الفهرس العام

بسم الله الرحمن الرحيم


المجلس الثاني  : من اليوم الثاني عشر :
المجلس الأول  : من اليوم الثالث عشر :
المجلس الثاني  : من اليوم الثالث عشر :
المجلس الثالث : من اليوم الثالث عشر :



  فبينما أنا أجصص الأبواب وإذا أنا بالزعقات قد ارتفعت من جنبات الكوفة  ، فأقبلت على خادم كان معنا فقلت : مالي أرى الكوفة تضج  ؟ قال : الساعة أتوا برأس خارجي خرج على يزيد  ، فقلت : من هذا الخارجي  ؟ فقال : الحسين بن علي ( عليهما السلام ) قال : فتركت الخادم حتى خرج ولطمت وجهي حتى خشيت على عيني أن تذهب  ، وغسلت يدي من الجص وخرجت من ظهر القصر وأتيت إلى الكناس  ، فبينما أنا واقف والناس يتوقعون وصول السبايا والرؤوس إذ قد أقبلت نحو أربعين شقة تحمل على أربعين جملا فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة ( عليها السلام ) وإذا بعلي بن الحسين ( عليهما السلام ) على بعير بغير وطاء  ، وأوداجه تشخب دماً  ، وهو مع ذلك يبكي ويقول :
يا أمةَ السوءِ لا سقياً iiلربعكُمُ      يا  أمةً  لم  تراع  جدنَا iiفينا
لو  أننا  ورسولُ الله iiيجمعُنا      يومَ  القيامةِ  ما كنتم iiتقولونا
تُسيرونا على الأقتاب عاريةً      كأننا   لم   نُشيد  فيكمُ  iiدينا
  قال : وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز  ، فصاحت بهم أم كلثوم وقالت : يا أهل الكوفة إن الصدقة علينا حرام  ، وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم وترمي به إلى الأرض.
   قال : كل ذلك والناس يبكون على ما أصابهم .
وأعظم ما يشجيِ ويُودع في الحشا      حرارةُ  وجدِ  دونهِا  لذعةُ  iiالجمرِ
تَصدَقُ    أعداها   عليها   iiشماتةً      بما  نالها  بالخبزِ  والجوزِ iiوالتمرِ
  ثم إن أم كلثوم أطلعت رأسها من المحمل  ، وقالت لهم : صه يا أهل الكوفة تقُتلنا رجالُكم  ، وتبكينا نساؤكم  ؟ فالحاكم بيننا وبينكم الله  ، يوم فصل القضاء .
  فبينما هي تخاطبهن إذا بضجة قد ارتفعت  ، فإذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين ( عليه السلام ) وهو رأس أزهري قمري  ، أشبه الخلق برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 452 _

  ولحيته كسواد السبج قد انتصل منها الخضاب  ، ووجهه دارة قمر طالع  ، والرمحتلعب بها يمينا وشمالا  ، فالتفتت زينب ( عليها السلام ) فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدم المحمل  ، حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها وأومأت إليه بخرقة وجعلت تقول :
يا   هلالا  لما  استتم  كما  iiلا      غالهُ    خسفهُ   فأبدا   iiغروبا
ما  توهمت  يا  شقيقَ  iiفؤادي      كان    هذا    مقدراً    مكتوباً
يا  أخي  فاطم الصغيرة iiكلمها      فقد    كاد   قلبها   أن   iiيذوبا
يا أخي ماترى عليا لدى الأسر      مع   اليُتم   لا  يُطيق  iiركوبا
كلما  أو جعوه بالضرب iiناداك      بذل    يفيضُ   دمعاً   iiسكوبا
ما   أذل   اليتيم  حين  iiينادي      بأبيه     ولا    يراه    iiمُجيبا (1)
  قال السيد ابن طاووس عليه الحرمة : قال بشير بن خزيم الأسدي : ونظرت إلى زينب بنت علي ( عليه السلام ) يومئذ  ، ولم أر خفرة قط ـ والله ـ أنطق منها  ، كأنها تفرغ من لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام )   ، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا  ، فارتدَّت الأنفاس  ، وسكنت الأجراس  ، ثمَّ قالت : الحمد لله  ، والصلاة على أبي محمّد وآله الطيبين الأخيار  ، أمَّا بعد يا أهل الكوفة  ، يا أهل الختل والغدر  ، أتبكون ؟ فلا رقأت الدمعة  ، ولا هدأت الرنَّة  ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً  ، تتخذون إيمانكم دخلا بينكم  ، ألا وهل فيكم إلاّ الصلف النطف  ، والصدر الشنف  ، وملق الإماء  ، وغمز الأعداء  ، أو كمرعى على دمنة  ، أو كفضة على ملحودة  ، ألا ساء ما قدَّمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم  ، وفي العذاب أنتم خالدون .
   أتبكون ؟ وتنتحبون ؟ إي والله فابكوا كثيراً  ، واضحكوا قليلا  ، فلقد ذهبتم

---------------------------
(1) بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/114  ، ينابيع المودة  ، القندوزي : 3/87 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 453 _

  بعارها وشنارها  ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً  ، وأنَّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة  ، ومعدن الرسالة  ، وسيِّد شباب أهل الجنة  ، وملاذ حَيرتكم  ، ومفزع نازلتكم  ، ومنار حجّتكم  ، ومدرة سنتكم  ، ألا ساء ما تزرون  ، وبعداً لكم وسحقاً  ، فلقد خاب السعي  ، وتبَّت الأيدي  ، وخسرت الصفقة  ، وبؤتم بغضب من الله  ، وضربت عليكم الذلّة والمسكنة .
   ويلكم يا أهل الكوفة  ، أتدرون أيَّ كبد لرسول الله فريتم ؟ وأيَّ كريمة له أبرزتم ؟ وأيَّ دم له سفكتم ؟ وأيَّ حرمة له انتهكتم ؟ لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء ( وفي بعضها : خرقاء شوهاء ) كطلاع الأرض أو كملأ السماء  ، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ؟ ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تُنصرون  ، فلا يستخفَّنَّكم المهل  ، فإنه لا يحفزه البدار  ، ولا يخاف فوت الثأر  ، وإن ربكم لبالمرصاد .
   قال الراوي : فوالله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون  ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم  ، ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى أخضلَّت لحيته  ، وهو يقول : بأبي أنتم وأمي  ، كهولكم خير الكهول  ، وشبابكم خير الشباب  ، ونساؤكم خير النساء  ، ونسلكم خير نسل  ، لا يُخزى ولا يُبزى .
   وروى زيد بن موسى  ، قال : حدَّثني أبي  ، عن جدّي ( عليه السلام ) قال : خطبت فاطمة الصغرى بعد أن وردت من كربلاء فقالت : الحمد لله عدد الرمل والحصا  ، وزنة العرش إلى الثرى  ، أحمده وأؤمن به وأتوكَّل عليه  ، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له  ، وأن محمَّداً عبده ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) وأن أولاده ذُبحوا بشطّ الفرات  ، بغير ذحل ولا تُرات  ، اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك بالكذب  ، أو أن أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيِّه عليِّ بن أبي طالب ( عليه السلام )   ، المسلوب حقّه  ، المقتول من غير ذنب كما قُتل ولده بالأمس  ، في بيت من بيوت الله  ، فيه معشر مسلمة بألسنتهم  ، تعساً لرؤوسهم  ، ما دفعت عنه ضيماً في حياته  ، ولا

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 454 _

  عند مماته  ، حتّى قبضته إليك محمود النقيبة  ، طيِّب العريكة  ، معروف المناقب  ، مشهور المذاهب  ، لم تأخذه فيك ـ اللهم ـ لومة لائم  ، ولا عذل عاذل  ، هديته ـ اللهمَّ ـ للإسلام صغيراً  ، وحمدت مناقبه كبيراً  ، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك ( صلى الله عليه وآله ) حتى قبضته إليك زاهداً في الدنيا  ، غير حريص عليها  ، راغباً في الآخرة  ، مجاهداً لك في سبيلك  ، رضيته فاخترته فهديته إلى صراط مستقيم .
   أمّا بعد يا أهل الكوفة  ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء  ، فإنّا أهل بيت ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا  ، فجعل بلاءنا حسناً  ، وجعل علمه عندنا  ، وفهمه لدينا  ، فنحن عيبة علمه  ، ووعاء فهمه وحكمته  ، وحجّته على الأرض في بلاده لعباده  ، أكرمنا الله بكرامته  ، وفضَّلنا بنبيِّه محمّد ( صلى الله عليه وآله ) على كثير ممن خلق تفضيلا بيّناً  ، فكذَّبتمونا وكفَّرتمونا  ، ورأيتم قتالنا حلالا  ، وأموالنا نهباً  ، كأننا أولاد ترك وكابل  ، كما قتلتم جدَّنا بالإمس  ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدِّم  ، قرَّت لذلك عيونكم  ، وفرحت قلوبكم  ، افتراءً على الله منكم  ، ومكراً مكرتم  ، والله خير الماكرين  ، فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا  ، ونالت أيديكم من أموالنا  ، فإن ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة في كتاب من قبل أن نبرأها  ، إن ذلك على الله يسير  ، كيلا تأسوا على مافاتكم  ، ولا تفرحوا بما آتاكم  ، والله لا يحبُّ كلَّ مختال فخور .
   تبّاً لكم  ، فانتظروا اللعنة والعذاب  ، فكأنْ قد حلَّ بكم  ، وتواترت من السماء نقمات  ، فَيُسحِتكم بعذاب  ، ويذيق بعضكم بأس بعض  ، ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا  ، ألا لعنة الله على الظالمين .
   ويلكم  ، أتدرون أيَّة يد طاعنتنا منكم ؟ وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا ؟ أم بأية رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا ؟ والله قست قلوبكم  ، وغلظت أكبادكم  ، وطبع على أفئدتكم  ، وخُتم على سمعكم وبصركم  ، وسوَّل لكم الشيطان وأملى لكم  ،

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 455 _

  وجعل على بصركم غشاوة  ، فأنتم لا تهتدون  ، فتباً لكم يا أهل الكوفة  ، أيَّ تراث لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قبلكم ودخول له لديكم ؟ بما غدرتم بأخيه عليّ بن أبي طالب جدي  ، وببنيه وعترته الطيّبين الأخيار ( عليهم السلام ) ، فافتخر بذلك مفتخر فقال :
نحن قتلنا عليّاً وبني علي      بسيوف   هِنْدية  iiوَرِمَاحِ
وسبينا نساءَهم سَبْيَ iiتُرْك      ونطحناهُمُ   فأيُّ   iiنِطَاحِ
  بفيك ـ أيها القائل ـ الكثكث والأثلب  ، افتخرت بقتل قوم زكَّاهم الله  ، وطهَّرهم الله  ، وأذهب عنهم الرجس  ، فاكظم وأقعِ ـ كما أقعى أبوك  ، فإنما لكل امريء ما كسب وما قدَّمت يداه  ، أحسدتمونا ـ ويلكم ـ على ما فضَّلنا الله .
فَمَا  ذَنْبُنَا  إِنْ  جَاشَ دهراً بُحُورُنا      وَبَحْرُكَ ساج ما يواري الدعا مصّا
  ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء  ، والله ذو الفضل العظيم  ، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .
   قال : فارتفعت الأصوات بالبكاء والنحيب  ، وقالوا : حسبك يا ابنة الطيبين  ، فقد أحرقت قلوبنا  ، وأضرمت أجوافنا  ، فسكتت .
   قال : وخطبت أم كلثوم بنت علي ( عليه السلام ) في ذلك اليوم من وراء كلتها  ، رافعة صوتها بالبكاء  ، فقالت : يا أهل الكوفة  ، سوأة لكم  ، ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه  ، وانتهبتم أمواله وورثتموه  ، وسبيتم نساءه ونكبتموه ؟ فتّباً لكم وسحقاً  ، ويلكم  ، أتدرون أيُّ دواه دهتكم ؟ وأيَّ وزر على ظهوركم حملتم  ؟ وأيَّ دماء سفكتموها  ؟ وأيَّ كريمة أصبتموها  ؟ وأيَّ صبية سلبتموها ؟ وأيَّ أموال انتهبتموها ؟ قتلتم خير رجالات بعد النبي ( صلى الله عليه وآله )   ، ونُزعت الرحمة من قلوبكم  ، ألا إن حزب الله هم الفائزون  ، وحزب الشيطان هم الخاسرون  ، ثم قالت :
قتلتم أخي صبراً فويلٌ لأُمِّكُمْ      سَتُجْزَون  ناراً  حَرُّها iiيتوقَّدُ
سفكتم  دِمَاءً حَرَّمَ اللهُ iiسَفْكَها      وحرَّمها   القرآنُ  ثُمَّ  iiمحمَّدُ

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 456 _

ألا   فابشروا   بالنارِ  إنَّكُمُ  غداً       لفي   سَقَر   حقاً   يقيناً  iiتُخَلَّدوا
وإنّي لأبكي في حياتي على أخي      على  خَيْرِ  مَنْ بَعْدَ النبيِّ iiسيولَدُ
بدمع   غزير   مُسْتَهِلٍّ  iiمُكَفْكَف       على  الخدِّ منّي دائماً ليس iiيَجْمُدُ
  قال الراوي : فضجَّ الناس بالبكاء والنوح  ، ونشر النساء شعورهن  ، ووضعن التراب على رؤوسهن  ، وخمشن وجوههن  ، وضربن خدودهن  ، ودعون بالويل والثبور  ، وبكى الرجال  ، فلم يُر باكية وباك أكثر من ذلك اليوم .
  ثم إن زين العابدين ( عليه السلام ) أومأ إلى الناس أن اسكتوا فسكتوا  ، فقام قائماً فحمد الله وأثنى عليه  ، وذكر النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) ثمَّ صلَّى عليه  ، ثمَّ قال : أيها الناس  ، من عرفني فقد عرفني  ، ومن لم يعرفني فأنا أعرِّفه بنفسي  ، أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) ، أنا ابن من انتهكت حرمته  ، وسلبت نعمته  ، وانتهب ماله  ، وسبي عياله  ، أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات  ، من غير ذحل ولا ترات  ، أنا ابن من قُتل صبراً  ، وكفي بذلك فخراً .
   أيها الناس  ، فأنشدكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه  ، وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه ؟ فتبّاً لما قدَّمتم لأنفسكم  ، وسوأة لرأيكم  ، بأيَّة عين تنظرون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذ يقول لكم : قتلتم عترتي  ، وانتهكتم حرمتي  ، فلستم من أمتي ؟ قال الراوي : فارتفعت الأصوات من كل ناحية ويقول بعضهم لبعض : هلكتم وما تعلمون  ، فقال ( عليه السلام ) : رحم الله امرءاً قبل نصيحتي  ، وحفظ وصيّتي في الله وفي رسوله وأهل بيته  ، فإن لنا في رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أسوة حسنة  ، فقالوا بأجمعهم : نحن كلّنا ـ يا ابن رسول الله ـ سامعون مطيعون  ، حافظون لذمامك  ، غير زاهدين فيك وراغبين عنك  ، فمرنا بأمرك يرحمك الله  ، فإنّا حرب لحربك  ، وسلم لسلمك  ، لنأخذنَّ يزيد لعنه الله  ، ونبرأ ممن ظلمك  ، فقال ( عليه السلام ) : هيهات هيهات أيها الغدرة

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 457 _

  المكرة  ، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم  ، أتريدون أن تأتوا إليَّ كما أتيتم آبائي من قبل ؟ كلا وربِّ الراقصات  ، فإن الجرح لمَّا يندمل  ، قُتل أبي صلوات الله عليه بالأمس وأهل بيته معه  ، ولم ينسني ثكل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وثكل أبي وبني أبي  ، ووجده بين لهاتي  ، ومرارته بين حناجري وحلقي  ، وغصصه تجري في فراش صدري  ، ومسألتي أن تكونوا لا لنا ولا علينا  ، ثمَّ قال :
لاغَرْوَ  إِنْ قُتِلَ الحسينُ iiفشيخُهُ      قد كان خيراً من حسين iiوأكرما
فَلا تَفْرحُوا يا أهلَ كوفانَ بالذي      أصيب  حسينٌ كان ذلك iiأعظما
قتيلٌ  بِشَطِّ  النَّهْرِ روحي iiفداؤُه      جَزَاءُ  الذي  أرداه  نارُ  جهنما
  ثمَّ قال : رضينا منكم رأساً برأس  ، فلا يوم لنا ولا يوم علينا .
   قال الراوي : ثم إن ابن زياد جلس في القصر للناس  ، وأذن إذناً عاماً  ، وجيء برأس الحسين ( عليه السلام ) فوضع بين يديه  ، وأدخل نساء الحسين ( عليه السلام ) وصبيانه إليه  ، فجلست زينب بنت علي ( عليه السلام ) متنكِّرة  ، فسأل عنها فقيل : زينب بنت علي ( عليه السلام )   ، فأقبل إليها فقال : الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم  ، فقالت : إنما يفتضح الفاسق  ، ويكذب الفاجر  ، وهو غيرنا  ، فقال ابن زياد : كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك  ، فقالت : ما رأيت إلاّ جميلا  ، هؤلاء قوم كتب عليهم القتال فبرزوا إلى مضاجعهم  ، وسيجمع الله بينك وبينهم  ، فتحاجّ وتخاصم  ، فانظر لمن يكون الفلج يومئذ  ، هبلتك أمّك يا بن مرجانة .
   قال الراوي : فغضب ابن زياد وكأنه همَّ بها  ، فقال له عمرو بن حريث : إنّها امرأة  ، والمرأة لا تؤخذ بشيء من منطقها  ، فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك  ، فقالت : لعمري  ، لقد قتلت كهلي  ، وقطعت فرعي  ، واجتثثت أصلي  ، فإن كان هذا شفاك فقد اشتفيت  ، فقال ابن زياد : هذه سجاعة  ، ولعمري لقد كان أبوك شاعراً وسجّاعاً  ، فقالت : يا بن زياد  ، ما

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 458 _

  للمرأة والسجاعة ؟
  ثم التفت ابن زياد إلى علي بن الحسين ( عليهما السلام ) قال : من هذا ؟ فقيل : علي بن الحسين  ، فقال : أليس قد قتل الله علي بن الحسين ؟ فقال علي ( عليه السلام ) : قد كان لي أخ يقال له : علي بن الحسين قتله الناس  ، فقال : بل الله قتله .
   فقال علي ( عليه السلام ) : الله يتوفَّى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها  ، فقال ابن زياد : ألك جرأة على جوابي ؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه  ، فسمعت به عمّته زينب فقالت : يا بن زياد  ، إنك لم تبق منا أحداً  ، فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه  ، فقال علي ( عليه السلام ) لعمّته : اسكتي يا عمَّة حتى أكلِّمه  ، ثم أقبل فقال : أبالقتل تهدِّدني يا ابن زياد ؟ أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة ؟
   ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسين ( عليه السلام ) وأهله فحملوا إلى دار جنب المسجد الأعظم  ، فقالت زينب بنت علي ( عليه السلام ) : لا تدخلن علينا عربية إلاّ أم ولد أو مملوكة  ، فإنهن سبين كما سبينا .
  ثمَّ أمر ابن زياد برأس الحسين ( عليه السلام ) فطيف به في سكك الكوفة. ولله درّ الشاعر إذ يقول :
رأسُ ابنِ بنتِ محمَّد iiووصيِّه       للناظرينَ   على   قَنَاة  iiيُرْفَعُ
والمسلمون  بمَنْظَر  iiوبِمَسْمَع      لاَ   مُنْكِرٌ  مِنْهُمْ  وَلاَ  iiمُتَفَجِّعُ
كُحِلَتْ بمَنْظَرِكَ الْعُيُونُ iiعَمَايَةً      وَأَصَمَّ  رُزْؤُكَ كُلَّ أُذْن iiتَسْمَعُ
أيقظتَ أجفاناً وكنتَ لَهَا iiكَرَىً      وأنمتَ عيناً لم تكُنْ بكَ iiتَهْجَعُ
مَا   رَوْضَةٌ  إلاَّ  تَمَنَّتْ  iiأنَّها      لَكَ حُفْرَةٌ وَلِخَطِّ قَبْرِكَ مَضْجَعُ (1)
  وقال آخر :
فقل   لسرايا  شيبة  الحمد  iiمالكم       قعدتم وقد ساروا بنسوتكم iiحسرى
وأعظم  ما  يشجي الغيور iiدخولها      إلى مجلس ما بارح اللهو والخمرا

---------------------------
(1) اللهوف في قتلى الطفوف  ، السيد ابن طاووس الحسني : 86 ـ 95 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 459 _

أُقيمت   لديه  آه  واذلة  iiالهدى      وكلٌ عن النظار تنضم بالأخرى

المجلس الثاني  : من اليوم الثاني عشر :

  في خصال زينب ( عليها السلام ) وصبرها وجهادها جاء في كتاب وفاة السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) للحجة الشيخ فرج آل عمران عليه الرحمة وهو مقتطف من كتاب السيدة زينب ( عليها السلام ) للشيخ جعفر النقدي عليه الرحمة  ، قال : ونشأت ( عليها السلام ) نشأة حسنة  ، كاملة فاضلة عالمة  ، من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء  ، وكانت على جانب عظيم من الحلم ومكارم الأخلاق  ، ذات فصاحة وبلاغة  ، تفيض من يدها عيون الجود والكرم  ، وكفاها فخراً أنها فرعٌ من شجرة أهل بيت النبوّة الذين مدحهم الله تعالى في كتابه العزيز .
   وعن النيسابوري في رسالته العلوية : كانت زينب بنت علي ( عليها السلام ) في فصاحتها وبلاغتها وزهدها وعبادتها كأبيها المرتضى ( عليه السلام )   ، وأمها الزهراء ( عليها السلام )   ، ولله درّ الشيخ النقدي حيث يقول :
حَكَتْ  خَيْرَ  الأَنَامِ عُلا iiوفخراً       وَحَيْدَرَ  في الفصيحِ مِنَ iiالمَقَالِ
وَفَاطِمَ    عِفَّةً   وَتُقَىً   iiوَمَجْداً      وأخلاقاً   وفي   كَرَمِ   الْخِلاَلِ
ربيبةُ  عِصْمَة طَهُرَتْ iiوَطَابَتْ      وَفَاقَتْ في الصفاتِ وفي الفِعَآلِ
فكانت   كالأئمَّةِ   في   iiهُدَاها      وإنقاذِ   الأَنَامِ   من   iiالضَّلاَلِ
وكانت  في  المصلَّى إِذْ تُنَاجي      وتدعو   اللهَ   بالدَّمْعِ   iiالمُذَالِ
رَوَتْ  عن  أُمِّها الزهرا عُلُوماً      بها  وَصَلَتْ  إلى  حَدِّ  iiالكَمَالِ
فلولا   أُمُّها   الزهراءُ  iiسَادَتْ      نِسَاءَ    العالمينَ   بلا   iiجِدَالِ
  وأما علمها ( عليها السلام ) فهو البحر لا يُنزف  ، فإنها سلام الله عليها هي المترباة في

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 460 _

  مدينة العلم النبويّ  ، المعتكفة بعده ببابها العلوي  ، المتغداة بلبانه من أمِّها الصدّيقة الطاهرة سلام الله عليها  ، وقد طوت عمراً من الدهر مع الإمامين السبطين يزقّانها العلم زقّاً  ، فهي اغترفت من عُباب علم آل محمد  ، وعُباب فضائلهم الذي اعترف به عدوّهم الألدّ يزيد الطاغية  ، بقوله في الإمام السجاد ( عليه السلام ) : إنه من أهل بيت زقّوا العلم زقّاً  ، وقد نصَّ لها بهذه الكلمة ابن أخيها علي بن الحسين ( عليه السلام ) : أنت بحمد الله عالمة غير معلَّمة  ، وفهمة غير مفهَّمة  ، يريد ( عليه السلام ) أن مادة علمها من سنخ ما مُنح به رجالات بيتها الرفيع  ، أفيض عليها إلهاماً  ، وفي الحديث : ما أخلص عبدٌ لله تعالى أربعين صباحاً إلاّ جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه  ، ولا شك أن زينب الطاهرة قد أخلصت لله كل عمرها  ، فماذا تحسب أن يكون المنفجر من قلبها على لسانها من ينابيع الحكمة ؟
   ويظهر من الفاضل الدربندي وغيره أنها ( عليها السلام ) كانت تعلم علم المنايا والبلايا  ، كجملة من أصحاب أمير المؤمنين ( عليه السلام )   ، منهم ميثم التمار ورشيد الهجري وغيرهما .
   وفي ( الطراز المذهَّب ) أن شؤونات زينب الباطنيّة ومقاماتها المعنويّة كما قيل فيها إن فضائلها وفواضلها وخصالها وبهاءها تالية أُمّها وثانيتها  ، وقال ابن عنبة في ( أنساب الطالبيين ) : زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين ( عليه السلام )   ، كنيتها أم الحسن  ، تروي عن أمّها فاطمة الزهراء بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
   وقال العلاّمة الفاضل السيد نور الدين الجزائري في كتابه الفارسي المسمَّى بالخصائص الزينبية ما ترجمته عن بعض الكتب : إن زينب كان لها مجلس في بيتها أيام إقامة أبيها ( عليه السلام ) في الكوفة  ، وكانت تفسِّر القرآن للنساء .
   وفي كتاب بلاغات النساء لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور قال : حدَّثني أحمد بن جعفر بن سليمان الهاشمي  ، قال : كانت زينب بنت علي ( عليه السلام ) تقول :

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 461 _

  من أراد أن لا يكون الخلق شفعاءه إلى الله فليحمده  ، ألم تسمع إلى قولهم ؟ سمع الله لمن حمده : فَخَلفِ الله لقدرته عليك  ، واستحِ منه لقربه منك .
   وقال الشيخ الطبرسي عليه الرحمة : إن زينب ( عليها السلام ) روت أخباراً كثيرة عن أمّها الزهراء ( عليها السلام ) وعن عماد المحدِّثين أن زينب الكبرى كانت تروي عن أمّها وأبيها وأخويها  ، وممن روى عنها ابن عباس وعلي بن الحسين ( عليه السلام ) وعبدالله بن جعفر وفاطمة بنت الحسين ( عليه السلام ) الصغرى وغيرهم .
   وفي مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الإصبهاني : زينب العقيلة بنت علي بن أبي طالب ( عليه السلام )   ، وأمّها فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، والعقيلة هي التي روى ابن عباس عنها كلام فاطمة ( عليها السلام ) في فدك  ، فقال : حدَّثتني عقيلتنا زينب بنت علي ( عليها السلام ) .
   وقال الفاضل العلاّمة الأجلّ المولى محمد حسن القزويني في كتابه المسمَّى برياض الأحزان وحدائق الأشجان : يُستفاد من آثار أهل البيت جلالة شأن زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ووقارها وقرارها بما لا مزيد عليه  ، حتى أوصى إليها أخوها ما أوصى قبل شهادته  ، وإنها من كمال معرفتها ووفور علمها وحُسن أعراقها وطيب أخلاقها كانت تشبه أمَّها سيِّدة النساء فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في جميع ذلك والخفارة والحياء  ، وأباها ( عليه السلام ) في قوّة القلب في الشدّة  ، والثبات عند النائبات  ، والصبر على الملمَّات  ، والشجاعة  ، الموروثة من صفاتها  ، والمهابة المأثورة من سماتها .
   وعن الصدوق محمد بن بابويه طاب ثراه : كانت زينب ( عليها السلام ) لها نيابة خاصّة عن الحسين ( عليه السلام )   ، وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتى برىء زين العابدين ( عليه السلام ) من مرضه .
   وأما زهدها ( عليها السلام ) فيكفي في إثباته ما روي عن الإمام السجاد من أنها ( عليها السلام ) ما ادّخرت شيئاً من يومها لغدها أبداً  ، وفي كتاب ( جنات الخلود ) ما معناه : وكانت

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 462 _

  زينب الكبرى في البلاغة  ، والزهد  ، والتدبير  ، والشجاعة  ، قرينة أبيها وأمّها  ، فإن انتظام أمور أهل البيت ( عليهم السلام ) بل الهاشميين بعد شهادة الحسين ( عليه السلام ) كان برأيها وتدبيرها .
   وأمّا عبادتها ( عليها السلام ) : فهي تالية أمِّها الزهراء ( عليها السلام )   ، وكانت تقضي عامّة لياليها بالتهجُّد وتلاوة القرآن  ، ففي مثير الأحزان للعلامة الشيخ شريف الجواهري ( قدس سره ) : قالت فاطمة بنت الحسين ( عليها السلام ) : وأمَّا عمَّتي زينب فإنّها لم تزل قائمة في تلك الليلة ـ أي العاشرة من المحرَّم ـ في محرابها  ، تستغيث إلى ربِّها  ، فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رنّة .
   وعن الفاضل النائيني البروجردي : أن الحسين ( عليه السلام ) لمَّا ودَّع أخته زينب وداعه الأخير قال لها : يا أختاه  ، لا تنسيني في نافلة الليل  ، وقال بعض ذوي الفضل : إنها ( عليها السلام ) ما تركت تهجّدها لله تعالى طول دهرها حتى ليلة الحادي عشر من المحرَّم .
   وروي عن زين العابدين ( عليه السلام ) أنه قال : رأيتها تلك الليلة تصلّي من جلوس  ، وروى بعض المتقدِّمين عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) أنه قال : إن عمتي زينب كانت تؤدّي صلواتها من الفرائض والنوافل عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام من قيام  ، وفي بعض المنازل كانت تصلّي من جلوس  ، فسألتها عن سبب ذلك فقالت : أصلّي من جلوس لشدّة الجوع والضعف منذ ثلاث ليال  ، لأنها كانت تقسم ما يصيبها من الطعام على الأطفال  ، لأن القوم كانوا يدفعون لكل واحد منّا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة .
   وعن الفاضل النائيني البروجردي  ، عن بعض المقاتل المعتبرة  ، عن مولانا السجاد ( عليه السلام ) أنه قال : إن عمّتي زينب مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقنا

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 463 _

  إلى الشام ما تركت تهجّدها ليلة (1) .
   ولله درّ الشيخ عبدالحسين شكر إذ يقول :
وَنِسَاءٌ  عَوَّدْتموها iiالمَقَاصِيرَ       رَكِبْنَ   النِّيَاقَ  وهي  iiهِزَالُ
هذه  زينبٌ  وَمِنْ قَبْلُ iiكانت      بفِنَا   دَارِها   تَحُطُّ  iiالرِّحَالُ
والتي لم تَزَلْ على بَابِهَا الشا      هِقِ  تُلْقِي  عِصِيَّها  iiالسُّؤَّالُ
أَمْسَت  اليومَ واليتامى iiعليها      يالَقومي    تَصَّدَّقُ   iiالأنذالُ (2)
  وقال آخر :
وَنَادَتْ عَلَى الأَقْتَابِ مِنْ عُظْمِ وَجْدِها      أَبَا  حَسَن  يَا  خَيْرَ  مَنْ ضمَّه iiالقبرُ
أَتَرْضَى  وَهَلْ يَرْضى الْغَيُورُ iiنِسَاؤُهُ      سَبَايا   إلى  الشَّامَاتِ  يَسْتَاقُها  iiشِمْرُ (3)
  وقال آخر على لسانها ( عليها السلام ) :
لا   والدٌ  لي  ولا  عمٌ  ألوذ  iiبه       ولا أخٌ لي بقي أرجوه ذو iiرحمي
أخي  ذبيح  ورحلي قد أبيح وبي      ضاق الفسيح وأطفالي بغير حمي

المجلس الأول  : من اليوم الثالث عشر :

  الإمام لايلي أمره إلا الإمام ودفن الأجساد الطاهرة ( عليها السلام ) فعلى الأطائب من أهل بيت محمَّد وعلي صلَّى الله عليهما وآلهما  ، فليبك الباكون  ، وإياهم فليندب النادبون  ، ولمثلهم فلتذرف الدموع  ، وليصرخ

---------------------------
(1) وفاة السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام )   ، للحجّة الشيخ فرج العمران عليه الرحمة  ، ضمن مجموعة وفيات الأئمة ( عليهم السلام ) : 437 ـ 442 .
(2) رياض المدح والرثاء  ، الشيخ حسين القديحي : 324 .
(3) رياضح المدح والرثاء  ، الشيخ حسين القديحي : 13 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 464 _

  الصارخون  ، ويضجَّ الضاجون  ، ويعجَّ العاجون  ، أين الحسن وأين الحسين  ، أين أبناء الحسين  ، صالح بعد صالح  ، وصادق بعد صادق  ، أين السبيل بعد السبيل  ، أين الخيرة بعد الخيرة  ، أين الشموس الطالعة  ، أين الأقمار المنيرة  ، أين الأنجم الزاهرة  ، أين أعلام الدين وقواعد العلم (1) .
  قال إسماعيل بن سهل : حدَّثني بعض أصحابنا ـ وسألني أن أكتم اسمه ـ قال : كنت عند الرضا ( عليه السلام ) فدخل عليه علي بن أبي حمزة  ، وابن السراج  ، وابن المكاري  ، فقال له ابن أبي حمزة : ما فعل أبوك ؟ قال : مضى  ، قال : مضى موتاً ؟ قال : نعم  ، قال : إلى من عهد ؟ فقال : إليَّ  ، قال : فأنت إمام مفترض الطاعة من الله ؟ قال : نعم  ، قال ابن السراج وابن المكاري : قد والله أمكنك من نفسه  ، قال : ويلك  ، وبم أمكنت ؟ أتريد أن آتي بغداد وأقول لهارون : أنا إمام مفترض الطاعة ؟ والله ما ذلك عليَّ  ، وإنما قلت ذلك لكم عندما بلغني من اختلاف كلمتكم  ، وتشتّت أمركم  ، لئلا يصير سرّكم في يد عدوّكم  ، قال له ابن أبي حمزة : لقد أظهرت شيئاً ما كان يظهره أحد من آبائك ولا يتكلَّم به  ، قال : بلى  ، لقد تكلَّم خير آبائي رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، لمَّا أمره الله تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين جمع من أهل بيته أربعين رجلا  ، وقال لهم : أنا رسول الله إليكم  ، فكان أشدَّهم تكذيباً له وتأليباً عليه عمّه أبو لهب  ، فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) : إن خدشني خدش فلست بنبيٍّ  ، فهذا أول ما أبدع لكم من آية النبوة  ، وأنا أقول : إن خدشني هارون خدشاً فلست بإمام  ، فهذا أول ما أبدع لكم من آية الإمامة  ، فقال له علي : إنا روينا عن آبائك أن الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله  ، فقال له أبو الحسن ( عليه السلام ) : فأخبرني عن الحسين بن علي ( عليهما السلام )   ، كان إماماً أو كان غير إمام ؟ قال : كان إماماً  ، قال : فمن ولي أمره ؟ قال : علي بن الحسين  ، قال ( عليه السلام ) : وأين كان علي بن الحسين ( عليه السلام ) ؟ قال : كان محبوساً في يد عبيد الله بن زياد في الكوفة  ،

---------------------------
(1) المزار  ، محمد بن المشهدي : 578 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 465 _

  قال : خرج وهم كانوا لا يعلمون حتى ولي أمر أبيه ثمَّ انصرف  ، فقال له أبو الحسن ( عليه السلام ) : إن هذا الذي أمكن علي بن الحسين ( عليه السلام ) أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه فهو أمكن صاحب هذا الأمر أن يأتي بغداد فيلي أمر أبيه ثمَّ ينصرف  ، وليس في حبس ولا في إسار  ، قال له علي : إنا روينا أن الإمام لا يمضي حتى يرى عقبه  ، قال : فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : أما رويتم في هذا الحديث غير هذا ؟ قال : لا  ، قال : بلى والله  ، لقد رويتم إلاَّ القائم  ، وأنتم لا تدرون ما معناه ولم قيل  ، قال له علي : بلى والله  ، إن هذا لفي الحديث  ، قال له أبو الحسن ( عليه السلام ) : ويلك  ، كيف اجترأت على شيء تدع بعضه ؟ ثمَّ قال : يا شيخ  ، اتق الله ولا تكن من الصادّين عن دين الله تعالى (1) .
  روى ابن نما الحلي عليه الرحمة في مثير الأحزان  ، عن ابن عائشة قال : مرَّ سليمان بن قتيبة العدوي ومولى بني تميم بكربلاء بعد قتل الحسين ( عليه السلام ) بثلاث  ، فنظر إلى مصارعهم فاتَّكأ على فرس له عربية وأنشأ :
مَرَرْتُ   على   أبياتِ  آلِ  محمَّد      فَلَمْ    أَرَها   أَمْثَالَها   يومَ   حَلَّتِ
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّمْسَ أضحت مريضةً      لِفَقْدِ   حسين   والبلادَ   iiاقشعرَّتِ
وكانوا  رجاءاً  ثمَّ  أَضْحَوا iiرَزِيَّةً      لَقَدْ  عَظُمَتْ  تلك  الرزايا  iiوجَلَّتِ
وتسألُنا   قَيْسٌ   فَنُعْطِي   iiفَقِيرَها       وَتَقْتُلُنا   قيسٌ   إذَا   النَّعْلُ  iiزَلَّتِ
وعندَ   غَنِيٍّ   قَطْرَةٌ   من  iiدِمَائِنا         سَنَطْلُبُهم  يوماً  بها  حيثُ iiحَلَّتِ
فَلاَ    يُبْعِدُ   اللهُ   الديارَ   وأهلَها       وَإِنْ  أصبحت  منهم  برَغْم تَخَلَّتِ
فإِنَّ  قتيلَ  الطفِّ  من  آلِ  iiهاشم      أذلَّ    رِقَابَ    المسلمينَ   iiفَذَلَّتِ
وقد  أَعْوَلَتْ  تبكي  السَّماءُ  iiلِفَقْدِهِ      وأنجمُنا   ناحت   عليه   iiوصلَّتِ (2)
  جاء في مقتل الحسين ( عليه السلام ) للسيِّد عبد الرزّاق المقرَّم عليه الرحمة : ولما أقبل

---------------------------
(1) معجم رجال الحديث  ، السيد الخوئي : 12/240 ـ 241 .
(2) مثير الأحزان  ، ابن نما الحلي : 88 ـ 89 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 466 _

  السجاد ( عليه السلام ) وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى  ، متحيِّرين لا يدرون ما يصنعون  ، ولم يهتدوا إلى معرفتهم  ، وقد فرَّق القوم بين رؤوسهم وأبدانهم  ، وربما يُسْألون من أهلهم وعشيرتهم ؟
  فأخبرهم ( عليه السلام ) عمّا جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة  ، وأوقفهم على أسمائهم  ، كما عرَّفهم بالهاشميين من الأصحاب  ، فارتفع البكاء والعويل  ، وسالت الدموع منهم كلَّ مسيل  ، ونشرت الأسديات الشعور  ، ولطمن الخدود .
   ثمَّ مشى الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) إلى جسد أبيه  ، واعتنقه وبكى بكاءاً عالياً  ، وأتى إلى موضع القبر  ، ورفع قليلا من التراب  ، فبان قبر محفور وضريح مشقوق  ، فبسط كفّيه تحت ظهره  ، وقال : بسم الله وفي سبيل الله  ، وعلى ملّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، صدق الله ورسوله  ، ما شاء الله  ، لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العظيم  ، وأنزله وحده ولم يشاركه بنو أسد فيه  ، وقال لهم : إن معي من يعينني  ، ولمَّا أقرَّه في لحده وضع خدَّه على منحره الشريف قائلا : طوبى لأرض تضمَّنت جسدك الطاهر  ، فإن الدنيا بعدك مظلمة  ، والآخرة بنورك مشرقة  ، أمَّا الليل فمسهَّد  ، والحزن سرمد  ، أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم  ، وعليك منّي السلام ـ يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ـ ورحمة الله وبركاته  ، وكتب على القبر : هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً .
   ولله در الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
لَمْ أَنْسَ لمَّا عاد من أَسْرِ العِدَى      سرّاً  لِيَدْفُنَ  جِسْمَ  خيرِ  iiقتيلِ
ورآه  مطروحاً  وقد  حفَّتْ iiبه      قومٌ    تَنَحَّوا   خِيْفَةَ   iiالتنكيلِ
وَمُذِ  استبانوا الحُزْنَ قالوا iiإنَّنا      جِئْنا  لِنَدْفُنَ  سِبْطَ خَيرِ iiرَسُولِ
لكنْ  لِرَفْعِ الجسمِ والتحريكِ iiلم      نَرَ   كُلُّنا   من  قُدْرَة  iiوسبيلِ
فَدَعَا    بِبَارِيَة    هناك   وَلَفَّهُ       فيها   بلا   كَفَن  وَلاَ  iiتغسيلِ

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 467 _

رَفَعَ الجَنَازَةَ والملائكُ من أسىً      أَمُّوه     بالتكبير     iiوالتهليلِ
وَلِحَمْلِهِ   جاء   النبيُّ  iiوحيدرٌ      والمجتبى  في  عَبْرَة  iiوَعَوِيلِ
  وقال عليه الرحمة على لسان الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) لمَّا وضع أباه الحسين ( عليه السلام ) في قبره الشريف :
يَا    رَاحِلا   تَرَكَ   الدُّنْيَا   iiبِرِحْلَتِهِ      ظَلْمَاءَ كاللَّيلِ وَالأُخْرَى اغْتَدَتْ iiنورا
فأنت  كالشمسِ  أُفْقٌ  فيه  قَدْ iiطَلَعَتْ      يُضِي  وَمَا  عَنْهُ غَابَتْ عَادَ iiدَيْجورا
مُسَهَّداً   لَمْ   أَزَلْ  ليلي  عليك  وَلَنْ      أُرَى مِنَ الْحُزْنِ مهما عِشْتُ مسرورا (1)
  قال الراوي : ثمَّ مشى ( عليه السلام ) إلى عمِّه العباس ( عليه السلام ) فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السماء  ، وأبكت الحور في غرف الجنان  ، ووقع عليه يلثم نحره المقدَّس قائلا : على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم  ، وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته  ، وشقَّ له ضريحاً  ، وأنزله وحده كما فعل بأبيه الشهيد  ، وقال لبني أسد : إن معي من يعينني  ، نعم ترك مساغاً لبني أسد بمشاركته في مواراة الشهداء  ، وعيَّن لهم موضعين  ، وأمرهم أن يحفروا حفرتين  ، ووضع في الأولى بني هاشم  ، وفي الثانية الأصحاب (2) .
  وأما الحر الرياحي فأبعدته عشيرته إلى حيث مرقده الآن  ، وقيل : إن أمه كانت حاضرة  ، فلمَّا رأت ما يُصنع بالأجساد حملت الحرّ إلى هذا المكان .
  وكان أقرب الشهداء إلى الحسين ( عليه السلام ) ولده علي الأكبر ( عليه السلام )   ، وفي ذلك يقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) لعبد الله بن حماد البصري : فإنَّه غريب بأرض غربة  ، يبكيه من زاره  ، ويحزن له من لم يزره  ، ويحترق له من لم يشهده  ، ويرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجله  ، في أرض فلاة  ، لا حميم قربه ولا قريب  ، ثم منع الحقّ  ، وتوازر عليه

---------------------------
(1) الشواهد المنبرية  ، الشيخ علي الجشي : 50 .
(2) مقتل الحسين ( عليه السلام )   ، المقرم : 320 ـ 321  ، عن الكبريت الأحمر وأسرار الشهادة والإيقاد .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 468 _

  أهل الردّة  ، حتى قتلوه وضيَّعوه  ، وعرَّضوه للسباع  ، ومنعوه شرب ماء الفرات الذي يشربه الكلاب  ، وضيَّعوا حقّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيّته به وبأهل بيته  ، فأمسى مجفّواً في حفرته  ، صريعاً بين قرابته وشيعته  ، بين أطباق التراب  ، قد أوحش قربه في الوحدة  ، والبعد عن جدّه  ، والمنزل الذي لا يأتيه إلاَّ من امتحن الله قلبه للإيمان وعرَّفه حقّنا  ، إلى أن قال ( عليه السلام ) : ولقد حدَّثني أبي أنه لم يخل مكانه منذ قُتل من مصلٍّ يصلّي عليه من الملائكة  ، أو من الجنّ أو من الإنس أو من الوحش  ، وما من شيء إلاَّ وهو يغبط زائره  ، ويتمسَّح به  ، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره .
  ثمَّ قال ( عليه السلام ) : بلغني أن قوماً يأتونه من نواحي الكوفة  ، وناساً من غيرهم  ، ونساء يندبنه  ، وذلك في النصف من شعبان  ، فمن بين قارىء يقرأ  ، وقاصّ يقصّ  ، ونادب يندب  ، وقائل يقول المراثي  ، فقلت له : نعم جُعلت فداك  ، قد شهدت بعض ما تصف  ، فقال : الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا  ، ويمدحنا ويرثي لنا  ، وجعل عدوّنا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم  ، يهدرونهم ويُقبّحون ما يصنعون (1) .
  ولله در الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ( قدس سره ) إذ يقول :
رزاياكمُ    يا    آل   بيت   iiمحمد      أغصُّ   لذكراهنَّ   بالمنهل  iiالعذبِ
عمىً   لعيون   لا  تفيض  iiدموعها      عليكم وقد فاضت دماكم على التربِ
وتعساً   لقلب   لا   يمزِّقه   الأسى      لحرب  بها  قد  مزَّقتكم  بنو iiحربِ

---------------------------
(1) كامل الزيارات  ، ابن قولويه : 537 ـ 539 ح 1 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 469 _

أأنس    بأطراف    الرماح   iiرؤوسكم      تطلع   كالأقمار   في   الأنجم  iiالشُهبِ
أأنسى   طراد   الخيل  فوق  iiجسومكم      وما وُطأت من موضع الطَّعن والضربِ
أأنسى    دماءً    قد    سُفِكْنَ    وأدمعاً      سُكبْنَ   وأحراراً   هُتِكنَ  من  iiالحُجبِ
أأنسى    بيوتاً    قد    نُهبْنَ    iiونسوةً      سُلِبْنَ    وأكباداً    اُذِبنَ   من   الرُعبِ
أأنسى     اقتحام    الظالمين    iiبيوتكم      تُروِّع   آلَ   الله   بالضَّرب   iiوالنهبِ
أأنسى   اضطرام  النار  فيها  وما  iiبها       سوى   صبية   فرت  مذعَّرة  iiالسَّرب (1)

المجلس الثاني  : من اليوم الثالث عشر :

   حديث الحوراء زينب ( عليها السلام ) للإمام زين العابدين ( عليه السلام )وكلامها في علوّ شأن قبر الحسين ( عليه السلام ) على مرّ الأيام روى ابن قولويه عليه الرحمة  ، عن قدامة بن زائدة  ، عن أبيه قال : قال علي ابن الحسين ( عليه السلام ) : بلغني ـ يا زائدة ـ أنك تزور قبر أبي عبدالله أحياناً  ، فقلت : إن ذلك لَكما بلغك  ، فقال ( عليه السلام ) لي : فلماذا تفعل ذلك ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبّتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا والواجب على هذه الأمّة من

---------------------------
(1) مقتل الحسين ( عليه السلام )   ، المقرم : 378 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 470 _

  حقّنا ؟
  فقلت : والله ما أريد بذلك إلاّ الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله )   ، ولا أحفل بسخط من سخط  ، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه .
  فقال : والله إن ذلك لكذلك ؟ فقلت : والله إن ذلك لكذلك ـ يقولها ثلاثاً وأقولها ثلاثاً ـ فقال : أبشر  ، ثم أبشر  ، ثم أبشر  ، فلأخبرنك بخبر كان عندي في النخب المخزون  ، إنه لمَّا أصابنا بالطفِّ ما أصابنا  ، وقُتل أبي ( عليه السلام ) وقُتل من كان معه من ولده وإخوته وسائر أهله  ، وحُملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يُراد بنا الكوفة  ، فجعلت أنظر إليهم صرعى ولم يُواروا  ، فعظم ذلك في صدري  ، واشتدّ لما أرى منهم قلقي  ، فكادت نفسي تخرج  ، وتبيَّنت ذلك منّي عمّتي زينب الكبرى بنت علي فقالت : مالي أراك تجود بنفسك يا بقيَّة جدّي وأبي وإخوتي ؟ فقلت : وكيف لا أجزع وأهلع ؟ وقد أرى سيِّدي وإخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مضرَّجين بدمائهم  ، مرمَّلين بالعراء  ، مسلَّبين لا يكفَّنون ولا يوارون  ، لا يُعرِّج عليهم أحد  ، ولا يقربهم بشر  ، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر .
  فقالت : لا يجزعنَّك ما ترى  ، فوالله إن ذلك لعهد من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى جدّك وأبيك وعمِّك  ، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرِّقة فيوارونها  ، وهذه الجسوم المضرَّجة  ، وينصبون لهذا الطفّ علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء  ، لا يَدرس أثره  ، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام  ، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه  ، فلا يزداد أثره إلا ظهوراً  ، وأمره إلاَّ علواً .
  فقلت : وما هذا العهد ؟ وما هذا الخبر ؟ فقالت : حدَّثتني أم أيمن أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) زار منزل فاطمة ( عليها السلام ) في يوم من الأيام  ، فعملت له حريرة ( صلى الله

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 471 _

  عليها ) وأتاه علي ( عليه السلام ) بطبق فيه تمر  ، ثمَّ قالت أم أيمن  ، فأتيتهم بعسّ فيه لبن وزبد  ، فأكل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) من تلك الحريرة  ، وشرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وشربوا من ذلك اللبن  ، ثمّ أكل وأكلوا من ذلك التمر بالزبد  ، ثمّ غسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يده وعليٌّ يصبّ عليه الماء  ، فلمَّا فرغ من غسل يده مسح وجهه  ، ثمَّ نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا فيه السرور في وجهه  ، ثمَّ رمق بطرفه نحو السماء مليّاً  ، ثمَّ وجَّه وجهه نحو القبلة  ، وبسط يديه يدعو  ، ثمَّ خرَّ ساجداً وهو ينشج  ، فأطال النشوج  ، وعلا نحيبه  ، وجرت دموعه  ، ثمَّ رفع رأسه  ، وأطرق إلى الأرض  ، ودموعه تقطر كأنها صوب المطر .
  فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين ( عليهم السلام ) ، وحزنت معهم لما رأينا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله )   ، وهبناه أن نسأله  ، حتى إذا طال ذلك قال له عليٌّ وقالت له فاطمة : ما يبكيك يا رسول الله ؟ لا أبكى الله عينيك  ، فقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك  ، فقال : يا أخي  ، سُررت بكم .
  وقال مزاحم بن عبد الوارث في حديثه هاهنا : فقال : يا حبيبي  ، إني سررت بكم سروراً ما سُررت مثله قط  ، وإني لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته عليَّ فيكم  ، إذ هبط عليَّ جبرئيل فقال : يا محمَّد  ، إن الله تبارك وتعالى اطَّلع على ما في نفسك  ، وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك  ، فأكمل لك النعمة  ، وهنَّأك العطيَّة  ، بأن جعلهم وذرّيّاتهم ومحبّيهم وشيعتهم معك في الجنّة  ، لا يفرِّق بينك وبينهم  ، ويُحبون كما تُحبى  ، ويُعطون كما تُعطى حتى ترضى  ، وفوق الرضا  ، على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا  ، ومكاره تصيبهم بأيدي أناس ينتحلون ملَّتك  ، ويزعمون أنهم من أمّتك  ، برءاً من الله ومنك  ، خبطاً خبطاً  ، وقتلا قتلا  ، شتَّى مصارعهم  ، نائية قبورهم  ، خيرة من الله لهم ولك فيهم  ، فاحمد الله عزَّ وجلَّ على خيرته  ، وارض بقضائه  ، فحمدت الله ورضيت بقضائه بما اختاره لكم .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 472 _

  ثم قال لي جبرئيل : يا محمَّد  ، إن أخاك مُضطهدٌ بعدك  ، مغلوبٌ على أمّتك  ، متعوبٌ من أعدائك  ، ثمَّ مقتول بعدك  ، يقتله أشرّ الخلق والخليقة  ، وأشقى البريَّة نظير عاقر الناقة  ، ببلد تكون إليه هجرته  ، وهو مغرس شيعته وشيعة ولده  ، وفيه على كل حال يكثر بلواهم ويعظم مصابهم .
  وإن سبطك هذا ـ وأومأ بيده إلى الحسين ( عليه السلام ) ـ مقتول في عصابة من ذرّيّتك وأهل بيتك وأخيار من أمّتك  ، بضفّة الفرات  ، بأرض تُدعى كربلاء  ، من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذرّيّتك  ، في اليوم الذي لا ينقضي كربه  ، ولا تفنى حسرته  ، وهي أطهر بقاع الأرض وأعظمها حرمة  ، وإنها لمن بطحاء الجنَّة  ، فإذا كان ذلك اليوم الذي يُقتل فيه سبطك وأهله  ، وأحاطت بهم كتائب أهل الكفر واللعنة تزعزعت الأرض من أقطارها  ، ومادت الجبال  ، وكثر اضطرابها  ، واصطفقت البحار بأمواجها  ، وماجت السماوات بأهلها  ، غضباً لك ـ يا محمَّد ـ ولذرّيّتك  ، واستعظاماً لما يُنتهك من حرمتك  ، ولشرّ ما تُكافى به في ذرّيّتك وعترتك  ، ولا يبقى شيء من ذلك إلاَّ استأذن الله عزَّ وجلّ في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين  ، الذين هم حجّة الله على خلقه بعدك  ، فيوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال والبحار  ، ومن فيهن : أنّي أنا الله المَلِك القادر  ، والذي لا يفوته هارب  ، ولا يعجزه ممتنع  ، وأنا أقدر على الانتصار والانتقام  ، وعزّتي وجلالي لأُعذِّبنَّ من وتر رسولي وصفيّي  ، وانتهك حرمته  ، وقتل عترته  ، ونبذ عهده  ، وظلم أهله  ، عذاباً لا أعذِّبه أحداً من العالمين .
  فعند ذلك يضجّ كلُ شيء في السماوات والأرضين بلعن من ظلم عترتك  ، واستحلَّ حرمتك  ، فإذا برزت تلك العصابة إلى مضاجعها تولَّى الله عزَّ وجلَّ قبض أرواحها بيده  ، وهبط إلى الأرض ملائكة من السماء السابعة معهم آنية من الياقوت والزمرّد  ، مملوءة من ماء الحياة  ، وحلل من حلل الجنّة  ، وطيب من طيب الجنة  ،

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 473 _

  فغسلوا جثثهم بذلك الماء  ، وألبسوها الحلل  ، وحنَّطوها بذلك الطيب  ، وصلَّى الملائكة صفاً صفاً عليهم  ، ثمَّ يبعث الله قوماً من أمتك لا يعرفهم الكفار  ، لم يشركوا في تلك الدماء بقول ولا فعل ولا نيَّة  ، فيوارون أجسامهم  ، ويقيمون رسماً لقبر سيّد الشهداء بتلك البطحاء  ، يكون عَلماً لأهل الحق  ، وسبباً للمؤمنين إلى الفوز  ، وتحفّه ملائكة  ، من كلّ سماء مائة ألف ملك  ، في كل يوم وليلة  ، ويصلّون عليه  ، يسبّحون الله عنده  ، ويستغفرون الله لزوّاره  ، ويكتبون أسماء من يأتيه زائراً من أمتك متقرِّباً إلى الله وإليك بذلك  ، وأسماء آبائهم وعشائرهم وبلدانهم  ، ويوسمون في وجوههم بميسم نور عرش الله : هذا زائر قبر خير الشهداء وابن خير الأنبياء  ، فإذا كان يوم القيامة سطع في وجوههم من أثر ذلك الميسم نور تغشى منه الأبصار  ، يدلُّ عليهم ويُعرفون به .
  وكأني بك ـ يا محمد ـ بيني وبين ميكائيل  ، وعليُّ أمامنا  ، ومعنا من ملائكة الله ما لا يُحصى عدده  ، ونحن نلتقط من ذلك الميسم في وجهه من بين الخلائق حتى ينجيهم الله من هول ذلك اليوم وشدائده  ، وذلك حكم الله وعطاؤه لمن زار قبرك يا محمد  ، أو قبر أخيك  ، أو قبر سبطيك  ، لا يريد به غير الله عزَّ وجلَّ  ، وسيجتهد أناس ممن حقَّت عليهم من الله اللعنة والسخط أن يعفوا رسم ذلك القبر  ، ويمحوا أثره  ، فلا يجعل الله تبارك وتعالى لهم إلى ذلك سبيلا  ، ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : فهذا أبكاني وأحزنني .
  قالت زينب ( عليها السلام ) : فلمَّا ضرب ابن ملجم لعنه الله أبي ( عليه السلام )   ، ورأيت أثر الموت منه قلت له : يا أبة  ، حدَّثتني أم أيمن بكذا وكذا  ، وقد أحببت أن أسمعه منك  ، فقال : يا بنيَّة  ، الحديث كما حدَّثتك أم أيمن  ، وكأني بك وببنات أهلك سبايا بهذا البلد  ، أذلاّء خاشعين  ، تخافون أن يتخطَّفكم الناس  ، فصبراً صبراً  ، فو الذي فلق الحبة وبرأ النسمة  ، ما لله على ظهر الأرض يومئذ وليُّ غيركم وغير محبّيكم وشيعتكم  ،

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 474 _

  ولقد قال لنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين أخبرنا بهذا الخبر : إن إبليس في ذلك اليوم يطير فرحاً  ، فيجول الأرض كلَّها في شياطينه وعفاريته  ، فيقول : يا معشر الشياطين  ، قد أدركنا من ذرّيّة آدم الطلبة  ، وبلغنا في هلاكهم الغاية  ، وأورثناهم النار  ، إلاَّ من اعتصم بهذه العصابة  ، فاجعلوا شغلكم بتشكيك الناس فيهم  ، وحملهم على عداوتهم  ، وإغرائهم بهم وأوليائهم  ، حتى تستحكم ضلالة الخلق وكفرهم  ، ولا ينجو منهم ناج  ، ولقد صدق عليهم إبليس وهو كذوب  ، إنه لا ينفع مع عداوتكم عمل صالح  ، ولا يضرُّ مع محبَّتكم وموالاتكم ذنب غير الكبائر .
  قال زائدة : ثمَّ قال علي بن الحسين ( عليه السلام ) بعد أن حدَّثني بهذا الحديث : خذه إليك  ، أما لو ضربت في طلبه آباط الإبل حولا لكان قليلا (1) .
  ولله درّ السيد جعفر الحلي عليه الرحمة إذ يقول :
يَا   ميِّتاً   تَرَكَ  الألبابَ  iiحائرةً      وَبالعَرَاءِ   ثَلاَثاً   جِسْمُهُ   iiتُرِكا
تأتي  الوُحُوشُ  له  ليلا  iiمُسَلِّمةً      والقومُ  تُجْرِي نَهَاراً فَوْقَهُ iiالرَّمَكَا
وَيْلٌ  لَهُمْ ما اهتدوا منه iiبمَوْعِظَة      كالدُّرِّ   منتظماً   والتِّبْرِ  iiمُنْسَبِكَا
لم  يَنْقَطِعْ قَطُّ مِنْ إِرْسَالِ iiخُطْبَتِهِ      حَتَّى بها رَأْسُهُ فَوْقَ السِّنَانِ حَكَى(2)

المجلس الثالث : من اليوم الثالث عشر :

  بكاء الطير والوحش على الإمام الحسين ( عليه السلام ) روى ابن قولويه عليه الرحمة عن داود بن فرقد قال : كنت جالساً في بيت

---------------------------
(1) كامل الزيارات  ، ابن قولويه : 444 ـ 448 ح 1  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/179 ـ 184 ح  30 و 28/55 ـ 58 ح 23 .
(2) رياض المدح والرثاء  ، الشيخ حسين القديحي : 232 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 475 _

  أبي عبدالله ( عليه السلام )   ، فنظرت إلى الحمام الراعبي يقرقر طويلا  ، فنظر إليَّ أبو عبدالله ( عليه السلام ) طويلا  ، فقال : يا داود  ، تدري ما يقول هذا الطير ؟ قلت : لا والله جعلت فداك  ، قال : تدعو على قتلة الحسين صلوات الله عليه  ، فاتخذوه في منازلكم .
  وعن الحسين بن أبي غندر  ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : سمعته يقول في البومة فقال : هل أحد منكم رآها بالنهار ؟ قيل له : لاتكاد تظهر بالنهار  ، ولا تظهر إلاَّ ليلا  ، قال : أما إنها لم تزل تأوي العمران أبداً  ، فلمَّا أن قُتل الحسين ( عليه السلام ) آلت على نفسها أن لا تأوي العمران أبداً  ، ولا تأوي إلاَّ الخراب  ، فلا تزال نهارها صائمة حزينة حتى يُجنَّها الليل  ، فإذا جنَّها الليل فلا تزال ترنّ على الحسين صلوات الله عليه حتى تصبح .
  وعن الحسين بن علي بن صاعد البربري ـ قيّماً لقبر الرضا ( عليه السلام ) ـ قال : حدَّثني أبي قال : دخلت على الرضا ( عليه السلام ) فقال لي : ما يقول الناس ؟ قال : قلت : جعلت فداك جئنا نسألك  ، قال : فقال لي : ترى هذه البومة  ، كانت على عهد جدّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تأوي المنازل والقصور والدور  ، وكانت إذا أكل الناس الطعام تطير فتقع أمامهم  ، فُيرمى إليها بالطعام وتُسقى ثمَّ ترجع إلى مكانها  ، ولمَّا قُتل الحسين بن على خرجت من العمران إلى الخراب والجبال والبراري  ، وقالت : بئس الأمة أنتم  ، قتلتم ابن نبيِّكم  ، ولا آمنكم على نفسي .
  وعن الحسن بن علي الميثمي قال : قال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : يا يعقوب  ، رأيت بومة قطّ تنفس بالنهار ؟ فقال : لا  ، قال : وتدري لم ذلك ؟ قال : لا  ، قال : لأنها تظلُّ يومها صائمة  ، فإذا جنَّها الليل أفطرت على ما رُزقت  ، ثم لم تزل ترنّم على الحسين حتى تصبح (1) .
  قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : روي في كتاب المناقب القديم  ، عن

---------------------------
(1) بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/213 عن كامل الزيارات .