عن الدمع عن عينى القريح عن الجوى      عن الحزن عن قلبي الجريح عن الوجد
بـأن غـرامي والـهوى قـد iiتـحالفا      عـلى تـلفي حـتى أوسـد في iiلحدي
  وهذا البيان الذي أوردناه وإن آثرنا فيه الاجمال والاختصار لكنك إن أجدت فيه التأمل وجدته كافيا في المطلوب وتبين أن هذا المسلك الثالث يرتفع فيه موضوع الفضيلة والرذيلة ، ويتبدل فيه الغاية والغرض أعني الفضيلة الانسانية إلى غرض واحد ، وهو وجه الله ، وربما اختلف نظر هذا المسلك مع غيره فصار ما هو معدود في غيره فضيلة رذيلة فيه وبالعكس.
  بقي هنا شئ وهو أن هيهنا نظرية اخرى في الاخلاق تغاير ما تقدم ، وربما عد مسلكا آخر ، وهي أن الاخلاق تختلف اصولا وفروعا باختلاف الاجتماعات المدنية لاختلاف الحسن والقبح من غير أن يرجع إلى أصل ثابت قائم على ساق ، وقد ادعى أنها نتيجة النظرية المعروفة بنظرية التحول والتكامل في المادة.
  قالوا : إن الاجتماع الانساني مولود جميع الاحتياجات الوجودية التي يريد الانسان أن يرفعها بالاجتماع ، ويتوسل بذلك ، إلى بقاء وجود الاجتماع الذي يراه بقاء وجود شخصه ، وحيث أن الطبيعة محكومة لقانون التحول والتكامل كان الاجتماع أيضا متغيرا في نفسه ، ومتوجها في كل حين إلى ما هو أكمل وأرقى ، والحسن والقبح ـ وهما موافقة العمل لغاية الاجتماع أعني الكمال وعدم موافقته له ـ لا معنى لبقائهما على حال واحد ، وجمودهما على نهج فارد ، فلا حسن مطلقا ، ولا قبح مطلقا ، بل هما دائما نسبيان مختلفان باختلاف الاجتماعات بحسب الامكنة والازمنة ، وإذا كان الحسن والقبح نسبيين متحولين وجب التغير في الاخلاق ، والتبدل في الفضائل والرذائل ، ومن هنا يستنتج أن الاخلاق تابعة للمرام القومي الذي هو وسيله إلى نيل الكمال المدني والغاية الاجتماعية ، لتبعية الحسن والقبح لذلك ، فما كان به التقدم والوصول إلى الغاية والغرض كان هو الفضيلة وفيه الحسن ، وما كان يدعو إلى الوقوف والارتجاع كان هو الرذيلة ، وعلى هذا فربما كان الكذب و الافتراء والفحشاء والشقاوة والقساوة والسرقة و الوقاحة حسنة وفضيلة إذا وقعت في طريق المرام الاجتماعي ، والصدق والعفة والرحمة رذيلة قبيحة إذا أوجب الحرمان عن المطلوب ، هذه خلاصة هذه النظرية العجيبة التي ذهبت إليها الاشتراكيون من الماديين ، والنظرية غير حديثة ، على ما زعموا ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 376 _

  فقد كان الكلبيون من قدماء اليونان ـ على ما ينقل ـ على هذه المسلك ، وكذا المزدكيون ( وهم أتباع مزدك الذي ظهر بايران على عهد كسرى ودعا إلى الاشتراك ) كان عملهم على ذلك ، ويعهد من بعض القبائل الوحشية بإفريقية وغيرهم.
  وكيف كان فهو مسلك فاسد والحجة التي اقيمت على هذه النظرية فاسدة من حيث البناء والمبنى معا .
  توضيح ذلك : أنا نجد كل موجود من هذه الموجودات العينية الخارجية يصحب شخصية تلازمه ، ويلزمها أن لا يكون الموجود بسببه عين الموجود الآخر ويفارقه في الوجود ، كما أن وجود زيد يصحب شخصية ونوع وحدة لا يمكن معها أن يكون عين عمرو ، فزيد شخص واحد ، وعمرو شخص آخر ، وهما شخصان اثنان ، لا شخص واحد ، فهذه حقيقة لا شك فيها ( وهذا غير ما نقول : إن عالم المادة موجود ذو حقيقة واحدة شخصية فلا ينبغي أن يشتبه الامر.
  وينتج ذلك : أن الوجود الخارجي عين الشخصية ، لكن المفاهيم الذهنية يخالف الموجود الخارجي في هذا الحكم فان المعنى كيف ما كان يجوز العقل أن يصدق على أكثر من مصداق واحد كمفهوم الانسان ومفهوم الانسان الطويل ، ومفهوم هذا الانسان القائم أمامنا ، وأما تقسيم المنطقيين المفهوم إلى الكلي والجزئي ، وكذا تقسيمهم الجزئي إلى الاضافي والحقيقي فإنما هو تقسيم بالاضافة والنسبة ، إما نسبه أحد المفهومين إلى الآخر وإما نسبته إلى الخارج ، وهذا الوصف الذي في المفاهيم ـ وهو جواز الانطباق على أكثر من واحد ـ ربما نسميه بالاطلاق كما نسمي مقابلة بالشخصية أو الوحدة.
  ثم الموجود الخارجي ( ونعني به الموجود المادي خاصة ) لما كان واقعا تحت قانون التغير والحركة العمومية كان لا محالة ذا امتداد منقسما إلى حدود وقطعات ، كل قطعة منها تغاير القطعة الاخرى مما تقدم عليها أو تأخر عنها ، ومع ذلك فهي مرتبطة بها بوجودها ، إذ لو لا ذلك لم يصدق معنى التغير والتبدل لان أحد شيئين إذا عدم من أصله ، والآخر وجد من أصله لم يكن ذلك تبدل هذا من ذاك ، بل التبدل الذي يلازم كل حركة إنما يتحقق بوجود قدر مشترك في الحالين جميعا.
  ومن هنا يظهر أن الحركة أمر واحد بشخصه يتكثر بحسب الاضافة إلى الحدود ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 377 _

  فيتعين بكل نسبة قطعة تغاير القطعه الاخرى ، وأما نفس الحركة فسيلان وجريان واحد شخصي ، ونحن ربما سمينا هذا الوصف في الحركة إطلاقا في مقابل النسب التي لها إلى كل حد حد ، فنقول : الحركة المطلقة بمعنى قطع النظر عن إضافتها إلى الحدود ، ومن هنا يظهر أن المطلق بالمعنى الثاني أمر واقعي موجود في الخارج ، بخلاف المطلق بالمعنى الاول فإن الاطلاق بهذا المعنى وصف ذهني لموجود ذهني ، هذا.
  ثم إنا لا نشك ان الانسان موجود طبيعي ذو افراد واحكام وخواص وان الذي توجده الخلقة هو الفرد من أفراد الانسان دون مجموع الافراد أعني الاجتماع الانساني إلا ان الخلقة لما أحست بنقص وجوده ، واحتياجه إلى استكمالات لا تتم له وحده ، جهزه بأدوات وقوى تلائم سعيه للاستكمال في ظرف الاجتماع وضمن الافراد المجتمعين ، فطبيعة الانسان الفرد مقصود للخلقه اولا وبالذات والاجتماع مقصود لها ثانيا وبالتبع.
  وأما حقيقة أمر الانسان مع هذا الاجتماع الذي تقتضية وتتحرك إليه الطبيعة الانسانية ( إن صح إطلاق الاقتضاء والعلية والتحرك في مورد الاجتماع حقيقة فإن الفرد من الانسان موجود شخصي واحد بالمعنى الذي تقدم من شخصيته ووحدته ، وهو مع ذلك واقع في الحركة ، متبدل متحول إلى الكمال ، ومن هنا كان كل قطعة من قطعات وجوده المتبدل مغايرة لغيرها من القطعات ، وهو مع ذلك ذو طبيعة سيالة مطلقة حفوظة في مراحل التغيرات واحدة شخصية ، وهذه الطبيعة الموجودة في الفرد محفوظة بالتوالد والتناسل واشتقاق الفرد من الفرد ـ وهي التي نعبر عنها بالطبيعة النوعية ـ فإنها محفوظة بالافراد وإن تبدلت وعرض لها الفساد والكون ، بمثل البيان الذي مر في خصوص الطبيعة الفردية ، فالطبيعة الشخصية موجوده متوجهة إلى الكمال الفردي ، والطبيعة النوعية موجودة مطلقة متوجهة إلى الكمال.
  وهذا الاستكمال النوعي لا شك في وجوده وتحققه في نظام الطبيعة ، وهو الذي نعتمد عليه في قولنا : إن النوع الانساني مثلا متوجه إلى الكمال ، وإن الانسان اليوم أكمل وجودا من الانسان الاولي ، وكذا ما تحكم به فرضية تحول الانواع ، فلو لا أن هناك طبيعة نوعية خارجية محفوظة في الافراد أو الانواع مثلا لم يكن هذا الكلام إلا كلاما شعريا.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 378 _

  والكلام في الاجتماع الشخصي القائم بين أفراد قوم أو في عصر أو في محيط ، ونوع الاجتماع القائم بنوع الانسان المستمر باستمراره والمتحول بتحوله ( لو صح أن الاجتماع كالانسان المجتمع حال خارجي لطبيعة خارجية ! ) نظير القول في طبيعة الانسان الشخصية والنوعية في التقييد والاطلاق.
  فالاجتماع متحرك متبدل بحركة الانسان وتبدله وله وحدة من بادئ الحركة إلى أين توجه بوجود مطلق ـ وهذا الواحد المتغير بواسطة نسبته وإضافته إلى كل حد حد تصير قطعة قطعة ، وكل قطعة شخص واحد من أشخاص الاجتماع ، وأشخاص الاجتماع مستندة في وجودها إلى أشخاص الانسان كما ، أن مطلق الاجتماع بالمعنى الذي تقدم مستند إلى مطلق الطبيعة الانسانية ، فإن حكم الشخص شخص الحكم وفرده ، وحكم المطلق مطلق الحكم ( لا كلي الحكم ، فلسنا نعني الاطلاق المفهومي فلا تغفل ) ونحن لا نشك أن الفرد من الانسان وهو واحد له حكم واحد باق ببقائه ، إلا إنه متبدل بتبدلات جزئية بتبع التبدلات الطارئة على موضوعه الذي هو الانسان فمن أحكام الانسان الطبيعي أنه يتغذى ويفعل بالارادة ويحس ويتفكر ـ وهو موجود مع الانسان وباق ببقائه ـ وإن تبدل طبق تبدله في نفسه ، وكذلك الكلام في أحكام مطلق الانسان الموجود بوجود أفراده.
  ولما كان الاجتماع من أحكام الطبيعة الانسانية وخواصها فمطلق الاجتماع ( نعني به الاجتماع المستمر الذي أوجدته الطبيعة الانسانية المستمرة من حين وجد الانسان الفرد إلى يومنا هذا ) من خواص النوع الانساني المطلق موجود معه باق ببقائه ، وأحكام الاجتماع التي أوجدها واقتضاها هي مع الاجتماع موجودة بوجوده ، باقية ببقائه ، وإن تبدلت بتبدلات جزئية مع انحفاظ الاصل مثل نوعها ، وحينئذ صح لنا أن نقول : إن هناك أحكاما اجتماعية باقية غير متغيرة ، كوجود مطلق الحسن والقبح ، كما أن نفس الاجتماع المطلق كذلك ، بمعنى أن الاجتماع لا ينقلب إلى غير الاجتماع كالانفراد وإن تبدل اجتماع خاص إلى آخر خاص ، والحسن المطلق والخاص كالاجتماع المطلق والخاص بعينه.
  ثم إنا نرى أن الفرد من الانسان يحتاج في وجوده وبقائه إلى كمالات ومنافع يجب

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 379 _

  له أن يجتلبها ويضمها إلى نفسه ، والدليل على هذا الوجوب احتياجه في جهات وجوده وتجهيز الخلقة له بما يقوى به على ذلك ، كجهاز التغذي وجهاز التناسل مثلا ، فعلى الانسان أن يقدم عليه ، وليس له أن لا يقدم قطعا بالتفريط فإنه يناقض دليل الوجوب الذي ذكرناه ، وليس له أن يقدم في باب من أبواب الحاجة بما يزيد على اللازم بالافراط ، مثل أن يأكل حتى يموت ، أو يمرض ، أو يتعطل عن سائر قواة الفعالة ، بل عليه أن يتوسط في جلب كل كمال أو منفعة ، وهذا التوسط هي العفة ، وطرفاه الشره والخمود ، وكذلك نرى الفرد في وجوده وبقائه متوسطا بين نواقص وأضداد ومضار لوجوده يجب عليه أن يدفعها ، والدليل عليه الاحتياج والتجهيز في نفسه فيجب عليه المقاومة والدفاع على ما ينبغي من التوسط ، من غير إفراط يضاد سائر تجهيزاته أو تفريط يضاد الاحتياج والتجهيز المربوطين ، وهذا التوسط هي الشجاعة ، وطرفاها التهور والجبن ونظير الكلام جار في العلم ومقابليه أعني الجربزة والبلادة ، وفي العدالة ومقابليها وهما الظلم والانظلام.
  فهذه أربع ملكات وفضائل يستدعيه الطبيعة الفردية المجهزة ، بأدواتها : العفة والشجاعة ، والحكمة ، والعدالة ـ وهي كلها حسنة ـ لان معنى الحسن الملائمة لغاية الشئ وكماله وسعادته ، وهي جميعا ملائمة مناسبة لسعادة الفرد بالدليل الذي تقدم ذكره ، ومقابلاتها رذائل قبيحة ، وإذا كان الفرد من الانسان بطبيعته وفي نفسه على هذا الوصف فهو في ظرف الاجتماع أيضا على هذا الوصف ، وكيف يمكن أن يبطل الاجتماع ـ وهو من أحكام هذه الطبيعة ـ سائر أحكامها الوجودية ؟ وهل هو إلا تناقض الطبيعة الواحدة ، وليس حقيقة الاجتماع إلا تعاون الافراد في تسهيل الطريق إلى استكمال طبائعهم وبلوغها إلى غاية أمنيتها ؟
  وإذا كان الفرد من الانسان في نفسه وفي ظرف الاجتماع على هذا الوصف ، فنوع الانسان في اجتماعه النوعي أيضا كذلك ، فنوع الانسان في اجتماعه يستكمل بالدفاع بقدر ما لا يفسد الاجتماع وباجتلاب المنافع بقدر ما لا يفسد الاجتماع ، وبالعلم بقدر ما لا يفسد الاجتماع ، وبالعدالة الاجتماعية ـ وهي إعطاء كل ذي حق حقه ، وبلوغه حظه الذي يليق به دون الظلم والانظلام ـ وكل هذه الخصال الاربع فضائل بحكم

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 380 _
  الاجتماع المطلق يقضي الاجتماع الانساني بحسنها المطلق ويعد مقابلاتها رذائل ويقضي بقبحها.
  فقد تبين بهذا البيان : أن في الاجتماع المستمر الانساني حسنا وقبحا لا يخلو عنهما قط وأن أصول الاخلاق الاربعة فضائل حسنة دائما ، ومقابلاتها رذائل قبيحة دائما ، والطبيعة الانسانية الاجتماعية تقضي بذلك ، وإذا كان الامر في الاصول على هذا النحو فالفروع المنتهية بحسب التحليل إليها حكمها في القبول ذلك ، وإن كان ربما يقع اختلاف ما في مصاديقها من جهة الانطباق على ما سنشير إليه.
  إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك وجه سقوط ما نقلنا من قولهم من أمر الاخلاق وهاك بيانه.
  أما قولهم : إن الحسن والقبح المطلقين غير موجودين ، بل الموجود منهما النسبي من الحسن والقبح وهو متغير مختلف باختلاف المناطق والازمنه والاجتماعات ، فهو مغالطة ناشئة من الخلط بين الاطلاق المفهومي بمعنى الكلية والاطلاق الوجودي بمعنى إستمرار الوجود ، فالحسن والقبح المطلقان الكليان غير موجودين في الخارج لوصف الكلية والاطلاق ، لكنهما ليسا هما الموجبين لما نقصده من النتيجة ، وإما الحسن والقبح المطلقان المستمران بمعنى استمرارهما حكمين للاجتماع ما دام الاجتماع مستمرا باستمرار الطبيعة فهما كذلك ، فإن غاية الاجتماع سعادة النوع ، ولا يمكن موافقة جميع الافعال الممكنة والمفروضة للاجتماع كيف ما فرض ، فهناك أفعال موافقة ومخالفة دائما فهناك حسن وقبح دائما.
  وعلى هذا فكيف يمكن أن يفرض اجتماع كيف ما فرض ولا يعتقد أهله أن من الواجب أن يعطي كل ذي حق حقه أو أن جلب المنافع بقدر ما ينبغي واجب أو أن الدفاع عن مصالح الاجتماع بقدر ما ينبغي لازم أو أن العلم الذي يتميز به منافع الانسان من غيرها فضيلة حسنة ؟ وهذه هي العدالة والعفة ، والشجاعة ، والحكمة التي ذكرنا أن الاجتماع الانساني كيف ما فرض لا يحكم إلا بحسنها وكونها فضائل إنسانية ، وكذا كيف يتيسر لاجتماع أن لا يحكم بوجوب الانقباض والانفعال عن التظاهر بالقبيح

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 381 _
  الشنيع ، وهو الحياء من شعب العفة أو لا يحكم بوجوب السخط وتغير النفس في هتك المقدسات وهضم الحقوق ، وهو الغيرة من شعب الشجاعة ، أو لا يحكم بوجوب الاقتصار على ما للانسان من الحقوق الاجتماعية ، وهو القناعة أو لا يحكم بوجوب حفظ النفس في موقعها الاجتماعي من غير دحض الناس وتحقيرهم بالاستكبار والبغي بغير الحق ، وهو التواضع ؟ وهكذا الامر في كل واحد واحد من فروع الفضائل.
  وأما ما يزعمونه من اختلاف الانظار في الاجتماعات المختلفة في خصوص الفضائل وصيرورة الخلق الواحد فضيلة عند قوم رذيلة عند آخرين في أمثلة جزئية فليس من جهة اختلاف النظر في الحكم الاجتماعي بأن يعتقد قوم بوجوب اتباع الفضيلة الحسنة وآخرون بعدم وجوبه بل من جهة الاختلاف في انطباق الحكم على المصداق وعدم انطباقه.
  مثل إن الاجتماعات التي كانت تديرها الحكومات المستبدة كانت تري لعرش الملك الاختيار التام في أن يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وليس ذلك لسوء ظنهم بالعدالة بل لاعتقادهم بأنه من حقوق السلطنة والملك فلم يكن ذلك ظلما من مقام السلطنة بل إيفاء بحقوقه الحقة بزعمهم .
  ومثل أن العلم كان يعير به الملوك في بعض الاجتماعات ، كما يحكى عن ملة فرنسا في القرون الوسطى ، ولم يكن ذلك لتحقيرهم فضيلة العلم ، بل لزعمهم أن العلم بالسياسة وفنون إدارة الحكومة يضاد المشاغل السلطانية.
  ومثل أن عفة النساء بمعنى حفظ البضع من غير الزوج ، وكذا الحياء من النساء وكذا الغيرة من رجالهن ، وكذا عدة من الفضائل كالقناعة والتواضع أخلاق لا يذعن بفضلها في بعض الاجتماعات ، لكن ذلك منهم لان اجتماعهم الخاص لا يعدها مصاديق للعفة والحياء والغيرة والقناعة والتواضع ، لا لان هذه الفضائل ليست فضائل عندهم ، والدليل على ذلك وجود أصلها عندهم ، فهم يمدحون عفة الحاكم في ( زكمه والقاضي في قضائه ، ويمدحون الاستحياء من مخالفة القوانين ، ويمدحون الغيرة للدفاع عن الاستقلال والحضارة وعن جميع مقدساتهم ، ويمدحون القناعة بما عينه القانون من الحقوق لهم ، ويمدحون التواضع لائمتهم وهداتهم في الاجتماع.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 382 _
  وأما قولهم : بدوران الاخلاق في حسنها مدار موافقتها لغاية المرام الاجتماعي واستنتاجهم ذلك من دوران حسنها مدار موافقة غاية الاجتماع ففيه مغالطة واضحة فإن المراد بالاجتماع الهيئة الحاصلة من عمل مجموع القوانين التي قررتها الطبيعة بين الافراد المجتمعين ولا محالة تكون موصلة إلى سعادتهم لو لا الاخلال بانتظامها وجريها ، ولا محالة لها أحكام : من الحسن والقبح والفضيلة والرذيلة ، والمراد بالمرام مجموع الفرضيات التي وضعت لايجاد اجتماع على هيئت جديدة بتحميلها على الافراد المجتمعين ، أعنى أن الاجتماع والمرام متغايران بالفعلية والقوة ، والتحقق وفرض التحقق ، فكيف يصير حكم أحد هما عين حكم الاخر ، وكيف يكون الحسن والقبح ، والفضيلة والرذيله التى عينها الاجتماع العام باقتضاء من الطبيعة الانسانية متبدلة إلى ما حكم به المرام الذى ليس الا فرضا من فارض ؟
  ولو قيل : أن لا حكم الا جتماع العام الطبيعي من نفسه ، بل الحكم للمرام ، وخاصة إذا كانت فرضية متلائمة لسعادة الافراد عاد الكلام السابق في الحسن والقبح ، والفضيلة والرذيلة ، وأنها تنتهي بالآخرة إلى اقتضاء مستمر من الطبيعة.
  على ان هيهنا محذورا آخر وهو أن الحسن والقبح وسائر الاحكام الاجتماعية ـ وهى التى تعتمد عليها الحجة الاجتماعية وتتألف منها الاستدلالات ـ لو كانت تابعة للمرام ، ومن الممكن بل الواقع تحقق مرامات مختلفة متناقضة متباينة أدى ذلك إلى إرتفاع الحجة المشتركة المقبولة عند عامة الاجتماعات ، ولم يكن التقدم والنجاح حينئذ إلا للقدرة والتحكم ، وكيف يمكن أن يقال ان الطبيعة الانسانية ساقت افرادها إلى حيوة اجتماعية لا تفاهم بين أجزائها ولا حكم يجمعها إلا حكم مبطل لنفس الاجتماع ؟ وهل هذا إلا تناقض شنيع في حكم الطبيعة واقتضائها الوجودى ؟
  ( بحث روائي آخر )
  في متفرقات متعلقة بما تقدم
  عن الباقر ( عليه السلام ) قال : أتى رجل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : إنى راغب نشيط في الجهاد ، قال : فجاهد في سبيل الله فإنك إن تقتل كنت حيا عند الله مرزوقا وإن

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 383 _
  مت فقد وقع أجرك على الله الحديث.
  وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : وإن مت إلخ إشارة إلى قوله تعالى : ( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ ) النساء ـ 100 ، وفيه دلالة على أن الخروج إلى الجهاد مهاجرة إلى الله ورسوله .
  وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) : في إسمعيل النبي الذي سماه الله سبحانه صادق الوعد ، قال ( عليه السلام ) إنما سمي صادق الوعد ، لانه وعد رجلا في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة ، فسماه الله عزوجل صادق الوعد ، ثم إن الرجل أتاه بعد ذلك الوقت فقال له إسمعيل ما زلت منتظرا لك الحديث.
  اقول : وهذا أمر ربما يحكم العقل العادي بكونه منحرفا عن جادة الاعتدال مع أن الله سبحانه جعله منقبة له ( عليه السلام ) حتى عظم قدره ورفع ذكره بقوله : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) مريم ـ 55 ، فليس ذلك إلا أن الميزان الذي وزن به هذا العمل غير الميزان الذي بيد العقل العادي ، فللعقل العادي تربية بتدبيره ولله سبحانه تربية لاوليائه بتأييده ، وكلمة الله هي العليا ، ونظائر هذه القضية كثيرة مروية منقولة عن النبي والائمة والاولياء.
  فان قلت : كيف يمكن مخالفة الشرع مع العقل في ما للعقل إليه سبيل.
  قلت : أما حكم العقل فيما له إليه سبيل ففي محله ، لكنه يحتاج إلى موضوع يقع عليه حكمه ، وقد عرفت في ما تقدم أن أمثال هذه العلوم في المسلك الثالث الذي ذكرناه لا تبقى للعقل موضوعا يحكم فيه وعليه ، وهذا سبيل المعارف اللاهية والظاهر أن إسمعيل النبي ( عليه السلام ) كان أطلق القول بوعد بأن قال : أنتظرك ههنا حتى تعود إلى ثم التزم على إطلاق قوله صونا لنفسه عن نقض العهد والكذب في الوعد وحفظا لما القى الله في روعه وأجراه على لسانه ، وقد روي نظيره عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنه كان عند المسجد الحرام فوعده بعض أصحابه بالرجوع إليه ووعدة النبي بانتظاره حتى يرجع فذهب في شأنه ولم يرجع ، فانتظره النبي ثلثة أيام في مكانه الذي وعده حتى مر به الرجل بعد الثلثة ، وهو جالس ينتظر والرجل قد نسي الوعد ، الحديث.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 384 _
  وفي الخصائص للسيد الرضي ، عن إمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : ـ وقد سمع رجلا يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ـ يا هذا إن قولنا : إنا لله إقرار منا بالملك ، وإنا إليه راجعون اقرار منا بالهلاك.
  اقول : وقد اتضح معناه بما تقدم ورواه في الكافي مفصلا.
  وفي الكافي : عن إسحق بن عمار وعبد الله بن سنان ، عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : قال الله عزوجل : إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا فمن أقرضني فيها قرضا أعطيته بكل واحدة عشرا إلى سبعمأه ضعف ، ومن لم يقرضني قرضا وأخذت منه شيئا قسرا أعطيته ثلث خصال لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها عني ، ثم قال أبو عبد الله : قول الله : الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ، أولئك عليهم صلوات من ربهم ، فهذه واحدة من ثلاث خصال ، ورحمة اثنتان ، وأولئك هم المهتدون ثلث ، ثم قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) هذا لمن أخذ الله منه شيئا قسرا.
  اقول : والرواية مروية لطرق أخرى متقاربة.
  وفي المعاني عن الصادق ( عليه السلام ) : الصلوة من الله رحمة ، ومن الملائكة التزكية ، ومن الناس دعاء.
  اقول : وفي معناه عدة روايات أخر ، وبين هذه الرواية وما تقدمها تناف ظاهرا حيث أن الرواية السابقة تعد الصلوة غير الرحمة ، ويساعد عليه ظاهر قوله عليهم صلوات من ربهم ورحمة ، وهذه الرواية تعدها رحمة ويرتفع التنافى بالرجوع إلى ما تقدم من البيان.
  ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) ـ 158.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 385 _
  ( بيان )
  الصفا والمروة موضعان بمكة يأتي الحجاج بينهما بعمل السعي ، وهما جبلان مسافة بينهما سبعمأه وستون ذراعا ونصف ذراع على ما قيل ، وأصل الصفا في اللغة الحجر الصلب الاملس ، وأصل المروة الحجر الصلب ، والشعائر جمع شعيرة ، وهي العلامة ، ومنه المشعر ، ومنه قولنا : أشعر الهدى ، أي أعلمه ، والحج هو القصد بعد القصد ، أي القصد المكرر وهو في اصطلاح الشرع العمل المعهود بين المسلمين ، والاعتمار الزيارة وأصله العمارة لان الديار تعمر بالزيارة ، وهو في اصطلاح الشرع زيارة ، البيت بالطريق المعهود ، والجناح الميل عن الحق والعدل ، ويراد به الاثم ، فيؤل نفي الجناح إلى التجويز ، والتطوف من الطواف ، وهو الدوران حول الشئ ، وهو السير الذي ينتهي آخره إلى أوله ، ومنه يعلم أن ليس من اللازم كونه حول شئ وإنما ذلك من مصاديقه الظاهرة وعلى هذا المعنى أطلق التطوف في الآية فإن المراد به السعي وهو قطع ما بين الصفا والمروة من المسافة سبع مرات متوالية ، والتطوع من الطوع بمعنى الطاعه ، وقيل : إن التطوع يفارق الاطاعة في أنه يستعمل في المندوب خاصة ، بخلاف الاطاعة ولعل ذلك ـ لو صح هذا القول ـ بعناية أن العمل الواجب لكونه إلزاميا كأنه ليس بمأتي به طوعا ، بخلاف المأتي من المندوب فإنه على الطوع من غير شائبة ، وهذا تلطف عنائي وإلا فأصل الطوع يقابل الكره ولا ينافي الامر الالزامي ، قال تعالى : ( قال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها ) فصلت ـ 11 ، وأصل باب التفعل الاخذ لنفسه ، كقولنا : تميز أي أخذ ، يميز وتعلم الشئ أي أخذ يعلمه ، وتطوع خيرا أي أخذ يأتي بالخير بطوعه ، فلا دليل من جهة اللغة على اختصاص التطوع بالامتثال الندبي إلا أن توجبه العناية العرفية المذكورة.
  فقوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله إلى قوله : يطوف بهما يشير إلى كون المكانين معلمين بعلامة الله سبحانه ، يدلان بذلك عليه ، ويذكر انه تعالى واختصاصهما بكونهما من الشعائر دون بقية الاشياء جميعا يدل على أن المراد بالشعائر ليست الشعائر التكوينية بل هما شعيرتان بجعله تعالى إياهما معبدين يعبد فيهما ، فهما يذكر ان الله سبحانه ، فكونهما شعيرتين يدل على أنه تعالى قد شرع فيهما عبادة

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 386 _
  متعلقة بهما ، وتفريع قوله : فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) إنما هو للايذان بأصل تشريع السعي بين الصفا والمروة ، لا لافادة الندب ، ولو كان المراد إفادة الندب كان الانسب بسياق الكلام أن يمدح التطوف لا أن ينفي ذمه ، فإن حاصل المعنى أنه لما كان الصفا والمروة معبدين ومنسكين من معابد الله فلا يضركم أن تعبدوه فيهما ، وهذا لسان التشريع ، ولو كان المراد إفادة الندب كان الانسب أن يفاد أن الصفا والمروة ، لما كانا من شعائر الله فإن الله يحب السعي بينهما ـ وهو ظاهر ـ والتعبير بأمثال هذا القول الذي لا يفيد وحده الالزام في مقام التشريع شائع في القرآن ، وكقوله تعالى في الجهاد : ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) الصف ـ 11 ، وفي الصوم ( وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) البقرة ـ 184 ، وفي القصر ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ ) النساء ـ 101.
  قوله تعالى : ( وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) ، إن كان معطوفا على مدخول فاء التفريع في قوله تعالى : فمن حج البيت أو اعتمر ، كان كالتعليل لتشريع التطوف بمعنى آخر أعم من العلة الخاصة التي تبين بقوله : إن الصفا والمروة ، وكان المراد بالتطوع مطلق الاطاعة لا الاطاعة المندوبة ، وإن كان استينافا بالعطف إلى اول الآية كان مسوقا لافادة محبوبية التطوف في نفسه ان كان المراد بتطوع الخير هو التطوف أو مسوقا لافادة محبوبية الحج والعمرة ان كان هما المراد بتطوع الخير هذا.
  والشاكر والعليم اسمان من اسماء الله الحسنى ، والشكر هو مقابلة من احسن إليه إحسان المحسن بإظهاره لسانا أو عملا كمن ينعم إليه المنعم بالمال فيجازيه بالثناء الجميل الدال على نعمته أو باستعمال المال في ما يرتضيه ، ويكشف عن إنعامه ، والله سبحانه وإن كان محسنا قديم الاحسان ومنه كل الاحسان لا يد لاحد عنده حتى يستوجبه الشكر إلا أنه جل ثنائه عد الاعمال الصالحة التي هي في الحقيقة إحسانه إلى عباده إحسانا من العبد إليه ، فجازاه بالشكر والاحسان وهو إحسان على إحسان قال تعالى : ( هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ) الرحمن ـ 60 ، وقال تعالى : ( إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ) الدهر ـ 22 ، فإطلاق الشاكر عليه تعالى على حقيقة معنى الكلمة من غير مجاز.
  ( بحث روائي )
  في تفسير العياشي : عن بعض أصحابنا عن الصادق ( عليه السلام ) : سالتة : عن السعي

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 387 _
  بين صفا والمروة فريضة هي أم سنة ؟ قال : فريضة ، قلت : إليس الله يقول : فلا جناح عليه أن يطوف بهما ؟ قال كان ذلك في عمرة القضاء ، وذلك أن رسول الله كان شرط عليهم أن يرفعوا الاصنام فتشاغل رجل من أصحابه حتى أعيدت الاصنام ، قال : فأنزل الله ، إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ، أي والاصنام عليها.
  أقول : وعن الكافي ما يقرب منه.
  وفي الكافي أيضا عن الصادق ( عليه السلام ) : في حديث حج النبي ( عليه السلام ) : بعد ما طاف بالبيت وصلى ركعتية قال : ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إن الصفا والمروة من شعائر الله فابدا بما بدا الله عزوجل ، وإن المسلمين كانويظنون أن السعي بين الصفا والمروة شئ صنعه المشركون فأنزل الله إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما.
  أقول : ولا تنافي بين الروايتين في شأن النزول ، وهو ظاهر ، وقوله ( عليه السلام ) في الرواية فأبدا بما بدا الله ملاك التشريع ، وقد مضى في حديث هاجر وسعيها سبع مرات بين الصفا والمروة أن السنة جرت بذلك.
  وفي الدر المنثور : عن عامر الشعبي قال : كان وثن بالصفا يدعى إساف ، ووثن بالمروة يدعى نائلة فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما ويمسحون الوثنين فلما قدم رسول الله ( عليه السلام ) قالوا : يا رسول الله إن الصفا والمروة انما كان يطاف بهما من أجل الوثنين ، وليس الطواف بهما من الشعائر ، فأنزل الله : إن الصفا والمروة الآية فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه ، وأثبت المروة من جهة الصنم الذي كان عليه موثبا .
  أقول : وقد روى الفريقان في المعاني السابقة روايات كثيرة .
  ومقتضى جميع هذه الروايات أن الاية نزلت في تشريع السعي في سنة حج فيها المسلمون ، وسورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة ، ومن هنا يستنتج أن الآية غير متحدة السياق مع ما قبلها من آيات القبلة فانها نزلت في السنة الثانية من الهجرة

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 388 _
  كما تقدم ، ومع الآيات التى في مفتتح السورة ، فانها نزلت في السنة الاولى من الهجرة فللايات سياقات متعددة كثيرة ، لا سياق واحد.
  ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) ـ 159 ، ( إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ـ 160 ، ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) ـ 161 ، ( خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ) ـ 162.
  ( بيان )
  قوله تعالى : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ، الظاهر ـ والله أعلم ـ أن المراد بالهدى ما تضمنه الدين الالهي من المعارف والاحكام الذي يهدي تابعيه إلى السعادة ، وبالبينات الآيات والحجج التي هي بينات وأدلة وشواهد على الحق الذي هو الهدى ، فالبينات في كلامه تعالى وصف خاص بالآيات النازلة ، وعلى هذا يكون المراد بالكتمان ـ وهو الاخفاء ـ أعم من كتمان أصل الآية ، وعدم إظهاره للناس ، أو كتمان دلالته بألتاويل أو صرف الدلالة بالتوجيه ، كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوة ذلك فما يجهله الناس لا يظهرونه لهم ، وما يعلم به الناس يؤولونه بصرفه عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  قوله تعالى : من بعد ما بيناه للناس ، أفاد أن كتمانهم إنما هو بعد البيان والتبين للناس ، لا لهم فقط ، وذلك أن التبين لكل شخص شخص من أشخاص الناس أمر

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 389 ـ
  لا يحتمله النظام الموجود المعهود في هذا العالم ، لا في الوحي فقط ، بل في كل إعلام عمومي وتبيين مطلق ، بل إنما يكون باتصال الخبر إلى بعض الناس من غير واسطة وإلى بعض آخرين بواسطتهم ، بتبليغ الحاضر الغائب والعالم الجاهل ، فالعالم يعد من وسائط البلوغ وأدواته ، كاللسان والكلام : فإذا بين الخبر للعالم المأخوذ عليه الميثاق بعلمه مع غيره من المشافهين فقد بين الناس ، فكتمان العالم علمه هذا كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم وهو السبب الوحيد الذي عده الله سبحانه سببا لاختلاف الناس في الدين وتفرقهم في سبل الهداية والضلالة ، وإلا فالدين فطري تقبله الفطرة وتخضع له القوة المميزة بعد ما بين لها ، قال تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الروم ـ 30 ، فالدين فطري على الخلقة لا يدفعه الفطرة أبدا لو ظهر لها ظهورا ما بالصفاء من القلب ، كما في الانبياء ، أو ببيان قولي ، ولا محالة ينتهي هذا الثاني إلى ذلك الاول فافهم ذلك.
  ولذلك جمع في الآية بين كون الدين فطريا على الخلقة وبين عدم العلم به فقال : فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وقال : لكن أكثر الناس لا يعلمون ، وقال تعالى : ( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) البقرة ـ 213 ، فأفاد أن الاختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب إنما هو ناش عن بغي العلماء الحاملين له ، فالاختلافات الدينية والانحراف عن جادة الصواب معلول بغى العلماء بالاخفاء والتأويل والتحريف ، وظلمهم ، حتى أن الله عرف الظلم بذلك يوم القيمة كما قال : ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ) الاعراف ـ 44 ، والآيات في هذا المعنى كثيرة .
  فقد تبين أن الآية مبتنية على الآية أعني ، أن قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ) الآية ، مبتنية على قوله تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) الآية ، ومشيرة إلى جزاء هذا البغي بذيلها وهو قوله : أولئك يلعنهم الله إلخ.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 390 _
  قوله تعالى : أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، بيان لجزاء بغي الكاتمين لما أنزله الله من الآيات والهدى ، وهو اللعن من الله ، واللعن من كل لاعن ، وقد كرر اللعن لان اللعن مختلف فإنه من الله التبعيد من الرحمة والسعادة ومن اللاعنين سؤاله من الله ، وقد أطلق اللعن منه ومن اللاعنين وأطلق اللاعنين ، وهو يدل على توجيه كل اللعن من كل لاعن إليهم والاعتبار يساعد عليه فإن الذي يقصده لاعن بلعنه هو البعد عن السعادة ، ولا سعادة بحسب الحقيقة ، إلا السعادة الحقيقية الدينية وهذه السعادة لما كانت مبينة من جانب الله ، مقبولة عند الفطرة ، فلا يحرم عنها محروم إلا بالرد والجحود ، وكل هذا الحرمان إنما هو لمن علم بها وجحدها عن علم دون من لا يعلم بها ولم تبين له ، وقد أخذ الميثاق على العلماء أن يبثوا علمهم وينشروا ما عندهم من الآيات والهدى ، فإذا كتموه وكفوا عن بثه فقد جحدوه فأولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، ويشهد لما ذكرنا الآية الآتية : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ إلى قوله أَجْمَعِينَ ) الآية فإن الظاهر أن قوله : ( ان للتعليل أو لتأكيد مضمون هذه ) الآية ، بتكرار ما هو في مضمونها ومعناها وهو قوله : الذين كفروا وماتوا وهم كفار.
  قوله تعالى : إلا الذين تابوا وبينوا الآية ، استثناء من الآية السابقة ، والمراد بتقييد توبتهم بالتبين أن يتبين أمرهم ويتظاهروا بالتوبة ، ولازم ذلك أن يبينوا ما كتموه للناس وأنهم كانوا كاتمين والا فلم يتوبوا بعد لانهم كاتمون بعد بكتمان أنهم كانوا كاتمين.
  قوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار ، كناية عن إصرارهم على كفرهم وعنادهم وتعنتهم في قبول الحق فإن من لا يدين بدين الحق لا لعناد واستكبار بل لعدم تبينه له ليس بكافر بحسب الحقيقة ، بل مستضعف ، أمره إلى الله ، ويشهد بذلك تقييد كفر الكافرين في غالب الآيات والتكذيب وخاصة في آيات هبوط آدم المشتملة على أول تشريع شرع لنوع الانسان ، قال تعالى : ( قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ) ـ إلى قوله ـ ( وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة ـ 39 ، فالمراد بالذين كفروا في الآية هم المكذبون المعاندون ـ وهم الكاتمون لما أنزل الله ـ وجازاهم الله تعالى بقوله : أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وهذا حكم من الله سبحانه أن يلحق بهم كل لعن لعن به ملك من الملائكة أو أحد من الناس جميعا من غير استثناء ، فهؤلاء سبيلهم سبيل الشيطان ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 391 _
  إذ قال الله سبحانه فيه : ( وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) الحجر ـ 35 ، فجعل جميع اللعن عليه فهؤلاء ـ وهم العلماء الكاتمون لعلمهم ـ شركاء الشيطان في اللعن العام المطلق ونظرائه فيه ، فما أشد لحن هذه الآية وأعظم أمرها ! وسيجئ في الكلام على قوله تعالى : ( لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ) الانفال ـ 37 ، ما يتعلق بهذا المقام إنشاء الله العزيز.
  قوله تعالى : خالدين فيها ، أي في اللعنة ، وقوله : لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ، في تبديل السياق بوضع العذاب موضع اللعنة دلالة على أن اللعنة تتبدل عليهم عذابا.
  واعلم أن في هذه الآيات موارد من الالتفات ، فقد التفت في الآية الاولى من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله : أولئك يلعنهم الله ، لان المقام مقام تشديد السخط ، والسخط يشتد إذا عظم اسم من ينسب إليه أو وصفه ـ ولا أعظم من الله سبحانه ـ فنسب إليه اللعن ليبلغ في الشدة كل مبلغ ، ثم التفت في الآية الثانية من الغيبة إلى التكلم وحده بقوله : فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ، للدلالة على كمال الرحمة والرإفة ، بإلقاء كل نعت وطرح كل صفة وتصدى الامر بنفسه تعالى وتقدس ، فليست الرأفة والحنان المستفادة من هذه الجملة كالتي يستفاد من قولنا مثلا : فأولئك يتوب الله عليهم أو يتوب ربهم عليهم ، ثم التفت في الآية الثالثة من التكلم وحده إلى الغيبة بقوله : أولئك عليهم لعنة الله ، والوجه فيه نظير ما ذكرناه في اللتفات الواقع في الآية الاولى.
  ( بحث روائي )
  في تفسير العياشي عن بعض أصحابنا عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قلت له : أخبرني عن قول الله عزوجل : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ) الآية ، قال : نحن نعني بها ـ والله المستعان ـ إن الواحد منا إذا صارت إليه لم يكن له أو لم يسعه إلا أن يبين للناس من يكون بعده.
  وعن الباقر ( عليه السلام ) : في الآية ، قال : يعني بذلك نحن ، والله المستعان.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 392 _
  وعن محمد بن مسلم قال ( عليه السلام ) : هم أهل الكتاب.
  اقول : كل ذلك من قبيل الجري والانطباق ، وإلا فالآية مطلقة.
  وفي بعض الروايات عن علي ( عليه السلام ) : تفسيره بالعلماء إذا فسدوا.
  وفي المجمع عن النبي في الاية ، قال : من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيمة بلجام من نار ، وهو قوله : أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون.
  أقول : والخبران يؤيدان ما قدمناه.
  وفي تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : ويلعنهم اللاعنون ، قال : نحن هم ، وقد قالوا : هوام الارض.
  أقول : هو إشارة إلى ما يفيده قوله تعالى : ( وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) هود ـ 18 ، فإنهم الاشهاد الماذونون في الكلام يوم القيمة ، والقائلون صوابا ، وقوله : وقالوا : هوام الارض ، هو منقول عن المفسرين كمجاهد وعكرمة وغيرهما ، وربما نسب في بعض الروايات إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السام : إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدي ، في علي.
  أقول : وهو من قبيل الجري والانطباق.
  ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) ـ 163 ، ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 393 _
  الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ـ 164 ، ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ) ـ 165 ، ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ) ـ 166 ، ( وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) ـ 167.
  ( بيان )
  الآيات متحدة متسقة ذات نظم واحد ـ وهي تذكر التوحيد ـ وتقيم عليه البرهان وتذكر الشرك وما ينتهي إليه أمره.
  قوله تعالى : وإلهكم إله واحد ، قد مر معنى الاله في الكلام على البسملة من سورة الحمد في أول الكتاب ، وأما الوحدة فمفهومها من المفاهيم البديهية التي لا نحتاج في تصورها إلى معرف يدلنا عليها ، والشئ ربما يتصف بالوحدة من حيث وصف من أوصافه ، كرجل واحد ، وعالم واحد ، وشاعر واحد ، فيدل به على أن الصفة التي فيه لا تقبل الشركة ولا تعرضها الكثرة ، فان الرجولية التي في زيد مثلا ـ وهو رجل واحد ليست منقسمة بينه وبين غيره ، بخلاف ما في زيد وعمرو مثلا ـ وهما رجلان ـ فانه منقسم بين اثنين كثير بهما ، فزيد من جهة هذه الصفة ـ وهي الرجولية ـ واحد لا يقبل الكثرة ، وإن كان من جهة هذه الصفة وغيرها من الصفات كعلمه ، وقدرته ، وحيوته ، ونحوها ليس بواحد بل كثير حقيقة ، والله سبحانه واحد ، من جهة أن

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 394 _
  الصفة التي لا يشاركه فيها غيره ، كالالوهية فهو واحد في الالوهية ، لا يشاركه فيها غيره تعالى ، والعلم و القدرة والحيوة ، فله علم لا كالعلوم وقدرة وحيوة لا كقدرة غيره وحيوته ، وواحد من جهة أن الصفات التي له لا تتكثر ولا تتعدد إلا مفهوما فقط ، فعلمه وقدرته وحيوته جميعها شئ واحد هو ذاته ، ليس شئ منها غير الآخر بل هو تعالى يعلم بقدرته ويقدر بحيوته وحي بعلمه ، لا كمثل غيره في تعدد الصفات عينا ومفهوما ، وربما يتصف الشئ بالوحدة من جهة ذاته ، وهو عدم التكثر والتجزي في الذات بذاته ، فلا تتجزى إلى جزء وجزء ، وإلى ذات واسم وهكذا ، وهذه الوحدة هي المسماة بأحديه الذات ، ويدل على هذا المعنى بلفظ أحد ، الذي لا يقع في الكلام من غير تقييد بالاضافة إلا إذا وقع في حيز النفي أو النهي أو ما في معناهما كقولنا ما جائني أحد ، فيرتفع بذلك أصل الذات سواء كان واحدا أو كثيرا ، لان الوحدة مإخوذه في أصل الذات لا في وصف من أوصافه بخلاف قولنا : ما جائني واحد فان هذا القول لا يكذب بمجئ اثنين أو أزيد لان الوحدة مأخوذة في صفة الجائى وهو الرجولية في رجل واحد مثلا فاحتفظ بهذا الاجمال حتى نشرحه تمام الشرح في قوله تعالى : ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) الاخلاص ـ 1 ، إنشاء الله تعالى.
  وبالجملة فقوله : وإلهكم إله واحد ، تفيد بجملته اختصاص الالوهية بالله عزاسمه ، ووحدته فيها وحدة تليق بساحة قدسه تبارك وتعالى ، وذلك أن لفظ الواحد بحسب المتفاهم عند هؤلاء المخاطبين لا يدل على أزيد من مفهوم الوحدة العامة التي تقبل الانطباق على أنواع مختلفة لا يليق بالله سبحانه إلا بعضها فهناك وحدة عددية ووحدة نوعيه ووحدة جنسية وغير ذلك ، فيذهب وهم كل من المخاطبين إلى ما يعتقده ويراه من المعنى ، ولو كان قيل : والله إله واحد ، لم يكن فيه توحيد لان أرباب الشرك يرون أنه تعالى إله واحد ، كما أن كل واحد من آلهتهم إله واحد ، ولو كان قيل : وإلهكم واحد لم يكن فيه نص على التوحيد ، لامكان أن يذهب الوهم إلى أنه واحد في النوع ، وهو لالوهية ، نظير ما يقال في تعداد أنواع الحيوان : الفرس واحد ، والبغل واحد ، مع كون كل منهما متعددا في العدد ، لكن لما قيل : وإلهكم إله واحد فأثبت معنى إله واحد ـ وهو في مقابل الهين إثنين وآلهة كثيرة ـ على قوله : إلهكم كان نصا في التوحيد بقصر أصل الالوهية على واحد من الالهي التى اعتقدوا بها.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 395 _
  قوله تعالى : لا إله إلا هو ، جئ به لتأكيد نصوصية الجملة السابقة في التوحيد ونفي كل توهم أو تأويل يمكن أن يتعلق بها ، والنفي فيه نفي الجنس ، والمراد بالاله ما يصدق عليه الاله حقيقة وواقعا ، وحينئذ فيصح أن يكون الخبر المحذوف هو موجود أو كائن ، أو نحوهما ، والتقدير لا إله بالحقيقة والحق بموجود ، وحيث كان لفظة الجلالة مرفوعا لا منصوبا فلفظ إلا ليس للاستثناء ، بل وصف بمعنى غير ، والمعنى لا إله غير الله بموجود.
  فقد تبين أن الجملة أعني قوله : لا أله إلا هو ، مسوقة لنفي غير الله من الآلهة الموهومة المتخيلة لا لنفي غير الله وإثبات وجود الله سبحانه ، كما توهمه كثيرون ، ويشهد بذلك أن المقام إنما يحتاج إلى النفي فقط ، ليكون تثبيتا لوحدته في الالوهية لا الاثبات والنفي معا ، على أن القرآن الشريف يعد أصل وجوده تبارك وتعالى بديهيا لا يتوقف في التصديق العقلي به ، وإنما يعني عنايته بإثبات الصفات ، كالوحدة ، والفاطرية ، والعلم ، والقدرة ، وغير ذلك.
  وربما يستشكل تقدير الخبر لفظ الموجود أو ما بمعناه أنه يثبت نفي وجود إله غير الله لا نفي إمكانه ، فيجاب عنه بأنه لا معنى لفرض موجود ممكن مساوى الوجود والعدم ينتهي إليه وجود جميع الموجودات بالفعل وجميع شئونها ، وربما يجاب عنه بتقدير حق ، والمعنى لا معبود حق إلا هو.
  قوله تعالى : الرحمن الرحيم ، قد مر الكلام في معناهما في تفسير البسملة من سورة الفاتحة وبذكر الاسمين يتم معنى الربوبية ، فإليه ، تعالى ينتهي كل عطية عامة ، بمقتضى رحمانيته ، وكل عطية خاصة واقعة في طريق الهداية والسعادة الاخروية بمقتضى رحيميته.
  قوله تعالى : أن في خلق السموات والارض إلى آخر الآية ، السياق كما مر في أول البيان يدل على أن الآية مسوقة للدلالة والبرهنة على ما تضمنته الآية السابقة أعني قوله تعالى : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) الآية ، فإن الآية تنحل بحسب المعنى إلى أن لكل شئ من هذه الاشياء إلها ، وأن إله الجميع واحد وأن هذا الاله الواحد هو إلهكم ، وأنه رحمن مفيض للرحمة العامة ، وأنه رحيم يسوق إلى سعادة

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 396 _
  الغاية ـ وهي سعادة الآخرة ـ فهذه حقائق حقة ، وفي خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار إلى آخر ما ذكر في الآية آيات دالة عليها عند قوم يعقلون.
  ولو كان المراد إقامة الحجة على وجود إله الانسان أو أن اله الانسان واحد لما كان الجميع إلا آية واحدة دالة على ذلك من طريق اتصال التدبير ، ولكان حق الكلام في الآية السابقة أن يقال : وإلهكم واحد لا إله إلا هو ، فالآية مسوق للدلالة على الحجة على وجود الاله وعلى وحدته بمعنى أن إله غير الانسان من النظام الكبير واحد وأن ذلك بعينه إله الانسان.
  وإجمال الدلالة أن هذه السموات التي قد علتنا وأظلتنا على ما فيها من بدائع الخلقة ، والارض التي قد أقلمنا وحملنا مع عجيب أمرها وسائر ما فيها من غرائب بالتحولات والتقلبات كاختلاف الليل والنهار ، والفلك الجارية ، والامطار النازلة ، والرياح المرفة ، والسحب المسخرة امور مفتقرة في نفسها إلى صانع موجد ، فلكل منها إله موجد ( وهذا هو الحجة الاولى ).
  ثم إن هذه الاجرام الجوية المختلفة بالصغر والكبر واللبعد والقرب ( وقد وجد الواحد في الصغر على ما بلغة الفحص العلمي ما يعادل :
  33....ر. من سانتيمتر مكعب والواحد في الكبر ما يعادل الملابين من حجم الارض وهو كرة يعادل قطرها 9000 ميلا تقريبا ، واكتشف من المسافة بين جرمين علويين ما يقرب من ثلاثة ملايين سنة نورية ، والسنة النورية من المسافة تعدل 365 * 24 * 60 * 60 * 300000 كيلومتر تقريبا ) ، فانظر إلى هذه الارقام التي تدهش اللب وتبهت الفكر واقبض ما أنت قاض في غرابة الامر وبداعتة تفعل البعض منها في البعض ، وتيفعل البعض منها عن البعض أينما كانت وكيفما كانت بالجاذبة العامة ، وإفاضة النور والجرارة وتحيي بذلك سنة الحركة العامة والزمان العمومي ، وهذا نظام عام دائم تحت قانون ثابت ، حتى أن النسبتة العمومية القاصية بالتغير في قونانين الحركة في العالم الجسماني لا تتجافى عن الاعتراف بأن التغيير العمومي أيضا محكوم قانون آخر ثابت في التغير والتحول ، ثم إن هذه الحركة والتحول العمومي تتصور في كل جزء من أجزاء العالم بصورة خاصة كما بين الشمس التي

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 397 _
  لعالمنا مع منظومتها ثم تزيدضيقا في الدائرة كما في أرضنا مع ما يختص بها من الحوادث والاجرام ، كالقمر والليل والنهار ، والرياح والسحب والامطار ، ثم تتضيق الدائرة ، كما في المكونات الارضية : من المعادن والنبات والحيوان وساير التراكيب ، ثم في كل نوع من أنواعها ، ثم تتضيق الدائرة حتى تصل النوبة إلى العناصر ، ثم إلى الذرات ، ثم إلى أجزاء الذرات حتى تصل إلى آخر ما انتهى الفحص العلمي الميسور للانسان إلى هذا اليوم ، وهي الالكترون ، والبروتون ، ويوجد هناك نظير المنظومات الشمسية جرم مركزي وأشياء يدور حولها دوران الكواكب على مداراتها التي حول شمسها وسبحها في أفلاكها.
  ففي أي موقف من هذه المواقف وقف الانسان شاهد نظاما عجيبا ذا تحولات وتغيرات ، يحفظ بها أصل عالمه ، وتحيى بها سنة إلهية لا تنفد عجائبه ، ولا تنتهي غرائبه ، لا استثناء في جريها وإن كان واحدا ، ولا اتفاق في طيها وإن كان نادرا شاردا ، لا يدرك ساحلها ولا يقطع مراحلها ، وكلما ركبت عدة منها أخذا من الدقيق إلى الجليل وجدتها لا تزيد على عالم واحد ذا نظام واحد ، وتدبير متصل حتى ينتهي الامر إلى ما انتهى إليه توسع العلم إلى اليوم بالحس المسلح والارصاد الدقيقة ، وكلما حللتها وجزيتها راجعا من الكل إلى الجزء حتى تنتهي إلى مثل المليكول وجدته لا تفقد من العالم الواحد شيئا ذا نظام واحد وتدبير متصل ، على أن كل اثنين من هذه الموجودات متغاير الواحدين ذاتا وحكما شخصا.
  فالعالم شئ واحد والتدبير متصل ، وجميع الاجزاء مسخرة تحت نظام واحد وإن كثرت واختلفت أحكامها ، وعنت الوجوه للحي القيوم ، فإله العالم الموجد له والمدبر لامره واحد ( وهذا هو البرهان الثاني ).
  ثم إن الانسان الذي هو موجود أرضي يحيى في الارض ويعيش في الارض ثم يموت ويرجع إلى الارض لا يفتقر في شئ من وجوده وبقائه إلى أزيد من هذا النظام الكلي الذي لمجموع هذا العالم المتصل تدبيره ، الواحد نظامه ، فهذه الاجرام العلوية في إنارتها وتسخينها ، وهذه الارض في اختلاف ليلها ونهارها ورياحها وسحبها وأمطارها ومنافعها التي تجري من قطر إلى قطر من رزق ومتاع هي التي يحتاج إليها الانسان في

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 398 _
  حاجته المادية وتدبير وجوده وبقائه ـ والله من ورائهم محيط ـ فإلهها الموجد لها المدبر لامرها هو إله الانسان الموجد له والمدبر لامره ( وهذا هو البرهان الثالث ).
  ثم ان هذا الاله هو الذي يعطي كلا ما يحتاج إليه في سعادته الوجودية وما يحتاج إليه في سعادته في غايته وآخرته لو كان له سعادة اخروية غائية فإن الآخرة عقبى هذه الدار ، وكيف يمكن أن يدبر عاقبة الامر غير الذي يدبر نفس الامر ؟ ( وهذا هو البرهان على الاسمين الرحمن الرحيم ).
  وعند هذا تم تعليل الآية الاولى بالثانية وفي تصدير الآية بلفظة ، إن ، الدالة على التعليل إشارة إلى ذلك ـ والله العالم ـ .
  فقوله تعالى : إن في خلق السموات والارض ، اشارة إلى ذوات الاجرام العلوية والارض بما تشتمل عليه تراكيبها من بدائع الخلق وعجائب الصنع ، من صور تقوم بها أسماؤها ، ومواد تتألف منها ذواتها ، وتحول بعضها إلى بعض ، ونقص أو زيادة تطرئها وتركب أو تحلل يعرضها ، كما قال : ( أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ) الرعد ـ 41 ، وقال : ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) الانبياء ـ 30.
  قوله تعالى : واختلاف الليل والنهار ، وهو النقيصة والزيادة والطول والقصر العارضان لهما من جهة اجتماع عاملين من العوامل الطبيعية ، وهي الحركة اليومية التي للارض على مركزها وهي ترسم الليل والنهار بمواجهة نصف الكرة وأزيد بقليل دائما مع الشمس فتكتسب النور وتمص الحرارة ، ويسمى النهار ، واستتار الشمس عن النصف الآخر وأنقص بقليل فيدخل تحت الظل المخروطي وتبقى مظلما وتسمى الليل ، ولا يزالان يدوران حول الارض ، والعامل الآخر ميل سطح الدائرة الاستوائية أو المعدل عن سطح المدار الارضي في الحركة الانتقالية إلى الشمال والجنوب ، وهو الذي يوجب ميل الشمس من المعدل إلى الشمال أو الجنوب الراسم للفصول ، وهذا يوجب استواء الليل والنهار في منطقة خط الاستواء وفي القطبين ، أما القطبان فلهما في كل سنة شمسية تامة يوم وليلة واحدة كل منهما يعدل نصف السنة ، و الليل في قطب الشمال نهار في قطب الجنوب وبالعكس ، وأما النقطة الاستوائية فلها في كل سنة شمسية ثلاثمائة وخمس وستون ليلا ونهارا تقريبا ، والنهار والليل فيها متساويان ، وأما بقية المناطق

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 399 _
  فيختلف النهار والليل فيها عددا وفي الطول والقصر بحسب القرب من النقطة الاستوائية ومن القطبين ، وهذا كله مشروح مبين في العلوم المربوطة بها.
  وهذا الاختلاف هو الموجب لاختلاف ورود الضوء والحرارة ، وهو الموجب لاختلاف العوامل الموجبة لاختلاف حدوث التراكيب الارضية والتحولات في كينونتها مما ينتفع باختلافها الانسان انتفاعات مختلفة.
  قوله تعالى : والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، والفلك هو السفينة يطلق على الواحد والجمع ، والفلك والفلكة كالتمر والتمرة والمراد بما ينفع الناس المتاع والرزق تنقلها من ساحل إلى ساحل ومن قطر من أقطار الارض إلى قطر آخر.
  وفي عد الفلك في طي الموجودات والحوادث الطبيعية التي لا دخل لاختيار الانسان فيها كالسماء والارض واختلاف الليل والنهار دلالة على أنها أيضا تنتهي مثلها إلى صنع الله سبحانه في الطبيعة فان نسبة الفعل إلى الانسان بحسب الدقة لا تزيد على نسبة الفعل إلى سبب من الاسباب الطبيعية ، والاختيار الذي يتبجح به الانسان لا يجعله سببا تاما مستقلا غير مفتقر إلى إرادة الله سبحانه ولا يجعله أقل احتياجا إليه تعالى بالنسبة إلى سائر الاسباب الطبيعية ، فلا فرق من حيث الاحتياج إلى إرادة الله سبحانه بين أن يفعل قوة طبيعية في مادة فتوجد بالفعل و الانفعال والتحريك والتركيب والتحليل صورة من الصور كصورة الحجارة مثلا ، وبين أن يفعل الانسان بالتحريك والتقريب والتبعيد في المادة صورة من الصور كصورة السفينة مثلا في أن الجميع تنتهي إلى صنع الله وايجاده لا يستقل شئ مستغنيا عنه تعالى في ذاته وفعله.
  فالفلك أيضا مثل سائر الموجودات الطبيعية تفتقر إلى الاله في وجودها وتفتقر إلى إلاله في تدبير أمرها من غير فرق ، وقد أشار تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) الصافات ـ 96 ، حيث حكاه من إبراهيم فيما قاله لقومه في خصوص الاصنام التي اتخذوها آلهة فان من المعلوم أن الصنم ليس إلا موجودا صناعيا كالفلك التي تجري في البحر ، وقال تعالى : ( وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ) الرحمن ـ 24 ، فعدها ملكا لنفسه ، وقال تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) إبراهيم ـ 32 ، فعد تدبير أمرها راجعا إليه.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 400 _
كلام في استناد مصنوعات الانسان إلى الله سبحانه )
  فما أغفل هؤلاء الذين يعدون الصناعيات من الاشياء التي يعملها الانسان مصنوعة مخلوقة للانسان مقطوعة النسبة عن إله العالم عز اسمه مستندين إلى أنها مخلوقة لارادة الانسان واختياره.
  فطائفة منهم ـ وهم أصحاب المادة من المنكرين لوجود الصانع ـ زعموا أن حجة الملليين في إثبات الصانع : أنهم وجدوا في الطبيعة حوادث وموجودات جهلوا عللها المادية ولزمهم من جهة القول بعموم قانون العلية والمعلولية في الاشياء والحوادث أن يحكموا بوجود عللها ـ وهي مجهولة لهم بعد ـ فأنتج ذلك القول بأن لهذه الحوادث المجهولة العلة علة مجهولة الكنه هي وراء عالم الطبيعة ، وهو الله سبحانه ، فالقول بأن الصانع موجود فرضية أوجب افتراضها ما وجده الانسان الاولى من الحوادث المادية المجهولة العلل كالحوادث الجوية وكثير من الحوادث الارضية المجهولة العلل ، وما وجده من الحوادث والخواص الروحية التي لم يكشف العلوم عن عللها الماديي حتى اليوم.
  قالوا : وقد وفق العلوم في تقدمها الحديث لحل المشكل في الحوادث المادية وكشفت عن عللها فأبطلت من هذه الفرضية أحد ركنيها وهو احتياج الحوادث المادية المجهولة العلل إلى علل ورائها ، وبقي الركن الآخر وهو احتياج الحوادث الروحية إلى عللها ، وانتهائها إلى علة مجردة ، وتقدم البحث في الكيمياء الالي جديدا يعدنا وعدا حسنا أن سيطلع الانسان على علل الروح ويقدر على صنعة الجراثيم الحيوية وتركيب أي موجود روحي وإيجاد أي خاصة روحية ، وعند ذلك ينهدم أساس الفرضية المذكورة ويخلق الانسان في الطبيعة أي موجود شاء من الروحيات كما يخلق اليوم أي شئ شاء من الطبيعيات ، وقد كان قبل اليوم لا يرضى أن ينسب الخلق إلا إلى علة مفروضة فيما وراء الطبيعة ، حمله على افتراضها الجهل بعلل الحوادث ، هذا ما ذكروه.
  وهؤلاء المساكين لو أفاقوا قليلا من سكرة الغفلة والغرور لرأوا أن الالهيين من أول ما أذعنوا بوجود إله للعالم ـ ولن يوجد له أول ـ أثبتوا هذه العلة الموجدة لجميع العالم ، وبين اجزائه حوادث معلومة العلل ـ وفيها حوادث مجهولة العلل ـ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 401 _
  والمجموع من حيث المجموع مفتقر عندهم إلى علة خارجة ، فما يثبته أولئك غير ما ينفيه هؤلاء.
  فالمثبتون ـ ولم يقدر البحث والتاريخ على تعيين مبدء لظهورهم في تاريخ حيوة النوع الانساني ـ أثبتوا لجميع العالم صانعا واحدا أو كثيرا ( وان كان القرآن يثبت تقدم دين التوحيد على الوثنية ، وقد بين ذلك الدكتور ماكس موللر الالماني المستشرق صاحب التقدم في حل الرموز السنسكريتية ) وهم حتى الانسان الاولى منهم يشاهدون العلل في بعض الحوادث المادية ، فإثباتهم ، إلها صانعا لجميع العالم استنادا إلى قانون العلية العام ليس لاجل أن يستريحوا في مورد الحوادث المجهولة العلل حتى ينتج ذلك القول باحتياج بعض العالم إلى الاله واستغناء البعض الآخر عنه ، بل لاذعانهم بأن هذا العالم المؤلف من سلسلة علل ومعلولات طبيعية بمجموعها ووحدانيتها لا يستغني عن الحاجة إلى علة فوق العلل تتكي عليها جميع التأثيرات والتأثرات الجارية بين اجزائه ، فإثبات هذه العلة العالية لا يبطل قانون العلية العام الجاري بين اجزاء العالم أنفسها ، ولا وجود العلل المادية في موارد المعلولات المادية تغني عن استنادها الجميع إلى علة عالية خارجة من سلسلتها ، وليس معنى الخروج وقوف العلة في رأس السلسلة ، بل إحاطتها بها من كل جهة مفروضة.
  ومن عجيب المناقضة في كلام هؤلاء أنهم قائلون في الحوادث ـ ومن جملتها الافعال الانسانية ـ بالجبر المطلق فما من فعل ولا حادث غيره إلا وهو معلول جبري لعلل عندهم ، وهم مع ذلك يزعمون أن الانسان لو خلق إنسانا آخر كان غير منته إلى علة العالم لو فرض له علة.
  وهذا المعنى الذي قلنا ـ على لطفة ودقته وإن لم يقدر على تقريره الفهم العامي الساذج لكنه موجود على الاجمال في أذهانهم حيث قالوا باستناد جميع العالم بأجمعه إلى الاله الصانع ـ وفيه العلل والمعلولات فهذا ـ أولا.
  ثم إن البراهين العقلية التي أقامتها الالهيون من الحكماء الباحثين أقاموها بعد إثبات عموم العلية وبنوا فيها على وجوب انتهاء العلل الممكنة إلى علة واجبة الوجود ، واستمروا على هذا السلك من البحث منذ الوف من السنين من أقدم عهود الفلسفة إلى

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 402 _
  يومنا هذا ، ولم يرتابوا في استناد المعلولات التي معها عللها الطبيعية الممكنة إلى علة واجبة ، فليس استنادهم إلى العلة الواجبة لاجل الجهل بالعلة الطبيعية ، وفي المعلولات المجهولة العلل كما يتوهمه هؤلاء ، وهذا ثانيا.
  ثم إن القرآن المثبت لتوحيد الاله إنما يثبته مع تقرير جريان قانون العلية العام بين أجزاء العالم ، وتسليم استناد كل حادث إلى علة خاصة به ، وتصديق ما يحكم به العقل السليم في ذلك ، فإنه يسند الافعال الطبيعية إلى موضوعاتها وفواعلها الطبيعية وينسب إلى الانسان أفعاله الاختيارية في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها ، ثم ينسب الجميع إلى الله سبحانه من غير استثناء ، قال تعالى : ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) الزمر ـ 62 ، وقال تعالى : ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُو ) المؤمن ـ 62 ، وقال تعالى : ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ) الاعراف ـ 54 ، وقال تعالى : ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ ) طه ـ 5 ، فكل ما صدق عليه اسم شئ فهو مخلوق لله منسوب إليه على ما يليق بساحة قدسه وكماله ، وقد جمع في آيات أخر بين الاثباتين جميعا فنسب الفعل إلى فاعله وإلى الله سبحانه معا كقوله تعالى : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) الصافات ـ 96 ، فنسب أعمال الناس إليهم ونسب خلق أنفسهم وأعمالهم إليه تعالى ، وقال تعالى : ( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ) الانفال ـ 17 ، فنسب الرمي إلى رسول الله ونفاه عنه ونسبه إلى الله تعالى إلى غير ذلك.
  ومن هذا الباب آيات أخر تجمع بين الاثباتين بطريق عام كقوله تعالى : ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ) الفرقان ـ 2 ، وقال تعالى : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ـ إلى أن قال ـ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ) القمر ـ 53 ، وقال تعالى : ( قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق ـ 3 ، وقال تعالى : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر ـ 21 ، فإن تقدير كل شئ هو جعله محدودا بحدود العلل المادية والشرائط الزمانية والمكانية.
  وبالجملة فكون إثبات وجود الاله الواحد في القرآن على أساس إثبات العلية والمعلولية بين جميع أجزاء العالم ، ثم استناد الجميع إلى الاله الفاطر الصانع للكل مما لا يعتريه شك ولا ريب لا كما يزعمه هؤلاء من إسناد البعض إلى الله وإسناد الآخر إلى علله المادية المعلومة ، وهذا ثالثا.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 403 _
  نعم حملهم على هذا الزعم ما تلقوة : من جمع من أرباب النحل الباحثين عن هذه المسألة وأمثالها في فلسفة عامية كانت تنشرها الكنيسة في القرون الوسطى.
  أو يعتمد عليها الضعفاء من متكلمي الاديان الاخرى وكانت مؤلفة من مسائل محرفة ما هي بالمسائل ، واحتجاجات واستدلالات واهية فاقدة لاستقامة النظر ، فهؤلاء لما أرادوا بيان دعويهم الحق ( الذي يقضي بصحته إجمالا عقولهم ) ونقله من الاجمال إلى التفصيل دفعهم ضعف التعقل والفكر إلى غير الطريق فعمموا الدعوى ، وتوسعوا في الدليل ، فحكموا باستناد كل معلول مجهول العلة إلى الله سبحانه من غير واسطة ، ونفوا حاجة الافعال الاختيارية إلى علة موجبه ، أو احتياج الانسان في صدور فعله الاختياري إلى الاله تعالى ، واستقلاله في فعله ، وقد مر البحث عن قولهم في الكلام على قوله تعالى : ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) البقرة ـ 26 ، ونورد هيهنا بعض ما فيه من الكلام.
  وطائفة منهم ـ وهم بعض المحدثين والمتكلمين من ظاهريي المسلمين وجمع من غيرهم ـ لم يقدروا أن يتعقلوا معنى صحيحا لاسناد أفعال الانسان الاختيارية إلى الله سبحانه على ما يليق بالمقام الربوبي فنفوا استناد مصنوعات الانسان إليه سبحانه ، وبالخصوص فيما وضعه للمعصية خاصة كالخمر وآلات اللهوو القمار وغير ذلك ، وقد قال تعالى : ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) المائدة ـ 90 ، ومعلوم أن ما عده الله سبحانه عملا للشيطان لا يجوز أن ينسب إليه.
  وقد مر فيما تقدم ما يظهر به بطلان هذا التوهم نقلا وعقلا ، فالافعال الاختيارية كما أن لها انتسابا إلى الله سبحانه على ما يليق به تعالى كذلك نتائجها وهي الامور الصناعية التي يصنعها الانسان لداعي رفع الحوائج الحيوية.
  على أن النصاب الواقعة في الآية السابقة هي الاصنام والتماثيل المنصوبة المعبودة التي ذكر الله سبحانه أنها مخلوقة له في قوله : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) الآية ، ومن هيهنا يظهر أن فيها جهات مختلفة من النسب ينسب من بعضها إلى الله سبحانه وهي طبيعة وجودها مع قطع النظر عن وصف المعصية المتعلق بها ، فإن الصنم ليس بحسب الحقيقة إلا حجرا أو فلزا عليه شكل خاص وليس فيه ما يوجب نفي انتسابه إلى موجد كل شئ ، واما أنه صنم معبود دون الله سبحانه فهذه هي الجهة التي يجب

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 404 _
  نفيها عنه تعالى ونسبتها إلى عمل غيره من شيطان أو إنسان ، وكذا حكم غيره من حيث انتسابه إليه تعالى وإلى غيره.
  فقد تبين من جميع ما مر أن الامور الصناعية منتسبة إلى الخلقة كاستناد الأمور الطبيعية من غير فرق ، نعم يدور الامر في الانتساب إلى الخلقة مدار حظ الشئ من الوجود فافهم ذلك.
  قوله تعالى : وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيى به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة ، فان حقيقته عناصر مختلفة يحملها ماء البحار وغيره ثم يتكاثف بخارا متصاعدا حاملا للحرارة حتى ينتهي إلى زمهرير الهواء فيتبدل ماء متقاطرا على صورة المطر أو يجمد ثانيا فيصير ثلجا أو بردا فينزل لثقله إلى الارض فتشربه وتحيي به أو تحزنه فيخرج على صورة ينابيع في الارض بها حيوة كل شئ فالماء النازل من السماء حادث من الحوادث الوجودية جار على نظام متقن غاية الاتقان من غير انتقاض واستثناء ويستند إليه انتشاء النبات وتكون الحيوان من كل نوع.
  وهو من جهة تحدده بما يحفه من حوادث العالم طولا وعرضا تصير معها جميعا شيئا واحدا لا يستغني عن موجد يوجده وعلة تظهره فله إله واحد ومن جهة أنه مما يستند إليه وجود الانسان حدوثا وبقاء يدل على كون إلهه هو إله الانسان.
  قوله تعالى : وتصريف الرياح ، وهو توجيهها من جانب إلى جانب بعوامل طبيعية مختلفة ، والاغلب فيها أن الاشعة النورية الواقعة على الهواء من الشمس تتبدل حرارة فيه فيعرضه اللطافة والخفة لان الحرارة من عواملها فلا يقدر على حمل ما يعلوه أو يجاوره من الهواء البارد الثقيل فينحدر عليه فيدفعه بشدة فيجري الهواء اللطيف إلى خلاف سمت الدفع وهو الريح ، ومن منافعه تلقيح النبات ودفع الكثافات البخارية والعفونات المتصاعدة ، وسوق السحب الماطرة وغيرها ، ففيه حيوة النبات والحيوان والانسان.
  وهو في وجوده يدل على الاله وفي التيامه مع سائر الموجودات واتحاده معها كما مر يدل على إله واحد للعالم ، وفي وقوعه طريقا إلى وجود الانسان وبقائه يدل على أن

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 405 _
  إله الانسان وغيره واحد.
  قوله تعالى : والسحاب المسخر بين السماء والارض ، السحاب البخار المتكاثف الذي منه الامطار وهو ضباب بالفتح ما لم ينفصل من الارض فإذا انفصل وعلا سمي سحابا وغيما وغماما وغير ذلك ، والتسخير قهر الشئ وتذليله في عمله ، والسحاب مسخر مقهور في سيره وإمطاره بالريح والبرودة وغيرهما المسلطة عليه بإذن الله ، والكلام في كون السحاب آية نظير الكلام في غيره مما عد معه.
  واعلم : أن اختلاف الليل والنهار والماء النازل من السماء والرياح المصرفة والسحاب المسخر جمل الحوادث العامة التي منها يتألف نظام التكوين في الارضيات من المركبات النباتية والحيوانية وغيرهما فهذه الآية كالتفصيل بوجه لاجمال قوله تعالى : ( وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ ) فصلت ـ 10.
  قوله تعالى : لآيات لقوم يعقلون ، العقل ـ وهو مصدر عقل يعقل ـ إدراك الشئ وفهمه التام ، ومنه العقل اسم لما يميز به الانسان بين الصلاح والفساد وبين الحق و الباطل والصدق والكذب وهو نفس الانسان المدرك وليس بقوة من قواة التى هي كالفروع للنفس كالقوة الحافظة و الباصرة وغيرهما.
  قوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا ، الند كالمثل وزنا ومعنى ، ولم يقل من يتخذ لله أندادا كما عبر بذلك في سائر الموارد كقوله تعالى : ( فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً ) البقرة ـ 22 ، وقوله تعالى : ( وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا ) إبراهيم ـ 30 ، وغير ذلك لان المقام مسبوق بالحصر في قوله : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ) الآية ، فكان من اتخذ لله أندادا قد نقض الحصر من غير مجوز واتخذ من يعلم أنه ليس بأله إلها اتباعا للهوى وتهوينا لحكم عقله ولذلك نكره تحقيرا لشأنه ، فقال ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا.
  قوله تعالى : يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ، وفي التعبير بلفظ يحبونهم دلالة على أن المراد بالانداد ليس هو الاصنام فقط بل يشمل الملائكه ، وأفرادا من الانسان الذين اتخذوهم أربابا من دون الله تعالى بل يعم كل مطاع من دون الله من غير أن يأذن الله في إطاعته كما يشهد به ما في ذيل الآيات من قوله : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ) البقرة ـ 166 ، وكما قال تعالى : ( وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 406 _
  أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ) آل عمران ـ 64 ، وقال تعالى : ( اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ) التوبة ـ 31 ، وفي الاية دليل على أن الحب يتعلق بالله تعالى حقيقة خلافا لمن قال : أن الحب وهو وصف شهواني ، يتعلق بالاجسام والجسمانيات ، ولا يتعلق به سبحانه حقيقة وأن معنى ما ورد من الحب له الاطاعة بالايتمار بالامر والانتهاء عن النهي تجوزا كقوله تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) آل عمران ـ 31.
  والاية حجة عليهم فإن قوله تعالى : أشد حبا لله يدل على أن حبه تعالى يقبل الاشتداد ، وهو في المؤمنين أشد منه في المتخذين لله اندادا ، ولو كان المراد بالحب هو الاطاعة مجازا كان المعنى والذين آمنوا أطوع لله ولم يستقم معنى التفضيل لان طاعة غيرهم ليست بطاعة عند الله سبحانه فالمراد بالحب معناه الحقيقي.
  ويدل عليه أيضا قوله تعالى : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ ـ إلى قوله ـ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) التوبة ـ 25 ، فإنه ظاهر في أن الحب المتعلق بالله والحب المتعلق برسوله والحب المتعلق بالآباء والابناء والاموال وغيرها جميعا من سنخ واحد لمكان قوله أحب إليكم ، وأفعل التفضيل يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه في أصل المعنى واختلافهما من حيث الزيادة والنقصان.
  ثم ان الآية ذم المتخذين للانداد بقوله : يحبونهم كحب الله ثم مدح المؤمنين بأنهم أشد حبا لله سبحانه فدل التقابل بين الفريقين على أن ذمهم أنما هو لتوزيعهم المحبة الالهية بين الله وبين الانداد الذين اتخذوهم أندادا ، وهذا وإن كان بظاهره يمكن أن يستشعر منه أنهم لو وضعوا له سبحانه سهما أكثر لم يذموا على ذلك لكن ذيل الاية ينفي ذلك فإن قوله : إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا ، وقوله : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأ وا العذاب وتقطعت بهم الاسباب ، وقوله : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم ، يشهد بأن الذم لم يتوجه إلى الحب من حيث أنه حب بل من جهة لازمه الذي هو الاتباع وكان هذا الاتباع منهم لهم لزعمهم ان لهم قوة يتقوون بها لجلب محبوب أو دفع مكروه عن أنفسهم فتركوا بذلك إتباع الحق من أصله أو في بعض الامر ، وليس من اتبع الله في بعض أمره دون بعض بمتبع له وحينئذ يندفع الاستشعار المذكور ، ويظهر أن هذا الحب يجب أن لا يكون لله فيه سهيم وإلا فهو الشرك ، واشتداد هذا الحب ملازم لانحصار التبعية من امر الله ، ولذلك مدح المؤمنين

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 407 _
  بذلك في قوله والذين آمنوا أشد حبا لله .
  وإذ كان هذا المدح والذم متعلقا بالحب من جهة أثره الذي هو الاتباع فلو كان الحب للغير بتعقيب إطاعة الله تعالى في أمره ونهيه لكون الغير يدعو إلى طاعته تعالى ـ ليس له شأن دون ذلك ـ لم يتوجه إليه ذم البته كما قال تعالى : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ ـ إلى قوله ـ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) التوبة ـ 24 ، فقرر لرسوله حبا كما قرره لنفسه لان حبه ( عليه السلام ) حب الله تعالى فإن أثره وهو الاتباع عين اتباع ، الله تعالى : فإن الله سبحانه هو الداعي إلى اطاعة رسوله والآمر باتباعه ، قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) النساء ـ 64 ، وقال تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) وكذلك اتباع كل من يهتدي إلى الله باتباعه كعالم يهدي بعلمه أو آية تعين بدلالته وقرآن يقرب بقرائته ونحو ذلك فإنها كلها محبوبة بحب الله واتباعها طاعة تعد مقربة إليه.
  فقد بان بهذا البيان أن من أحب شيئا من دون الله ابتغاء قوة فيه فاتبعه في تسبيبه إلى حاجة ينالها منه أو اتبعه بإطاعته في شئ لم يأمر الله به فقد اتخذ من دون الله اندادا وسيريهم الله اعمالهم حسرات عليهم ، وأن المؤمنين هم الذين لا يحبون إلا الله ولا يبتغون قوة إلا من عند الله ولا يتبعون غير ما هو من أمر الله ونهيه فأولئك هم المخلصون لله دينا.
  وبان ايضا أن حب من حبه من حب الله واتباعه اتباع الله كالنبي وآله والعلماء بالله ، وكتاب الله وسنة نبيه وكل ما يذكر الله بوجه إخلاص لله ليس من الشرك المذموم في شئ ، والتقرب بحبه واتباعه تقرب إلى الله ، وتعظيمه بما يعد تعظيما من تقوى الله ، قال تعالى : ( وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) الحج ـ 32 ، والشعائر هي العلامات الدالة ، ولم يقيد بشئ مثل الصفا والمروة وغير ذلك ، فكل ما هو من شعائر الله وآياته وعلاماته المذكرة له فتعظيمه من تقوى الله ويشمله جميع الآيات الآمرة بالتقوى.
  نعم لا يخفى لذي مسكة أن إعطاء الاستقلال لهذه الشعائر والايات في قبال الله واعتقاد أنها تملك لنفسها أو غيرها نفعا أو ضرا أو موتا أو حيوة أو نشورا إخراج لها

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 408 _
  عن كونها شعائر وآيات وإدخال لها في حظيرة الالوهية وشرك بالله العظيم ، والعياذ بالله تعالى.
  قوله تعالى : ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العقاب ، ظاهر السياق أن قوله : إذ مفعول يرى ، وان قوله : ( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ ) إلى آخر الاية ، بيان للعذاب ، ولو للتمني ، والمعنى ليتهم يرون في الدنيا يوما يشاهدون فيه العذاب فيشاهدون أن القوة لله جميعا وقد اخطأوا في إعطاء شئ منه لاندادهم وأن الله شديد في عذابه ، واذاقته عاقبة هذا الخطأ فالمراد بالعذاب في الآية ـ على ما يبينه ما يتلوه ـ مشاهدتهم الخطأ في إتخاذهم اندادا يتوهم قوة فيه ومشاهدة عاقبة هذا الخطأ ويؤيده الآيتان التاليتان : إذ تبرأ الذين إتبعوا من الذين اتبعوا فلم يصل من المتبوعين إلى تابعيهم نفع كانوا يتوقعونه ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب فلم يبق تأثير لشئ دون الله ، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة ، وهو تمني الرجوع إلى الدنيا فنتبرأ منهم أي من الانداد المتبوعين في الدنيا كما تبرأوا منا في الاخرة ، كذلك يريهم الله أي الذين ظلموا باتخاذ الانداد أعمالهم ، وهي حبهم واتباعهم لهم في الدنيا حالكونها حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار.
  قوله تعالى : وما هم بخارجين من النار ، فيه حجة على القائلين بانقطاع العذاب من طريق الظواهر.
  ( بحث روائي )
  في الخصال والتوحيد والمعاني عن شريح بن هاني قال : إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال يا أمير المؤمنين أتقول إن الله واحد ؟ قال فحمل الناس عليه ، فقالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ؟ فقال أمير المؤمنين دعوه فإن الذي يريده الاعرابي هو الذي نريده من القوم ، ثم قال : ( عليه السلام ) يا أعرابي ، إن القول : في أن الله واحد على أربعة أقسام فوجهان منها لا يجوزان على الله تعالى ، ووجهان يثبتان فيه فأما اللذان لا يجوزان عليه ـ فقول القائل واحد يقصد به باب الاعداد فهذا لا يجوز لان ما لا ثاني له لا يدخل في باب الاعداد ، أما ترى أنه كفر من قال انه ثالث ثلثه ؟ وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لانه تشبيه وجل ربنا وتعالى عن ذلك ، وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 409 _
  فقول القائل هو واحد ليس له في الاشياء شبه كذلك ربنا ، وقول القائل إنه عزوجل أحدي المعنى يعني به : أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا.
  اقول : والوجهان اللذان أثبتهما ( عليه السلام ) كما ترى منطبق على ما ذكرناه في بيان قوله تعالى ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ) الآية.
  وقد تكرر في الخطب المروية عن علي ( عليه السلام ) والرضا ( عليه السلام ) وغيرهما من أئمة أهل البيت : قولهم : إنه واحد لا بالعدد الخطبة ، وهو ما مر من معنى صرافة ذاته الآبية عن العدد ، وفي دعاء الصحيفة الكاملة لك وحدانية العدد الدعاء ، ويحمل على الملكية أي أنت تملك وحدانية العدد دون الاتصاف فإن العقل والنقل ناهضان على أن وجوده سبحانه صرف لا يتثنى ولا يتكرر بذاته وحقيقته.
  وفي الكافي والاختصاص وتفسير العياشي عن الباقر ( عليه السلام ) : في قوله : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً ) الآية ـ في حديث ـ قال : هم والله يا جابر أئمة الظلمة وأشياعهم ، وفي رواية العياشي : والله يا جابر هم أئمة الظلم وأشياعهم.
  أقول : وقد اتضح معناه بما مر من البيان وتعبيره ( عليه السلام ) بأئمة الظلم لمكان قوله تعالى : ولو يرى الذين ظلموا ، فعد التابعين المتخذين للانداد ظلمة فيكون متبوعوهم أئمه الظلمة وأئمة الظلم.
  وفي الكافي عن الصادق ( عليه السلام ) : في قوله تعالى : ( كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ) الآية ، قال : هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلا ثم يموت فيدعه لمن يعمل في طاعة الله أو في معصية الله فإن عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرة ـ وقد كان المال له ـ وإن كان عمل به في معصية الله قواه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله.
  اقول : وروي هذا المعنى العياشي والصدوق والمفيد والطبرسي عن الباقر والصادق عليهما اسلام وهو ناظر إلى التوسعة في معنى الانداد وهو كذلك كما تقدم.
  ( بحث فلسفي)
  من المعاني الوجدانية التي عندنا معنى نسميه بالحب كما في موارد حب الغذاء

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 410 _
  والحب النساء وحب المال وحب الجاه وحب العلم ، هذه مصاديق خمسة لا نشك في وجودها فينا ، ولا نشك أنا نستعمل لفظ الحب فيها بمعنى واحد على سبيل الاشتراك المعنوي دون اللفظي ، ولا شك أن المصاديق مختلفة ، فهل هو اختلاف نوعي أو غير ذلك ؟
  إذا دققنا النظر في حب ما هو غذاء كالفاكهة مثلا وجدناه محبوبا عندنا لتعلقه بفعل القوة الغاذية ، ولو لا فعل هذه القوة وما يحوزه الانسان بها من الاستكمال البدني لم يكن محبوبا ولا تحقق حب ، فالحب بحسب الحقيقة بين القوة الغاذية وبين فعلها ، وما تجده عند الفعل من اللذة ، ولسنا نعني باللذة لذة الذائقة فإنها من خوادم الغاذية وليست نفسها ، بل الرضى الخاص الذي تجده القوة بفعلها ، ثم إذا اختبرنا حال حب النساء وجدنا الحب فيها يتعلق بالحقيقة بالوقاع ، وتعلقه بهن ثانيا وبالتبع ، كما كان حب الغذاء متعلقا بنفس الغذاء ثانيا وبالتبع ، والوقاع أثر القوة المودعة في الحيوان ، كما كان التغذي كذلك أثرا لقوة فيه ، ومن هنا يعلم أن هذين الحبين يرجعان إلى مرجع واحد وهو تعلق وجودي بين هاتين القوتين وبين فعلهما أي كمالهما الفعلي.
  ومن المحتمل حينئذ أن يكون الحب هو التعلق الخاص بهذين الموردين ولا يوجد في غير موردهما لكن الاختبار بالآثار يدفع ذلك ، فإن لهذا التعلق المسمى حبا أثرا في المتعلق ( اسم فاعل ) وهو حركة القوة وانجذابها نحو الفعل إذا فقدته وتحرجها عن تركه إذا وجدته ، وهاتان الخاصتان أو الخاصة الواحدة نجدها موجودة في مورد جميع القوى الادراكية التي لنا وأفعالها وإن قوتنا الباصرة والسامعة والحافظة والمتخيلة وغيرها من القوى والحواس الظاهرية والباطنية جميعها ـ سواء كانت فاعلة أو منفعلة ـ على هذه الصفة فجميعها تحب فعلها وتنجذب إليها وليس إلا لكون أفعالها كمالات لها يتم بها نقصها وحاجتها الطبيعية ، وعند ذلك يتضح الامر في حب المال وحب الجاه وحب العلم فإن الانسان يستكمل نوع استكمال بالمال والجاه والعلم.
  ومن هنا يستنتج أن الحب تعلق خاص وانجذاب مخصوص شعوري بين الانسان وبين كماله ، وقد أفاد التجارب الدقيق بالآثار والخواص أنه يوجد في الحيوان غير الانسان ، وقد تبين أن ذلك لكون المحب فاعلا أو منفعلا عما يحبه من الفعل والاثر ومتعلقا بتبعه بكل ما يتعلق به كما مر في حديث الاكل و الفاكهة ، وغير الحيوان أيضا

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 411 _
  كالحيوان إذا كان هناك استكمال أو إفاضة لكمال مع الشعور.
  ومن جهة أخرى لما كان الحب تعلقا وجوديا بين المحب و المحبوب كانت رابطة قائمة بينهما فلو كان المعلول الذي يتعلق به حب علته موجودا ذا شعور وجد حب علته في نفسه لو كان له نفس واستقلال جوهري.
  ويستنتج من جميع ما مر : اولا أن اللحب تعلق وجودي وانجذاب خاص بين العلة المكملة أو ما يشبهها وبين المعلول المستكمل أو ما يشبهه ، ومن هنا كنا نحب أفعالنا لاستكمالنا بها ونحب ما يتعلق به أفعالنا كغذاء نتغذى بها ، أو زوج نتمتع بها ، أو مال نتصرف فيه ، أو جاه نستفيد به ، أو منعم ينعم علينا ، أو معلم يعلمنا ، أو هاد يهدينا أو ناصر ينصرنا ، أو متعلم يتعلم منا ، أو خادم يخدمنا أو أي مطيع يطيعنا وينقاد لنا ، وهذه أقسام من الحب بعضها طبيعي وبعضها خيالي وبعضها عقلي.
  وثانيا : أن الحب ذو مراتب مختلفة من الشدة والضعف فإنه رابطة وجودية ـ والوجود مشكك في مراتبه ـ ومن المعلوم أن التعلق الوجودي بين العلة التامة ومعلولها ليس كالتعلق الكائن بين العلل الناقصة ومعلولاتها ، وأن الكمال الذي يتعلق بواسطته الحب مختلف من حيث كونه ضروريا أو غير ضروري ، ومن حيث كونه ماديا كالتغذي أو غير مادي كالعلم ، وبه يظهر بطلان القول باختصاصه بالماديات حتى ذكر بعضهم : أن أصله حب الغذاء ، وغيره ينحل إليه ، وذكر آخرون : أن الاصل في بابه حب الوقاع ، وغيره راجع إليه.
  وثالثا : أن الله سبحانه أهل للحب بأي جهة فرضت فإنه تعالى في نفسه موجود ذو كمال غير متناه وأي كمال فرض غيره فهو متناه ، والمتناهي متعلق الوجود بغير المتنا هي وهذا حب ذاتي مستحيل الارتفاع ، وهو تعالى خالق لنا منعم علينا بنعم غير متناهية العدة والمدة فنحبه كما نحب كل منعم لانعامه.
  ورابعا : أن الحب لما كانت رابطة وجودية ـ والروابط الوجودية غير خارجة الوجود عن وجود موضوعها ومن تنزلاته ـ أنتج ذلك أن كل شئ فهو يحب ذاته ، وقد مر أنه يحب ما يتعلق بما يحبه فيحب آثار وجوده ، ومن هنا يظهر أن الله سبحانه يحب خلقه لحب ذاته ، ويحب خلقه لقبولهم إنعامه عليهم ، ويحب خلقه لقبولهم هدايته.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 373 _
  والجرئة والحياء ، والغيرة والنصيحة ، والكرامة والتواضع ، وغيرها ، هي فروع الاخلاق الفاضلة المضبوطة في كتب الاخلاق ( وهاك شجرة تبين أصوللا وتفرع فروعها ) وعلم الاخلاق يبين حد كل واحد منها ويميزها من جانبيها في الافراط والتفريط ، ثم يبين أنها حسنة جميلة ثم يشير إلى كيفية اتخاذها ملكة في النفس من طريقي العلم والعمل أعنى الاذعان بنأها حسنة جميلة ، وتكرار العمل بها حتى تصير هيئة راسخة في النفس.
  مثاله أن يقال إن الجبن إنما يحصل من تمكن الخوف من النفس ، والخوف إنما يكون من أمر ممكن الوقوع وعدم الوقوع ، والمساوي الطرفين يقبح ترجيح أحد طرفيه على الآخر من غير مرجح والانسان العاقل لا ينبغي له ذلك فلا ينبغي للانسان أن يخاف.
  فإذا لقن الانسان نفسه هذا القول ثم كرر الاقدام والورود في المخاوف والمهاول زالت عنه رذيلة الخوف ، وهكذا الامر في غيره من الرذائل والفضائل.
  فهذا ما يقتضيه المسلك الاول على ما تقدم في البيان وخلاصته إصلاح النفس وتعديل ملكاتها لغرض الصفة المحمودة والثناء الجميل.
  ونظيره ما يقتضيه المسلك الثاني ، وهو مسلك الانبياء وأرباب الشرائع ، وإنما التفاوت من حيث الغرض والغاية ، فإن غاية الاستكمال الخلقي في المسلك الاول الفضيلة المحمودة عند الناس والثناء الجميل منهم ، وغايته في المسلك الثاني السعادة الحقيقية للانسان وهو استكمال الايمان بالله وآياته ، والخبر الاخروي وهي سعادة وكمال في الواقع لا عند الناس فقط ، ومع ذلك فالمسلكان يشتركان في أن الغاية القصوى والغرض فيها الفضيلة الانسانية من حيث العمل.
  وأما المسلك الثالث المتقدم بيانه فيفارق الاولين بأن الغرض فيه ابتغاء وجه الله لا اقتناء الفضيلة الانسانية ولذلك ربما اختلف المقاصد التي فيه مع ما في المسلكين الاولين فربما كان الاعتدال الخلقي فيه غير الاعتدال الذي فيهما وعلى هذا القياس ، بيان ذلك أن العبد إذا أخذ إيمانه في الاشتداد والازدياد انجذبت نفسه إلى التفكير في ناحية

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 412 _
  وخامسا : أن لزوم الشعور والعلم في مورد الحب إنما هو بحسب المصداق وإلا فالتعلق الوجودي الذي هو حقيقة الحب لا يتوقف عليه من حيث هو ، ومن هنا يظهر أن القوى والمبادي الطبيعية غير الشاعرة لها حب بآثارها وأفعالها.
  وسادسا : يستنتج مما مر أن الحب حقيقة سارية في الموجودات.
  ( بحث فلسفي آخر )
  مسألة انقطاع العذاب والخلود مما اختلف فيه أنظار الباحثين من حيث النظر العقلي ومن جهة الظواهر اللفظية.
  والذي يمكن أن يقال : أما من جهة الظواهر ، فالكتاب نص في الخلود ، قال تعالى : ( وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) الآية والسنة من طرق أئمة أهل البيت مستفيضة فيه ، وقد ورد من غير طريقهم أخبار في الانقطاع ونفى الخلود ، وهي مطروحة بمخالفة الكتاب.
  وأما من جهة العقل فقد ذكرنا فيما تقدم من البحث في ذيل قوله تعالى : ( وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ) البقرة ـ 48 ، أن الاستدلال على خصوصيات ما جاء به الشرع في المعاد بالمقدمات الكلية العقلية غير مقدور لنا لان العقل لا ينال الجزئيات ، والسبيل فيه تصديق ما جاء به النبي الصادق من طريق الوحي للبرهان على صدقه.
  وأما النعمة والعذاب العقليان الطارئان على النفس من جهة تجردها وتخلقها بأخلاق وملكات فاضلة أو ردية أو اكتسائها وتلبسها بأحوال حسنة جميلة أو قبيحة فقد عرفت أن هذه الاحوال والملكات تظهر للنفس بما لها من صورة القبح أو الحسن فتنعم بما هي حسنة منها إن كانت ذاتها سعيدة وتعذب بما هي قبيحة مشوهة منها ، سواء كانت ذاتها سعيدة أو شقية.
  وأن ما كانت من هذه الصور صورا غير راسخة للنفس وغير ملائمة لذاتها فإنها ستزول لان القسر لا يكون دائميا ولا أكثريا ، وهذه النفس هي النفس السعيدة ذاتا وعليها هيآت شقية ردية ممكنة الزوال عنها كالنفس المؤمنة المجرمة ، وهذا كله ظاهر.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 413 _
  واما الهيآت الردية التي رسخت في النفس حتى صارت صورا أو كالصور الجديدة تعطي للشئ نوعية جديدة كالانسان البخيل الذي صار البخل صورة لانسانيتة كما صار النطق لحيوانيته الصائرة به نوعا جديدا تحت الحيوان فالانسان البخيل ايضا نوع جديد تحت الانسان ، فمن المعلوم ان هذا النوع نوع مجرد في نفسه دائمي الوجود ، وجميع ما كان يصدر عنه بالقسر حال عدم الرسوخ فيعذب به ويذوق وبال أمره فهي تصدر عن هذا النوع بإذن الله من غير قسر إلا أنها لما كانت صادرة عن نوعيته من غير قسر فهي دائمة من غير زوال بخلاف ما لو كانت حاصلة بالقسر ، ومثل هذا الانسان المعذب بلوازم ملكاته من وجه مثل من إبتلى بمرض الماليخوليا أو الكابوس المستمر فإنه لا يزال يصدر عن قوة تخيله صور هائلة أو مشوهة يعذب بها وهو نفسه هو الذي يوجدها من غير قسر قاسر ولو لم تكن ملائمة لطبعه المريض ما أوجدها فهو وإن لم تكن متألما من حيث إنتهاء الصدور إليه نفسه لكنه معذب بها من حيث أن العذاب ما يفر منه الانسان إذا لم يبتل به بعد ويحب التخلص عنه إذا ابتلى به وهذا الحد يصدق على الامور المشوهة والصور غير الجميلة التي تستقبل الانسان الشقي في دار آخرته ، فقد بان أن العذاب خالد غير منقطع عن الانسان الشقي الذي لذاته شقوة لازمة.
  وقد استشكل هيهنا بإشكالات واضحة السقوط بينة الفساد : مثل أن الله سبحانه ذو رحمة واسعة غير متناهية فكيف يسع رحمته أن يخلق من مصيره إلى عذاب خالد لا يقوم له شئ ؟
  ومثل أن العذاب إنما يكون عذابا إذا لم يلائم الطبع فيكون قسرا ولا معنى للقسر الدائم فكيف يصح وجود عذاب دائم ؟.
  ومثل أن العبد لم يذنب إلا ذنبا منقطع الاخر فكيف يجازى بعذاب دائم ؟
  ومثل أن أهل الشقاء لا يقصر خدمتهم لنظام التكوين عن خدمات أهل السعادة ولولاهم لم تتحقق سعادة لسعيد فما هو الموجب لوقوعهم في عذاب مخلد ؟
  ومثل أن العذاب للمتخلف عن أوامر الله ونواهيه انتقام ولا يكون الانتقام إلا لجبر النقص الذي أورده العاصي الظالم على المنتقم المقتدر ، ولا يجوز ذلك على الله تعالى فهو الغني المطلق فكيف يجوز منه العذاب وخاصة العذاب المخلد ؟ .

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 414 _
  فهذه وأمثالها وجوه من الاشكال اوردوها على خلود العذاب وعدم انقطاعه ، وأنت بالاحاطة بما بيناه من معنى خلود العذاب تعرف أنها ساقطة من رأس ، فإن العذاب الخالد أثر وخاصة لصورة الشقاء الذي لزمت الانسان الشقي فتصور ذاته بها بعد تمامية الاستعداد الشديد الذي حصل في ذاته القابلة لها بواسطة الاحوال العارضة لها المنتهية إلى اختياره ، واشتداد الاستعداد التام هو الذي يوجب في جميع الحوادث إفاضة الصورة المناسبة لسنخ الاستعداد ، فكما لا يجوز السؤال عن علة تحقق الافعال الانسانية بعد ورود الصورة الانسانية على المادة لوجود العلة التي هي الصورة الانسانية كذلك لا معنى للسؤال عن لمية ترتب آثار الشقاء اللازم ، ومنها العذاب المخلد بعد تحقق صورة الشقاء اللازم ، المنتهية إلى الاختيار فإنها آثارها وخواصها فبطلت السؤالات جميعا ، فهذا هو الجواب الاجمالي عنها.
  وأما تفصيلا : فالجواب عن الاول : أن الرحمة فيه تعالى ليس بمعنى رقة القلب والاشفاق والتاثر الباطني فإنها تستلزم المادة ـ تعالى عن ذلك ـ ، بل معناها العطية والافاضة لما يناسب الاستعداد التام الحاصل في القابل ، فإن المستعد بالاستعداد التام الشديد يحب ما يستعد له ويطلبه ويسئله بلسان استعداده فيفاض عليه ما يطلبه ويسئله ، والرحمة رحمتان : رحمة عامة ، وهي أعطاء ما يستعد له الشئ ويشتاقه في صراط الوجود والكينونة ، ورحمة خاصة ، وهي إعطاء ما يستعد الشئ في صراط الهداية إلى التوحيد وسعادة القرب وإعطاء صورة الشقاء اللازم الذي أثره العذاب الدائم للانسان المستعد له باستعداده الشديد لا ينافي الرحمة العامة بل هو منها ، وأما الرحمة الخاصة فلا معنى لشمولها لمن هو خارج عن صراطها ، فقول القائل : إن العذاب الدائم ينافي الرحمة إن أراد به الرحمة العامه فليس كذلك بل هو من الرحمة العامة ، وإن إراد به الرحمة الخاصة فليس كذلك لكونه ليس موردا لها ، على أن الاشكال لو تم لجرى في العذاب المنقطع أيضا حتى أنواع العذاب الدنيوي ، وهو ظاهر.
  والجواب عن الثاني : أنه ينبغي أن يحرر معنى عدم ملائمة الطبع فإنه تارة بمعنى عدم السنخية بين الموضوع والاثر الموجود عنده وهو الفعل القسري الذي يصدر

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 415 _
  عن قسر القاسر ويقابله الاثر الملائم الذي يصدر عن طبع الشئ إذا اقترن به آفات ثم رسخت فيه فصارت صورة في الشئ وعاد الشئ يطلبه بهذا الوجود وهو في عين الحال لا يحبه كما مثلنا فيه من مثال الماليخوليائي فهذه الاثار ملائمة لذاته من حيث صدورها عن طبعه الشقي الخبيث والآثار الصادرة عن الطباع ملائمة ، وهي بعينها عذاب لصدق حد العذاب عليها لكون الشئ لا يرتضيها فهي غير مرضية من حيث الذوق والوجدان في عين كونها مرضية من حيث الصدور.
  والجواب عن الثالث : أن العذاب في الحقيقة ترتب أثر غير مرضي على موضوعه الثابت حقيقة ، وهو صورة الشقاء فهذا الاثر معلول الصورة الحاصلة بعد تحقق علل معدة ، وهي المخالفات المحدودة ، وليس معلولا لتلك العلل المعدة المحدودة حتى يلزم تأثير المتناهي أثرا غير متناه وهو محال ونظيره أن عللا معدة ومقربات معدودة محدودة أوجبت أن تتصور المادة بالصورة الانسانية فيصير إنسانا يصدر عنه آثار الانسانية المعلولة للصورة المذكورة ، ولا معنى لان يسئل ويقال : أن الآثار الانسانية الصادرة عن الانسان بعد الموت صدورا دائميا سرمديا لحصول معدات محدودة مقطوعة الامر للمادة فكيف صارت مجموع منقطع الآخر من العلل سببا لصدور الآثار المذكورة وبقائها مع الانسان دائما لان علتها الفاعلة ـ وهي الصورة الانسانية موجودة معها دائما على الفرض ، فكما لا معنى لهذا السؤال لا معنى لذلك أيضا.
  والجواب عن الرابع : أن الخدمة والعبودية أيضا مثل الرحمة على قسمين : عبودية عامة ، وهو الخضوع والانفعال الوجودي عن مبدء الوجود ، وعبودية خاصة وهو الخضوع والانقياد في صراط الهداية إلى التوحيد ، ولكل من القسمين جزاء يناسبه وأثر يترتب عليه ويخصه من الرحمة ، فالعبودية العامة في نظام التكوين جزائه الرحمة العامة ، والنعمة الدائمة والعذاب الدائم كلاهما من الرحمة العامة ، والعبودية الخاصة جزائه الرحمة الخاصة ، وهي النعمة والجنة وهو ظاهر ، على أن هذا الاشكال لو تم لورد في مورد العذاب المنقطع الاخروي بل الدنيوي أيضا.
  والجواب عن الخامس : أن العذاب الدائم مستند إلى صورة الشقاء الذي في الانسان كما عرفت ، وإلى الله سبحانه بالمعنى الذي يقال : في كل موجود : إنه مستند إليه تعالى لا بمعنى الانتقام وتشفي الصدر المستحيل عليه تعالى ، نعم الانتقام بمعنى