شيء أسمعه من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أريد حفظه فنهتني قريش ، وقالوا : أتكتب كلّشيء تسمعه ورسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بشر يتكلم في الغضب والرضا ؟ فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فأومأ باصبعه إلى فيه ، وقال : ( اكتب ، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلاّ حقّاً )
(1) .
2 ـ أخرج الترمذي في سننه عن أبي هريرة ، قال : كان رجل من الاَنصار يجلس إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسمع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحديث فيعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال : يا رسول اللّه إنّي أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه ، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( استعن بيمينك ) وأومأ بيده للخط
(2) .
3 ـ أخرج الخطيب البغدادي عن رافع بن خديج ، قال : مرّ علينا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً ، ونحن نتحدّث ، فقال : ( ما تحدّثون ؟ )
فقلنا : نتحدّث عنك يا رسول اللّه .
قال : ( تحدّثوا ، وليتبوّأ من كذّب عليّ مقعداً من جهنم ) .
ومضى (صلى الله عليه وآله وسلم) بحاجته ، ونكس القوم روَوسهم ... فقال : ( ما شأنكم ؟ ألا تحدّثون ؟ ) .
قالوا : الذي سمعنا منك ، يا رسول اللّه.
قال : ( إنّي لم أرد ذلك ، إنّما أردت من تعمّد ذلك ) قال : فتحدثنا .
قال : قلت : يا رسول اللّه : إنّا نسمع منك أشياء ، فنكتبها .
--------------------
(1) سنن أبي داود : 3|318 ، برقم 3646 ، باب في كتابة العلم ، مسند أحمد : 2|162 ، سنن الدارمي : 1|125 ، باب من رخص في كتابة العلم .
(2) سنن الترمذي : 5|39 ، برقم 2666.
الأقسام في القرآن
_ 107 _
قال : (اكتبوا ولا حرج)
(1) .
وبعد هذه الاَهمية البالغة التي أولاها الكتاب العزيز والنبيللكتابة ، أفهل من المعقول أن ينسب إليه انّه منع من كتابة الحديث ؟! مع أنّها أحاديث آحاد تضاد الكتاب العزيز والسنّة والسيرة المتواترة ونجلُّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الحيلولة دون كتابة السنّة.
هذا والكلام ذو شجون وقد أسهبنا البحث حوله في كتاب ( الحديث النبوي بين الرواية والدراية )
(2) .
هذا كلّه حول المقسم به.
وأمّا المقسم عليه : فقد جاء في قوله سبحانه :
( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون ) والمراد من النعمة النبوّة والاِيمان ، والباء للسببية أي لست أنت بسبب هذه النعمة بمجنون ، رداً على من جعل نبوّته ونزول القرآن عليه دليلاً على جنونه ، قال سبحانه :
( وَإِنْ يَكادُ الَّذينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمّا سمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَما هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمين ) (3) .
ويحتمل أن يكون المراد من النعمة كلّما تفضل عليه سبحانه من النعم وراء الاِيمان والنبوّة كفصاحته وبلاغته وعقله الكامل وخلقه الممتاز ، فانّ هذه الصفات تنافي حصول الجنون.
واحتمل الرازي أن يكون جملة
( بِنعْمة رَبّك ) مقطوعة عمّا قبله و ما بعده ، وانّ وزانها وزان بحمد اللّه في الجمل التالية :
--------------------
(1) تقييد العلم : 72 و 73.
(2) انظر صفحة 12 ـ 32 من نفس الكتاب.
(3) القلم : 51 ـ 52.
الأقسام في القرآن
_ 108 _
أنت ـ بحمد اللّه ـ عاقل.
أنت ـ بحمد اللّه ـ لست بمجنون.
أنت ـ بنعمة اللّه ـ فهيم.
أنت ـ بنعمة اللّه ـ لست بفقير.
وعلى هذا التقدير يكون معنى الآية ( ما أنت ـ في ظل نعمة ربّك ـ بمجنون (1) .
وهناك احتمال ثالث وهو نفس هذا الاحتمال ، وجعل الباء حرف القسم ، وعلى ذلك يكون الحلف مقروناً بالدليل ، وهو : انّ من أنعم اللّه عليه بهذه النعم الاِلهية كيف يتهمونه بالجنون ، مضافاً إلى أنّ لك في الآخرة لاَجراً غير ممنون ، كما قال سبحانه : ( وَإِنَّ لَكَ لاَجْراً غير مَمنون ) والممنون مشتق من مادة (منّ) بمعنى القطع أي الجزاء المتواصل إلى الاَبد.
ثمّ إنّه سبحانه يستدل بدليل آخر على نزاهته من هذه التهمة ، وهي قوله سبحانه : ( وَإِنَّكَ لَعلى خُلقٍ عَظيم ) فمن كان على خلق يعترف به القريب والبعيد فكيف يكون مجنوناً ؟!
فقد تجسَّم في شخصية الرسول العطف والحنان إلى القريب والبعيد ، والصبر والاستقامة في طريق الهدف ، والعفو عن المتجاوز بعد التمكن والقدرة ، والتجافي عن الدنيا وغرورها ، إلى غير ذلك من محاسن الاَخلاق ، وبذلك ظهر انّ الحلف صار مقروناً بالدليل.
وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه ، فهو انّالقلم والكتابة آية العقل
--------------------
(1) تفسير الفخر الرازي : 29|79.
الأقسام في القرآن
_ 109 _
والدراية ، فحلف به لغاية نفي الجنون عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
يقول المراغي : أقسم ربّنا بالقلم ومايسطر به من الكتب : انّ محمّداً الذي أنعم اللّه عليه بنعمة النبوّة ليس بمجنون كما تدّعون ، وكيف يكون مجنوناً والكتب والاَقلام أعدت لكتابة ما ينزل عليه من الوحي ؟! (1)
ونختم البحث بحديث رواه الشيخ يحيى البحراني عن النبيفي كتابه (الشهاب في الحكم والآداب) : قال : قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : (ثلاثة تخرق الحجب وتنتهي إلى ما بين يدي اللّه :
1 ـ صرير أقلام العلماء.
2 ـ وطء أقدام المجاهدين.
3 ـ صوت مغازل المحسنات ) (2) .
--------------------
(1) تفسير المراغي : 29|27.
(2) الشهاب في الحكم والآداب : 22.
الأقسام في القرآن
_ 110 _
الفصل الخامس : القسم في سورة الحاقة
حلف سبحانه بما يُبصر وبما لا يُبصر ، قال سبحانه : ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبصرون * وما لاتُبصِرُون * إنَّه ُلَقَولُ رَسولٍ كَريمٍ * وَما هُوَ بِقَولِ شاعِرٍ قَليلاً ما تُوَْمِنُون * ولا بِقَولِ كاهِنٍ قَليلاً ما تَذَكَّرون * تنزِيلٌ مِنْ رَبِّ العالَمين ) (1) .
تفسير الآيات
قوله : ( بما تبصرون ومالا تبصرون ) يعم ما سوى اللّه لاَنّه لا يخرج عن قسمين مبصر وغير مبصر ، فيشمل الدنيا والآخرة والاَجسام والاَرواح والاِنس والجن والنعم الظاهرة والباطنة ، كما يشمل الخالق والمخلوق ، فانّ الخالق داخل في قوله : ومالا تبصرون ، وعلى هذا الوجه فقد حلف سبحانه بعالم الوجود وصحيفته.
ولكن استبعده السيد الطباطبائي ، قائلاً : بأنّه من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق والمخلوق في صف واحد ويعظمه تعالى وما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد (2) .
ولكن يلاحظ عليه : بأنّه سبحانه ربّما جمع بين نفسه والرسول ، وقال : ( وَما
--------------------
(1) الحاقة :38 ـ 43 .
(2) الميزان : 19|403 .
الأقسام في القرآن
_ 111 _