أصل التوحيد
البحث في هذا الأصل الأوّل الشريف من اُصول العقائد يقع في جهات ثلاثة :
1 ـ إثبات وجوده تعالى .
2 ـ توحيده عزّ إسمه .
3 ـ صفاته الكريمة جلّ شأنه .
فنبحث في ذلك إستمداداً من نور الكتاب والسنّة والعقل ، واهتداءً إلى معرفته القلبية التي هي أسمى المعارف الحقيقيّة ، ووصولا إلى رؤية القلوب بحقائق الإيمان كما في حديث ذِعْلب المروي عن سيّد الوصيّين وأمير المؤمنين (عليه السلام) :
( لم تَرَهُ العيونُ بمشاهَدة الأبصار ولكن رأتْهُ القلوبُ بحقائق الإيمان ) (1).
فنبحث بعون الله تعالى في هذا الأصل ببيان الاُمور الثلاثة الآتية :
وجوده تعالى أغنى من أن يحتاج إلى بيان أو يتوقّف على برهان ، حيث إنّ العيان يغني عن البيان ، والوجدان يكفي عن البرهان .
وقد أيقن به كلّ ذي علم ، وأدركه كلّ ذي عقل ، وأحسّ به كلّ ذي شعور ، وفهمته كلّ فطرة بحيث أغنى الصباح عن المصباح .
حتّى الذي ينكره بلسانه لا محالة يتوجّه إليه عند الإضطرار بقلبه وجَنانه ، بل يمكن القول بأنّ وجوده الشريف فطريّ جبلّي حتّى للبهائم والحيوانات كما في قصّة نملة سليمان (عليه السلام) وقضايا الوجدان التي تدلّنا على توجّه الحيوانات أيضاً إلى الله تعالى ... ففي الحديث :
( إنّ سليمان بن داود خرج يستسقي ، فمرّ بنملة مُلقاة على ظهرها ، رافعة قوائمَها إلى السماء وهي تقول : اللهمّ أنا خلقٌ من خلقك ولا غنى بنا عن رزقك ، فلا تهلكنا بذنوب غيرنا .
العقائد الحقّة _ 27 _
فقال سليمان : اِرجعوا فقد سُقيتم بغيركم ) (1).
وفي الأخبار شواهد كثيرة على ذلك يقف عليها المتتبّع .
فإثبات وجود الصانع إذن لا يحتاج في الحقيقة إلى دليل بعد حكم الفطرة ; إذ مقتضى الفطرة عدم الحاجة بعدها إلى الأدلّة ...
إلاّ أنّه تبرّكاً بوحي السماء وإتماماً للحجّة الغرّاء نشير إلى هذه الأدلّة الآتية الدالّة على وجود الله جلّ شأنه : 1 ـ دليل الكتاب :
وقد بيّن القرآن الكريم أحسن البيان ، وأقام أتقن البرهان على وجود الله تعالى المنّان بالشواهد اليقينية والدلائل التكوينية في آيات مباركات أحصاها العلاّمة المجلسي في البحار (2) تحت عنوان إثبات الصانع والإستدلال بعجائب صنعه على وجوده في ضمن ذكر 244 آية شريفة من الكتاب العزيز ، منها قوله تعالى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأَحْيَى بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّة وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ لاَيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ ) (3).
وهذه الآية الشريفة بوحدها مشتملة على سبع آيات من آيات الله العجيبة ومخلوقاته الغريبة التي تدلّ على وجود خالق لها ومدبّر في إحداثها وسبب
لدوامها .
وكفى بها آيةً تدفع الريب وترفع الشكّ عن وجود فاطر السماوات والأرضين ، الذي يؤمن به كلّ من تدبّر وفكّر فيها من المسلمين والكافرين . 2 ـ دليل السنّة :
وقد أفاض نبيّ الإسلام وأهل بيته الكرام ، الأنوار اللامعة ، والحِكَم البارعة في إثبات وجود الله تعالى بمتواتر الحديث بل فوق التواتر من الأحاديث المفيدة للعلم واليقين بوجود الله الحقّ المبين كما تلاحظها بكثرتها في جميع كتب التوحيد ، وربّما تزيد على مئة حديث ، ومن ذلك ما نقتطفه من الأحاديث التالية :
1 ـ الحديث العلوي الشريف المروي عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه :
( ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ، ولكنّ القلوب عليلة والأبصار مدخولة (1) ، أفلا ينظرون إلى صغير ما خلق ، كيف أحكم خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر وسوّى له العظم والبشر .
انظروا إلى النملة في صغر جثّتها ولطافة هيأتها لا تكاد تنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبّت على أرضها وضنّت على رزقها (2) ، تنقل الحبّة إلى جحرها وتعدّها في مستقرّها ، تجمع في حرّها لبردها وفي ورودها لصدورها ، مكفول برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنّان ولا يحرمها الديّان ، ولو في الصفا اليابس
---------------------------
(1) من الدَخَل ـ بفتحتين ـ بمعنى العيب أي معيوبة .
(2) أي : بخلت به .
العقائد الحقّة _ 29 _
والحجر الجامس (1) ، لو فكّرت في مجاري أكلها ، وفي علوّها وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها واُذنها لقضيت من خلقها عجباً ولقيت من وصفها تعباً ، فتعالى الذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها ، لم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يعنه على خلقها قادر ، ولو ضربت في مذاهب فكرك لِتبلغ غاياتِه ما دلّتك الدلالة إلاّ على أنّ فاطر النملة هو فاطر النحلة لدقيق تفصيل كلّ شيء ، وغامض إختلاف كلّ حيّ .
وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقوي والضعيف في خلقه إلاّ سواء ، كذلك السماء والهواء والريح والماء ، فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر ، وإختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجّر هذه البحار وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال ، وتفرّق هذه اللغات والألسن المختلفات .
فالويل لمن أنكر المقدِّر وجحد المدبِّر .
زعموا أنّهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لإختلاف صورهم صانع ، لم يلجأوا إلى حجّة فيما ادّعوا ، ولا تحقيق لما وعوا ، وهل يكون بناءٌ من غير بان أو جنايةٌ من غير جان ؟!
وإن شئت قلت : في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين ، وجعل لها السمع الخفيّ ، وفتح لها الفمّ السويّ ، وجعل لها الحسّ القويّ ، ونابين بهما تقرض ، ومنجلين بهما تقبض ، ترهبها الزرّاع في زرعهم ولا يستطيعون ذبّها ولو أجلبوا بجمعهم ،
---------------------------
(1) الحجر الجامس والجميس : هو اليابس أيضاً .
العقائد الحقّة _ 30 _
حتّى ترد الحرث في نزواتها ، وتقضي منه شهواتها ، وخلقها كلّه لا يكون إصبعاً مستدقّة ، فتبارك الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً ، ويعفّر له خدّاً ووجهاً ، ويلقي بالطاعة إليه سلماً وضعفاً ، ويعطي له القياد رهبةً وخوفاً .
فالطير مسخّرة لأمره ، أحصى عدد الريش منها والنفس ، وأرسى قوائمها على الندى واليبس ، قدَّر أقواتها ، وأحصى أجناسها ، فهذا غراب ، وهذا عقاب ، هذا حمام ، وهذا نعام ، دعا كلّ طائر باسمه ، وكفّل له برزقه .
وأنشأ السحاب الثقال فأهطل ديمها ، وعدّد قسمها فبلّ الأرض بعد جفوفها ، وأخرج نبتها بعد جدوبها ) (1).
2 ـ عن هشام بن الحكم قال :
( دخل ابن أبي العوجاء على الصادق (عليه السلام) فقال له الصادق : يا بن أبي العوجاء ! أمصنوع أنت أم غير مصنوع ؟
قال : لست بمصنوع .
فقال له الصادق (عليه السلام) : فلو كنت مصنوعاً كيف كنت تكون ؟
فلم يحر ابن أبي العوجاء جواباً (2) وقام وخرج ) (3).
3 ـ دخل أبو شاكر الديصاني ـ وهو زنديق ـ على أبي عبدالله (عليه السلام) فقال له : يا جعفر بن محمّد ! دلّني على معبودي ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) :
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص36 الباب2 ح1) .
(2) يُقال : لم يحُر جواباً أي لم يَرُدُّ جواباً .
(3) بحار الأنوار : (ج3 ص31 الباب2 ح4) .
العقائد الحقّة _ 31 _
( اِجلس ، فإذا غلام صغير في كفّه بيضة يلعب بها ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : ناولني يا غلام البيضة ، فناوله إيّاها ، فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : يا ديصاني ! هذا حصن مكنون له جلد غليظ ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبةٌ مائعة وفضّة ذائبة ، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة ، ولا الفضّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها ، ولم يدخل فيها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها لا يدرى للذكر خلقت أم للاُنثى ، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس ، أترى لها مدبّراً ؟
قال : فأطرق مليّاً ثمّ قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّك إمامٌ وحجّةٌ من الله على خلقه ، وأنا تائب ممّا كنت فيه ) (1).
4 ـ انّ عبدالله الديصاني أتى باب أبي عبدالله (عليه السلام) فاستأذن عليه فأذن له ، فلمّا قعد قال له : يا جعفر بن محمّد ! دلّني على معبودي ، فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) :
( ما اسمك ؟
فخرج عنه ولم يخبره باسمه .
فقال له أصحابه : كيف لم تخبره باسمك ؟
قال : لو كنت قلت له : عبد الله كان يقول : من هذا الّذي أنت له عبد ؟
فقالوا له : عد إليه فقل يدلّك على معبودك ولا يسألك عن إسمك .
فرجع إليه فقال : يا جعفر ! دلّني على معبودي ولا تسألني عن إسمي .
فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) : إجلس وإذا غلام صغير ... ) (1) إلى آخر الخبر الآنف الذكر .
5 ـ الحسين بن خالد ، عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) : أنّه دخل عليه رجل فقال له : يا بن رسول الله ! ما الدليل على حدوث العالم ؟ فقال :
( أنت لم تكن ثمَّ كنت ، وقد علمتَ أنّك لم تكوِّن نفسك ، ولا كوّنك من هو مثلك ) (2).
6 ـ هشام بن سالم قال : سُئل أبو عبدالله (عليه السلام) فقيل له : بم عرفت ربّك ؟ قال :
( بفسخ العزم ونقض الهمّ ، عزمتُ ففسخ عزمي ، وهممتُ فنقض همّي ) (3).
7 ـ هشام بن الحكم قال : قال لي أبو شاكر الديصاني : إنّ لي مسألة تستأذن لي على صاحبك فإنّي قد سألت عنها جماعة من العلماء فما أجابوني بجواب مُشبع ، فقلت : هل لك أن تخبرني بها فلعلّ عندي جواباً ترتضيه ؟
فقال : إنّي اُحبّ أن ألقي بها أبا عبدالله (عليه السلام) ، فاستأذنتُ له فدخل فقال له :
( أتأذن لي في السؤال ؟
فقال له : سل عمّا بدا لك .
فقال له : ما الدليل على أنّ لك صانعاً ؟
فقال : وجدتُ نفسي لا تخلو من إحدى جهتين : إمّا أن أكون صنعتُها أنا ، فلا أخلو من أحد معنيين : إمّا أن أكون صنعتها وكانت موجودة
أو صنعتها وكانت معدومة ، فإن كنتُ صنعتها وكانت موجودةً فقد استغنيتُ بوجودها عن صنعتها ، وإن كانت معدومة فإنّك تعلم أنّ المعدوم لا يُحدث شيئاً ، فقد ثبت المعنى الثالث أنّ لي صانعاً وهو الله ربّ العالمين .
فقام وما أجاب جواباً ) (1).
8 ـ علي بن منصور قال : قال لي هشام بن الحكم : كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبدالله (عليه السلام) فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها ، فقيل له : هو بمكّة فخرج الزنديق إلى مكّة ونحن مع أبي عبدالله (عليه السلام) فقاربنا الزنديق ـ ونحن مع أبي عبدالله (عليه السلام) ـ في الطواف فضرب كتفه كتف أبي عبدالله (عليه السلام) ، فقال له جعفر (عليه السلام) :
( ما اسمك ؟
قال : اسمي عبدالملك .
قال : فما كنيتك ؟
قال : أبو عبدالله .
قال : فمن الملك الّذي أنت له عبد ، أمن ملوك السماء أم من ملوك الأرض ؟
وأخبرني عن اسمك ، أعبد إله السماء أم عبد إله الأرض ؟ فسكت .
فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) : قل ما شئت تُخصم .
قال هشام بن الحكم : قلت للزنديق ، أما تردّ عليه ؟ فقبّح قولي .
فقال له أبو عبدالله (عليه السلام) : إذا فرغت من الطواف فأتنا .
فلمّا فرغ أبو عبدالله (عليه السلام) أتاه الزنديق فقعد بين يديه ونحن مجتمعون
عنده ، فقال للزنديق : أتعلم أنّ للأرض تحتاً وفوقاً ؟
قال : نعم .
قال : فدخلت تحتها ؟
قال : لا ، قال : فما يدريك بما تحتها ؟
قال : لا أدري إلاّ أنّي أظنُّ أن ليس تحتها شيء .
قال أبو عبدالله (عليه السلام) : فالظنّ عجز ما لم تستيقن .
قال أبو عبدالله (عليه السلام) : فصعدتَ إلى السماء ؟
قال : لا .
قال : فتدري ما فيها ؟
قال : لا .
قال : فعجباً لك لم تبلغ المشرق ، ولم تبلغ المغرب ، ولم تنزل تحت الأرض ، ولم تصعد إلى السماء ، ولم تجز هنالك فتعرف ما خلقهنّ وأنت جاحد ما فيهنّ وهل يجحد العاقل ما لا يعرف ؟
فقال الزنديق : ما كلّمني بهذا أحد غيرك .
قال أبو عبدالله (عليه السلام) : فأنت في شكّ من ذلك فلعلّ هو ، أو لعلّ ليس هو .
قال الزنديق : ولعلّ ذاك .
فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : أيّها الرجل ! ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم ، فلا حجّة للجاهل ، يا أخا أهل مصر ! تفهّم عنّي فإنّا لا نشكّ في الله أبداً ، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يَلِجان ليس لهما مكان إلاّ مكانهما فإن كانا يقدران على أن يذهبا ولا يرجعان فلِمَ يرجعان ؟ وإن لم يكونا مضطرّين فلِمَ لا يصير الليل نهاراً والنهار
العقائد الحقّة _ 35 _
ليلا ؟ اضطرّا ـ والله يا أخا أهل مصر ! ـ إلى دوامهما ، والّذي إضطرّهما أحكم منهما وأكبر منهما .
قال الزنديق : صدقت .
ثمّ قال أبو عبدالله (عليه السلام) : يا أخا أهل مصر ! الذي تذهبون إليه وتظنّونه بالوهم فإن كان الدهر يذهب بهم لِمَ لا يردّهم وإن كان يردّهم لِمَ لا يذهب بهم (1)؟
القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر ! السماء مرفوعة ، والأرض موضوعة ، لِمَ لا تسقط السماء على الأرض ؟ ولِمَ لا تنحدر الأرض فوق طباقها فلا يتماسكان ولا يتماسك من عليهما ؟
فقال الزنديق : أمسكهما والله ربّهما وسيّدهما . فآمن الزنديق على يدي أبي عبدالله (عليه السلام) .
فقال له حمران بن أعين : جعلت فداك ! إن آمنت الزنادقة على يديك فقد آمنت الكفّار على يدي أبيك .
فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبدالله (عليه السلام) : إجعلني من تلامذتك .
فقال أبو عبدالله (عليه السلام) لهشام بن الحكم : خذه إليك فعلّمه ، فعلَّمه هشام فكان معلّم أهل مصر وأهل الشام ، وحسنت طهارته حتّى رضي بها أبو عبدالله (عليه السلام) ) (2).
---------------------------
(1) فإنّ الزنادقة كانوا من الدهرية القائلين بأنّه ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر .
(2) بحار الأنوار : (ج3 ص51 الباب2 ح25) .
قد عرفت أنّ وجود الله تعالى غنيّ عن البيان ، بل هو فطري لكلّ إنسان ، ولا يمكن إنكاره لكلّ ذي وجدان .
ومع ذلك ـ على مسلك الإستدلال ـ تُقام الحجّة لتنكشف المحجّة على وجود الخالق ، وظهور الصانع بالبراهين العقلية والأدلّة اللُبّية ، مضافاً إلى الأدلّة المتقدّمة الشرعية .
والأدلّة العقلية على وجود الله كثيرة وفيرة بتناسب كلّ ذي بصر وبصيرة ، مضافاً إلى برهان العلّة ، ودليل الحكمة على وجود الله الخالق وهو : ( كلّما بالغير ـ وهي الممكنات ـ لابدّ وأن ينتهي إلى ما بالذات ـ وهو واجب الوجود ـ ليكون الذاتي علّة العلل وخالق المخلوقات ... وإلاّ لزم التسلسل وهو محال ) .
فيثبت وجود الذاتي الواجب ، الخالق لمن سواه ، وليس المستحقّ لذلك إلاّ الله ( جلّ جلاله وعمّ نواله ) .
والأدلّة العقليّة الوجدانية الواضحة على وجود الخالق تعالى كثيرة جدّاً ـ كما قلنا ـ نختار منها البراهين الخمسة التالية :
أوضح الأدلّة على إثبات الله تعالى الذي يحكم به العقل ، ويقضي به الوجدان ، ويحسّه كلّ إنسان ، هو دليل النظم والتدبير .
فالجميع يرى العالم بسماواته وأراضيه ، وما بينهما من مخلوقاته ورواسيه من المجرّة إلى النملة . في خِلقة التكريم وسير التنظيم وتناسب عظيم .
فالإنسان نراه بأحسن كيفية ، والحيوان نراه بالمواهب الفطرية ، والنباتات
العقائد الحقّة _ 37 _
والأشجار والأزهار والأعشاب نراها ذات المناظر البهيّة والخصائص النفعية ، وكذلك غيرها من الموجودات الاُخرى التي لا تعدّ ولا تحصى فيما بين السماء إلى أطباق الثرى .
نرى أجزاءها وجزئيّاتها مخلوقة بأحسن نظم ، وأتقن تدبير ، وأحسن صنع ، وأبدع تصوير .
ومن المعلوم بالبداهية لكلّ كبير وصغير ، ولكلّ ذي عقل وإحساس أنّ الإهمال لا يأتي بالصواب ، والخطأ لا يأتي بدقيق الحساب ، والإتّفاق لا يأتي بهذا العجب العُجاب .
فيحكم العقل بالصراحة ، ويذعن الوجدان بالبداهة أنّه لابدّ لهذا التدبير من مدبّر ، ولهذا التنظيم من منظِّم ، ولهذا السير الحكيم من محكِّم .
ويدرك جميع اُولي الألباب أنّه لابدّ لهذا النظام الدقيق من خالق حكيم ، ولابدّ لهذا التدبير العميق من مدبّر عليم خَلَقها وقدّرها وأدام بقاءها ، وأحسن خلقها وتدبيرها ، وهو الله تعالى شأنه وجلّت قدرته .
فوجود الخالق ممّا يدرك بالبداهة ويُحسّ بكلّ يقين .
فإنّا إذا لم نؤمن بوجود الخالق لهذا الكون العظيم بما فيه من الخليقة المنتظمة ، فلابدّ وأن نقول بأنّ الصِّدفة هي التي أوجدتها أو أنّ الطبيعة هي التي خلقتها ...
بأن تكون هذه المجموعات الكبيرة الدقيقة الضخمة ، في هذا العالم الكبير وجدت بنحو الصِّدفة وتحقّقت بنحو المصادفة .
العقائد الحقّة _ 38 _
لكن من الواضح أنّه لا يقبل حتّى عقل الصبيان أن تكون هذه المخلوقات اللامتناهية وُجِدَت بنفسها بالصدفة العمياء أو بالطبيعة الصمّاء ...
بل حتّى عقل المادّيين والطبيعيّين ـ كما تلاحظه في حياتهم ـ لا يقبل الصدفة ، لذلك تراهم يبحثون عن سبب جريمة صغيرة وقعت في بلادهم وفوجئوا بها في دولتهم ويتفحّصون عن علّتها ، ولا يقبلون الصدفة فيها .
وترى طبيبهم الملحد ـ مثلا ـ يصرف مدّة مديدة ، وساعات عديدة من عمره في سبيل معرفة سبب وجود غُدّة صغيرة في جسم إنسان مريض تصدّى لمعالجته ، ولا يقبل أن يؤمن بأنّها وجدت بنحو الصدفة والإتّفاق ، أو أوجدتها طبيعة الآفاق ...
فكيف بهذه البدائع العظيمة في هذا العالم العظيم ، هل يمكن قبول أنّها وجدت بالإتّفاق والصدفة ؟!
والصدفة إن أمكنتها خلق شيء فلابدّ وأن تكون موجودة هي بنفسها ... فنسأل من هو مُوجِدها ؟ وإن لم تكن موجودة فيقال : إنّ المعدوم لا يمكنه إيجاد شيء ، على أنّ الصدفة العمياء شاردة غير منتظرة ، لا تخضع لأي حساب وقانون ، بل تخالف الحسابات العلمية ، فكيف يمكنها أن توجِد هذه الخلائق الكونيّة التي تُبهر العقول وتُدهش العقلاء ؟
وكيف يمكنها أن توجِد المادّة الاُولى لهذا العالم كما يزعمون حتّى يكون العالم ماديّاً ؟
وكيف يمكنها أن توجِد تكاملها وعلّية موجوداتها فيما بينها ـ كما يدّعون ـ حتّى يكون العالم صدفياً ؟ والحال أنّ الصدفة عمياء صمّاء ، وليس لها حظٌّ من العطاء .
العقائد الحقّة _ 39 _
ولنبرهن على هذا الأمر بدليل عقلي علمي وجداني ، ونفرض أنّ كتاباً صغيراً مرتّباً على مئة صفحة قد فُرّقت أوراقه وخُلطت أعداده ، ثمّ اُعطيت بيد شخص أعمى حتّى يُرتّبها وينظّم صفحاتها بواسطة سحب تلك الأوراق مسلسلة إحداها بعد الاُخرى ...
ترى ما هي نسبة إحتمال الموفّقية بأن يكون السحب الأوّل مصيباً للورق الأوّل ؟ الجواب : 1% .
ثمّ ما هي نسبة إحتمال أن يكون السحب الثاني مصيباً أيضاً للورق الثاني ؟
الجواب : 100001 وذلك بعمليّة ( 100001 = 1001 × 1001 ) .
ثمّ ما هي نسبة أن يكون السحب الثالث أيضاً مصيباً للورق الثالث ؟
الجواب : 10000001 وذلك بعمليّة (10000001 = 1001 × 1001 × 1001 ) .
وهكذا ... وهلمّ جرّاً إلى موفّقية تنظيم إصابة السحب المئوي للورق المئة بنتيجة عدد تفوق المليارات ويستغرق حسابها الساعات .
هذه نسبة الصدفة في كتاب صغير فكيف بنسبة موفّقية الصدفة بالنسبة إلى هذا العالم الكبير ؟
وهل يقبل العقل أو يصدّق الوجدان صدفيّة هذا النظام السماوي والأرضي المنتسق بهذا التنسيق البهيج ؟
وهل يمكن قبول كون أساس العالم ومادّته المتكاملة موجودة بالصدفة كما يدّعون ؟ كلاّ ثمّ ألف كلاّ !!
والحساب المنطقي الواضح هو أنّه إذا لم تصدق الصدفة صَدَقَ ضدّه وهو الخَلق والتقدير لأنّهما ضدّان لا ثالث لهما ، لا يجتمعان ولا يرتفعان ... ومن المسلَّم أنّ كذب أحدهما يستلزم صدق الآخر ، فعدم إمكان الصدفة يستلزم صدق
العقائد الحقّة _ 40 _
التقدير .
فتكون الخليقة موجودة بخلق وتقدير ، وهو يدلّ على وجود المقدّر الخبير ، وهو الله ( جلّ جلاله ) .
فإنّ كُلاًّ منّا إذا راجع نفسه وتأمّل شخصه يشعر بوضوح ، ويدرك ببداهة أنّه لم يكن موجوداً أزليّاً بل كان وجوده مسبوقاً بالعدم ، وقد وُجد في زمان خاصّ في عام معيّن وشهر معيّن ويوم معيّن .
فلنتساءل ونتفحّص ونبحث :
الف ) هل أنّا خَلَقْنا أنفسنا ؟
ب ) هل أنّا خَلَقنا أحدٌ مثلنا من الممكنات كآبائنا أو اُمّهاتنا ؟
ج ) أو هل خَلَقَنا القادر الفاطر الواجب وهو الله ( جلّ جلاله ) ؟
أمّا جواب الأوّل : فلا شكّ أنّنا لم نخلق أنفسنا حيث إنّه لم نكن موجودين في الزمان المتقدّم علينا ، فكيف أعطينا الوجود لأنفسنا ، وفاقد الشيء لا يعطيه ...
ولو تمكّنا من إعطاء الوجود لأنفسنا ، لأبقينا لها الوجود ضدّ الموت ، ولا شكّ في عدم قدرتنا على ذلك ، بل عدم قدرة الأقوياء منّا ومن كان قبلنا على ذلك .
وأمّا جواب الثاني : فلا شكّ أيضاً أنّ آباءنا لم يخلقونا ، بدليل أنّهم لم يعرفوا أعضاءنا وأجزاءنا ومطويات أبداننا ومضمرات أجسامنا ، فكيف بخلقة حقيقتنا ، ومعلوم أنّ الخالق يلزم أن يعرف ما خلقه ، والصانع يعرف ما صنعه .
مع أنّ آباءنا بأنفسهم يموتون ولا يمكنهم إعطاء أو إبقاء الوجود لأنفسهم
العقائد الحقّة _ 41 _
فكيف يعطونه لأبنائهم ؟
... لا يبقى بعد التفحّص والإستقصاء إلاّ الشقّ الثالث وهو أنّه خَلَقَنا الله الذي خلق كلّ شيء ، وهو القادر على كلّ شيء الوجود والإفناء ، والموت والبقاء ، وهو الخبير بمخلوقه بكلّ محتواه ، والعالم باُولاه وعُقباه .
وبهذا الإستقصاء التامّ تحكم الأفهام ، بوجود الخالق العلاّم .
فإنّا نرى العالم الكبير بجميع ما فيه متحرّكاً ، ويراه الجميع من الإلهيّين والمادّيين في تغيّر ، والكلّ يعرفه بحركة وعدم سكون ، ومعلوم أنّ الحركة تحتاج إلى محرّك وبديهي أنّ الأثر لابدّ له من مؤثّر ، لأنّ الحركة قوّة والقوّة لا توجد بغير علّة .
إذن فلابدّ لهذه الحياة المتحرّكة في جميع نواحيها من أعلاها إلى أسفلها ، بكواكبها وأراضيها وشمسها وقمرها ، وأفلاكها ومجرّاتها ... لابدّ لها ممّن يحرّكها ويديم حركتها ، وحتّى أجزاء العناصر الساذجة ثبت في علم الفيزياء أنّها تدور وتتحرّك حول مركزها بدوام .
ومن المعلوم أنّ القوّة والحركة لا توجد إلاّ بدافع ومحرِّك ، وهذا أمر بديهي يدركه كلّ ذي لبّ وشعور ، ويعرف أنّه لابدّ لهذه الحركات العظيمة والتحوّلات الدائمة من محرّك حكيم قدير .
فمن ترى يمكن أن يكون مصدر هذه القوّة وفاعل هذه الحركة ؟
هل المخلوقات التي نراها يعرضها الضعف وتحتاج بنفسها إلى المساندة ؟!
وهل يناسب أن يكون المحرّك غير الله القوي الخبير ؟
العقائد الحقّة _ 42 _
ولقد سُئِلَتْ امرأة بدويّة كانت تغزل الصوف بمغزل صغير عن دليلها على وجود الله تعالى ، فأمسكت عن تحريك المغزل حتّى توقّف فقالت : دليلي هو هذا التوقف ...
قالوا : وكيف ذلك ؟
فأجابت : إذا كان مغزل صغير لا يتحرّك إلاّ بوجود محرِّك ، فهل يمكن أن يتحرّك هذا الفلك الدوّار الكبير بلا محرّك له ؟
وقد جاءت الحكمة في هذا المجال : إنّ البعرة تدلّ على البعير ، وأثر الأقدام يدلّ على المسير ، فهذه السماء ذات أبراج والأرض ذات حركة وإرتجاج ألا تدلاّن على وجود الخبير البصير ؟!.
فإنّ الطبيعة تنمو عادةً نحو البقاء لولا إرادة من يفرض عليها الفناء .
فالإنسان الذي يعيش ، والأشجار التي تنمو ، والأحجار التي هي مستقرّة في الأرض ، لا داعي إلى أن يعرض عليها الموت أو الزوال أو الإنهدام إلاّ بعلّة فاعلة قاهرة .
فكما أنّ تبدّل اللاشيء إلى الشيء يحتاج إلى علّة ، كذلك تبدّل الشيء إلى اللاشيء لا يمكن إلاّ بعلّة .
فإنّا نرى هذا العالم قد اُحكمت جميع جوانبه بحيث ينبغي أن تسير سيراً دائماً بلا زوال ، لكن مع ذلك نراها في زوال دائم ونقص راغم ، وزوالها دليل على وجود مزيل لها .
فترى من هو علّة الإماتة والزوال ؟ ومن اللائق أن يكون هو القاهر في
العقائد الحقّة _ 43 _
جميع الأحوال ؟
هل الإنسان بنفسه ـ وهو الذي يرغب أن يعيش دائماً ولا يموت أبداً ـ علّة لموت نفسه ؟
أم هناك شيء من الممكنات ـ التي هي مقهورة زائلة بنفسها ـ تتمكّن من القاهرية المطلقة ؟
أم أنّ القاهر لجميع المخلوقات هو القادر على خلقها فيقدر على فنائها .
أليس هذا دليلا على أنّ هناك من يُميت ويقدر على الإماتة ، كما هو قادر على الإحياء .
فنفس الموت دالّ على وجود المميت ، كما كان الإحياء دالاًّ على وجود المحيى .
فمن هذا الذي يميته غير الذي يحييه ؟ ومن هو قادر على الإبقاء والإفناء ؟ ليس هو إلاّ الله الذي بيده الموت والحياة . والقادر على الإبقاء والإفناء ، الخالق لجميع المخلوقات جلّ شأنه وعظمت قدرته .
هذه أدلّة خمسة من بين الأدلّة العقلية الكثيرة التي تُبرز الإيمان الفطري بوجود الله تعالى القوي .
مضافاً إلى الآيات الأنفسيّة والآفاقية التي ما أكثرها وأكبر وجودها ، بل لله في كلّ شيء آية تدلّ على وجوده القدسي وذاته القدّوسي .