدينة المعاجز : 322 / 3.
(4) في ( ط ) : أيام حتى هلك.
(5) إثبات الهداة 5 : 316 / 79 ، مدينة المعاجز : 323 / 4.
(6) في ( ع ، م ) : حارث وجويرد.
(7) في ( ط ) : بها فتعود.
(8) نوادر المعجزات : 134 / 3 ، إثبات الهداة 5 : 317 / 80 ، مدينة المعاجز : 323 / 5.
دلائل الإمامة _ 220 _
141 / 5 ـ قال أبو جعفر : وحدثنا أحمد بن منصور الرمادي (1) ، قال : حدثنا شاذان بن عمر (2) ، قال : حدثنا مرة بن قبيصة بن عبد الحميد ، قال : قال لي : جابر بن يزيد الجعفي : رأيت مولاي الباقر (عليه السلام) وقد صنع فيلا من طين فركبه وطار في الهواء حتى ذهب إلى مكة عليه ورجع ، فلم أصدق ذلك منه حتى رأيت الباقر (عليه السلام) ، فقلت له : أخبرني جابر عنك بكذا وكذا ، فصنع مثله وركب وحملني معه إلى مكة وردني (3).
142 / 6 ـ قال أبو جعفر : وحدثنا أبو محمد ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، قال : حدثنا حكيم بن أسد ، قال : لقيت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) وبيده عصا يضرب بها الصخر فينبع منه الماء ، فقلت : يا بن رسول الله ما هذا ؟ قال : نبعة من عصا موسى (عليه السلام) التي يتعجبون منها (4).
143 / 7 ـ قال أبو جعفر : وحدثنا أحمد بن عامر ، قال : حدثنا عبد الحميد (5) بن سويد ، قال : حدثنا شهر (6) بن وائل ، قال : لقيت الباقر (عليه السلام) وبيده قصعة (7) من خشب يشعل (8) فيها النار ولا تحترق القصعة ، فقلت : يا بن رسول الله ، ما هذا ؟
فقال : لأرضة (9) الأرض قرضت (10) تلك النار منها ، فقدرت أن القصعة قد
---------------------------
(1) في ( ط ) : الرماني ، وهو أحمد بن منصور الرمادي المتوفى سنة (265 هـ) عن 83 سنة كما في معجم البلدان 3 : 66 والظاهر صحته لمعاصرة الطبري الكبير معه ولو في شطر من عمره ، انظر سير أعلام النبلاء 12 : 389 / 170 ، تهذيب التهذيب 1 : 83 ، معجم المؤلفين 9 : 146.
(2) في ( ع ، م ) : عمرو.
(3) نوادر المعجزات : 135 / 4 ، إثبات الهداة 5 : 317 / 81 ، مدينة المعاجز : 323 / 6.
(4) نوادر المعجزات : 135 / 5 ، إثبات الهداة 5 : 317 / 82 ، مدينة المعاجز : 323 / 7.
(5) في ( ع ، م ) : عبد الحي.
(6) في ( ع ) : سهر.
(7) القصعة : وعاء يؤكل فيه ، وغالبا ما يتخذ من الخشب.
(8) في ( ع ، م ) : تشتعل.
(9) الأرضة : دويبة تأكل الخشب.
(10) في ( ط ) : فقال : التظت الأرض فارفضت.
دلائل الإمامة _ 221 _
احترقت فلم يؤثر فيها شئ (1).
144 / 8 ـ قال أبو جعفر : وحدثنا سفيان ، عن وكيع ، عن الأعمش ، قال :
حدثنا منصور ، قال : كنت أريد أن أركب البحر فسألت الباقر (عليه السلام) ، فأعطاني خاتما ، فكنت أطرحه في الزورق إذا شئت فيقف ، وإذا شئت أطلقه ، وإني جئت الدور (2) ، فسقط لأخ لي كيس في دجلة ، فألقيت ذلك الخاتم فخرج وأخرج الكيس بإذن الله (تعالى) (3).
145 / 9 ـ قال أحمد بن جعفر : حدثنا عدة من أصحابنا ، عن جابر بن يزيد (رحمه الله) ، قال : خرجت مع أبي جعفر (عليه السلام) وهو يريد الحيرة ، فلما أشرفنا على كربلاء قال لي : يا جابر ، هذه روضة من رياض الجنة لنا ولشيعتنا ، وحفرة من حفر جهنم لأعدائنا.
ثم إنه قضى ما أراد ، ثم التفت إلي وقال : يا جابر ، فقلت : لبيك سيدي.
قال لي : تأكل شيئا ، قلت : نعم سيدي.
قال : فأدخل يده بين الحجارة ، فأخرج لي تفاحة لم أشم قط رائحة مثلها ، لا تشبه رائحة فاكهة الدنيا ، فعلمت أنها من الجنة ، فأكلتها ، فعصمتني من الطعام أربعين يوما ، لم آكل ولم أحدث (4).
146 / 10 ـ وروى موسى بن الحسن ، عن أحمد بن الحسين ، عن أحمد بن إبراهيم ، عن علي بن حسان (5) ، عن عبد الرحمان بن كثير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال :
---------------------------
(1) إثبات الهداة 5 : 318 / 83 ، مدينة المعاجز : 323 / 8.
(2) الدور : تطلق على سبعة مواضع بأرض العراق ، من نواحي بغداد ، مراصد الاطلاع 2 : 539.
(3) إثبات الهداة 5 : 318 / 84 ، مدينة المعاجز : 323 / 9.
(4) نوادر المعجزات : 135 / 6 ، إثبات الهداة 5 : 318 / 85 ، مدينة المعاجز : 323 / 10.
(5) في النسخ : خالد بن حسان ، تصحيف ، صحيحه ما أثبتناه ، وهو علي بن حسان الذي قيل : إنه لا يروي إلا عن عمه عبد الرحمن ، وكلاهما ضعيف ، انظر رجال النجاشي : 235 و 251 ، ومعجم رجال الحديث 9 : 343 و 11 : 311.
دلائل الإمامة _ 222 _
نزل أبو جعفر (عليه السلام) بواد ، فضرب خباءه ، ثم خرج يمشي حتى انتهى إلى نخلة يابسة ، فحمد الله (عز وجل) عندها ، ثم تكلم بكلام لم أسمع بمثله ، ثم قال : أيتها النخلة ، أطعمينا مما جعل الله (جل ذكره) فيك. فتساقط منها رطب أحمر وأصفر ، فأكل ، وأكل معه أبو أمية الأنصاري ، فقال : يا أبا أمية ، هذه الآية فينا (1) كالآية في مريم : إذ هزت إليها بالنخلة فتساقط عليها رطبا جنبا (2).
147 / 11 ـ وروى الحسن ، عن المثنى ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : كان أبو جعفر (عليه السلام) في مجلس له ذات يوم إذ أطرق إلى الأرض ينكت فيها مليا ، ثم رفع رأسه فقال : كيف أنتم إذا جاءكم رجل يدخل عليكم في مدينتكم هذه في أربعة آلاف حتى يستقريكم (3) بسيفه ثلاثة أيام ، فيقتل مقاتليكم (4) وتلقون منه ذلا (5) ، لا تقدرون أن تدفعوا ذلك ، فخذوا حذركم ، واعلموا أن الذي قلت لكم كائن لا بد منه.
فلم يلتفت أهل المدينة إلى هذا الكلام من أبي جعفر (عليه السلام) فقالوا : لا يكون هذا أبدا ، ولم يأخذوا حذرهم ، إلا بنو هاشم خاصة لعلمهم أن كلامه (عليه السلام) حق من الله (عز وجل).
فلما كان من قابل حمل أبو جعفر عياله وبنو هاشم ، فخرجوا من المدينة ووقع ما قال أبو جعفر (عليه السلام) في المدينة ، فأصيب أهلها (6) وقالوا : والله ، لا نرد على أبي جعفر شيئا نسمعه أبدا ، منه سمعنا ما رأينا.
وقال بعضهم : إنما القوم أهل بيت النبوة ينطقون بالحق ، ما يتعلق أحدكم على
---------------------------
(1) في ( ع ، م ) : منا.
(2) بصائر الدرجات : 273 / 2 ، الخرائج والجرائح 2 : 593 / 2 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 188 ، الثاقب في المناقب : 374 / 308 ، الصراط المستقيم 2 : 183 / 13 ، مدينة المعاجز : 323 / 11.
(3) يستقريكم : أي يتتبعكم ( لسان العرب ـ قرا ـ 15 : 175 ) ، وفي ( ع ، م ) : يسبقونكم.
(4) في ( ط ) : مقاتلتكم.
(5) في ( ع ، م ) : ملأ ، وكأنها تصحيف : بلاء.
(6) في ( ع ، م ) : وأصابوا ما قال أبو جعفر عليه السلام.
دلائل الإمامة _ 223 _
أبي جعفر بكلمة لم ير تأويلها ، يقول : هذا غلط (1).
148 / 12 ـ وروى أحمد بن إبراهيم ، عن علي بن حسان ، عن عبد الرحمن ابن كثير ، عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال : كان أبو جعفر محمد بن علي الباقر في طريق مكة ومعه أبو أمية الأنصاري ، وهو زميله في محمله ، فنظر إلى زوج ورشان (2) في جانب المحمل معه ، فرفع أبو أمية يده لينحيه ، فقال له أبو جعفر : مهلا ، فإن هذا الطير جاء يستجير بنا أهل البيت ، فإن حية تؤذيه ، وتأكل فراخه كل سنة ، وقد دعوت الله له أن يدفعها (3) عنه ، وقد فعل (4).
149 / 13 ـ وروى محمد بن الحسين ، عن موسى بن سعدان ، عن عبد الله بن القاسم ، عن هشام بن سالم ، عن محمد بن مسلم ، قال : كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) بين مكة والمدينة نسير ، أنا على حمار لي ، وهو على بغلة له ، إذ أقبل ذئب من رأس الجبل حتى انتهى إلى أبي جعفر ، فحبس له البغلة حتى دنا منه ، فوضع يده على قربوس السرج ، ومد عنقه إليه وأدنى أبو جعفر أذنه منه ساعة ، ثم قال له : امض فقد فعلت.
فرجع مهرولا ، فقلت : جعلت فداك ، لقد رأيت عجيبا !
فقال : هل تدري ما قال ؟
قلت : الله ورسوله وابن رسوله أعلم.
فقال : ذكر أن زوجته في هذا الجبل ، وقد عسرت عليها ولادتها ، فادع الله (عز وجل) أن يخلصها ، وأن لا يسلط شيئا من نسلي على أحد من شيعتكم أهل البيت ، فقلت :
قد فعلت (5).
---------------------------
(1) الخرائج والجرائح 1 : 289 / 23 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 192 ، كشف الغمة 2 : 146 ، الفصول المهمة : 218 ، مدينة المعاجز : 323 / 12 ، نور الأبصار : 291.
(2) الورشان : طائر من الفصيلة الحمامية ، أكبر قليلا من الحمامة المعروفة .
(3) في ( ع ، م ) : يدفع.
(4) بصائر الدرجات : 364 / 16 ، مدينة المعاجز : 324 / 13.
(5) بصائر الدرجات : 371 / 12 ، الاختصاص : 300 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 189.
دلائل الإمامة _ 224 _
150 / 14 ـ وأخبرني أبو الحسن علي بن هبة الله ، قال : حدثنا أبو جعفر ، قال : حدثنا أبي ، عن سعد بن عبد الله ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى ، قال : حدثنا الحسين بن سعيد ، قال : حدثنا الحسن (1) بن علي ، عن (2) كرام ، عن عبد الله بن طلحة ، قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الوزغ ، فقال هو رجس مسخ ، فإذا قتلته فاغتسل.
ثم قال : إن أبي (عليه السلام) كان قاعدا في الحجر ، ومعه رجل يحدثه ، وإذا وزغ يولول بلسانه ، فقال أبي للرجل : أتدري ما يقول هذا الوزغ ؟ فقال : لا.
قال : يقول : والله لئن ذكرت عثمان لأذكرن عليا حتى تقوم من ها هنا (3).
151 / 15 ـ وروى الحسن بن أحمد بن سلمة ، عن محمد بن المثنى ، عن عثمان ابن عيسى ، عمن حدثه ، عن جابر (4) ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : شكوت إليه الحاجة ، فقال : يا جابر ، ما عندنا درهم.
قال : فلم ألبث أن دخل الكميت بن زيد (5) الشاعر ، فقال له : جعلني الله فداك أتأذن لي أن أنشدك قصيدة قلتها فيكم ؟
فقال له : هاتها ، فأنشده قصيدة أولها : من لقلب متيم مستهام (6)
---------------------------
(1) في ( ط ) : الحسين.
(2) في النسخ : بن ، وهو تصحيف صوابه ما في المتن ، وكرام لقب عبد الكريم بن عمرو بن صالح الخثعمي ، انظر رجال النجاشي : 245 ، معجم رجال الحديث 10 : 65 و 14 : 111.
(3) بصائر الدرجات : 373 / 1 ، الاختصاص : 301 ، الخرائج والجرائح 2 : 823 / 36 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 189 ، مدينة المعاجز : 324 / 18.
(4) في البصائر والاختصاص : محمد بن المثنى ، عن أبيه ، عن عثمان بن يزيد ، عن جابر ، والظاهر صحته ، انظر معجم رجال الحديث 14 : 178 و 17 : 184 ، والحديث (26) من دلائل الإمام السجاد (عليه السلام).
(5) في ( ع ، م ) : يزيد ، وهو تصحيف ، انظر سير أعلام النبلاء 5 : 388 ، معجم رجال الحديث 14 : 125.
(6) وهي أولى قصائده المعروفة بالهاشميات ، ويبلغ عدد أبياتها مائة وثلاثة ، انظر شرح هاشمياته لأبي رياش أحمد بن إبراهيم القيسي : 11 ـ 42.
دلائل الإمامة _ 225 _
فلما فرغ منها قال : يا غلام ، ادخل ذلك البيت وأخرج إلى الكميت بدرة (1) ، وادفعها إليه ، فأخرجها ووضعها بين يديه (2).
فقال له : جعلت فداك ، إن رأيت أن تأذن لي في أخرى ، فقال له : هاتها ، فأنشده أخرى ، فأمر له ببدرة أخرى ، فأخرجت له من البيت.
ثم قال له : الثالثة ، فأذن له ، فأمر له ببدرة ثالثة ، فأخرجت له.
فقال له الكميت : يا سيدي ، والله ما أنشدك طلبا لعرض من الدنيا ، وما أردت بذلك إلا صلة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وما أوجبه الله علي من حقكم.
فدعا له أبو جعفر ، ثم قال : يا غلام ، رد هذه البدر في مكانها ، فأخذها الغلام فردها.
قال جابر : فقلت في نفسي : شكوت إليه الحاجة فقال : ما عندي شئ ، وأمر للكميت بثلاثين ألف درهم!
وخرج الكميت فقال : يا جابر ، قم فادخل ذلك البيت.
قال : فدخلت فلم أجد فيه شيئا ، فخرجت فأخبرته ، فقال : يا جابر ، ما سترنا عتك أكثر مما أظهرناه لك.
ثم قام وأخذ بيدي فأدخلني ذلك البيت وضرب برجله الأرض فإذا شبه عنق البعير قد خرج من ذهب (3) ، فقال : يا جابر ، انظر إلى هذا ولا تخبر به إلا من تثق به من إخوانك.
يا جابر ، إن جبرئيل أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير مرة بمفاتيح خزائن الأرض وكنوزها ، وخيره من غير أن ينقصه الله مما أعد له شيئا ، فاختار التواضع لربه (عز وجل) ، ونحن نختاره (4).
---------------------------
(1) البدرة : كيس فيه مقدار من المال يتعامل به ويقدم في العطايا ، ويختلف باختلاف العهود ، والغالب أنه عشرة آلاف درهم.
(2) في ( ع ، م ) : ووضعها عنده.
(3) في ( ط ) : منها ذهبا.
(4) في ( ط ) : ينقصه الله شيئا مما أعد له فاختار تركها ونحن نختار ذلك.
دلائل الإمامة _ 226 _
يا جابر إن الله أقدرنا على ما نريد من خزائن الأرض ، ولو شئنا أن نسوق الأرض بأزمتها لسقناها (1).
152 / 16 ـ وروى محمد بن الحسين ، عن إبراهيم بن أبي البلاد ، عن سدير الصيرفي (2) ، قال : أوصاني أبو جعفر
(عليه السلام) بحوائج له بالمدينة ، فبينا أنا في فج الروحاء (3) على راحلتي إذا إنسان يلوي ثوبه.
قال : فقمت له وظننت أنه عطشان ، فناولته الإداوة فقال : لا حاجة لي بها.
وناولني كتابا طينه رطب ، فنظرت إلى الخاتم وإذا هو خاتم أبي جعفر (عليه السلام) (فقلت : متى عهدك بصاحب الكتاب ؟ قال : الساعة ، وإذا في الكتاب أشياء يأمرني بها ، ثم التفت فإذا ليس عندي أحد.
قال : ثم قدم أبو جعفر (عليه السلام)) (4) فلقيته فقلت : جعلت فداك ، رجل أتاني بكتاب وطينه رطب ! فقال : إذا عجل بنا أمر أرسلت بعضهم ـ يعني الجن ـ (5).
153 / 17 ـ وروى علي بن الحكم ، عن مثنى الحناط ، عن أبي بصير ، قال :
دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فقلت له : أنتم ورثة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قال : نعم.
قلت : ورسول الله وارث الأنبياء على ما علموا وعملوا ؟ قال لي : نعم.
قلت : فأنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى ، وتبرؤوا الأكمه والأبرص ؟ قال : نعم ، بإذن الله.
ثم قال : ادن مني يا أبا محمد ، فدنوت ، فمسح يده على عيني ووجهي فأبصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت وكل شئ في الدار.
قال : فقال : تحب أن تكون على هذا ولك ما للناس وعليك ما عليهم يوم
---------------------------
(1) بصائر الدرجات : 395 / 5 ، الاختصاص : 271 ، مدينة المعاجز : 326 / 24.
(2) في ( ط ) : شديد القرضي ، وفي ( م ) : ... الصرخي ، وفي ( ع ) : ... بن الصرخي ، تصحيف صوابها ما في المتن من الكافي ، وراجع معجم رجال الحديث 8 : 38.
(3) قرية على ليلتين من المدينة ( الروض المعطار : 277 ).
(4) أثبتناه من الكافي.
(5) الكافي 1 : 325 / 4 ، مدينة المعاجز : 327 / 25.
دلائل الإمامة _ 227 _
القيامة ، أو تعود كما كنت ولك الجنة خالصة ؟
قلت : أعود كما كنت.
قال : فمسح يده على عيني فعدت كما كنت (1).
154 / 18 ـ وروى محمد بن الحسن بن فروخ ، عن عاصم بن حميد ، عن محمد ابن مسلم بن رباح الثقفي ، قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول لرجل من أهل إفريقية : ما حال راشد ؟ قال : خلفته صالحا يقرئك السلام.
قال : رحمه الله. قال : أو مات ؟! قال : نعم رحمه الله.
قال : ومتى مات ؟
قال : قبل خروجك بيومين.
قال : لا والله ، ما مرض ولا كانت به علة!
قال : وإنما يموت من يموت من غير علة أكثر.
فقلت : أيما كان من الرجال الرجل ؟
فقال : كان لنا وليا ومحبا من أهل إفريقية.
ثم قال : يا محمد بن مسلم ، لئن كنتم ترون أنا ليس معكم بأعين ناظرة وآذان (2) سامعة لبئس ما رأيتم ، والله من (3) خفي ما غاب ، فأحضروا لي (4) جميلا ، وعودوا ألسنتكم الخير ، وكونوا من أهله تعرفوا (5) به (6).
155 / 19 ـ وعنه ، عن أحمد بن محمد ، عن علي بن الحكم وعلي بن جرير ،
---------------------------
(1) بصائر الدرجات : 289 / 1 ، الكافي 1 : 391 / 3 ، الهداية الكبرى : 243 ، إثبات الوصية : 152 ، رجال الكشي : 174 / 298 ، عيون المعجزات : 76 ، إعلام الورى : 267 ، مناقب ابن شهرآشوب 4 : 184.
(2) في ( ع ، م ) : واسماع.
(3) في ( ط ) : ما.
(4) في ( ع ) : فاحضروني.
(5) في ( ع ، م ) : تقربوا.
(6) الخرائج والجرائح 2 : 595 / 7 نحوه ، وقطعة منه في مناقب ابن شهرآشوب 4 : 193 ، والثاقب في المناقب : 383 / 315 ، مدينة المعاجز : 330 / 37.
دلائل الإمامة _ 228 _
عن منصور بن حازم ، عن سعد الإسكاف ، قال : طلبت الإذن على أبي جعفر (عليه السلام) مع أصحاب لنا (1) ، فدخلت
عليه فإذا على يمينه نفر كأنهم من أب وأم ، عليهم ثياب (2) وأقبية ضافية ، وعمائم صفر ، فما لبثوا حتى (3) خرجوا فقال لي : يا سعد ، رأيتهم ؟
قلت : نعم ، جعلت فداك ، من هؤلاء ؟
قال : إخوانكم من الجن أتونا يستفتونا في حلالهم وحرامهم كما تأتونا وتستفتونا في حلالكم وحرامكم.
فقلت : جعلت فداك ، ويظهرون لكم ؟ قال : نعم (4).
156 / 20 ـ وروى الحسن بن علي الوشاء ، عن عبد الصمد بن بشير ، عن عطية أخي أبي العوام (5) ، قال : كنت مع
أبي جعفر (عليه السلام) في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) إذ أقبل أعرابي على لقوح (6) له ، فعقلها ثم دخل ، فضرب ببصره يمينا وشمالا كأنه طائر العقل ، فهتف به أبو جعفر فلم يسمعه ، فأخذ كفا من حصا فحصبه ، فأقبل الأعرابي حتى نزل بين يديه ، فقال له : يا أعرابي من أين أقبلت ؟
قال : من أقصى الأرض.
فقال له أبو جعفر : أوسع من ذلك ، فمن أين أقبلت ؟
قال : من أقصى الدنيا ، وما خلفي من شئ ، أقبلت من الأحقاف.
قال : أي الأحقاف ؟
قال : أحقاف عاد.
قال : يا أعرابي ، فما مررت به في طريقك ؟
قال : مررت بكذا ، فقال أبو جعفر : ومررت بكذا ، فقال الأعرابي : نعم ، ومررت
---------------------------
(1) في ( ط ) : لي.
(2) في ( ع ، م ) زيادة : دوابر.
(3) في ( ع ، م ) : صفر ، فما احتبسوا حتى.
(4) بصائر الدرجات : 117 / 5 ، مدينة المعاجز : 328 / 29.
(5) في رجال الطوسي : 260 / 619 : العرام ، وانظر معجم رجال الحديث 11 : 146 و 147.
(6) اللقوح : الناقة التي تقبل اللقاح ، وقيل : الناقة الحلوب.
دلائل الإمامة _ 229 _
بكذا.
قال أبو جعفر (عليه السلام) : ومررت بكذا ؟ ، فلم يزل الأعرابي يقول : إني مررت ، ويقول له أبو جعفر : ومررت بكذا ، إلى أن قال له أبو جعفر : فمررت بشجرة يقال لها : (شجرة الرقاق) ؟
قال : فوثب الأعرابي على رجليه ثم صفق بيديه وقال : والله ، ما رأيت رجلا أعلم بالبلاد منك ، أوطأتها ؟
قال : لا يا أعرابي ، ولكنها عندي في كتاب.
يا أعرابي ، إن من ورائكم لواد يقال له (برهوت) تسكنه البوم والهام (1) ، تعذب فيه أرواح المشركين إلى يوم القيامة (2).
157 / 21 ـ أخبرني أبو الحسن علي بن هبة الله ، قال : حدثنا أبو جعفر محمد ابن علي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سعد بن عبد الله ، عن محمد بن خالد البرقي ، عن الحسن بن علي بن فضال ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي بصير ، قال : قال أبو جعفر (عليه السلام) : مررت (3) بالشام وأنا متوجه إلى بعض ملوك (4) بني أمية ، فإذا قوم يمرون (5) ، فقلت : أين تريدون ؟ قالوا : إلى عالم لنا لم نر مثله ، يخبرنا بمصلحة شأننا.
قال : فأتبعتهم حتى دخلوا برجا (6) عظيما ، فيه بشر كثير ، فلم ألبث أن خرج شيخ كبير متوكئ على رجلين ، قد سقط حاجباه على عينيه ، فشدهما (7) حتى بدن عيناه ، فنظر إلي فقال : أمنا أنت أم من الأمة المرحومة ؟
---------------------------
(1) البوم طائر معروف ، والهام أنثاه ، أو هما اسمان يقعان على طيور الليل عامة ، انظر ( لسان العرب ـ بوم ـ 12 : 61 ، حياة الحيوان 1 : 226 و 2 : 386 ).
(2) مدينة المعاجز : 330 / 38.
(3) في ( ع ، ط ) : كنت.
(4) في ( ع ) : خلفاء.
(5) في ( ط ) : قوم في جانبي.
(6) في ( ع ، م ) : بهوا ، والبهو : البيت المقدم أمام البيوت.
(7) في ( ع ، م ) : قد شد حاجبيه.
دلائل الإمامة _ 230 _
قال : قلت : من الأمة المرحومة.
فقال : أمن علمائها (1) أم من جهالها ؟
قال : قلت : لا من علمائها ولا من جهالها.
فقال : أنتم الذين تزعمون أنكم تذهبون إلى الجنة فتأكلون وتشربون ولا تحدثون ؟
قال : قلت : نعم.
قال : فهات على هذا برهانا.
قال : قلت : الجنين يأكل في بطن أمه من طعامها ، ويشرب من شرابها ولا يحدث.
قال : أليس زعمت أنك لست من علمائها!
قال : قلت لك : ولا من جهالها.
قال : فأخبرني عن ساعة ليست من النهار ولا من الليل.
قال : قلت : هذه الساعة التي هي من طلوع (2) الفجر إلى طلوع الشمس ، لا نعدها من ليلنا ولا من نهارنا ، وفيها تفيق (3) مرضانا.
قال : فنظر إلي النصراني متعجبا ، ثم قال : أليس زعمت أنك لست من علمائها!
ثم قال : أما والله لأسألنك عن مسألة ترتطم فيها ارتطام الثور (4) في الوحل ، أخبرني عن رجلين ولدا في ساعة واحدة ، وماتا في ساعة واحدة ، عاش أحدهما خمسين ومائة سنة ، وعاش الآخر خمسين سنة.
قال : قلت : ثكلتك أمك ، ذلك عزير وعزرة ، عاش هذا خمسين عاما ، ثم أماته الله مائة عام ، ثم بعثه فقال : كم لبثت ؟
قال : يوما أو بعض يوم ، وعاش خمسين ومائة عام ، ثم ماتا جميعا.
فقال النصراني : لا والله لا أكلمكم كلمة ولا رأيتم لي وجها اثني عشر شهرا ،
---------------------------
(1) في ( ع ) : علمائهم ، وكذا بقية الضمائر في الكلمات الآتية.
(2) في ( ع ، م ) : هذه ساعة من طلوع.
(3) في ( م ) : يعتق.
(4) في ( ع ، م ) : تربط فيها أو تظام فيها كالثور.
دلائل الإمامة _ 231 _
غضبا إذ أدخلتم هذا علي ، وقام فخرجت (1).
158 / 22 ـ وروى محمد بن عبد الجبار ، عن محمد بن إسماعيل ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : إن أبي مرض مرضا شديدا حتى خفنا عليه ، فبكى بعض أصحابنا عند رأسه ، فنظر (عليه السلام) إليه وقال له : إني لست بميت من وجعي هذا ، فبرئ ومكث ما شاء الله أن يمكث.
فبينا هو صحيح ليس به بأس حتى قال لي : يا بني ، إن اللذين أتياني في شكايتي التي قمت منها أتياني فخبراني أني ميت من وجعي هذا في يوم كذا وكذا.
قال : فمات (عليه السلام) في ذلك اليوم (2).
159 / 23 ـ أخبرني أبو الحسين محمد بن هارون ، عن أبيه أبي محمد ، قال :
حدثنا (3) أبو القاسم جعفر بن محمد العلوي الموسائي (4) ، قال : حدثنا عبد الله (5) بن أحمد بن نهيك ـ أبو العباس النخعي الشيخ الصالح ـ عن محمد بن أبي عمير ، عمن أخبره ، عن سيف بن عميرة ، عن أبي بكر الحضرمي ، عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال : أسري برجل منا فمر برجل منكم حتى أتى الرجل الذي يعذب ، فإذا هو في قرية موكل به سبعة رجال كل يوم ، كلما هلك رجل جعل مكانه رجل ، يستقبلون به عين الشمس حيث دارت ، يصبون عليه في الشتاء الماء البارد ، والماء الحار في الصيف ،
---------------------------
(1) في ( ع ، م ) : حيث دخلوا بأبي جعفر (عليه السلام) معهم ، مدينة المعاجز : 331 / 43.
(2) ـ مدينة المعاجز : 335 / 45 ، بصائر الدرجات : 501 / 2.
(3) في ( ط ) : أخبرنا.
(4) نسبة إلى الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ، وهو أبو القاسم جعفر بن محمد بن إبراهيم بن عبيد الله بن موسى الكاظم (عليه السلام) ، روى عنه التلعكبري ، وكان سماعه منه سنة (340) بمصر وله منه إجازة ، أنساب السمعاني 5 : 405 ، ويقال له الموسوي أيضا ، انظر معجم رجال الحديث 4 : 101.
(5) في بعض المصادر والمعاجم الرجالية : عبيد الله ، مصغرا ، روى عن ابن أبي عمير ، ووصفه النجاشي بالشيخ الصدوق ، وقال : اشتملت إجازة أبي القاسم جعفر بن محمد بن إبراهيم الموسوي ـ وأراناها ـ على سائر ما رواه عبيد الله بن أحمد بن نهيك ، انظر رجال النجاشي : 232 ، معجم رجال الحديث 10 / 107.
دلائل الإمامة _ 232 _
فسأله : لم يفعل (1) به هذا ؟
فقال : ما تدري لأنك أكيس الناس ، أو لأنك أحمق الناس ، ما يزال يأتينا الرجل منكم في السنين فلا يسأل عن هذا (2).
فخرجت من الفج فالتفت فإذا راكب خلفي يوضع (3) ويشير إلي ، فظننت أن الرجل عطشان ، فتناولت إداوتي فأهويت بها إليه.
قال : فناولني كتابا صغيرا طينه رطب ، وكتابته رطبة ، فإذا فيه إنفاذ بعض ما أمرني به ، ونقل شئ إلى شئ فأمضيت الذي في الكتاب ، وقلت للرجل : متى عهدك ؟
قال : الساعة.
قال : وحفظت الساعة واليوم ، فلما قدم أبو جعفر (عليه السلام) أخبرته بخبر الكتاب والطين واليوم والساعة ، فقال : إنا أهل البيت أعطينا أعوانا من الجن ، إذا عجلت بنا الحاجة بعثناهم فيها (4).
160 / 24 ـ وروى محمد بن الحسن ، عن حماد بن عيسى ، عن الحسين بن المختار ، عن أبي بصير ، قال : كنت اقرئ امرأة وأعلمها (5) القرآن ، فمازحتها بشئ ، فقدمت على أبي جعفر (عليه السلام) ، فقال لي : يا أبا بصير ، أي شئ قلت للمرأة ؟ فقلت بيدي هكذا على وجهي ـ يعني غطيت وجهي ـ.
قال : فقال : لا تعد إليها (6).
161 / 25 ـ وعنه : عن حماد بن عيسى ، عن الحسين بن مختار ، عن أبي بصير ، قال : قدم بعض أصحاب أبي جعفر (عليه السلام) فقال لي : لا والله ، لا ترى أبا جعفر أبدا.
---------------------------
(1) في ( ط ) : فسألهم لم يفعلون.
(2) في ( ع ، م ) : فقال : لأنك أكيس الناس أو لأنك لأحمق الناس ، ما يزال ما بين الرجل منكم في السنين ما قال هذا أحد.
(3) الوضع : سرعة السير ( الصحاح ـ وضع ـ 3 : 1300 ).
(4) مدينة المعاجز 328 / 31.
(5) في ( م ) : كنت أعلمها.
(6) الخرائج والجرائح 2 : 594 / 5 ، الصراط المستقيم 2 : 183 / 14 ، مدينة المعاجز : 340 / 60.
دلائل الإمامة _ 233 _
فأخذت صكا وأشهدت شهودا على الكتاب في غير أيام الحج ، ثم إني خرجت إلى المدينة فاستأذنت على أبي جعفر (عليه السلام) ، فلما نظر إلي قال : يا أبا بصير ، وما فعل الصك ؟
فقلت : جعلت فداك ، إن فلانا قال لي : لا والله ، لا تراه أبدا (1).
162 / 26 ـ وروى الحسن بن معاذ الرضوي ، قال : حدثنا لوط بن يحيى الأزدي ، عن عمارة بن زيد الواقدي ، قال : حج هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين ، وكان قد حج في تلك السنة محمد بن علي الباقر وابنه جعفر (عليهم السلام) ، فقال جعفر في بعض كلامه (2) : الحمد لله الذي بعث محمدا بالحق نبيا ، وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه ، وخيرته من عباده ، فالسعيد من اتبعنا ، والشقي من عادانا وخالفنا ، ومن الناس من يقول إنه يتولانا وهو يوالي أعداءنا ومن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربنا ولم يعمل به.
قال أبو عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) فأخبر مسيلمة أخاه بما سمع (3) ، فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق ، وانصرفنا إلى المدينة ، فأنفذ بريدا إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه ، فأشخصنا ، فلما وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أيام ، ثم أذن لنا في اليوم الرابع ، فدخلنا وإذا هو قد قعد على سرير الملك ، وجنده وخاصته وقوف على أرجلهم سماطين متسلحين ، وقد نصب البرجاس (4) حذاءه ، وأشياخ قومه يرمون.
فلما دخل أبي وأنا خلفه ما زال يستدنينا منه حتى حاذيناه وجلسنا قليلا ، فقال لأبي : يا أبا جعفر ، لو رميت (5) مع أشياخ قومك الغرض ، وإنما أراد أن يهتك (6) بأبي
---------------------------
(1) بصائر الدرجات : 268 / 13 ، مدينة المعاجز : 340 / 61.
(2) في ( ع ، م ) : فقال جعفر بن محمد (عليه السلام).
(3) في ( ط ) : مسيلمة بن عبد الملك أخاه.
(4) غرض في الهواء يرمى به ( لسان العرب ـ برجس ـ 6 : 26 ).
(5) في ( ع ، م ) : فلما دخلنا وأبي أمامي يقدمني عليه وأنا خلفه على يد أبي حين حاذيناه فنادى أبي : يا محمد ، ارم.
(6) في ( ط ) : يضحك.
دلائل الإمامة _ 234 _
ظنا منه (1) أنه يقصر ويخطئ ولا يصيب إذا رمى ، فيشتفي منه بذلك ، فقال له : إني قد كبرت عن الرمي ، فإن رأيت أن تعفيني.
فقال : وحق من (2) أعزنا بدينه ونبيه محمد (صلى الله عليه وآله) لا أعفيك ، ثم أومأ إلى شيخ من بني أمية أن أعطه قوسك.
فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ، ثم تناول منه سهما فوضعه (3) في كبد القوس ثم انتزع ورمى وسط الغرض فنصبه فيه ، ثم رمى فيه الثانية فشق فوق سهمه إلى نصله ، ثم تابع الرمي حتى شق تسعة أسهم (4) بعضها في جوف بعض ، وهشام يضطرب في مجلسه ، فلم يتمالك أن قال : أجدت يا أبا جعفر ، وأنت أرمى العرب والعجم ، كلا زعمت أنك قد كبرت عن الرمي ، ثم أدركته ندامة على ما قال.
وكان هشام لا يكني أحدا قبل أبي ولا بعده في خلافته ، فهم به وأطرق إطراقة يرتأي فيه رأيا ، وأبي واقف بحذائه مواجها له ، وأنا وراء أبي.
فلما طال وقوفنا بين يديه غضب أبي فهم به ، وكان أبي إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان يتبين للناظر الغضب في وجهه ، فلما نظر هشام ذلك من أبي قال له : يا محمد ، اصعد ، فصعد أبي إلى سريره وأنا أتبعه ، فلما دنا من هشام قام إليه فاعتنقه وأقعده عن يمينه ، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي ، ثم أقبل على أبي بوجهه فقال له : يا محمد ، لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك ، ولله درك ، من علمك هذا الرمي ؟ وفي كم تعلمته ؟
فقال له أبي : قد علمت أن أهل المدينة يتعاطونه ، فتعاطيته أيام حداثتي ، ثم تركته ، فلما أراد أمير المؤمنين مني ذلك عدت إليه (5).
فقال له : ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت ، وما ظننت أن في الأرض أحدا
---------------------------
(1) في ( ع ، م ) : وظن.
(2) في ( ط ) : تعفيني فلم يقبل وقال : لا والذي.
(3) في ( ط ) : فتناولها منه أبي وتناول منه الكنانة فوضع سهما.
(4) في ( ط ) زيادة : فصار.
(5) في ( ع ، م ) : فيه.
دلائل الإمامة _ 235 _
يرمي مثل هذا الرمي ، أين رمي جعفر من رميك ؟
فقال : إنا نحن نتوارث الكمال والتمام اللذين أنزلهما الله على نبيه (عليه السلام) في قوله : * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) * (1) والأرض لا تخلو ممن يكمل (2) هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا.
قال : فلما سمع ذلك من أبي انقلبت عينه اليمنى فاحولت واحمر وجهه ، وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ، ثم أطرق هنيئة ، ثم رفع رأسه فقال لأبي : ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد ؟ فقال أبي : نحن كذلك ، ولكن الله (جل ثناؤه) اختصنا من مكنون سره وخالص علمه ، بما لم يختص أحدا به غيرنا.
فقال : أليس الله (جل ثناؤه) بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة ، أبيضها وأسودها وأحمرها ، من أين ورثتم ما ليس لغيركم ؟ ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة ، وذلك قول الله (تبارك وتعالى) : * (ولله ميراث السماوات والأرض) * (3) إلى آخر الآية ، فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبي ولا أنتم أنبياء ؟
فقال : من قوله (تعالى) لنبيه (عليه السلام) : * (لا تحرك به لسانك لتعجل به) * (4) فالذي أبداه فهو للناس كافة ، والذي لم يحرك به لسانه ، أمر الله (تعالى) أن يخصنا به من دون غيرنا.
فلذلك كان يناجي أخاه عليا من دون أصحابه ، وأنزل الله بذلك قرآنا في قوله (تعالى) : * (وتعيها أذن واعية) * (5) فقال رسول الله لأصحابه : سألت الله (تعالى) أن يجعلها أذنك يا علي ، فلذلك قال علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) بالكوفة : علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب ، خصه به رسول
---------------------------
(1) المائدة 5 : 3.
(2) في ( ط ) : يعني ورضيت لكم الاسلام دينا فالأرض ممن يكمل دينه لا تخلو ، فكان ذلك علامة ، وفي ( م ) : والأرض لا تخلو ممن يكمل وجهه ، وكان ذلك علامة.
(3) آل عمران 3 : 180 ، الحديد 57 : 10.
(4) القيامة 75 : 16.
(5) الحاقة 69 : 12.
دلائل الإمامة _ 236 _
الله (صلى الله عليه وآله) من مكنون علمه ما خصه الله به ، فصار إلينا وتوارثناه من دون قومنا.
فقال له هشام : إن عليا كان يدعي علم الغيب ، والله لم يطلع على غيبه أحدا فمن أين ادعى ذلك ؟
فقال أبي : إن الله (جل ذكره) أنزل على نبيه كتابا بين فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، في قوله : * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) * (1).
وفي قوله : * (كل شئ أحصيناه في إمام مبين) * (2).
وفي قوله : * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) * (3).
وفي قوله : * (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين) * (4).
وأوحى الله (تعالى) إلى نبيه (عليه السلام) أن لا يبقي في غيبه وسره ومكنون علمه شيئا إلا يناجي به عليا ، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده ، ويتولى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه ، وقال لأصحابه : حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي ، فإنه مني وأنا منه ، له مالي وعليه ما علي ، وهو قاضي ديني ومنجز موعدي.
ثم قال لأصحابه : علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت (5) على تنزيله.
ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلا عند علي (عليه السلام) ، ولذلك قال رسول الله لأصحابه : أقضاكم علي ، أي هو قاضيكم.
وقال عمر بن الخطاب : لولا علي لهلك عمر ، أفيشهد (6) له عمر ويجحد غيره ؟!
---------------------------
(1) النحل 16 : 89 ، وفي ( م ، ط ، ع ) : (هدى وموعظة للمتقين).
(2) يس 36 : 12.
(3) الأنعام 6 : 38.
(4) النمل 27 : 75.
(5) في ( م ) : قاتل.
(6) في ( ع ، م ) : يشهد.
دلائل الإمامة _ 237 _
فأطرق هشام طويلا ثم رفع رأسه فقال : سل حاجتك.
فقال : خلفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي.
فقال : قد آمن الله وحشتهم برجوعك إليهم ولا تقم أكثر من يومك ، فاعتنقه أبي ودعا له وودعه ، وفعلت أنا كفعل أبي ، ثم نهض ونهضت معه.
وخرجنا إلى بابه وإذا ميدان ببابه ، وفي آخر الميدان أناس قعود عدد كثير ، قال أبي : من هؤلاء ؟ قال الحجاب : هؤلاء القسيسون والرهبان ، وهذا عالم لهم ، يقعد لهم في كل سنة يوما واحدا يستفتونه فيفتيهم.
فلف أبي عند ذلك رأسه بفاضل ردائه ، وفعلت أنا مثل فعل أبي ، فأقبل نحوهم حتى قعد عندهم (1) ، وقعدت وراء أبي ، ورفع ذلك الخبر إلى هشام ، فأمر بعض غلمانه أن يحضر الموضع فينظر ما يصنع أبي ، فأقبل وأقبل عدد من المسلمين فأحاطوا بنا ، وأقبل عالم النصارى وقد شد حاجبيه بحريرة (2) صفراء حتى توسطنا ، فقام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلمين عليه ، فجاء إلى صدر المجلس فقعد فيه ، وأحاط به أصحابه ، وأبي وأنا بينهم ، فأدار نظره ثم قال لأبي : أمنا أم من هذه الأمة المرحومة ؟
فقال أبي : بل من هذه الأمة المرحومة.
فقال : أمن علمائها أم من جهالها ؟ فقال له أبي : لست من جهالها ؟ فاضطرب اضطرابا شديدا ، ثم قال له : أسألك ، فقال له أبي : سل.
فقال : من أين ادعيتم أن أهل الجنة يأكلون (3) ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون ؟ وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لا يجهل ؟ فقال له أبي : دليل ما ندعي من شاهد لا يجهل (4) الجنين في بطن أمه يطعم ولا يحدث.
قال : فاضطرب النصراني اضطرابا شديدا ثم قال : كلا ، زعمت أنك لست من علمائها ! فقال له أبي : ولا من جهالها ، وأصحاب هشام يسمعون ذلك.
---------------------------
(1) في ( ع ، م ) : نحوهم.
(2) في ( ط ) : بعصابة.
(3) في ( ع ) وأمان الأخطار وفي ( م ) : نسخة بدل زيادة : يطعمون.
(4) في ( ط ) : قال أبي : الدليل الذي لا ينكر مشاهدة.
دلائل الإمامة _ 238 _
فقال لأبي : أسألك عن مسألة أخرى ، فقال له أبي سل.
فقال : من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة أبدا غضة طرية موجودة غير معدومة عند جميع أهل الجنة ، لا تنقطع ، وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لا يجهل ؟
فقال له أبي : دليل ما ندعي أن ترابنا (1) أبدا غض طري موجود غير معدوم عند جميع أهل الدنيا (2) لا ينقطع.
فاضطرب النصراني اضطرابا شديدا ، ثم قال : كلا ، زعمت أنك لست من علمائها! فقال له أبي : ولا من جهالها.
فقال : أسألك عن مسألة ، فقال له : سل.
قال : أخبرني عن ساعة من ساعات الدنيا ليست من ساعات الليل ولا من ساعات النهار.
فقال له أبي : هي الساعة التي بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، يهدأ فيها المبتلى ، ويرقد فيها الساهر ، ويفيق المغمى عليه ، جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين ، وفي الآخرة للعاملين لها ، ودليلا واضحا وحجابا بالغا على الجاحدين المنكرين التاركين لها.
قال : فصاح النصراني صيحة ، ثم قال : بقيت مسألة واحدة ، والله لأسألنك عنها ، ولا تهتدي إلى الجواب عنها أبدا. فأسألك ؟ فقال له أبي : سل فإنك حانث في يمينك.
فقال : أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد ، وماتا في يوم واحد ، عمر أحدهما خمسون ومائة سنة ، والآخر خمسون سنة في دار الدنيا.
فقال له أبي : ذلك عزير وعزرة ، ولدا في يوم واحد ، فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عاما ، مر عزير وهو راكب على حماره بقرية بأنطاكية وهي خاوية على عروشها ، فقال : أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟! وقد كان الله اصطفاه وهداه ، فلما قال ذلك القول غضب الله عليه فأماته مائة عام سخطا عليه بما قال.
---------------------------
(1) في ( ط ) : الفرات ، وفي ( ع ، م ) : قرآننا ، وما أثبتناه من أمان الأخطار والبحار.
(2) في ( ع ، م ) : جميع المسلمين ، وما أثبتناه من أمان الأخطار والبحار.
دلائل الإمامة _ 239 _
ثم بعثه على حماره بعينه وطعامه وشرابه ، فعاد إلى داره وعزرة أخوه لا يعرفه ، فاستضافه فأضافه ، وبعث إلى ولد عزرة وولد ولده (1) وقد شاخوا ، وعزير شاب في سن ابن خمس وعشرين سنة ، فلم يزل عزير يذكر أخاه وولده وقد شاخوا ، وهم يذكرون ما يذكرهم (2) ، ويقولون : ما أعلمك بأمر قد مضت عليه السنون والشهور (3) ؟! ويقول له عزرة وهو شيخ ابن مائة وخمس وعشرين سنة : ما رأيت شابا في سن خمس وعشرين سنة أعلم بما كان بيني وبين أخي عزير أيام شبابي منك ، فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض ؟
فقال عزير لأخيه عزرة : أنا عزير ، سخط الله علي بقول قلته بعد أن اصطفاني وهداني ، فأماتني مائة سنة ، ثم بعثني لتزدادوا بذلك يقينا أن الله على كل شئ قدير ، وها هو حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم ، أعاده الله لي كما كان ، فعندها أيقنوا (4) ، فأعاشه الله بينهم خمسا وعشرين سنة ثم قبضه الله وأخاه في يوم واحد.
فنهض عالم النصارى عند ذلك قائما ، وقام النصارى على أرجلهم فقال لهم عالمهم : جئتموني بأعلم مني وأقعدتموه معكم حتى يهتكني ويفضحني ، وأعلم المسلمين أن لهم من أحاط بعلومنا وعنده ما ليس عندنا ، لا والله لا أكلمكم من رأسي كلمة ، ولا قعدت لكم إن عشت سنة.
فتفرقوا وأبي قاعد مكانه وأنا معه ، ورفع ذلك في الخبر إلى هشام بن عبد الملك ، فلما تفرق الناس نهض أبي وانصرف إلى المنزل الذي كنا فيه ، فوافانا (5) رسول هشام بالجائزة ، وأمرنا أن ننصرف إلى المدينة من ساعتنا ولا نحتبس ، لأن الناس ماجوا وخاضوا فيما جرى بين أبي وبين عالم النصارى.
---------------------------
(1) في ( ط ) : وبعث إلى أولاده وأحفاده.
(2) في ( م ، ط ) : يذكره.
(3) (ويقولون ... الشهور) ليس في ( ط ).
(4) في ( ط ) : كان بقدرته.
(5) في ( م ) : فإذا.
دلائل الإمامة _ 240 _
فركبنا دوابنا منصرفين ، وقد سبقنا بريد من عند هشام إلى عامل مدين (1) على طريقنا إلى المدينة (2) : ( إن ابني أبي تراب الساحرين (3) محمد بن علي وجعفر بن محمد الكذابين ـ بل هو الكذاب (لعنه الله) ـ فيما يظهران من الاسلام وردا علي ، فلما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسيسين والرهبان من كفار النصارى (4) ، وتقربا إليهم بالنصرانية ، فكرهت أن أنكل بهما لقرابتهما ، فإذا قرأت كتابي هذا فناد (5) في الناس : برئت الذمة ممن يشاريهما ، أو يبايعهما ، أو يصافحهما ، أو يسلم عليهما ، فإنهما قد ارتدا عن الاسلام ، ورأي أمير المؤمنين أن تقتلهما ودوابهما وغلمانهما ومن معهما شر قتلة ).
قال : فورد البريد إلى مدين ، فلما شارفنا مدينة مدين قدم أبي غلمانه ليرتادوا له منزلا ويشتروا لدوابنا علفا ، ولنا طعاما.
فلما قرب غلماننا من باب المدينة أغلقوا الباب في وجوهنا وشتمونا ، وذكروا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) ، وقالوا : لا نزول لكم عندنا ، ولا شراء ولا بيع ، يا كفار ، يا مشركين ، يا مرتدين ، يا كذابين ، يا شر الخلائق أجمعين.
فوقف غلماننا على الباب حتى انتهينا إليهم ، فكلمهم أبي ولين لهم القول ، وقال لهم : اتقوا الله ولا تغلطوا ، فلسنا كما بلغكم ولا نحن كما تقولون ، فاسمعونا ، فأجابوه بمثل ما أجابوا الغلمان ، فقال لهم أبي : فهبنا كما تقولون ، افتحوا لنا الباب ، وشارونا وبايعونا كما تشارون وتبايعون اليهود والنصارى والمجوس.
فقالوا : أنتم أشر من اليهود والنصارى والمجوس ، لأن هؤلاء يؤدون الجزية وأنتم ما تؤدون.
---------------------------
(1) مدينة تجاه تبوك بين المدينة والشام ( آثار البلاد : 261 ).
(2) في ( ط ) زيادة : يذكر له.
(3) في ( ط ) : الساحر.
(4) في الأمان زيادة : وأظهرا لهما دينهما ومرقا من الاسلام إلى الكفر ـ دين النصارى ـ.
(5) في ( ط ) : فإذا مرا بانصرافهما عليكم فليناد.
دلائل الإمامة _ 241 _
فقال لهم أبي : افتحوا لنا الباب وأنزلونا ، وخذوا منا الجزية كما تأخذون منهم.
فقالوا : لا نفتح ، ولا كرامة لكم حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعا نياعا (1) وتموت دوابكم تحتكم ، فوعظهم أبي فازدادوا عتوا ونشوزا.
قال : فثنى أبي رجله عن سرجه ثم قال لي : مكانك ـ يا جعفر ـ لا تبرح ، ثم صعد الجبل المطل على مدينة مدين ، وأهل مدين ينظرون إليه ما يصنع ، فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة وحده ، ثم وضع إصبعيه في أذنيه ثم نادى بأعلى صوته : * (وإلى مدين أخاهم شعيبا ـ إلى قوله (عز وجل) ـ بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) * (2) نحن والله : بقية الله في أرضه.
فأمر الله (تعالى) ريحا سوداء مظلمة ، فهبت واحتملت صوت أبي فطرحته في أسماع الرجال والنساء والصبيان (3) ، فما بقي أحد من الرجال والنساء والصبيان إلا صعد السطوح وأبي مشرف عليهم.
وصعد فيمن صعد شيخ من أهل مدين كبير السن ، فنظر إلى أبي على الجبل ، فنادى بأعلى صوته : اتقوا الله يا أهل مدين ، فإنه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب (عليه السلام) حين دعا على قومه ، فإن أنتم لم تفتحوا له الباب ولم تنزلوه ، جاءكم من الله العذاب وأتى عليكم ، وقد أعذر من أنذر ، ففزعوا وفتحوا الباب وأنزلونا.
وكتب العامل (4) بجميع ذلك إلى هشام فارتحلنا في اليوم الثاني ، فكتب هشام إلى عامل مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيطمره (5) ، فأخذوه فطمروه (رحمة الله عليه).
وكتب إلى عامل مدينة الرسول أن يحتال في سم أبي في طعام أو شراب ، فمضى هشام ولم يتهيأ له في أبي شئ من ذلك (6).
163 / 27 ـ وحدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله ، قال : حدثنا أبو العباس
---------------------------
(1) النائع : العطشان ، والمتمايل جوعا ، ( المعجم الوسيط 2 : 963 ).
(2) هود 11 : 84 ـ 86.
(3) في ( ط ) زيادة : والإماء.
(4) (العامل) ليس في ( ع ، م ).
(5) أي يدفنه ، انظر ( القاموس المحيط ـ طمر ـ 2 : 81 ).
(6) نوادر المعجزات : 127 / 1 ، الأمان من الأخطار : 66 ، البحار 46 : 306 / 1 ، مدينة المعاجز : 332 / 44.
دلائل الإمامة _ 242 _
أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة ، عن يحيى بن زكريا ، عن الحسن بن محبوب الزراد ، عن محمد بن سنان ، عن المفضل بن عمر الجعفي ، عن جابر بن يزيد الجعفي ، قال : مررت بعبد الله بن الحسن بن الحسن فلما رآني سبني وسب الباقر (عليه السلام) ، فجئت إلى أبي جعفر (عليه السلام) فلما بصرني قال : يا جابر ـ متبسما ـ مررت بعبد الله بن الحسن فسبك وسبني.
قال : قلت : نعم يا سيدي ، فدعوت الله عليه.
فقال لي : أول داخل يدخل عليك هو ، فإذا هو قد دخل ، فلما جلس قال له الباقر (عليه السلام) : ما جاء بك يا عبد الله ؟
قال : أنت الذي تدعي ما تدعي.
قال له الباقر (عليه السلام) : ويلك ، قد أكثرت فقال : يا جابر ، قلت : لبيك.
قال : احفر في الدار حفيرة ، قال : فحفرت ، ثم قال : ائتني بحطب فألقه فيها.
قال : ففعلت ، ثم قال : اضرمه نارا ، ففعلت ، ثم قال : يا عبد الله بن الحسن ، قم فأدخلها واخرج منها إن كنت صادقا.
قال عبد الله : قم فادخل أنت قبلي.
فقام أبو جعفر (عليه السلام) ودخلها ، حتى لم يزل يدوسها برجل ، ويدور فيها حتى جعلها رمادا رمددا (1) ثم خرج فجاء وجلس ، وجعل يمسح العرق والعرق ينضح (2) من وجهه.
ثم قال : قم قبحك الله ، فما أقرب ما يحل بك كما حل بمروان بن الحكم وبولده ! (3)
164 / 28 ـ وأخبرني أبو الحسين محمد بن هارون بن موسى ، قال : حدثنا أبي (رضي الله عنه) ، قال : أخبرني أبو جعفر محمد بن أحمد بن الوليد ، قال : حدثنا محمد بن الحسن بن فروخ ، عن عبد الله بن الحجال ، عن ثعلبة ، عن أبي حازم يزيد غلام
---------------------------
(1) الرماد الرمدد : المتناهي في الاحتراق والدقة ( لسان العرب ـ رمد ـ 3 : 185 ).
(2) في ( ط ) : ينضج منه فيمسحه.
(3) إثبات الهداة 5 : 319 / 87 ، مدينة المعاجز : 340 / 62.
دلائل الإمامة _ 243 _
عبد الرحمن ، قال : كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) بالمدينة فنظر إلى دار هشام بن عبد الملك التي بناها بأحجار الزيت ، فقال : أما والله لتهدمن ، أما والله لتندر (1) أحجار الزيت (2) ، أما والله إنه لموضع النفس الزكية.
فسمعت هذا منه وتعجبت ، وقلت : من يهدم هذه الدار وهشام بناها ، وهو أمير المؤمنين ! ورأت عيني حيث مات هشام بعث الوليد بن يزيد فهدمها ، ونقلها حتى ندرت أحجار الزيت (3) .
---------------------------
(1) ندر الشئ : سقط (لسان العرب ـ ندر ـ 5 : 199).
(2) موضع بالمدينة داخلها (معجم البلدان 1 : 109).
(3) كشف الغمة 2 : 137 ، مدينة المعاجز : 340 / 63.