الثالث : اختيار النبي المعصوم
الرابع : طريق معرفة الأنبياء (عليهم السلام)
العصمة في أصل اللغة هي : الوقاية والمنع والدفع والحفظ والحماية ، كما يستفاد من العين (1) ، والمجمع (2) ، واللسان (3).
وفي الإصطلاح العلمي : هي القوّة العقلية التي لا يُغلب فيها المعصوم للمعاصي مع كونه قادراً عليها ، وهي الروحية القدسية التي تمنع عن مخالفة التكليف بدون أن يكون إجبار على عدم العصيان ، بل يمتنع المعصوم بلطف الله عن محارم الله تبارك وتعالى .
وهذه الصفة الشريفة موجودة في جميع الأنبياء (عليهم السلام) قطعاً ... بل هي من معتقداتنا الثابتة يقيناً .
فقد قال الشيخ الصدوق : ( إعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمّة والملائكة صلوات الله عليهم أنّهم معصومون مطهّرون من كلّ دنس ، وأنّهم لا يذنبون ذنباً ، لا صغيراً ولا كبيراً ، ولا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون .
ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم .
وإعتقادنا فيهم أنّهم موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل اُمورهم إلى أواخرها ، لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا عصيان ولا جهل ) (4).
وأفاد شيخ الإسلام المجلسي (5) ما مضمونه : يلزم الإعتقاد بحقّانية الأنبياء
---------------------------
(1) العين للخليل : (ج1 ص313) .
(2) مجمع البحرين للطريحي : (مادّة ـ عصم ـ ) .
(3) لسان العرب : (ج12 ص403) .
(4) اعتقادات الصدوق : (ص96) .
(5) في الإعتقادات : (ص25) .
العقائد الحقّة
_ 221 _
وعصمتهم وطهارتهم ، فإنّ إنكار نبوّتهم أو سبّهم أو الإستهزاء بهم أو الخدشة بمقامهم مساوق للكفر .
وصرّح أعلى الله مقامه
(1): بأنّ مذهب أصحابنا الإماميّة هو أنّه لا يصدر من الأنبياء ذنب ، لا صغيره ، ولا كبيره ، لا عمداً ولا نسياناً ، لاخطاءً ولا إسهاءً .
ووقت عصمتهم من ولادتهم إلى أن يلقوا الله سبحانه .
ثمّ قال (قدس سره) : والعمدة في ما إختاره أصحابنا من تنزيه الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام) من كلّ ذنب ودناءة ومنقصة قبل النبوّة وبعدها هو قول أئمّتنا سلام الله عليهم المعلوم لنا قطعاً بإجماع أصحابنا رضوان الله عليهم ، مع تأييده بالنصوص المتظافرة حتّى صار ذلك من قبيل الضروريات في مذهب الإمامية .
فعصمة الأنبياء ثابتة بالنقل المتواتر كتاباً وسنّة ، وبإجماع الفرقة المحقّة ، وبقيام الأدلّة العقلية الحقّة ...
أمّا الكتاب :
ففي مثل الآيات الشريفة التالية :
1 ـ قوله تعالى فيهم :
( إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى ... ) (2).
2 ـ قوله تعالى :
( وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْم عَلَى الْعَالَمِينَ ) (3).
3 ـ قوله تعالى :
( وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنْ الْمُصْطَفَيْنَ الاَْخْيَارِ ) (4).
---------------------------
(1) في بحار الأنوار : (ج11 ص90) .
(2) سورة الأنبياء : (الآية 101) .
(3) سورة الدخان : (الآية 32) .
(4) سورة ص : (الآية 47) .
العقائد الحقّة
_ 222 _
أمّا السنّة :
فالنصوص الروائية المتظافرة المصرّحة بعصمة الأنبياء ، وهي كثيرة جاء بعضها في الأمالي
(1)... نختار في الإستدلال واحدة منها ونذكرها بتفصيلها لعموم الفائدة فيها وهو حديث العيون المسند عن الإمام الرضا (عليه السلام) بسند الصدوق القريب عن القرشي ، عن النيسابوري ، عن علي بن محمّد بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) فقال له المأمون :
( يا بن رسول الله ! أليس من قولك : إنّ الأنبياء معصومون ؟ قال : بلى ، قال : فما معنى قول الله عزّ وجلّ :
( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) (2) ؟
فقال (عليه السلام) : إنّ الله تبارك وتعالى قال لآدم :
( اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) (3) وأشار لهما إلى شجرة الحنطة
( فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ ) (4) ، ولم يقل لهما : لا تأكلا منها وإنّما أكلا من غيرها ، لمّا أن وسوس لهما الشيطان وقال :
( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ ) (5) وإنّما ينهاكما أن تقربا غيرها ولم ينهكما عن الأكل منها
( إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ ) (6) ولم يكن آدم وحوا شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذباً
( فَدَلاَّهُمَا بِغُرُور ) (7) فأكلا منها ثقة بيمينه بالله ، وكان
---------------------------
(1) أمالي الشيخ الصدوق : (المجلس العشرون ص80) .
(2) سورة طه : (الآية 121) .
(3) سورة البقرة : (الآية 35) .
(4) سورة البقرة : (الآية 35) .
(5 ـ 7) سورة الأعراف : (الآيات 20 ـ 22) .
العقائد الحقّة
_ 223 _
ذلك من آدم قبل النبوّة ولم يكن ذلك بذنب كبير استحقّ به دخول النار وإنّما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم ، فلمّا اجتباه الله تعالى وجعله نبيّاً كان معصوماً لا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، قال الله عزّ وجلّ :
( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) (1) وقال عزّ وجلّ :
( إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (2).
فقال له المأمون : فما معنى قول الله عزّ وجلّ :
( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ) (3) ؟
فقال له الرضا (عليه السلام) : إنّ حواء ولدت لآدم خمس مئة بطن ذكراً واُنثى وإنّ آدم (عليه السلام) وحواء عاهدا الله عزّ وجلّ ودعواه وقالا :
( لَئِنْ آتَيْتَنا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً ) (4) من النسل خلقاً سويّاً برياً من الزمانة والعاهة وكان ما آتاهما صنفين صنفاً ذكراناً وصنفاً اُناثاً فجعل الصنفان لله تعالى ذكره شركاء فيما آتاهما ولم يشكراه كشكر أبويهما له عزّ وجلّ ، قال الله تبارك وتعالى : ( فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ )
(5).
فقال المأمون : أشهد أنّك ابن رسول الله حقّاً ، فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ في حقّ إبراهيم (عليه السلام) :
( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا
---------------------------
(1) سورة طه : (الآيتان 121 و122) .
(2) سورة آل عمران : (الآية 33) .
(3) سورة الأعراف : (الآية 190) .
(4 ـ 5) سورة الأعراف : (الآيتان 189 و190) .
العقائد الحقّة
_ 224 _
رَبِّي ) (1) ؟
فقال الرضا (عليه السلام) : إنّ إبراهيم (عليه السلام) وقع إلى ثلاثة أصناف : صنف يعبد الزهرة وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشمس ، وذلك حين خرج من السرب الذي أخفى فيه ،
( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ) فرأى الزهرة قال :
( هَذَا رَبِّي ) على الإنكار والاستخبار
( فَلَمَّا أَفَلَ ) الكوكب
( قَالَ لاَ أُحِبُّ الاْفِلِينَ ) لأنّ الاُفول من صفات المحدَث لا من صفات القدم
( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي ) (2) على الإنكار والاستخبار
( فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لاََكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّين ) (3) يقول : لو لم يهدني ربّي لكنت من القوم الضالّين ، ( فَلَمَّا ) أصبح و
( رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ) من الزهرة والقمر على الإنكار والاستخبار لا على الإخبار والإقرار
( فَلَمَّا أَفَلَتْ ) قال للأصناف الثلاثة من عبَدة الزهرة والقمر والشمس :
( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِىءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ) (4) وإنّما أراد إبراهيم (عليه السلام) بما قال أن يبيّن لهم بطلان دينهم ويثبت عندهم أنّ العبادة لا تحقّ لمن كان بصفة الزهرة والقمر والشمس وإنّما تحقّ العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض وكان ما احتجّ به على قومه ممّا ألهمه الله تعالى وأتاه كما قال الله عزّ وجلّ :
( وَتِلْكَ
---------------------------
(1) سورة الأنعام : (الآية 76) .
(2 و 3) سورة الأنعام : (الآية 77) .
(4) سورة الأنعام : (الآيتان 78 و79) .
العقائد الحقّة
_ 225 _
حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) (1).
فقال المأمون : لله درّك يا بن رسول الله ! فأخبرني عن قول إبراهيم (عليه السلام) :
( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (2).
قال الرضا (عليه السلام) : انّ الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم (عليه السلام) أنّي متّخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في نفس إبراهيم أنّه ذلك الخليل فقال :
( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيى الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) على الخلّة قال :
( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَل مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (3) فأخذ إبراهيم (عليه السلام) نسراً وطاووساً وبطّاً وديكاً فقطعهنّ وخلطهنّ ثمّ جعل على كلّ جبل من الجبال التي حوله ـ وكانت عشرة ـ منهنّ جزءاً وجعل مناقيرهنّ بين أصابعه ثمّ دعاهنّ بأسمائهنّ ووضع عنده حبّاً وماء فتطايرت تلك الأزاء بعضها إلى بعض حتّى استوت الأبدان وجاء كلّ بدن حتّى انضمّ إلى رقبته ورأسه ، فخلّى إبراهيم (عليه السلام) عن مناقيرهنّ فطِرن ثمّ وقعن فشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحبّ وقلن : يا نبي الله ! أحييتنا أحياك الله ، فقال إبراهيم : بل الله يحيي ويميت وهو على كلّ شيء قدير .
---------------------------
(1) سورة الأنعام : (الآية 83) .
(2) سورة البقرة : (الآية 260) .
(3) سورة البقرة : (الآية 260) .
العقائد الحقّة
_ 226 _
قال المأمون : بارك الله فيك يا أبا الحسن ! فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ :
( فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) ؟
قال الرضا (عليه السلام) : إنّ موسى دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها وذلك بين المغرب والعشاء ( فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) فقضى موسى على العدو بحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات ، قال :
( هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) يعني الإقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى (عليه السلام) من قتله ( إِنَّهُ ) يعني الشيطان
( عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .
فقال المأمون : فما معنى قول موسى :
( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) ؟
قال (عليه السلام) : يقول : إنّي وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة فاغفر لي أي استرني من أعدائك لئلاّ يظفروا بي فيقتلوني
( فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ، قال موسى (عليه السلام) : ( رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ ) من القوّة حتّى قتلت رجلا بوكزة
( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) بل اُجاهد في سبيلك بهذه القوّة حتّى ترضى ( فَأَصْبَحَ ) موسى (عليه السلام)
( فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالاَْمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ) على آخر
( قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُبِينٌ ) قتلت رجلا بالأمس وتقاتل هذا اليوم لاُودّبنّك وأراد أن يبطش به
( فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا ) وهو من شيعته
( قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاَْمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الاَْرْضِ وَمَا
العقائد الحقّة
_ 227 _
تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ ) (1).
قال المأمون : جزاك الله عن أنبيائه خيراً يا أبا الحسن ! فما معنى قول موسى لفرعون :
( فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ ) (2) ؟
قال الرضا (عليه السلام) : إنّ فرعون قال لموسى لمّا أتاه :
( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ ) بي ، قال موسى :
( فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ ) عن الطريق بوقوعي إلى مدينة من مدائنك ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ )
(3) ، وقد قال الله عزّ وجلّ لنبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله) :
( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) (4) يقول : ألم يجدك وحيداً فآوى إليك الناس ( وَوَجَدَكَ ضَالاًّ ) يعني عند قومك ( فَهَدَى ) أي هداهم إلى معرفتك
( وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى ) ، يقول : أغناك بأن جعل دعاءك مستجاباً .
قال المأمون : بارك الله فيك يا بن رسول الله ! فما معنى قول الله عزّ وجلّ :
( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي ) (5) كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) لا يعلم أنّ الله تبارك وتعالى ذكره لا يجوز عليه الرؤية حتّى يسأله هذا السؤال ؟
---------------------------
(1) سورة القصص : (الآيات 15 ـ 19) .
(2) سورة الشعراء : (الآية 20) .
(3) سورة الشعراء : (الآيات 19 ـ 21) .
(4) سورة الضحى : (الآية 6) .
(5) سورة الأعراف : (الآية 143) .
العقائد الحقّة
_ 228 _
فقال الرضا (عليه السلام) : إنّ كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) علم أنّ الله تعالى أعزّ أن يُرى بالأبصار ولكنّه لمّا كلّمه الله عزّ وجلّ وقرّبه نجيّاً رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ الله عزّ وجلّ كلّمه وناجاه ، فقالوا لن نؤمن لك حتّى نستمع كلامه كما سمعت ، وكان القوم سبع مئة ألف رجل فاختار منهم سبعين ألفاً ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ثمّ اختار منهم سبع مئة ثمّ إختار منهم سبعين رجلا لميقات ربّهم فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى إلى الطور وسأل الله تعالى أن يكلّمه ويُسمعهم كلامه فكلّمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام لأنّ الله عزّ وجلّ أحدثه في الشجرة وجعله منبعثاً منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه فقالوا : لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلام الله حتّى نرى الله جهرةً ، فلمّا قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعَتَوا بعث الله عزّ وجلّ عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا ، فقال موسى : يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا : إنّك ذهبت بهم فقتلتهم ، لأنّك لم تكن صادقاً فيما ادّعيت من مناجاة الله عزّ وجلّ إيّاك فأحياهم الله وبعثهم معه ، فقالوا : إنّك لو سألت الله أن يريك ننظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حقّ معرفته ؟ فقال موسى : ياقوم ! إنّ الله تعالى لا يُرى بالأبصار ولا كيفية له وإنّما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتّى تسأله .
فقال موسى : يا ربّ ! إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم ، فأوحى الله تعالى إليه : يا موسى ! سَلني فلن اُؤاخذك
العقائد الحقّة
_ 229 _
بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى (عليه السلام) :
( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ) وهو يهوي
( فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) بآية من آياته
( جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ) يقول : رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي
( وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) منهم بأنّك لا تُرى .
فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن ! فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ :
( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) (2) ؟
فقال الرضا (عليه السلام) : لقد همّت به ولولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها كما همّت به لكنّه كان معصوماً والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه ، ولقد حدّثني أبي عن أبيه الصادق ( (عليه السلام) ) أنّه قال : همّت بأن تفعل وهمّ بأن لا يفعل ، فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن ! فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ :
( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) (3) ؟
فقال الرضا (عليه السلام) : ذاك يونس بن متى (عليه السلام) ( ذَهَبَ مُغَاضِباً ) لقومه ( فَظَنَّ ) بمعنى استيقن
( أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) أي لم نضيّق عليه رزقه ومنه قوله عزّ وجلّ :
( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) (4) أي ضيّق وقتر
( فَنادى فِي الظُلماتِ ) أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت :
( أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ
---------------------------
(1) سورة الأعراف : (الآية 143) .
(2) سورة يوسف : (الآية 24) .
(3) سورة الأنبياء : (الآية 87) .
(4) سورة الفجر : (الآية 16) .
العقائد الحقّة
_ 230 _
سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ ) (1) بتركي مثل هذه العبادة التي قد فرغتني لها في بطن الحوت فاستجاب الله له وقال عزّ وجلّ :
( فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (2).
فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن ! فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ :
( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) (3) ؟
قال الرضا (عليه السلام) : يقول الله عزّ وجلّ : حتّى إذا استيأس الرسل من قومهم وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كُذبوا جاء الرسلَ نصرنا .
فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن ! فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ :
( لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) (4) ؟
قال الرضا (عليه السلام) : لم يكن أحد عند مشركي أهل مكّة أعظم ذنباً من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاث مئة وستّين صنماً ، فلمّا جاءهم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم وقالوا :
( أَجَعَلَ الاْلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الاْخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ) (5) فلمّا فتح الله عزّ وجلّ على نبيّه (صلى الله عليه وآله) مكّة قال له : يا محمّد !
( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ ) مكّة
( فَتْحاً مُبِيناً *
---------------------------
(1) سورة الأنبياء : (الآية87) .
(2) سورة الصافات : (الآيتان 143 و144) .
(3) سورة يوسف : (الآية 110) .
(4) سورة الفتح : (الآية 2) .
(5) سورة ص : (الآيات 5 ـ 7) .
العقائد الحقّة
_ 231 _
لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ) (1) عند مشركي أهل مكّة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدّم وما تأخّر ، لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم وخرج عن مكّة ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم .
فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن ! فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ :
( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ) (2) ؟
قال الرضا (عليه السلام) : هذا ممّا نزل بـ ( إيّاك أعني واسمعي ياجارة ) خاطب الله عزّ وجلّ بذلك نبيّه وأراد به اُمّته وكذلك قوله تعالى :
( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) (3) وقوله عزّ وجلّ :
( وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلا ) (4).
قال : صدقت يا بن رسول الله ! فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ :
( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) (5) ؟
قال الرضا (عليه السلام) : إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قصد دار زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي في أمر أراده فرأى امرأته تغتسل فقال لها : سبحان الذي
---------------------------
(1) سورة الفتح : (الآية 1) .
(2) سورة التوبة : (الآية 43) .
(3) سورة الزمر : (الآية 65) .
(4) سورة الإسراء : (الآية 74) .
(5) سورة الأحزاب : (الآية 37) .
العقائد الحقّة
_ 232 _
خلقك ! وإنّما أراد بذلك تنزيه الباري عزّ وجلّ عن قول من زعم أنّ الملائكة بنات الله .
فقال الله عزّ وجلّ :
( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيماً ) (1).
فقال النبي لمّا رآها تغتسل : سبحان الذي خلقك أن يتّخذ له ولداً يحتاج إلى هذا التطهير والإغتسال فلمّا عاد زيد إلى منزله أخبرته امرأته بمجيء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقوله لها : سبحان الذي خلقك ... فلم يعلم زيد ما أراد بذلك وظنّ أنّه قال ذلك لمّا أعجبه من حسنها فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وقال له : يا رسول الله ! إنّ امرأتي في خُلقها سوء وإنّي اُريد طلاقها ، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) : أمسك عليك زوجك واتّق الله وقد كان الله عزّ وجلّ عرّفه عدد أزواجه وأنّ تلك المرأة منهنّ ، فأخفى ذلك في نفسه ولم يبده لزيد وخشي الناس أن يقولوا : إنّ محمّداً يقول لمولاه : إنّ امرأتك ستكون لي زوجة يعيبونه بذلك فأنزل الله عزّ وجلّ :
( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ ) يعني بالإسلام ( وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ) يعني بالعتق
( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ) ثمّ إنّ زيد بن حارثة طلّقها واعتدّت منه فزوّجها الله عزّ وجلّ من نبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله) وأنزل بذلك قرآناً فقال عزّ وجلّ :
( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولا ) ثمّ علم الله عزّ وجلّ أنّ المنافقين سيعيبونه بتزويجها فأنزل الله تعالى :
---------------------------
(1) سورة الإسراء : (الآية 40) .
العقائد الحقّة
_ 233 _
( مَا كَانَ عَلَى النَّبِي ِ مِنْ حَرَج فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ ) (1).
فقال المأمون : لقد شفيت صدري يا بن رسول الله ! وأوضحت لي ما كان ملتبساً عليَّ فجزاك الله عن أنبيائه وعن الإسلام خيراً .
قال علي بن محمّد بن الجهم : فقام المأمون إلى الصلاة وأخذ بيد محمّد بن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) وكان حاضر المجلس وتبعتهما فقال له المأمون : كيف رأيت ابن أخيك ؟ فقال له : عالم ولم نره يختلف إلى أحد من أهل العلم ، فقال المأمون : إنّ ابن أخيك من أهل بيت النبي الذين قال فيهم النبي (صلى الله عليه وآله) : ألا إنّ أبرار عترتي وأطائب أرومتي أعقل الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً فلا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم ، لا يخرجونكم من باب هدى ولا يدخلونكم في باب ضلالة
(2).
وانصرف الرضا (عليه السلام) إلى منزله فلمّا كان من الغد غدوت عليه وأعلمته ما كان من قول المأمون وجواب عمّه محمّد بن جعفر له فضحك (عليه السلام) ثمّ قال : يا بن الجهم ! لا يغرنّك ما سمعته منه فإنّه سيغتالني والله تعالى ينتقم لي منه )
(3).
ويستفاد من هذا الحديث الشريف عصمة الأنبياء ، كما يستفاد منه أنّ ما يتوهّم كونه ذنباً صادراً منهم ليس هو بذنب ولا عصيان بل هو من ترك الاُولى فلا يضرّ بعصمتهم ، ولا ينافي نزاهتهم .
---------------------------
(1) سورة الأحزاب : (الآيتان 37 و38) .
(2) إحقاق الحقّ : (ج9 ص476) .
(3) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : (ج1 ص155 ب15 ح1) .
العقائد الحقّة
_ 234 _
وأمّا حكم العقل بعصمة الأنبياء (عليهم السلام) :
فبتقارير متعدّدة كثيرة نظير ما يلي :
1 ـ أنّه لو لم يكن النبي معصوماً لانتفى الوثوق بقوله ، فلا يُطاع ولا يَقبل أحد منه قولا ، ويصير نصبه عبثاً .
2 ـ أنّه لو جاز عليه الخطأ خارجاً ، مع لزوم اتّباعه عقلا ، كان الأمر باتّباعه قبيحاً بفطرة العقل ، بل يلزم إجتماع الضدّين فيه بوجوب متابعته مع وجوب مخالفته .
3 ـ أنّه لو جاز عليه الخطأ لأحتاج إلى من يسدّده ، وذلك المسدّد إمّا أن يكون معصوماً وهو المطلوب ، وإمّا أن لا يكون معصوماً فيحتاج إلى مسدّد آخر وهكذا وهلمّ جرّاً ، فيلزم التسلسل الباطل .
4 ـ أنّ من أغراض النبوّة إقامة العدل ومنع الظلم ، فلو صدرت من النبي معصيّة لانتفى غرض النبوّة .
5 ـ أنّ النبي اُسوة ، فلو عصى لسقط محلّه من القلوب ، وحُرِمَ انقياد الناس له فتنتفي فائدة البعثة .
6 ـ أنّ النبي حافظ للشرع ، وحجّة لله ، فلو جاز عليه الخطأ ، لأدّى ذلك إلى التضليل ، فكان نصبه قبيحاً .
7 ـ انّه إن جاز صدور المعصية منه أمكن صدور أيّ ذنب عظيم منه حتّى القتل والنهب ، وهو فساد يأباه العقل ولا يقبله عاقل .
8 ـ أنّ النبي راع لاُمّته وصدور الذنب من الراعي أفحش من ذنب الرعيّة ، فيصير بذنبه أسوأ حالا من رعيّته ، ولا يليق للرئاسة الشرعية عليهم ، والعاصي خائن فلا يؤتمن .
العقائد الحقّة
_ 235 _
9 ـ أنّه لو كان النبي يمكن عليه الخطأ أو السهو أو النسيان أو العصيان ، لكانت رئاسته على الاُمّة من هذه الجهة ترجيحاً بلا مرجّح ، وهو قبيح مع أنّه يمكن أن يأمر حينئذ بما لم يوحَ إليه ، أو يترك شيئاً ممّا اُوحي إليه .
10 ـ أنّه لو عصى النبي صار ظالماً وبطلت نبوّته التي هي عهد الله ، ولا ينال عهد الله الظالمين .
وعليه يحكم العقل قطعاً بلزوم عدم معصية النبي حتماً وعدم خطأه في شيء أبداً ، بل لزوم عصمته الغرّاء في جميع الأشياء .
الثالث : اختيار النبي المعصوم
لا شكّ أنّ منصب النبوّة رئاسة دينيّة وحفظ للشريعة القدسيّة ، وإقامة للأحكام وإدارة للمهام ... وهذا يستلزم كون النبي هو الأعلم من الباقين ، والأصلح من الآخرين والجدير لهذا المقام العظيم واللائق بهذا الشأن الكريم ... لئلاّ يلزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وتقديم المفضول على الفاضل .
ومن المعلوم أنّ معرفة الأعلم والأصلح ، والأليق الأرجح واقعاً وحقيقة وبنحو الإصابة وعدم المخالفة ، لا يمكن إلاّ لمن هو علاّم الغيوب والضمائر ، ومطّلع على جميع البواطن والسرائر ، وواقف على جميع العواقب والأواخر .
وهذا علماً ووجداناً منحصر بالله الخبير ، والمولى العلي القدير بالبداهة .
هذا مع دليل الإنحصار ، وكون الإختيار بيد الله تعالى الملك الجبّار ، بالكتاب والسنّة والعقل :
العقائد الحقّة
_ 236 _
أمّا الكتاب :
فآيات كثيرة يكفي منها قوله تعالى :
( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (1).
وأمّا السنّة :
فأحاديث متظافرة نكتفي منها بما يلي :
حديث سعد بن عبدالله القمّي قال : سألت القائم (عليه السلام) في حِجر أبيه فقلت : أخبرني يا مولاي عن العلّة التي تمنع القوم من إختيار إمام لأنفسهم ؟
قال :
( مصلح أو مفسد ؟
قلت : مصلح .
قال : هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد ؟
قلت : بلى .
قال : فهي العلّة ، أيّدتها لك ببرهان يقبل ذلك عقلك ؟
قلت : نعم ، قال : أخبِرْني عن الرسل الذين اصطفاهم الله ، وأنزل عليهم الكتب ، وأيّدهم بالوحي والعصمة إذ هم أعلام الاُمم ، وأهدى أن لو ثبت الإختيار ، ومنهم موسى وعيسى (عليهما السلام) ، هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذا همّا بالإختيار أن تقع خيرتهما على المنافق وهما يظنّان أنّه مؤمن ؟
---------------------------
(1) سورة القصص : (الآية 68) .
العقائد الحقّة
_ 237 _
قلت : لا .
قال : فهذا موسى كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه إختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربّه سبعين رجلا ممّن لم يشكّ في إيمانهم وإخلاصهم ، فوقعت خيرته على المنافقين ، قال الله عزّ وجلّ :
( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا ) (1) الآية ، فلمّا وجدنا إختيار من قد إصطفاه الله للنبوّة واقعاً على الأفسد دون الأصلح وهو يظنّ أنّه الأصلح دون الأفسد علمنا أن لا إختيار لمن لا يعلم ما تخفي الصدور ، وما تكنّ الضمائر ، وتنصرف عنه السرائر ، وأن لا خطر لإختيار المهاجرين والأنصار ، بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما أرادوا أهل الصلاح )
(2).
وأمّا العقل :
فإنّه حاكم بالبداهة بلزوم كون إختيار منصب خطير كالنبوّة من قبل الله الخبير العلاّم المحيط بكلّ شيء حتّى لا يعقب الظلم والفساد ، أو يحصل أمر خلاف السداد .
ومن المعلوم أنّ خبرويّة الله تعالى لا يدانيها خبرويّة أحد ، حتّى يمكن لأحد سدّ المسدّ ، فينحصر به الإختيار ويكون من خصوصه الإرسال .
مع أنّ نفس مقتضى الرساليّة هو أن يكون تعيين الرسول بيد المرسل ، إذ لا معنى لأن يكون النبي رسولا لأحد بإرسال غيره .
---------------------------
(1) سورة الأعراف : (الآية 155) .
(2) بحار الأنوار : (ج23 ص68 ب3 ح3) .
العقائد الحقّة
_ 238 _
فيُعلم بالقطع واليقين كون إختيار النبي بيد ربّ العالمين ، فيكون إختيار النبوّة وتعيين النبي بيد الله تعالى الحقّ المبين .
الرابع : طريق معرفة الأنبياء (عليهم السلام)
بعد أن عرفت في هذا البحث لزوم أهليّة النبي بالعصمة ، ثمّ لزوم تعيينه من الله تعالى يلزم البحث عن طريق معرفته للخلق حتّى يقتدون به ويهتدون بهدايته .
لا شكّ أنّ أي رسول أو مبعوث أو سفير ، يحتاج إلى برهان ودليل وعلامة تكشف عن صحّة نسبته إلى من أرسله أو بعثه أو جعله سفيراً حتّى تنكشف حقيقة دعوى المحقّ ، وتنقطع تسويلات المدلّس المبطل ، ولابدّ في التصديق من حصول اليقين ... وهذا أمر معقول معمول في جميع المجالات الحياتية الخطيرة واليسيرة .
ومنصب إلهي ديني مرموق كالنبوّة ، لا ريب في إحتياجه إلى برهان قطعي يُمضي صحّة النسبة فيه ، ويقطع الأهواء المزيّفة على مدّعيه .
وطريق معرفة الواسطة بين الله وخلقه ، وتشخيص النبي المبعوث عن ربّه ، هي اُمور ثلاثة :
1 ـ الإعجاز : فإنّ إتيان النبي في مقام التحدّي بالمعجزة الخارقة للعادة ، المطابقة لدعواه ، المتعذّر مثلها من الخلق ، المبيّنة لكونها فعل الله تعالى ، يوجب القطع بأنّه من عمل الله تعالى ، وصاحبها صادق عن الله عزّ وجلّ فيما يخبر عنه ، ومحقٌ في دعواه النبوّة والرسالة من قِبَلِ الله عزّ إسمه .
وتلاحظ تحقيق ذلك موسعاً في إرشاد الطالبين
(1).
2 ـ تنصيص النبي السابق ، الثابتة نبوّته ، على النبي اللاحق الذي يراد
---------------------------
(1) إرشاد الطالبين للفاضل المقداد : (ص306) .
العقائد الحقّة
_ 239 _
معرفته كتنصيص النبي موسى ، والنبي عيسى (عليهما السلام) ، على نبوّة نبيّ الإسلام وصفاته العظام صلوات الله عليه وآله الكرام .
فحيث يلزم تصديق النبي السابق في نبوّته ، يلزم أيضاً تصديقه في بشارته ومقالته ، فتثبت به نبوّة النبي اللاحق بالضرورة والبداهة .
3 ـ ملاحظة نفس الرسالة التي جاء بها الرسول ، ومطالعة مفاد الأحكام التي جاء بها النبي ، ودراسة حيثيّة المواعظ والإرشادات والمعالم التي أتى بها صاحب الرسالة .
حيث إنّ حقيقة رسالته المعقولة ، وأحكامه المقبولة ، ومواعظه النافعة ، وإرشاداته البارعة ، وحثّه على المعالم الحسنة ، ونهيه عن الاُمور القبيحة ، وصدقه في أقواله ، وعمله بمقاله ، ومطابقة إنبائاته مع الحقيقة ، وملائمة كلماته مع العلوم الحقّة ، تكشف عن صدقه في دعوته ، ومحقّيته في رسالته ، فإنّه تُعرف نزاهة المُحقّ بحقّه ، وينكشف زيف المُبطل بباطله .
وهذا طريق يحكم به الوجدان ويوجب القطع والإيقان ، ويستفاد من الدليل العيان ، وهو حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) :
( اِعرفوا الله بالله ، والرسول بالرسالة ، واُولي الأمر بالمعروف والعدل والإحسان )
(1).
فهذه طرق ثلاثة لمعرفة النبوّة أساساً ، وغير خفي أنّ جميع هذه البراهين القطعيّة والقرائن اليقينيّة موجودة في نبوّة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بالإضافة إلى حيويّة معجزته القرآنية وبقائها إلى زماننا وإلى يوم القيامة .
لذلك يكون القرآن الكريم دليلا إعجازياً قطعيّاً لإثبات رسالة خاتم
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج3 ص270 ب10 ح7) .
العقائد الحقّة
_ 240 _
الأنبياء لجميع البشر ، وفي جميع الأزمنة ، ومثبتاً لعلمه وعصمته وخاتميّته ومحاسن صفاته .
كما وأنّه يُمضي القرآن الكريم نبوّة الأنبياء السلف ، ويصدّق رسالة اُولي العزم من الرسل فهو دليل كامل للنبوّة والأنبياء ، ودستور شامل لوحي السماء .
وسنبيّن إن شاء الله وجوه إعجازه في بحث النبوّة الخاصّة ونشير إلى خصوصياته الفائقة في ذلك المبحث .
وأوضح الطرق الثلاثة المتقدّمة في معرفة النبوّة لجميع الطبقات من الناس هو الطريق الأوّل ، يعني جهة الإعجاز ، تلك الجهة التي تثبت نبوّة صاحبها ، وتكون مناسبةً لأزمنتها ، أي بالنسبة إلى زمان كلّ معجزة ، كما تلاحظه في حديث ابن السكيت عن الإمام الرضا (عليه السلام)
(1) جاء فيه :
( إنّ الله تبارك وتعالى لمّا بعث موسى (عليه السلام) كان الأغلب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وُسع القوم مثله ، وبما أبطل به سحرهم ، وأثبت به الحجّة عليهم ...
وإنّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطبّ ، فأتاهم من عند الله عزّ وجلّ بما لم يكن عندهم مثله ، وبما أحيى لهم الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجّة عليهم .
وإنّ الله تبارك وتعالى بعث محمّداً في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب والكلام ... فأتاهم من كتاب الله عزّ وجلّ ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم ، وأثبت الحجّة عليهم ... ) .
---------------------------
(1) بحار الأنوار : (ج11 ص70 ب3 ح1) .