وعلى غير دقة لكن توفر الوسائل وقرب الروابط اليوم سهل الامر كل التسهيل ، فلم تزل الحاجة قائمة على ساق ، حتى قام الشيخ الفاضل البارع الشهير ، بالسردار الكابلي ، ـ رحمة الله عليه ـ في هذه الاواخر بهذا الشأن فاستخرج الانحراف القبلي بالاصول الحديثة ، وعمل فيه رسالته المعروفة ، بتحفة الاجلة في معرفة القبلة ، وهي رسالة ظريفة بين فيها طريق عمل استخراج القبلة بالبيان الرياضي ، ووضع فيها جداول لتعيين قبلة البلاد.
  ومن ألطف ما وفق له في سعيه ـ شكر الله سعيه ـ ما أظهر به كرامة باهرة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في محرابه المحفوظ في مسجد النبي بالمدينة 25. 75.20
  وذلك : أن المدينة على ما حاسبه القدماء كانت ذات عرض 25 درجة وطول 75 درجة 20 دقيقة ، وكانت لا توافقه قبلة محراب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مسجده ، لذلك كان العلماء لا يزالون باحثين في امر قبله المحراب وربما ذكروا في انحرافه وجوها لا تصدقها حقيقة الامر لكنه ـ رحمه الله ـ اوضح ان المدينة على عرض 24 درجة 57 دقيقة وطول 39 درجة 59 دقيقة وانحراف ، درجة 45 دقيقة تقريبا ، وانطبق على ذلك قبلة المحراب أحسن الانطباق وبدت بذلك كرامة باهرة للنبي في قبلته التي وجه وجهه إليها وهو في الصلوة ، وذكران جبرئيل أخذ بيده وحول وجهه إلى الكعبة ، صدق الله ورسوله.
  ثم استخرج بعده المهندس الفاضل الزعيم عبد الرزاق البغائري رحمة الله عليه قبلة أكثر بقاع الارض ونشر فيها رسالة في معرفة القبلة ، وهي جداول يذكر فيها ألف وخمسمأه بقعة من بقاع الارض وبذلك تمت النعمة في تشخيص القبلة.
  وأما الجهة الثانية : وهي الجهة المغناطيسية ، فإنهم وجدوا أن القطبين المغناطيسيين في الكرة الارضية ، غير منطبقين على القطبين الجغرافيين منها ، فإن القطب المغناطيسي الشمالي مثلا على أنه متغير بمرور الزمان ، بينه وبين القطب الجغرافيائي الشمالي ما يقرب من ألف ميل ، وعلى هذا فالحك لا يشخص القطب الجنوبي الجغرافي بعينه ، بل ربما بلغ التفاوت إلى ما لا يتسامح فيه ، وقد أنهض هذا المهندس الرياضي الفاضل الزعيم حسين علي رزم آرا في هذه الايام وهي سنة 1332 هجرية شمسية على حل هذه المعضلة ، واستخراج مقدار التفاوت بين القطبين الجغرافي والمغناطيسي بحسب النقاط المختلفة ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 337 _

  وتشخيص انحراف القبلة من القطب المغناطيسي فيما يقرب من ألف بقعة من بقاع الارض ، واختراع حك يتضمن التقريب القريب من التحقيق في تشخيص القبلة ، وها هو اليوم دائر معمول ـ شكر الله سعيه ـ.
  ( بحث اجتماعي )
  لمتأمل في شئون الاجتماع الانساني ، والناظر في الخواص والآثار التي يتعقبها هذا الامر المسمى بالاجتماع من جهة أنه اجتماع لا يشك في أن هذا الاجتماع إنما كونة ثم شعبته وبسطته إلى شعبه وأطرافه الطبيعة الانسانية ، لما استشعرت بإلهام من الله سبحانه بجهات حاجتها في البقاء والاستكمال إلى أفعال اجتماعية فتلتجئ إلى الاجتماع وتلزمها لتوفق إلى أفعالها وحركاتها وسكناتها في مهد تربية الاجتماع وبمعونته ، ثم استشعرت والهمت بعلوم ( صور ذهنية ) وإدراكات توقعها على المادة وعلى حوائجها فيها وعلى أفعالها ، وجهات أفعالها تكون هي الوصلة والرابطة بينها وبين أفعالها وحوائجها كاعتقاد الحسن والقبح ، وما يجب ، وما ينبغي ، وسائر الاصول الاجتماعية ، من الرئاسة والمرئوسية والملك والاختصاص ، والمعاملات المشتركة والمختصة ، وسائر القواعد والنواميس العمومية والآداب والرسوم القومية التي لا تخلو عن التحول والاختلاف باختلاف الاقوام والمناطق و الاعصار ، فجميع هذه المعاني والقواعد المستقرة عليها من صنع الطبيعة الانسانية بإلهام من الله سبحانه ، تلطفت بها طبيعة الانسان ، لتمثل بها ما تعتقدها وتريدها من المعاني في الخارج ، ثم تتحرك إليها بالعمل ، والفعل والترك ، والاستكمال.
  وتوجه العبادي إلى الله سبحانه ، وهو المنزه عن شئون المادة ، والمقدس عن تعلق الحس المادي إذا اريد أن يتجاوز حد القلب والضمير ، وتنزل على موطن الافعال ـ وهي لا تدور إلا بين الماديات ـ لم يكن في ذلك بد ومخلص من أن يكون على سبيل التمثيل بأن يلاحظ التوجهات القلبية على اختلاف خصوصياتها ، ثم تمثل في الفعل بما يناسبها من هيئات الافعال وأشكالها ، كالسجدة يراد بها التذلل ، والركوع يراد به

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 338 _

  التعظيم ، والطواف يراد به تفدية النفس ، والقيام يراد به التكبير ، والوضوء والغسل يراد بهما الطهارة للحضور ونحو ذلك ، ولا شك أن التوجه إلى المعبود ، واستقباله من العبد في عبوديته روح عبادته ، التي لولاها لم يكن لها حيوة ولا كينونة ، وإلى تمثيله تحتاج العبادة في كمالها وثباتها واستقرار تحققها.
  وقد كان الوثنيون ، وعبدة الكواكب وسائر الاجسام من الانسان وغيره ستقبلون معبوداتهم وآلهتهم ، ويتوجهون إليهم بالابدان في أمكنة متقاربة.
  لكن دين الانبياء ونخص بالذكر من بينها دين الاسلام الذي يصدقها جميعا وضع الكعبة قبلة ، وأمر باستقبالها في الصلوة ، التي لا يعذر فيها مسلم ، أينما كان من أقطار الارض وآفاقها ، ونهي عن استقبالها واستدبارها في حالات وندب إلى ذلك في أخرى فاحتفظ على قلب الانسان بالتوجه إلى بيت الله ، وأن لا ينسى ربه في خلوته وجلوته ، وقيامه وقعوده ، ومنامه ويقظته ، ونسكه وعبادته حتى في أخس حالاته وأرديها فهذا بالنظر إلى الفرد.
  وأما بالنظر إلى الاجتماع ، فالامر أعجب والاثر أجلى وأوقع فقد جمع الناس على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم على التوجه إلى نقطة واحدة ، يمثل بذلك وحدتهم الفكرية وارتباط جامعتهم ، والتيام قلوبهم ، وهذا ألطف روح يمكن أن تنفذ في جميع شئون الافراد في حيويتها المادية والمعنوية تعطي من الاجتماع إرقاه ، ومن الوحدة أوفاها وأقويها ، خص الله تعالى بها عباده المسلمين ، وحفظ به وحدة دينهم ، وشوكة جمعهم ، حتى بعد أن تحزبوا أحزابا ، وافترقوا مذاهب وطرائق قددا ، لا يجتمع منهم اثنان على رأي ، نشكر الله تعالى على آلاله.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 339 _

  ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ) ـ 152 .
  ( بيان )
  لما امتن الله تعالى على النبي والمسلمين ، بإرسال النبي الكريم منهم إليهم نعمة لا تقدر بقدر ومنحه على منحة ـ وهو ذكر منه لهم ـ إذ لم ينسهم في هدايتهم إلى مستقيم الصراط ، وسوقهم إلى أقصى الكمال ، وزيادة على ذلك ، وهو جعل القبلة ، الذي فيه كمال دينهم ، وتوحيد عبادتهم ، وتقويم فضيلتهم الدينية والاجتماعية فرع على ذلك دعوتهم إلى ذكره وشكره ، ليذكرهم بنعمته على ذكرهم إياه بعبوديته وطاعته ، ويزيدهم على شكرهم لنعمته وعدم كفرانهم ، وقد قال تعالى : ( وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ) الكهف ـ 24 ، وقال تعالى : ( لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ) إبراهيم ـ 7 ، والآيتان جميعا نازلتان قبل آيات القبلة من سورة البقرة.
  ثم إن الذكر ربما قابل الغفلة كقوله تعالى ( وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا ) الكهف ـ 28 ، وهي انتفاء العلم بالعلم ، مع وجود أصل العلم ، فالذكر خلافه ، وهو العلم بالعلم ، وربما قابل النسيان وهو زوال صورة العلم عن خزانة الذهن ، فالذكر خلافه ، ومنه قوله تعالى ( وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) الاية ، وهو حينئذ كالنسيان معنى ذو آثار وخواص تتفرع عليه ، ولذلك ربما أطلق الذكر كالنسيان في موارد تتحقق فيها آثارهما وإن لم تتحقق أنفسهما ، فإنك أذا لم تنصر صديقك ـ وأنت تعلم حاجته إلى نصرك فقد نسيته ، والحال أنك تذكره ، وكذلك الذكر.
  والظاهر أن إطلاق الذكر على الذكر اللفظي من هذا القبيل ، فإن التكلم عن الشئ من آثار ذكره قلبا ، قال تعالى ( قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا ) الكهف ـ 83.
  ونظائره كثيرة ، ولو كان الذكر اللفظي أيضا ذكرا حقيقة فهو من مراتب الذكر ، لانه مقصور عليه ومنحصر فيه ، وبالجملة : الذكر له مراتب كما قال تعالى : ( أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) الرعد ـ 28 ، وقال ( وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ) الاعراف ـ 205 ، وقال تعالى ( فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 340 _

  ذِكْرًا ) البقرة ـ 200 ، فالشدة إنما يتصف به المعنى دون اللفظ ، وقال تعالى ( وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ) الكهف ـ 24 ، وذيل هذه الآية تدل على الامر برجاء ما هو أعلى منزلة مما هو فيه ، فيؤل المعنى إلى أنك إذا تنزلت من مرتبة من ذكره إلى مرتبة هي دونها ، وهو النسيان ، فاذكر ربك وارج بذلك ما هو أقرب طريقا وأعلى منزلة ، فينتج أن الذكر القلبي ذو مراتب في نفسه ، وبذلك يتبين صحة قول القائل : أن الذكر حضور المعنى عند النفس ، فان الحضور ذو مراتب .
  ولو كان لقوله تعالى ، فاذكروني ـ وهو فعل متعلق بياء المتكلم حقيقة من دون تجوز أفاد ذلك ، أن للانسان سنخا آخر من العلم غير هذا العلم المعهود عندنا الذي هو حصول صورة المعلوم ومفهومه عند العالم ، إذ كلما فرض من هذا القبيل فهو تحديد وتوصيف للمعلوم من العالم ، وقد تقدست ساحته سبحانه عن توصيف الواصفين ، قال تعالى ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافات ـ 160 ، وقال : ( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) طه ـ 110 ، وسيجئ بعض ما يتعلق بالمقام في الكلام على الآيتين إنشاء الله.
  ( بحث روائي )
  تكاثرت الاخبار في فضل الذكر من طرق العامة والخاصة ، فقد روي : بطرق مختلفة أن ذكر الله حسن على كل حال.
  وفي عدة الداعي قال : وروي : أن رسول الله قد خرج على أصحابه ، فقال : ارتعوا في رياض الجنة ، قالوا : يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ قال : مجالس الذكر اغدوا وروحوا واذكروا ، ومن كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده ، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد الله من نفسه ، واعلموا : أن خير أعمالكم عند مليككم وأزكاها وأرفعها في درجاتكم ، وخير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى ، فانه تعالى أخبر عن نفسه فقال : أنا جليس من ذكرني ، وقال تعالى : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ )بنعمتي ، اذكروني بالطاعة والعبادة أذكركم بالنعم والاحسان والراحة والرضوان.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 341 _
  وفي المحاسن ودعوات الراوندي عن الصادق ( عليه السلام ) قال : ان الله تبارك وتعالى يقول : من شغل بذكري عن مسئلتي ، اعطيه افضل ما اعطي من سئلني.
  وفي المعاني عن الحسين البزاز قال : قال : لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) ألا احدثك باشد ما فرض الله على خلقة ؟ قلت : بلى قال ، إنصاف الناس من نفسك ، ومواساتك لاخيك ، وذكر الله في كل موطن ، أما إني لا اقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر ، وان كان هذا من ذاك ، ولكن ذكر الله في كل موطن ، إذا هجمت على طاعته أو معصيته.
  اقول : وهذا المعنى مروي بطرق كثيرة عن النبي وأهل بيته ( عليه السلام ) وفي بعضها وهو قول الله : ( الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ) الآية.
  وفي عدة الداعي عن النبي ، قال قال سبحانه : إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي ، نقلت شهوته في مسئلتي ومناجاتي ، فإذا كان عبدي كذلك وأراد ان يسهو حلت بينه وبين أن يسهو ، أولئك أوليائي ، حقا ، أولئك الابطال حقا ، أولئك الذين إذا اردت أن أهلك أهل الارض عقوبة زويتها عنهم من أجل أولئك الابطال ، وفي المحاسن عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قال الله تعالى : ابن آدم اذكرني في نفسك اذكرك في نفسي ، ابن آدم اذكرني في خلاء أذكرك في خلاء ، اذكرني في ملا أذكرك في ملاء خير من ملائك ، وقال : ما من عبد يذكر الله في ملا من الناس الا ذكره الله في ملا من الملائكة.
  أقول : وقد روي هذا المعنى بطرق كثيرة في كتب الفريقين.
  وفي الدر المنثور أخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن إبن مسعود قال : قال : رسول الله ، من أعطى أربعا أعطي أربعا ، وتفسير ذلك في في كتاب الله من أعطي الذكر ذكره الله ، لان الله يقول : اذكروني اذكركم ، ومن اعطى الدعاء اعطي الاجابة ، لان الله يقول : ادعوني استجب لكم ، ومن اعطي الشكر أعطي الزيادة ، لان الله يقول : لئن شكرتم لازيدنكم ، ومن اعطي الاستغفار اعطي المغفرة لان الله يقول : استغفروا ربكم إنه كان غفارا.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 342 _
  وفي الدر المنثور أيضا أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في شعب الايمان عن خالد بن ابي عمران ، قال : قال : رسول الله ، من أطاع الله فقد ذكر الله ، وان قلت صلوته وصيامه وتلاوته للقرآن ، ومن عصى الله فقد نسي الله ، وإن كثرت صلوته وصيامه وتلاوته للقرآن.
  اقول : في الحديث إشارة إلى ان المعصية لا تتحقق من العبد إلا بالغفلة والنسيان فإن الانسان لو ذكر ما حقيقة معصيته وما لها من الاثر لم يقدم على معصيته ، حتى ان من يعصي الله ولا يبالي إذا ذكر عند ذلك بالله ، ولا يعتني بمقام ربه هو طاغ جاهل بمقام ربه وعلو كبريائه وكيفية إحاطته ، وإلى ذلك تشير ايضا رواية اخرى ، رواها الدر المنثور ، عن أبي هند الداري ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال الله : اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ومن ذكرني ـ وهو مطيع ـ فحق علي أن اذكره بمغفرتي ، ومن ذكرني ـ وهو عاص ـ فحق علي أن أذكره بمقت الحديث ، وما اشتمل عليه هذا الحديث من الذكر عند المعصية هو الذي تسميه الآية وسائر الاخبار بالنسيان لعدم ترتب آثار الذكر عليه ، وللكلام بقايا سيجئ شطر منها.
  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) ـ 153 ، ( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ) ـ 154 ، ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ) ـ 155 ، ( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ) ـ 156 ، ( أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) ـ 157.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 343 _
  ( بيان )
  خمس آيات متحدة السياق ، متسقة الجمل ، ملتئمة المعاني ، يسوق أولها إلى آخرها ويرجع آخرها إلى أولها ، وهذا يكشف عن كونها نازلة دفعة غير متفرقة وسياقها ينادي بأنها نزلت قبيل الامر بالقتال وتشريع حكم الجهاد ، ففيه ذكر من بلا سيقبل على المؤمنين ، ومصيبة ستصيبهم ، ولا كل بلاء ومصيب ، بل البلاء العمومي الذي ليس بعادي الوقوع مستمر الحدوث ، فإن نوع الانسان كسائر الانواع الموجودة في هذه النشأة الطبيعية لا يخلو في أفراده من حوادث ، جزئية يختل بها نظام الفرد في حيوته الشخصية : من موت ومرض وخوف وجوع وغم وحرمان ، سنة الله التي جرت في عباده وخلقه ، فالدار دار التزاحم ، والنشأة نشأة التبدل والتحول ، ولن تجد لسنة الله تحويلا ولن تجد لسنة الله تبديلا.
  والبلاء الفردي وإن كان شاقا على الشخص المبتلى بذلك ، مكروها ، لكن ليس مهولا مهيبا تلك المهابة التى تترائى بها البلايا والمحن العامة ، فإن الفرد يستمد في قوة تعقله وعزمه وثبات نفسه من قوى سائر الافراد ، وأما البلايا العامة الشاملة فإنها تسلب الشعور العمومي وجملة الرأي والحزم والتدبير من الهيئة ، المجتمعة ، ويختل به نظام الحيوة منهم ، فيتضاعف الخوف وتتراكم الوحشة ويضطرب عندها العقل والشعور وتبطل العزيمة والثبات ، فالبلاء العام والمحنة الشاملة أشق وأمر ، وهو الذي تلوح له الآيات.
  ولا كل بلاء عام كالوباء والقحط بل بلاء عام قربتهم منها أنفسهم ، فإنهم أخذوا دين التوحيد ، وأجابوا دعوة الحق ، وتخالفهم فيه الدنيا وخاصة قومهم ، وما لهؤلاء هم إلا إطفاء نور الله ، واستيصال كلمة العدل ، وإبطال دعوة الحق ، ولا وسيلة تحسم مادة النزاع وتقطع الخلاف غير القتال ، فسائر الوسائل كإقامة الحجة وبث الفتنة ، وإلقاء الوسوسة والريبة وغيرها صارت بعد عقيمة غير منتجة ، فالحجة مع النبي والوسوسة والفتنة والدسيسة ما كانت تؤثر أثرا تطمئن إليه أعداء الدين فلم يكن عندهم وسيلة إلا القتال والاستعانة به على سد سبيل الحق ، وإطفاء نور الدين اللامع المشرق ، هذا من جانب الكفر ، والامر من جانب الدين أوضح ، فلم يكن إلى نشر كلمة التوحيد ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 344 _
  وبث دين الحق ، وحكم العدل ، وقطع دابر الباطل وسيلة إلا القتال ، فإن التجارب الممتد من لدن كان الانسان نازلا فيهذه الدار يعطي أن الحق إنما يؤثر إذا أميط الباطل ، ولن يماط إلا بضرب من إعمال القدرة والقوة.
  وبالجملة ففي الآيات تلويح إلى إقبال هذه المحنة بذكر القتل في سبيل الله ، وتوصيفه بوصف لا يبقى فيه معه جهي مكروهة ، ولا صفة سوء ، وهو أنه ليس بموت بل حيوة ، وأي حيوة !
  فالآيات تستنهض المؤمنين على القتال ، وتخبرهم أن أمامهم بلاء ومحنة لن تنالوا مدارج المعالي ، وصلوة ربهم ورحمته ، والاهتداء بهدايته إلا بالصبر عليها ، وتحمل مشاقها ، ويعلمهم ما يستعينون به عليها ، وهو الصبر والصلوة ، أما الصبر : فهو وحده الوقاية من الجزع واختلال أمر التدبير ، وأما الصلوة : فهي توجه إلى الرب ، وانقطاع إلى من بيده الامر ، وأن القوة لله جميعا.
  قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إستعينوا بالصبر والصلوة إن الله مع الصابرين ) الآية ، قد تقدم جملة من الكلام في الصبر والصلوة في تفسير قوله : ( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ) البقرة ـ 45 ، والصبر : من أعظم الملكات والاحوال التي يمدحها القرآن ، ويكرر الامر به حتى بلغ قريبا من سبعين موضعا من القرآن حتى قيل فيه : ( إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) لقمان ـ 17 ، وقيل : ( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) فصلت ـ 35 ، وقيل : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الزمر ـ 10.
  والصلوة : من أعظم العبادات التي يحث عليها في القرآن حتى قيل فيها : ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ) العنكبوت ـ 45 ، وما أوصى الله في كتابه بوصايا إلا كانت الصلوة رأسها وأولها.
  ثم وصف سبحانه الصبر بأن الله مع الصابرين المتصفين بالصبر ، وإنما لم يصف الصلوة ، كما في قوله تعالى : ( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ) الآية ، لان المقام في هذه الآيات ، مقام ملاقات الاهوال ومقارعة الابطال ، فالاهتمام بأمر الصبر أنسب بخلاف الاية السابقة ، فلذلك قيل : إن الله مع الصابرين ، وهذه المعية غير المعية

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 345 _
  التي يدل عليه قوله تعالى : ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ) الحديد ـ 4 ، فإنها معية الاحاطة والقيمومة ، بخلاف المعية مع الصابرين ، فإنها معية إعانة فالصبر مفتاح الفرج.
  قوله تعالى : ( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ) الاية ، ربما يقال : إن الخطاب مع المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الاخر وأذعنوا بالحيوة الاخرة ، ولا يتصور منهم القول ببطلان الانسان بالموت ، بعد ما أجابوا دعوة الحق وسمعوا شيئا كثيرا من الايات الناطقة بالمعاد ، مضافا إلى أن الاية إنما تثبت الحيوة بعد الموت في جماعة مخصوصين ، وهم الشهداء المقتولون في سبيل الله ، في مقابل غيرهم من المؤمنين ، وجميع الكفار ، مع أن حكم الحيوة بعد الموت عام شامل للجميع فالمراد بالحيوة بقاء الاسم ، والذكر الجميل على مر الدهور ، وبذلك فسره جمع من المفسرين.
  ويرده أولا : أن كون هذه حيوة إنما هو في الوهم فقط دون الخارج ، فهي حيوة تخيلية ليس لها في الحقيقة إلا الاسم ، ومثل هذا الموضوع الوهمي لا يليق بكلامه ، وهو تعالى يدعو إلى الحق ، ويقول : ( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ) يونس ـ 32 ، وأما الذي سئله إبراهيم في قوله ( وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ) الشعراء ـ 84 ، فإنما يريد به بقاء دعوته الحقة ، ولسانه الصادق بعده ، لا حسن ثنائه وجميل ذكره بعده فحسب.
  نعم هذا القول الباطل ، والوهم الكاذب إنما يليق بحال المادين ، وأصحاب الطبيعة ، فإنهم اعتقدوا : مادية النفوس وبطلانها بالموت ونفوا الحيوة الآخرة ثم أحسوا بإحتياج الانسان بالفطرة إلى القول ببقاء النفوس وتأثرها بالسعادة والشقاء ، بعد موتها في معالي أمور ، لا تخلو في الارتقاء إليها من التفدية والتضحية ، لا سيما في عظائم العزائم التي يموت ويقتل فيها أقوام ليحيي ويعيش آخرون ، ولو كان كل من مات فقد فات لم يكن داع للانسان ( وخاصة إذا اعتقد بالموت والفوت ) أن يبطل ذاته ليبقى ذات آخرين ، ولا باعث له أن يحرم على نفسه لذة الاستمتاع من جميع ما يقدر عليه بالجور ليتمتع آخرون بالعدل ، فالعاقل لا يعطي شيئا إلا ويأخذ بدله وأما الاعطاء من غير بدل ، والترك من غير أخذ ، كالموت في سبيل حيوة الغير ، والحرمان في طريق

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 346 _
  تمتع الغير فالفطرة الانسانية تأباه ، فلما استشعروا بذلك دعاهم جبر هذا النقص إلى وضع هذه الاوهام الكاذبة ، التي ليس لها موطن إلا عرصة الخيال وحظيرة الوهم ، قالوا إن الانسان الحر من رق الاوهام والخرافات يجب عليه أن يفدي بنفسه وطنه ، أو كل ما فيه شرفه ، لينال الحيوة الدائمة بحسن الذكر وجميل الثناء ، ويجب عليه ان يحرم على نفسه بعض تمتعاته في الاجتماع ليناله الآخرون ، ليستقيم أمر الاجتماع والحضارة ، ويتم العدل الاجتماعي فينال بذلك حيوة الشرف والعلاء.
  وليت شعري إذا لم يكن إنسان ، وبطل هذا التركيب المادي وبطل بذلك جميع خواصه ، ومن جملتها الحيوة والشعور ، فمن هو الذي ينال هذه الحيوة وهذا الشرف ؟ ومن الذي يدركه ويلتذ به ؟ فهل هذا إلا خرافة . ؟   وثانيا : ان ذيل الآية ـ وهو قوله تعالى : ولكن لا تشعرون ، ـ لا يناسب هذا المعنى ، بل كان المناسب له أن يقال : بل أحياء ببقاء ذكرهم الجميل ، وثناء الناس عليهم بعدهم ، لانه المناسب لمقام التسلية وتطييب النفس.
  وثالثا : أن نظيرة هذه الآية ـ وهي تفسرها ـ وصف حيوتهم بعد القتل بما ينافي هذا المعنى ، قال تعالى : ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) آل عمران ـ 196 ، إلى آخر الآيات ومعلوم أن هذه الحيوة حيوة خارجية حقيقية ليست بتقديرية.
  ورابعا : ان الجهل بهذه الحيوة التي بعد الموت ليس بكل البعيد من بعض المسلمين في اواسط عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإن الذي هو نص غير قابل للتأويل انما هو البعث للقيمة ، واما ما بين الموت إلى الحشر ـ وهي الحيوة البرزخية ـ فهي وان كانت من جملة ما بينه القرآن من المعارف الحقة ، لكنها ليست من ضروريات القرآن ، والمسلمون غير مجمعين عليه بل ينكره بعضهم حتى اليوم ممن يعتقد كون النفس غير مجردة عن المادة وان الانسان يبطل وجوده بالموت وانحلال التركيب ، ثم يبعثه الله إلى القضاء يوم القيمة ، فيمكن ان يكون المراد بيان حيوة الشهداء في البرزخ لمكان جهل بعض المؤمنين بذلك ، وان علم به آخرون.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 347 _
  ولجملة : المراد بالحياة في الآية الحيوة الحقيقية دون التقديرية ، وقد عد الله سبحانه حيوة الكافر بعد موته هلاكا وبوارا في مواضع من كلامه ، كقوله تعالى : ( وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ) إبراهيم ـ 28 ، إلى غير ذلك من الايات ، فالحياة حياة السعادة ، والاحياء بهذه الحيوة المؤمنون خاصة كما قال : ( وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) العنكبوت ـ 64 ، وانما لم يعلموا ، لان حواسهم مقصورة على ادراك خواص الحيوة في المادة الدنيوية ، وأما ما ورائها فإذا لم يدركوه لم يفرقوا بينه وبين الفناء فتوهموه فنائا ، وما توهمه الوهم مشترك بين المؤمن والكافر في الدنيا ، فلذلك قال : في هذه الآية ، بل احياء ولكن لا تشعرون أي : بحواسكم ، كما قال في الآية الاخرى : لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ، أي باليقين كما قال تعالى : ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) التكاثر ـ 6.
  فمعنى الآية ـ والله اعلم ـ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات ، ولاتعتقدوا فيهم الفناء والبطلان كما يفيده لفظ الموت عندكم ، ومقابلته مع الحياة ، وكما يعين على هذا القول حواسكم فليسوا باموات بمعنى البطلان ، بل احياء ولكن حواسكم لا تنال ذلك ولا تشعر به ، وإلقاء هذا القول على المؤمنين ـ مع انهم جميعا أو أكثرهم عالمون ببقاء حيوة الانسان بعد الموت ، وعدم بطلان ذاته ـ انما هو لايقاظهم وتنبيههم بما هو معلوم عندهم ، يرتفع بالالتفات إليه الحرج عن صدورهم ، والاضطراب والقلق عن قلوبهم إذا أصابتهم مصيبة القتل ، فانه لا يبقى مع ذلك من آثار القتل عند اولياء القتيل الا مفارقة في ايام قلائل في الدنيا وهو هين في قبال مرضاة الله سبحانه وما ناله القتيل من الحيوة الطيبة ، والنعمة المقيمة ، ورضوان من الله اكبر ، وهذا نظير خطاب النبي بمثل قوله تعالى : ( الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) الاية ، مع انه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اول الموقنين بآيات ربه ، ولكنه كلام كني به عن وضوح المطلب ، وظهوره بحيث لا يقبل أي خطور نفساني لخلافه.

نشاة البرزخ
  فالاية تدل دلالة واضحة على حيوة الانسان البرزخية ، كالاية النظيرة لها وهى

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 348 _
  قوله : ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) آل عمران ـ 169 ، والايات في ذلك كثيرة.
  ومن اعجب الامر ما ذكره بعض الناس في الاية : انها نزلت في شهداء بدر ، فهي مخصوصة بهم فقط ، لا تتعداهم إلى غيرهم هذا ، ولقد احسن بعض المحققين : من المفسرين في تفسير قوله : ( وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ) الاية ، إذ سئل الله تعالى الصبر على تحمل أمثال هذه الاقاويل.
  وليت شعري ما ذا يقصده هؤلاء بقولهم هذا ؟ وعلى أي صفة يتصورون حيوة شهداء بدر بعد قتلهم مع قولهم : بانعدام الانسان بعد الموت والقتل ، وانحلال تركيبه وبطلانه ؟ أهو على سبيل الاعجاز : باختصاصهم من الله بكرامة لم يكرم بها النبي الاكرم وسائر الانبياء والمرسلين والاولياء المقربين ، إذ خصهم الله ببقاء وجودهم بعد الانعدام ، فليس ذلك بإعجاز بل ايجاد محال ضروري الاستحالة ، ولا إعجاز في محال ، ولو جاز عند العقل إبطال هذا الحكم على بداهتها لم يستقم حكم ضروري فما دونه ؟ ام هو على نحو الاستثناء في حكم الحس بان يكون الحس مخطئا في أمر هؤلاء الشهداء ؟ فهم أحياء يرزقون بالاكل والشرب وسائر التمتعات ـ وهم غائبون عن الحس ـ وما ناله الحس من أمرهم بالقتل وقطع الاعضاء وسقوط الحس وانحلال التركيب فقد اخطأ في ذلك من رأس ، فلو جاز على الحس أمثال هذه الاغلاط فيصيب في شئ ويغلط في آخر من غير مخصص بطل الوثوق به على الاطلاق ، ولو كان المخصص هو الارادة الالهية احتاج تعلقها إلى مخصص آخر ، والاشكال ـ وهو عدم الوثوق بالادراك على حاله ، فكان من الجائز أن نجد ما ليس بواقع ، واقعا والواقع ليس بواقع وكيف يرضى عاقل ان يتفوه بمثل ذلك ؟ وهل هو إلا سفسطة.
  وقد سلك هؤلاء في قولهم هذا مسلك العامة من المحدثين ، حيث يرون أن الامور الغائبة عن حواسنا مما يدل عليه الظواهر الدينية من الكتاب والسنة ، كالملائكة وارواح المؤمنين وساير ما هو من هذا القبيل موجودات مادية طبيعية ، وأجسام لطيفة تقبل الحلول والنفوذ في الاجسام الكثيفة ، على صورة الانسان ونحوه ، يفعل جميع الافعال الانسانية مثلا ، ولها امثال القوى التي لنا غير أنها ليست محكومة بأحكام

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 349 _
  الطبيعة : من التغير والتبدل والتركيب وانحلاله ، والحيوة والموت الطبيعيتين ، فإذا شاء الله تعالى ظهورها ظهرت لحواسنا ، وإذا لم يشأ أو شاء ان لا تظهر لم تظهر ، مشية خالصة من غير مخصص في ناحية الحواس ، أو تلك الاشياء.
  وهذا القول منهم مبني على انكار العلية والمعلولية ، بين الاشياء ولو صحت هذه الامنية الكاذبة بطلت جميع الحقائق العقلية ، والاحكام العلمية ، فضلا عن المعارف الدينية ولم تصل النوبة إلى اجسامهم اللطيفة المكرمة التي لا تصل إليها يد التأثير والتأثر المادي الطبيعي ، وهو ظاهر.
  فقد تبين بما مر : أن الآية دالة على الحيوة البرزخية ، وهي المسماة بعالم القبر ، عالم متوسط بين الموت والقيمة ، ينعم فيه الميت أو يعذب حتى تقوم القيمة.
  ومن الآيات الدالة عليه وهي نظيرة لهذه الآية الشريفة ـ قوله تعالى : ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران ـ 171 ، وقد مر تقريب دلالة الاية على المطلوب ، ولو تدبر القائل باختصاص هذه الايات بشهداء بدر في متن الايات لوجد أن سياقها يفيد اشتراك سائر المؤمنين معهم في الحيوة ، والتنعم بعد الموت.
  ومن الآيات قوله تعالى : ( حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) المؤمنون ـ 100 ، والاية ظاهرة الدلالة على أن هناك حيوة متوسطة بين حيوتهم الدنيوية وحيوتهم بعد البعث : وسيجئ تمام الكلام في الاية إنشاء الله تعالى.
  ومن الايات قوله تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا * يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ ) ( ومن المعلوم أن المراد به أول ما يرونهم وهو يوم الموت كما تدل عليه آيات أخر ) ( لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَّحْجُورًا * وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا * أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا * وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 350 ـ
  ( وهو يوم القيمة ) وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ) الفرقان ـ 26 ، ودلالتها ظاهرة ، وسيأتي تفصيل القول فيها في محله إنشاء الله تعالى.
  ومن الآيات قوله تعالى : ( الُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ) المؤمن ـ 11 ، فهنا إلى يوم البعث ـ وهو يوم قولهم هذا ـ إماتتان وإحيائان ، ولن تستقيم المعنى إلا بإثبات البرزخ ، فيكون إماتة وأحياء في البرزخ وإحياء في يوم القيمة ، ولو كان أحد الاحيائين في الدنيا والاخر في الاخرة لم يكن هناك إلا إماتة واحدة من غير ثانية ، وقد مر كلام يتعلق بالمقام في قوله تعالى : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ) البقره ـ 28 ، فارجع.
  ومن الايات قوله تعالى : ( وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) المؤمن ـ 46 ، إذ من المعلوم أن يوم القيمة لا بكرة فيه ولا عشى فهو يوم غير اليوم.
  والآيات التي تستفاد منها هذه الحقيقة القرآنية ، أو تؤمي إليها كثيرة ، كقوله تعالى : ( تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النحل ـ 63 ، إلى غير ذلك.

( تجرد النفس )
  ويتبين بالتدبر في الآية ، وسائر الآيات التي ذكرناها حقيقة أخرى أوسع من ذلك ، وهي تجرد النفس ، بمعنى كونها أمرا وراء البدن وحكمها غير حكم البدن وسائر التركيبات الجسمية ، لها نحو اتحاد بالبدن تدبرها بالشعور والارادة وسائر الصفات الادراكية ، والتدبر في الآيات السابقة الذكر يجلي هذا المعنى فإنها تفيد أن الانسان بشخصه ليس بالبدن ، لا يموت يموت البدن ، ولا يفنى بفنائه ، وانحلال تركيبه وتبدد أجزائه ، وأنه يبقى بعد فناء البدن في عيش هنئ دائم ، ونعيم مقيم ، أو في شقاء لازم ، وعذاب أليم ، وأن سعادته في هذه العيشة ، وشقائه فيها مرتبطة بسنخ ملكاتة وأعماله ، لا بالجهات الجسمانية والاحكام الاجتماعية.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 351 _
  فهذه معان تعطيها هذه الآيات الشريفة ، وواضح أنها أحكام تغاير الاحكام الجسمانية ، وتتنافى الخواص المادية الدنيوية من جميع جهاتها ، فالنفس الانسانية غير البدن.
  ومما يدل عليه من الايات قوله تعالى : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى ) الزمر ـ 42 ، والتوفي والاستيفاء هو أخذ الحق بتمامه وكماله ، وما تشتمل عليه الاية : من الاخذ والامساك والارسال ظاهر في المغايرة بين النفس والبدن.
  ومن الآيات قوله تعالى : ( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) السجدة ـ 11 ، ذكر سبحانه شبهة من شبهات الكفار المنكرين للمعاد ، وهو انا بعد الموت وانحلال تركيب أبداننا تتفرق أعضاؤنا ، وتبدد أجزاؤنا ، وتتبدل صورنا فنضل في الارض ، ويفقدنا حواس المدركين ، فكيف يمكن أن نقع ثانيا في خلق جديد ؟ وهذا استبعاد محض ، وقد لقن تعالى على رسوله الجواب عنه ، بقوله : قل : يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم الاية ، وحاصل الجواب أن هناك ملكا موكلا بكم هو يتوفيكم ويأخذكم ، ولا يدعكم تضلوا وأنتم في قبضته وحفاظته ، وما تضل في الارض إنما هو أبدانكم لا نفوسكم التي هي المدلول عليها بلفظ ، كم ، فإنه يتوفيكم.
  ومن الآيات قوله تعالى : ( وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ) الاية السجدة ـ 9 ، ذكره في خلق الانسان ثم قال تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) الاسراء ـ 85 ، فأفاد أن الروح من سنخ أمره ، ثم عرف الامر في قوله تعالى : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يس ـ 83 ، فأفاد أن الروح من الملكوت ، وأنها كلمة ، كن ، ثم عرف الامر بتوصيفه بوصف آخر بقوله : ( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر ـ 50 ، والتعبير بقوله : كلمح بالبصر يعطي أن الامر الذي هو كلمة ، كن ، موجود دفعي الوجود غير تدريجية ، فهو يوجد من غير اشتراط وجوده وتقييده بزمان أو مكان ، ومن هنا يتبين أن الامر ـ ومنه الروح شئ غير جسماني ولا مادي ، فإن الموجودات المادية الجسمانية من

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 352 _
  أحكامها العامة أنها تدريجية الوجود ، مقيدة بالزمان والمكان ، فالروح التي للانسان ليست بمادية جسمانية ، وإن كان لها تعلق بها.
  وهناك آيات تكشف عن كيفية هذا التعلق ، فقد قال تعالى : ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ) طه ـ 55 ، وقال تعالى : ( خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ) الرحمن ـ 14 ، وقال تعالى ( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ) السجدة ـ 8 ، ثم قال : سبحانه وتعالى ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) المؤمنون ـ 14 ، فأفاد أن الانسان لم يكن إلا جسما طبيعيا يتوارد عليه صور مختلفة متبدلة ، ثم أنشأ الله هذا الذي هو جسم جامد خامد خلقا آخر ذا شعور وإرادة ، يفعل أفعالا : من الشعور والاردة والفكر والتصرف في الاكوان ، والتدبير في امور العالم بالنقل والتبديل والتحويل إلى غير ذلك مما لا يصدر عن الاجسام والجسمانيات ، فلا هي جسمانية ، ولا موضوعها الفاعل لها.
  فالنفس بالنسبة إلى الجسم الذي ينتهي أمره إلى إنشائها ـ وهو البدن الذي تنشأ منه النفس ـ بمنزلة الثمرة من الشجرة والضوء من الدهن بوجه بعيد ، وبهذا يتضح كيفية تعلقها بالبدن ابتداعا ، ثم بالموت تنقطع العلقة ، وتبطل المسكة ، فهي في أول وجودها عين البدن ، ثم تمتاز بالانشاء منه ، ثم تستقل عنه بالكلية فهذا ما تفيده الايات الشريفة المذكورة بظهورها : وهناك آيات كثيرة تفيد هذه الحقيقة بالايماء والتلويح ، يعثر عليها المتدبر البصير ، والله الهادي.
  قوله تعالى : ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الاموال والانفس والثمرات ، لما أمرهم الله بالاستعانة بالصبر والصلوة ونهاهم عن القول بموت من يقتل منهم في سبيل الله بل هم أحياء بين لهم السبب الذي من أجله خاطبهم بما خاطب ، وهو أنهم سيبتلون بما لا يتمهد لهم المعالي ولا يصفو لهم الامر في الحيوة الشريفة والدين الحنيف إلا به ، وهو الحرب والقتال ، لا يدور رحى النصر والظفر على مرادهم إلا أن يتحصنوا بهذين الحصنين ويتأيدوا بهاتين القوتين ، وهما الصبر والظفر ، ويضيفوا إلى ذلك ثالثا وهو خصلة ما حفظها قوم إلا ظفروا بأقصى مرادهم وحازوا الغاية

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 353 _
  القصوى من كمالهم ، واشتد بأسهم وطابت نفسهم ، وهو الايمان بأن القتيل منهم غير ميت ولا فقيد ، وأن سعيهم بالمال والنفس غير ضائع ولا باطل ، فإن قتلوا عدوهم فهم على الحيوة ، وقد أبادوا عدوهم وما كان يريده من حكومة الجور والباطل عليهم ـ وإن قتلهم عدوهم فهم على الحيوة ـ ولم يتحكم الجور والباطل عليهم ، فلهم إحدى الحسنيين على أي حال.
  وعامة الشدائد التي يأتي بها هو الخوف والجوع ونقص الاموال والانفس فذكرها الله تعالى ، وأما الثمرات فالظاهر أنها الاولاد فإن تأثير الحرب في قلة النسل بموت لرجال والشبان أظهر من تأثيره في نقص ثمرات الاشجار ، وربما قيل : إن المراد ثمرات النخيل ، وهي التمر والمراد بالاموال غيرها وهي الدواب من الابل والغنم.
  قوله تعالى : وبشر الصابرين الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا إليه راجعون ، اعاد ذكر الصابرين ليبشرهم اولا ، ويبين كيفية الصبر بتعليم ما هو الصبر الجميل ثانيا ، ويظهر به حق الامر الذي يقضي بوجوب الصبر وهو ملكه تعالى للانسان ـ ثالثا ، ويبين جزائه العام ـ وهو الصلوة والرحمة والاهتداء ـ رابعا فأمر تعالى نبيه اولا بتبشيرهم ، ولم يذكر متعلق البشارة لتفخيم امره فانها من الله سبحانه فلا تكون الا خيرا وجميلا ، وقد ضمنها رب العزة ، ثم بين ان الصابرين هم الذين يقولون : كذا وكذا عند إصابة المصيبة وهي الواقعة التي تصيب الانسان ، ولا يستعمل لفظ المصيبة الا في النازلة المكروهة ، ومن المعلوم ان ليس المراد بالقول مجرد التلفظ بالجملة من غير حضور معناها بالبال ، ولا مجرد الاخطار من غير تحقق بحقيقة معناها ، وهي أن الانسان مملوك لله بحقيقة الملك ، وان مرجعه إلى الله سبحانه وبه يتحقق أحسن الصبر الذي يقطع منابت الجزع والاسف ، ويغسل رين الغفلة.
  بيانه أن وجود الانسان وجميع ما يتبع وجودة ، من قواه وأفعاله قائم الذات بالله الذي هو فاطره وموجده فهو قائم به مفتقر ومستند إليه في جميع أحواله من حدوث وبقاء غير مستقل دونه ، فلربه التصرف فيه كيف شاء وليس للانسان من

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 354 _
  الامر شئ إذ لا استقلال له بوجه أصلا فله الملك في وجوده وقواه وأفعاله حقيقة.
  ثم إنه تعالى ملكه بالاذن نسبة ذاته ، ومن هناك يقال : للانسان وجود ، وكذا نسبة قواه وأفعاله ومن هناك يقال : للانسان قوى كالسمع والبصر ، ويقال : للانسان أفعال كالمشى والنطق ، والاكل والشرب ، ولو لا الاذن الالهي لم يملك الانسان ولا غيره من المخلوقات نسبة من هذه النسب الظاهرة ، لعدم استقلال في وجودها من دون الله أصلا.
  وقد أخبر سبحانه : أن الاشياء سيعود إلى حالها قبل الاذن ولا يبقي ملك إلا لله وحده ، قال تعالى : ( لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) المؤمن ـ 16 ، وفيه رجوع الانسان بجميع ما له ومعه إلى الله سبحانه.
  فهناك ملك حقيقي هو لله سبحانه لا شريك له فيه ، لا الانسان ولا غيره ، وملك ظاهري صوري كملك الانسان نفسه وولده وماله وغير ذلك ، وهو لله سبحانه حقيقة ، وللانسان بتمليكه تعالى في الظاهر مجازا ، فإذا تذكر الانسان حقيقة ملكه تعالى ، ونسبه إلى نفسه فوجد نفسه ملكا طلقا لربه ، وتذكر أيضا ان الملك الظاهري فيما بين الانسان ومن جملتها ملك نفسه لنفسه وماله وولده سيبطل فيعود راجعا إلى ربه وجد أنه بالاخرة لا يملك شيئا أصلا لا حقيقة ولا مجازا ، وإذا كان كذلك لم يكن معنى للتأثر عن المصائب الموجبة للتأثر عند إصابتها فإن التأثر إنما يكون من جهة فقد الانسان شيئا مما يملكه ، حتى يفرح بوجدانه ، ويحزن بفقدانه ، وأما إذا أذعن واعتقد أنه لا يملك شيئا لم يتأثر ولم يحزن ، وكيف يتأثر من يؤمن بأن الله له الملك وحده يتصرف في ملكه كيف يشاء ؟

( الاخلاق )
  إعلم أن إصلاح أخلاق النفس وملكاتها في جانبي العلم والعمل ، واكتساب الاخلاق الفاضلة ، وإزالة الاخلاق الرذيلة انما هو بتكرار الاعمال الصالحة المناسبة لها ومزاولتها ، والمداومة عليها ، حتى تثبت في النفس من الموارد الجزئية علوم جزئية ، وتتراكم وتنتقش في النفس انتقاشا متعذر الزوال أو متعسرها ، مثلا إذا أراد الانسان

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 355 _
  إزالة صفة الجبن واقتناء ملكة الشجاعة كان عليه أن يكرر الورود في الشدائد والمهاول التي تزلزل القلوب وتقلقل الاحشاء ، وكلما ورد في مورد منها وشاهد أنه كان يمكنه الورود فيه وأدرك لذة الاقدام وشناعة الفرار والتحذر انتقشت نفسه بذلك انتقاشا بعد انتقاش حتى تثبت فيها ملكة الشجاعة ، وحصول هذه الملكة العلمية وإن لم يكن في نفسه بالاختيار لكنه بالمقدمات الموصلة إليه كما عرفت اختياري كسبي.
  إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن الطريق إلى تهذيب الاخلاق واكتساب الفاضلة منها أحد مسلكين :
  المسلك الاول : تهذيبها بالغايات الصالحة الدنيوية ، والعلوم والآراء المحمودة عند الناس كما يقال : إن العفة وقناعة الانسان بما عنده والكف عما عند الناس توجب العزة والعظمة في أعين الناس والجاه عند العامة ، وإن الشره يوجب الخصاصة والفقر ، وإن الطمع يوجب ذلة النفس المنيعة ، وإن العلم يوجب إقبال العامة والعزة والوجاهة والانس عند الخاصة ، وإن العلم بصر يتقى به الانسان كل مكروه ، ويدرك كل محبوب وإن الجهل عمى ، وإن العلم يحفظك وانت تحفظ المال ، وإن الشجاعة ثبات يمنع النفس عن التلون والحمد من الناس على أي تقدير سواء غلب الانسان أو غلب عليه بخلاف الجبن والتهور ، وإن العدالة راحة النفس عن الهمم المؤذية ، وهي الحيوة بعد الموت ببقاء الاسم وحسن الذكر وجميل الثناء والمحبة في القلوب.
  وهذا هو المسلك المعهود الذي رتب عليه علم الاخلاق ، والمأثور من بحث الاقدمين من يونان وغيرهم فيه.
  لم يستعمل القرآن هذا المسلك الذي بنائه على انتخاب الممدوح عند عامة الناس عن المذموم عندهم ، والاخذ بما يستحسنه الاجتماع وترك ما يستقبحه ، نعم ربما جرى عليه كلامه تعالى فيما يرجع بالحقيقة إلى ثواب أخروي أو عقاب أخروي كقوله تعالى : ( وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ) البقرة ـ 150 ، دعا سبحانه إلى العزم والثبات ، وعلله بقوله : لئلا يكون ، وكقوله تعالى ( وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ ) الانفال ـ 46 ، دعا سبحانه إلى الصبر وعلله بأن تركه وإيجاد النزاع يوجب الفشل وذهاب الريح وجرئة العدو ، وقوله تعالى ( وَلِمَن

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 356 _
  صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) الشورى ـ 43 ، دعا إلى الصبر العفو ، وعلله بالعزم و الاعظام.
  المسلك الثاني : الغايات الاخروية ، وقد كثر ذكرها في كلامه تعالى كقوله سبحانه ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ ) التوبة ـ 111 ، وقوله تعالى : ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الزمر ـ 10 ، وقوله تعالى : ( إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) إبراهيم ـ 22 ، وقوله تعالى : ( اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) البقرة ـ 257 ، وأمثالها كثيرة على اختلاف فنونها.
  ويلحق بهذا القسم نوع آخر من الآيات كقوله تعالى : ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) فإن الآية دعت إلى ترك الاسى والفرح بأن الذي أصابكم ما كان ليخطئكم وما أخطاكم ما كان ليصيبكم لاستناد الحوادث إلى قضاء مقضى وقدر مقدر ، فالاسى والفرح لغو لا ينبغي صدوره من مؤمن يؤمن بالله الذي بيده أزمة الامور كما يشير إليه قوله تعالى : ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) فهذا القسم من الآيات أيضا نظير القسم السابق الذي يتسبب فيه إلى إصلاح الاخلاق بالغايات الشريفة الاخروية ، وهي كمالات حقيقية غير ظنية يتسبب فيه إلى إصلاح الاخلاق بالمبادئ السابقة الحقيقية من القدر والقضاء والتخلق بأخلاق الله والتذكر بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا ونحو ذلك.
  فان قلت : التسبب بمثل القضاء والقدر يوجب بطلان أحكام هذه النشأة الاختيارية وفي ذلك بطلان الاخلاق الفاضلة واختلال نظام هذه النشأة الطبيعية ، فإنه لو جاز الاستناد في إصلاح صفة الصبر والثبات وترك الفرح والاسى كما استفيد من الآية السابقة إلى كون الحوادث مكتوبة في لوح محفوظ ، ومقضية بقضاء محتوم أمكن الاستناد إلى ذلك في ترك طلب الرزق ، وكسب كل كمال مطلوب ، والاتقاء عن كل رذيلة خلقية وغير ذلك ، فيجوز حينئذ أن نقعد عن طلب الرزق ، والدفاع عن الحق ، ونحو ذلك بأن الذي سيقع منه مقضي مكتوب ، وكذا يجوز أن نترك السعي

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 357 _
  في كسب كل كمال ، وترك كل نقص بالاستناد إلى حتم القضاء وحقيقة الكتاب ، وفي ذلك بطلان كل كمال.
  قلت : قد ذكرنا في البحث عن القضاء ، ما يتضح به الجواب عن هذا الاشكال ، فقد ذكرنا ثم أن الافعال الانسانية من أجزاء علل الحوادث ، ومن المعلوم أن المعاليل والمسببات يتوقف وجودها على وجود أسبابها وأجزاء أسبابها ، فقول القائل : إن الشبع إما مقضي الوجود ، وإما مقضي العدم ، وعلى كل حال فلا تأثير للاكل غلط فاحش ، فإن الشبع فرض تحققه في الخارج لا يستقيم إلا بعد فرض تحقق الاكل الاختياري الذي هو أحد أجزاء علله ، فمن الخطآ أن يفرض الانسان معلولا من المعاليل ، ثم يحكم بإلغاء علله أو شئ من أجزاء علله.
  فغير جايز أن يبطل الانسان حكم الاختيار الذي عليه مدار حيوته الدنيوية وإليه تنتسب سعادته وشقائة ، وهو أحد أجزاء علل الحوادث التي تلحق وجوده من أفعاله أو الاحوال والملكات الحاصلة من إفعاله ، غير أنه كما لا يجوز له إخراج إرادته واختياره من زمرة العلل ، وإبطال حكمه في التأثير ، كذلك لا يجوز له أن يحكم بكون اختياره سببا وحيدا ، وعلة تامة إليه تستند الحواد ، من غير أن يشاركه شئ آخر من أجزاء العالم والعلل الموجودة فيه التي في رأسها الارادة الالهية فإنه يتفرع عليه كثير من الصفات المذمومة كالعجب والكبر والبخل ، والفرح والاسى ، والغم ونحو ذلك.
  يقول الجاهل : أنا الذي فعلت كذا وتركت كذا فيعجب بنفسه أو يستكبر على غيره أو يبخل بماله ـ وهو جاهل بأن بقية الاسباب الخارجة عن اختياره الناقص ، وهي ألوف والوف لو لم يمهد له الامر لم يسد اختياره شيئا ، ولا أغني عن شئ ـ يقول الجاهل : لو أني فعلت كذا لما تضررت بكذا ، أو لما فات عني كذا ، وهو جاهل بأن هذا الفوت أو الموت يستند عدمه ـ أعني الربح أو العافية ، أو الحيوة ـ إلى ألوف وألوف من العلل يكفي في انعدامها ـ أعني في تحقق الفوات أو الموت ـ انعدام واحد منها ، وإن كان اختياره موجودا ، على أن نفس اختيار الانسان مستند إلى علل كثيرة خارجة عن اختيار الانسان فالاختيار لا يكون بالاختيار.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 358 _
  فإذا عرفت ما ذكرنا وهو حقيقة قرآنية يعطيها التعليم الالهي كما مر ، ثم تدبرت في الآيات الشريفة التي في المورد وجدت أن القرآن يستند إلى القضاء المحتوم والكتاب المحفوظ في إصلاح بعض الاخلاق دون بعض.
  فما كان من الافعال أو الاحوال والملكات يوجب استنادها إلى القضاء والقدر إبطال حكم الاختيار فإن القرآن لا يستند إليه ، بل يدفعه كل الدفع كقوله تعالى : ( وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) الاعراف ـ 28.
  وما كان منها يوجب سلب استنادها إلى القضاء إثبات استقلال اختيار الانسان في التأثير ، وكونه سببا تاما غير محتاج في التأثير ، ومستغنيا عن غيره ، فإنه يثبت إستناده إلى القضاء ويهدي الانسان إلى مستقيم الصراط الذي لا يخطئ بسالكه ، حتى ينتفي عنه رذائل الصفات التي تتبعه كإسناد الحوادث إلى القضاء كي لا يفرح الانسان بما وجده جهلا ، ولا يحزن بما فقده جهلا كما في قوله تعالى : ( وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) النور ـ 33 ، فإنه يدعو إلى الجود بإسناد المال إلى إيتاء الله تعالى ، وكما في قوله تعالى : ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) البقرة ـ 3 ، فإنه يندب إلى الانفاق بالاستناد إلى أنه من رزق الله تعالى ، وكما في قوله تعالى : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا * إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) الكهف ـ 7 ، نهى رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن الحزن والغم استنادا إلى أن كفرهم ليس غلبة منهم على الله سبحانه بل ما على الارض من شئ أمور مجعولة عليها للابتلاء والامتحان إلى غير ذلك.
  وهذا المسلك أعنى الطريقة الثانية في إصلاح الاخلاق طريقة الانبياء ، ومنه شئ كثير في القرآن ، وفيما ينقل إلينا من الكتب السماوية.
  وهيهنا مسلك ثالث مخصوص بالقرآن الكريم لا يوجد في شئ مما نقل إلينا من الكتب السماوية ، وتعاليم الانبياء الماضين سلام الله عليهم أجمعين ، ولا في المعارف المأثورة من الحكماء الالهيين ، وهو تربية الانسان وصفا وعلما باستعمال علوم ومعارف لا يبقى معها موضوع الرذائل ، وبعبارة أخرى إزالة الاوصاف الرذيلة بالرفع لا بالدفع.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 359 _
  وذلك كما أن كل فعل يراد به غير الله سبحانه فالغاية المطلوبة منه إما عزة في المطلوب يطمع فيها ، أو قوة يخاف منها ويحذر عنها ، لكن الله سبحانه يقول : ( إِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ) يونس ـ 65 ، ويقول : ( أن القوة لله جميعا ) البقرة ـ 165 ، والتحقق بهذا العلم الحق لا يبقى موضوعا لرياء ، ولا سمعة ، ولا خوف من غير الله ، ولا رجاء لغيره ، ولا ركون إلى غيره ، فهاتان القضيتان إذا صارتا معلومتين للانسان تغسلان كل ذميمة وصفا أو فعلا عن الانسان وتحليان نفسه بحلية ما يقابلها من الصفات الكريمة الالهية من التقوى بالله ، والتعزز بالله وغيرهما من مناعة وكبرياء واستغناء وهيبة إلهية ربانية.
  وأيضا قد تكرر في كلامه تعالى : أن الملك لله ، وأن له ملك السموات والارض وأن له ما في السموات والارض وقد مر بيانه مرارا ، وحقيقة هذا الملك كما هو ظاهر لا تبقى لشئ من الموجودات استقلالا دونه ، واستغناء عنه بوجه من الوجوه ، فلا شئ إلا وهو سبحانه المالك لذاته ولكل ما لذاته ، وإيمان الانسان بهذا الملك وتحققه به يوجب سقوط جميع الاشياء ذاتا ووصفا وفعلا عنده عن درجة الاستقلال ، فهذا الانسان لا يمكنه أن يريد غير وجهه تعالى ، ولا أن يخضع لشئ ، أو يخاف أو يرجو شيئا ، أو يلتذ أو يبتهج بشئ ، أو يركن إلى شئ أو يتوكل على شئ أو يسلم لشئ أو يفوض إلى شئ ، غير وجهه تعالى ، وبالجملة لا يريد ولا يطلب شيئا الا وجهه الحق الباقي بعد فناء كل شئ ، ولا يعرض إعراضا ولا يهرب إلا عن الباطل الذي هو غيره الذي لا يرى لوجوده وقعا ولا يعبأ به قبال الحق الذي هو وجود باريه جل شأنه.
  وكذلك قوله تعالى : ( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى ) طه ـ 8 ، وقوله : ( ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) الانعام ـ 102 ، وقوله : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) السجدة ـ 7 ، وقوله : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) طه ـ 111 ، وقوله : ( كل له قانتون ) البقرة ـ 116 ، وقوله : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ) الاسراء ـ 23 ، وقوله : ( أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد ) فصلت ـ 53 ، وقوله : ( أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ) فصلت ـ 54 ، وقوله : ( وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) النجم ـ 42.
  ومن هذا الباب الآيات التي نحن فيها وهي قوله تعالى : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ) إلى آخرها فإن هذه الآيات وأمثالها

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 360 _
  مشتملة على معارف خاصة إلهية ذات نتائج خاصة حقيقية لا تشابه تربيتها نوع التربية التي يقصدها حكيم أخلاقي في فنه ، ولا نوع التربية التي سنها الانبياء في شرائعهم ، فإن المسلك الاول كما عرفت مبني على العقائد العامة الاجتماعية في الحسن والقبح والمسلك الثاني مبني على العقائد العامة الدينية في التكاليف العبودية ومجازاتها ، وهذا المسلك الثالث مبني على التوحيد الخالص الكامل الذي يختص به الاسلام على مشرعه وآله أفضل الصلوة هذا.
  فإن تعجب فعجب قول بعض المستشرقين من علماء الغرب في تاريخه الذي يبحث فيه عن تمدن الاسلام وحاصله : أن الذي يجب للباحث أن يعتني به هو البحث عن شؤن المدنية التي بسطتها الدعوة الدينية الاسلامية بين الناس من متبعيها ، والمزايا والخصائص التي خلفها وورثها فيهم من تقدم الحضارة وتعالي المدنية ، وأما المعارف الدينية التي يشتمل عليها الاسلام فهي مواد أخلاقية يشترك فيها جميع النبوات ، ويدعو إليها جميع الانبياء هذا.
  وأنت بالاحاطة بما قدمناه من البيان تعرف سقوط نظره ، وخبط رأيه فإن النتيجة فرع لمقدمتها ، والآثار الخارجية المترتبة على التربية إنما هي مواليد ونتائج لنوع العلوم والمعارف التي تلقاها المتعلم المتربي ، وليسا سواء قول يدعو إلى حق نازل وكمال متوسط وقول يدعو إلى محض الحق وأقصى الكمال ، وهذا حال هذا المسلك الثالث ، فأول المسالك يدعو إلى الحق الاجتماعي ، وثانيها يدعو إلى الحق الواقعي والكمال الحقيقي الذي فيه سعادة الانسان في حيوتة لآخرة ، وثالثها يدعو إلى الحق الذي هو الله ، ويبني تربيته على أن الله سبحانه واحد لا شريك له ، وينتج العبودية المحضة ، وكم بين المسالك من فرق !
  وقد أهدى هذا المسلك إلى الاجتماع الانساني جما غفيرا من العباد الصالحين ، والعلماء الربانيين ، والاولياء المقربين رجالا ونساء ، وكفى بذلك شرفا للدين.
  على أن هذا المسلك ربما يفترق عن المسلكين الآخرين بحسب النتائج ، فإن بنائه على الحب العبودي ، وايثار جانب الرب على جانب العبد ، ومن المعلوم أن الحب والوله والتيم ربما يدل الانسان المحب على امور لا يستصوبه العقل الاجتماعي الذي هو ملاك

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 361 _
  خلاق الاجتماعية ، أو الفهم العام العادي الذي هو إساس التكاليف العامة الدينية ، فللعقل أحكام ، وللحب إحكام ، وسيجئ توضيح هذا المعنى في بعض الابحاث الآتية إنشاء الله تعالى.
  قوله تعالى : ( أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) الآية. التدبر في الآية يعطي أن الصلوة غير الرحمة بوجه ، ويشهد به جمع الصلوة وإفراد الرحمة وقد قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) الاحزاب ـ 43 ، والآية تفيد كون قوله : ( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) ، في موقع العلة لقوله : هو الذي يصلي عليكم ، والمعنى انه انما يصلي عليكم ، وكان من اللازم المترقب ذلك ، لان عادته جرت على الرحمة بالمؤمنين ، وأنتم مؤمنون فكان من شأنكم أن يصلي عليكم حتى يرحمكم ، فنسبة الصلوة إلى الرحمة نسبة المقدمة إلى ذيها وكالنسبة التي بين الالتفات والنظر ، والتى بين الالقاء في النار والاحراق مثلا ، وهذا يناسب ما قيل في معنى الصلوة : أنها الانعطاف والميل ، فالصلوة من الله سبحانه إنعطاف إلى العبد بالرحمة ومن الملائكة إنعطاف إلى الانسان بالتوسط في إيصال الرحمة ، ومن المؤمنين رجوع ودعاء بالعبودية وهذا لا ينافي كون الصلوة بنفسها رحمة ومن مصاديقها ، فإن الرحمة في القرآن على ما يعطيه التدبرفي مواردها هي العطية المطلقة الالهية ، والموهبة العامة الربانية ، كما قال تعالى : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) الاعراف ـ 156 ، وقال تعالى : ( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) الانعام ـ 133 ، فالاذهاب لغناه والاستخلاف والانشاء لرحمتة ، وهما جميعا يستندان إلى رحمته كما يستندان إلى غناه فكل خلق وأمر رحمة ، كما أن كل خلق وأمر عطية تحتاج إلى غني ، قال تعالى : ( وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ) الاسراء ـ 20 ، وإن عطيته الصلوة فهي أيضا من الرحمة غير أنها رحمة خاصة ، ومن هنا يمكن أن يوجه جمع الصلوة وإفراد الرحمة في الآية.
  قوله تعالى : وأولئك هم المهتدون كأنه بمنزلة النتيجة لقوله : أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ، ولذلك جدد اهتدائهم جملة ثانية مفصولة عن الاولى ، ولم يقل : صلوات من ربهم ورحمة وهداية ، ولم يقل : واولئك هم المهديون بل ذكر قبولهم للهداية بالتعبير بلفظ الاهتداء الذي هو فرع مترتب على الهداية ، فقد تبين

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 362 _
  أن الرحمة هدايتهم إليه تعالى ، والصلوات كالمقدمات لهذه الهداية واهتدائهم نتيجة هذه الهداية ، فكل من الصلوة والرحمة والاهتداء غير الآخر وإن كان الجميع رحمة بنظر آخر.
  فمثل هؤلاء المؤمنين في ما يخبره الله من كرامته عليهم مثل صديقك تلقاه وهو يريد دارك ، ويسئل عنها يريد النزول بك فتلقاه بالبشر والكرامة ، فتورده مستقيم الطريق وأنت معه تسيره ، ولا تدعه يضل في مسيره حتى تورده نزله من دارك وتعاهده في الطريق بمأكله ومشربه ، وركوبه وسيره ، وحفظه من كل مكروه يصيبه فجميع هذه الامور إكرام واحد لانك إنما تريد إكرامه ، وكل تعاهد تعاهد وإكرام خاص والهداية غير الاكرام ، وغير التعاهد ، وهو مع ذلك إكرام فكل منها تعاهد وكل منها هداية وكل منها إكرام خاص ، والجميع إكرام ، فالاكرام الواحد العام بمنزلة الرحمة والتعاهدات في كل حين بمنزلة الصلوات ، والنزول في الدار بمنزلة الاهتداء.
  والاتيان بالجملة الاسمية في قوله : واولئك هم المهتدون ، والابتداء باسم الاشاره الدال على البعيد ، وضمير الفصل ثانيا وتعريف الخبر بلام الموصول في قوله : المهتدون كل ذلك لتعظيم أمرهم وتفخيمه ـ والله أعلم ـ.
  ( بحث روائي )

في البرزخ وحيوة الروح بعد الموت
  في تفسير القمي عن سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قال : إن ابن آدم إذا كان في آخر يوم من الدنيا ، وأول يوم من الآخرة مثل له ماله وولده وعمله ، فيلتفت إلى ماله فيقول : والله إني كنت عليك لحريصا شحيحا ، فما لي عندك ؟ فيقول : خذ مني كفنك ، ثم يلتفت إلى ولده فيقول : والله إني كنت لكم لمحبا ، وإني كنت عليكم لحاميا ، فما ذا لي عندكم ؟ فيقولون : نؤديك إلى حفرتك ونواريك فيها ، ثم يلتفت إلى عمله فيقول : والله إني كنت فيك لزاهدا ، وإنك كنت علي لثقيلا ، فما ذا عندك ؟ فيقول : أنا قرينك في قبرك ، ويوم حشرك ، حتى أعرض أنا وأنت على ربك ، فإن

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 363 _
  كان لله وليا أتاه أطيب الناس ريحا وأحسنهم منظرا ، وأزينهم رياشا ، فيقول : بشر بروح من الله وريحان وجنة نعيم ، قد قدمت خير مقدم ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، ارتحل من الدنيا إلى الجنة ، وإنه ليعرف غاسلة ، ويناشد حامله أن يعجله ، فإذا دخل قبره أتاه ملكان ، وهما فتانا القبر ، يحبران أشعارهما ، ويحبران الارض بأنيابهما ، وأصواتهما كالرعد القاصف ، وأبصارهما كالبرق الخاطف ، فيقولان له : من ربك ، ومن نبيك ؟ وما دينك ؟ فيقول : الله ربي ، ومحمد نبيي ، والاسلام ديني ، فيقولان : ثبتك الله فيما تحب وترضى ، وهو قول الله : ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) الآية ، فيفسحان له في قبره مد بصره ، ويفتحان له بابا إلى الجنة ، ويقولان : نم قرير العين نوم الشاب الناعم ، وهو قوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا.
  وإذا كان لربه عدوا فإنه يأتيه أقبح خلق الله رياشا ، وأنتنه ريحا ، فيقول له أبشر بنزل من حميم ، وتصميه جحيم ، وإنه ليعرف غاسله ، ويناشد حامله أن يحبسه ، فإذا أدخل قبره أتيا ممتحنا القبر ، فألفيا عنه أكفانه ثم قالا له ، من ربك ؟ ومن نبيك ؟ وما دينك ؟ فيقول : لا أدري فيقولان له : ما دريت ولا هديت ، فيضربانه بمرزبه ضربة ، ما خلق الله دابة إلا وتذعر لها ما خلا الثقلان ، ثم يفتحان له بابا إلى النار ، ثم يقولان له : نم بشر حال ، فيبوء من الضيق مثل ما فيه القنا من الزج ، حتى أن دماغه يخرج من بين ظفره ولحمه ، ويسلط الله عليه حيات الارض وعقاربها وهوامها تنهشه حتى يبعثه الله من قبره ، وأنه ليتمنى قيام الساعة مما هو فيه من الشر.
  وفي منتخب البصائرعن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : لا يسئل في القبر إلا من محض الايمان محضا ، أو محض الكفر محضا فقلت له : فسائر الناس ؟ فقال : يلهى عنهم.
  وفي أمالي الشيخ عن ابن ظبيان قال : كنت عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) فقال : ما يقول الناس في أرواح المؤمنين بعد موتهم ؟ قلت : يقولون في حواصل طيور خضر ؟ فقال : سبحان الله ، المؤمن أكرم على الله من ذلك ! إذا كان ذلك أتاه رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( عليه السلام ) ، ومعهم ملائكة الله عزوجل المقربون ، فان

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 364 _
  أنطق الله لسانه بالشهادة له بالتوحيد ، وللنبي بالنبوة ، والولاية لاهل البيت ، شهد على ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) والملائكة المقربون معهم وإن اعتقل لسانه خص الله نبيه بعلم ما في قلبمن ذلك ، فشهد به ، وشهد على شهادة النبي : علي وفاطمة والحسن والحسين ـ على جماعتهم من الله أفضل السلام ـ ومن حضر معهم من الملائكة فإذا قبضه الله إليه صير تلك الروح إلى الجنة ، في صورة كصورته ، فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا.
  وفي المحاسن عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : ذكر الارواح ، أرواح المؤمنين فقال يلتقون ، قلت : يلتقون ؟ قال : نعم يتسائلون و يتعارفون حتى إذا رأيته قلت : فلان.
  وفي الكافي عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : إن المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحب ، ويستر عنه ما يكره ، وإن الكافر ليزور أهله ، فيرى ما يكره ، ويستر عنه ما يحب ، قال : منهم من يزور كل جمعه ، ومنهم من يزور على قدر عمله.
  وفي الكافي عن الاصادق ( عليه السلام ) : أن الارواح في صفة الاجساد في شجر من الجنة ، تعارف وتسائل ، فإذا قدمت الروح على الارواح تقول : دعوها ، فإنها قد أقبلت من هول عظيم ثم يسئلونها ما فعل فلان ، وما فعل فلان ، فإن قالت لهم : تركته حيا ارتجوه ، وإن قالت لهم : قد هلك ، قالوا : قد هوى هوى
  اقول : والروايات في باب البرزخ كثيرة ، وإنما نقلنا ما فيه جوامع معنى البرزخ ، وفي المعاني المنقولة روايات مستفيضة كثيرة ، وفيها دلالة على نشأة مجردة عن المادة
  ( بحث فلسفي )
  هل النفس مجردة عن الماده ؟ ( ونعني بالنفس ما يحكى عنه كل واحد منا بقوله ، أنا ، وبتجردها عدم كونها أمرا ماديا ذا انقسام وزمان ومكان.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 365 _
  إنا لا نشك في أنا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه : بأنا ، ولا نشك أن كل إنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حينا من أحيان حيوتنا وشعورنا ، وليس هو شيئا من أعضائنا ، وأجزاء بدننا التي نشعر بها بالحس أو بنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواس الظاهرة من البصر واللمس ونحو ذلك ، وأعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحس والتجربة ، فإنا ربما نغفل عن كل واحد منها وعن كل مجموع منها حتى عن مجموعها التام الذي نسميه بالبدن ، ولا نغفل قط عن المشهود الذي نعبر عنه : بأنا ، فهو غير البدن وغير أجزائه.
  وأيضا لو كان هو البدن أو شيئا من أعضائه أو أجزائه : أو خاصة من الخواص الموجودة فيها ـ وهى جميعا مادية ، ومن حكم المادة التغير التدريجي وقبول الانقسام والتجزي ـ لكان ماديا متغيرا وقابلا للانقسام وليس كذلك فإن كل أحد أذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لنفسه ، وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أول شعوره بنفسه وجده معنى مشهودا واحدا باقيا على حاله من غير أدنى تعدد وتغير ، كما يجد بدنه وأجزاء بدنه ، والخواص الموجودة معها متغيرة متبدلة من كل جهة ، في مادتها وشكلها ، وسائر أحوالها وصورها ، وكذا وجده معنى بسيطا غير قابل للانقسام والتجزي ، كما يجد البدن ، وأجزائه وخواصه ـ وكل مادة وأمر مادي كذلك ـ فليست النفس هي البدن ، ولا جزءا من أجزائه ، ولا خاصة من خواصه ، سواء أدركناه بشئ من الحواس أو بنحو من الاستدلال ، أو لم ندرك ، فإنها جميعا مادية كيفما فرضت ، ومن حكم المادة التغير ، وقبول الانقسام ، والمفروض أن ليس في مشهودنا المسمى بالنفس شئ من هذه الاحكام فليست النفس بمادية بوجه.
  وأيضا هذا الذي نشاهده نشاهده أمرا واحدا بسيطا ليس فيه كثرة من الاجزاء ولا خليط من خارج بل هو واحد صرف فكل إنسان يشاهد ذلك من نفسه ويرى أنه هو وليس بغيره فهذا المشهود أمر مستقل في نفسه ، لا ينطبق عليه حد المادة ولا يوجد فيه شئ من أحكامها اللازمة ، فهو جوهر مجرد عن المادة ، متعلق بالبدن نحو تعلق يوجب اتحادا ما له بالبدن وهو التعلق التدبيري وهو المطلوب.
  وقد أنكر تجرد النفس جميع الماديين ، وجمع من الالهيين من المتكلمين ، والظاهريين

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 366 _
  من المحدثين ، واستدلوا على ذلك ، وردوا ما ذكر من البرهان بما لا يخلو عن تكلف من غير طائل.
  قال الماديون : إن الابحاث العلمية على تقدمها وبلوغها اليوم إلى غاية الدقة في فحصها وتجسسها لم تجد خاصة من الخواص البدنية إلا وجدت علتها الماديه ، ولم تجد أثرا روحيا لا يقبل الانطباق على قوانين المادة حتى تحكم بسببها بوجود روح مجردة.
  قالوا : وسلسلة الاعصاب تؤدي الادراكات إلى العضو المركزي وهو الجزء الدماغي على التوالي وفي نهاية السرعة ، ففيه مجموعة متحدة ذات وضع واحد لا يتميز أجزائها ولا يدرك بطلان بعضها ، وقيام الآخر مقامه ، وهذا الواحد المتحصل هو نفسنا التي نشاهدها ، ونحكي عنها بأنا ، فالذي نرى أنه غير جميع أعضائنا صحيح إلا أنه لا يثبت أنه غير البدن وغير خواصه ، بل هو مجموعة متحدة من جهة التوالي والتوارد لا نغفل عنه ، فإن لازم الغفلة عنه على ما تبين بطلان الاعصاب ووقوفها عن أفعالها وهو الموت ، والذي نرى أنه ثابت ، صحيح لكنه لا من جهة ثباته وعدم تغيره في نفسه بل الامر مشتبه على المشاهدة من جهة توالي الواردات الادراكية وسرعة ورودها ، كالحوض الذي يرد عليه الماء من جانب ويخرج من جانب بما يساويه وهو مملوء دائما ، فما فيه من الماء يجده الحس واحدا ثابتا ، وهو بحسب الواقع لا واحد ولا ثابت ، وكذا يجد عكس الانسان أو الشجر أو غيرهما فيه واحدا ثابتا وليس واحدا ثابتا بل هو كثير متغير تدريجا بالجريان التدريجي الذي لاجزاء الماء فيه ، وعلى هذا النحو وجود الثبات والوحدة والشخصية التي نرى في النفس.
  قالوا : فالنفس التي يقام البرهان على تجردها من طريق المشاهدة الباطنية هي في الحقيقة مجموعة من خواص طبيعية ، وهي الادراكات العصبية التي هي نتائج حاصلة من التأثير والتأثر المتقابلين بين جزء المادة الخارجية ، وجزء المركب العصبي ، ووحدتها وحدة اجتماعية لا وحدة واقعية حقيقية.
  أقول : أما قولهم : إن الابحاث العلمية المبتنية على الحس والتجربة لم تظفر في سيرها الدقيق بالروح ، ولا وجدت حكما من الاحكام غير قابل التعليل إلا بها فهو كلام

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 367 _
  حق لا ريب فيه لكنه لا ينتج انتفاء النفس المجردة التي اقيم البرهان على وجودها ، فإن العلوم الطبيعية الباحثة عن أحكام الطبيعة وخواص المادة إنما تقدر على تحصيل خواص موضوعها الذي هو المادة ، وإثبات ما هو من سنخها ، وكذا الخواص والادوات المادية التي نستعملها لتتميم التجارب المادي إنما لها أن تحكم في الامور المادية ، وأما ما وراء المادة والطبيعة ، فليس لها أن تحكم فيها نفيا ولا إثباتا ، وغاية ما يشعر البحث المادي به هو عدم الوجدان ، وعدم الوجدان غير عدم الوجود ، وليس من شأنه كما عرفت أن يجد ما بين المادة التي هي موضوعها ، ولا بين أحكام المادة وخواصها التي هي نتائج بحثها أمر أمجردا خارجا عن سنخ المادة وحكم الطبيعة.
  والذي جرأهم على هذا النفي زعمهم أن المثبتين لهذه النفس المجردة إنما أثبتوها لعثورهم إلى أحكام حيوية من وظائف الاعضاء ولم يقدروا على تعليلها العلمي ، فأثبتوا النفس المجردة لتكون موضوعا مبدئا لهذه الافاعيل ، فلما حصل العلم اليوم على عللها الطبيعية لم يبق وجه للقول بها ، نظير هذا الزعم ما زعموه في باب إثبات الصانع.
  وهو اشتباه فاسد فإن المثبتين لوجود هذه النفس لم يثبتوها لذلك ولم يسندوا بعض الافاعيل البدنية إلى البدن فيما علله ظاهرة ، وبعضها إلى النفس فيما علله مجهولة ، بل أسندوا الجميع إلى العلل البدنية بلا واسطة وإلى النفس بواسطتها ، وإنما اسندوا إلى النفس ما لا يمكن إسناده إلى البدن ألبتة وهو علم الانسان بنفسه ومشاهدته ذاته كما مر.
  وأما قولهم : إن الانية المشهودة للانسان على صفة الوحدة هي عدة من الادراكات العصبية الواردة على المركز على التوالي وفي نهاية السرعة ـ ولها وحدة اجتماعية ـ فكلام لا محصل له ولا ينطبق عليه الشهود النفساني البتة ، وكأنهم ذهلوا عن شهودهم النفساني فعدلوا عنه إلى ورود المشهودات الحسية إلى الدماغ واشتغلوا بالبحث عما يلزم ذلك من الآثار التالية وليت شعري إذا فرض أن هناك امورا كثيرة بحسب الواقع لا وحدة لها ألبتة ، وهذه الامور الكثيرة التي هي الادراكات امور مادية ليس ورائها شئ آخر إلا نفسها ، وإن الامر المشهود الذي هو النفس الواحدة هو عين هذه

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 368 _
  الادراكات الكثيرة ، فمن أين حصل هذا الواحد الذي لا نشاهد غيره ؟ ومن أين حصلت هذه الوحدة المشهودة فيها عيانا ؟ والذي ذكروه من وحدتها الاجتماعية كلام أشبه بالهزل منه بالجد فإن الواحد الاجتماعي هو كثير في الواقع من غير وحدة وإنما وحدتها في الحس أو الخيال كالدار الواحدة والخط الواحد مثلا ، لا في نفسه ، والمفروض في محل كلامنا أن الادراكات والشعورات الكثيرة في نفسها هي شعور واحد عند نفسها فلازم قولهم إن هذه الادراكات في نفسها كثيرة لا ترجع إلى وحدة أصلا ، وهي بعينها شعور واحد نفساني واقعا ، وليس هناك أمر آخر له هذه الادراكات الكثيرة فيدركها على نعت الوحدة كما يدرك الحاسة أو الخيال المحسوسات أو المتخيلات الكثيرة المجتمعة على وصف الوحدة الاجتماعية ، فإن المفروض أن مجموع الادراكات الكثيرة في نفسها نفس الادراك النفساني الواحد في نفسه ، ولو قيل : إن المدرك هيهنا الجزء الدماغي يدرك الادراكات الكثيرة على نعت الوحدة كان الاشكال بحاله ، فإن المفروض ان إدراك الجزء الدماغي نفس هذه الدراكات الكثيرة المتعاقبة بعينها ، لا أن للجزء الدماغي قوة إدراك تتعلق بهذه الادراكات كتعلق القوى الحسية بمعلوماتها الخارجية وانتزاعها منها صورا حسية ، فافهم ذلك.
  والكلام في كيفية حصول الثبات والبساطة في هذا المشهود الذي هو متغير متجز في نفسه كالكلام في حصول وحدته.
  مع أن هذا الفرض أيضا ـ أعني أن يكون الادراكات الكثيرة المتوالية المتعاقبة مشعورة بشعور دماغي على نعت الوحدة ـ نفسه فرض غير صحيح ، فما شأن الدماغ والقوة التي فيه ، والشعور الذي لها ، والمعلوم الذي عندها ، وهي جميعا امور مادية ، ومن شأن المادة والمادي الكثرة ، والتغير ، وقبول الانقسام ، وليس في هذه الصورة العلمية شئ من هذه الاوصاف والنعوت ، وليس غير المادة والمادي هناك شئ.
  وقولهم : أن الامر يشتبه على الحس أو القوة المدركة ، فيدرك الكثير المتجزي المتغير واحدا بسيطا ثابتا غلط واضح ، فإن الغلط والاشتباه من الامور النسبية التي تحصل بالمقايسة والنسبة ، لا من الامور النفسية ، مثال ذلك أنا نشاهد الاجرام العظيمة السماوية صغيرة كالنقاط البيض ، ونغلط في مشاهدتنا هذه ، على ما تبينه البراهين

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 369 _
  العلمية ، وكثير من مشاهدات حواسنا إلا أن هذه الاغلاط إنما تحصل وتوجد إذا قايسنا ما عند الحس مما في الخارج من واقع هذه المشهودات ، وأما ما عند الحس في نفسه فهو أمر واقعي كنقطة بيضاء لا معنى لكونه غلطا ألبتة.
  والامر فيما نحن فيه من هذا القبيل فإن حواسنا وقوانا المدركة إذا وجدت الامور الكثيرة المتغيرة المتجزية على صفة الوحدة والثبات والبساطة كانت القوى المدركة غالطة في إدراكها مشتبهة في معلومها بالقياس إلى المعلوم الذي في الخارج وأما هذه الصورة العلمية الموجودة عند القوة فهي واحدة ثابتة بسيطة في نفسها ألبتة ، ولا يمكن أن يقال للامر الذي هذا شأنه : إنه مادي لفقده أوصاف المادة العامة.
  فقد تحصل من جميع ما ذكرنا أن الحجة التي أوردها الماديون من طريق الحس والتجربة إنما ينتج عدم الوجدان ، وقد وقعوا في المغالطة بأخذ عدم الوجود ( وهو مدعاهم ) مكان عدم الوجدان ، وما صوروه لتقرير الشهود النفساني المثبت لوجود أمر واحد بسيط ثابت تصوير فاسد لا يوافق ، لا الاصول المادية المسلمة بالحس والتجربة ، ولا واقع الامر الذي هو عليه في نفسه.
  وأما ما افترضه الباحثون في علم النفس الجديد في أمر النفس وهو أنه الحالة المتحدة الحاصلة من تفاعل الحالات الروحية ، من الادراك والارادة والرضا والحب وغيرها المنتجة لحالة متحدة مؤلفة فلا كلام لنا فيه ، فإن لكل باحث أن يفترض موضوعا ويضعه موضوعا لبحثه ، وإنما الكلام فيه من حيث وجوده وعدمه في الخارج والواقع مع قطع النظر عن فرض الفارض وعدمه ، وهو البحث الفلسفي كما هو ظاهر على الخبير بجهات البحث.
  وقال قوم آخرون من نفاة تجرد النفس من المليين : إن الذي يتحصل من الامور المربوطة بحيوة الانسان كالتشريح والفيزيولوجي أن هذه الخواص الروحية الحيوية تستند إلى جراثيم الحيوة والسلولات التي هي الاصول في حيوة الانسان وسائر الحيوان وتتعلق بها ، فالروح خاصة وأثر مخصوص فيها لكل واحد منها أرواح متعددة فالذي

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 370 _
  يسميه الانسان روحا لنفسه ويحكي عنه بأنا مجموعة متكونة من أرواح غير محصورة على نعت الاتحاد والاجتماع ، ومن المعلوم أن هذه الكيفيات الحيوية والخواص الروحية تبطل بموت الجراثيم والسلولات وتفسد بفسادها فلا معنى للروح الواحدة المجردة الباقية بعد فناء التركيب البدني غاية الامر أن الاصول المادية المكتشفة بالبحث العلمي لما لم تف بكشف رموز الحيوة كان لنا أن نقول : أن العلل الطبيعية لا تفي بإيجاد الروح فهي معلولة لموجود آخر وراء الطبيعة ، وأما الاستدلال على تجرد النفس من جهة العقل محضا فشئ لا يقبله ولا يصغي إليه العلوم اليوم لعدم اعتمادها على غير الحس والتجربة ، هذا.
  اقول : وأنت خبير بأن جميع ما أوردناه على حجة الماديين وارد على هذه الحجة المختلقة من غير فرق ونزيدها أنها مخدوشة اولا : بأن عدم وفاء الاصول العلمية المكتشفة إلى اليوم ببيان حقيقة الروح والحيوة لا ينتج عدم وفائها أبدا ولا عدم انتهاء هذه الخواص إلى العلل المادية في نفس الامر على جهل منا ، فهل هذا إمغالطة وضع فيها العلم بالعدم مكان عدم العلم ؟
  وثانيا : بأن استناد بعض حوادث العالم ـ وهي الحوادث المادية ـ إلى المادة ، وبعضها الاخر وهي الحوادث الحيوية إلى أمر وراء المادة ـ وهو الصانع ـ قول بأصلين في الايجاد ، ولا يرتضيه المادي ولا الالهي ، وجميع أدلة التوحيد يبطله.
  وهنا إشكالات أخر أوردوها على تجرد النفس مذكورة في الكتب الفلسفية والكلامية غير أن جميعها ناشئة عن عدم التأمل والامعان فيما مر من البرهان ، وعدم التثبت في تعقل الغرض منه ، ولذلك أضربنا عن إيرادها ، والكلام عليها ، فمن أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى مظانها ، والله الهادي
  ( بحث اخلاقي )
  علم الاخلاق ( وهو الفن الباحث عن الملكات الانسانية المتعلقة بقواه النباتية والحيوانية والانسانية ، وتميز الفضائل منها من الرذائل ليستكمل الانسان التحلي

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 371 _
  والاتصاف بها سعادته العلمية ، فيصدر عنه من الافعال ما يجلب الحمد العام والثناء الجميل من المجتمع الانساني ) يظفر ببحثه أن الاخلاق الانسانية تنتهي إلى قوى عامه ثلاثة فيه هي الباعثة للنفس على اتخاذ العلوم العملية التي تستند وتنتهي إليها افعال النوع وتهيئتها وتعبيتها عنده ، وهي القوى الثلاث : الشهوية والغضبية والنطقية الفكرية ، فإن جميع الاعمال والافعال الصادرة عن الانسان إمامن قبيل الافعال المنسوبة إلى جلب المنفعة كالاكل والشرب واللبس وغيرها ، وإما من الافعال المنسوبة إلى دفع المضرة كدفاع الانسان عن نفسه وعرضه وماله ونحو ذلك ، وهذه الافعال هي الصادرة عن المبدا الغضبي كما أن القسم السابق عليها صادر عن المبدا الشهوي ، وإما من الاعمال المنسوبة إلى التصور والتصديق الفكري ، كتأليف القياس وإقامة الحجة وغير ذلك وهذه الافعال صادرة عن القوة النطقية الفكرية ، ولما كانت ذات الانسان كالمؤلفة ، المركبة من هذه القوى الثلاث التي باتحادها وحصول الوحدة التركيبية منها يصدر أفعال خاصة نوعية ، ويبلغ الانسان سعادتة التي من أجلها جعل هذا التركيب ، فمن الواجب لهذا النوع إن لا يدع قوة من هذه القوى الثلاث تسلك مسلك الافراط أو التفريط ، وتميل عن حاق الوسط إلى طرفي الزيادة والنقيصة ، فإن في ذلك خروج جزء المركب عن المقدار المأخوذ منه في جعل أصل التركيب وفي ذلك خروج المركب عن كونه ذاك المركب ولازمه بطلان غاية التركيب التي هي سعادة النوع.
  وحد الاعتدال في القوة الشهوية ـ وهي استعمالها على ما ينبغي كما وكيفا ـ يسمي عفة ، والجانبان في الافراط والتفريط الشره والخمود ، وحد الاعتدال في القوة الغضبية هي الشجاعة والجانبان التهور والجبن ، وحد الاعتدال في القوة الفكرية تسمي حكمة والجانبان الجربزة والبلادة ، وتحصل في النفس من اجتماع هذه الملكات ملكة رابعة هي كالمزاج من الممتزج ، وهي التي تسمى عدالة ، وهي إعطاء كل ذي حق من القوي حقة ، ووضعه في موضعه الذي ينبغي له ، والجانبان فيها الظلم والانظلام.
  فهذه أصول الاخلاق الفاضلة أعني : العفة والشجاعة والحكمة والعدالة ، ولكل منها فروغ ناشئة منها راجعة بحسب التحليل إليها ، نسبتها إلى الاصول المذكورة كنسبة النوع إلى الجنس ، كالجود والسخاء ، والقناعة والشكر ، والصبر والشهامة ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 372 _

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 373 _
  والجرئة والحياء ، والغيرة والنصيحة ، والكرامة والتواضع ، وغيرها ، هي فروع الاخلاق الفاضلة المضبوطة في كتب الاخلاق ( وهاك شجرة تبين أصوللا وتفرع فروعها ) وعلم الاخلاق يبين حد كل واحد منها ويميزها من جانبيها في الافراط والتفريط ، ثم يبين أنها حسنة جميلة ثم يشير إلى كيفية اتخاذها ملكة في النفس من طريقي العلم والعمل أعنى الاذعان بنأها حسنة جميلة ، وتكرار العمل بها حتى تصير هيئة راسخة في النفس.
  مثاله أن يقال إن الجبن إنما يحصل من تمكن الخوف من النفس ، والخوف إنما يكون من أمر ممكن الوقوع وعدم الوقوع ، والمساوي الطرفين يقبح ترجيح أحد طرفيه على الآخر من غير مرجح والانسان العاقل لا ينبغي له ذلك فلا ينبغي للانسان أن يخاف.
  فإذا لقن الانسان نفسه هذا القول ثم كرر الاقدام والورود في المخاوف والمهاول زالت عنه رذيلة الخوف ، وهكذا الامر في غيره من الرذائل والفضائل.
  فهذا ما يقتضيه المسلك الاول على ما تقدم في البيان وخلاصته إصلاح النفس وتعديل ملكاتها لغرض الصفة المحمودة والثناء الجميل.
  ونظيره ما يقتضيه المسلك الثاني ، وهو مسلك الانبياء وأرباب الشرائع ، وإنما التفاوت من حيث الغرض والغاية ، فإن غاية الاستكمال الخلقي في المسلك الاول الفضيلة المحمودة عند الناس والثناء الجميل منهم ، وغايته في المسلك الثاني السعادة الحقيقية للانسان وهو استكمال الايمان بالله وآياته ، والخبر الاخروي وهي سعادة وكمال في الواقع لا عند الناس فقط ، ومع ذلك فالمسلكان يشتركان في أن الغاية القصوى والغرض فيها الفضيلة الانسانية من حيث العمل.
  وأما المسلك الثالث المتقدم بيانه فيفارق الاولين بأن الغرض فيه ابتغاء وجه الله لا اقتناء الفضيلة الانسانية ولذلك ربما اختلف المقاصد التي فيه مع ما في المسلكين الاولين فربما كان الاعتدال الخلقي فيه غير الاعتدال الذي فيهما وعلى هذا القياس ، بيان ذلك أن العبد إذا أخذ إيمانه في الاشتداد والازدياد انجذبت نفسه إلى التفكير في ناحية

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 374 _
  ربه ، واستحضار أسمائه الحسنى ، وصفاتة الجميلة المنزهة عن النقص والشين ولا تزال تزيد نفسه انجذابا ، وتترقى مراقبة حتى صار يعبد الله كأنه يراه وأن ربه يراه ، ويتجلي له في مجالي الجذبة والمراقبة والحب فيأخذ الحب في الاشتداد لان الانسان مفطور على حب الجميل ، وقد قال تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ ) البقرة ـ 165 ، وصار يتبع الرسول في جميع حركاته وسكناته لان حب الشئ يوجب حب آثاره ، والرسول من آثاره وآياته كما أن العالم أيضا آثاره وآياته تعالى ، ولا يزال يشتد هذا الحب ثم يشتد حتى ينقطع إليه من كل شئ ، ولا يحب إلا ربه ، ولا يخضع قلبه إلا لوجهه فان هذا العبد لا يعثر بشئ ، ولا يقف على شئ وعنده شئ من الجمال والحسن إلا وجد أن ما عنده انموذج يحكي ما عنده من كمال لا ينفد وجمال لا يتناهى وحسن لا يحد ، فله الحسن والجمال والكمال والبهاء ، وكل ما كان لغيره فهو له ، لان كل ما سواه آية له ليس له إلا ذلك ، والآية لا نفسية لها ، وإنما هي حكاية تحكي صاحبها ، وهذا العبد قد استولى سلطان الحب على قلبه ، ولا يزال يستولي ، ولا ينظر إلى شئ إلا لانه آية من آيات ربه ، وبالجملة فينقطع حبه عن كل شئ إلى ربه ، فلا يحب شيئا إلا لله سبحانه وفي الله سبحانه.
  وحينئذ يتبدل نحو إدراكه وعمله فلا يرى شيئا إلا ويرى الله سبحانه قبله ومعه ، وتسقط الاشياء عنده من حيز الاستقلال فما عنده من صور العلم والادراك غير ما عند الناس لانهم إنما ينظرون إلى كل شئ من وراء حجاب الاستقلال بخلافه ، هذا من جهة العلم ، وكذلك الامر من جهة العمل فانه إذا كان لا يحب إلا لله فلا يريد شيئا إلا لله وابتغاء وجهه الكريم ، ولا يطلب ولا يقصد ولا يرجو ولا يخاف ، ولا يختار ، ولا يترك ، ولا ييأس ولا يستوحش ، ولا يرضى ، ولا يسخط إلا لله وفي الله فيختلف أغراضه مع ما للناس من الاغراض وتتبدل غاية أفعاله فانه قد كان إلى هذا الحين يختار الفعل ويقصد الكمال لانه فضيلة انسانية ، ويحذر الفعل أو الخلق لانه رذيلة إنسانيه ، وأما الآن وأما الآن يريد وجه ربه ، ولا هم له في فضيلة ولا رذيلة ، ولا شغل له بثناء جميل ، وذكر محمود ، ولا التفات له إلى دنيا أو آخرة أو جنة أو نار ، وإنما همه ربه ، وزاده ذل عبوديته ، ودليله حبه.
روت لــي أحـاديث الـغرام iiصـبابه      بـإسـنادها عـن جـيرة الـعلم iiالـفرد
وحـدثـني مـر الـنسيم عـن iiالـصبا      عن الدوح عن وادي الغضا عن ربى نجد