الفهرس العام




تقديم


دلائل الإمامة
ترجمة المؤلف
عصره وطبقته

  الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان ، والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى المختار ، والأئمة من آله المعصومين الأطهار.
  وبعد ، قال (سبحانه وتعالى) : * ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) * (1).
  في هذه الآية الكريمة ثلاث فقرات تنتهي إلى ثلاثة من أصول ديننا الاسلامي الحنيف : فقوله (تعالى) : * ( أطيعوا الله ) * ينتهي إلى التوحيد.
  وقوله : * ( وأطيعوا الرسول ) * ينتهي إلى النبوة.
  وقوله : * ( وأولي الأمر منكم ) * ينتهي إلى الإمامة.
  ولكل واحد منها أدلته وبراهينه.
  فالتوحيد ، الذي هو الكلمة الأولى على شفاه الأنبياء ، واللبنة الأولى في أس الديانات ، والأصل الأول في أصول العقيدة ، قد تلقى من أفواه الشكاك ، وتيه الزنادقة سيولا من الشبهات ، والمزاعم الواهيات على مر العصور ، ولا يزال ، غير أن النصر حليفه على الدوام ، فله الحجة الأقوى ، وحجتهم داحضة ، وله البرهان الثابت وليس لهم سوى زبد يطفو ثم ينجلي ويزول ، وقد انتصر للتوحيد كثيرون ، ولكن التوحيد

---------------------------
(1) النساء 4 : 59.

دلائل الإمامة _ 8 _

  منتصر بذاته ، فالكون كله شاهد عليه ، وحتى خصومه * ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) * (1).
  وكم هو جميل قول الشاعر :

فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفـي كـل شـئ لـه آيـة تدل على أنه iiواحد
  وأما النبوة ، فقد تسالم عليها أهل الديانات قاطبة ، فهي مصدرهم وموردهم وشرعتهم ومنهلهم ، ولكن لم يصف لهم الأمر على هذه الحال ، فقد نازعتهم طوائف من سكان الأرض جحدت النبوة ولم تعتقد ضرورتها ، ثم إن أهل الأديان تنازعوا فيما بينهم ، واختلفوا ، فمنهم من توقف على نبي وأنكر غيره ، ومنهم من تعداه إلى الذي بعده ثم توقف ، ومنهم من آمن بصحة نبوة جميع الأنبياء ، وأنها ختمت بالخاتم المصطفى (صلى الله عليه وآله) ، فكان لزاما إذن أن تقام الأدلة والبراهين على إثباتها لتكون راسخة في النفوس رسوخا تطمئن له القلوب بعد إذعان العقول.
  ومن تلك الدلالات ما تكفل به المولى (جل جلاله) ، باعث الأنبياء وناصرهم ، وخالق العباد وهاديهم ، ومنها ما هو من تكليف العباد أنفسهم في الفكر وإعمال النظر ، ولعل أظهر تلك الدلائل :
  1 ـ الوحي : وهو واسطة اتصال الأنبياء بالسماء ، وإمدادهم الدائم بمادة النبوة ، والوحي على أشكاله المختلفة ـ من رؤيا صادقة ، أو نداء من وراء حجاب ، أو نزول الملك ـ له آثاره الظاهرة التي لا تخفى على العقلاء وإن جحدها غيرهم ، إذ سيجد الناس من النبي تشريعا جديدا ونبأ جديدا لم يعرفوه من قبل ، ولم يسمعوا بمثله عن نبيهم رغم معيشتهم معه ومخالطتهم إياه * ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ) * (2).
  ثم إن في نزول الوحي دلالة أخرى يجدها الناس ظاهرة على النبي أثناء تلقيه الوحي ، إذ تمتلكه حالة لم تعرف في غيره على الإطلاق ، ولم يعهدها هو نفسه إلا في هذه الأثناء ، فمما صح عن نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنه كانت تأخذه الغشية عند هبوط

---------------------------
(1) فصلت 41 : 53.
(2) يونس 10 : 16.

دلائل الإمامة _ 9 _

بسم الله الرحمن الرحيم


  جبرئيل (عليه السلام) (1).
  وفي الحديث المقبول أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أوحي إليه وهو على ناقته فبركت ووضعت جرانها (2).
  وروي أنه كان ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد ، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا (3).
  وكثرت مشاهداتهم لمثل هذا حتى قال سفهاء المشركين أنه ينتابه تابع من الجن! فبلغ قولهم هذا طبيبا شهيرا عندهم يسمى : ضماد بن ثعلبة ، فقال : لو رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي ! فلقيه ، فقال : يا محمد ، إني ارقي من هذه الريح ، فهل لك ؟
  فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ( الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله : أما بعد ) ثم كلمه عن الوحي والنبوة ، فقال ضماد : أعد علي كلماتك هؤلاء ، فأعادهن عليه ، فقال : أعدها علي ، فأعادهن ثالثة ، فقال ضماد : والله لقد سمعت قول الكهنة ، وسمعت قول السحرة ، وسمعت قول الشعراء ، فما سمعت مثل هذه الكلمات ، والله قد بلغت قاعوس (4) البحر ، فمد يدك أبايعك على الاسلام (5).
  2 ـ المعجزة : لا بد للنبي أن يقيم شاهدا على صدق دعواه ، وأمانته في تبليغه ، ولا بد أن يكون هذا الشاهد مما يعجز غيره عن الاتيان بمثله ، أي أنه لا بد أن يكون أمرا خارقا للعادة ولقوانين الطبيعة المألوفة ، وهذا هو المعجز.
  والمعجز بهذا المعنى لا يتحقق لأحد إلا بتقدير الله (تعالى) وعنايته ، والمتتبع لحياة الأنبياء يجدها مليئة بهذه الشواهد ، فقد اقترنت العصا بموسى (عليه السلام) ، واقترن إحياء

---------------------------
(1) بحار الأنوار 18 : 260.
(2) المصدر 18 : 263 ، وجران البعير : مقدم عنقه.
(3) مناقب ابن شهرآشوب 1 : 43 ، وأفصم : أي أقلع.
(4) أي قعره الأقصى.
(5) أسد الغابة 3 : 42 ، دلائل النبوة 2 : 223.
دلائل الإمامة _ 10 _   الموتى بعيسى (عليه السلام) ، ونظائرها كثيرة ، وإذا كانت نبوة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) قد عززت بالمعجزة الخالدة الكبرى ، القرآن الكريم ، الذي تحدى ولا يزال ويبقى يتحدى الإنس والجن أن يأتوا بسورة من مثله * ( فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ) * (1) إذا كان كذلك فليس هو المعجزة الوحيدة له (صلى الله عليه وآله) ، بل إن المعاجز قد رافقت حياته الشريفة على امتدادها ، فكم حدثتنا الأخبار الصحاح عن نبوع الماء من بين أصابعه المباركة حتى يستقي منه الجيش الكبير ورواحله (2) ، وكم وضع يده الكريمة على طعام قليل فأشبع الجمع الكثير (3) ، وحادثة الهجرة الشهيرة وخروجه من بين رجال العصابة التي أحاطت بداره عازمة على قتله ، ونثره التراب على رؤوسهم وهم لا يبصرون ولا يشعرون به حتى طلع عليهم الصبح (4) ، وأشياء كثيرة امتلأت بها كتب السيرة النبوية المفصلة ، فكانت المعاجز ترافقه شواهد ودلائل على نبوته (صلى الله عليه وآله).
  3 ـ الاستقامة وسلامة النشأة : لما كان النبي مصدر الهداية ، فلا بد أن يكون موضع الطمأنينة التامة ، ولا يكون كذلك إلا إذا تميز بالاستقامة والطهر مدة حياته ومنذ نشأته الأولى ، فلا يخالطه نقص ، ولا يشوب سيرته ذم أو لوم ، ولا يدنو منه عمل مشوم ولا قول ملوم ، مجبول على النزاهة وسلامة النفس وبراءة العرض من الرجس والدنس ، وكأن الصفات الدنيئة تخالف طبعه وتغايره بالكلية ، فهو مجبول على الفضيلة ومكارم الأخلاق ومعالي الهمم ، مسدد في خطاه ، متزن في قوله وفعله ، وهذه هي العصمة التي تلطف بها الله (تعالى) على صفوته من خلقه ، فاصطنعهم لنفسه ، وأحاطهم بعنايته ، فنشأوا بعينه ورعايته ، مثلا أعلى يجتمع فيه كل محمود من الخصال ، ولا يدانيه ما يخدش في علو منزلته.

---------------------------
(1) هود 11 : 14.
(2) دلائل النبوة 6 : 7.
(3) مناقب ابن شهرآشوب 1 : 120 ـ 132 ، دلائل النبوة 6 : 101 ـ 149.
(4) دلائل النبوة 2 : 470.

دلائل الإمامة _ 11 _

  روي عن نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله) في سفره مع عمه أبي طالب إلى الشام وكان يومها صبيا ، أنه لقيه بحيرا الراهب وقد تفرس فيه علامات النبوة ، فأراد أن يسأله عن أشياء ، فقال له : أسألك باللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك ، قال بحيرا هذا مجاراة لقريش في أيمانهم.
  فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : لا تسألني باللات والعزى ، فوالله ما أبغضت كبغضهما شيئا قط (1).
  وهكذا نشأ النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) نشأة لا تعرف إلا الكمال ، متنزها عن كل ما كان يخوض فيه ذلك المجتمع من عادات وممارسات واعتقادات تافهة ، بل إنه (صلى الله عليه وآله) قد تنزه حتى عن مباحات الأطعمة التي لا تلائم عظيم منزلته ، فقد كان لا يأكل الثوم والبصل كراهة أن توجد رائحتهما في فيه الشريف .
  فهو إذن (صلى الله عليه وآله) عما هو أشد كراهة منها أشد بعدا ، حتى عرف في مجتمع قريش ، وفي عنفوان شبابه ، بالصادق الأمين ، وهذه درجة لا تنال بالتكلف والتمني ، ولا تنال إلا بسمو لا يضاهى ، يشهد له الكبير والصغير كما يشهدون للشمس ارتفاعها في رائعة النهار.
  وقد كان لهذه النشأة بعدان :
  الأول : أنها الداعي لميل الناس إليه ، وتوجههم نحوه هاديا وأسوة ومثلا أعلى .
  والثاني : أنها كانت شاهدا لا غنى عنه على صدقه وأمانته ، فكانت دليلا ساطعا على نبوته.
  4 ـ السبق في العلم والحكمة : إذ لا يصح أن يلتف الناس حول رجل ، ويسلمون إليه قيادهم وهم يجدون من هو أعلم منه ، أو أرجح فهما وحكمة ومعرفة في شؤون الدين والدنيا ، وهذه الناحية تكاد تكون بديهية لازمت جميع الأنبياء بين أقوامهم ، وهي أشد ما تكون بروزا وظهورا في حياة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم).
  5 ـ رسالاتهم وآثارهم : أي مضمون وفحوى الرسالة التي يأتي بها النبي ويدعو إليها ، ثم ما يؤثر عنه من قول وفعل.
  وهذه قضية لا بد من إعمال الفكر فيها ،

---------------------------
(1) إعلام الورى : 18.

دلائل الإمامة _ 12 _

  لتطمئن النفس من خلال النظر في رسالة النبي وأحاديثه وأمره ونهيه أنه نبي حقا لا ينطق عن الهوى ، ولأجل بلوغ هذه المعرفة لا بد من معرفة مسبقة بمعنى النبوة والغرض منها.
  فمن كان له معرفة في الفقه مثلا ، ثم يرى آثار الشيخ الطوسي ، فسوف لا يخفى عليه أنه كان فقيها بارعا.
  من عرف معنى الكلام ، ورأي آثار الشريف المرتضى ، أذعن له وأقر بأنه متكلم من الطراز الأول.
  ومن عرف الشعر ، وسمع شيئا من شعر المتنبي ، أدرك أنه الشاعر الفحل الذي لا يجارى.
  وعلى هذا النحو آمن كثيرون بنبوة الأنبياء ، وفيه مع نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله) شواهد كثيرة ، منها ما كان من قصة النجاشي ملك الحبشة العادل بعد ما سمع من جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنهما) شيئا عن رسالة النبي (صلى الله عليه وآله) ، مع أنه قد استمع قبله إلى صديقه القديم عمرو بن العاص وهو يملي عليه التصور الجاهلي الجاحد لنبوة نبينا (صلى الله عليه وآله) ، فدعا بالمهاجرين من المسلمين ليمثلوا أمامه ، فقال لهم : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ؟
  فتكلم جعفر ، فقال : أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسئ الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.
  فصدقناه ، وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله ، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا ، وحرمنا ما حرم علينا ، وأحللنا ما أحل لنا ، فعدا علينا قومنا ، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ...
  فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به نبيكم شئ ؟
  قال : نعم.
  قال : فاقرأ علي ، فقرأ عليه صدر سورة مريم ، قالت أم سلمة (رضي الله عنها) وهي

دلائل الإمامة _ 13 _

  تروي الحديث : فبكى ـ والله ـ النجاشي حتى اخضلت لحيته ، وبكت أساقفته حتى اخضلت مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم ، فقال النجاشي : إن هذا ، والذي جاء به عيسى ، ليخرج من مشكاة واحدة (1).
  ولم تنحصر هذه الشواهد بذلك العهد ، بل هي مستمرة متصلة إلى يومنا هذا ، ونحن نشهد كل حين إيمان العلماء والحكماء من أقطار الدنيا بهذا الدين الحنيف بمجرد أن يقفوا عليه وقفة الناظر المتدبر المنصف.
  6 ـ نص النبي السابق : وهذا الشاهد وإن لم يتضح لنا كونه ظاهرة ملازمة لكل النبوات ، غير أنه عندما يتوفر يكون دليلا قويا وحجة قاطعة على نبوة النبي اللاحق.
  ومن هنا احتج القرآن الكريم لنبوة نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ببشائر الأنبياء السابقين ونصوص كتبهم عليه : * ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) * (2) وحكاية عن عيسى (عليه السلام) : * ( ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) * (3).
  وكان هذا دليلا كافيا لإسلام أسقف الروم الأعظم ، وذلك لما بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) دحية الكلبي بكتابه إلى هرقل قيصر الروم ، فاستمع هرقل إلى الكتاب ، فقال لدحية : إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل ، ولكني أخاف الروم على نفسي ، ولولا ذلك لاتبعته ، فاذهب إلى (ضغاطر) الأسقف الأعظم في الروم ، واذكر له أمر صاحبك وانظر ماذا يقول.
  فجاءه دحية وأخبره بما جاء به من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال له ضغاطر : والله إن صاحبك نبي مرسل نعرفه بصفته ، ونجده في كتابنا ، ثم أخذ عصاه وخرج على الروم وهم في الكنيسة فقال : يا معشر الروم ، قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا إلى الله ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله قال : فوثبوا

---------------------------
(1) إعلام الورى : 44 ، الكامل في التاريخ 2 : 80.
(2) الأعراف 7 : 157.
(3) الصف 61 : 6.

دلائل الإمامة _ 14 _

  عليه فقتلوه (رحمه الله) فرجع دحية إلى هرقل وأخبره الخبر ، فقال : قد قلت إنا نخافهم على أنفسنا (1).
  7 ـ النسب الرفيع : لم يجعل الله النبوة إلا في رجل ذي شرف ومنعة في قومه هي في الذروة ، ليكون ذلك داعية لتقبل الناس لشخصه ودعوته وزعامته ، وقد جاء في قصة هرقل بعد أن بلغه كتاب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه بعث إلى جماعة من أهل مكة كانوا في تجارة لهم في الشام ، وفيهم أبو سفيان ، فأجلسه وأجلسهم من خلفه وقال لهم ، إني سائله فإن كذب فكذبوه.
  قال أبو سفيان : لولا أن يؤثر عني الكذب لكذبت ، فسأله عن النبي ، قال : فصغرت له شأنه ، فلم يلتفت إلى قولي ، وقال : كيف نسبه فيكم ؟ قلت : هو أوسطنا نسبا .
  قال هرقل : وكذلك الأنبياء (2).
  وهكذا نجد معنى قوله (تعالى) : * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * (3) مجسدا في خصال نبينا الأعظم (صلى الله عليه وآله) وسائر الأنبياء (عليهم السلام).
  وهكذا أحيطت النبوة بهذه الدلائل وغيرها ، حتى صارت عقيدة ثابتة راسخة في قلب كل من آمن بالتوحيد ، لا يشك فيها ولا يرتاب.
  وأما الإمامة ، فقد بقيت عرضة للآراء والأقاويل والتكذيب والتشكيك ، فلأجل هذا كانت الكتابة في دلائل الإمامة في غاية الأهمية ، إن لم نقل إنها تتقدم في أهميتها على أي بحث آخر ، إذ إن من الواجب أن يدرك المسلمون حقيقة الإمامة وأبعادها ، ولو أنهم أدركوا ذلك لأيقنوا أنها من صلب العقيدة ، وأنها ضرورة تماما كالنبوة.
  قال (تعالى) : * (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا) * (4) قال المفسرون : المراد ولنجعلن من أمتك أئمة يهدون بأمرنا (5).

---------------------------
(1) الكامل في التاريخ 2 : 211.
(2) المصدر 2 : 211 ـ 212.
(3) الأنعام 6 : 124.
(4) السجدة 32 : 24.
(5) الزمخشري 3 : 516 ، الرازي 25 : 186 ، المراغي 21 : 118 ، إسماعيل حقي البروسوي 7 : 126.

دلائل الإمامة _ 15 _

  وعامّة حديثه منكر ، أبو زرعة يقول : واهي الحديث ، البخاري : فيه نظر ، أبو داود يقول : ليس بشيء ، الترمذي يقول : ليس بالقوي ، النسائي يقول : ليس بثقة ، النسائي أيضاً : ضعيف ، الدارقطني : ضعيف ، الجوزجاني : ضعيف ، ابن حبّان : لا يحلّ كتب حديثه إلاّ على جهة التعجّب كان يتفرّد بالموضوعات عن الاثبات ، البخاري في الاوسط : لا يتابع على حديثه ، ابن عمّار الموصلي : ضعيف ، الساجي : ضعيف (1) .
  ويروون هذا الخبر عن الحسن بن الحسن المجتبى ، يرويه عنه البيهقي بسنده في السنن الكبرى .
  لكن في السند:
  سفيان بن عيينة ، وفيه كلام (2) .
  ووكيع بن جرّاح ، وفيه كلام لاسباب منها شرب المسكر والفتوى بالباطل وغير ذلك (3) .
  وابن جريج ، وفيه كلام كثير (4) .

---------------------------
(1) تهذيب التهذيب 8/27 .
(2) تهذيب التهذيب 4/106 .
(3) ميزان الاعتدال 4/336 ، تاريخ بغداد 13/472 ، تهذيب التهذيب 11/110 .
(4) تهذيب التهذيب 6/359 ، ميزان الاعتدال 2/656 ، تقريب التهذيب 1/520 .

دلائل الإمامة _ 16 _

  وقال الأسفرائيني : اتفق جمهور أهل السنة والجماعة على أصول من أركان الدين ، كل ركن منها يجب على كل عاقل بالغ معرفة حقيقته ، ثم ذكر الأركان إلى أن قال : والركن الثاني عشر : إن الإمامة فرض واجب على الأمة لأجل إقامة الإمام ، ينصب لهم القضاة والأمناء ، ويضبط ثغورهم ، ويغزي جيوشهم ، ويقسم الفئ بينهم ، وينتصف لمظلومهم من ظالمهم (1).
  وقالت الإمامية : ليس في الاسلام أمر أهم من تعيين الإمام ، وإن الإمام لطف من الله يجب نصبه تحصيلا للغرض (2).
  ومن هذا يثبت أن إجماعهم على وجوب الإمامة مما لا ريب فيه ، ولكن بعد أن تحقق هذا الإجماع افترقوا فيها على فرقتين :
  قالت إحداهما : إن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار.
  وقالت الأخرى : إنها تثبت بالنص والتعيين.
  فمن قال بالقول الأول فقد ذهب إلى القول بإمامة كل من صارت إليه الإمامة ولو باتفاق جزء من الأمة ، إما مطلقا وإما بشرط أن يكون قرشيا ، فقالوا بإمامة معاوية وأولاده ، وبعدهم مروان وأولاده ثم بني العباس (3).
  وأما أصحاب القول الثاني ، فقد ذهبوا إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد نص على علي (عليه السلام) بالإمامة من بعده ، ثم على أحد عشر من ولده ، آخرهم الإمام المهدي المنتظر (عليهم السلام أجمعين).
  وبعد هذا الاختلاف ، واختلافات أخرى تشعبت عن الفريقين ، صارت الإمامة محل النزاع الأكبر في هذه الأمة حتى قيل : إنه ما سل سيف في الاسلام على قاعدة دينية كما سل على الإمامة في كل زمان.
  فمن هنا أصبح حريا أن تقام عليها الدلائل وتنصب البراهين ، فكان ذلك حقا

---------------------------
(1) الفرق بين الفرق : 323 ، 349.
(2) المقالات والفرق : 139 ، تجريد الاعتقاد : 221 ، ومعنى اللطف : هو ما يقرب المكلف إلى الطاعة ويبعده عن المعصية.
(3) الملل والنحل 1 : 33 ـ 34.

دلائل الإمامة _ 17 _

  على قدر يوازي قدرها ، فأقيمت البراهين وأنشئت الدلائل ، ومن هذه الدلائل ما جاء مشتركا بين الفريقين ، ومنها ما تميز به كل منهما عن الآخر بحسب ما بينهما من اختلاف.
  ولكن حتى هذا القدر المشترك الذي قال به الجميع لا تجده ينطبق على الخلفاء الذين قال الفريق الأول بإمامتهم ، فلا يخفى أن الكثير من أولئك الخلفاء قد توصل إلى الخلافة بقوة السيف رغم مخالفة أغلب أبناء هذه الأمة ، فلا هو أتى باتفاق الأمة واختيارها ولا باتفاق أصحاب الحل والعقد ، ولا بتعيين مباشر بنص النبي (صلى الله عليه وآله) ، كما أن منهم من كان مجاهرا بالفسوق ، منتهكا لحدود الله ، ميالا إلى المعاصي ، محاربا لأولياء الله ، وهذه صفات لا ينكرها أحد في خلفاء بني أمية وبني العباس ، وقليل منها متى وجد في أحدهم فهو كاف لسلب الأهلية عنه ، وبطلان خلافته ، وهذا قدر لا يختلف عليه المسلمون ، إلا من قال بصحة إمامة الفاجر للمؤمن ، وهذا قول غريب لا يستقيم مع معنى الاسلام وأهدافه ، ولا مع الغرض من بعثة الأنبياء وتبليغهم رسالات ربهم (تعالى).
  من هنا إذن حق لنا أن نقتصر على ذكر ما يعتد به من دلائل الإمامة وما يلائم أهداف الشريعة وطبيعتها وبعثة الأنبياء وأهدافها ، تاركين الشاذ الغريب لضعفه ـ أولا ـ وبغية الاختصار ـ ثانيا ـ لأن الذي بين أيدينا هو مقدمة كتاب وليس كتاب.

دلائل الإمامة

  بعد ما ثبت أن الإمامة هي رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا ، وأنها امتداد للوجود النبوي المقدس وحفظ لعهده وحماية لأمانته وقيام برسالته ، يمكننا أن نقول إن كل ما صح أن يكون دليلا على النبوة صح أن يكون دليلا على الإمامة ، فبه تعرف ، وبه يقوم الشاهد عليها ، فدلائل النبوة هي نفسها دلائل الإمامة ما خلا نزول الوحي الذي هو من شأن الأنبياء وحدهم ، ولا وحي بعد خاتم الأنبياء ، بالاجماع.
  ولكن عندما يختفي هذا الدليل هنا يحل محله دليل آخر ، هو من الوحي أيضا ، ولكنه وحي إلى النبي يحمل إليه أهم دلائل الإمامة وأول شروطها ، وبهذا تكون دلائل

دلائل الإمامة _ 18 _

  الإمامة كما يلي :
  1 ـ النص : إن الإمامة منصب إلهي مقدس لا يتحقق لأحد إلا بنص من الله (تعالى) ، أو من نبيه المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى * (إن هو إلا وحي يوحى) *.
  وما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي بعث رحمة للعالمين ، وليرفع من بين الناس أسباب الخلاف والفرقة ، ويزرع بينهم كل ما من شأنه أن يؤلف بينهم ، وينظم أمرهم ، ويحفظ فيهم العدل والانصاف ، فلا يمكن أن يفارق أمته ويتركها هملا ، تتحكم فيها الآراء والاجتهادات المتباينة ، فيعود أمرها فوضى ، وكأن نبيا لم يبعث فيها أو كان الله (تعالى) لم يرسل إليهم شريعة واحدة تجمعهم وتنظم أمرهم.
  بل إن النبي ، الرحمة المهداة ، هو أرحم بأمته من أن يتركها هكذا ، وهو أحرص على رسالته من أن يدعها تحت رحمة آراء شتى واجتهادات متضاربة ، بل قد يعد أمر كهذا إخلال بالأمانة التي كلف النبي (صلى الله عليه وآله) بأدائها ، وتقصير بحق الرسالة التي بعث لتبليغها ، وكل هذا بعيد عن ساحة النبوة كل بعد ، فأي مسلم لا يؤمن بأن نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد أدى أمانة ربه أحسن الأداء ، وبلغ رسالته أتم تبليغ ؟
  وأي معنى سيبقى لأداء الأمانة ما لم يستأمن عليها رجلا كفوءا يتولى حمايتها وإقامة حدودها وتنفيذ أحكامها ؟!
  ولقد أتم ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أداء لأمانته ، فنص على وصيه وخليفته من بعده ، وسماه باسمه في غير موضع ومناسبة ، ومن ذلك :
  أ ـ الحديث المتواتر في خطبة الغدير الشهيرة ، حيث أوقف النبي (صلى الله عليه وآله) مائة ألف من المسلمين حجوا معه حجة الوداع وعادوا معه ، فلما بلغوا غدير خم حيث مفترق طرقهم إلى مواطنهم ، نادى مناديه أن يرد المتقدم ، وينتظر المتأخر حتى يلحق ، ثم قام فيهم خطيبا وهو آخذ بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام).
  فقال : ( ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) قالوا : بلى .
  قال : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ) (1).

---------------------------
(1) سنن الترمذي 5 : 633 / 3713 ، سنن ابن ماجة 1 : 43 / 116 و 45 / 121 ، مسند أحمد 1 : 84 ، 119 ، 152.

دلائل الإمامة _ 19 _

  ب ـ قوله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) في الحديث المتفق عليه : ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ) (1).
  وتكرر منه (صلى الله عليه وآله) التصريح باسم علي (عليه السلام) لخلافته ، وأنه أولى الناس بالنبي وبالدين والدولة من بعده ، بما فيه الكفاية لمن أراد الاستدلال (2).
  وقبل الحديث النبوي الشريف كانت آيات الكتاب المجيد التي تفيد هذا المعنى بشكل واضح لا غبار عليه ، وأولها : قوله (تعالى) : * ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) * (3) ونزولها في علي أمر أجمع عليه أهل التفسير (4).
  ثم جاءت النصوص النبوية الشريفة المتفق على صحتها بحصر عدد الأئمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) باثني عشر إماما ، حدا فاصلا وبيانا هاديا لا يترك منفذا لاختلاف الآراء وتدخل الاجتهادات ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( الخلفاء بعدي اثنا عشر ، كلهم من قريش ) (5).
  إذن فقد اجتمعت الأمة على وجوب الإمامة ، ثم اجتمعت على أن الخلفاء بعد

---------------------------
(1) 331 و 4 : 281 ، 368 ، 370 ، 372 و 5 : 347 ، 366 ، الخصائص للنسائي : ح 78 ـ 83 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 110 ، 134 ، 371 ، مصابيح السنة 4 : 172 / 4767 ، السيرة الحلبية 3 : 274 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 112 ، تذكرة الحفاظ 1 : 10 ، البداية والنهاية 5 : 183 ـ 188 و 7 : 359 ، أسد الغابة 4 : 28 ، الاستيعاب ـ بهامش الإصابة ـ 3 : 36 ، (1) صحيح البخاري 5 : 90 / 202 ، صحيح مسلم 4 : 1870 / 30 - 32 ، سنن الترمذي 5 : 638 / 3724 ، سنن ابن ماجة 1 : 43 / 115 ، مسند أحمد 1 : 173 ، 175 ، 182 ، 184 ، 331 و 3 ، 338 ، تذكرة الحفاظ 1 : 10.
(2) لتتبع المزيد من النصوص راجع : نهج الحق للعلامة الحلي ، والغدير للأميني ، والخصائص للنسائي ، وسائر كتب مناقبه (عليه السلام) وهي كثيرة.
(3) المائدة 5 : 55.
(4) انظر : أسباب النزول : 113 ، تفسير الطبري 6 : 186 ، تفسير الرازي 12 : 26 ، جامع الأصول 9 : 478 / 6503 ، البداية والنهاية 7 : 371 ، وغيرها.
(5) صحيح البخاري 9 : 147 / 79 ـ كتاب الأحكام ، باب الاستخلاف ، صحيح مسلم 3 : 1452 / 5 ـ 10 ، إعلام الورى : 381 ـ 386.

دلائل الإمامة _ 20 _

  النبي (صلى الله عليه وآله) اثني عشر خليفة كلهم من قريش ، ثم اتفقوا على تسمية علي (عليه السلام) في نصوص عديدة ، وإن تأولها بعضهم على خلاف ظاهرها ، ثم اتفقوا أخيرا على النص النبوي الصريح الذي ختم على الأمر كله ، وزاده ظهورا وتحديدا لم يدع فيه مجالا للشك والتردد ، ألا وهو حديث الثقلين الذي نصه : ( ألا أيها الناس ، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم الثقلين ـ ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ـ أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) ، وزاد في رواية مسلم وغيره : ( أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ) (1).
  أما الصحاح الواردة من طرق الإمامية في ذكر الأئمة الاثني عشر بعدتهم وأسمائهم فهي كثيرة (2).
  2 ـ الاستقامة وسلامة النشأة : إن ضرورة الاستقامة والطهر وسلامة النشأة في الإمام هي تماما كضرورتها في النبي بلا فارق ، فالإمام هو القائم مقام النبي ، الشاغل لفراغه ، المؤتمن على رسالته ، والمؤدي لدوره في حماية الشريعة وإقامة حدودها ، فلا بد أن يكون له من النزاهة والطهر ما كان للنبي ليكون مؤهلا لخلافته.
  ولا خلاف في أن ذلك كان لعلي (عليه السلام) دون سائر الصحابة ، فهو الناشئ في حجر النبي (صلى الله عليه وآله) ، الملازم له ملازمة الظل لصاحبه ، فلا هو فارق النبي ، ولا خلاله فارقت خلاله ، وتلك منزلة لم يشاركه فيها أحد حتى ولد الحسنان (عليهما السلام) فكان حظهما حظ أبيهما ، حتى خصهم الله (تعالى) بآية التطهير ، فقال : * (إنما يريد الله

---------------------------
(1) صحيح مسلم 4 : 1873 / 36 ، 37 ـ (2408) ، سنن الترمذي 5 : 662 / 3786 ، 3788 ، مسند أحمد 3 : 14 ، 17 و 4 : 367 و 5 : 182 ، 189 ، المستدرك على الصحيحين 3 : 148 ، مصابيح السنة 4 : 190 / 4816 ، تفسير الرازي 8 : 163 ، تفسير ابن كثير 4 : 122 ، السيرة الحلبية 3 : 274 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 111.
(2) انظر إعلام الورى : الركن الرابع ـ الفصل الثاني : 386 ـ 392 ، وكتاب كفاية الأثر لأبي القاسم الخزاز القمي ، ومقتضب الأثر لابن عياش ، وغيرها كثير.

دلائل الإمامة _ 21 _

  ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (1) واتفق المسلمون على أنه مع نزول هذه الآية الكريمة دعا النبي (صلى الله عليه وآله) عليا وفاطما والحسن والحسين ، وجلل عليهم بكساء ، ثم قال : ( اللهم هؤلاء أهلي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) (2).
  ومثل هذا يقال مع أولادهم الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، فلا أحد يشك في أنهم الأطهر مولدا ، والأصح نشأة ، والأقوم خلقا ، تفردوا بالمنزلة الأعلى ، والمقام الأسنى ، فلا يدانيهم فيه سواهم ، ولا زعم أحد منازعتهم عليه ، والشهادة لهم بذلك قائمة مر العصور حتى على ألسنة خصومهم ، فهم إذن المؤهلون للإمامة دون سواهم.
  قال الإمام علي (عليه السلام) : ( لا يقاس بآل محمد (صلى الله عليه وآله) من هذه الأمة أحد ، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفئ الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حق الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ) (3).
  وقال (عليه السلام) : ( إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم ) (4).
  3 ـ السبق في العلم والحكمة : هذه أيضا ضرورة لازمة في الإمام لأجل أن يكون أهلا لهذه المنزلة ، وكفؤا لهذه المسؤولية ، وقطبا تلتف حوله الناس وتطمئن إلى سبقه في العلم والحكمة والمعرفة ، وقدرته الفائقة في مواجهة ما تبتلى به الأمة والدولة ، فلا يحتاج إلى غيره ممن هم محتاجون إلى إمام يهديهم ويثبتهم.
  وهذه خصلة أشد ما تكون ظهورا في علي وأولاده المعصومين (عليهم السلام) ، فكما كان هو (عليه السلام) مرجعا لأهل زمانه من خلفاء وغيرهم ، يرجعون إليه في كل معضلة ،

---------------------------
(1) سورة الأحزاب 33 : 33.
(2) صحيح مسلم 4 : 1883 / 61 ـ (2424) ، سنن الترمذي 5 : 351 / 3205 و 663 / 3787 ، مسند أحمد 1 : 330 و 6 : 292 ، أسباب النزول : 200 ـ 201 ، تفسير ابن كثير 3 : 493 ، الصواعق المحرقة : 143.
(3) نهج البلاغة ـ صبحي الصالح خ 2 ص 47.
(4) المصدر : خ 144 ص 201.

دلائل الإمامة _ 22 _

  ويلجأون إليه في كل مأزق ، وأمرهم في ذلك مشتهر ، وقد تكرر قول عمر بن الخطاب : لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن ، وقوله : لولا علي لهلك عمر (1).
  ولم يكن فضله على عمر بأكثر منه على الآخرين ، وليس عمر بأول من أقر له بفضله ، فقد أقر له الجميع في غير موضع ومناسبة (2) ، وأجمل كل ذلك قول ابن عباس : ( والله لقد أعطي علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم ، وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر ) (3).
  ذلك واحد الناس ، فلم تعرف الناس أحدا غيره قال : ( سلوني ، فوالله لا تسألوني عن شئ إلا أخبرتكم ) (4).
  وهكذا كان شأن الأئمة من ولده (عليهم السلام) أعلم أهل زمانهم وأرجحهم كفة بلا خلاف ، فقد علموا بدقائق ما كان عند الناس ، وزادوا عليهم بخصائص علمهم الموروث من جدهم المصطفى وأبيهم المرتضى. وقد شاع قول أبي حنيفة في الإمام الصادق (عليه السلام) : لم أر أفقه من جعفر بن محمد الصادق ، وإنه لأعلم الناس باختلاف الناس (5).
  ولم يكن الإمام الصادق بأعلم من أبيه (عليهما السلام) بل علمه علم أبيه ، وعلم الأئمة من بنيه علمه.
  قال أبو حنيفة : دخلت المدينة ، فرأيت أبا عبد الله الصادق فسلمت عليه ، وخرجت من عنده فرأيت ابنه موسى في دهليز وهو صغير السن ، فقلت له : أين يحدث الغريب إذا كان عندكم وأراد ذلك ؟ فنظر إلي ثم قال : يتجنب شطوط الأنهار ، مساقط الثمار ، وأفنية الدور والطرق النافذة ، والمساجد ، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ويرفع ويضع بعد ذلك حيث شاء.
  قال : فلما سمعت هذا القول منه نبل في عيني ، وعظم في قلبي ، فقلت له : جعلت

---------------------------
(1) الاستيعاب ـ بهامش الإصابة ـ 3 : 39 ، الإصابة 2 : 509 ، أسد الغابة 4 : 23.
(2) انظر الاستيعاب 3 : 38 ـ 47.
(3) الاستيعاب 3 : 40 ، أسد الغابة 4 : 22.
(4) الاستيعاب 3 : 43 ، الإصابة 2 : 509.
(5) تهذيب الكمال 5 : 79 ، سير أعلام النبلاء 6 : 257 ـ 258.

دلائل الإمامة _ 23 _

  فداك ، ممن المعصية ؟ فنظر إلي ثم قال : اجلس حتى أخبرك ، فجلست ، فقال : إن المعصية لا بد أن تكون من العبد أو من ربه ، أو منهما جميعا ، فإن كانت من الله (تعالى) فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويأخذه بما لم يفعله.
  وإن كانت منهما فهو شريكه ، والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف.
  وإن كانت من العبد فعليه وقع الأمر ، وإليه توجه النهي ، وله حق الثواب والعقاب ، ووجبت الجنة والنار.
  قال أبو حنيفة : فلما سمعت ذلك قلت : * (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) * (1) وقد نظم كلامه (عليه السلام) هذا شعرا ، فقيل :
لـم  تـخل أفـعالنا الـلاتي نذم لها إحدى ثلاث خلال حين iiنأتيها
إمـا  تـفرد بـارينا بـصنعتها فـيسقط الـلوم عـنا حين ننشيها
أو كـان يـشركنا فـيها فـيلحقه مـا سـوف يلحقنا من لائم iiفيها
أو  لـم يـكن لإلـهي في جنايتها ذنب ، فما الذنب إلا ذنب iiجانيها
سيعلمون إذا الميزان شال بهم أهم جنوها ، أم الرحمن جانيها ؟(2) 
  وهكذا كانوا (عليهم السلام) ، لم يعرف عن أحدهم أنه تلكأ يوما في مسألة ، أو أفحمه أحد في حجة ، بل كان سبقهم نوعا من الاعجاز ، وأظهر ما يكون ذلك مع الإمام محمد الجواد الذي أوتي العلم والحكمة صبيا ، وسبق علماء عصره ومتكلميهم وشهدوا له بالفضل والتقدم والعلو وتأدبوا في مجلسه ولم يبلغ التاسعة من العمر.
  قال الشيخ المفيد : عن المعلى بن محمد ، قال : خرج علي أبو جعفر (عليه السلام) حدثان موت أبيه ، فنظرت إلى قده لأصف قامته لأصحابنا ، فقعد ، ثم قال : يا معلى ، إن الله (تعالى) احتج في الإمامة بمثل ما احتج به في النبوة ، فقال : * (وآتيناه الحكم صبيا) * (3).

---------------------------
(1) أمالي المرتضى 1 : 151 ـ 152 ، مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 4 : 314 ، بحار الأنوار 48 : 106 ، والآية من سورة آل عمران 3 : 34.
(2) أمالي المرتضى 1 : 152.
(3) الارشاد : 325 ، إعلام الورى : 349 ـ 350 ، والآية من سورة مريم 19 : 12.

دلائل الإمامة _ 24 _

  4 ـ أحاديثهم وآثارهم : إن الاستدلال على الإمام من حديثه وآثاره استدلال صحيح ، فسلوك المدعي وحديثه خير شاهد على حقيقة دعواه وجوهرها ، وهو شاهد أيضا على صدق دعواه عندما ترافقه القرائن والدلائل الأخرى ، وإلا فلا تعد وحدها دليلا كافيا على إمامته.
  ومن أراد معرفة ذلك عن أئمة الهدى (عليهم السلام) فإنه يجده ظاهرا ظهور النهار في أحاديثهم الشريفة ، معدن الهداية ، وسبل النجاة ، دعاة إلى الحق هداة إليه بالقول والعمل.
  فما على الباحث إلا أن يتوخى ما صح عنهم من الحديث والأثر ليجد ذلك بينا بلا عناء ، ولا بد من الإشارة هنا إلى مسألة هي في غاية الأهمية ، فقد قلنا إن على الباحث أن يتوخى ما صح عنهم (عليهم السلام) ، ونؤكد هذا الكلام ونقول : إن عليه أن يحذر ما اختلط بحديثهم من أباطيل الوضاعين ، فقد كثرت الكذابة عليهم كما كثرت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقد فصل الإمام الرضا (عليه السلام) القول في ذلك أجمل تفصيل وأدقه ، وهو يقول : ( إن مخالفينا وضعوا أخبارا في فضائلنا وجعلوها على أقسام ثلاثة :
  أحدها : الغلو ، وثانيها : التقصير في أمرنا ، وثالثها : التصريح بمثالب أعدائنا ، فإذا سمع الناس الغلو فينا كفروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا ، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا ، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا ، وقد قال الله (عز وجل) : * (لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) * (1).
  5 ـ نص الإمام السابق : تقدم أن نص النبي كان خير شاهد على نبوة النبي اللاحق له ، ومثل هذا يقال مع الإمام ، بل هو واضح مع الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ، ملازم لهم جميعا ، فقد ثبت النص من كل إمام إلى الإمام اللاحق بالطرق الصحيحة والكثيرة التي كانت سببا في اطمئنان أتباعهم وأشياعهم (2).
  وهنا ينبغي التنبيه إلى أن هذه النصوص لا بد أن تكون منسجمة مع نصوص

---------------------------
(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1 : 304 / 63 ، والآية من سورة الأنعام 6 : 108.
(2) راجع في ذلك تراجم الأئمة (عليهم السلام) في : الارشاد ، وإعلام الورى.

دلائل الإمامة _ 25 _

  النبي (صلى الله عليه وآله) في موضوع الإمامة ، من قبيل : حديث الثقلين ـ ( كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ) ـ ، وحديث : ( الخلفاء بعدي اثنا عشر ، كلهم من قريش ) .
  فما جاء مخالفا لهذا فهو مردود لمخالفته نص النبي (صلى الله عليه وآله) ، ومن هنا صحت النصوص عنهم (عليهم السلام) ، وبطلت عن غيرهم ، فلا اعتبار لما عرف بولاية العهد التي يعهد بها الخليفة إلى ابنه أو أخيه كما هو شأن الخلفاء الأمويين والعباسيين لمخالفتها لنصوص النبي (صلى الله عليه وآله) المتقدمة وغيرها ، أضف إلى ذلك أن أحدا منهم لم يصل إلى الخلافة بالطريق المشروع الذي يقره الاسلام ليكون من حقه أن يوصي لمن بعده ، فولاية العهد تلك إنما هي من قبيل تبادل الشئ المغصوب ، فلا أثر لهذا التبادل يرجى منه رفع الغصبية ، بل على العكس ، فهو تكريس لها وإصرار عليها.
  هذه هي أهم الفوارق بين عهود الأئمة (عليهم السلام) وعهود الملوك ، بغض النظر عن كون الأئمة (عليهم السلام) إنما يعهدون بعهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا من عند أنفسهم.
  6 ـ النسب الرفيع : إن الإمامة ـ مقام النبوة ـ لا يصلح لها إلا ذو نسب وشرف رفيع كالنبي بلا فارق .
  وهذه مزية أئمة أهل البيت (عليهم السلام) دون سواهم ، بلا خلاف ولا نزاع ، بل لا يدانيهم فيه حتى بني عمومتهم.
  روى الخطيب في تاريخه : أن هارون الرشيد حج مرة ومعه الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) ، فأتى قبر النبي (صلى الله عليه وآله) وحوله قريش وشيوخ القبائل ، فقال : السلام عليك يا رسول الله يا ابن عمي ، افتخارا على من حوله ، فدنا موسى بن جعفر (عليهما السلام) ، فقال : السلام عليك يا رسول الله يا أبت ، فتغير وجه هارون ، وقال : هذا الفخر ـ يا أبا الحسن ـ حقا (1).
  7 ـ المعجزة : لقد أخرنا هذه النقطة ـ التي كانت ثاني دلائل النبوة ـ إلى هذا المحل لاتصالها بموضوع هذا الكتاب .
  فالمعجزة التي كانت تظهر على أيدي الأنبياء تصديقا لهم ، هي ضرورية أيضا لتصديق دعوى الإمام ، كيف لا وقد أظهر الله

---------------------------
(1) تاريخ بغداد 13 : 31.

دلائل الإمامة _ 26 _

  المعجزات لمن هو أدنى من الإمام تصديقا لدعواه المرضية عند الله ؟ ومثال ذلك ما ظهر لمريم العذراء (عليها السلام) تبرئة لساحتها ، وما كان لأصحاب الكهف ، وكل ذلك في القرآن مسطور.
  وخلاصة القول في المعجزات يمكن إيجازه بما يلي :
  أ ـ إذا كان يصعب التصديق بالمعجزات ، أو بعضها فلأن أصل المعجزة هو كونها خارقة للعادة مخالفة للمألوف ، وإنما يشترط في قبولها شهرتها أو صحة إسنادها ، فمتى ثبتت نسبتها إليهم (عليهم السلام) بالطرق المعتبرة والموثقة فليس هناك ما يمنع قبولها ، ولم يبق مبرر للشك فيها بعد أن عرفنا عظيم منزلتهم ، وصحة نسبة الخبر إليهم.
  كيف ونحن نرى ونصدق الكثير من خوارق العادات التي تظهر لعباد صالحين هم أدنى بكثير من مراتب الإمامة ؟!
  ب ـ إن الإيمان بإمامة الأئمة لا يصح أن ينحصر في النظر إلى معجزاتهم وكراماتهم ، كما لا يصح إثبات نبوة موسى (عليه السلام) بقلب العصا ثعبانا ، أو نبوة عيسى (عليه السلام) بخلق الطير من الطين ، ما لم تجتمع القرائن الأخرى التي تجعل ظهور المعجزة زيادة في ظهور صدقه ليس إلا، وإلا فإن خوارق العادات قد تجري على أيدي الكثيرين من طرق وفنون وحيل كثيرة ، ولكن ما أن تعرض أصحابها على تلك الشرائط والقرائن والدلائل المتقدمة حتى تجد حظوظهم منها حظوظ الفقراء إن لم يكونوا عراة منها على الإطلاق.
  ج ـ ليس المطلوب منا عند الإيمان بمعجزاتهم أن نجعلها كل شئ في اعتقادنا وسلوكنا وثقافتنا ، إنما المطلوب هو الإيمان بهم وبحقيقة إمامتهم لأجل اتباعهم والاقتداء بهم والاهتداء بهديهم ، ولم تأت المعاجز التي أتحفهم بها الله (تعالى) إلا خدمة لذلك الغرض ، فهي ليست غاية في ذاتها ، وإنما هي شاهد واحد فقط يقوي الدوافع إلى اتباعهم في نفوس الناس.
  د ـ إن الغرض من المعجزة هو أن تتم بها الحجة ، ويتوقف عليها التصديق ، وأما ما خرج عن هذا فلا يجب على الله إظهاره ، ولا تجب على النبي أو الإمام الإجابة إليه ولو كان على سبيل التحدي.

دلائل الإمامة _ 27 _

  هـ ـ إن إقامة المعجزة ليست أمرا اختياريا للنبي أو الإمام ، وإنما ذلك بيد الله يظهره متى شاء واقتضت حكمته (1).
  فهذه كلها مبادئ أولية ينبغي إدراكها قبل الدخول في قراءة كتاب غرضه جمع المعجزات وإحصائها ، ككتابنا هذا (دلائل الإمامة).
  وأخيرا ، فالذي ينبغي الإشارة إليه هو أن محتوى هذا الكتاب إنما يشكل عنصرا واحدا من عناصر موضوع دلائل الإمامة ، ويدور حول ركن واحد من أركانها ، وأما الموضوع بشموله فيبقى متسعا لمزيد من الدرس والبحث ، آملين أن يتصدى له من هو أهل له من علمائنا وأساتذتنا المخلصين ، بحثا ودرسا وتفصيلا ، حفظا لهذا الدين الحنيف ، وخدمة للمسلمين الأعزاء ، ووفاء لعهد الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وآله) وأداء لحق الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ، والله ولي التوفيق.

---------------------------
(1) لمزيد من التفصيل راجع البيان في تفسير القرآن : 80 ـ 119.

دلائل الإمامة _ 29 _

ترجمة المؤلف

  اسمه وكنيته
  هو أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري الآملي (1) الصغير (2).
  المشتركون معه في التسمية :
  1 ـ أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري العامي ، صاحب التاريخ والتفسير ، والمتوفى سنة (310 هـ).
  2 ـ أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري الآملي الكبير ، والذي كان معاصرا لمحمد بن جرير الطبري العامي ، وقد ترجم له الشيخ الطوسي المتوفى سنة (460 هـ) في (الفهرست) (3) والشيخ النجاشي صاحب الرجال المتوفى سنة (450 هـ) ، وروى عنه الأخير كتبه بواسطتين (4) ، وروى النجاشي أيضا عن ثقة الاسلام

---------------------------
(1) هكذا نسب في المصادر التي نقلت عن مصنفاته ، إلا أن السيد ابن طاوس في كشف المحجة : 35 ، والأمان : 66 ، وفرج المهموم : 102 ، نسبه هكذا : أبو جعفر محمد بن رستم بن جرير الطبري الإمامي ، ولعله نسبه للجد مباشرة ، أو إنه من وهم النساخ ، بدليل نقل السيد ابن طاوس عنه بعنوان محمد بن جرير بن رستم الطبري الإمامي في الموارد التي ستأتي في وصف الكتاب كافة ، وكذا وصف من قبل المتأخرين الذين نقلوا عنه كالعلامة المجلسي في (بحار الأنوار) والسيد البحراني في (مدينة المعاجز) والحر العاملي في (إثبات الهداة) وغيرهم.
(2) وصف الشيخ الطوسي سمي صاحب الدلائل المعاصر للشيخ الكليني ب (الكبير) ولعل ذلك الوصف كان دليلا على تمييزه عن صاحب الدلائل الذي يشترك معه في التسمية والتكنية والمعاصر للشيخ الطوسي كما سيأتي.
(3) الفهرست : 158 / 697.
(4) رجال النجاشي : 376 / 1024.

دلائل الإمامة _ 30 _

  الكليني بواسطتين (1) ، ولهذا يمكن القول إن محمد بن جرير الطبري الكبير كان معاصرا للشيخ الكليني المتوفى سنة (329 هـ) ، وله من المصنفات (المسترشد في الإمامة) (2) و (الايضاح) (3) و (الرواة عن أهل البيت (عليهم السلام)) (4) وغيرها.
  3 ـ محمد بن جرير ، من رواة الحديث ، متقدم الطبقة ، إذ يروي عنه محمد بن جرير الطبري الكبير بثلاث وسائط ، وهو يروي عن ثقيف البكاء عن الإمام الحسن ابن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) ، كما في الحديث (8) من دلائل الإمام الحسن بن علي المجتبى (عليهما السلام).

عصره وطبقته

  لم نعثر في المصادر المتوفرة لدينا على تاريخ دقيق لولادته ووفاته ، ولكن من مجموع القرائن المتوفرة في هذا الكتاب يمكن تحديد عصره وطبقته.
  أما من حيث عصره فيمكن القول إنه كان من أعلام النصف الثاني من القرن الرابع وأوائل القرن الخامس ، يدل على ذلك تاريخ وفيات شيوخه كما سيأتي ، وجملة نصوص نقلناها من الكتاب كما يلي :
  1 ـ في دلائل الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) الحديث (24) قال : ( وأخبرني أخي (رضي الله عنه) ، قال : حدثني أبو الحسن أحمد بن علي المعروف بابن البغدادي ومولده بسوراء (5) ، في يوم الجمعة لخمس بقين من جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة ).

---------------------------
(1) رجال النجاشي : 377 / 1026.
(2) الذريعة 21 : 9 / 3690.
(3) المصدر 2 : 489 / 1924.
(4) المصدر 11 : 256 / 1564.
(5) سوراء ، بالمد : موضع يقال هو إلى جنب بغداد ، وقيل هو بغداد نفسها ، وسورى ، بالقصر : موضع بالعراق قرب بابل.

دلائل الإمامة _ 31 _

  2 ـ في دلائل الإمام صاحب الزمان (عليه السلام) الحديث (92) قال : ( حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني سنة خمس وثمانين وثلاثمائة ).
  3 ـ وفي دلائله (عليه السلام) أيضا الحديث (96) قال : ( وأخبرني أبو القاسم عبد الباقي بن يزداد بن عبد الله البزاز ، قال : حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد الثعالبي قراءة في يوم الجمعة مستهل رجب سنة سبعين وثلاثمائة ).
  4 ـ وفي دلائله (عليه السلام) أيضا الحديث (128) قال : ( نقلت هذا الخبر من أصل بخط شيخنا أبي عبد الله الحسين الغضائري (رحمه الله) ) ، والغضائري توفي سنة (411 هـ).
  أما عن طبقته فقد قال الشيخ الطهراني في أعلام الشيعة في القرن الخامس : ( ويروي في الكتاب غالبا عن جماعة هم يروون عن أبي محمد هارون بن موسى التلعكبري الذي توفي سنة (385 هـ) وهم : ولده أبو الحسين محمد بن هارون ، وأبو عبد الله الحسين بن عبد الله الحرمي ، كما أن الطوسي يروي عن جماعة عن التلعكبري ، منهم : ولده الحسين بن هارون بن موسى ، وكذلك النجاشي يروي عنه بواسطة ولده محمد بن هارون ، إلى أن قال : ويروي أيضا عن الصدوق المتوفى سنة (381 هـ) بواسطة تلاميذه ، منهم : أبو الحسن علي بن هبة الله بن عثمان بن الرائقة الموصلي صاحب كتاب (المتمسك بحبل آل الرسول (عليهم السلام) كما أن الطوسي والنجاشي يرويان عن الصدوق بواسطة واحدة ) (1).
  وخرج الشيخ الطهراني من هذا إلى الاستنتاج بأن صاحب الدلائل كان معاصرا للشيخ الطوسي المتوفى سنة (460 هـ) وللشيخ النجاشي المتوفى سنة (450 هـ) وهو ما يبدو من مجمل القرائن التي ذكرها ، ويبدو لنا أيضا بأنه كان مقدما على الشيخ الطوسي والنجاشي قليلا مع معاصرته لهما ، وذلك من خلال القرائن التالية :
  1 ـ يروي الشيخ الطوسي عن أبي بكر أحمد بن كامل بن خلف تلميذ محمد

---------------------------
(1) النابس في القرن الخامس : 155.

دلائل الإمامة _ 32 _

  ابن جرير الطبري العامي بواسطتين (1) ، وصاحب الدلائل يروي عنه بواسطة واحدة ، كما في الحديث (49) من دلائل فاطمة الزهراء (عليها السلام).
  2 ـ يروي الشيخ الطوسي عن أبي المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني بواسطة جماعة (2) ، أما صاحب الدلائل فإن أبا المفضل الشيباني من شيوخه الذين يروي عنهم بلا واسطة بقوله : حدثنا وأخبرنا.
  3 ـ يروي الشيخ الطوسي عن ثقة الاسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني بواسطتين (3) ، وكذا الشيخ النجاشي (4) ، أما صاحب الدلائل فيروي عنه في أحد طرقه إليه بواسطة واحدة كما في الحديث (98) من دلائل الإمام صاحب الزمان (عليه السلام).
  فصاحب الدلائل كان معاصرا للشيخ الطوسي والنجاشي إلا أنه كان متقدما عليهما قليلا لما ذكرناه ، ودليل المعاصرة أيضا اشتراك المشايخ بين الثلاثة ، فصاحب الدلائل يروي عن أبي المفضل الشيباني ، وأبي محمد الحسن بن أحمد العلوي المحمدي ، والقاضي أبي إسحاق بن مخلد بن جعفر الباقرحي ، وأبي أحمد عبد السلام ابن الحسين بن محمد البصري ، وعبر عن الشيخ الغضائري بشيخنا في الحديث (128) من دلائل الإمام صاحب الزمان (عليه السلام) ، وكل هؤلاء من مشايخ النجاشي ، وروى أيضا عن أبي عبد الله الحسين بن إبراهيم بن علي المعروف بابن الخياط القمي وهو من مشايخ الطوسي.

---------------------------
(1) الفهرست : 150 / 640.
(2) المصدر : 140 / 600.
(3) المصدر : 135 / 591.
(4) رجال النجاشي : 377 / 1026.