بعد معرفة وجود الله القدسي ، واليقين بوجوده السرمدي ، لنعرف هل أنّ وجوده واحد أحدي ، يعني واحدٌ لا شريك له ولا شبيه ، ولا جزء له ولا نظير ؟
وتوحيده هذا أيضاً ممّا هو عيانٌ لا يحتاج إلى بيان ، بل تقضي به الفطرة السليمة ولا تحتاج إلى إقامة الأدلّة .
ألا ترى أنّ كلّ إنسان يتوجّه قلبه ويتّجه وجدانه ويفزع ضميره عند الحاجة والإضطرار إلى مصدر واحد ، للإستعانة والإلتجاء ، ممّا يكشف أنّ القلب والعقل والفطرة تعرف أنّ الله تعالى واحد لا شريك له فلا تتوجّه إلى غيره ، ولا ترى التعدّد في الخالق المستغاث الذي تسأله حاجته حتّى تطلب منه نجاته ...
هذا أمر واضح إلاّ أنّه نذكر براهين التوحيد من باب تمام الحجّة وكمال المحجّة .
وينبغي التنبيه في البداية على حقّ المعنى والمعنى الحقّ ، في توحيد الله تعالى ووحدانيته وهو ما فسِّر في لسان أهل البيت (عليهم السلام) ، المتّصلين بالله والناطقين عنه ، والعارفين به حقّ معرفته ، يبيّنون عنه ، ولا يسبقونه بالقول ، وهم الحجج من قِبَله والمعصومون الصادقون عليه ... وقد فسّروا (عليهم السلام) التوحيد بنفي الشريك
العقائد الحقّة
_ 45 _
والشبيه ، ونفي الجزء والتركيب كما تلاحظه في الأحاديث التالية :
1 ـ ما رواه محمّد بن أبي عمير ، قال : دخلت على سيّدي موسى بن جعفر (عليهما السلام) ، فقلت له : يا بن رسول الله ! علّمني التوحيد فقال :
( يأ ابا أحمد ! لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله ـ تعالى ذكره ـ في كتابه فتهلك واعلم أنّ الله تعالى واحدٌ ، أحدٌ ، صمدٌ ، لم يلد فيورث ، ولم يولد فيشارك ، ولم يتّخذ صاحبةً ولا ولداً ولا شريكاً ، وأنّه الحيُّ الذي لا يموت ، والقادر الذي لا يعجز ، والقاهر الذي لا يغلب ، والحليم الذي لا يعجل ، والدائم الذي لا يبيد ، والباقي الذي لا يفنى ، والثابت الذي لا يزول ، والغني الذي لا يفتقر ، والعزيز الذي لا يذلّ ، والعالم الذي لا يجهل ، والعدل الذي لا يجور ، والجواد الذي لا يبخل .
وأنّه لا تقدِّره العقول ، ولا تقع عليه الأوهام ، ولا تحيط به الأقطار ، ولا يحويه مكان ، ولا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ، وليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير
( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) (1).
وهو الأوّل الذي لا شيء قبله ، والآخر الذي لا شيء بعده ، وهو القديم وما سواه مخلوق مُحدَث ، تعالى عن صفات المخلوقين علوّاً كبيراً )
(2).
2 ـ ما رواه شريح بن هاني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال :
---------------------------
(1) سورة المجادلة : (الآية 7) .
(2) توحيد الصدوق : (ص76 باب التوحيد ونفي التشبيه ح32) .
العقائد الحقّة
_ 46 _
( ... فقول القائل : واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : ثالث ثلاثة .
وقول القائل : هو واحد من الناس ، يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز عليه لأنّه تشبيه
(1) ، وجلّ ربّنا عن ذلك وتعالى .
وأمّا الوجهان اللذّان يثبتان فيه ، فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا ، وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحدي المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزّ وجلّ )
(2).
ودليل الوحدانية هو ما يلي :
1 ـ دليل الكتاب :
صرّح القرآن الكريم بوحدانية مُنَزِّله تعالى في آيات كثيرة جدّاً تزيد على المئة أحصاها العلاّمة المجلسي في البحار
(3) تحت عنوان ( باب التوحيد ونفي الشريك ) .
وجمعت أيضاً في تفصيل آيات القرآن الحكيم
(4) ، نتبرّك بذكر بعضها مثل :
1 ـ قوله تعالى :
( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمُ ) (5).
---------------------------
(1) أي تشبيه الخالق بالمخلوقات التي لها جنس ونوع .
(2) توحيد الصدوق : (ص83 باب معنى الواحد و... ح3) .
(3) بحار الأنوار : (ج3 ص198 الباب6) .
(4) تفصيل آيات القرآن الحكيم : (ص129) .
(5) سورة البقرة : (الآية 163) .
العقائد الحقّة
_ 47 _
2 ـ قوله تعالى :
( وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) (1).
3 ـ قوله تعالى :
( فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ ) (2).
4 ـ قوله تعالى :
( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (3).
5 ـ قوله تعالى في سورة التوحيد التي هي نسبة الله تعالى :
( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ ) (4).
وغير ذلك من سائر الآيات الكريمة التي تحصر الاُلوهية في الواحد الأحد ، وتنفي الشريك والشبيه للفرد الصمد ، تعالى شأنه وجلّت قدرته .
2 ـ دليل السنّة :
قد إستفاضت أزاهير الحكمة وتواترت رياض النبوّة ، في أحاديث أهل بيت العصمة (عليهم السلام) ، المصرّحة بوحدانية الله تعالى والهادية إلى ركنيّة توحيده بما يوجب العلم واليقين بهذا الإعتقاد الراسخ ، والمعتَقَد الشامخ فلاحظ من رواياتهم المباركة ما يلي :
1 ـ خطبة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في حديث إسحاق بن غالب :
---------------------------
(1) سورة النحل : (الآية 51) .
(2) سورة الشعراء : (الآية 213) .
(3) سورة الأنبياء : (الآية 22) .
(4) سورة التوحيد : (الآية 1) .
العقائد الحقّة
_ 48 _
( الحمد لله الذي كان في أوّليّته وحدانياً ... )
(1).
2 ـ وصيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) لولده الإمام الحسن عند إنصرافه من صفّين وقد جاء فيها :
( ... واعلم يا بنيّ ! أنّه لو كان لربّك شريك لأَتَتْك رسله ، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه ، ولعرفت أفعاله وصفاته .
ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه ، لا يضادّه في ملكه أحد ، ولا يزول أبداً ، أوّل قبل الأشياء بلا أوّلية ، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية ... )
(2).
3 ـ دعاء سيّدنا الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عرفة وقد جاء فيه :
( الحمد لله الذي لم يتّخذ ولداً فيكون موروثاً ، ولم يكن له شريك في ملكه فيضادّه فيما ابتدع ، ولا وليّ من الذلّ فيرفده فيما صنع )
(3).
4 ـ حديث الإمام الصادق (عليه السلام) التالي :
( ... ثمّ يلزمك إن ادّعيت إثنين فلابدّ من فُرجة بينهما حتّى يكونا إثنين فصارت الفُرجة ثالثاً بينهما قديماً معهما فيلزمك ثلاثة .
وإن ادّعيت ثلاثة لزمك ما قلنا في الإثنين حتّى يكون بينهم فُرجتان فيكونوا خمسة ، ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة )
(4).
فهذا الحديث الشريف يبرهن على أنّ التعدّد مستلزم للتسلسل وهو
---------------------------
(1) توحيد الصدوق : (ص44 باب التوحيد ونفي التشبيه ح4) .
(2) نهج البلاغة : (قسم الرسائل ، رقم الوصيّة 31 ص49 من الطبعة المصرية) .
(3) البلد الأمين : (ص253) .
(4) بحار الأنوار : (ج3 ص230 الباب6 ح22) .
العقائد الحقّة
_ 49 _
مستحيل فإذا إستحال التعدّد صدق ضدّه وهي الوحدة .
فالله واحد لا شريك له ، وقديم لا قديم معه ، علماً بأنّ صفاته الذاتية الشريفة عين ذاته فلا تكون معيّةٌ له ، فيستفاد ثبوت الوحدة وإمتناع التعدّد وعدم إمكان تعدّد القدماء .
5 ـ خطبة سيّدنا الإمام الرضا (عليه السلام) الجليلة في مجلس المأمون وقد جاء فيها :
( أوّل عبادة الله معرفته ، وأصل معرفة الله توحيده ... )
(1).
إلى غير ذلك من أحاديث أنوار المعارف الحقّة ، المروية عن أئمّة الطائفة المحقّة ، الهادية للاُمّة والخليقة .
3 ـ دليل العقل :
بالإضافة إلى فطرية التوحيد والتجاء النفس إلى إله واحد عند التضرّع والشدّة الكاشف عن أحديّة المَلجَأ كما عرفت ... يحكم العقل بأدلّته القطعيّة ، وبراهينه الوجدانية ، بوحدانية الخالق تعالى .
وجاء إستدلال العقل بأنحاء كثيرة نختار منها تقريرات ثمانية يثبت بها المطلوب ويحصل منها الغرض وهي :
الأوّل : برهان الإرتباط والتدبير
إنّ الإنسان إذا تأمّل بفكر سليم وعقل مستقيم في هذا العالم الكبير والكون الشهير ، من أعالي سماواته إلى أعماق أراضيه وما في أجوافه وبحاره ، رأى
---------------------------
(1) توحيد الصدوق : (ص34 باب التوحيد ونفي التشبيه ح2) .
العقائد الحقّة
_ 50 _
ووجد أنّ موجوداتها مترابطة متشابكة ومتناسبة بعضها مع بعض بأتمّ الإرتباط والتناسب كجهاز واحد ، ومجموعة واحدة .
وهذا يدلّ على أنّ خالق جميعها واحد وهو العالِم باحتياجاتها والعارف بإرتباطاتها ، والخبير بما يحتاج العالَم إليه من الأجزاء والجزئيات .
وهذا أمر عقلي واضح يحسّه كلّ ذي تدبّر ، بل هو من البديهيّات العقلية لجميع المستويات البشريّة .
ألا ترى أنّهم يحكمون في المصنوعات البشرية ، كالسيارة مثلا ، أو الطائرة فرضاً بوحدة صانعها ومبتكرها 4 لإنسجام أجزائها وترابطها بعضها مع بعض ولا يمكن أن يكون مخترع هيكل الطائرة غير مبتكر أجنحتها ... ولا يمكن أن يكون مبتكر السيارة غير مبتكر عجلاتها ... مع الحاجة الماسّة إلى تلك الأجزاء فيما بينها .
وكذلك اتّصال التدبير وإرتباط الصنع وتناسب الخلقة في هذا العالَم دليل على وحدة المدبِّر الصانع .
وإذا كرّرت التأمّل في هذا النظام الكوني الكبير المترابط ، وجدت أنّه بالإضافة إلى إرتباطه وتناسبه هو خال عن أي فساد بالرغم من كِبَرِه وعظمته .
وعدم الفساد والإختلال بنفسه دليل على وحدة صانعه وحكمته ، فإنّه لو كانت الآلهة متعدّدة لأختلّ العالم في التدبير ، وفسد في التقدير ، وهذا أيضاً أمر محسوس نلاحظه في حياتنا العادية والمظاهر الإجتماعية .
فالفساد يحدث عند التعدّد ... كما إذا تعدّد السلطان في مملكة ، أو تعدّد الحاكم في بلدة ، أو تعدّد الرئيس في عائلة ، بل حتّى إذا تعدّد الروح في بدن واحد بالرغم من محبّة البدن لروحه .
العقائد الحقّة
_ 51 _
حيث إنّه عند وجود التعدّد يحدث الفساد والتبدّد ، فعدم الفساد دليل على عدم التعدّد .
وهذه الحكمة العلمية العقلية أشار إليها القرآن الكريم في قوله عزّ إسمه :
( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا ) (1).
وقوله عزّ إسمه :
( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَد وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَه بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض ) (2).
واستفيد هذا البرهان أيضاً من حديث هشام بن الحكم قال : قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : ما الدليل على أنّ الله واحد ؟ قال :
( اتّصال التدبير وتمام الصنع ... )
(3).
وعنه (عليه السلام) أيضاً :
( فلمّا رأينا الخلق منتظماً ، والفلك جارياً ، والتدبير واحداً ، والليل والنهار والشمس والقمر ، دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبِّر واحد )
(4).
وعليه فاتّصال التدبير المنتظم يدلّ على وحدة المدبِّر المنظِّم ، ولا يمكن ولا يليق هذا الخلق العظيم بأحد إلاّ بالله تبارك وتعالى الذي هو العالم بحقائقه والعارف بإحتياجاته ، والحكيم في تدبيره .
وهذا هو برهان الإرتباط وحكمة التدبير ، الدالّ على وحدة الخالق الخبير .
---------------------------
(1) سورة الأنبياء : (الآية 22) .
(2) سورة المؤمنون : (الآيه 91) .
(3) تفسير البرهان : (ج2 ص685) .
(4) نفس المصدر .
العقائد الحقّة
_ 52 _
الثاني : برهان عدم وجود الأثر للشريك ، الكاشف عن عدم المؤثّر
فإنّه لا داعي ولا موجب أوّلا إلى الإيمان بتعدّد الآلهة ما لم نجد أثراً لغير الله تعالى كخلق من مخلوقاته ، أو رسول من رسله ، أو كتاب من كتبه .
فكما أنّ وجود الأثر دليل على وجود المؤثّر كذلك عدمه دليل على العدم .
والفطرة السليمة شاهدة والعلم الجزمي قاض بأنّه لو كان إله غير الله لعرفناه بآثاره أو ملائكته أو كتبه أو رسله .
وحيث أيقنّا بعد التتبّع الكامل والإستقصاء الشامل ، بأنّه ليس في الكون أثر لغير الله علمنا بأنّه ليس إله شريكاً مع الله .
وهذا البرهان بَزَغَ نوره من باب مدينة علم الرسول الأمين ، أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيّته المتقدّمة لولده الإمام الحسن (عليه السلام) :
( لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ... )
(1).
الثالث : برهان الفُرجة وملازمة الشريك للتسلسل والإحتياج
وهذا هو الدليل القطعي المفيد إستحالة تعدّد القديم ، والموضّح لزوم وحدة الخالق ، وهو الذي أرشد إليه الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث هشام بن الحكم المتقدّم
(2) ، وحاصله أنّه يلزم من تعدّد الإله وجود الفاصِل المائز القديم بينهما ، ثمّ وجود الفصل أيضاً بين الثلاثة فيما بينها ، وهكذا متسلسلا ، والتسلسل باطل فيصدق ضدّ التعدّد وهي الوحدة .
وقد تمسّك بهذا الدليل شيخ الإسلام المجلسي في كتابه ، وأضاف (قدس سره) في
---------------------------
(1) نهج البلاغة : (قسم الرسائل ، ص49 من الطبعة المصرية رقم الوصيّة 31) .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص230 الباب6 ح22) .
العقائد الحقّة
_ 53 _
توضيحه : ( ... أنّه لو كان التعدّد موجوداً لكان إمتياز أحد الآلهتين عن الآخر بأمر خارج يُحتاج إليه في الإمتياز ; فيكون الإلهان محتاجين إلى هذا المائز ، والإحتياج ليس شأن الإله ، فإنّ كلّ محتاج ممكن ، والله الغنيّ أجلُّ من الإحتياج ، فلا يكون له شريك )
(1).
الرابع : برهان السبر والتقسيم ، المستفاد أيضاً من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)
بيان ذلك : أنّه لو قيل بالتعدّد فلا يخلو الأمر فيهما من أحد ثلاثة :
إمّا أن يكونا قادرين على إقامة النظام .
أو غير قادرين عليها .
أو متفاوتين ومختلفين في القدرة .
فإذا كانا قادرين كان أحدهما لغواً ، وإذا كانا عاجزين كان كلاهما عبثاً ، وإذا كان أحدهما قادراً والآخر عاجزاً ثبتت الاُلوهية للإله القادر ، ولم يكن يليق بها الآخر العاجز .
فتتعيّن الاُلوهية للإله الواحد القدير بلا شريك ولا نظير .
الخامس : إستلزام الشركة للإستحالة
وهو ما أفاده الشيخ الصدوق بما حاصله :
( أنّه لو كان الإله إثنين لم يَخْلُ الأمر فيهما من أن يكون كلّ واحد منهما قادراً على منع صاحبه أو غير قادر ...
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص230) .
العقائد الحقّة
_ 54 _
فإن كان قادراً كان الآخر ممنوعاً ، والممنوع حادث ، والحدوث ليس من صفات الإله .
وإن لم يكن قادراً لزم عجزه ونقصه ، والعجز أيضاً ليس من صفات الله فيستحيل الشريك على كلا التقديرين ، ويثبت أنّ الإله واحد لا شريك له ، وهو الإله القادر جلّت قدرته )
(1).
السادس : برهان الدَّفْع
فإنّ وجوب الوجود لله تعالى الذي هو مسلّمٌ يستلزم القدرة والقوّة الكاملة على جميع الممكنات ، بحيث يقدر على دفع جميع ما يضادّه ويقابله بنحو مطلق .
فإنّ عدم القدرة على هذا الدفع نقصٌ ، والنقص عليه محالٌ بالضرورة ، لوجوب وجوده .
وعليه فشريكه مندفع بالبداهة ، ومستحيل وجوده بالوضوح ، فيكون هو تعالى واحداً لا شريك له .
وقد أفاد هذا الدليل وما يليه من الدليلين التاليين بعض العلماء والحكماء .
السابع : دليل الكمال
إنّ التفرّد بالصنع كمالٌ للصانع ، والشركة مستلزمة لسلب هذا الكمال ، وسلب الكمال عن ذاته المقدّسة المستجمعة لجميع الصفات الكمالية محالٌ ببداهة ، فلا يكون له شريك لأنّ الشريك يستلزم سلب الكمال ، وسلب الكمال باطل ، فوحدة الصانع هي الحقّ .
---------------------------
(1) توحيد الصدوق : (ص269) .
العقائد الحقّة
_ 55 _
الثامن : دليل الإستغناء
وذلك أنّ الله تعالى غني عمّا سواه ، ومستغن بذاته عن غيره ، ولا طريق للإحتياج إليه ، فيكون غنيّاً عن الشريك ومنزّهاً عن الحاجة والشركة .
مع أنّ الشركة بنفسها من النقص والحاجة ، للإحتياج فيه إلى الإذن في التصرّف ، والغنيّ أجلُّ من الإحتياج ، وأرفع من الإستيذان فلا يناسبه الشريك ، بل هو الواحد الأحد الكبير الغني عن الشريك ، والمستغني عن النظير .
فحكومة العقل عند الإستدلال بأنّه واحد لا شريك له ثابتة بلا إشكال .
العقائد الحقّة
_ 56 _
الجهة الثالثة : صفات الله تعالى
من مسلّمات الدين الحنيف ، أنّه لا سبيل للمخلوق إلى معرفة ذات الخالق والإحاطة به ومعرفة حقيقته .
فقد قال الله تعالى :
( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (1).
وورد في دعاء المشلول المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) :
( يامن لا يعلم ما هو ولا كيف هو ولا أين هو ولا حيث هو إلاّ هو )
(2).
وفي دعاء مولانا السجّاد (عليه السلام) :
( ولم تجعل للخلق طريقاً إلى معرفتك إلاّ بالعجز عن معرفتك )
(3).
وقد قام البرهان ودلّ الوجدان وأدرك العقل بالعيان أنّه لم يُعطَ للمخلوق وسيلة يَعرِفُ بها ذات خالقه ، إذ الأعضاء والحواس الإنسانية على دقّتها وعظمتها هي مقاييس مادّية نحسّ بها المخلوقات والماديات فقط .
---------------------------
(1) سورة طه : (الآية 110) .
(2) مصباح الكفعمي : (ص260) .
(3) مفاتيح الجنان المعرّب : (ص127 ، مناجات العارفين) .
العقائد الحقّة
_ 57 _
فالعين مثلا التي هي من أدقّ الوسائل لرؤية الأعيان بما أنّها خِلقةٌ مادّية نشاهد بها المادّيات فقط ، بل لا يمكننا أن نشاهد بها حتّى بعض المادّيات ، كالاُمور اللطيفة مثل الهواء ، فكيف يمكن مشاهدة خالق المادّيات ؟
وهناك بيان لطيف في أحاديث أهل بيت العصمة (عليهم السلام) في بيان إبطال رؤية الله تعالى ، وعدم إمكانها نظير :
1 ـ ما رواه أحمد بن إسحاق قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالث [ الإمام الهادي ] (عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس ، فكتب :
( لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر ، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصحّ الرؤية وكان في ذلك الاشتباه ، لأنّ الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه وكان ذلك التشبيه ، لأنّ الأسباب لابدّ من اتّصالها بالمسبّبات )
(1).
2 ـ هشام بن الحكم قال :
( الأشياء [ كلّها ] لا تُدرك إلاّ بأمرين : بالحواسّ والقلب ، والحواسّ إدراكها على ثلاثة معان : إدراكاً بالمداخلة ، وإدراكاً بالمماسّة ، وإدراكاً بلا مداخلة ولا مماسّة .
فأمّا الإدراك الذي بالمداخلة فالأصوات والمشام والطعوم .
وأمّا الإدراك بالمماسّة فمعرفة الأشكال من التربيع والتثليث ومعرفة الليّن والخشن والحرّ والبرد .
وأمّا الإدراك بلا مماسّة ولا مداخلة فالبصر فإنّه يدرك الأشياء بلا
---------------------------
(1) اُصول الكافي : (ج1 ص97 باب إبطال الرؤية ح4) .
العقائد الحقّة
_ 58 _
مماسّة ولا مداخلة في حيِّز غيره ولا في حيِّزه .
وإدراك البصر له سبيل وسبب فسبيله الهواء وسببه الضياء ، فإذا كان السبيل متّصلا بينه وبين المرئي والسبب قائم أدرك ما يلاقي من الألوان والأشخاص ، فإذا حمل البصر على ما لا سبيل له فيه رجع راجعاً فحكى ما وراءه كالناظر في المرآة لا ينفذ بصره في المرآة فإذا لم يكن له سبيل رجع راجعاً ، يحكي ما وراءه وكذلك الناظر في الماء الصافي يرجع راجعاً ويحكي ما وراءه إذ لا سبيل له في إنفاذ بصره ، فأمّا القلب فإنّما سلطانه على الهواء فهو يدرك جميع ما في الهواء ويتوهّمه ، فإذا حمل القلب على ما ليس في الهواء موجوداً رجع راجعاً فحكى ما في الهواء .
فلا ينبغي للعاقل أن يحمل قلبه على ما ليس موجوداً في الهواء من أمر التوحيد جلّ الله وعزّ ، فإنّه إن فعل ذلك لم يتوهّم إلاّ ما في الهواء موجود كما قلنا في أمر البصر تعالى الله أن يشبهه خلقه )
(1).
على أنّ الحواس الاُخرى أيضاً إنّما نحسّ بها المخلوقات فقط ، فكيف يمكن مشاهدة الخالق بهذه الوسائل المادّية ؟ وهل يُرى بالجسم غير الأجسام ؟
كلاّ !! المادّي لا يمكنه التوصّل إلاّ إلى المادّي فقط بإقتضاء السنخيّة .
بل لم يتوصّل الإنسان إلى بعض نفس المادّيات المماثلة له في جوهر المادّة ، فتراه لم يعرف بَعْدُ حقيقة المواد الأوّلية ، والعناصر الأساسيّة الموجودة في هذا الكون ، بالرغم من أنّه يشاهدها ويحسّها وهو متكيّف معها ويعيش إلى جنبها .
---------------------------
(1) اُصول الكافي : (ج1 ص99 باب إبطال الرؤية ح12) .
العقائد الحقّة
_ 59 _
وترى الإنسان ـ وهو أشرف المخلوقات السالك بنفسه في مرامي علم الكائنات ، والمبتكر لعظيم المصنوعات ـ لم يتوصّل إلى معرفة حقيقة روحه هو ، بينما هو مشتمل عليها وعائش ببركتها ومتقارن في حياته دائماً مع وجودها ... بأقرب تقارن وأمسّ إرتباط .
فإذا كان عاجزاً عن معرفة روحه المنطوية معه ، فما بالك بمعرفة خالق الأرواح الذي هو فوق إدراكه .
إنّا لا نملك إلاّ الإعتراف بالعجز عن معرفة ذاته المقدّسة بحكومة العقل وشهادة الوجدان .
وحين لم يمكننا ولن نتمكّن من معرفة ذاته ، فلابدّ على صعيد معرفة الله من معرفة صفاته ومعالي أوصافه وعظيم خلقه وباهر صنعته .
وحتّى في نفس الصفات لا نتمكّن من معرفة كنهها خصوصاً الصفات التي هي عين ذاته ، كعلمه وقدرته وحياته و...
فتكون معرفتنا لها بالمقدور المستطاع وبقدر إدراك البصائر ، وبالمقدار الذي بيّنه هو تعالى في كتابه الباهر ، وأبان عنه على لسان نبيّه وأوصيائه المعصومين سلام الله عليهم أجمعين .
فالله تعالى هو العالم بذاته وصفاته ، لذلك يلزم علينا أن نستمدّ منه المعرفة بنعوته وأوصافه .
وقد ورد الحديث العلوي الشريف المتقدّم :
( اعرفوا الله بالله ... )
(1).
وفي خطبته المباركة :
---------------------------
(1) اُصول الكافي : (ج1 ص85 باب أنّه لا يعرف إلاّ به ح1) .
العقائد الحقّة
_ 60 _
( هو الدالّ بالدليل عليه ، والمؤدّي بالمعرفة إليه )
(1).
وعلى الجملة فالمذهب الصحيح في المعارف الحقّة هو : معرفة صفات الله تبارك وتعالى بواسطة بيان كتابه الكريم وأحاديث مهابط وحيه ، النبي وآله المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) ، كما نُصّ على الإهتداء بهما والتمسّك بكليهما في عموم حديث الثقلين : ( كتاب الله والعترة ) ، وخصوص أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) التي منها ما يلي :
1 ـ حديث سليمان بن خالد قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) :
( إيّاكم والتفكّر في الله
(2)، فإنّ التفكّر في الله لا يزيد إلاّ تَيهاً
(3) إنّ الله عزّ وجلّ لا تدركه الأبصار ، ولا يوصف بمقدار )
(4).
2 ـ حديث عبدالرحيم القصير قال : كتبت على يدي عبدالملك بن أعين إلى أبي عبدالله (عليه السلام) بمسائل فيها : أخبِرني عن الله عزّ وجلّ هل يوصف بالصورة وبالتخطيط ، فإن رأيت ـ جعلني الله فداك ـ أن تكتب إليّ بالمذهب الصحيح من التوحيد .
فكتب (صلّى الله عليه) على يدي عبدالملك بن أعين :
( سألت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب فيه من قبلك ، فتعالى الله الذي ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، تعالى الله عمّا يصفه الواصفون المشبّهون الله تبارك وتعالى بخلقه ، المفترون على الله .
واعلم رحمك الله أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن
---------------------------
(1) الإحتجاج للطبرسي : (ج1 ص201 إحتجاجات أمير المؤمنين (عليه السلام) في التوحيد) .
(2) أي في ذات الله تعالى .
(3) التيه هو التحيّر والضلالة .
(4) بحار الأنوار : (ج3 ص259 الباب9 ح4) .
العقائد الحقّة
_ 61 _
من صفات الله (عزّ وجلّ) .
فأنفِ عن الله البطلان والتشبيه ، فلا نفي ولا تشبيه ، هو الله الثابت الموجود ، تعالى الله عمّا يصفه الواصفون ، ولا تَعْدُ القرآن فتضلّ بعد البيان )
(1).
3 ـ ما روي عن العالم [ الإمام الكاظم ] (عليه السلام) ـ وسألته عن شيء من الصفات ـ فقال :
( لا تتجاوز ممّا في القرآن )
(2).
4 ـ حديث جعفر بن محمّد بن الحكيم الخثعمي قال : إجتمع ابن سالم ، وهشام بن الحكم ، وجميل بن درّاج ، وعبدالرحمن بن الحجّاج ، ومحمّد بن حمران ، وسعيد بن غزوان ، ونحو من خمسة عشر من أصحابنا فسألوا هشام بن الحكم أن يناظر هشام بن سالم فيما إختلفوا فيه من التوحيد ، وصفة الله عزّ وجلّ ، وعن غير ذلك ، لينظروا أيّهم أقوى حجّة ، فرضي هشام بن سالم أن يتكلّم عند محمّد بن أبي عمير ، ورضي هشام بن الحكم أن يتكلّم عند محمّد بن هشام فتكلّما وساقا ما جرى بينهما ، وقال : قال عبدالرحمن بن الحجّاج لهشام بن الحكم : كفرت والله بالله العظيم وألحدت فيه ، ويحك ! ما قدرت أن تُشبّه بكلام ربّك إلاّ العود يضرب به .
قال جعفر بن محمّد بن حكيم : فكتب إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) يحكي له مخاطبتهم وكلامهم ، ويسأله أن يعلّمهم ما القول الذي ينبغي أن يدين الله به من صفة الجبّار ، فأجابه في عرض كتابه :
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص261 الباب9 ح12) .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص262 الباب9 ح16) .
العقائد الحقّة
_ 62 _
( فهمت رحمك الله ، واعلم رحمك الله أنّ الله أجلّ وأعلى وأعظم من أن يُبلغ كنه صفته ، فصِفُوه بما وصف به نفسه ، وكفّوا عمّا سوى ذلك )
(1).
5 ـ حديث محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال :
( إيّاكم والتفكّر في الله ، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خَلقه )
(2).
6 ـ ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال :
( يا بن آدم ! لو أكل قلبَك طائرٌ لم يُشبعه ، وبصرُك لو وُضع عليه خُرت أبرة
(3) لغطّاه ، تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والأرض ؟!
إن كنت صادقاً فهذه الشمس خَلقٌ من خلق الله فإن قدرت أن تملأ عينيك منها فهو كما تقول ) .
وأمّا اتّساع المعرفة وتعاليها فإنّما يكون في معرفة أسمائه وصفاته ، وبها تتفاوت درجات الملائكة والأنبياء والأولياء في معرفة الله عزّ وجلّ ... )
(4).
ولاحظ لمعرفة صفاته القدسيّة الألف ، دعاء الجوشن الكبير المروي في البلد الأمين عن سيّد الساجدين ، عن أبيه ، عن جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص266 الباب9 ح31) .
(2) حقّ اليقين : (ج1 ص49) .
(3) الخُرت : بضمّ الخاء هو ثقب الأبرة .
(4) حقّ اليقين : (ج1 ص49) .
العقائد الحقّة
_ 63 _
الطاهرين
(1) ، المشتمل على ألف صفة واسم من صفاته وأسمائه المقدّسة التي بيّنها نبيّه الأكرم (صلى الله عليه وآله) في ذلك الدعاء .
ولاحظ لمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العُليا حديث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)الذي رواه الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد بإسناده عن سليمان بن مهران ، عن الصادق جعفر بن محمّد ، عن أبيه محمّد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن أبيه علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
( إنّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين إسماً مئة إلاّ واحدة ، من أحصاها دخل الجنّة ، وهي : الله ، الإله ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، الأوّل ، الآخر ، السميع ، البصير ، القدير ، القاهر ، العليّ ، الأعلى ، الباقي ، البديع ، البارىء ، الأكرم ، الظاهر ، الباطن ، الحيّ ، الحكيم ، العليم ، الحليم ، الحفيظ ، الحقّ ، الحسيب ، الحميد ، الحفيّ ، الربّ ، الرحمن ، الرّحيم ، الذّاري ، الرزّاق ، الرّقيب ، الرؤوف ، الرّائي ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، السيّد ، السبُّوح ، الشهيد ، الصادق ، الصانع ، الطاهر ، العدل ، العفوّ ، الغفور ، الغنيّ ، الغياث ، الفاطر ، الفرد ، الفتّاح ، الفالق ، القديم ، الملك ، القدّوس ، القويّ ، القريب ، القيّوم ، القابض ، الباسط ، قاضي الحاجات ، المجيد ، المولى ، المنّان ، المحيط ، المبين ، المقيت ، المصوِّر ، الكريم ، الكبير ، الكافي ، كاشف الضرِّ ، الوتر ، النور ، الوهّاب ، الناصر ، الواسع ، الودود ، الهادي ، الوفيّ ، الوكيل ، الوارث ، الباعث ، البرّ ، التوّاب ، الجليل ، الجواد ، الخبير ، الخالق ، خير الناصرين ، الديّان ، الشكور ،
---------------------------
(1) البلد الأمين : (ص402) .
العقائد الحقّة
_ 64 _
العظيم ، اللطيف ، الشافي )
(1).
وتلاحظ شرح هذه الأسماء الحسنى بعد نقل حديثها في نفس كتاب التوحيد ، وسيأتي في هذا الفصل بيان أنّ من أسمائه الحسنى عدله وعدالته ، وأنّ الإعتقاد به من اُصول الدين ، ومن المميّزات لأهل الحقّ عن المخالفين .
فلنبدأ بذكر شمّة منها وبيان جملة من أعرفها ، للإغتراف من منهلها العذب ، والإستفادة من أريجها الطيّب ...
بعد تقديم مقدّمة موجزة تفيدنا زيادة المعرفة والبصيرة في الموضوع ...
ومنه نستمدّ العون ونطلب العصمة وهو وليّ التوفيق .
فنقول : إعلم : أنّ الذات الإلهية المقدّسة واجدة لجميع صفات الكمال ، لأنّ الخلو عن الكمال نقصٌ ، والنقص منفيٌّ عن الواجب تعالى .
كما وأنّ هذه الذات الكريمة منزّهة عن جميع صفات النقصان ، لأنّ النقص عجزٌ أيضاً ، والعجز لا يليق بالذات الكاملة .
ويسمّى القسم الأوّل من الصفات بالصفات الثبوتية ، وصفات الكمال والجمال .
كما يسمّى القسم الثاني بالصفات السلبيّة ، وصفات التنزيه والجلال .
فهو تعالى واجد لجميع صفات الكمال ، ونزيه عن جميع صفات الجلال .
ومن الواضح أنّ ذاته الكاملة واجبة في الوجود ، وهي فوق كلّ موجود ، فتكون مستجمعةً لجميع الصفات الثبوتية ، ومنزّهة عن جميع الصفات السلبيّة .
هذا ... ولعدم إمكان معرفة ذاته المتعالية ـ كما قلنا ـ لا يمكننا معرفة كنه صفاته ، ولا نتمكّن من الوصول إلى اللامتناهي من كمالاته ، خصوصاً وإنّ بعض
---------------------------
(1) توحيد الصدوق : (ص194 الباب29 ح8) .
العقائد الحقّة
_ 65 _
صفاته عين ذاته ـ كما عرفت ـ لذلك نكتفي في التشرّف بذكر أشهر صفاته الشريفة ونعوته المباركة .
ويلزم التنبيه في البدء على أنّ صفاته المقدّسة تنقسم إلى ضربين :
1 ـ صفات الذات ، كالوجود والعلم والقدرة والحياة والسرمدية ونحوها ممّا هي عين ذاته المقدّسة .
2 ـ صفات الفعل ، كالخالقية والرازقية والإحياء والإماتة ونحوها التي إنتزعت بإعتبار المخلوق والمرزوق والمحيى والممات ، فهذه صفات أفعاله لا ذاته ، والكمال في هذه الصفات الأخيرة هي قدرته عليها ... وتلك القدرة هي عين ذاته .
ثمّ الضابط في الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل كما أفاده الأعاظم مثل السيّد الشبّر في كتابه حقّ اليقين هو :
( إنّ صفات الذات هي ما اتّصف الله تعالى بها وامتنع اتّصافه بضدّها ، كالعلم والقدرة والحياة ونحوها ، فإنّه لا يجوز أن يقال أنّ الله عالم بكذا غير عالم بكذا ، أو قادر على كذا وغير قادر على كذا ، وسميع وبصير بكذا وغير سميع وبصير بكذا ونحو ذلك .
وأمّا صفات الفعل فهي ما يتّصف الله تعالى بها وبضدّها ، كالخالقية والرازقية فإنّه يجوز أن يقال : إنّ الله تعالى خلق زيداً ولم يخلق إبنه ، وأحيى زيداً وأمات عمراً وأفقر بكراً وأغنى خالداً ونحو ذلك ... )
(1).
وقد استفيدت هذه الضابطة من ثقة الإسلام الكليني (قدس سره) في كتابه الشريف الكافي تحت عنوان ( جملة القول في صفات الذات وصفات الفعل ) ، ذكر هذه
---------------------------
(1) حقّ اليقين : (ج1 ص41) .
العقائد الحقّة
_ 66 _
الضابطة وأفاد فيها أحاديث شريفة
(1).
ثمّ إنّه إذا عرفت أقسام هذه الصفات المقدّسة ، وحصلت على الميزة بين الضربين من صفاته ـ يعني الذاتية والفعلية ـ ولم يحصل الإشتباه بينهما ، نرجع إلى ذكر القسمين من أوصافه الثبوتية والسلبية .
فنذكر أوّلا جملة من الصفات الثبوتية الكمالية ، ثمّ نبيّن ثانياً نبذةً من الصفات السلبيّة الجلالية ... والله هو المستعان .
---------------------------
(1) اُصول الكافي : (ج1 ص111) .
العقائد الحقّة
_ 67 _
1 ـ الصفات الثبوتيّة
عرفت أنّه لا يمكن الوصول إلى كنه صفاته ، وعدد أوصافه وكلّها جليلة وجميلة ، فنكتفي بمقدار يتيسّر لنا بيانه ويشرّفنا عنوانه :
1 ) أنّه تعالى عالمٌ ، عليم ، علاّم ، جلّت صفاته وعظمت أسماؤه
فهو العالم بمعنى أنّه عالم بكلّ معلوم على ما هو عليه من كونه واجباً أو ممكناً أو ممتنعاً ، وكليّاً أو جزئيّاً ، وسُمّي عالماً لأنّه لا يجهل شيئاً ... كما أفاده الشيخ الطريحي
(1).
وهو عليم معناه أنّه عليم بنفسه ، عالم بالسرائر ، مطّلع على الضمائر ، لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرّة ...
عَلِمَ الأشياء قبل حدوثها وبعد ما أحدثها ، سرّها وعلانيتها ، ظاهرها وباطنها ، كما أفاده المحدّث الصدوق
(2).
وهو العلاّم ، مبالغة في العلم ، فهو الذي لا يشذّ عنه معلوم ، كما أفاده الشيخ
---------------------------
(1) مجمع البحرين : (ص528 ، مادّة ـ علم ـ ) .
(2) التوحيد : (ص201) .
العقائد الحقّة
_ 68 _
الكفعمي
(1).
والدليل على هذه الصفة الكريمة لذاته المقدّسة ، هو الكتاب والسنّة والضرورة وحكم العقل .
فأوّلا : من الكتاب آيات كريمة مثل :
1 ـ قوله عزّ إسمه : ( عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الاَْرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين )
(2).
2 ـ قوله عزّ شأنه : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيمٌ )
(3).
3 ـ قوله عزّ وجهه : ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ )
(4).
فهذه الصفات الكمالية ، ثابتة لله تعالى بالدليل القطعي أوّلا : بنصّ الكتاب الكريم وهي تزيد على مئة آية كريمة ، جمعها العلاّمة المجلسي
(5).
ثانياً : بصريح الأحاديث المتواترة التي سيأتي بيان جملة منها ، وقد صرّح السيّد الشبّر بتواترها
(6).
ثالثاً : بضرورة المذهب القائمة على كونه تعالى عالماً ، أزلا وأبداً بجميع الأشياء كليّاتها وجزئيّاتها ، من غير تغيّر في علمه ، كما صرّح به شيخ الإسلام
---------------------------
(1) المصباح : (ص340) .
(2) سورة سبأ : (الآية 3) .
(3) سورة البقرة : (الآية 231) .
(4) سورة التوبة : (الآية 78) .
(5) بحار الأنوار : (ج4 ص74) .
(6) حقّ اليقين : (ج1 ص25) .
العقائد الحقّة
_ 69 _
المجلسي
(1).
رابعاً : بالأدلّة الإعتبارية العقلية التي توضّح علم الله تعالى بالوجوه الثلاثة المقرّرة التالية :
1 ـ إنّه لو لم يكن تعالى عالماً بجميع الأشياء لزم الجهل ولو في البعض ، وهو نقص بل من أعظم النقائص .
والخالق المتعال الذي هو واجب الوجود وكامل الذات ومنزّه عن نقص الصفات ، يستحيل أن يكون جاهلا ، بل هو عالم بجميع الأشياء بلا جهل فيه أبداً .
2 ـ إنّه تعالى منزّه عن الزمان والمكان ، لأنّه خالقهما ، والخالق مقدّم على مخلوقاته ، والصانع سابق بالنسبة إلى مصنوعاته بالبداهة العقلية .
ومن المعلوم أنّ من لا يحيطه الزمان والمكان ، بل كان هو المحيط بالزمان ، والموجود في كلّ مكان ، حقّ أن يكون عالماً بجميع الأشياء ، محيطاً بجميع الاُمور في كلّ الأزمنة وفي جميع الأمكنة ، بل لا معنى لأن يجهل شيئاً يقع في زمان أو يحدث في مكان .
وبديهي أنّ الذات المقدّسة موجودة من الأزل إلى الأبد ، ومحيطة بكلّ معدود وعدد ، ومشرفةٌ على الكون ومسلّطة على التكوين ، فكيف لا تعلم الكائنات ، أو تجهل الموجودات أو لا تطلع على ما يحدث في الأرضين والسماوات ؟!
وطبيعي أنّا نجد أنفسنا محدودين بالزمان والمكان ، فلا يمكننا الإطّلاع على غير مكاننا أو مستقبل زماننا .
لكنّ الله تعالى ليس بمحدود إطلاقاً ، بل له الإحاطة الكاملة والسلطنة
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج4 ص87) .
العقائد الحقّة
_ 70 _
الشاملة على جميع الأزمنة والأمكنة المخلوقة له ، والحادثة بإرادته ومشيئته ، فلا معنى لأن يكون زمان ماض أو حال أو مستقبل لخالق الزمان ، أو يكون له هذا المكان دون ذلك المكان وهو خالق جميعها ، بل من الواضح أن يطلع على جميع ما في الأزمنة والأمكنة فهو العالم بها جميعاً والحاضر الناظر إليها محيطاً .
ومُثّل للإحاطة بمثال تقريبي للتوضيح ، وهو مثال الإنسان الناظر من شاهق البناء العالي بالنسبة إلى الناظر من رَوزنة الغرفة الصغيرة فالأوّل يرى جميع ما يكون أمامه ، بينما الثاني لا يرى إلاّ ما يمرّ أمام رَوزنته .
وكيف لا يعلم الله تعالى جميع الأشياء وقد خلقها وأوجدها ؟ هذا من المستحيل .
قال الله تعالى : ( أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )
(1).
وكيف يعقل أن لا يعلم الله تعالى ضمائر الناس ، وقد خلق أشخاصهم وأرواحهم وقلوبهم وعقولهم ومنحهم القوّة والقدرة والتفكير والتعبير ؟
قال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ )
(2).
فلا يبقى شكّ بل يحكم العقل بكلّ قطع ، بأنّ هذه الذات الشريفة الخالقة المحيطة ذات عالمة أحاطت بكلّ شيء علماً ، ووسعت كلّ شيء خُبراً .
3 ـ إنّ النظم والتدبير ، والحكمة والتقدير ، والدقّة المدهشة العجيبة التي نراها في جميع مجالات الكون ، وفي جميع خلائق العالم من إنسانها وحيوانها وسمائها وأرضها ونباتها وجميع موجوداتها من المجرّة إلى الذرّة ، تُنبىء عن علم
---------------------------
(1) سورة الملك : (الآية 14) .
(2) سورة ق : (الآية 16) .
العقائد الحقّة
_ 71 _
خالقها وعلاّمية صانعها ، وهذه حقيقة يستكشفها كلّ من تأمّل فيها وتدبّر في خلقتها ، وأعطى من نفسه الحقّ والإنصاف ، وحكّم قضاوة الوجدان الشفّاف ...
قال الشيخ الصدوق : ( من الدليل على أنّ الله تبارك وتعالى عالم أنّ الأفعال المختلفة التقدير ، المتضادّة التدبير ، المتفاوتة الصنعة لا تقع على ما ينبغي أن يكون عليه من الحكمة ممّن لا يعلمها ، ولا يستمرّ على منهاج منتظم ممّن يجهلها ، ألا ترى أنّه لا يصوغ قُرطاً
(1) يُحكم صنعته ، ويضع كلاًّ من دقيقه وجليله موضعه من لا يعرف الصياغة ، ولا ينظّم كتابةً يتّبع كلّ حرف منها ما قبله من لا يعلم الكتابة ، والعالَم ألطف صنعة وأبدع تقريراً ممّا وصفناه ، فوقوعه من غير عالِم بكيفيّته قبل وجوده أبعد وأشدّ إستحالة )
(2).
فمن البديهي أنّ هذا النظام الكوني الدقيق البهيج ، لا يمكن أن ينشأ من الجهل أو يحدث بالصدفة .
بل في جميعها آيات صدق ، ودلائل حقّ تفصح عن علم صانعها ، وخبرة بارئها ، وحكمة فاطرها .
وهي تكشف بوضوح أنّ خالقها كان عليماً بأجزائها وجزئياتها ، وخبيراً بربطها وإرتباطها ، وقادراً على صنعها وتركيبها بأحسن شكل وأبدع صورة ... وبأجمل المناظر وأزهى المظاهر ، إلى جانب دقّة الفعل ورقّة العمل .
فراجع الوجدان فيما تلاحظ من البراعة العلمية ، والدقّة الفنّية في الآيات الأنفسيّة والآفاقيّة التي تلاحظها في هذا الكون العظيم .
قال الله جلّ جلاله : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الاْفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ
---------------------------
(1) القرط : هو ما يعلّق في شحمة الاُذن من دُرّة أو جوهرة مصوغة .
(2) التوحيد : (ص137) .
العقائد الحقّة
_ 72 _
أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ )
(1).
وفي الخطبة العلوية الشريفة :
( دليله آياته ، ووجوده إثباته )
(2).
وفي الحديث الرضوي المبارك :
( بصنع الله يُستدلّ عليه ، وبالعقول تُعتقد معرفته ، وبالفطرة تثبت حجّته )
(3).
إلى غير ذلك من أدلّة العلم والحكمة .
ويكفيك ـ بل يغنيك ـ التدبّر فيما أرشد إليه الإمام الناطق ، أبو عبدالله الصادق (عليه السلام) ، من آيات الله الزاهرة وعجائب خلقته الباهرة ، التي تفيض النور الإيماني ، وتؤدّي إلى القطع الوجداني بعلم الله تعالى وحكمته وقدرته .
وذلك في حديث التوحيد الشريف الذي رواه المفضّل الجعفي كما تلاحظه في البحار
(4).
وشرحه الاُستاذ الخليلي في أمالي الإمام الصادق (عليه السلام) ، بأجزائها الأربعة .
وهذا الحديث بحقّ من أعظم أدلّة وجود الله وتوحيده وعلمه ، وجدير بالإمعان والدراسة ، وهذه الأدلّة الجليلة تبرهن على هذه الصفة الكماليّة لله تعالى شأنه وجلّت قدرته ...
ونحن نقتطف أزاهير عاطرة من تلك الرياض الزاهرة بالإشاره إلى ما يلي :
---------------------------
(1) سورة فصّلت : (الآية 53) .
(2) الإحتجاج للطبرسي : (ج1 ص201) .
(3) عيون الأخبار : (ج1 ص151) .
(4) بحار الأنوار : (ج3 ص57 ـ 151) .