الثالث : والمتوقفون والمحايدون ،
ويوصل إلى رضاه بقوله تعالى :
( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (1).
ومن هنا يتّضح الأمر ، فإن قريشاً تدّعي حبّ الله عزّ وجلّ ، وأنها تريد أن تتقرب إليه زلفى ، لكنّ الله عزّ وجلّ لا يقبل هذا الحب وذلك التقرب ، إلاّ من حيث شاء هو عزّ وجلّ لا من حيث تشاء قريش ، ومن شاكلها من المعاندين والمتكبرين.
فمن أراد محبة الله عزّ وجلّ والقرب منه ، فلابدّ له من اتباع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أو من أوصى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) باتباعه.
فتحصل من هذا أن مشكلة أكابر قريش واضحة ، وهي لماذا اختار الله عزّ وجلّ رجلاً فقيراً في نظرهم ، وليس من أعاظمهم ، ولا من مشائخهم وكُبرائهم ، وهذه هي المشكلة الحقيقية لهم ولأمثالهم.
وكذلك اتضح أن قريشاً لم تضحِّ بأعز رجالها ، وأوفر أموالها حبّاً وفداءً من أجل الأصنام ، ومن أجل العقيدة ، بل كانت الأصنام ذريعة يستعطفون بها قلوب العوام ، وأصحاب العقول الضعيفة ، ويتّضح أيضاً من آيات اُخرى أن قريشاً لم تكذب الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، بمعنى انّها لم تعرف الحق ، ولم يتّضح لها أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) صادق في دعواه ، بل كانت تكذبه عناداً وجحوداً كما قال تعالى :
( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ
--------------------
(1) آل عمران : 31.
بنور القرآن إهتديت
_ 61 _
لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ) (1).
فانهم يجحدون ، لأنّ الله عزّ وجلّ لم ينزل القرآن الكريم على رجل من القريتين عظيم عندهم ، لأنّ الله لم يختر الوليد للرسالة ، ولم يختر أبا سفيان ، لأنّ الله اختص برحمته من يشاء ، لأن الله اختار لرسالته محمد بن عبد الله (صلّى الله عليه وآله) ، لذلك يجحدون ، نعم إنّ هذه هي المشكلة التي جعلت قريشاً تفرّ من الإسلام فرار الحمر المستنفرة ، وقد أضرّوا بالإسلام كثيراً ، ولكنهم لم يستطيعوا أن يطفئوا نور الله عزّ وجلّ ، كذلك كان دأب إبليس ، ومن شاكله ، وهذا هو دأبهم إلى يوم القيامة ، وهو دأب اتباعهم في كل زمان ومكان.
--------------------
(1) الأنعام : 33.
بنور القرآن إهتديت
_ 62 _
سبب الاختلاف بين الناس
لقد تبيّن ممّا سبق سرّ نزاع إبليس لآدم (عليه السلام) ، وأخوة يوسف لأخيهم ، واليهود لأنبيائهم ، ولنبينا محمد (صلّى الله عليه وآله) ، وقريش للرسول (صلّى الله عليه وآله) ، فهل يمكن أن نقول : إنّ هذا السبب هو السبب الأصلي لكل الاختلافات الاساسية على وجه الأرض ؟
والجواب : أنّه يمكن تعميم هذه المسألة على جميع الخلافات ، وذلك عندما نرى السرد القرآني لهذه الأمثلة الكثيرة التي تبين هذا المطلب ، فيلزمنا من ذلك الاعتبار من تلك القصص ، وأن نعرف أن قضايا تلك القصص ، لو كانت هامشية ، لما ذكرت في القرآن الكريم وكرّرت أيضاً.
ومع هذا الوضوح كلّه لم يترك القرآن الكريم التصريح بهذه العلّة وبهذا السبب ، وبيّن بإنّ سبب كل نزاع في كل قرية ، منذ أن خلق الله الأرض إلى يوم القيامة ، هو المنازعة لأجل التسلّط على الأرض ، والمنافسة من أجل الحصول على الملك ، وعلوّ الكلمة ، سواءً كان الوصول الى تلك الاهداف من طريق السعي لنيل المناصب الإلهيـــة ـ مـــن قبــيل النبـــوة والامامة والقيادة الدينية ونزول الوحي
بنور القرآن إهتديت
_ 63 _
و ... و ... لأنها أفضل طريق لأن تكون كلمة أصحابها هي العليا ـ أو من غير ذلك.
وقبل أن أسرد الآيات التي تشير إلى ذلك الموضوع ، أود أن أُشير إلى مسألة وهي : أنّه لا يعني أن المسائل العقائدية ـ غيرالنبوة والولاية وما هو في هذه الدائرة ـ ليس لها دور في الاختلافات الموجودة لا ، بل لها دور ، ولكن المهم هو لماذا وجدت هذه الاختلافات العقائدية ، بعدما جاءت البينات ؟
الجواب : من الواضح ففي بدء ظهور النبوات والرسالات تكون الأمور واضحة ، والحجج ساطعة ، والناس على بيّنة ووضوح من أمرهم ، ولكنه يوجد متكبرون وطغاة يريدون العلو في الأرض ، وبما أن الظروف في بداية الأمر لا تسمح لهم بالوصول إلى غاياتهم لذا يلجأون إلى البحث عن المسائل التي ينهى عنا المختار من قبل الله عزّ وجلّ فيقومون بإحيائها وتحريك العوام من أجلها ، ومن هناك تبدأ الإثارات ويبدأ اختلاق المسائل الخلافية ، لتصبح الأمور معكّرة وغير واضحة ، وهنا يصطادون ـ أي أكابر المجرمين ـ في الماء العكر ، ويستقطبون ضعاف النفوس بشتى الوسائل ، فيصلون إلى أهدافهم المشؤومة ، ومن طرقهم وأساليبهم الخبيثة ، أنهم يبحثون عن العقائد التي يرتاح لها الناس ، فيروجون لها ، وينظرون فيما يقوله المختارون من قبل
بنور القرآن إهتديت
_ 64 _
الله عزّ وجلّ ، فيجدون بعض المسائل ، التي قد لا يستسيغها بعض العوام ، فيستفيدون من ذلك ، ويبدأون بتشكيك الناس ، فيحرمون للناس ما يحب الناس تحريمه ، ويحلون لهم ما يحبّون تحليله ، فهم عكس المختارين من قبل الله عزّ وجلّ الذين لا يتصرفون في أمر الدين كما يشاؤون ، فلذا نرى الناس قليلاً قليلاً يبتعدون عن المختارين من قبل الله عزّ وجلّ ويميلون إلى أعدائهم ، ثم بعد ذلك تتكوّن على طول الزمان العقائد المخالفة.
ثم يأتي أناسٌ مغفّلون ، فينشغلون عن السبب الواقعي للاختلاف والنزاع ، ويفنون أعمارهم في النقاشات العقائدية ، كلّما انتهوا من مسألة ظهرت أخرى وهكذا ، ولو أن الناس سلّموا لمن اختارهم الله عزّ وجلّ لما بقوا في الاختلافات التي لا تنتهي ولما بقوا في العذاب المهين ، فإن الناس لو سلموا الأمر لأهله الذين اختارهم الله عزّ وجلّ لما كان عليهم إلاّ السؤال فقط ، ويستلمون الجواب الصافي ، الذي لا تشوبه شائبة ، ولكن بسبب المعاندين والمتكبرين في الأرض ، وأكابر المجرمين حُرم الناس من تلك النعمة ، ولذا يجب علينا ان ننتبه ، ونحذر ونعتبر مما مضى.
وأمّا الآيات الدالة على أن هذه المشكلة ، هي مشكلة أكابر المجرمين في كل زمان ومكان ، فقوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ
بنور القرآن إهتديت
_ 65 _
أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ * فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (1).
هذه الآيات واضحة الدلالة ، وهي عامة تشمل كل وقت زمان ، ولدقة كلام الله عزّ وجلّ ولطافة بيانه لم يقل ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أهْلَهَا ) ، بل قال سبحانه وتعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا ) ، ليبين لنا أنّ الأكابر ، والأعاظم هم الذين يعارضون المختار من قبل الله عزّ وجلّ ، لأنّهم تعودوا أن تكون كلمتهم هي العليا في مناطقهم فيريدون أن تبقى كلمتهم كذلك ، فلهذا يعارضون المختارين من قبل الله عزّ وجلّ ، ويستقطبون أصحاب العقول الضعيفة ، والنفوس المريضة ، إمّا باتخاذ العقائد الموروثة حجة ، والتمسك بالعادات القديمة ، والدفاع عنها ، أو باتباع ما وجدوا عليه آباءهم ، أو باختلاق عقائد وأفكار جديدة ، تعجب العوام وترضيهم ، المهم يبحثون عن أي
--------------------
(1) الأنعام : 123 ، 124 ، 125.