الفهرس العام

بسم الله الرحمن الرحيم


المجلس الأول : من اليوم الخامس :
المجلس الثاني : من اليوم الخامس :
المجلس الثالث : من اليوم الخامس :


  فأقبل الصغير يحرِّك الكبير ويقول : قم يا حبيبي ، فقد والله وقعنا فيما كنا نحاذره ، قال لهما : من أنتما ؟ قالا له : يا شيخ ، إن نحن صدقناك فلنا الأمان ؟ قال : نعم ، قالا : أمان الله وأمان رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وذمة الله وذمة رسوله ؟ قال : نعم ، قالا : ومحمد بن عبدالله على ذلك من الشاهدين ؟ قال : نعم ، قالا : والله على ما نقول وكيل وشهيد ؟ قال : نعم ، قالا له : يا شيخ ، فنحن من عترة نبيك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، هربنا من سجن عبيدالله بن زياد من القتل ، فقال لهما : من الموت هربتما ، وإلى الموت وقعتما ، الحمد لله الذي أظفرني بكما .
  فقام إلى الغلامين فشدَّ أكتافهما ، فبات الغلامان ليلتهما مكتفين ، فلمَّا انفجر عمود الصبح دعا غلاماً له أسود ، يقال له : فليح ، فقال : خذ هذين الغلامين ، فانطلق بهما إلى شاطىء الفرات ، واضرب عنقيهما ، وائتني برأسيهما لأنطلق بهما إلى عبيدالله بن زياد ، وآخذ جائزة ألفي درهم .
  فحمل الغلام السيف ، ومشى أمام الغلامين ، فما مضى إلاَّ غير بعيد حتى قال أحد الغلامين : يا أسود ، ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذِّن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! قال : إن مولاي قد أمرني بقتلكما ، فمن أنتما ؟ قالا له : يا أسود ، نحن من عترة نبيك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، هربنا من سجن عبيدالله بن زياد من القتل ، أضافتنا عجوزكم هذه ، ويريد مولاك قتلنا ، فانكبَّ الأسود على أقدامهما يقبّلهما ويقول : نفسي لنفسكما الفداء ، ووجهي لوجهكما الوقاء ، يا عترة نبيِّ الله المصطفى ، والله لا يكون محمد ( صلى الله عليه وآله ) خصمي في القيامة ، ثم عدا فرمى بالسيف من يده ناحية ، وطرح نفسه في الفرات ، وعبر إلى الجانب الآخر ، فصاح به مولاه : يا غلام! عصيتني ، فقال : يا مولاي ، إنما أطعتك ما دمت لا تعصي الله ، فإذا عصيت الله فأنا منك بريء في الدنيا والآخرة .
  فدعا ابنه ، فقال : يا بنيّ ، إنما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك ، والدنيا محرصٌ

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 152 _

  عليها ، فخذ هذين الغلامين إليك ، فانطلق بهما إلى شاطىء الفرات ، فاضرب عنقيهما وائتني برأسيهما ، لأنطلق بهما إلى عبيدالله بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم ، فأخذ الغلام السيف ، ومشى أمام الغلامين ، فما مضى إلاّ غير بعيد حتى قال أحد الغلامين : يا شابّ ، ما أخوفني على شبابك هذا من نار جهنم! فقال : يا حبيبيّ ، فمن أنتما ؟ قالا :
  من عترة نبيك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، يريد والدك قتلنا ، فانكبَّ الغلام على أقدامهما يقبّلهما ، وهو يقول لهما مقالة الأسود ، ورمى بالسيف ناحية ، وطرح نفسه في الفرات وعبر ، فصاح به أبوه : يا بنيَّ! عصيتني ، قال : لأن أطيع الله وأعصيك أحبُّ إلي من أن أعصى الله وأطيعك .
  قال الشيخ : لا يلي قتلكما أحد غيري ، وأخذ السيف ومشى أمامهما ، فلمّا صار إلى شاطىء الفرات سلَّ السيف من جفنه ، فلما نظر الغلامان إلى السيف مسلولا اغرورقت أعينهما ، وقالا له : يا شيخ انطلق بنا إلى السوق واستمتع بأثماننا ، ولا ترد أن يكون محمد خصمك في القيامة غداً فقال : لا ، ولكن أقتلكما وأذهب برأسيكما إلى عبيدالله بن زياد ، وآخذ جائزة ألفي درهم .
  فقالا له : يا شيخ ، أما تحفظ قرابتنا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فقال : ما لكما من رسول الله قرابة ، قالا له : يا شيخ ، فائت بنا إلى عبيد الله ابن زياد حتى يحكم فينا بأمره ، قال : ما إلى ذلك سبيل إلاّ التقرّب إليه بدمكما ، قالا له : يا شيخ ، أما ترحم صغر سننا ؟ قال : ما جعل الله لكما في قلبي من الرحمة شيئاً ، قالا : يا شيخ ، إن كان ولابدّ فدعنا نصلّي ركعات ، قال : فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة .
  فصلّى الغلامان أربع ركعات ، ثم رفعا طرفيهما إلى السماء فناديا : يا حيُّ يا حليم ، يا أحكم الحاكمين ، احكم بيننا وبينه بالحق .
  فقام إلى الأكبر فضرب عنقه ، وأخذ برأسه ووضعه في المخلاة ، وأقبل الغلام الصغير يتمرَّغ في دم أخيه وهو يقول : حتى ألقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنا مختضب بدم

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 153 _

  أخي ، فقال : لا عليك ، سوف ألحقك بأخيك ، ثم قام إلى الغلام الصغير فضرب عنقه ، وأخذ رأسه ووضعه في المخلاة ، ورمى ببدنيهما في الماء ، وهما يقطران دماً .
  ومرَّ حتى أتى بهما عبيدالله بن زياد وهو قاعد على كرسيٍّ له ، وبيده قضيب خيزران ، فوضع الرأسين بين يديه ، فلمّا نظر إليهما قام ثم قعد ، ثم قام ثم قعد ثلاثاً ، ثم قال : الويل لك ، أين ظفرت بهما ؟ قال : أضافتهما عجوز لنا ، قال : فما عرفت لهما حقّ الضيافة ؟ قال : لا ، قال : فأيَّ شيء قالا لك ؟ قال : قالا : يا شيخ ، اذهب بنا إلى السوق فبعنا وانتفع بأثماننا فلا ترد أن يكون محمد ( صلى الله عليه وآله ) خصمك في القيامة ، قال : فأيَّ شيء قلت لهما ؟ قال : قلت : لا ، ولكن أقتلكما وأنطلق برأسيكما إلى عبيدالله بن زياد ، وآخذ جائزة ألفي درهم ، قال : فأيَّ شيء قالا لك ؟ قال : قالا : ائت بنا إلى عبيدالله بن زياد حتى يحكم فينا بأمره ، قال : فأي شيء قلت ؟
  قال : قلت : ليس إلى ذلك سبيل إلاّ التقرّب إليه بدمكما ، قال : أفلا جئتني بهما حيّين ، فكنت أضعف لك الجائزة ، وأجعلها أربعة آلاف درهم ؟
  قال : ما رأيت إلى ذلك سبيلا إلاَّ التقرُّب إليك بدمهما ، قال : فأيَّ شيء قالا لك أيضاً ؟ قال : قالا لي : يا شيخ ، احفظ قرابتنا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، قال : فأي شيء قلت لهما ؟ قال : قلت : ما لكما من رسول الله قرابة ، قال : ويلك ، فأيَ شيء قالا لك أيضاً ؟ قال : قالا : يا شيخ ، ارحم صغر سننا ، قال : فما رحمتهما ؟ قال : قلت : ما جعل الله لكما من الرحمة في قلبي شيئاً ، قال : ويلك ، فأيَّ شيء قالا لك أيضاً ؟ قال : قالا : دعنا نصلّي ركعات ، فقلت : فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة ، فصلّى الغلامان أربع ركعات ، قال : فأيَّ شيء قالا في آخر صلاتهما ؟ قال : رفعا طرفيهما إلى السماء ، وقالا : يا حي يا حليم ، يا أحكم الحاكمين ، أحكم بيننا وبينه بالحق .
  قال عبيدالله بن زياد : فإن أحكم الحاكمين قد حكم بينكم ، من للفاسق ؟ قال : فانتدب له رجل من أهل الشام ، فقال : أنا له ، قال : فانطلق به إلى الموضع

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 154 _

  الذي قتل فيه الغلامين ، فاضرب عنقه ، ولا تترك أن يختلط دمه بدمهما ، وعجِّل برأسه ، ففعل الرجل ذلك ، وجاء برأسه فنصبه على قناة ، فجعل الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة وهم يقولون : هذا قاتل ذرية رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (1) .
  ولله درّ الشيخ صالح الكواز الحلي عليه الرحمة حيث يقول :
وصبية   من  بني  الزهرا  iiمُرَبَّطَة      بالحبلِ   بين  بني  حَمَّالَةِ  iiالحطبِ
كأنَّ    كلَّ    فؤاد    من   iiعدوِّهِمُ      صَخْرُ بنُ حَرْب غدا يُغْرِيه بالحَرَبِ
ليت  الأُولى أطعموا المسكينَ iiقُوْتَهُمُ      وَتَالِيَيْهِ   وهم   في   غَايَةِ  iiالسَّغَبِ
حتى  أَتَى  هل أتى في مَدْحِ iiفَضْلِهِمُ      مِنَ  الإلهِ  لهم  في  أشرفِ  iiالكُتُبِ
يرون   بالطفِّ  أيتاماً  لهم  iiأُسِرَتْ      يستصرخون   من  الآباءِ  كُلَّ  أبي
وأرؤساً   سائرات   بالرِّمَاحِ  iiرَمَى      مَسِيرَها    عُلَمَاءُ   النَّجْمِ   iiبالعَطَبِ(2)

المجلس الأول : من اليوم الخامس :

  مسير الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى كربلاء :
   فعلى الأطائب من أهل بيت محمد وعلي صلى الله عليهما وآلهما ، فليبك الباكون ، وإياهم فليندب النادبون ، ولمثلهم فالتذرف الدموع ، وليصرخ الصارخون ، ويضجَّ الضاجون ، ويعجَّ العاجون ، أين الحسن وأين الحسين ، أين أبناء الحسين ، صالح بعد صالح ، وصادق بعد صادق ، أين السبيل بعد السبيل ، أين الخيرة بعد الخيرة ، أين الشموس الطالعة ، أين الأقمار المنيرة ، أين الأنجم الزاهرة ،

---------------------------
(1) الأمالي ، الشيخ الصدوق : 143 / 149 ح 2 .
(2) رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 158 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 155 _

  أين أعلام الدين وقواعد العلم (1) .
  قال الحجّة الشيخ محمد حسين آل سُميسِم النجفي رحمه الله تعالى :
لإنْ   قصد   الحُجَّاجُ   بيتاً  iiبمكة      وطافوا   عليه   والذبيحُ   iiجريحُهُ
فإنّي بوادي الطفِّ أصبحت مُحْرِماً      أطوفُ   ببيت   والحسينُ  iiذبيحُه
تخفُّ  له  الأرواحُ  قَبْلَ  iiجُسُومِها      أليس   به   ثِقْلُ   النبيِّ   وروحُهُ
مسحتُ   جبيني  في  ثَرَاهَ  iiونِلْتُهُ      وَإِنْ  عزَّ  شأواً  حيث إني iiمسيحُهُ
أتسألني  عن  زمزم  هاكَ  مدمعي      أو  الحجرِ  الملثومِ  هذا  iiضريحُهُ (2)
  قال السيّد وابن نما رحمهما الله في مسير الحسين ( عليه السلام ) إلى كربلاء : ثمَّ سار ( عليه السلام ) حتى مرَّ بالتنعيم ، فلقي هناك عيراً تحمل هدية قد بعث بها بحير بن ريسان الحميري عامل اليمن إلى يزيد بن معاوية ـ وكان عامله على اليمن ـ وعليها الورس والحُلل ، فأخذها ( عليه السلام ) لأن حكم أمور المسلمين إليه ، وقال لأصحاب الإبل : من أحبَّ منكم أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كراه وأحسنّا صحبته ، ومن أحبَّ أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكرى بقدر ما قطع من الطريق ، فمضى قوم وامتنع آخرون .
  ثمَّ سار ( عليه السلام ) حتى بلغ ذات عرق ، فلقي بشر بن غالب وارداً من العراق فسأله عن أهلها ، فقال : خلَّفت القلوب معك ، والسيوف مع بني أمية ، فقال : صدق أخو بني أسد ، إن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد .
  قال : ثمَّ سار صلوات الله عليه حتى نزل الثعلبية وقت الظهيرة ، فوضع رأسه فرقد ، ثم استيقظ فقال : قد رأيت هاتفاً يقول : أنتم تسرعون ، والمنايا تسرع بكم إلى الجنة ، فقال له ابنه علي : يا أبه ، أفلسنا على الحق ؟ فقال : بلى ـ يا بنيّ ـ والذي إليه مرجع العباد ، فقال : يا أبه ، إذن لا نبالي بالموت ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : جزاك

---------------------------
(1) المزار ، محمد بن المشهدي : 578 .
(2) سحر البيان وسمر الجنان ، الشيخ محمد حسن آل سميسم : 186 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 156 _

  الله ـ يا بنيّ ـ خير ما جزى ولداً عن والد ، ثمَّ بات ( عليه السلام ) في الموضع .
  فلمَّا أصبح إذا برجل من أهل الكوفة ـ يكنَّى أبا هرة الأزدي ـ قد أتاه فسلَّم عليه ، ثم قال : يا ابن رسول الله ، ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) : ويحك أبا هرة ، إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ، وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية ، ليلبسنهم الله ذلا شاملا ، وسيفاً قاطعاً ، وليسلِّطن عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذلَّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم ، فحكمت في أموالهم ودمائهم (1) .
  وقال محمد بن أبي طالب : واتّصل الخبر بالوليد بن عتبة أمير المدينة بأن الحسين ( عليه السلام ) توجَّه إلى العراق ، فكتب إلى ابن زياد : أمَّا بعد ، فإن الحسين قد توجَّه إلى العراق ، وهو ابن فاطمة ، وفاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فاحذر ـ يا ابن زياد ـ أن تأتي إليه بسوء فتهيج على نفسك وقومك أمراً في هذه الدنيا لا يصدّه شيء ، ولا تنساه الخاصة والعامة أبداً ما دامت الدنيا ، قال : فلم يلتفت ابن زياد إلى كتاب الوليد .
  وفي رواية عن الرياشي بإسناده عن راوي حديثه قال : حججت فتركت أصحابي وانطلقت أتعسَّف الطريق وحدي ، فبينما أنا أسير إذ رفعت طرفي إلى أخبية وفساطيط ، فانطلقت نحوها حتى أتيت أدناها ، فقلت : لمن هذه الأبنية ؟ فقالوا : للحسين ( عليه السلام ) ، قلت : ابن علي وابن فاطمة ( عليهما السلام ) ؟ قالوا : نعم ، قلت : في أيِّها هو ؟ قالوا : في ذلك الفسطاط ، فانطلقت نحوه ، فإذا الحسين ( عليه السلام ) متك على باب الفسطاط يقرأ كتاباً بين يديه ، فسلَّمت فردَّ عليَّ ، فقلت : يا ابن رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، ما أنزلك في هذه الأرض القفراء التي ليس فيها ريف ولا منعة ؟ قال : إن هؤلاء أخافوني ، وهذه كتب أهل الكوفة ، وهم قاتلي ، فإذا فعلوا ذلك ولم يدعوا لله

---------------------------
(1) اللهوف ، ابن طاووس : 43 / 44 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/367 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 157 _

  محرَّماً إلاَّ انتهكوه بعث الله إليهم من يقتلهم حتى يكونوا أذلَّ من فرم الأمة .
  وقال ابن نما : حدَّث عقبة بن سمعان قال : خرج الحسين ( عليه السلام ) من مكة فاعترضته رسل عمرو بن سعيد بن العاص ، عليهم يحيى بن سعيد ، ليردّوه فأبى عليهم وتضاربوا بالسياط ، ومضى ( عليه السلام ) على وجهه ، فبادروه وقالوا : يا حسين ، ألا تتقي الله ، تخرج من الجماعة وتفرِّق بين هذه الأمة ؟ فقال : لي عملي ، ولكم عملكم ، أنتم بريئون مما أعمل ، وأنا بريء مما تعملون .
  قال : ورويتُ أن الطرماح بن حكم قال : لقيت حسيناً وقد امترتُ لأهلي ميرة فقلت : أذكّرك في نفسك ، لا يغرّنّك أهل الكوفة ، فوالله لئن دخلتها لتقتلنّ ، وإني لأخاف أن لا تصل إليها ، فإن كنت مجمعاً على الحرب فانزل أجأ فإنه جبل منيع ، والله ما نالنا فيه ذلّ قط ، وعشيرتي يرون جميعاً نصرك ، فهم يمنعونك ما أقمت فيهم ، فقال : إن بيني وبين القوم موعداً أكره أن أخلفهم ، فإن يدفع الله عنا فقديماً ما أنعم علينا وكفى ، وإن يكن ما لابدّ منه ففوزٌ وشهادة إن شاء الله. ثمَّ حملت الميرة إلى أهلي وأوصيتهم بأمورهم ، وخرجت أريد الحسين ( عليه السلام ) فلقيني سماعة بن زيد النبهاني فأخبرني بقتله فرجعت .
  وقال الشيخ المفيد ـ رحمه الله ـ : ولما بلغ عبيدالله بن زياد إقبال الحسين ( عليه السلام ) من مكة إلى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شرطه ، حتى نزل القادسية ، ونظّم الخيل ما بين القادسية إلى خفان ، وما بين القادسية إلى القطقطانة ، وقال للناس : هذا الحسين يريد العراق .
  ولما بلغ الحسين ( عليه السلام ) الحاجز من بطن الرمة بعث قيس ابن مسهر الصيداوي ، ويقال : إنه بعث أخاه من الرضاعة عبدالله بن يقطر إلى أهل الكوفة ، وكتب معه إليهم : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من الحسين بن علي إلى إخوانه المؤمنين والمسلمين ، سلام عليكم ، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو ، أمّا بعد ، فإن

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 158 _

  كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم ، واجتماع ملأكم على نصرنا والطلب بحقنا ، فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء ، لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية ، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم ، وجدّوا فإني قادم عليكم في أيامي هذه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
   وكان مسلم كتب إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة ، وكتب إليه أهل الكوفة أن لك ههنا مائة ألف سيف ولا تتأخَّر .
  فأقبل قيس بن مسهر بكتاب الحسين ( عليه السلام ) حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى عبيدالله بن زياد إلى الكوفة ، فقال له عبيدالله بن زياد : اصعد فسبَّ الحسين بن علي (1) .
  وقال السيّد : فلمّا قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير ليفتّشه ، فأخرج قيس الكتاب ومزَّقه ، فحمله الحصين إلى ابن زياد ، فلمّا مثل بين يديه قال له : من أنت ؟ قال : أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه ( عليهما السلام ) ، قال : فلماذا خرَّقت الكتاب ؟ قال : لئلا تعلم ما فيه ، قال : وممن الكتاب ؟ وإلى من ؟ قال : من الحسين بن علي إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم ، فغضب ابن زياد فقال : والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد المنبر وتلعن الحسين بن علي وأباه وأخاه ، وإلاَّ قطَّعتك إرباً إرباً ، فقال قيس : أمّا القوم فلا أخبرك بأسمائهم ، وأمّا لعنة الحسين وأبيه وأخيه فأفعل ، فصعد المنبر وحمد الله ، وصلَّى على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وأكثر من الترّحم على عليّ وولده صلوات الله عليهم ، ثم لعن عبيدالله بن زياد وأباه ، ولعن عتاة بني أمية عن آخرهم ، ثم قال : أنا رسول

---------------------------
(1) الإرشاد ، المفيد : 2/69 ـ 71 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 159 _

  الحسين إليكم ، وقد خلَّفته بموضع كذا فأجيبوه (1) .
   ثم قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فأمر به عبيدالله بن زياد أن يرمى من فوق القصر ، فرمي به فتقطَّع ، وروي أنه وقع إلى الأرض مكتوفاً فتكسَّرت عظامه ، وبقي به رمق ، فأتاه رجل يقال له : عبدالملك بن عمر اللخمي فذبحه ، فقيل له في ذلك وعيب عليه ، فقال : أردت أن أريحه .
  ثم أقبل الحسين ( عليه السلام ) من الحاجز يسير نحو العراق ، فانتهى إلى ماء من مياه العرب فإذا عليه عبدالله بن مطيع العدوي ، وهو نازل به ، فلمّا رآه الحسين قام إليه فقال : بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ، ما أقدمك ؟ واحتمله وأنزله ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : كان من موت معاوية ما قد بلغك ، وكتب إليَّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم .
  فقال له عبدالله بن مطيع : أذكِّرك الله ـ يا ابن رسول الله ـ وحرمة الإسلام أن تنهتك ، أنشدك الله في حرمة قريش ، أنشدك الله في حرمة العرب ، فو الله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك ، ولئن قتلوك لا يهابوا بعدك أحداً أبداً ، والله إنها لحرمة الإسلام تنهتك ، وحرمة قريش وحرمة العرب ، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ، ولا تعرِّض نفسك لبني أمية ، فأبى الحسين ( عليه السلام ) إلاّ أن يمضي .
  وكان عبيدالله بن زياد أمر فأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشام ، وإلى طريق البصرة ، فلا يدعون أحداً يلج ولا أحداً يخرج ، فأقبل الحسين ( عليه السلام ) لا يشعر شيء حتى لقي الأعراب ، فسألهم فقالوا : لا والله ما ندري غير أنا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج ، فسار تلقاء وجهه ( عليه السلام ) .
  وحدَّث جماعة من فزارة ومن بجيلة ، قالوا : كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة ، وكنا نساير الحسين ( عليه السلام ) فلم يكن شيءٌ أبغض علينا من أن

---------------------------
(1) اللهوف ، السيد ابن طاووس : 46 ـ 47 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 160 _

  ننازله في منزل ، وإذا سار الحسين ( عليه السلام ) فنزل في منزل لم نجد بدّاً من أن ننازله ، فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب ، فبينا نحن جلوس نتغذى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين ( عليه السلام ) حتى سلَّم ، ثمَّ دخل ، فقال : يا زهير بن القين ، إن أبا عبدالله الحسين بعثني إليك لتأتيه ، فطرح كل إنسان منّا ما في يده ، حتى كأنما على رؤوسنا الطير ، فقالت له امرأته ـ قال السيد : وهي ديلم بنت عمرو ـ : سبحان الله! أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه ؟ لو أتيته فسمعت كلامه ثم انصرفت .
  فأتاه زهير بن القين ، فما لبث أن جاء مستبشراً ، قد أشرق وجهه ، فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه ، فقوِّض وحمل إلى الحسين ( عليه السلام ) ، ثم قال لامرأته : أنت طالق ، الحقي بأهلك فإني لا أحبُّ أن يصيبك بسببي إلاّ خير .
  وزاد السيد ابن طاووس عليه الرحمة : وقد عزمت على صحبة الحسين ( عليه السلام ) لأفديه بروحي ، وأقيه بنفسي ، ثم أعطاها مالها ، وسلَّمها إلى بعض بني عمها ليوصلها إلى أهلها ، فقامت إليه وبكت وودَّعته ، وقالت : خار لله لك ، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين ( عليه السلام ) (1) .
  وقال الشيخ المفيد : ثم قال لأصحابه : من أحبَّ منكم أن يتبعني وإلاَّ فهو آخر العهد ، إني سأحدِّثكم حديثاً ، إنّا غزونا البحر ، ففتح الله علينا وأصبنا غنائم ، فقال لنا سلمان رحمه الله : أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم ؟ فقلنا : نعم ، فقال :
  إذا أدركتم سيِّد شباب آل محمد فكونوا أشدَّ فرحاً بقتالكم معه مما أصبتم اليوم من الغنائم ، فأمَّا أنا فأستودعكم الله ، قالوا : ثم ـ والله ـ ما زال في القوم مع الحسين حتى قتل رحمه الله (2) .
   وفي المناقب : ولما نزل ( عليه السلام ) الخزيمية أقام بها يوماً وليلة ، فلمَّا أصبح أقبلت

---------------------------
(1) اللهوف ، السيد ابن طاووس : 45 .
(2) الإرشاد ، المفيد : 2/63 / 73 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 161 _

  إليه أخته زينب ، فقالت : يا أخي ، ألا أخبرك بشيء سمعته البارحة ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) : وما ذاك ؟ فقالت : خرجت في بعض الليل لقضاء حاجة فسمعت هاتفاً يهتف ، وهو يقول :
أَلاَ   يا  عينُ  فاحتفلي  iiبجهدِ      وَمَنْ يبكي على الشهداءِ بعدي
على   قوم   تسوقُهُمُ   iiالمنايا      بمقدار    إلى   إنجازِ   iiوَعْدِ
  وقال السيّد عليه الرحمة : أتاه خبر مسلم ( عليه السلام ) في زبالة ، ثمَّ إنه سار فلقيه الفرزدق فسلَّم عليه ثم قال : يا ابن رسول الله ، كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمك مسلم بن عقيل وشيعته ؟ قال : فاستعبر الحسين ( عليه السلام ) باكياً ثمَّ قال : رحم الله مسلماً فلقد صار إلى رَوح الله وريحانه ، وتحيّته ورضوانه ، أما إنه قد قضى ما عليه ، وبقي ما علينا ، ثم أنشأ يقول :
فإن    تكنِ    الدنيا   تُعَدُّ   iiنفيسةً      فَدَارُ   ثوابِ   اللهِ   أعلى   iiوأنبلُ
وإن  تكنِ  الأبدانُ  للموتِ  iiأُنشئت      فقتلُ  امرء  بالسيفِ في اللهِ iiأفضلُ
وإن   تكنِ  الأرزاقُ  قسماً  iiمقدَّراً      فَقِلَّةُ حِرْصِ المرءِ في الرزقِ أجملُ
وإن  تكنِ  الأموالُ  للتركِ  iiجَمْعُها      فما  بالُ  متروك  به  المرءُ iiيَبْخَلُ (1)
  وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : ثمَّ انتظر حتى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه : أكثروا من الماء ، فاستقوا وأكثروا ، ثمَّ ارتحلوا فسار حتى انتهى إلى زبالة ، فأتاه خبر عبدالله بن يقطر .
  وقال السيّد : فاستعبر باكياً ، ثمَّ قال : اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلا كريماً ، واجمع بيننا وبينهم في مستقرٍّ من رحمتك ، إنك على كل شيء قدير .
  وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فأخرج للناس كتاباً فقرأ عليهم فإذا فيه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، أمَّا بعد فإنه قد أتانا خبر فظيع : قتل مسلم بن عقيل ،

---------------------------
(1) اللهوف ، ابن طاووس : 45 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/374 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 162 _

  وهانىء بن عروة ، وعبدالله بن يقطر ، إلى أن قال ( عليه السلام ) : فمن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ، ليس عليه ذمام .
  فتفرَّق الناس عنه وأخذوا يميناً وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ، ونفر يسير ممن انضمّوا إليه .
  وإنّما فعل ذلك لأنه ( عليه السلام ) علم أن الأعراب الذين اتّبعوه إنما اتّبعوه وهم يظنّون أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهلها ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون ، فلمّا كان السحر أمر أصحابه فاستقوا ماءً وأكثروا ، ولله درّ الشيخ كاظم الأزري عليه الرحمة إذ يقول :
أفدي  القُرُومَ الأولى سارت iiركائُبهم      والموتُ  خَلْفَهُمُ  يَسْري  على  iiالأَثَرِ
للهِ   مَن  في  مغاني  كربلاءَ  iiثَوَوا      وَعِنْدَهُمْ  عِلْمُ  ما  يجري  مِنَ iiالقَدَرِ
ثاروا   ولولا   قَضَاءُ  اللهِ  iiيُمْسِكُهُمْ      لم   يترُكُوا   لبني  سفيانَ  مِنْ  iiأَثَرِ
هُمُ   الأسودُ   ولكنَّ   الوغى   iiأُجُمٌ      وَلاَ  مَخَاليبَ  غَيْرُ  البيضِ  والسُّمُرِ
أبدوا   وَقَائِعَ   تُنْسي  ذِكْرَ  iiغَيْرِهِم      وَالوخزُ  بالسُّمْرِ يُنسي الوَخْزَ iiبالإِبَرِ
سَلْ كربلا كم حَوَتْ منهم هِلاَلَ دُجَىً      كأنَّها      فَلَكٌ     لِلأَنْجُمِ     iiالزُّهُرِ
لم   أنسَ   حامية   الإسلامِ  iiمنفرداً      صِفْرَ   الأَنَامِلِ  من  حام  iiومنتصرِ
رأى  قَنَا  الدينِ  من  بَعْدِ  iiاستقامتِها      مغموزةً    وعليها   صُدْعُ   iiمنكسِرِ
فقام   يجمعُ   شملا   غيرَ   iiمجتمع      منها   ويجبُرُ   كسراً  غيرَ  iiمُنْجَبِرِ
لم   أنسه   وهو  خوَّاضٌ  iiعَجَاجَتَها      يشقُّ   بالسيفِ  منها  سَوْرَةَ  iiالسورِ(1)

---------------------------
(1) رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 263 / 264 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 163 _


المجلس الثاني : من اليوم الخامس :

  نزول الإمام الحسين ( عليه السلام ) كربلاء :
  جاء في كتاب المزار للمشهدي عليه الرحمة في بعض الزيارات الشريفة : وأشهد أنكم قد وفيتم بعهد الله وذمّته ، وبكل ما اشترطه عليكم في كتابه ، ودعوتم إلى سبيله ، وأنفدتم طاقتكم في مرضاته ، وحملتم الخلائق على منهاج النبوة ومسالك الرسالة ، وسرتم فيه بسيرة الأنبياء ، ومذاهب الأوصياء ، فلم يُطع لكم أمر ، ولم تَصغ إليكم أذنٌ ، فصلوات الله على أرواحكم وأجسادكم (1) .
رِجَالُهُمُ  صَرْعَى وأسرٌ iiنساؤُهُمْ      وأطفالُهُمْ في السبيِ تشكو حِبَالَها
  وقال آخر :
ورد الحسينُ إلى العراقِ فَضنَهم      تركوا النفاقَ إذا العراقُ iiكماهيه
ما  ذاق طعمَ فُراتِهم حَتى iiقضى      عطشاً   وغُسل  بالدِماءِ  القانية
  قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : ثمّ سار ( عليه السلام ) حتى مرّ ببطن العقبة ، فنزل عليها ، فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له : عمر بن لوذان ، فسأله : أين تريد ؟ فقال له الحسين ( عليه السلام ) : الكوفة ، فقال الشيخ : أنشدك الله لمّا انصرفت ، فوالله ما تقدم إلاَّ على الأسنّة وحدِّ السيوف ، وإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطَّاؤا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً ، فأمّا على هذه الحال التي تذكر فإني لا أرى لك أن تفعل ، فقال له : يا عبدالله ، ليس يخفى عليَّ الرأي ، ولكن الله تعالى لا يُغلب على أمره .
   ثمَّ قال ( عليه السلام ) : والله لا يدعونني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا

---------------------------
(1) المزار ، محمد بن المشهدي : 294 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 164 _

  فعلوا سلَّط الله عليهم من يذلّهم حتى يكونوا أذَّل فِرَق الأمم .
  ثمّ سار ( عليه السلام ) من بطن العقبة حتى نزل شراف (1) فلما كان السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء وأكثروا ، ثمَّ سار حتى انتصف النهار ، فبينما هو يسير إذ كبَّر رجل من أصحابه ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : الله أكبر ، لمِ كبَّرت ؟ فقال : رأيت النخل ، فقال له جماعة ممن صحبه : والله إن هذا المكان ما رأينا فيه نخلة قط ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : فما ترونه ؟ قالوا : والله نراه أسنّة الرماح وآذان الخيل ، فقال : وأنا والله أرى ذلك .
  ثم قال ( عليه السلام ) : ما لنا ملجأ نلجأ إليه ونجعله في ظهورنا ونستقبل القوم بوجه واحد ؟ فقلنا له : بلى ، هذا ذو جشم (2) إلى جنبك ، فمل إليه عن يسارك ، فإن سبقت إليه فهو كما تريد ، فأخذ إليه ذات اليسار ، وملنا معه ، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل ، فتبيَّنَّاها وعدلنا ، فلمّا رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن أسنّتهم اليعاسيب ، وكأن راياتهم أجنحة الطير ، فاستبقنا إلى ذي جشم فسبقناهم إليه ، وأمر الحسين ( عليه السلام ) بأبنيته فضُربت ، وجاء القوم زهاء ألف فارس ، مع الحر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين ( عليه السلام ) في حرّ الظهيرة ، والحسين وأصحابه معتّمون متقلدون أسيافهم .
  فقال الحسين ( عليه السلام ) لفتيانه : اسقوا القوم وارووهم من الماء ، ورشّفوا الخيل ترشيفاً ، ففعلوا وأقبلوا يملأون القصاع والطساس من الماء ، ثمَّ يدنونها من الفرس ، فإذا عبَّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه ، وسُقي آخر ، حتى سقوها عن آخرها .
  فقال علي بن الطعان المحاربي : كنت مع الحر يومئذ ، فجئت في آخر من جاء

---------------------------
(1) كقطام : موضع أو ماءة لبني أسد ، أو جبل عال .
(2) ذو خشب خ ل ، وفي المصدر : ذو حسم .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 165 _

  من أصحابه ، فلمّا رأى الحسين ( عليه السلام ) ما بي وبفرسي من العطش قال : أنخ الراوية ـ والراوية عندي السقاء ـ ثمَّ قال : يا ابن الأخ ، أنخ الجمل ، فأنخته ، فقال : اشرب ، فجعلت كلَّما شربت سال الماء من السقاء ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : اخنث السقاء ـ أي اعطفه ـ فلم أدر كيف أفعل ، فقام فخنثه فشربت وسقيت فرسي .
  وكان مجيء الحرّ بن يزيد من القادسية ، وكان عبيدالله بن زياد بعث الحصين ابن نمير وأمره أن ينزل القادسية ، وتقدَّم الحر بين يديه في ألف فارس يستقبل بهم الحسين ( عليه السلام ) فلم يزل الحرّ موافقاً للحسين ( عليه السلام ) حتى حضرت صلاة الظهر فأمر الحسين ( عليه السلام ) الحجاج بن مسروق أن يؤذّن .
  فلمَّا حضرت الإقامة خرج الحسين ( عليه السلام ) في إزار ورداء ونعلين ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثمَّ قال : أيها الناس ، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم أن : اقدم علينا فليس لنا إمام ، لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فأعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم .
  فسكتوا عنه ولم يتكلَّموا كلمة ، فقال للمؤذِّن : أقم ، فأقام الصلاة ، فقال للحر : أتريد أن تصلي بأصحابك ؟ فقال الحر : لا ، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك ، فصلّى بهم الحسين ( عليه السلام ) ، ثمَّ دخل فاجتمع عليه أصحابه ، وانصرف الحر إلى مكانه الذي كان فيه ، فدخل خيمة قد ضُربت له ، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه ، وعاد الباقون إلى صفّهم الذي كانوا فيه ، ثمَّ أخذ كل رجل منهم بعنان فرسه وجلس في ظلّها. فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين ( عليه السلام ) أن يتهيأوا للرحيل ففعلوا ، ثمَّ أمر مناديه فنادى بالعصر وأقام ، فاستقدم الحسين ( عليه السلام ) وقام فصلَّى بالقوم ، ثمَّ سلَّم

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 166 _

  وانصرف إليهم بوجهه ، فحمد الله وأثنى عليه وقال : أمّا بعد أيها الناس ، فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمد ( صلى الله عليه وآله ) أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم ، والسائرين فيكم بالجور والعدوان ، فإن أبيتم إلاَّ الكراهية لنا ، والجهل بحقّنا ، وكان رأيكم الآن غير ما أتتني به كتبكم وقدمت عليَّ به رسلكم انصرفت عنكم .
  فقال له الحر : أنا والله ما أدري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) لبعض أصحابه : يا عقبة بن سمعان ، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إليَّ ، فأخرج خرجين مملوءين صحفاً فنثرت بين يديه ، فقال له الحر : لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك ، وقد أُمرنا أنا إذا لقيناك لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيدالله بن زياد .
  فقال له الحسين ( عليه السلام ) : الموت أدنى إليك من ذلك ، ثمَّ قال لأصحابه : قوموا فاركبوا ، فركبوا ، وانتظر حتى ركبت نساؤه ، فقال لأصحابه : انصرفوا ، فلمَّا ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف ، فقال الحسين ( عليه السلام ) للحر : ثكلتك أمّك ، ما تريد ؟ فقال له الحر : أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل كائناً من كان ، ولكن والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلاّ بأحسن ما نقدر عليه .
  فقال له الحسين ( عليه السلام ) : فما تريد ؟ قال : أريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيدالله ابن زياد ، فقال : إذاً والله لا أتّبعك ، فقال : إذاً والله لا أدعك ، فترادّا القول ثلاث مرّات ، فلما كثر الكلام بينهما قال له الحر : إني لم أؤمر بقتالك ، إنما أُمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة ، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردّك إلى المدينة ، يكون بيني وبينك نصفاً حتى أكتب إلى الأمير عبيدالله بن زياد ، فلعلّ الله أن يرزقني العافية من أن أُبتلى بشيء من أمرك فخذ هاهنا .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 167 _

  فتياسر عن طريق العذيب والقادسية ، وسار الحسين ( عليه السلام ) وسار الحر في أصحابه يسايره ، وهو يقول له : يا حسين ، إني أذكّرك الله في نفسك ، فإني أشهد لئن قاتلت لتُقتلنَ ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : أفبالموت تخوِّفني ؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني ؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فخوَّفه ابن عمه وقال : أين تذهب فإنك مقتول ؟ فقال :
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى      إذا   مَا   نَوَى   حقّاً  وجاهد  مسلما
وآسى   الرجالَ   الصالحينَ  iiبنفسِهِ      وفارق    مثبوراً    وودّع    مُجرما
فإنْ  عشتُ  لم  أَنْدَمْ وإن متُّ لم iiأُلَمْ      كفى   بك  ذلاًّ  أن  تعيشَ  iiوتُرْغَما (1)
  قال : ثم أقبل الحسين ( عليه السلام ) على أصحابه وقال : هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادة ؟ فقال الطرماح : نعم يا ابن رسول الله ، أنا أخبر الطريق ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : سر بين أيدينا ، فسار الطرماح واتّبعه الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، وجعل الطرماح يرتجز ويقول :
يَا نَاقتي لا تَذْعري من زجري      وامضي  بنا قَبْلَ طُلُوعِ iiالفَجْرِ
بخيرِ    فتيان   وخيرِ   iiسُفْرِ      آلِ   رَسُولِ   اللهِ  آلِ  iiالفَخْرِ
السادةِ  البِيْضِ  الوُجُوهِ iiالزُّهْرِ      الطَّاعنينَ    بالرِّمَاحِ   iiالسُّمْرِ
الضاربينَ    بالسُّيُوفِ   iiالبُتْرِ      حتَّى   تُحلِّي   بكريمِ   iiالفَخْرِ
  عمَّره اللهُ بَقَاءِ الدَّهْرِ :
يَا  مَالِكَ  النفعِ  معاً iiوالضرِ      أَيِّد  حسيناً  سيّدي  iiبالنصرِ
على  الطُّغَاةِ من بقايا iiالكُفْرِ      على  اللعينينِ سليلي iiصَخْرِ
يزيدَ  لا  زالَ حَلِيفَ iiالخَمْرِ      وابن زيادِ العهرِ وابن العهرِ
  قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فلمَّا سمع الحر ذلك تنحَّى عنه ، فكان يسير

---------------------------
(1) الإرشاد ، المفيد : 2/76 ـ 81 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/375 / 378 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 168 _

   بأصحابه ناحية والحسين ( عليه السلام ) في ناحية ، حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات ، ثم مضى الحسين ( عليه السلام ) حتى انتهى إلى قصر بني مقاتل فنزل به ، وإذا هو بفسطاط مضروب ، فقال : لمن هذا ؟ فقيل : لعبيدالله بن الحر الجعفي ، قال : ادعوه إليَّ ، فلمَّا أتاه الرسول قال له : هذا الحسين بن علي ( عليهما السلام ) يدعوك ، فقال عبيدالله : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والله ما خرجت من الكوفة إلاّ كراهية أن يدخلها الحسين وأنا فيها ، والله ما أريد أن أراه و لا يراني .
  فأتاه الرسول فأخبره ، فقام إليه الحسين ( عليه السلام ) فجاء حتى دخل عليه وسلَّم وجلس ، ثم دعاه إلى الخروج معه ، فأعاد عليه عبيدالله بن الحر تلك المقالة واستقاله مما دعاه إليه ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : فإن لم تكن تنصرنا فاتق الله أن لا تكون ممن يقاتلنا ، فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلاّ هلك ، فقال له : أمّا هذا فلا يكون أبداً إن شاء الله .
  ثم قام الحسين ( عليه السلام ) من عنده حتى دخل رحله ، ولما كان في آخر الليل أمر فتيانه بالاستقاء من الماء ، ثمَّ أمر بالرحيل فارتحل من قصر بني مقاتل (1) .
  وفي رواية الشيخ الصدوق عليه الرحمة في الأمالي أنه التقى معه في القطقطانية ، قال عليه الرحمة : إن الحسين ( عليه السلام ) لما نزل القطقطانية حين مسيره إلى الكوفة دعا عبيدالله بن الحر الجعفي إلى نصرته ، فامتنع عبيدالله عن الإجابة ، وقدَّم للحسين ( عليه السلام ) فرسه ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك ، وما كنت متخذ المضلين عضداً (2) .
  ويروى أن عبيدالله بن الحر ندم بعد مقتل الحسين ( عليه السلام ) وأخذته الحسرة والأسف على تركه نصرة الحسين ( عليه السلام ) ، فقال :

---------------------------
(1) الإرشاد ، المفيد : 2/81 / 82 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/378 ـ 379 .
(2) الأمالي ، الصدوق : 219 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _169 _

فيالكِ    حسرةً   مادمتُ   iiحيّاً      تَرَدَّدُ   بين  صدري  والتراقي
حسينٌ حين يطلُبُ بَذْلَ نصري      على   أهلِ  الضلالةِ  iiوالنفاقِ
غداةَ  يقولُ  لي  بالقصرِ iiقولا      أتترُكُنا     وتُزْمِعُ     iiبالفراقِ
ولو    أنّي    أُوَاسيه   iiبنفسي      لنلتُ    كرامةً    يومَ   التَّلاَقِ
مع  ابن المصطفى روحي فِداه      تولَّى    ثمَّ    ودَّع   iiبانطلاقِ
فلو   فَلَقَ   التلهُّفُ  قَلْبَ  iiحيٍّ      لهمَّ    اليومَ    قلبي   iiبانفلاقِ
فقد  فاز الأولى نصروا iiحسيناً      وخاب  الآخرون  ذوو  iiالنفاقِ(1)
  قال عقبة بن سمعان : فسرنا معه ساعة ، فخفق ( عليه السلام ) وهو على ظهر فرسه خفقة ، ثم انتبه وهو يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، والحمد لله رب العالمين ، ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً ، فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين ( عليه السلام ) فقال : ممَ حمدت الله واسترجعت ؟ قال : يا بني ، إني خفقت خفقة فعنَّ لي فارس على فرس وهو يقول : القوم يسيرون ، والمنايا تسير إليهم ، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا ، فقال له : يا أبتِ ، لا أراك الله سوءاً ، ألسنا على الحقّ ؟ قال : بلى ، والله الذي مرجع العباد إليه ، فقال : فإنّنا إذاً ما نبالي ، أن نموت محقين ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده .
  فلمَّا أصبح نزل وصلَّى بهم الغداة ، ثم عجَّل الركوب وأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرِّقهم فيأتيه الحر بن يزيد فيردّه وأصحابه ، فجعل إذا ردَّهم نحو الكوفة ردّاً شديدا امتنعوا عليه فارتفعوا ، فلم يزالوا يتسايرون كذلك حتى انتهوا إلى نينوى ـ المكان الذي نزل به الحسين ( عليه السلام ) ـ فإذا راكب على نجيب له ، عليه السلاح ، متنكِّب قوساً مقبل من الكوفة ، فوقفوا جميعاً ينتظرونه ، فلمّا انتهى إليهم سلَّم على الحرّ وأصحابه ، ولم يسلِّم على الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، ودفع إلى الحر كتاباً من

---------------------------
(1) ذوب النضار ، ابن نما الحلي : 72 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 170 _

  عبيدالله بن زياد لعنه الله ، فإذا فيه : أما بعد ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا ويقدم عليك رسولي ، ولا تنزله إلاّ بالعراء في غير خضر وعلى غير ماء ، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري ، والسلام .
  فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر : هذا كتاب الأمير عبيدالله ، يأمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني كتابه ، وهذا رسوله وقد أمره أن لا يفارقني حتى أنفذ أمره فيكم ، فنظر يزيد بن المهاجر الكندي ـ وكان مع الحسين ( عليه السلام ) ـ إلى رسول ابن زياد فعرفه فقال له : ثكلتك أمك ، ماذا جئت فيه ؟ قال : أطعت إمامي ووفيت ببيعتي ، فقال له ابن المهاجر : بل عصيت ربَّك ، وأطعت إمامك في هلاك نفسك ، وكسبت العار والنار ، وبئس الإمام إمامك ، قال الله عزَّ وجلّ : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ ) (1) فإمامك منهم ، وأخذهم الحرّ بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : دعنا ـ ويحك ـ ننزل هذه القرية أو هذه ـ يعني نينوى والغاضرية ـ أو هذه ـ يعني شفية ـ قال : لا والله ما أستطيع ذلك ، هذا رجل قد بعث إليَّ عيناً عليَّ ، فقال له زهير بن القين : إني والله لا أرى أن يكون بعد الذي ترون إلاّ أشد مما ترون ، يا ابن رسول الله ، إن قتال هؤلاء القوم الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم ، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : ما كنت لأبدأهم بالقتال ، ثمَّ نزل ، وذلك اليوم يوم الخميس ، وهو اليوم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين (2) .
  وقال السيد ابن طاووس رحمه الله : فقام الحسين ( عليه السلام ) خطيباً في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه ، ثمَّ قال : إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون ، وإن الدنيا تغيَّرت وتنكَّرت وأدبر معروفها ، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش

---------------------------
(1) سورة القصص ، الآية : 41 .
(2) الإرشاد ، المفيد : 2/82 / 84 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/379 ـ 381 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 171 _

  كالمرعى الوبيل ، ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقاً حقاً ، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً .
  فقام زهير بن القين فقال : قد سمعنا ـ هداك الله يا ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ـ مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية ، وكنا فيها مخلدين ، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها .
  قال : ووثب هلال بن نافع البجلي فقال : والله ما كرهنا لقاء ربنا ، وإنا على نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ، ونعادي من عاداك .
  قال : وقام برير بن خضير فقال : والله يا ابن رسول الله ، لقد منَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، فتُقطَّع فيك أعضاؤنا ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة .
  قال : ثم إن الحسين ( عليه السلام ) قام وركب وسار ، وكلما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه أخرى حتى بلغ كربلاء ، وكان ذلك في اليوم الثاني من المحرم (1) .
   وفي المناقب : فقال له زهير : فسر بنا حتى ننزل بكربلاء ، فإنها على شاطىء الفرات ، فنكون هنالك ، فإن قاتلونا قاتلناهم ، واستعنا الله عليهم ، قال : فدمعت عينا الحسين ( عليه السلام ) ثم قال : اللهم إني أعوذ بك من الكرب والبلاء ، ونزل الحسين ( عليه السلام ) في موضعه ذلك ، ونزل الحر بن يزيد حذاءه في ألف فارس ، ودعا الحسين ( عليه السلام ) بدواة وبيضاء ، وكتب إلى أشراف الكوفة ممن كان يظنّ أنه على رأيه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من الحسين بن علي إلى سليمان بن صرد ، والمسيب بن نجبة ، ورفاعة بن شداد ، وعبدالله بن وأل ، وجماعة المؤمنين .
  أمّا بعد ، فقد علمتم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قد قال في حياته : من رأى سلطاناً جائراً مستحلا لحُرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله

---------------------------
(1) اللهوف ، السيد ابن طاووس : 48 ـ 49 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/381 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 172 _

  بالإثم والعدوان ، ثمَّ لم يغيِّر بقول ولا فعل ، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله ، وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان ، وتولّوا عن طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطَّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرَّموا حلاله ، وإني أحقّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم ، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظّكم ورشدكم ، ونفسي مع أنفسكم ، وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم ، فلكم بي أسوة ، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهودكم وخلعتم بيعتكم ، فلعمري ما هي منكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي ، والمغرور من اغترَّ بكم ، فحظَّكم أخطأتم ، ونصيبَكم ضيَّعتم ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم ، والسلام .
  ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى قيس بن مسهر الصيداوي ـ وساق الحديث كما مرَّ ـ ثم قال : ولما بلغ الحسين ( عليه السلام ) قتل قيس استعبر باكياً ، ثمَّ قال : اللهم اجعل لنا ولشيعتنا عندك منزلا كريماً ، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك ، إنك على كل شيء قدير .
  قال : فوثب إلى الحسين ( عليه السلام ) رجل من شيعته ـ يقال له هلال بن نافع البجلي ـ فقال : يا ابن رسول الله ، أنت تعلم أن جدَّك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يقدر أن يُشرب الناس محبته ، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبَّ ، وقد كان منهم منافقون يعدون بالنصر ، ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلى من العسل ، ويخلفونه بأمرَّ من الحنظل ، حتى قبضه الله إليه ، وإن أباك علياً رحمة الله عليه قد كان في مثل ذلك ، فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين ، حتى أتاه أجلُه ، فمضى إلى رحمة الله ورضوانه ، وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث عهده ، وخلع بيعته ، فلن يضرَّ إلاَّ نفسه ، والله مغن عنه ، فسر بنا راشداً

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 173 _

  معافىً ، مشرِّقاً إن شئت ، وإن شئت مغرِّباً ، فوالله ما أشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربِّنا ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ، ونعادي من عاداك .
  ثم وثب إليه برير بن خضير الهمداني فقال : والله يا بن رسول الله ، لقد منَّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ، تُقطَّع فيه أعضاؤنا ، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة بين أيدينا ، لا أفلح قوم ضيَّعوا ابن بنت نبيِّهم ، أفٍّ لهم غداً ماذا يلاقون ؟ ينادون بالويل والثبور في نار جهنم .
  قال : فجمع الحسين ( عليه السلام ) ولده وإخوته وأهل بيته ، ثمَّ نظر إليهم فبكى ساعة ، ثمَّ قال : اللهم إنا عترة نبيك محمد ، وقد أُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدنا ، وتعدَّت بنو أمية علينا ، اللهم فخذ لنا بحقنا ، وانصرنا على القوم الظالمين .
  قال : فرحل من موضعه حتى نزل في يوم الأربعاء أو يوم الخميس بكربلاء ، وذلك في الثاني من المحرم سنة إحدى وستين .
   ثم أقبل على أصحابه فقال ( عليه السلام ) : الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه مادرَّت معايشهم ، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديانون ، ثمَّ قال : أهذه كربلاء ؟ فقالوا : نعم يا ابن رسول الله ، فقال : هذا موضع كرب وبلاء ، ههنا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ، ومقتل رجالنا ، ومسفك دمائنا .
  قال : فنزل القوم وأقبل الحر حتى نزل حذاء الحسين ( عليه السلام ) في ألف فارس ، ثم كتب إلى ابن زياد يخبره بنزول الحسين بكربلا (1) .
   وفي رواية أخرى : قال الحسين ( عليه السلام ) : وما اسم هذا المكان ؟ قالوا له : كربلاء ، قال : ذات كرب وبلاء ، ولقد مرَّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا معه ، فوقف فسأل عنه ، فأخبر باسمه ، فقال : هاهنا محطّ ركابهم ، وهاهنا مهراق

---------------------------
(1) بحار الأنوار ، المجلسي : 44/381 / 383 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 174 _

  دمائهم ، فسُئل عن ذلك فقال : ثقل لآل بيت محمد ، ينزلون هاهنا (1) .
  وقبض قبضة منها فشمَّها وقال : هذه والله هي الأرض التي أخبر بها جبرئيل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنني أقتل فيها ، أخبرتني أم سلمة (2) .
  وفي رواية عن أبي مخنف في مقتله بإسناده عن الكلبي أنه قال : وساروا جميعاً إلى أن أتوا إلى أرض كربلاء ، وذلك في يوم الأربعاء ، فوقف فرس الحسين ( عليه السلام ) من تحته ، فنزل عنها وركب أخرى فلم ينبعث من تحته خطوة واحدة ، ولم يزل يركب فرساً بعد فرس حتى ركب سبعة أفراس وهن على هذا الحال ، فلما رأى الإمام ذلك الأمر الغريب قال ( عليه السلام ) : ما يقال لهذه الأرض ؟ قالوا : أرض الغاضرية ، قال : فهل لها اسم غير هذا ؟ قالوا : تسمَّى نينوى ، قال : هل لها اسم غير هذا ؟ قالوا : تسمَّى بشاطىء الفرات ، قال : هل لها اسم غير هذا ؟ قالوا : تسمَّى كربلاء. فتنفّس الصعداء وقال : أرض كرب وبلاء ، ثم قال : قفوا ولا ترحلوا منها ، فهاهنا والله مناخ ركابنا ، وهاهنا والله سفك دمائنا ، وهاهنا والله هتك حريمنا ، وهاهنا والله قتل رجالنا ، وهاهنا والله ذبح أطفالنا ، وهاهنا والله تزال قبورنا ، وبهذه التربة وعدني جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا خُلف لقوله (3) .
  ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
لم  أنسَ  إذْ  وَقَفَ  الجوادُ iiبكربلا      بابنِ   البتولةِ  والعدى  حَفَّتْ  iiبِهِ
يَا مُهْرُ لِمْ لا سِرْتَ عن وادي البلا      والكربِ   خوفاً  من  بلاه  وكربِهِ
أَوَهَلْ   إليك  اللهُ  أَوْحَى  أَنَّ  iiفي      واديه  مَصْرَعَهُ  ومصرعَ iiصَحْبِهِ(4)

---------------------------
(1) الأخبار الطوال ، الدينوري : 252 / 253 .
(2) كلمات الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، الشيخ الشريفي : 374 .
(3) الدمعة الساكبة ، البهبهاني : 4/256 .
(4) الشواهد المنبرية ، الشيخ علي الجشي : 45 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 175 _

  ولله درّ المرحوم الشيخ الفرطوسي إذ يقول :
هذه    كربلاءُ   دارُ   iiالبلايا      وهي   كربٌ  مشفوعةٌ  iiببلاءِ
هاهنا   هاهنا   تحطُّ   iiرحالٌ      للمنايا   على   صعيدِ   iiالفَنَاءِ
هاهنا  تُذْبَحُ  الذراري iiفَتَرْوَى      تُرْبَةُ الأرضِ من سُيُولِ الدِّمَاءِ
هاهنا  تُقْتَلُ  الرِّجَالُ  iiوَتُسْبَى      بَعْدَ  قَتْلِ  الرجالِ  خيرُ iiنساءِ
هاهنا   تُحْرَقُ  الخيامُ  iiفَتَأْوي      من   خِبَاء   مذعورةً   iiلخباءِ
هاهنا  تُنْهَبُ  الملاحفُ  iiمنها      وتُعَرَّى  من الحلي في iiالعَرَاءِ
هاهنا  يُلْهِبُ  الظما  كلَّ iiقلب      يتلظَّى   وَقْداً   لبردِ   iiالرواءِ
فتموتُ الأطفالُ وهي iiعُطاشى      والأواني  تَجُفُّ  من  كلِّ iiمَاءِ
ويُجَرُّ  العليلُ  من  فوقِ iiنُطْع      سحبوه      بغلظة     iiوجَفَاءِ
وتشالُ  الرؤوسُ  فوقَ iiعوال      وتُعَافُ  الأجسامُ في iiالرمضاءِ
وصفايا الزهراءِ تُحْمَلُ iiأسرى      فوق  نُوْق  عُجْف بغيرِ iiوِطَاءِ
يومَ  عاشورَ  أنت يومٌ iiأريعوا      بك  آلُ  الرسولِ  في iiكربلاءِ(1)

المجلس الثالث : من اليوم الخامس :

  مرور أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بكربلاء وبكاؤه على الحسين ( عليه السلام ):
  جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) : يا مواليَّ ، فلو عاينكم المصطفى ، وسهام الأمة معرقة في أكبادكم ، ورماحهم مشرعة في نحوركم ، وسيوفها مولغة في دمائكم ، يشفي أبناء العواهر غليل الفسق من ورعكم ، وغيظ

---------------------------
(1) ملحمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، الفرطوسي : 3/274 / 275 .