عونا حذاه ، فأوقع سباتا على آدم لئلا يحس فنام ، فاستل إحدى أضلاعه وسد مكانها اللحم ، وبنى الله الضلع التي أخذ إمرأة ، فأتى بها إلى آدم ، وقال آدم هذه المرة شاهدت عظما من عظامي ، ولحما من لحمى ، وينبغي أن تسمى إمرأة لانها من أمري أخذت ، ولذلك يترك الرجل أباه وامه ويلزم زوجته ، فيصيران كجسد واحد.
وكانا جميعا عريانين آدم وزوجته ولا يحتشمان من ذلك.
الفصل الثالث : والثعبان صار حكيما من جميع حيوان الصحراء الذي خلقه الله فقال للمرأة أيقينا قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنان ؟ قالت المرأة للثعبان من ثمر شجر الجنان نأكل ، لكن من ثمر الشجرة التي في وسطه قال الله لا تأكلا منه ، ولا تدنوا به كيلا تموتا ، قال لهما لستما تموتان ، ان الله عالم انكما في يوم أكلكما منه تنفتح عيونكما وتصيران كالملائكة عارفي الخير والشر بزيادة ، فلما رأت المرأة أن الشجرة طيبة المأكل شهية المنظر ، منى للعقل ، أخذت من ثمرها فأكلت ، وأعطت بعلها فأكل معها ، فانفتحت عيونهما فعلما أنهما عريانان فخيطا من ورق التين ما صنعا منه مأزر ، فسمعا صوت الله مارا في الجنان برفق في حركة النهار ، فأستخبأ آدم وزوجته من قبل صوت الله خباء فيما بين شجر الجنان ، فنادى الله آدم ، وقال له مقررا : أين أنت ؟ قال : إني سمعت صوتك في الجنان فإتقيت إذ أنا عريان فإستخبأت ، قال : من أخبرك إنك عريان ؟ أمن الشجرة التي نهيتك عن الاكل منها أكلت ؟ قال آدم المرأة التي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلت ، قال الله للمرأة : ماذا صنعت ؟ قالت : الثعبان أغراني فأكلت قال الله للثعبان : إذ صنعت هذا بعلم فأنت ملعون من جميع البهائم وجميع وحش الصحراء وعلى صدرك تسلك وترابا تأكل طول أيام حياتك ، واجعل عداوة بينك وبين المرأة ، وبين نسلك ونسلها ، وهو يشدخ منك الرأس وأنت تلذعه في العقب ، وقال للمرأة : لاكثرن مشقتك وحملك ، وبمشقة تلدين الاولاد ، وإلى بعلك يكون قيادك ، وهو يتسلط عليك.
وقال لآدم : إذ قبلت قول زوجتك فأكلت من الشجرة التي نهيتك قائلا لا تأكل منها ملعونة الارض بسببك بمشقة تأكل منها طول حياتك ، وشوكا ودردرا تنبت لك ، وتأكل عشب الصحراء ، بعرق وجهك تأكل الطعام إلى حين رجوعك
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 142 _
إلى الارض التي أخذت منها لانك تراب وإلى التراب ترجع ، وسمى آدم زوجته حواء لانها كانت ام كل حي ناطق ، وصنع الله لآدم وزوجته ثياب بدن والبسهما ، ثم قال الله ، هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف معرفة الخير والشر ، والآن فيجب أن يخرج من الجنان لئلا يمديده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل فيحيي إلى الدهر ، فطرده الله من جنان عدن ليفلح الارض التي أخذ منها ، ولما طرد آدم أسكن من شرقي جنان عدن الملائكة ، ولمع سيف متقلب ليحفظوا طريق شجرة الحيواة ، انتهى الفصل من ( التوراة العربية المطبوعة سنة 1811 ميلادية ) ، وانت بتطبيق القصة من الطريقين أعني طريقي القرآن والتوراة ثم التأمل في الروايات الواردة من طريقي العامة و الخاصة تعثر بحقائق من الحال غير أنا اضربنا عن الغور في بيانها والبحث عنها لان الكتاب غير موضوع لذلك.
واما دخول ابليس الجنة واغواره فيها وهي ( أولا ) مقام القرب والنزاهة واللطهارة وقد قال تعالى : ( لَّا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ) الطور ـ 23 ، وهي ( ثانيا ) في السماء وقد قال تعالى خطابا لابليس حين إبائه عن السجدة لآدم : ( فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) الحجر ـ 34 ، وقال تعالى : ( فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ) الاعراف ـ 12.
فالجواب عن الاول كما ربما يقال أن القرآن انما ما نفى من وقوع اللغو وتأثيم في الجنة عن جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون في الآخرة وجنة البرزخ التي يدخلونها بعد الموت والارتحال عن دار التكليف ، وأما الجنة التي ادخل فيها آدم وزوجته ومذالك قبل إستقرار الانسان في دار التكليف وتوجه الامر والنهى فالقرآن لم ينطق فيه بشئ من ذلك ، بل الامر بالعكس وناهيك في ذلك ما ذكر من وقوع عصيان آدم فيه على أن اللغو والتأثيم من الامور النسبة التي لا تتحقق الا بعد حلول الانسان الدنيا وتوجه الامر والنهى إليه وتلبسه بالتكليف.
والجواب عن الثاني اولا : ان رجوع الضمير في قوله : فأخرج منها ، وقوله : فاهبط منها إلى السماء غير ظاهر من الآية لعدم ذكر السماء في الكلام سابقا وعدم العهد بها ، فمن الجائز أن يكون المراد الخروج من الملائكة والهبوط منها ببعض العنايات ،
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 143 _
أو الخروج والهبوط من المنزلة والكرامة.
وثانيا : أنه يجوز أن يكون الامر بالهبوط والخروج كناية عن النهى عن المقام هناك بين الملائكة ، لا عن أصل الكون فيها بالعروج والمرور من غير مقام واستقرار كالملائكة ، ويلوح إليه بل يشهد به ما ربما يظهر من الآيات من إستراق السمع وقد روي أن الشياطين كانوا يعرجون قبل عيسى إلى السماء السابعة فلما ولد عيسى منعوا من السماء الرابعة فما فوقها ، ثم لما ولد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منعوا من جميع السموات وخطفوا بالخطفة.
وثالثا : أن كلامه تعالى خال عن دخول إبليس الجنة فلا مورد للاستشكال ، وإنما ورد ما ورد من حديث الدخول في الروايات وهي آحاد غير متواترة مع إحتمال النقل بالمعنى من الراوي.
واقصى ما يدل من كلامه تعالى على دخوله الجنة قوله تعالى حكاية عن ابليس ( وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) الاعراف ـ 19 حيث أتى بلفظة هذه وهي للاشارة من قريب ، لكنها لو دلت هيهنا على القرب المكاني لدل في قوله تعالى : ( وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ) الاعراف ـ 18 ، على مثله فيه تعالى.
وفي العيون عن عبد السلام الهروي قال : قلت للرضا ( عليه السلام ) : يابن رسول الله أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت ؟ فقد إختلف الناس فيها فمنهم من يروي أنها الحنطة ، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد ، فقال كل ذلك حق ، قلت : فما معنى هذه الوجوه على إخلتلافها ؟ فقال : يا بن الصلت إن شجرة الجنة تحمل أنواعا ، وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب وليست كشجرة الدنيا ، وان آدم لما أكرمه الله تعالى بإسجاد ملائكته له ، وبإدخاله الجنة ، قال : هل خلق الله بشرا أفضل مني ؟ فعلم الله عزوجل ما وقع في نفسه فناداه إرفع رأسك يا آدم وأنظر إلى ساق العرش ، فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا إله إلا الله ومحمد رسول الله علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، فقال آدم : يا رب من هؤلاء ؟ فقال عزوجل يا آدم هؤلاء ذريتك ،
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 144 _
وهم خير منك ومن جميع خلقي ، ولولاهم ما خلقتك ولا تالجنه ولا النار ولا السماء ولا الارض ، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري ، فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم فأخرجهما الله تعالى من جنتة واهبطهما من جواره إلى الارض.
اقول : وقد ورد هذا لمعنى في عدة روايات بعضها أبسط من هذه الرواية وأطنب وبعضها أجمل وأوجز.
وهذه الرواية كما ترى سلم ( عليه السلام ) فيها أن الشجرة كانت شجرة الحنطة وشجرة الحسد وإنهما أكلا من شجرة الحنطة ثمرتها وحسدا وتمنيا منزلة محمد وآله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومقتضى المعنى الاول أن الشجرة كانت أخفض شأنا من أن يميل إليها ويشتهيها أهل الجنة ومقتضى الثاني أنها كانت ارفع شأنا من أن ينالها آدم وزوجته كما في رواية اخرى إنها كانت شجرة علم محمد وآله.
وبالجملة لهما معنيان مختلفان ، لكنك بالرجوع إلى ما مر من أمر الميثاق تعرف أن المعنى واحد وان آدم ( عليه السلام ) أراد أن يجمع بين التمتع بالجنة وهو مقام القرب من الله وفيها الميثاق ان لا يتوجه إلى غيره تعالى وبين الشجرة المنهية التي فيها تعب التعلق بالدنيا فلم يتيسر له الجمع بينهما فهبط إلى الارض ونسي الميثاق فلم يجتمع له الامران وهو منزلة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ثم هداه الله بالاجتباء ونزعه بالتوبة من الدنيا ، وألحقه بما كان نسيه من الميثاق فإفهم.
وقوله ( عليه السلام ) : فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فيه بيان أن المراد بالحسد تمنى منزلتهم دون الحسد الذي هو أحد الاخلاق الرذيلة.
وبالبيان السابق يرتفع التنافي الذي يتراءى بين ما رواه في كمال الدين عن الثمالي عن ابي جعفر ( عليه السلام ) ، قال : إن الله عزوجل عهد إلى آدم ان لا يقرب الشجرة فلما بلغ الوقت الذي في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها وذلك قول الله عزوجل : ولقد عهدنا إلى آدم فنسي ولم نجد له عزما ، الحديث.
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 145 _
وبين ما رواه العياشي في تفسيره عن أحدهما وقد سئل كيف أخذ الله آدم بالنسيان ، فقال : إنه لم ينس وكيف ينسى وهو يذكر ويقول له إبليس : ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين الحديث ، والوجه فيه واضح.
وفي أمالي الصدوق عن أبي الصلت الهروي ، قال : لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) أهل المقالات من أهل الاسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر أهل المقالات فلم يقم أحد حتى الزم حجته كأنه ألقم حجرا فقام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له : يا بن رسول الله أتقول بعصمة الانبياء ؟ قال : بلى ، قال : فما تعمل بقول الله عزوجل : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ؟ ) إلى أن قال : فقال مولانا الرضا ( عليه السلام ) : ويحك يا علي إتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ولا تتأول كتاب الله عزوجل برأيك فإن الله عزوجل يقول : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) أما قوله عزوجل في آدم : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) فإن الله عزوجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة ، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الارض ـ لتتم مقادير أمر الله عزوجل فلما أهبط إلى الارض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عزوجل : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) الحديث.
اقول : قوله : وكانت المعصية في الجنة الخ إشارة إلى ما قدمناه أن التكليف الدينى المولوي لم يكن مجعولا في الجنة بعد ، وإنما موطنه الحيوة الارضية المقدرة لآدم ( عليه السلام ) بعد الهبوط إلى الارض ، فالمعصية إنما كانت معصية لامر إرشادي غير مولوي فلا وجه لتعسف التإويل في الحديث على ما ارتكبه بعض.
وفي العيون عن على بن محمد بن الجهم ، قال : حضرت مجلس المأمون وعنده علي بن موسى فقال له المأمون : يا ابن رسول الله أليس من قولك إن الانبياء معصومون ؟ فقال بلى ، قال فما معنى قول الله تعالى : فعصى آدم ربه فغوى ؟ قال : إن الله تعالى قال لآدم : ( اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 146 _
الشَّجَرَةَ وأشار لهما إلى شجرة الحنطة فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ) ، ولم يقل لهما : لا تأكلا من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة ولم يأكلا منها وإنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما وقال : ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة وإنما نها كما أن تقربا غيرها ولم ينهكما أن تأكلا منها إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ولم يكن آدم وحواء شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا فدلاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه بالله ، وكان ذلك من آدم قبل النبوة ولم يكن ذلك بذنب كبير إستحق به دخول النار ، وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الانبياء قبل نزول الوحي إليهم ، فلما إجتباه الله وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، قال الله عزوجل : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) وقال عزوجل : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) الحديث.
اقول : قال الصدوق رحمه الله بعد نقل الحديث على طوله : والحديث عجيب من طريق على بن محمد بن الجهم مع نصبه وبغضه وعداوته لاهل البيت ( عليهم السلام ) إنتهى.
وما أعجبه منه إلا ما شاهده من إشتماله على تنزيه الانبياء من غير أن يمعن النظر في الاصول المأخوذة فيه ، فما نقله من جوابه ( عليه السلام ) في آدم لا يوافق مذهب أئمة أهل البيت المستفيض عنهم من عصمة الانبياء من الصغاير والكبائر قبل النبوة وبعدها.
على أن الجواب مشتمل على تقدير في قوله تعالى : ( مَا نَهَيكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا ) إلى مثل قولنا : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة وإنما نها كما عن غيرها وما نهاكما عن غيرها الا ان تكونا الخ.
على ان قوله تعالى ( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا ) ملكين أو تكونا من الخالدين ، وقوله تعالى ( قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى ) الآية ، يدل على ان إبليس إنما كان يحرضهما على الاكل من شخص الشجرة المنهية تطميعا في الخلود والملك الذي حجب عنه بالنهي ، على ان الرجل أعني علي بن محمد بن الجهم قد أخذ الجواب الصحيح التام بنفسه في مجلس المأمون كما رويناه في الحديث السابق ، فالرواية لا تخلو عن شئ وإن كان بعض
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 147 _
هذه الوجوه ممكن الاندفاع هذا.
وروى الصدوق ، عن الباقر ( عليه السلام ) عن آبائه عن علي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قال : إنما كان لبث آدم وحواء في الجنة حتى أخرجا منها سبع ساعات من ايام الدنيا حتى أهبطهما الله في يومهما.
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان ، قال : سئل أبو عبد الله ( عليه السلام ) وأنا حاضر : كم لبث آدم وزوجته في الجنة حتى أخرجهما منها خطيئة ؟ فقال : إن الله تبارك وتعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ثم برء زوجته من أسفل أضلاعه ثم أسجد له ملائكته وأسكنه جنته من يومه ذلك ، فو الله ما إستقر فيها إلا ست ساعات من يومه ذلك حتى عصى الله تعالى ، فأخرجهما الله منهبعد غروب الشمس وصيرا بفناء الجنة حتى اصبحا فبدت لهما سوآتهما وناديهما ربهما : الم انهكما عن تلكما الشجرة فاستحيى آدم فخضع وقال : ربنا ظلمنا أنفسنا وإعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا ، قال الله لهما إهبطا من سمواتي إلى الارض ، فانه لا يجاورني في جنتي عاص ولا في سمواتي.
اقول : ويمكن أن يستفاد ما يشتمل عليه الرواية من كيفية خروجهما وأنه كان أولا من الجنة إلى فنائها ومن فنائها إلى الارض من تكرر الامر بالهبوط في الآية مع كونه أمرا تكوينيا غير قابل التخلف ، وكذا من تغيير السياق في قوله تعالى : ( وقلنا : يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة ، إلى أن قال :( وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) الآية ، وقوله تعالى : وناديهما ربهما : ( أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ) ، الآية ، حيث عبر في الاول بالقول وبالاشارة القريبة وفي الثاني بالنداء والاشارة البعيدة ، غير أن الرواية مشتملة على خلق حواء من أسفل اضلاع آدم كما إشتملت عليه التوراة ، والروايات عن أئمة أهل البيت تكذبه كما سيجئ في البحث عن خلقة آدم ، وان أمكن أن يحمل خلقها من فاضل طينة آدم مما يلي أضلاعه هذا ، واما ساعات مكثه في الجنة ، وأنها ستة أو سبعة فالامر فيها هين فانما هو تقريب.
وفي الكافي : عن أحدهما ( عليه السلام ) في قوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات ، قال : لا إله إلا أنت ، سبحانك اللهم وبحمدك ، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 148 _
وأنت خير الغافرين ، لا إله إلا أنت ، سبحانك اللهم وبحمدك ، عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني وأنت خير الغافرين ، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فإرحمني وأنت خير الراحمين ، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم.
اقول : وروى هذا المعنى الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم ، وعن طرق أهل السنة والجماعة أيضا ما يقرب من ذلك ، وربما استفيد ذلك من ظاهر آيات القصة.
وقال الكليني في الكافي : وفي رواية اخرى في قوله : فتلقى آدم من ربه كلمات قال : سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين.
اقول : وروى هذا المعنى أيضا الصدوق والعياشي والقمي وغيرهم ، وروي ما يقرب من ذلك من طرق اهل السنة والجماعة ايضا كما رواه في الدر المنثور عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قال : لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال : أسألك بحق محمد الا غفرت لي فأوحى الله إليه ، ومن محمد ؟ قال : تبارك إسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه ليس احد عندك اعظم قدرا ممن جعلت إسمه مع اسمك فأوحى الله إليه يا آدم انه آخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك.
اقول : وهذا المعنى وإن كان بعيدا عن ظاهر الآيات في بادي النظر لكن اشباع النظر والتدبر فيها ربما قرب ذلك تقريبا ، إذ قوله : فتلقى آدم ، يشتمل على معنى الاخذ مع الاستقبال ، ففيه دلالة على اخذ آدم هذه الكلمات من ربه ، ففيه علم سابق على التوبة ، وقد كان ( عليه السلام ) تعلم من ربه الاسماء كلها إذ قال تعالى للملائكة : إني جاعل في الارض خليفة ، قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال : اني اعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها ، فهذا العلم كان من شأنه إزاحة كل ظلم ومعصية لا محالة ودواء كل داء وإلا لم يتم الجواب عما أورده الملائكة ولا قامت الحجة عليهم لانه سبحانه لم يذكر قبال قولهم : يفسد فيها ويسفك الدماء شيئا ولم يقابلهم بشئ دون ان علم آدم الاسماء كلها ففيه اصلاح كل فاسد ، وقد عرفت ما حقيقة هذه الاسماء ، وانها موجودات عالية مغيبة في غيب
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 149 _
السموات والارض ، ووسائط فيوضاته تعالى لما دونها ، لا يتم كمال لمستكمل الا ببركاتها وقد ورد في بعض الاخبار أنه رأى اشباح اهل البيت وانوارهم حين علم الاسماء ، وورد أنه رآها حين اخرج الله ذريته من ظهره ، وورد ايضا انه رآها وهو في الجنة فراجع والله الهادي.
وقد ابهم الله امر هذه الكلمات في قوله : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ) الآية حيث نكرها ، وورد في القرآن : إطلاق الكلمة على الموجود العيني صريحا في قوله : ( بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) آل عمران ـ 40.
وأما ما ذكره بعض المفسرين : ان الكلمات التي حكاها الله عنهما في سورة الاعراف بقوله : ( قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الآية ، ففيه : أن التوبة كما يدل عليه الآيات في هذه السورة أعني سورة البقرة وقعت بعد الهبوط إلى الارض ، قال تعالى : ( وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) إلى أن قال : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) الآيات وهذه الكلمات تكلم بها آدم وزوجته قبل الهبوط وهما في الجنة كما في سورة الاعراف ، قال تعالى : ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ) إلى ان قال : ( قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ) إلى أن قال : ( قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) الآيات ، بل الظاهر ان قولهما : ربنا ظلمنا انفسنا ، تذلل منهما وخضوع قبال ندائه تعالى وإيذان بأن الامر إلى الله سبحانه كيف يشاء بعد الاعتراف بأن له الربوبية وأنهما ظالمان مشرفان على خطر الخسران.
وفي تفسير القمي عن الصادق ( عليه السلام ) قال : ان موسى سأل ربه ان يجمع بينه وبين آدم ، فجمع فقال له موسى : يا أبت ألم يخلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك الملائكة وأمرك أن لا تأكل من الشجرة ؟ فلم عصيته ؟ قال : يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التورية ؟ قال بثلثين الف سنة ، قال : فقال : هو ذاك ، قال الصادق ( عليه السلام ) فحجج آدم موسى.
اقول : وروى ما يقرب من هذا المعنى العلامة السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
وفي العلل : عن الباقر ( عليه السلام ) : والله لقد خلق الله آدم للدنيا ، وأسكنه الجنة
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 150 _
ليعصيه فيرده إلى ما خلقه له.
اقول : وقد مرواية العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) في خليل كان لآدم من الملائكة الحديث في هذا المعنى.
وفي الاحتجاج : في احتجاج علي مع الشامي حين سأله : عن أكرم واد على وجه الارض ، فقال ( عليه السلام ) : واد يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السماء.
اقول : وتقابلها روايات مستفيضة تدل على سقوطه في أرض مكة وقد مر بعضها ويمكن التوفيق بينها بإمكان نزوله أولا بسرانديب ثم هبوطه إلى أرض مكة وليس بنزولين عرضيين هذا.
وفي الدر المنثور عن الطبراني وأبي الشيخ في العظمة وابن مردويه عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أرأيت آدم أنبيا كان ؟ قال : نعم كان نبيا رسولا ، كلمه الله قبلا ، قال له : يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة.
اقول : وروى أهل السنة والجماعة قريبا من هذا المعنى بعدة طرق. ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) ـ 40 ، ( وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) ـ 41 ، ( وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ـ 42 ، ( وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ) ـ 43 ، ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) ـ 44 .
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 151 _
( بيان )
أخذ سبحانه في معاتبة اليهود وذلك في طي نيف ومائة آية يذكر فيها نعمه التي أفاضها عليهم ، وكراماته التي حباهم بها ، وما قابلوها من الكفر والعصيان ونقض الميثاق والتمرد والجحود ، يذكرهم بالاشارة إلى اثنتي عشرة قصة من قصصهم ، كنجاتهم من آل فرعون بفرق البحر ، وغرق فرعون وجنوده ، ومواعدة الطور ، واتخاذهم العجل من بعده وأمر موسى إياهم بقتل أنفسهم واقتراحهم من موسى أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الصاعقة ثم بعثهم الله تعالى ، إلى آخر ما أشير إليه من قصصهم التي كلها مشحونة بألطاف إلهية وعنايات ربانية ، ويذكرهم أيضا المواثيق التي أخذ منهم ثم نقضوها ونبذوها وراء ظهورهم ، ويذكرهم أيضا معاصي ارتكبوها وجرائم اكتسبوها وآثاما كسبتها قلوبهم على نهي من كتابهم ، وردع صريح من عقولهم ، لقساوة قلوبهم ، وشقاوة نفوسهم ، وضلال سعيهم.
قوله تعالى : وأوفوا بعهدي ، أصل العهد الحفاظ ، ومنه اشتقت معانيه كالعهد بمعنى الميثاق واليمين والوصية واللقاء والمنزل ونحو ذلك.
قوله تعالى : فارهبوني ، الرهبة الخوف ، وتقابل الرغبة.
قوله تعالى : ولا تكونوا أول كافر به ، أي من بين أهل الكتاب ، أو من بين قومكم ممن مضى وسيأتي فإن كفار مكة كانوا قد سبقوهم إلى الكفر به. ( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ) ـ 45 ، ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) ـ 46.
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 152 _
( بيان )
قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلوة ، الاستعانة وهي طلب العون إنما يتم فيما لا يقوى الانسان عليه وحده من المهمات والنوازل ، وإذ لا معين في الحقيقة إلا الله سبحانه فالعون على المهمات مقاومة الانسان لها بالثبات والاستقامة والاتصال به تعالى بالانصراف إليه ، والاقبال عليه بنفسه ، وهذا هو الصبر والصلوة ، وهما أحسن سبب على ذلك ، فالصبر يصغر كل عظيمة نازلة ، وبالاقبال على الله والالتجاء إليه تستيقظ روح الايمان ، وتتنبه : ان الانسان متك على ركن لا ينهدم ، وسبب لا ينفصم.
قوله تعالي : وانها لكبيرة إلا على الخاشعين ، الضمير راجع إلى الصلوة ، وأما إرجاعه إلى الاستعانة لتضمن قوله : استعينوا ذلك فينافيه ظاهرا قوله : إلا على الخاشعين ، فإن الخشوع لا يلائم الصبر كثير ملائمة ، والفرق بين الخشوع والخضوع مع أن في كليهما معنى التذلل والانكسار أن الخضوع مختص بالجوارح والخشوع بالقلب.
قوله تعالي : ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ ) ، هذا المورد ، أعني مورد الاعتقاد بالآخرة على أنه مورد اليقين لا يفيد فيه الظن والحسبان الذي لا يمنع النقيض ، قال تعالى : ( وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) البقرة ـ 4 ، ويمكن أن يكون الوجه فيه الاخذ بتحقق الخشوع فان العلوم التدريجية الحصول من أسباب تدريجية تتدرج فيها النفس المدركة من تنبه وشك ثم ترجح أحد طرفي النقيض ثم انعدام الاحتمالات المخالفة شيئا فشيئا حتى يتم الادراك الجازم وهو العلم ، وهذا النوع من العلم إذا تعلق بأمر هائل موجب لاضطراب النفس وقلقها وخشوعها إنما تبتدي الخشوع الذي معه من حين شروع الرجحان قبل حصول الادراك العلمي وتمامه ، ففي وضع الظن موضع العلم إشارة إلى أن الانسان لا يتوقف على زيادة مؤنة على العلم إن تنبه بأن له ربا يمكن ان يلاقيه ويرجع إليه وذلك كقول الشاعر :
فقلت لهم ظنوا بألفي مذحج سراتهم في الفارسي iiالمرد
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 153 _
وإنما يخوف العدو باليقين لا بالشك ولكنه أمرهم بالظن لان الظن يكفيهم في الانقلاع عن المخالفة ، بلا حاجة إلى اليقين حتى يتكلف المهدد إلى ايجاد اليقين فيهم بالتفهيم من غير اعتناء منه بشأنهم ، وعلى هذا فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى : ( فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ) الكهف ـ 110 ، وهذا كله لو كان المراد باللقاء في قوله تعالى : ملاقوا ربهم ، يوم البعث ولو كان المراد به ما سيأتي تصويره في سورة الاعراف إنشاء الله فلا محذور فيه أصلا.
( بحث روائي )
في الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) قال : كان علي إذا أهاله أمر فزع قام إلى الصلوة ثم تلا هذه الآية : ( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ).
وفي الكافي أيضا : عنه ( عليه السلام ) في الآية ، قال : الصبر الصيام ، وقال : إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم ، إن الله عزوجل يقول : واستعينوا بالصبر يعنى الصيام.
اقول : وروى مضمون الحديثين العياشي في تفسيره ، وتفسير الصبر بالصيام من باب المصداق والجري.
وفي تفسير العياشي : عن أبي الحسن ( عليه السلام ) : في الآية قال : الصبر الصوم ، إذا نزلت بالرجل الشدة أو النازلة فليصم ، إن الله يقول : ( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ) ، والخاشع الذليل في صلوته المقبل عليها ، يعني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأمير المؤمنين ( عليه السلام )
اقول : قد استفاد ( عليه السلام ) إستحباب الصوم والصلوة عند نزول الملمات والشدائد ، وكذا التوسل بالنبي والولي عندها ، وهو تأويل الصوم والصلوة برسول الله وأمير المؤمنين.
وفي تفسير العياشي أيضا : عن علي ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ ) الآية يقول : يوقنون أنهم مبعوثون ، والظن منهم يقين.
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 154 _
اقول : ورواه الصدوق أيضا.
وروى ابن شهر آشوب عن الباقر ( عليه السلام ) : أن الآية نازلة في علي وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر وأصحاب لهم. ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) ـ 47 ، ( وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ) ـ 48.
( بيان )
قوله تعالى : واتقوا يوما لا تجزى ، الملك والسلطان الدنيوي بأنواعه وأقسامه وبجميع شؤونه ، وقواه المقننة الحاكمة والمجرية مبتنية على حوائج الحيوة وغايتها رفع الحاجة حسب ما يساعد عليه العوامل الزمانية والمكانية ، فربما بدل متاع من متاع أو نفع من نفع أو حكم من حكم من غير ميزان كلي يضبط الحكم ويجري ذلك في باب المجازاة أيضا فإن الجرم والجنايت عندهم يستتبع العقاب ، وربما بدل الحاكم العقاب لغرض يستدعي منه ذلك كان يلح المحكوم الذي يرجى عقابه على القاضي ويسترحمه أو يرتشيه فينحرف في قضائه فيجزي أي يقضي فيه بخلاف الحق ، أو يبعث المجرم شفيعا يتوسط بينه وبين الحاكم أو مجري الحكم أو يعطي عدلا وبدلا إذا كانت حاجة الحاكم المريد للعقاب إليه أزيد وأكثر من الحاجة إلى عقاب ذالك المجرم ، أو يستنصر فومه فينصروه فيتخلص بذالك عن تبعة العقاب ونحو ذلك ، تلك سنة جارية وعادة حيوة دنيوية يطرد فيها قانون الاسباب ويحكم فيها ناموس التأثير والتأثر المادي
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 155 ـ
الطبيعي ، فيقدمون إلى آلهتم أنواع القرابين والهدايا للصفح عن جرائمهم أو الامداد في حوائجهم ، أو يستشفعون بها ، أو يفدون بشيئ عن جريمة أو يستنصرون بنفس أو سلاح حتى أنهم كانوا يدفنون مع الاموات أنواع الزخرف والزينة ، ليكون معهم ما يتمتعون به في آخرتهم ، ومن أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم ، وربما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها ، ومن الابطال من يستنصر به الميت ، وتوجد اليوم في المتاحف بين آثار الارضية عتائق كثيرة من هذا القبيل ، ويوجد عقائد متنوعة شبيهة بتلك العقائد بين الملل الاسلامية على اختلاف السنتهم والوانهم ، بقيت بينهم بالتوارث ، ربما تلونت لونا بعد لون ، جيلا بعد جيل ، وقد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية ، والاقاويل الكاذبة ، فقد قال عز من قائل : ( وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ) الانفطار ـ 19 ، وقال : ( وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ) البقرة ـ 166 ، وقال : ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ) الانعام ـ 94 ، وقال : ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) يونس ـ 30 ، إلى غير ذلك من الآيات التي بين فيها : أن الموطن خال عن الاسباب الدنيوية ، وبمعزل عن الارتباطات الطبيعية ، وهذا اصل يتفرع عليه بطلان كل واحد من تلك الاقاويل والاوهام على طريق الاجمال ، ثم فصل القول في نفي واحد واحد منها وإبطاله فقال : ( وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ) البقرة ـ 48 ، وقال : ( يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ )البقرة ـ 254 ، وقال : ( يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا ) الدخان ـ 41 ، وقال ( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ) المؤمن ـ 33 ، وقال : ( مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ) الصافات ـ 26 ، وقال : ( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يونس ـ 18 ، وقال : ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ) المؤمن ـ 18 ، وقال : ( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) الشعراء ـ 101 ، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة وتأثير الوسائط
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 156 _
والاسباب يوم القيامة هذا.
ثم إن القرآن مع ذلك لا ينفي الشفاعة من أصلها ، بل يثبتها بعض الاثبات ، قال تعالى : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ) السجدة ـ 3 ، وقال تعالى : ( لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ) الانعام ـ 51 ، وقال تعالى : ( قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) الزمر ـ 44 ، وقال تعالى : ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) البقرة ـ 255 ، وقال تعالى : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس ـ 3 ، وقال تعالى : ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) الانبياء ـ 28 ، وقال : ( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف ـ 86 ، وقال : ( لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) مريم ـ 87 ، وقال تعالى : ( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) طه ـ 110 ، وقال تعالى : ( وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) السبأ ـ 23 ، وقال تعالى : ( وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى ) النجم ـ 26 ، فهذه الآيات كما ترى بين ما يحكم باختصاص الشفاعة بالله عز اسمه كالآيات الثلاثة الاولى وبين ما يعممها لغيره تعالى باذنه وارتضائه ونحو ذلك ، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب ، غير ان بعضها تثبتها بنحو الاصالة لله وحده من غير شريك ، وبعضها تثبتها لغيره باذنه وارتضائه ، وقد عرفت أن هناك آيات تنفيها فتكون النسبة بين هذه الآيات كالنسبة بين الآيات النافية لعلم الغيب عن غيره ، واثباته له تعالى بالاختصاص ولغيره بارتضائه ، قال تعالى : ( /64} قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ ) النحل ـ 65 ، وقال تعالى : ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ) الانعام ـ 59 وقال تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) الجن ـ 27 ، وكذلك الآيات الناطقة في التوفي والخلق والرزق والتأثير والحكم والملك وغير ذلك فانها
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 157 _
شائعة في اسلوب القرآن ، حيث ينفي كل كمال عن غيره تعالى ، ثم يثبته لنفسه ، ثم يثبته لغيره باذنه ومشيته ، فتفيد ان الموجودات غيره تعالى لا تملك ما تملك من هذه الكمالات بنفسها وإستقلالها ، وإنما تملكها بتمليك الله لها إياها ، حتى أن القرآن تثبت نوعا من المشية في ما حكم فيه وقضى عليه بقضاء حتم ، كقوله تعالى : ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هود ـ 108 ، فقد علق الخلود بالمشية وخاصة في خلود الجنة مع حكمه بأن العطاء غير مجذوذ ، اشعارا بأن قضائه تعالى بالخلود لا يخرج الامر من يده ولا يبطل سلطانه وملكه عز سلطانه كما يدل عليه قوله : ( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ) هود ـ 107 ، وبالجملة لا إعطاء هناك يخرج الامر من يده ويوجب له الفقر ، ولا منع يضطره إلى حفظ ما منعه وإبطال سلطانه تعالى.
من هنا يظهر أن الآيات النافية للشفاعة ، إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك ، والآيات المثبتة تثبتها لله سبحانه بنحو الاصالة ، ولغيره تعالى باذنه وتمليكه ، فالشفاعة ثابتة لغيره تعالى باذنه فلننظر ما ذا يفيده كلامه في معنى الشفاعة ومتعلقها ؟ وفيمن تجري ؟ وممن تصح ؟ ومتى تتحقق ؟ وما نسبتها إلى العفو والمغفرة منه تعالى ؟ ونحو ذلك في أمور.
1 ـ ما هي الشفاعة ؟
الشفاعة على ما نعرف من معناها إجمالا بالقريحة المكتسبة من الاجتماع والتعاون و ( هي من الشفع مقابل الوتر كأن الشفيع ينضم إلى الوسيلة الناقصة التي مع المستشفع فيصير به زوجا بعد ما كان فردا فيقوى على نيل ما يريده ، لو لم يكن يناله وحده لنقص وسيلته وضعفها وقصورها ) من الامور التي نستعلمها لانجاح المقاصد ، ونستعين بها على حوائج الحيوة ، وجل الموارد التي نستعملها فيها اما مورد يقصد فيها جلب المنفعة والخير ، وإما مورد يطلب فيها دفع المضرة والشر ، لكن لا كل نفع وضرر ،
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 158 _
فإنا لا نستشفع فيما يتضمنه الاسباب الطبيعية والحوادث الكونية من الخير والشر والنفع والضر ، كالجوع ، والعطش ، والحر ، والبرد ، والصحة ، والمرض ، بل نتسبب فيها بالاسباب الطبيعية ، ونتوسل إليها بوسائلها المناسبة لها كالاكل ، والشرب ، واللبس والاكتنان والمداواة ، وانما نستشفع في الخيرات والشرور والمنافع والمضار التى تستدعيها أو تستتبعها أوضاع القوانين الاحكام التي وضعتها واعتبرتها وقررتها واجرتها حكومة الاجتماع بنحو الخصوص أو العموم ، ففي دائرة المولوية والعبودية وعند كل حاكم ومحكوم ، وأحكام من الامر والنهي إذا عمل بها وإمتثلها المكلف بها استتبع ذلك تبعة الثواب من مدح أو نفع ، من جاه أو مال ، وإذا خالفها وتمرد منها استتبع ذلك تبعة العقاب من ذم أو ضرر مادي ، أو معنوي ، فإذا أمر المولى أو نهي عبده ، أو كل من هو تحت سيادته وحكومته بأمر أو نهى مثلا فامتثله كان له بذلك أجر كريم ، وإن خالف كان له عقاب أو عذاب فهناك نوعان من الوضع والاعتبار ، وضع الحكم ووضع تبعة الحكم ، يتعين به تبعة الموافقة والمخالفة.
وعلى هذا الاصل تدور جميع الحكومات العامة بين الملل والخاصة بين كل إنسان ومن دونه.
فإذا أراد الانسان أن ينال كمالا وخيرا ماديا أو معنويا وليس عنده ما يستوجب ذلك بحسب ما يعينه الاجتماع ، ويعرف به لياقتة ، أو اراد ان يدفع عن نفسه شرا متوجها إليه من عقاب المخالفة وليس عنده ما يدفعه ، أعني الامتثال والخروج عن عهدة التكليف ، وبعبارة واضحة إذا أراد نيل ثواب من غير تهيئة أسبابه ، أو التخلص من عقاب من غير إتيان التكليف المتوجة إليه فذلك مورد الشفاعة ، وعنده تؤثر لكن لا مطلقا فإن من لا لياقة له بالنسبة الي التلبس بكمال ، أو لا رابطة له تربطها إلى المشفوع عنده أصلا ، كالعامي الامي الذي يريد تقلد مقام علمي ، أو الجاحد الطاغي الذي لا يخضع لسيده أصلا لا تنفع عنده الشفاعة ، فإنما الشفاعة متممة للسبب لا مستقلة في التأثير.
ثم إن تأثير الشفيع عند الحاكم المشفوع عنده لا يكون تأثيرا جزافيا من غير سبب يوجب ذلك بل لا بد أن يوسط أمرا يؤثر في الحاكم ، ويوجب نيل الثواب ،
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 159 _
أو التخلص من العقاب ، فالشفيع لا يطلب من المولى مثلا أن يبطل مولوية نفسه وعبودية عبده فلا يعاقبه ، ولا يطلب منه أن يرفع اليد عن حكمه وتكليفه المجعول ، أو ينسخه عموما أو في خصوص الواقعة فلا يعاقبه ، ولا يطلب منه أن يبطل قانون المجازاة عموما أو خصوصا فلا يعاقب لذلك رأسا ، أو في خصوص الواقعة ، فلا نفوذ ولا تأثير للشفيع في مولوية وعبودية ، ولا في حكم ولا في جزاء حكم ، بل الشفيع بعد ما يسلم جميع الجهات الثلاث المذكورة إنما يتمسك : إما بصفات في المولى الحاكم توجب العفو والصفح كسؤدده ، وكرمه ، وسخائه ، وشرافة محتده ، وإما بصفات في العبد تستدعي الرأفة والحنان وتثير عوامل المغفرة كمذلته ومسكنته وحقارته وسوء حاله ، وإما بصفات في نفسه أعني نفس الشفيع من قربه إلى المولى وكرامته وعلو منزلته عنده فيقول : ما أسألك إبطال مولويتك وعبوديته ، ولا أن تبطل حكمك ولا أن تبطل الجزاء ، بل أسألك الصفح عنه بأن لك سؤددا ورأفة وكرما لا تنتفع بعقابه ولا يضرك الصفح عن ذنبه أو بأنه جاهل حقير مسكين لا يعتني مثلك بشأنه ولا يهتم بأمره أو بأن لي عندك من المنزلة والكرامة ما يوجب إسعاف حاجتي في تخليصه والعفو عنه.
ومن هنا يظهر للمتأمل أن الشفيع إنما يحكم بعض العوامل المربوطة بالمورد المؤثرة في رفع العقاب مثلا من صفات المشفوع عنده أو نحوها على العامل الآخر الذي هو سبب وجود الحكم وترتب العقاب على مخالفته ، ونعني بالحكومة ان يخرج مورد الحكم عن كونه موردا بإدخاله في مورد حكم آخر ، فلا يشمله الحكم الاول لعدم كونه من مصاديقه لا أن يشمله فيبطل حكمه بعد الشمول بالمضادة كإبطال الاسباب المتضادة في الطبيعة بعضها حكم بعض بالمعارضة والغلبة في التأثير ، فحقيقة الشفاعة التوسط في إيصال نفع أو دفع شر بنحو الحكومة دون المضادة.
ومن هنا يظهر أيضا أن الشفاعة من مصاديق السببية فهي توسيط السبب المتوسط القريب بين السبب الاول البعيد ومسببه ، هذا ما يتحصل من تحليل معنى الشفاعة التي عندنا.
ثم إن الله سبحانه يمكن أن يقع مورد النظر في السببية من جهتين :
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 160 _
إحداهما : أنه يبتدي منه التأثير ، وينتهي إليه السببية ، فهو المالك للخلق والايجاد على الاطلاق ، وجميع العلل والاسباب امور متخللة متوسطة بينه وبين غيره لنشر رحمته التي لا تنفد ونعمته التي لا تحصى إلى خلقه وصنعه.
والثانية : أنه تعالى تفضل علينا بالدنو في حين علوه فشرع الدين ووضع فيه أحكاما من أوامر ونواهي وغير ذلك وتبعات من الثواب والعقاب في الدار الآخرة وأرسل رسلا مبشرين ومنذرين فبلغوه أحسن تبليغ وقامت بذلك الحجة وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته.
أما من الجهة الاولى : وهي النظر إليه من جهة التكوين فإنطباق معنى الشفاعة لى شأن الاسباب والعلل الوجودية المتوسطة واضح لا يخفى ، فإنها تستفيد من صفاته العليا من الرحمة والخلق والاحياء والرزق وغير ذلك إيصال أنواع النعم والفضل إلى كل مفتقر محتاج من خلقه ، وكلامه تعالى أيضا يحتمل ذلك ، كقوله تعالى : ( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) البقرة ـ 255 ، وقوله ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس ـ 3 ، فإن الشفاعة في مورد التكوين ليست إلا توسط العلل والا سباب بينه وبين مسبباتها في تدبير أمرها وتنظيم وجودها وبقائها فهذه شفاعة تكوينية.
وأما من الجهة الثانية وهى النظر إليه من جهة التشريع فالذي ينبغي أن يقال : أن مفهوم الشفاعة على ما سبق من التحليل يصح صدقه في مورده ولا محذور في ذلك وعليه ينطبق قوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ) طه ـ 109 ، وقوله : ( لَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) السبأ ـ 23 ، وقوله ( لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى ) النجم ـ 26 ، وقوله : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) الانبياء ـ 28 ، وقوله : ( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف ـ 86 ، فإن الآيات كما ترى تثبت الشفاعة بمعنى الشافعية لعدة من عباده من الملائكة والناس من بعد الاذن والارتضاء ، فهو تمليك ولله الملك وله الامر فلهم أن يتمسكوا برحمته وعفوه
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 161 _
ومغفرته وما أشبه ذلك من صفاته العليا لتشمل عبدا من عباده سائت حاله بالمعصية ، وشملته بلية العقوبة ، فيخرج عن كونه مصداقا للحكم الشامل ، والجرم الع امل على ما عرفت أن تأثير الشفاعة بنحو الحكومة دون التضاد وهو القائل عز من قائل : ( فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) الفرقان ـ 70 ، فله تعالى أن يبدل عملا من عمل كما أن له أن يجعل الموجود من العمل معدوما ، قال تعالى : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ) الفرقان ـ 23 ، وقال تعالى : ( فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) محمد ـ 10 ، وقال تعالى : ( إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء ـ 31 ، وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ) النساء ـ 48 ، والآية في غير مورد الايمان والتوبة قطعا فإن الايمان والتوبة يغفر بهما الشرك أيضا كسائر الذنوب وله تكثير القليل من العمل ، قال تعالى : ( أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ ) القصص ـ 65 ، وقال : ( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ) الانعام ـ 160 ، وله سبحانه أن يجعل المعدوم من العمل موجودا ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ) الطور ـ 21 ، وهذا هو اللحوق والالحاق وبالجملة فله تعالى أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
نعم إنما يفعل لمصلحة مقتضية ، وعلة متوسطة ولتكن من جملتها شفاعة الشافعين من أنبيائه وأوليائه والمقربين من عباده من غير جزاف ولا ظلم.
ومن هنا ظهر أن معنى الشفاعة بمعنى الشافعية ، صادق بحسب الحقيقة في حقه تعالى فإن كلا من صفاته متوسطة بينه وبين خلقه في إفاضة الجود وبذل الوجود فهو الشفيع في الحقيقة على الاطلاق. قال تعالى : ( قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) الزمر ـ 44 ، وقال تعالى : ( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ ) السجدة ـ 4 ، وقال تعالى : ( لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ) الانعام ـ 51 ، وغيره تعالى لو كان شفيعا فإنما هو بإذنه وتمليكه ، فقد ثبت بما مر صحة تحقق الشفاعة عنده تعالى في الجملة فيما لا يوجب محذورا لا يليق بساحة كبريائه تعالى.
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 162 _
2 ـ اشكالات الشفاعة
قد عرفت : أن الشفاعة ثابتة في الجملة لا بالجملة ، وستعرف أن الكتاب وكذلك السنة لا يثبتان أزيد من ذلك ، بل التأمل في معناها وحده يقضي بذلك ، فإن الشفاعة كما مر يرجع بحسب المعنى إلى التوسط في السببية والتأثير ، ولا معنى للاطلاق في السببية والتأثير فلا السبب يكون سببا لكل مسبب من غير شرط ولا مسبب واحد يكون مسببا لكل سبب على الاطلاق فإن ذلك يؤدي إلى بطلان السببيه وهو باطل بالضرورة ، ومن هنا اشتبه الامر على النافين للشفاعة حيث توهموها مطلقة من غير شرط فاستشكلوا فيها بامور وبنوا عليها بطلان هذه الحقيقة القرآنية من غير تدبر فيما يعطيه كلامه تعالى وهاك شطرا منها :
الاشكال الاول : أن رفع العقاب عن المجرم يوم القيامة بعد ما أثبته الله تعالى بالوعيد إما أن يكون عدلا أو ظلما ، فإن كان عدلا كان أصل الحكم المستتبع للعقاب ظلما لا يليق بساحته تعالى وتقدس ، وإن كان ظلما كان شفاعة الانبياء مثلا سؤالا للظلم منه وهو جهل لا يجوز نسبته إليهم صلوات الله عليهم.
والجواب عنه أولا : بالنقض فإنه منقوض بالاوامر الامتحانية فرفع الحكم الامتحاني ثانيا وإثباته أولا كلاهما من العدل : والحكمة فيها اختبار سريرة المكلف أو إظهار باطن أمره أو إخراج ما في قوته إلى الفعل ، فيقال في مورد الشفاعة أيضا يمكن أن تكون النجاة مكتوبة لجميع المؤمنين ، ثم يوضع الاحكام وما لمخالفتها من أنواع العقاب ليهلك الكافرون بكفرهم ، وأما المؤمنون فيرتفع بالطاعة درجات المحسنين منهم ويبقى السميئون فينالون بالشفاعة النجاة المكتوبة لهم ولو بالنسبة إلى بعض أنواع العذاب أو أفراده مع مقاساة البعض الآخر كإحوال البرزخ وأهوال يوم القيامة ، فيكون بذلك أصل وضع الحكم وعقابه أولا عدلا ورفع عقابه ثانيا عدلا.
وثانيا : بالحل ، فإن رفع العقاب أولا بواسطة الشفاعة إنما يغاير الحكم الاول فيما ذكر من العدل والظلم لو كان رفع العقاب بالشفاعة نقضا للحكم الاول أو نقضا للحكم باستتباع العقوبة وقد عرفت أنه ليس كذلك بل أثر الشفاعة بالحكومة لا
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 163 _
بالمضادة فيها إخراج المجرم عن كونه مصداقا لشمول العقاب بجعله مصداقا لشمول الرحمة من صفات اخرى له تعالى من رحمة وعفو ومغفرة ، ومنها إفضاله للشافع بالاكرام والاعظام.
الاشكال الثاني : أن سنة الله تعالى جرت على صون أفعاله من التخلف والاختلاف ، فما قضى وحكم به يجريه على وتيرة واحدة من غير استثناء ، وعلى هذا جرت سنة الاسباب ، قال تعالى : ( هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) الحجر ـ 43 ، وقال تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم ) الانعام ـ 153 ، وقال تعالى : ( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) الفاطر ـ 42 ، وتحقق الشفاعة موجب للاختلاف في الفعل فان رفع العقاب بالشفاعة عن جميع المجرمين في جميع جرائمهم موجب لنقض الفرض المحال ، ولعب ينافي الحكمة قطعا ، ورفعة عن بعض المجرمين أو في بعض جرائمهم وذنوبهم إختلاف في فعله تعالى وتغير وتبدل في سنته الجارية وطريقته الدائمة ، إذ لا فرق بين المجرمين في أن كل واحد منهم مجرم ولا بين الذنوب في أن كلا منها ذنب وخروج عن زي العبودية فتخصيص بعضهم أو بعض من أعمالهم بالصفح والاغماض دون بعض بواسطة الشفاعة محال ، وإنما تجري الشفاعة وما يشبهها في سنة هذه الحيوة من إبتناء الاعمال والافعال على الاهواء والاوهام التي ربما تقضي في الحق والباطل على السواء ، وتجري عن الحكمة وعن الجهالة على نسق واحد.
والجواب أنه لا ريب في أن صراطه تعالى مستقيم وسنته واحدة لكن هذه السنة الواحدة الغير المختلفة ليست قائمة على أصل صفة واحدة من صفاته تعالى كصفة التشريع والحكم مثلا حتى لا يتخلف حكم عن مورده ولا جزاء حكم عن محله قط بل هي قائمة على ما يستوجبه جميع صفاته المربوطة علت صفاته.
توضيح ذلك : أن الله سبحانه هو الواهب المفيض لكل ما في الوجود من حيوة أو موت أو رزق أو نعمة أو غير ذلك ، وهي أمور مختلفة لا ترتبط به سبحانه على السواء ولا لرابطة واحدة كيف كانت ، فإن فيه بطلان الارتباط والسببية ، فهو تعالى لا يشفي مريضا من غير سبب موجب ومصلحة مقتضية ولا يشفيه لانه الله المميت
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 164 _
المنتقم شديد البطش بل لانه الله الرؤوف الرحيم المنعم الشافي المعافي مثلا ولا يهلك جبارا مستكبرا من غير سبب ، لانه رؤوف رحيم به ، بل لانه الله المنتقم الشديد البطش القهار مثلا وهكذا ، والقرآن بذلك ناطق فكل حادث من الحوادث بما يشتمل عليه من جهات الوجود يسند إليه من جهة صفة أو أكثر من صفاته العليا تتسبب إليه بالتلائم والايتلاف الواقع بينها والاقتضاء المستنتج من ذلك ، وإن شئت قلت : كل أمر من الامور يرتبط به تعالى من جهة ما يتضمنه من المصالح والخيرات ، إذا عرفت هذا علمت : أن استقامة صراطه وعدم تبدل سنته وعدم اختلاف فعله إنما هي بالنسبة إلى ما يفعله بجميع صفاته المربوطة لا بالنسبة إلى مقتضي صفة قاصره وإن شئت قلت : بالنسبة إلى ما يتحصل من الفعل والانفعال والكسر والانكسار الواقع بين الحكم والمصالح المرتبطة بالمورد لا بالنسبة إلى مقتضى مصلحة واحدة ، فلو كان هناك سبب الحكم المجعول فقط لم يتغير ولم يختلف في بر ولا فاجر ولا مؤمن ولا كافر ، لكن الاسباب كثيرة ربما استدعى توافق عدة منها غير ما يقتضيه بعضها فافهم ذلك.
فوقوع الشفاعة وارتفاع العقاب ـ وذلك أثر عدة من الاسباب كالرحمة والمغفرة والحكم والقضاء وإعطاء كل ذي حق حقه والفصل في القضاء ـ لا يوجب اختلافا في السنة الجارية وضلالا في الصراط المستقيم.
الاشكال الثالث : أن الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك أراد غيره حكم به أو لا فلا تتحقق الشفاعة إلا بترك إلارادة ونسخها لاجل الشفيع فأما الحاكم العادل فإنه لا يقبل الشفاعة إلا إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به ، كأن أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أن المصلحة أو العمل في خلاف ما كان يريده أو حكم به وأما الحاكم المستبد الظالم فإنه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشئ وهو عالم بأنه ظلم وأن العدل في خلافه ولكنه يفضل مصلحة إرتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة ، وكل من النوعين محال على الله تعالى لان إرادته على حسب علمه وعلمه أزلي لا يتغير.
والجواب أن ذلك منه تعالى ليس من تغير الارادة والعلم في شئ وانما التغير في المراد والمعلوم ، فهو سبحانه يعلم أن الانسان الفلاني سيتحول عليه الحالات فيكون
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 165_
في حين كذا على حال كذا لاقتران أسباب وشرائط خاصة فيريد فيه بإرادة ، ثم يكون في حين آخر على حال آخر جديد يخالف الاول لاقتران أسباب وشرائط اخر فيريد فيه بارادة اخرى وكل يوم هو في شأن ، وقد قال تعالى : ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) الرعد ـ 39 ، وقال ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء ) المائدة ـ 67 ، مثال ذلك : أنا نعلم أن الهواء ستغشاة الظلمة فلا يعمل أبصارنا والحاجة إليه قائمة ثم تنجلي الظلمة بانارة الشمس فتتعلق إرادتنا عند إقبال الليل بالاستضائة بالسراج وعند إنقضائه باطفائه والعلم والارادة غير متغيرتين وإنما تغير المعلوم والمراد ، فخرجا عن كونهما منطبقا عليه للعلم والارادة ، وليس كل علم ينطبق على كل معلوم ، ولا كل إرادة تتعلق بكل مراد ، نعم تغير العلم والارادة المستحيل عليه تعالى هو بطلان إنطباق العلم على المعلوم والارادة على المراد مع بقاء المعلوم والمراد على حالهما وهو الخطأ والفسخ ، مثل أن ترى شبحا فتحكم بكونه إنسانا ثم يتبين انه فرس فيتبدل العلم ، أو تريد أمرا لمصلحة ما ثم يظهر لك أن المصلحة في خلافه فتنفسخ إرادتك ، وهذان غير جائزين في مورده تعالى ، والشفاعة ورفع العقاب بها ليس من هذا القبيل كما عرفت.
الاشكال الرابع : أن وعد الشفاعة منه تعالى أو تبليغها من الانبياء ( عليهم السلام ) مستلزم لتجري الناس على المعصية واغراء لهم على هتك محارم الله تعالى وهو مناف للغرض الوحيد من الدين من سوق الناس إلى العبودية والطلاعة فلا بد من تأويل ما يدل عليه من الكتاب والسنة بما لا يزاحم هذا الاصل البديهي.
والجواب عنه ، اولا : بالنقض بالآيات الدالة على شمول المغفرة وسعة الرحمة كقوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ) النساء ـ 51 ، والآية ـ كما مر ـ في غير مورد التوبة بدليل إستثنائه الشرك المغفور بالتوبة.
وثانيا : بالحل : فإن وعد الشفاعة أو تبليغها إنما يستلزم تجري الناس على المعصية وإغرائهم على التمرد والمخالفة بشرطين :
احدهما : تعيين المجرم بنفسه ونعته أو تعيين الذنب الذي تقع فيه الشفاعة تعيينا لا يقع فيه لبس بنحو الانجاز من غير تعليق بشرط جائز.
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 166_
وثانيهما : تأثير الشفاعة في جميع أنواع العقاب وأوقاته بأن تقلعه من أصله قلعا
فلو قيل : أن الطائفة الفلانية من الناس أو كل الناس لا يعاقبون على ما أجرموا ولا يؤاخذون فيما أذنبوا أبدا ، أو قيل إن الذنب الفلاني لا عذاب عليه قط كان ذلك باطلا من القول ولعبا بالاحكام والتكاليف المتوجهة إلى المكلفين ، وأما إذا أبهم الامر من حيث الشرطين فلم يعين أن الشفاعة في أي الذنوب وفي حق أي المذنبين أو ان العقاب المرفوع هو جميع العقوبات وفي جميع الاوقات والاحوال ، فلا تعلم نفس هل تنال الشفاعة الموعودة أو لا فلا تتجرى على هتك محارم الله تعالى ، غير أن ذلك توقظ قريحة رجائها فلا يوجب مشاهدة ما يشاهدها من ذنوبها وآثامها قنوطا من رحمة الله ، ويأسا من روح الله ، مضافا إلى قوله تعالى : ( إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء ـ 31 ، فإن الآية تدل على رفع عقاب السيئات والمعاصي الصغيرة على تقدير اجتناب المعاصي الكبيرة فإذا جاز أن يقول الله سبحانه : إن إتقيتم الكبائر عفونا عن صغائركم ، فليجز أن يقال : إن تحفظتم على إيمانكم حتى أتيتموني في يوم اللقاء بإيمان سليم قبلت فيكم شفاعة الشافعين ، فإنما الشأن كل الشأن في حفظ الايمان والمعاصي تضعف الايمان وتقسي القلب وتجلب الشرك ، وقد قال تعالى : ( فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ) الاعراف ـ 98 ، وقال : ( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) المطففين ـ 14 ، وقال : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ) الروم ـ 10 ، وربما أوجب ذلك إنقلاعه عن المعاصي ، وركوبه علصراط التقوى ، وصيرورته من المحسنين ، واستغنائه عن الشفاعة بهذا المعنى ، وهذا من أعظم الفوائد ، وكذا إذا عين المجرم المشفوع له أو الجرم المشفوع فيه لكن صرح بشموله على بعض جهات العذاب أو بعض أوقاته فلا يوجب تجري المجرمين قطعا.
والقرآن لم ينطق في خصوص المجرمين وفي خصوص الذنب بالتعيين ولم ينطق في رفع العقاب إلا بالبعض كما سيجئ فلا اشكال أصلا.
الاشكال الخامس : ان العقل لو دل فإنما يدل على إمكان وقوع الشفاعة لا على
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 167 _
فعلية وقوعها على أن أصل دلالته ممنوع ، وأما النقل فما يتضمنه القرآن لا دلالة فيه على وقوعها فإن فيها آيات دالة على نفي الشفاعة مطلقا كقوله : ( لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ ) البقرة ـ 254 ، واخرى ناطقة بنفي منفعة الشفاعة كقوله تعالى : ( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدثر ـ 48 ، وأخرى تفيد النفي بمثل قوله تعالى : ( إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) البقرة ـ 255 وقوله : ( إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) يونس ـ 3 ، وقوله تعالى : ( إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) الانبياء ـ 28 ، ومثل هذا الاستثناء أي الاستثناء بالاذن والمشية معهود في اسلوب القرآن في مقام النفي القطعي للاشعار بان ذلك باذنه ومشيته سبحانه كقوله تعالى : ( سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ ) الاعلى ـ 6 ، وقوله تعالى : ( خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ ) هود ـ 107 ، فليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة وأما السنة فما دلت عليه الروايات من الخصوصيات لا تعويل عليه ، وأما المتيقن منها فلا يزيد على ما في الكتاب دلالة.
والجواب : أما عن الآيات النافية للشفاعة فقد عرفت أنها لا تنفي مطلق الشفاعة بل الشفاعة بغير اذن الله وارتضائه ، وإما عن الآيات النافية لمنفعة الشفاعة على زعم المستشكل فانها تثبت الشفاعة ولا تنفيه فان الآيات واقعة في سورة المدثر وانما تنفي الانتفاع عن طائفة خاصة من المجرمين لا عن جميعهم ، ومع ذلك فالشفاعة مضافة لا مجردة مقطوعة عن الاضافة ، ففرق بين أن يقول القائل : فلا تنفعهم الشفاعة وبين أن يقول : فلا تنفعهم شفاعة الشافعين فإن المصدر المضاف يشعر بوقوع الفعل في الخارج بخلاف المقطوع عن الاضافة ، نص عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الاعجاز فقوله : شفاعة الشافعين يدل على ان شفاعة ما ستقع غير ان هؤلاء لا ينتفعون بها على ان الاتيان بصيغة الجمع في الشافعين يدل على ذلك أيضا كقوله : ( كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) وقوله : ( وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ ) وقوله : ( فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ) وقوله : ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) وأمثال ذلك ، ولو لا ذلك لكان الاتيان بصيغة الجمع وله مدلول زائد على مدلول المفرد لغوا زائدا في الكلام فقوله : فما تنفعهم شفاعة الشافعين من الآيات المثبتة للشفاعة دون النافية.
واما عن الآيات المشتملة على استثناء الاذن والارتضاء فدلالة قوله : ( إلا باذنه )
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 168 _
وقوله : ( إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) على الوقوع وهو مصدر مضاف مما لا ينبغي أن ينكره عارف باساليب الكلام وكذا القول : بكون قوله : ( إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) وقوله : ( إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) بمعنى واحد وهو المشية مما لا ينبغ ( الاصغاء إليه ، على أن الاستثناء واقع في مورد الشفاعة بوجوه مختلفة كقوله : ( إِلاَّ بِإِذْنِهِ وإِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) وقوله : ( إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) ، وقوله : ( إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) إلى غير ذلك ، فهب : ( إن الاذن والارتضاء واحد وهو المشية فهل يمكن التفوه بذلك في قوله : ( إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ، فهل المراد بهذا الاستثناء استثناء المشية أيضا ؟ هذا وأمثاله من المساهلة في البيان مما لا يصح نسبته إلى كلام سوقي فكيف بالكلام البليغ ! وكيف بأبلغ الكلام ! وأما السنة فسيأتي الكلام في دلالتها على ما يحاذي دلالة الكتاب.
الاشكال السادس : أن الآيات غير صريحة في رفع العقاب الثابت على المجرمين يوم القيامة بعد ثبوت الجرم ولزوم العقاب بل المراد بها شفاعة الانبياء بمعنى توسطهم بما هم أنبياء بين الناس وبين ربهم بأخذ الاحكام بالوحي وتبليغها الناس وهدايتهم وهذا المقدار كالبذر ينمو وينشأ منه ما يستقبله من الاقدار والاوصاف والاحوال فهم ( عليه السلام ) شفعاء المؤمنين في الدنيا وشفعائهم في الآخرة.
والجواب : انه لا كلام في ان ذلك من مصاديق الشفاعة الا أن الشفاعة غير مقصورة فيه كما مر بيانه ، ومن الدليل عليه قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ) النساء ـ 48 ، وقد مر بيان ان الآية في غير مورد الايمان والتوبة ، والشفاعة التي قررها المستشكل في الانبياء انما هي بطريق الدعوة إلى الايمان والتوبة.
الاشكال السابع : أن طريق العقل لا يوصل إلى تحقق الشفاعة ، وما نطق به القرآن آيات متشابهة تنفيها تارة وتثبتها اخرى ، وربما قيدتها وربما أطلقتها ، والادب الديني الايمان بها ، وإرجاع علمها إلى الله تعالى.
والجواب عنه : أن المتشابهة من الآيات تصير بارجاعها إلى المحكمات محكمات مثلها ، وهو امر ميسور لنا غير مضروب دونه الستر ، كما سيجئ بيانه عند قوله
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 169 _
تعالى : ( مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) آل عمران ـ 7.
3 ـ فيمن تجري الشفاعة ؟
قد عرفت ان تعيين المشفوع لهم يوم القيامة لا يلائم التربية الدينية كل الملائمة الا أن يعرفوا بما لا يخلو عن شوب ابهام وعلى ذلك جرى بيان القرآن ، قال تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) المدثر ـ 48 ، بين سبحانه فيها ان كل نفس مرهونة يوم القيامة بما كسبت من الذنوب ) مأخوذه بما اسلفت من الخطايا إلا أصحاب اليمين فقد فكوا من الرهن واطلقوا واستقروا في الجنان ، ثم ذكر انهم غير محجوبين عن المجرمين الذين هم مرهونون باعمالهم ، مأخوذ عليهم في سقر ، يتساءلون عنهم سلوكهم في النار ، وهم يجيبون بالاشارة إلى عدة صفات ساقتهم إلى النار ، فرع على هذه الصفات بأنه لم ينفعهم لذلك شفاعة الشافعين.
ومقتضى هذا البيان كون أصحاب اليمين غير متصفين بهذه الصفات التي يدل الكلام على كونها هي المانعة عن شمول الشفاعة ، وإذا كانوا غير متصفين بهذه الصفات المانعة عن شمول الشفاعة وقد فك الله تعالى نفوسهم عن رهانة الذنوب والآثام دون المجرمين المحرومين عن الشفاعة ، المسلوكين في سقر ، فهذا الفك والاخراج إنما هو بالشفاعة فأصحاب اليمين هم المشفعون بالشفاعة وفي الآيات تعريف اصحاب اليمين بإنتفاء الاوصاف المذكورة عنهم ، بيان ذلك : أن الآيات واقعة في سورة المدثر وهي من السور النازلة بمكة في بدء البعثة كما ترشد إليه مضامين الآيات الواقعة فيها ، ولم يشرع يومئذ الصلوة والزكوة بالكيفية الموجودة اليوم ، فالمراد بالصلوة في قوله لم نك من المصلين التوجه إلى الله تعالى بالخضوع العبودي ، وباطعام المسكين مطلق الانفاق على المحتاج في سبيل الله ، دون الصلوة والزكوة المعهودتين في الشريعة الاسلامية والخوض هو الغور في ملاهي الحيوة وزخارف الدنيا الصارفة للانسان عن الاقبال على
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 170 _
الآخرة وذكر الحساب يوم الدين : أو التعمق في الطعن في آيات الله المذكرة ليوم الحساب المبشرة المنذرة ، وبالتلبس بهذه الصفات الاربعة ، وهي ترك الصلوة لله وترك الانفاق في سبيل الله والخوض وتكذيب يوم الدين ينهدم أركان الدين ، وبالتلبس بها تقوم قاعدته على ساق فان الدين هو الاقتداء بالهداة الطاهرين بالاعراض عن الاخلاد إلى الارض والاقبال إلى يوم لقاء الله وهذان هما ترك الخوض وتصديق يوم الدين ولازم هذين عملا التوجه إلى الله بالعبودية ، والسعي في رفع حوائج جامعة الحيوة وهذان هما الصلوة والانفاق في سبيل الله ، فالدين يتقوم بحسب جهتي العلم والعمل بهذه الخصال الاربع ، وتستلزم بقية الاركان كالتوحيد والنبوة إستلزاما هذا ، فأصحاب اليمين هم الفائزون بالشفاعة ، وهم المرضيون دينا وإعتقادا سواء كانت أعمالهم مرضية غير محتاجة إلى شفاعة يوم القيامة أو لم تكن ، وهم المعنيون بالشفاعة ، فالشفاعة للمذنبين من اصحاب اليمين ، وقد قال تعالى : ( إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء ـ 31 ، فمن كان له ذنب باق إلى يوم القيامة فهو لا محالة من إهل الكبائر ، إذ لو كان الذنب من الصغائر فقط لكان مكفرا عنه ، فقد بان أن الشفاعة لاهل الكبائر من أصحاب اليمين ، وقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنما شفاعتي لاهل الكبائر من امتي فاما المحسنون فما عليهم من سبيل ، الحديث.
ومن جهة اخرى إنما سمى هؤلاء بأصحاب اليمين في مقابل أصحاب الشمال وربما سموا أصحاب الميمنة في مقابل أصحاب المشئمة ، وهو من الالفاظ التي اصطلح عليه القرآن مأخوذ من إيتاء الانسان يوم القيامة كتابه بيمينه أو بشماله ، قال تعالى : ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) أسرى ـ 72 ، وسنبين في الآيه إن شاء الله تعالى أن المراد من إيتاء الكتاب باليمين إتباع الامام الحق ، ومن إيتائه بالشمال إتباع إمام الضلال كما قال تعالى في فرعون : ( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ) هود ـ 98 ، وبالجملة مرجع التسمية بأصحاب اليمين أيضا إلى إرتضاء الدين كما أن إليه مرجع التوصيف بالصفات الاربعة المذكورة هذا.
ثم إنه تعالى قال في موضع آخر من كلامه : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى )الانبياء ـ 28
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 171 _
فأثبت الشفاعة على من إرتضي ، وقد أطلق الارتضاء من غير تقييد بعمل ونحوه ، كما فعلة في قوله : ( إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ) طه ـ 109 ، ففهمنا أن المراد به إرتضاء أنفسهم أي إرتضاء دينهم لا إرتضاء عملهم ، فهذه الآية أيضا ترجع من حيث الافادة إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة ثم إنه تعالى قال ( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا * لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) فهو يملك الشفاعة ( أي المصدر المبني للمفعول ) وليس كل مجرم بكافر محتوم له النار ، بدليل قوله تعالى : ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ) طه ـ 75 ، فمن لم يكن مؤمنا قد عمل صالحا فهو مجرم سواء كان لم يؤمن ، أو كان قد آمن ولم يعمل صالحا ، فمن المجرمين من كان على دين الحق لكنه لم يعمل صالحا وهو الذي قد اتخذ عند الله عهدا لقوله تعالى : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ) يس ـ 61 فقوله تعالى : ( وَأَنْ اعْبُدُونِي ) عهد بمعنى الامر وقوله تعالى : هذا صراط مستقيم ، عهد بمعنى الالتزام لاشتمال الصراط المستقيم على الهداية إلى السعادة والنجاة ، فهؤلاء قوم من أهل الايمان يدخلون النار لسوء أعمالهم ، ثم ينجون منها بالشفاعة ، وإلى هذا المعنى يلوح قوله تعالى : ( قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا ) البقرة ـ 80 ، فهذه الآيات أيضا ترجع إلى ما ترجع إليه الآيات السابقة ، والجميع تدل على أن مورد الشفاعة أعني المشفوع لهم يوم القيمة هم الدائنون بدين الحق من أصحاب الكبائر ، وهم الذين إرتضى الله دينهم.
4 ـ من تقع منه الشفاعة ؟
قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية ، ومنها تشريعية ، فأما الشفاعة التكوينية فجملة الاسباب الكونية شفعاء عند الله بما هم وسائط بينه وبين الاشياء ، وأما الشفاعة التشريعية ، وهي الواقعة في عالم التكليف والمجازات ، فمنها ما يستدعي في الدنيا مغفرة من الله سبحانه أو قربا وزلفى : فهو شفيع متوسط بينه وبين عبده ، ومنه
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 172 _
التوبة كما قال تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ ) الزمر ـ 54 ، ويعم شموله لجميع المعاصي حتى الشرك ، ومنه الايمان قال تعالى : ( آمنوا برسوله ، إلى قوله : ( وَيَغْفِرْ لَكُمْ ) الحديد ـ 28 ، ومنه كل عمل صالح ، قال تعالى : ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) المائدة ـ 9 ، وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) المائدة ـ 35 ، والآيات فيه كثيرة ، ومنه القرآن لقوله تعالى : ( يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) المائدة ـ 16.
ومنه كل ما له إرتباط بعمل صالح ، والمساجد والامكنة المتبركة والايام الشريفة ، ومنه الانبياء والرسل بإستغفارهم لاممهم ، قال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) النساء ـ 64 ، ومنه الملائكة في إستغفارهم للمؤمنين ، قال تعالى : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن ـ 7 ، وقال تعالى : ( وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) الشوري ـ 5 ، ومنه المؤمنون بإستغفارهم لانفسهم ولاخوانهم المؤمنين قال تعالى حكاية عنهم ( وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا ) البقرة ـ 286 .
ومنها الشفيع يوم القيمة بالمعنى الذي عرفت فمنهم الانبياء ، قال تعالى : ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) إلى أن قال : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) الانبياء ـ 29 ، فأن منهم عيسى بن مريم وهو نبي ، وقال تعالى : ( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف ـ 86 ، والآيتان تدلان على جواز الشفاعة من الملائكة أيضا لانهم قالوا إنهم بنات الله سبحانه ، ومنهم الملائكة ، قال تعالى : ( وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى ) النجم ـ 26 ، وقال تعالى : ( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا *يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ) طه ـ 110 ، ومنهم الشهداء
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 173 _
لدلالة قوله تعالى : ( وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف ـ 86 ، على تملكهم للشفاعة لشهادتهم بالحق ، فكل شهيد فهو شفيع يملك الشهادة غير ان هذه الشهادة كما مر في سورة الفاتحة وسيأتي في قوله تعالى ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ) البقرة ـ 143 ، شهادة الاعمال دون الشهادة بمعنى القتل في معركة القتال ، ومن هنا يظهر أن المؤمنين أيضا من الشفعاء فإن الله عزوجل أخبر بلحوقهم بالشهداء يوم القيامة قال تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ ) الحديد ـ 19 ، كما سيجئ بيانه.
5 ـ بما ذا تتعلق الشفاعة ؟
قد عرفت أن الشفاعة منها تكوينية تتعلق بكل سبب تكويني في عالم الاسباب ومنها شفاعة تشريعية متعلقة بالثواب والعقاب فمنها ما يتعلق بعقاب كل ذنب ، الشرك فما دونه كشفاعة التوبة والايمان قبل يوم القيامة ومنها ما يتعلق بتبعات بعض الذنوب كبعض الاعمال الصالحة ، وأما الشفاعة المتنازع فيها وهى شفاعة الانبياء وغيرهم يوم القيامة لرفع العقاب ممن إستحقه بالحساب ، فقد عرفت في الامر الثالث ان متعلقها أهل المعاصي الكبيرة ممن يدين دين الحق وقد ارتضى الله دينه.
6 ـ متى تنفع الشفاعة ؟
ونعني بها أيضا الشفاعة الرافعة للعقاب ، والذي يدل عليه قوله سبحانه : ( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ) المدثر ـ 42 ، فالآيات كما مر دالة على توصيف من تناله الشفاعة ومن يحرم منها غير أنها تدل على أن الشفاعة إما تنفع في الفك عن هذه الرهانة والاقامة والخلود في سجن النار ، وأما ما يتقدم عليه من أهوال يوم القيامة وعظائمها فلا دليل على وقوع شفاعة فيها لو لم تدل الآية على انحصار الشفاعة في الخلاص من رهانة النار.
واعلم أنه يمكن أن يستفاد من هذه الآيات وقوع هذا التساؤل بعد استقرار
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 174 _
أهل الجنة في الجنة واهل النار في النار وتعلق الشفاعة بجمع من المجرمين بإخراجهم من النار ، وذلك لمكان قوله : ( في جنات ، الدال على الاستقرار وقوله : ما سلككم فإن السلوك هو الادخال لكن لا كل إدخال بل إدخال على سبيل النضد والجمع والنظم ففيه معنى الاستقرار وكذا قوله : فما تنفعهم ، فإن ما لنفي الحال ، فافهم ذلك.
واما نشأة البرزخ وما يدل على حضور النبي ( عليه السلام ) والائمة ( عليهم السلام ) عند الموت وعند مسائلة القبر وإعانتهم إياه علي الشدائد كما سيأتي في قوله تعالى : ( وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ) النساء ـ 158 ، فليس من الشفاعة عند الله في شئ وإنما هو من سبيل التصرفات والحكومة الموهوبة لهم بإذن الله سبحانه ، قال تعالى : ( وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ) إلى أن قال : ( وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ) الاعراف ـ 46 ، 48 ، 49 ، ومن هذا القبيل من وجه قوله تعالى : ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ) أسرى ـ 71 ، فوساطة الامام في الدعوة ، وإيتاء الكتاب من قبيل الحكومة الموهوبة فإفهم.
فتحصل أن المتحصل من أمر الشفاعة وقوعها في آخر موقف من مواقف يوم القيامة بإستيهاب المغفرة بالمنع عن دخول النار ، أو إخراج بعض من كان داخلا فيها ، بإتساع الرحمة أو ظهور الكرامة.
( بحث روائي )
في أمالي الصدوق : عن الحسين بن خالد عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي ثم قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنما شفاعتي لاهل الكبائر من أمتي ، فأما المحسنون منهم فما عليهم من سبيل ، قال الحسين بن خالد : فقلت للرضا ( عليه السلام ) يا بن رسول الله فما معنى قول الله عزوجل : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) قال عليه
الميزان في تفسير القران (الجزء الاول)
_ 175_
السلام : لا يشفعون إلا لمن إرتضى الله دينه.
اقول : قوله صلى الله عيه وآله وسلم : إنما شفاعتي ، هذا المعنى رواه الفريقان بطرق متعددة عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد مر إستفادة معناه من الآيات.
وفي تفسير العياشي : عن سماعة بن مهران عن أبي ابراهيم ( عليه السلام ) : في قول الله : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ، قال : يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاما ويؤمر الشمس ، فيركب على رؤوس العباد ، ويلجمهم العرق ، ويؤمر الارض لا تقبل من عرقهم شيئا فيأتون آدم فيستشفعون منه فيدلهم على نوح ، ويدلهم نوح على إبراهيم ، ويدلهم إبراهيم على موسى ، ويدلهم موسى على عيسى ، ويدلهم عيسى فيقول : عليكم بمحمد خاتم البشر فيقول محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أنا لها فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له : من هذا ؟ والله أعلم فيقول محمد ، فيقال : افتحوا له فإذا فتح الباب استقبل ربه فخر ساجدا فلا رفع رأسه حتى يقال له : تكلم وسل تعط وإشفع تشفع فيرفع رأسه ويستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الامم أوجه من محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو قول الله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا.
أقول : وهذا المعنى مستفيض مروي بالاختصار والتفصيل بطرق متعددة من العامة والخاصة ، وفيها دلالة على كون المقام المحمود في الآية هو مقام الشفاعة ، ولا ينافي ذلك كون غيره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الانبياء ، وغيرهم جائز الشفاعة لامكان كون شفاعتهم فرعا لشفاعته فافتتاحها بيده ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
وفي تفسير العياشي أيضا : عن أحدهما ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ، قال : هي الشفاعة.
وفي تفسير العياشي أيضا : عن عبيد بن زرارة قال : سئل أبو عبد الله ( عليه السلام ) عن المؤمن هل له شفاعة ؟ قال : نعم فقال له رجل من القوم : هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يومئذ ؟ قال : نعم إن للمؤمنين خطايا وذنوبا وما من أحد إلا يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ ، قال : وسأله رجل عن قول رسول الله : أنا سيد ولد آدم ولا