تأليف
يحيى طالب مشاري الشريف



الإهداء

  إلى آدم صفوة الله ، وإلى نوح نبي الله ، وإلى إبراهيم خليل الله ، وإلى موسى كليم الله ، وإلى عيسى روح الله ، وإلى محمد حبيب الله ، إلى الذرية الطاهرة التي بعضها من بعض ، إلى المختارين من قبل الله عزّ وجلّ في كل مكان وزمان ، إلى البقية الباقية من الذرية الطاهرة ، وأتباعهم المخلصين لهم المُسلّمين لهم تسليماً ، أهدي هذا الجهد المتواضع ، ليكون ذلك لي شهادة عندهم يوم القيامة ، بأني بهم مؤمن ، ولهم مسلّم ولأمرهم متّبع ، وأني حرب لمن حاربهم ، وسلم لمن سالمهم ، أسأل الله عزّ وجلّ أن يتقبل ذلك مني بأحسن القبول ، إنه على كل شيء قدير.

بنور القرآن إهتديت _ 8 _

المقدمة
  الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد وآله الطاهرين ، وصحبه المنتجبين.
  أمّا بعد.
  إنّ كل ظاهرة ظهرت في هذا الكون سلبية كانت ، أم إيجابية لابدّ أن يكون لها علّة أو سبب أوجدها في الخارج.
  وكلّ من أراد أن يقدّم علاجاً لظاهرة سلبية ، لا بدَّ له من معرفة أسبابها ، وجذورها وعلَلِها الأساسية التي أوجدتها ، كي يتسنّى له معالجة تلك الظاهرة السلبية معالجةً صحيحة وكاملةً.
  ويتّضح ذلك عندما نشاهد الطبيب الماهر ، وهو يعالج مريضه ، فهو لا يبادر إلى معالجة العوارض الخارجية للمرض من قبيل اصفرار الوجه ، أو ارتفاع درجة الحرارة ، بل يتخذ تلك العوارض الظاهرية وسيلة لاكتشاف المرض المصاب به ذلك المريض ، وعند اكتشاف ذلك الطبيب لذلك المرض بصورة صحيحة وكاملة ، عندها

بنور القرآن إهتديت _ 10 _
  يستطيع تقديم العلاج الكامل ، والشافي للمريض ، ويستطيع أن يزيل المرض ، وكل عوارضه عن المريض.
  وهذه المسألة متسالمٌ عليها بين العقلاء ، إذ لا يمكن معالجة أيّ ظاهرة سلبية قبل تحديد هويتها ، و معرفة جذورها ، وعللها وأسبابها ، ومصدر نشوئها.
  كذلك القاضي الحاذق حينما تقدم له قضية معيّنة ، فهو يحاول أن يكتشف من خلال ما يسمعه من الدعاوى ، السرّ الكامن وراء ذلك الاختلاف ، وما هو المحور الحقيقي الذي يدور حوله النزاع ، وتقوم عليه رحى الاختلاف ، حتى يتسنّى له معرفة الحق وإنصاف المظلوم.
  وهذا الكتاب يكشف للقارئ السرّ الكامن وراء الاختلاف بين الفرق ، وباكتشاف السرّ الكامن وراء الاختلاف ، والتفرق يمكن للباحث معرفة الحقيقة بسرعة ، ويمكن أيضاً للامة معالجة هذه المشكلة الخطيرة ، وهي ظاهرة الاختلاف ، والتفرّق والتمزّق ، التي أنهكت المسلمين وطعنتهم من الداخل ، وجعلتهم من أضعف الأمم في مواجهة أعدائهم ، وأدّت إلى انحراف الملايين من شباب الإسلام ، وعدم إقبال الملايين على الإسلام ، هذه الظاهرة الخطيرة ، التي لو كُتب عن سلبياتها وأضرارها المجلدات ، لَمَا تيسّر حصرها ، وقد حذّّر القرآن الكريم منها ، ونهى عنها ، فقال تعالى : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا

بنور القرآن إهتديت _ 11 _
  وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) (1) الآية ، والقرآن الكريم لم ينه عنها فحسب ، بل بيَّن سلبياتها وأضرارها كقوله تعالى : ( وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) (2) ، وأشار إلى خطورتها ، فقال : ( ... أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ... ) (3) الآية ، وهذه الآية الكريمة تشير إلى أنّ الله عزّ وجلّ جعل التفرّق ، والاختلاف نوعاً من أنواع عذابه ، وكذلك كشف القرآن الكريم سرّ الاختلاف ، والتفرق ولم يتوقف عند العوارض الظاهرية لذلك المرض ، حيث يقول : ( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ) (4) ، وهناك آيات كثيرة تكشف لنا سرّ هذا المرض ، وتبيّنه بصورة واضحة ، وتعرض لنا العلاج ، إما من خلال سرد القصص ، أو غير ذلك. يحيى طالب الشريف ربيع الثاني / 1425 هـ

--------------------
(1) آل عمران : 103.
(2) الأنفال : 46.
(3) الأنعام : 65.
(4) المدّثر : 49 ، 50 ، 51 ، 52.

بنور القرآن إهتديت _ 13 _
جذور الاختلاف
  إنّ كثرة الاختلافات العقائدية ، وكثرة المسائل المختلف عليها بين الطوائف والمذاهب الإسلامية ، أصبحت اليوم من أكبر العقبات ، التي تواجه الشاب المتديّن الذي يريد أن يكون خادماً لدينه وعقيدته.
  فهو يرى أنّ المسائل المختلف عليها قد كثرت بشكل غريب ! بحيث يصعب عليه في بعض الأوقات ذكر وحصر عناوينها ، فضلاً عن مناقشتها وبحثها ، وحلّ الشبه التي طرحت حولها قديماً وحديثاً ، خاصة ، ونحن نعيش في عصر تكاثرت فيه الأعمال والأشغال ، وكما يسمّونه عصر السرعة.
  لذا لابدّ من كشف السرّ الكامن وراء هذا الضباب الذي يحول بين الحق وطالبيه ، ومن أجل ذلك نريد أن نبحث في هذه الأسطر حول هذا السؤال : هل تفرّق المسلمون من أجل الاختلافات العقائدية ، أم اختلفوا عقائدياً من أجل شيءٍ آخر ، وجدت الاختلافات العقائدية على إثره ؟

بنور القرآن إهتديت _ 14 _
  من يتأمّل قليلاً ، وينظر إلى التاريخ بدقّة ، سيجد الأمر واضحاً جداً ، فالرسول (صلّى الله عليه وآله) ترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، والصحابة لم يكن بينهم أي اختلاف عقائدي ، إذن فما هو السبب الذي أدّى إلى الاختلاف فيما بينهم ؟!!
  ومن يقول إنّهم ـ أي الصحابة ـ لم يختلفوا ، فهو إمّا جاهل ، لم يطّلع على تاريخ الإسلام ، أو معاند لا يزيده العلم إلاّ جهلاً.
  فمن الواضح أنّ الاختلاف وقع بين الصحابة بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) مباشرة ، ثم تطوّر إلى حدّ كبير ، حتى نفي وطرد بعض الصحابة ، كما حصل لأبي ذر ، وقتل الخليفة الثالث ، وقامت حرب الجمل ، وصفين والنهروان ، وغير ذلك.
  فالاختلاف كان موجوداً بينهم ، وثبوته واضح ، وهو من بديهيات التاريخ.
  وكما قلنا إنّ تفرّق الصحابة لم يكن من أجل الاختلافات العقائدية المطروحة ، كما نراها اليوم ، بل هناك أمر خفيٌّ وخطير ، لم يلتفت له إلاّ القليل.
  وهذا ما سنوضّحه في الأبحاث القادمة من هذا الكتاب بإذن الله عزّ وجلّ.

بنور القرآن إهتديت _ 15 _
سر الاختلاف والافتراق
  وقبل أن أذكر ذلك السرّ الخطير ، أضيف أيضاً ، أنّ هذا السرّ لم يكن هو السبب في اختلاف ، وتفرّق المسلمين فحسب ، بل كان هو السبب في اختلاف ، وتفرّق الأمم السابقة أيضاً ، وهو السبب الذي جعل قريشاً تحارب الرسول (صلّى الله عليه وآله) بكلّ ما أُوتيت من قوة ، وكذلك كان هو السبب الذي جعل اليهود يحاربون الإسلام ، ويواجهونه ويلجأون إلى تحريف كتبهم ، ونبذها وراء ظهورهم.
  وأمّا ذلك السرّ الخطير فهو : (تكبر إبليس ومن سار على نهجه من الكفار واليهود وأكابر المجرمين ، وعدم خضوعهم ، وتسليمهم للمختارين للاستخلاف في هذه الأرض من قبل الله عزّ وجلّ ، فإن أولئك الأبالسة يرون أن الخضوع لأصفياء الله عزّ وجلّ سيسحب من تحتهم البساط ، ولن يبقى لهم جاه ولا مقام ، ولذا حاربوا الصفوة من الخلق تحت كلّ عنوان يقبله الناس).
  ومن أجل هذا الأمر قامت الدنيا ولم تقعد ، وتفرّقت الأمم وتشتت ، وتشكّلت المذاهب وتشعّبت.
  وقد يزعم البعض أن هذا الأمر ليس هو السبب فيما جرى بين

بنور القرآن إهتديت _ 16 _
  الأمم ، من تفرّق واختلاف ، لذلك كان لابدّ لنا أن نسرد بعض القصص القرآنية التي وردت فيها آيات تثبت ما نقوله ، وتؤكّده وتجعله السبب الرئيس لكلّ نزاع دار بين العباد على وجه الأرض.
  وهذا السبب إمّا أن يكون مباشراً ، كما جرى بين آدم (عليه السلام) وإبليس ـ لعنـه الله ـ ، أو غير مباشر ، كما هو النزاع الموجود بين طوائف المسلمين في هذا العصر ، فالنزاع الموجود اليوم ناشئ عن الاختلافات العقائدية ، والاختلافات العقائدية ناشئة على إثر الاختلافات التي جرت بين الصحابة ، الذين تركهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) على المحجة البيضاء ، التي ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلاّ هالك.

بنور القرآن إهتديت _ 17 _
آدم (عليه السلام) وإبليس في القرآن
  لقد ذكر القرآن الكريم قصة آدم (عليه السلام) وإبليس في مواضع عديدة ، لتكون تلك القصة عبرة للعالمين ، وبالأخص للمسلمين ، فِذكْر القرآن الكريم لتلك القصة ، كان من أجل أن نعرف كيف نشأ النزاع والاختلاف ، ومن أجل أن نعرف أيضاً أسباب التفرّق وجذوره.
  إنَّ في تلك القصة دروساً عظيمة جداً ، منها على سبيل المثال مسألة الاصطفاء والاختيار ، ومنها أيضاً مسألة الخضوع والتسليم للحكم الإلهي ـ وهذا التسليم الذي تمثّل في دور الملائكة ـ ومنها أيضاً مسألة العناد للاختيار ، والاصطفاء الإلهي ـ وكان هذا العناد متمثّلاً في دور إبليس لعنه الله ـ ومنها مسألة مظلومية المنتخب والمصطفى وهو آدم (عليه السلام).
  ثم إنّ الآيات القرآنية بيّنت لنا سرّ العناد الشيطاني ، وقبل أن نشرع في ذكر القصة نريد أن نتعرّف قليلاً على شخصية إبليس قبل الضلال ، وما هو دوره قبل خلق آدم (عليه السلام).

إبليس قبل الضلال
  لقد ذكر القرآن الكريم إبليس مع الملائكة مراراً كثيرة ، وذِكْره له

بنور القرآن إهتديت _ 18 _
  مع الملائكة يدلّ على أنّه كان صاحب مقام كبير عند الله ، ومن أجل ذلك المقام رفعه الله سبحانه ، وجعله في درجة الملائكة ، وكانت تُعرض له مسائل من علم الغيب ، وما هو مقدر في المستقبل ، وبالتالي كان لإبليس مقام عالٍ جداً عند الله عزّ وجلّ.
  وقد ذكرت النصوص أن إبليس كان له مقام عبادي كبير ، فقد ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وهو يصف إبليس ويأمرنا بالاعتبار ، قوله (عليه السلام) : ( فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد وكان عَبَدَ الله ستة آلاف سنة ، لا يدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة ، عن كبر ساعة واحدة ، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته ؟ كلا ، ما كان الله سبحانه ليدخل الجنّة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً ، إنّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد ، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حِمًى حرّمه على العالمين ) (1).
  وهناك نصوص كثيرة تبيّن مقام إبليس قبل الضلال ، لسنا في صدد جمعها.
  ومما تقدّم تتضح لنا مسألة مهمة جداً : وهي السبب في ضلال كثير من الناس ، وذلك أننا حينما نرى عبداً من عباد الله قد قدم

--------------------
(1) نهج البلاغة : 386 ، بتعليق صبحي الصالح ، دار الأسرة للطباعة والنشر.

بنور القرآن إهتديت _ 19 _
  أعمالاً صالحة كثيرة ، نحاول أن نعطيه نوعاً من القداسة ، بحيث نتصور أنه لا يمكن أن ينحرف عن الصراط المستقيم وهذا تصوّر خاطئ جداً ، ولأجل إزالة هذا التصور ، ذكرت لنا النصوص القرآنية والحديثية مقام إبليس قبل الانحراف ، كي نعتبر ونعرف أنّ مجرد مدح الله سبحانه لبعض خلقه ، أو تفضيله لهم لا يعني ذلك أنهم معصومون عن الانحراف ، فقد ينحرفون فيما بعد ، إلاّ من زكّاه الله ـ تعــالى ـ وعصمه ، وذكر لنا ذلك في كتابه ، أو بيّنه من خلال ما جاء على لسان رسوله (صلّى الله عليه وآله).
  فها هو إبليس خير مثال ، قد عبد الله ستـة آلاف سنـة ـ فإذا كانت من سنين الآخرة ، فإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدّون ـ لم تنفعه عبادته بعد أن خالف الله سبحانه وعصاه ، وهؤلاء بنو إسرائيل قد فضّلهم الله على العالمين ، ثمّ لمّا انحرفوا ضربت عليهم الذلّة والمسكنة ، وباؤوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين.
  فيجب أن لا نغترّ بأحد أبداً ، ولا نتبع إلاّ من أمرنا الله عزّ وجلّ بالالتزام بأمره ، وأوجب علينا اتباعه ، وطمأننا من عدم انحرافه كقوله تعالى : ( مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ الله الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله... ) (1).

--------------------
(1) آل عمران : 79.

بنور القرآن إهتديت _ 20 _
  فإن اتّباع أولئك الصفوة الذين اصطفاهم الله عزّ وجلّ للقيام بأمره هو الذي سينجينا من الحالة الخطيرة التي ذكرها القرآن الكريم ، حيث يقول : ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله ... ) (1) ، ولكن بشرط أن لا نزكّي على الله أحداً.

أسباب انحراف إبليس
  إنّ سبب انحراف إبليس وافتراقه عن الملائكة ، هو نفس السبب الذي تفرّقت من أجله الأُمم من بعد ما جاءتهم البينات ، ونفسه الذي تفرّق من أجله المسلمون.
  فإبليس لم يكن لديه مشاكل عقائدية ، ولم ير آدم (عليه السلام) على عقيدة فاسدة!
  إذن ما هو السبب الذي جعله يتوعّد آدم (عليه السلام) وذريته كل ذلك التوعّد ؟ وما هو السبب الذي جعله يحمل كل ذلك الحقد والكراهية لآدم (عليه السلام) وذريته ؟
  لقد ذكر القرآن الكريم ذلك السرّ ، وذلك السبب ، لعلّنا نعتبر ، ولا نكرر الخطأ الذي وقع فيه إبليس.
  قال تعالى : ( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ

--------------------
(1) التوبة : 31.

بنور القرآن إهتديت _ 21 _
  أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَّعْنَتي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) (1).
  من خلال هذه الآيات الكريمات يتّضح لنا سرّ ذلك الشقاق ، وأنّه لم تكن بين آدم (عليه السلام) وإبليس أي مشاكل عقائدية ، بل إن مشكلة إبليس الوحيدة هي أنّه لم يستطع أن يتحمل الاختيار ، والاصطفاء الإلهي لآدم (عليه السلام) ، فكان يرى نفسه أولى من جميع المخلوقات بذلك المقام الذي خَصَّ الله سبحانه به آدم (عليه السلام).
  وبدلاً من أن يسلّم للأمر الإلهي ، استكبر وأبى وقال : ( أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ ) ، وتوعد آدم (عليه السلام) وذريته بأن يغويهم أجمعين إلاّ المخلصين منهم ، وبذل جهده الجهيد في تحقيق هدفه المشؤوم.
  ومن هنا يتّضح أنّ أمراً خطيراً جداً ضحّى من أجله إبليس واستعدَّ أن يتحمل العذاب ، ويصبح من الملعونين ، مع علم إبليس باليوم الآخر ، حيث طلب من الله عزّ وجلّ أن يمهله إلى يوم يبعثون ، وذلك الأمر الخطير هو أنّه كبر على إبليس أن يسلّم لآدم ويسجد له.
  وهذا الأمر الذي ضحّى من أجله إبليس مع ما عنده من العلم باليوم الآخر ، وما يرى من ملك الله عزّ وجلّ ، حيث كان بين الملائكة يرى

--------------------
(1) ص : 75 ، 76 ، 77 ، 78.

بنور القرآن إهتديت _ 22 _
  عظمة الله ، وقدرته ، ويرى عذابه ونقمته ، وكان إبليس ممن كلّمه الله وخاطبه ، حيث أمره مع الملائكة بالسجود ، هذا الأمر هو السبب الذي جعل أكابر المجرمين في كل زمان ومكان يُنازعون أنبياءهم ، ويقاتلونهم ، وهو نفسه الذي جعل اليهود يحاربون رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وهو السبب الذي جعل قريشاً تحارب الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وتبذل كل ما أوتيت من قوّة لقتله (صلّى الله عليه وآله) أو الإطاحة به (صلّى الله عليه وآله) ، وهو السبب الذي جعلهم ـ أي قريشـــاً ـ يسمّون الرسول (صلّى الله عليه وآله) الكذاب والساحر بعدما كانوا يسمّونه الصادق الأمين ، وهو السبب الذي جعل أصحاب الرسول يتنازعون ويتقاتلون بعدما تركهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلاّ هالك.
  ولنا هنا وقفة تأمل ، وهي أنّ إبليس قد وعد أن يغوينا ، فهل يا ترى سيخبرنا بما جرى بينه وبين أبينا آدم (عليه السلام) ويذكر لنا علّة عدم تسليمه ، وعلّة طرده من رحمة الله ، ثم يدعونا لاتّباعه والوقوف معه ، ويجعل هذه هي الطريق لإغواء ولد آدم ؟! أم أنّه سيأتي من طرق أُخرى ؟
  ومن الواضح أنّه سيسلك طرقاً أُخرى ليغوي من اتبعه ، لأنّه لو قال الحقيقة ما تبعه أحد ، ولكنه يعدهم ويمنيهم ، ويكذب عليهم

بنور القرآن إهتديت _ 23 _
  ويغريهم ويزيّن لهم سوء أعمالهم ، بالطبع إن إبليس ومن اتبع خطاه لا يقولون نحن نحارب أولياء الله لأنّ الله فضّلهم علينا ، بل إنهم ينسبون إلى أولياء الله ما لا يليق ، فكم نسبت قريش إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) من الأكاذيب ، وحرّضت الناس عليه ، وسنذكر ـ إن شاء الله ـ فيما يلي من الأبحاث نبذة مختصرة من النزاعات التي دارت بين أولياء الله وأعدائه حتّى ينتهي بنا المطاف إلى أمة الإسلام ، وقبل ذلك يجب أن نعرف ما هو موقفنا من آدم (عليه السلام) وإبليس ، فلابدّ لنا من موقف.
  هل نقف موقفاً محايداً ونقول : ليس لنا دخل بين هذين الشخصين العظيمين ، كلاهما مجتهد وكلاهما مصيب ، ولكلّ منهما أجر ؟ أو نقول : إنّ إبليس له المقام العالي فهو الأول والأكثر عبادة ؟ أو نقول : آدم وإبليس تنازعا ، ولو كانا صالحين ما تنازعا ، إذن نتركهما ونتخلى عنهما كلياً ؟ أو نقول إنّ آدم هو صفوة الله وخيرته؛ ولذا يجب أن ننصره ونكون من حزبه ؟ فما هو الموقف الصحيح ؟
  أصحاب الموقف الأوّل يقولون : إنّ إبليس وآدم كان لهما المقام العالي والرفيع عندالله ، فكيف يصحّ لأمثالنا التدخل ، والتمييز بين أولئك الكبار ، ونحن مقصّرون ومذنبون ، ومهما فعلنا ، فلن نصل إلى ما وصلا إليه !
  والجواب : إنّ ارتفاع مقام أحد المخلوقات في فترة من الزمن لا

بنور القرآن إهتديت _ 24 _
  يعني أنّه معصوم مطلقاً من كل خطأ وانحراف ، ولذلك ذكر الله عزّ وجلّ لنا هذه القصّة ـ قـصــة إبـليـس وآدم (عليه السلام) ـ لتــكون لنا درساً ، فلا يصحّ أن نعتمد على أحد أبداً إلاّ من أمرنا الله بالاعتماد عليه كالأنبياء ، والمرسلين والأولياء المخلصين ، المخصوصين من قبل الله عزّ وجلّ بالاتباع.
  إذن لا يصحّ أن نكون حياديين ، ونتّهم أنفسنا بالنقص ، لأننا من العالم السفلي وإبليس وآدم (عليه السلام) من العالم العلوي وذلك لسببين أوّلها : أنّ افتراق المقام لا يمنعنا من أن نعرف الحق ونميّزه من الباطل.
  ثانياً : أن إبليس بعد الانحراف سقط إلى أسفل سافلين ، كذلك كلّ من سلك مسلكه ونازع أولياء الله حقّهم ومقامهم.
  ولا يمنعنا أيضاً عن البحث والتحقيق مقولة بعض الهمج الرعاع الذين يقولون : دعنا نصل أوّلاً إلى مقام آدم (عليه السلام) وإبليس ، ثم بعد ذلك يحق لنا أن نتكلّم وننتقد ، وهذه المقولة باطلة ، لأنّه سينتج منها الآتي :
  1 ـ أنّه لا يصح لمسلم نقد إبليس أو تبيين ضلاله.
  2 ـ أنّه لا يصح لمسلم نقد علماء بني إسرائيل ، حتى يصبح أعلم منهم.
  3 ـ أنّ كل مفسد في الأرض إذا ارتقى مراتب العلم ، أو وصل إلى

بنور القرآن إهتديت _ 25 _
  مقام عال يجب أن نسكت عنه ، حتى نصبح أعلم منه ، أو أعلى منه مقاماً ، وبهذا ستمتلئ الأرض فساداً ، والله لا يحب الفساد.
  وأما القول الثاني فهو واضح البطلان ، وذلك لأن إبليس سقط إلى أسفل سافلين بعد أن أحبط عمله الطويل ، وجهده الجهيد بعناده وكبره.
  ويجاب على أصحاب المقال الثالث : بأنّ هذا المقال سيؤدّي إلى مخالفة القرآن و العقل.
  فأمّا مخالفة القرآن: فقد أمر ـ تعالى ـ أن نصلح بين المتنازعين ، فإن بغى أحدهما على الآخر فلنقاتل الباغي ، قال تعالى : ( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله ... ) (1).
  وأمّا مخالفة العقل : فلو قلنا بهذه المقالة ، لما حق لنا أن نقول : إنّ دين الإسلام هو الحق ، لأنّه تنازع مع الأديان والفرق الأُخرى ، فهل يعني تنازع شخصين أنّ كلاهما مبطل ؟ وهذه مقالة واضحة البطلان.
  ولم يتبقَّ إلاّ القول الرابع ، والذي هو الحق ، فيجب أن نسلّم لصفي الله ونتّبعه ونكون من حزبه ، وبحثنا هذا لا يعني بالضرورة

--------------------
(1) الحجرات : 9.

بنور القرآن إهتديت _ 26 _
  أنّ المسلم متحيّر في قضية آدم (عليه السلام) وإبليس ، لأنّ كلّ مسلم متيقّن بضلال إبليس ، ولكن نريد من هذا البحث أن نعرف موقفنا من المتنازعين بشكل عام ، فمثلاً نعرف موقفنا من النزاع الذي دار بين ابني آدم (عليه السلام) ، وموقفنا من النزاع الذي دار بين بني إسرائيل (اليهود) ، والحواريين (النصارى) ، وكذلك نعرف موقفنا من النزاع الذي دار بين الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، واليهود والنصارى ، ثم نعرف أيضاً موقفنا من النزاع الذي دار بين الصحابة ، وهكذا نميّز الحق ونتبعه ، ونعرف الباطل وننبذه.

بنور القرآن إهتديت _ 27 _
أولاد يعقوب (عليه السلام)
  قال تعالى : ( لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ ) (1).
  إنّ في القصص القرآنية دروساً عظيمة ، وعميقة لو تدبّرناها واستفدنا منها ، لقضينا على كثير من مشاكلنا الدينية والدنيوية.
  فالقرآن الكريم هنا ـ وبشكل قصة بسيطة يفهمها العامة والخاصة ـ يعالج أخطر مشكلة واجهتها الأمة الإسلامية ، بل أخطر مشكلة واجهتها البشرية ، وهي مشكلة النزاعات والصراعات التي تضرب الأمم من الداخل ، فها هو يذكر لنا قصة يوسف (عليه السلام) وإخوته ، ويشرح لنا أحداثها ونتائجها ، ويذكر مشاكلها ، ثم يكشف أسرار تلك المشاكل ، ويبين عللها.
  ومن المعلوم أن أولاد يعقوب (عليه السلام) لم يكن لديهم صراع ديني ، أي لم تكن بينهم مشاكل عقائدية ، ولا اختلافات مذهبية ، ولا شيء من هذا القبيل.
  فلماذا تنازعوا ؟!
  وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم نجده يجيب على سؤالنا ، ويكشف

--------------------
(1) يوسف : 7.

بنور القرآن إهتديت _ 28 _
  لنا سرّ وسبب ذلك النزاع ، قال تعالى : ( قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).
  هاتان الآيتان الكريمتان تكشف لنا سرّ النزاع الذي دار بين أولاد يعقوب (عليه السلام) ، فقد أرشد يعقوب (عليه السلام) ولده العزيز يوسف (عليه السلام) أن لا يقصص رؤياه على إخوته ، لأنّهم سوف يكيدون له كيداً شديداً ، كما كاد الشيطان لآدم (عليه السلام).
  ولكن لماذا يكيدون له ذلك الكيد المذكور في الآية الأولى ؟!
  تجيب الآية التالية بعدها ، وتذكر سبب ذلك الكيد ، وهو المقام الإلهي الذي سوف يُعطى ليوسف من قبل الله عزّ وجلّ ، فإنّ الله سبحانه سيجتبيه ويعلّمه من تأويل الأحاديث ، ويتم نعمته عليه ، كما أتمّها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق ، وهذا مقام عظيم يُظلم أولياء الله من أجله دائماً!
  أتمنى لو يقرأ كلّ مسلم القرآن الكريم من جديد ، ويدقّق ويبحث عن سرّ النزاعات التي دارت بين أولياء الله ، وأعدائهم ، سيجد أنها

--------------------
(1) يوسف : 5 ، 6.

بنور القرآن إهتديت _ 29 _
  تبدأ أوّلاً من ذلك المبدأ الذي بدأت منه بين آدم (عليه السلام) وإبليس ، وهو مبدأ ( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ) ، ومبدأ ( نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ) ومبدأ ( أبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ) ومبدأ ( لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ الله ) ومبدأ ( لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ومبدأ (إن النبوة والإمامة لا تجتمع في بيت واحد) وكلّها أقاويل اختلفت في اللفظ وتوحّدت في المعنى.
  لذلك تجد القرآن الكريم ركّز على مسألة الاصطفاء والاختيار ، فإنك تجد آيات كثيرة جداً كلّها تركّز على هذه المسألة ، وتدعو الناس للتسليم والخضوع ، ولو أردنا ذكر هذه الآيات ، لطال بنا المقام ، ولكن سنذكر آيات قليلة فيما يلي من البحوث ـ إن شاء الله تعالى ـ.
  إنّ في قصة يوسف وإخوته لآيات للسائلين الذين يسألون عن الحق ، ويطلبونه ، فمن يقرأ قصة يوسف يندهش كثيراً حينما يرى أنّ أبناء نبي الله يعقوب (عليه السلام) وهم الذين تربوا في بيت الوحي ، كيف يتصرفون ذلك التصرف الذي لا يليق لبشر يحمل روحاً إنسانية ، فضلاً عن روح دينية وإيمانية ؟ نعم ، إنها مشكلة قد توجب الحيرة ، ولكن لاغرو ، فقد سبقهم إلى ذلك إبليس الذي كان في مقام عظيم ، لأن الحسد والتكبر ، وعدم الخضوع للمختار من قبل الله عزّ وجلّ يهوي بصاحبه إلى مكان سحيق ، فإخوة يوسف هم أولاد يعقوب بن إسحاق

بنور القرآن إهتديت _ 30 _
  بن إبراهيم (عليهم السلام) ، إبراهيم الذي قال له المولى عزّ وجلّ : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) فلم يتأنَّ (عليه السلام) حتى يشكر الله عزّ وجلّ على ذلك المقام الكبير الذي لم يصل إليه إلاّ بعد أن ابتلاه الله عزّ وجلّ بكلمات فأتمّهن ، ولكنه (عليه السلام) بادر قبل شكر النعمة إلى طلب ذلك المقام لذريته ، حيث حكى عنه المولى (عليه السلام) فقال سبحانه : ( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ).
  نعم ، إن أولاد يعقوب يعلمون جيداً أن ذلك المقام انتقل من أبيهم إبراهيم (عليه السلام) إلى إسماعيل ، ثم إلى إسحاق ثم إلى يعقوب ، وبقي الأمر في أولاد يعقوب فمن منهم سيكون هو المرشح لذلك المقام الإلهي العظيم ، ولذا أشار يعقوب إلى ولده العزيز يوسف على أنه هو المرشّح لذلك المقام ، كما حكى القرآن الكريم ذلك عنه ، حيث قال : ( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (1).
  ومن يراجع الروايات التاريخية ، يرى كيف كانت القصة مؤلمة ، وكيف كان يوسف (عليه السلام) يستغيث بهم واحداً واحداً ، فلا يجيبه أحد ،

--------------------
(1) يوسف : 6.

بنور القرآن إهتديت _ 31 _
  فما هو السر الذي جعلهم بهذه الحال من القسوة والغلظة ؟
  جواب هذا نَجده في قوله تعالى : ( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ * بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفًا مُّنَشَّرَةً ) (1).
  فهذه الآيات الكريمة شبهت المعاندين تشبيهاً فاضحاً ، وذلك لأنّ الحمر المستنفرة تتحرك بدون شعور حركات عجيبة وغريبة ، وأما إذا كانت نافرة من أسد ، فإنك ترى منها العجب كلّ العجب ، لأنها تهرب هروباً غير طبيعي ، بحيث أنه لو كان أمامها جهنم لاقتحمتها ، وهكذا الكثير من الناس! فبمجرد أن يختار الله عزّ وجلّ أحدهم ، تقوم قيامتهم ، ويتمنون لو وقعت السماء على الأرض ، ولا يكون ذلك ، ويضحّون بكل شيء ، ويفترون على الله ورسوله الكذب ، ويقتلون أولياء الله ، ويكونون جنداً للشيطان.
  كل ذلك احتجاجاً واعتراضاً على الله عزّ وجلّ ، لأنّه اختص برحمته من يشاء ، وهذا الاحتجاج والاعتراض ليس قولياً ولكنّه عملي ، وإنّ هذا لهو الظلم العظيم؛ ذلك لأنّ كلّ إنسان لا يرضى أن يجبره أحد على ما لا يريد ، ويعتبر ذلك الإجبار ظلماً عظيماً ، فكيف يسعى البعض بعمله معارضاً ما يريده الله عزّ وجلّ ، وهو العبد الحقير أليس ذلك هو الظلم العظيم ؟

--------------------
(1) المدّثر : 49 ، 50 ، 51 ، 52.

بنور القرآن إهتديت _ 32 _
بنو إسرائيل (اليهود)
  لقد ذكر القرآن الكريم قصصاً كثيرة لبني إسرائيل ، ومن الواضح أنّ مقصود القرآن الكريم هو دعوة المسلمين إلى الاعتبار بتلك الحوادث التاريخية المهمة.
  ومن يقرأ القرآن الكريم يجد أنّ بني إسرائيل مرّوا بمراحل عديدة ، وخطيرة جداً ، يجب على كلّ مسلم أن يدرس تلك المراحل بدقّة ، ويعرف السبب والسرّ الذي أوصلهم إلى تلك المراحل.
  ونحن هنا نقسّم المراحل التي مرّوا بها ، حسب ما نص عليه القرآن الكريم إلى أربع مراحل.
  1 ـ مرحلة الذلّ والهوان :
  قال تعالى : ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ) (1).
  وهناك آيات أُخرى كثيرة بهذا المضمون ، شرحت حال بني إسرائيل قبل إرسال موسى (عليه السلام) إليهم ، وكيف كانوا في ذلّ وهوان ،

--------------------
(1) البقرة: 49.

بنور القرآن إهتديت _ 33 _
  فقد استعبدهم فرعون ، وحقّرهم وأذلّهم ، وكل ذلك يشرحه القرآن الكريم ، ويشرح كيف أذلهم وسحقهم فرعون وجنوده ، فرعون الذي ادّعى أنّه ربّهم الأعلى ، وفعل بهم ما فعل ، ولم يستطع أحد مقاومته والوقوف أمام ظلمه وطغيانه.
  ولكن كيف استطاع بنو إسرائيل التخلّص من هذا البلاء العظيم ، هذا ما سنذكره في مرحلتهم الثانية.
  2 ـ مرحلة الانتصار والتفضيل :
  بعد أن جمع فرعون السحرة من كل حدب وصوب ، ليواجهوا معجزة موسى (عليه السلام) ، كما ورد في القرآن الكريم بقوله تعالى : ( قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (1).
  فهؤلاء السحرة مجتمعون لمواجة آية موسى (عليه السلام) (العصا) ، ينتظرهم كل النعيم المادي بجميع أشكاله ، شريطة أن يقولوا للنّاس إنّ ما عند موسى (عليه السلام) إنّما هو سحر كسحرهم ، وينتظرهم كلّ أنواع العذاب ، والظلم والقهر إن هم أيّدوا موسى (عليه السلام) وقبلوا قوله بأنّ العصا ليست سحراً ، بل هي معجزة من الله وآية منه ـ تعالى ـ .

--------------------
(1) الأعراف : 111 ، 112 ، 113 ، 114.