الفهرس العام

بسم الله الرحمن الرحيم


المجلس الرابع : من اليوم الخامس :
المجلس الخامس : من اليوم الخامس :
المجلس الأول : من اليوم السادس :


  الكفر من إيمانكم ، وأنتم بين صريع في المحراب قد فلق السيف هامته ، وشهيد فوق الجنازة قد شُكَّت بالسهام أكفانه ، وقتيل بالعراء قد رفع فوق القناة رأسه ، ومكبَّل في السجن رُضَّت بالحديد أعضاؤه ، ومسموم قد قطِّعت بجرع السمِّ أمعاؤه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، ولا حوله ولا قوّة إلاَّ بالله العليِّ العظيم ، ولله درّ الشيخ عبدالحسين الحياوي إذ يقول :
يعزُّ على الطهرِ البتولِ بأن ترى      عزيزاً  لها  ملقىً  وأكفانُهُ iiالعَفْرُ
يعزُّ   عليها   أَنْ   تراه  iiمحرَّماً      عليه  فُرَاتُ  الماءِ وهو لها iiمَهْرُ
يعزُّ   على  المختارِ  أن  iiسليلَهُ      يُرَضُّ  بعتب  العادياتِ له صَدْرُ
فَلاَ  صبرَ محمودٌ بقتلِ ابنِ iiفاطم      وليس  لمن  لم يجرِ مَدْمَعُهُ iiعُذْرُ (1)
  روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن ابن عباس قال : كنت مع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في خرجته إلى صفين ، فلمَّا نزل بنينوى وهو بشط الفرات قال بأعلى صوته : يا ابن عباس ، أتعرف هذا الموضع ؟ قلت له : ما أعرفه يا أمير المؤمنين ، فقال ( عليه السلام ) : لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي. قال : فبكى طويلا حتى اخضلّت لحيته ، وسالت الدموع على صدره ، وبكينا معاً وهو يقول : أوه أوه ، مالي ولآل أبي سفيان ؟ مالي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر ؟ صبراً يا أبا عبدالله ، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم. ثمَّ دعا بماء فتوضَّأ وضوء الصلاة ، فصلَّى ما شاء الله أن يصلي ، ثمَّ ذكر نحو كلامه الأول إلاَّ أنه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة ، ثمَّ انتبه فقال : يا ابن عباس ، فقلت : ها أنا ذا ، فقال : ألا أحدِّثك بما رأيت في منامي آنفاً عند رقدتي ؟ فقلت : نامت عيناك ورأيت خيراً يا أمير المؤمنين .
  قال : رأيت كأني برجال قد نزلوا من السماء ، معهم أعلام بيض ، قد تقلَّدوا

---------------------------
(1) مثير الأحزان ، الجواهري : 146 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 177 _

  سيوفهم وهي بيض تلمع ، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطّة ، ثم رأيت كأن هذه النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض تضطرب بدم عبيط ، وكأني بالحسين سخلي وفرخي ومضغتي ومخي قد غرق فيه ، يستغيث فيه فلا يغاث ، وكأن الرجال البيض قد نزلوا من السماء ، ينادونه ويقولون : صبراً آل الرسول ، فإنكم تُقتلون على أيدي شرار الناس ، وهذه الجنة ـ يا أبا عبدالله ـ إليك مشتاقة ، ثم يُعزّونني ويقولون : يا أبا الحسن أبشر ، فقد أقرَّ الله به عينك يوم يقوم الناس لربِّ العالمين .
  ثمَّ انتبهت هكذا ، والذي نفس عليٍّ بيده ، لقد حدَّثني الصادق المصدَّق أبو القاسم ( صلى الله عليه وآله ) أني سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا ، وهذه أرض كرب وبلاء ، يُدفن فيها الحسين ( عليه السلام ) وسبعة عشر رجلا من ولدي وولد فاطمة ( عليها السلام ) ، وإنها لفي السماوات معروفة ، تذكر أرض كرب وبلاء ، كما تذكر بقعة الحرمين ، وبقعة بيت المقدس .
  ثمَّ قال لي : يا ابن عباس ، اطلب في حولها بعر الظباء ، فوالله ما كذبت ولا كُذبت ، وهي مصفرَّة ، لونها لون الزعفران ، قال ابن عباس : فطلبتها فوجدتها مجتمعة ، فناديته : يا أمير المؤمنين ، قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي ، فقال علي ( عليه السلام ) : صدق الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) .
   ثم قام ( عليه السلام ) يهرول إليها فحملها وشمَّها ، وقال : هي هي بعينها ، أتعلم يا ابن عباس ما هذه الأبعار ؟ هذه قد شمَّها عيسى بن مريم ، وذلك أنه مرَّ بها ومعه الحواريون ، فرأى ههنا الظباء مجتمعة وهي تبكي ، فجلس عيسى وجلس الحواريون معه ، فبكى وبكى الحواريون ، وهم لا يدرون لم جلس ولم بكى. فقالوا : يا روح الله وكلمته ، ما يبكيك ؟ قال : أتعلمون أيَّ أرض هذه ؟ قالوا : لا ، قال : هذه أرض يُقتل فيها فرخ الرسول أحمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وفرخ الحرَّة الطاهرة البتول شبيهة أمي ، ويُلحد فيها ، طينة أطيب من المسك لأنها طينة الفرخ المستشهد ،

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 178 _

  وهكذا يكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء ، فهذه الظباء تكلِّمني وتقول : إنها ترعى في هذه الأض شوقاً إلى تربة الفرخ المبارك ، وزعمت أنها آمنة في هذه الأرض ، ثمَّ ضرب بيده إلى هذه الصيران فشمَّها وقال : هذه بعر الظباء على هذه الطيب لمكان حشيشها ، اللهم فأبقها أبداً حتى يشمَّها أبوه فيكون له عزاء وسلوة .
  قال : فبيقت إلى يوم الناس هذا ، وقد اصفرَّت لطول زمانها ، وهذه أرض كرب وبلاء ، ثم قال بأعلى صوته : يا ربّ عيسى بن مريم! لا تبارك في قتلته ، والمعين عليه ، والخاذل له .
  ثمَّ بكى بكاء طويلا وبكينا معه حتى سقط لوجهه وغشي عليه طويلا ، ثم أفاق فأخذ البعر فصَّره في ردائه ، وأمرني أن أصرَّها كذلك ، ثم قال : يا ابن عباس ، إذا رأيتها تنفجر دماً عبيطاً ، ويسيل منها دم عبيط ، فاعلم أن أبا عبدالله قد قتل بها ، ودفن .
  قال ابن عباس : فوالله لقد كنت أحفظها أشدَّ من حفظي لبعض ما افترض الله عزَّ وجلَّ عليَّ ، وأنا لا أحلّها من طرف كمّي ، فبينما أنا نائم في البيت إذ انتبهت فإذا هي تسيل دماً عبيطاً ، وكان كمي قد امتلأ دماً عبيطاً ، فجلست وأنا باك وقلت : قد قتل والله الحسين ، والله ما كذبني عليٌّ قط في حديث حدَّثني ، ولا أخبرني بشيء قط أنه يكون إلاَّ كان كذلك ; لأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يخبره بأشياء لا يخبر بها غيره ، ففزعت وخرجت وذلك عند الفجر ، فرأيت والله المدينة كأنها ضباب لا يستبين منها أثر عين ، ثمَّ طلعت الشمس ورأيت كأنها منكسفة ، ورأيت كأن حيطان المدينة عليها دم عبيط ، فجلست وأنا باك فقلت : قد قُتل والله الحسين ( عليه السلام ) ، وسمعت صوتاً من ناحية البيت وهو يقول :
اصبروا آل الرسول      قُتل  الفرخ  النحول
نزل  الروح iiالأمين      ببكاء        وعويل

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 179 _

  ثم بكى بأعلى صوته وبكيت ، فأثبتُّ عندي تلك الساعة ، وكان شهر المحرم يوم عاشورا لعشر مضين منه ، فوجدته قتل يوم ورد علينا خبره وتاريخه كذلك ، فحدَّثت هذا الحديث أولئك الذين كانوا معه ، فقالوا : والله لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة ولا ندري ما هو ، فكنا نرى أنه الخضر ( عليه السلام ) (1) .
  وعن جرداء بنت سمين ، عن زوجها هرثمة بن أبي مسلم ، قال : غزونا مع علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) صفين ، فلمَّا انصرفنا نزل بكربلا فصلَّى بها الغداة ، ثم رفع إليه من تربتها فشمَّها ، ثم قال : واهاً لك أيتها التربة ، ليحشرنَّ منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب .
  فرجع هرثمة إلى زوجته ـ وكانت شيعة لعلي ( عليه السلام ) ـ فقال : ألا أحدِّثك عن وليِّك أبي الحسن ؟ نزل بكربلا فصلَّى ، ثم رفع إليه من تربتها فقال : واهاً لك أيتها التربة ، ليحشرنَّ منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب ، قال : أيها الرجل ، فإن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لم يقل إلاّ حقاً .
  فلما قدم الحسين ( عليه السلام ) قال هرثمة : كنت في البعث الذين بعثهم عبيدالله بن زياد لعنهم الله ، فلمَّا رأيت المنزل والشجر ذكرت الحديث ، فجلست على بعيري ، ثمَّ صرت إلى الحسين ( عليه السلام ) فسلَّمت عليه ، وأخبرته بما سمعت من أبيه في ذلك المنزل الذي نزل به الحسين ، فقال : معنا أنت أم علينا ؟ فقلت : لا معك ولا عليك ، خلَّفت صبية أخاف عليهم عبيدالله بن زياد ، قال : فامض حيث لا ترى لنا مقتلا ، ولا تسمع لنا صوتاً ، فوالذي نفس حسين بيده لا يسمع اليوم واعيتنا أحد فلا يعيننا إلاَّ كبَّه الله لوجهه في نار جهنم (2) .
  وعن القداح ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ( عليهما السلام ) قال : مرَّ علي بكربلاء ، في

---------------------------
(1) بحار الأنوار ، المجلسي : 44/252 ح 2 عن الأمالي للصدوق : 694 / 696 ح 5 .
(2) بحار الأنوار ، المجلسي : 44/255 ح 4 عن الأمالي للصدوق : 199 ح 7 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 180 _

  اثنين من أصحابه ، قال : فلمّا مرَّ بها ترقرقت عيناه للبكاء ، ثمَّ قال : هذا مناخ ركابهم ، وهذا ملقى رحالهم ، وههنا تهراق دماؤهم ، طوبى لك من تربة عليك تهراق دماء الأحبة (1) .
  ولله درّ ابن العرندس عليه الرحمة إذ يقول :
فَيَا  ساكني  أرضِ  الطفوفِ  iiعليكُمُ      سَلاَمُ    محبٍّ   ماله   عنكُمُ   صَبْرُ
نشرْتُ   دواوينَ   الثَّنَا   بَعْدَ  iiطَيِّها      وفي كلِّ طرس من مديحي لكم سَطْرُ
فطابق   شعري  فيكُمُ  دَمْعُ  iiناظري      فَمُبْيَضُّ   ذا  نَظْمٌ  ومُحْمَرُّ  ذا  iiنَثْرُ
فَلاَ     تتهموني     بالسلوِّ     iiفإنّما      مواعيدُ    سلواني   وحقِّكُمُ   iiالحشرُ
فذلّي   بكم  عزٌّ  وفقري  بكم  iiغِنىً      وعُسْري  بكم يُسْرٌ وكسري بكم iiجَبْرُ
ترقُّ  بروقُ  السُّحْبِ لي من iiديارِكم      فينهلُّ   من   دمعي  لِبَارِقِها  iiالْقَطْرُ
فعينايَ   كالخنساءِ   تجري  دموعُها      وقلبي   شديدٌ   في  محبَّتِكم  iiصَخْرُ
وَقَفْتُ   على  الدارِ  التي  كنتُمُ  iiبها      فَمَغْناكُمُ    من    بَعْدِ   معناكُمُ   iiقَفْرُ
وقد  دَرَسَتْ  منها  الدروسُ  iiوطالما      بها   دُرِسَ   العلمُ   الإلهيُّ  iiوالذِّكْرُ
وسالت  عليها  من  دموعي iiسَحَائِبٌ      إلى  أن  تروَّى البانُ بالدمعِ iiوالسِّدْرُ
فَرَاقَ  فِرَاقُ  الروحِ  لي  بَعْدَ iiبُعْدِكم      وَدَارَ  بِرَسْمِ الدارِ في خاطري iiالفكرُ
وقد  أقلعت  عنها  السحابُ ولم iiتَجُدْ      ولا  درَّ  من  بَعْدِ  الحسينِ  لها  iiدَر
إمامُ   الهدى  سِبْطُ  النبوَّةِ  وَالِدُ  iiال      أئمةِ   ربُّ  النهيِ  مولىً  له  iiالأمرُ (2)

---------------------------
(1) بحار الأنوار ، المجلسي : 44/258 ح 8 .
(2) الغدير ، الأميني : 7/14 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 181 _


المجلس الرابع : من اليوم الخامس :

  ما جاء في قبر الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأرض كربلاء :
  روي عن عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : خلق الله تبارك وتعالى أرض كربلاء قبل أن يخلق الكعبة بأربعة وعشرين ألف عام ، وقدَّسها وبارك عليها ، فما زالت قبل خلق الله الخلق مقدَّسة مباركة ، ولا تزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض في الجنة ، وأفضل منزل ومسكن يسكن الله فيه أولياءه في الجنة (1) .
  وعن أبي الجارود قال : قال علي بن الحسين ( عليه السلام ) : اتّخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتّخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام ، وإنه إذا زلزل الله تبارك وتعالى الأرض وسيَّرها رفعت كما هي بتربتها نورانية صافية ، فجعلت في أفضل روضة من رياض الجنة ، وأفضل مسكن في الجنة ، لا يسكنها إلاّ النبيون والمرسلون ، أو قال : أولو العزم من الرسل ، فإنها لتزهر بين رياض الجنة كما يزهر الكوكب الدريّ بين الكواكب لأهل الأرض ، يغشي نورها أبصار أهل الجنة جميعاً ، وهي تنادي : أنا أرض الله المقدَّسة الطيِّبة المباركة ، التي تضمَّنت سيِّد الشهداء وسيِّد شباب أهل الجنة (2) .
  قال : وروي قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : الغاضرية هي البقعة التي كلَّم الله فيها موسى بن عمران ، وناجى نوحاً فيها ، وهي أكرم أرض الله عليه ، ولولا ذلك ما

---------------------------
(1) كامل الزيارات ، ابن قولويه : 450 ، وعنه بحار الأنوار ، المجلسي : 98/107 ح 5 .
(2) بحار الأنوار ، المجلسي : 98/108 ح 10 عن كامل الزيارات : 451 ح 5 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 182 _

  استودع الله فيها أولياءه وأبناء نبيه ، فزوروا قبورنا بالغاضرية (1) .
   وعن حماد بن أيوب ، عن أبي عبدالله ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يقبر ابني في أرض يقال لها كربلاء ، هي البقعة التي كانت فيها قبة الإسلام ، التي نجَّى الله عليها المؤمنين الذين آمنوا مع نوح في الطوفان (2) .
   وعن الفضل بن يحيى ، عن أبيه ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : زوروا كربلاء ، ولا تقطعوه ، فإن خير أولاد الأنبياء ضمنته ، ألا وإن الملائكة زارت كربلاء ألف عام من قبل أن يسكنه جدي الحسين ( عليه السلام ) ، وما من ليلة تمضي إلاّ وجبرئيل وميكائيل يزورانه ، فاجتهد ـ يا يحيى ـ أن لا تُفقد من ذلك الموطن .
  وعن إسحاق بن عمار قال : سمعت أبا عبدالله ( عليه السلام ) يقول : إن لموضع قبر الحسين بن علي ( عليهما السلام ) حرمة معلومة ، من عرفها واستجار بها أُجير ، قلت : فصف لي موضعها جعلت فداك ، قال : امسح من موضع قبره اليوم ، فامسح خمسة وعشرين ذراعاً من ناحيةِ رجليه ، وخمسة وعشرين ذراعاً من خلفه ، وخمسة وعشرين ذراعاً مما يلي وجهه ، وخمسة وعشرين ذراعاً من ناحية رأسه ، وموضع قبره منذ يوم دفن روضة من رياض الجنة ، ومنه معراج يعرج فيه بأعمال زوّاره إلى السماء ، فليس ملك ولا نبيٌّ في السموات إلاَّ وهم يسألون الله أن يأذن لهم في زيارة قبر الحسين ( عليه السلام ) ففوج ينزل وفوج يعرج ، وفي رواية قال ( عليه السلام ) : موضع قبر الحسين ترعة من ترع الجنة (3) .
  وعن منصور بن العباس يرفعه إلى أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : حريم قبر

---------------------------
(1) بحار الأنوار ، المجلسي : 98/108 ـ 109 ح 13 .
(2) كامل الزيارات ، ابن قولويه : 452 ح 7 و9 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 98/108 .
(3) بحار الأنوار ، الملجسي : 98/108 ـ 111 عن كامل الزيارات .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 183 _

  الحسين ( عليه السلام ) خمس فراسخ من أربعة جوانب القبر (1) .
  وعن أبي هاشم الجعفري قال : دخلت على أبي الحسن علي بن محمد ( عليه السلام ) وهو محموم عليل فقال لي : يا أبا هاشم ، ابعث رجلا من موالينا إلى الحير (2) .
   يدعو الله لي ، فخرجت من عنده فاستقبلني علي بن بلال ، فأعلمته ما قال لي وسألته أن يكون الرجل الذي يخرج ، فقال : السمع والطاعة ، ولكنني أقول : إنه أفضل من الحير إذا كان بمنزلة من في الحير ، ودعاؤه لنفسه أفضل من دعائي له بالحير ، فأعلمته صلوات الله عليه ما قال ، فقال لي : قل له : كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أفضل من البيت والحجر ، وكان يطوف بالبيت ويستلم الحجر ، وإن لله تبارك وتعالى بقاعاً يحبّ أن يدعى فيها فيستجيب لمن دعاه ، والحير منها (3) .
  وفي رواية قال ( عليه السلام ) : ألا قلت له : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان يطوف بالبيت ويقبّل الحجر ، وحرمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) والمؤمن أعظم من حرمة البيت ، وأمره الله أن يقف بعرفة ، إنما هي مواطن يحبّ الله أن يُذكر فيها ، فأنا أحبّ أن يُدعى لي حيث يُحبّ الله أن يُدعى فيها ، والحير من تلك المواضع (4) .
  وفي لفظ ثالث عن أبي هاشم الجعفري قال : دخلت أنا ومحمد بن حمزة عليه نعوده وهو عليل ، فقال لنا : وجّهوا قوماً إلى الحير من مالي ، فلمّا خرجنا من عنده قال لي محمد بن حمزة : المشير يوجِّهنا إلى الحير وهو بمنزلة من في الحير ، قال : فعدت إليه فأخبرته ، فقال لي : ليس هو هكذا ، إن لله مواضع يحب أن يعبد فيها ، وحائر الحسين ( عليه السلام ) من تلك المواضع .
  وروي عن الإمام الرضا ، عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : قال علي بن الحسين ( عليهما السلام ) :

---------------------------
(1) بحار الأنوار ، المجلسي : 98/111 ح 27 عن كامل الزيارات .
(2) يعني قبر الحسين ( عليه السلام ) وسمي بالحائر الحسيني لأن الماء حار حوله لما اُجرى بأمر المتوكل العباسي .
(3) بحار الأنوار ، المجلسي 98/113 ح 34 .
(4) بحار الأنوار ، المجلسي : 98/112 / 113 ح 32 و 33 و 36 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _184 _

  كأني بالقصور وقد شيدت حول قبر الحسين ( عليه السلام ) ، وكأني بالأسواق قد حفّت حول قبره ، فلا تذهب الأيام والليالي حتى يسار إليه من الآفاق ، وذلك عند انقطاع ملك بني مروان .
ولله درّ الحجّة الشيخ فرج العمران عليه الرحمة إذ يقول :
قُبّةٌ   كان   زينةُ   العرشِ  iiفيها      بل هو العرشُ لا الذي في سماها
كان  فيها  الحسينُ  ربُّ iiالمعالي      وارثُ   العلم   مِن  لَدُنْ  iiأنبياها
هو    مَنْ   كانت   الأئمَّةُ   منه      وَهُمُ    سادةُ    الورى   iiشُفَعَاها
فعليه   ربُّ   السماواتِ   iiصلَّى      صلاةً     لا    منتهى    iiلمداها (1)
  وعن هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) في حديث طويل قال : قلت له : فما لمن أقام عنده ـ يعني الحسين ( عليه السلام ) ؟ قال : كل يوم بألف شهر ، قال : فما للمنفق في خروجه إليه والمنفق عنده ؟ قال : درهم بألف درهم (2) .
  وعن قدامة بن زائدة ، عن أبيه ، عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، عن زينب بنت علي ( عليه السلام ) ، عن أم أيمن ، قالت في حديث طويل عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : أتى جبرئيل فأومى إلى الحسين ( عليه السلام ) وقال : إن سبطك هذا مقتول في عصابة من ذريتك وأهل بيتك وأخيار من أمتك ، بضفة الفرات ، بأرض تُدعى كربلاء ، من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذرّيّتك في اليوم الذي لا ينقضي كربه ولا تُفنى حسرته ، وهي أطهر بقاع الأرض وأعظمها حرمة ، وإنها لمن بطحاء الجنة .
  وروى محمد بن سنان ، عمّن حدثه ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : خرج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يسير بالناس ، حتى إذا كان من كربلاء على مسيرة ميل أو ميلين فتقدَّم بين أيديهم حتى إذا صار بمصارع الشهداء قال : قُبض فيها مائتا نبي ، ومائتا

---------------------------
(1) شعراء القطيف ، الشيخ علي المرهون : 2/29 .
(2) بحار الأنوار ، المجلسي : 98/114 ح 37 و 38 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 185 _

  وصي ، ومائتا سبط ، شهداء بأتباعهم ، فطاف بها على بغلته خارجاً رجليه من الركاب ، وأنشأ يقول : مناخ ركاب ومصارع شهداء ، لا يسبقهم من كان قبلهم ، ولا يلحقهم من كان بعدهم (1) .
  وعن عبدالله بن سنان قال : سمعت أبا عبدالله ( عليه السلام ) يقول : قبر الحسين بن علي ( عليه السلام ) عشرون ذراعاً في عشرين ذراعاً مكسّراً ، روضة من رياض الجنة ، منه معراج إلى السماء ، فليس من ملك مقرَّب ولا نبيٍّ مرسل إلاَّ وهو يسأل الله أن يزوره ، وفوج يهبط وفوج يصعد (2) .
  وعن أبي الجارود قال : قال لي أبو جعفر ( عليه السلام ) : كم بينك وبين قبر أبي عبدالله ( عليه السلام ) ؟ قال : قلت : يوم وشيء فقال له : لو كان منا على مثل الذي هو منكم لا تخذناه هجرة (3) .
   ولله درّ الشاعر إذ يقول :
إذا شئتَ النجاة فزر حسيناً      لكي  تلقى الإلهَ قريرَ iiعينِ
فإن النارَ ليس تمسُّ iiجسماً      عليه  غُبارُ زوَّارِ iiالحسينِ
  ومما جاء في فضل زيارة الحسين ( عليه السلام ) ما روي عن الإمام الرضا ، عن أبيه ( عليهما السلام ) قال : سئل الصادق ( عليه السلام ) عن زيارة قبر الحسين ( عليه السلام ) فقال : أخبرني أبي ( عليه السلام ) أن من زار قبر الحسين ( عليه السلام ) عارفاً بحقه كتبه الله في عليين ، ثم قال : إن حول قبر الحسين ( عليه السلام ) سبعين ألف ملك شعثاً غبراً ، يبكون عليه إلى يوم القيامة (4) .
  وروى ابن قولويه عليه الرحمة عن الحسين بن ثوير بن أبي فاختة قال : قال أبو عبدالله ( عليه السلام ) : يا حسين ، من خرج من منزله يريد زيارة قبر الحسين بن علي ( عليه السلام ) إن كان ماشياً كتب له بكل خطوة حسنة ، ومحي عنه سيئة ، حتى إذا صار

---------------------------
(1) بحار الأنوار ، المجلسي : 98/116 ح 42 و 44 .
(2) بحار الأنوار ، المجلسي : 98/106 ح 1 .
(3) بحار الأنوار ، المجلسي : 98/115 ح 39 .
(4) بحار الأنوار ، المجلسي : 89/69 ح 1 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 186 _

  في الحير كتبه الله من المفلحين المنجحين ، حتى إذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين ، حتى إذا أراد الانصراف أتاه ملك فقال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقرئك السلام ويقول لك : استأنف العمل فقد غفر لك ما مضى .
  وروي عن عبدالله بن الطمحان ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : سمعته وهو يقول : ما من أحد يوم القيامة إلاَّ وهو يتمنَّى أنه من زوَّار الحسين بن علي ( عليه السلام ) لما يرى مما يُصنع بزوَّار الحسين من كرامتهم على الله (1) .
  وعن عبدالله بن حماد البصري ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) ، قال : قال لي : إن عندكم ـ أو قال : في قربكم ـ لفضيلة ما أوتي أحد مثلها ، وما أحسبكم تعرفونها كنه معرفتها ، ولا تحافظون عليها ولا على القيام بها ، وإن لها لأهلا خاصة قد سمّوا لها ، وأعطوها بلا حول منهم ولا قوة ، إلاَّ ما كان من صنع الله لهم وسعادة حباهم الله بها ورحمة ورأفة وتقدم .
  قلت : جعلت فداك ، وما هذا الذي وصفت ولم تسمِّه ؟ قال : زيارة جدي الحسين بن علي ( عليه السلام ) فإنه غريب بأرض غربة ، يبكيه من زاره ، ويحزن له من لم يزره ، ويحترق له من لم يشهده ، ويرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجله ، في أرض فلاة ، لا حميم قربه ولا قريب ، ثم منع الحق ، وتوازر عليه أهل الردّة ، حتى قتلوه وضيَّعوه وعرَّضوه للسباع ، ومنعوه شرب ماء الفرات الذي يشربه الكلاب ، وضيَّعوا حق رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيته به وبأهل بيته ، فأمسى مجفواً في حفرته ، صريعاً بين قرابته وشيعته ، بين أطباق التراب ، قد أوحش قربه في الوحدة والبعد عن جدّه ، والمنزل الذي لا يأتيه إلاَّ من امتحن الله قلبه للإيمان وعرَّفه حقَّنا ، فقلت له : جعلت فداك ، قد كنت آتيه حتى بليت بالسلطان وفي حفظ أموالهم ، وأنا عندهم مشهور ، فتركت للتقية إتياته ، وأنا أعرف ما في إتيانه من الخير ، فقال : هل

---------------------------
(1) بحار الأنوار ، المجلسي : 89/72 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 187 _

  تدري ما فضل من أتاه وما له عندنا من جزيل الخير ؟ فقلت : لا ، فقال : أمّا الفضل فيباهيه ملائكة السماء ، وأمّا ما له عندنا فالترحُّم عليه كل صباح ومساء ، ولقد حدَّثني أبي أنه لم يخل مكانه منذ قتل من مصل يصلّي عليه من الملائكة ، أو من الجنّ ، أو من الإنس ، أو من الوحش ، وما من شيء إلاَّ وهو يغبط زائره ، ويتمسَّح به ، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره .
   ثمَّ قال : بلغني أن قوماً يأتونه من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم ، ونساء يندبنه ، وذلك في النصف من شعبان ، فمن بين قارىء يقرأ ، وقاصّ يقصّ ، ونادب يندب ، وقائل يقول المراثي ، فقلت له : نعم جعلت فداك ، قد شهدت بعض ما تصف ، فقال : الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد إلينا ، ويمدحنا ويرثي لنا ، وجعل عدوَّنا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم ، يهدرونهم ويقبِّحون ما يصنعون (1) .
  وفي الأمالي عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر وجعفر بن محمد ( عليهما السلام ) يقولان : إن الله تعالى عوَّض الحسين ( عليه السلام ) من قتله أن جعل الإمامة في ذرّيّته ، والشفاء في تربته ، وإجابة الدعاء عند قبره ، ولا تُعدّ أيام زائريه جائياً وراجعاً ، قال محمد بن مسلم : فقلت لأبي عبدالله ( عليه السلام ) : هذه الخلال تنال بالحسين ( عليه السلام ) فما له في نفسه ؟ قال : إن الله تعالى ألحقه بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) فكان معه في درجته ومنزلته ، ثم تلا أبو عبدالله ( عليه السلام ) : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) الآية (2) .
  ولله درّ ابن العرندس عليه الرحمة إذ يقول :
إمامُ الهدى سِبْطُ النبوَّةِ والدُ iiال      أئمةِ ربُّ النهيِ مولىً له الأَمْرُ

---------------------------
(1) كامل الزيارات ، ابن قولويه : 537 ـ 539 ح 1 .
(2) بحار الأنوار ، المجلسي : 89/69 ح 2 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 188 _

إمامٌ   أبوه  المرتضى  عَلَمُ  iiالهدى      وصيُّ رسولِ اللهِ والصِّنْوُ iiوالصِّهْرُ
إمامٌ   بكته  الإنسُ  والجنُّ  والسَّمَا      وَوَحْشُ  الفلا والطيرُ والبرُّ والبحر
له  القُبَّةُ  البيضاءُ  بالطفِّ لم iiتزل      تطوفُ   بها   طوعاً  ملائكةٌ  iiغُرُّ
وفيه    رسولُ   اللهِ   قال   وقولُهُ      ُ صحيحٌ صريحٌ ليس في ذلكم iiنُكْرُ
حُبِي   بثلاث   ما   أحاطَ   iiبمثلِها      وليٌّ  فَمَنْ  زيدٌ  هناك  وَمَنْ عمرو
له    تُرْبةٌ    فيها   الشفاءُ   iiوقُبَّةٌ      يجابُ  بها  الداعي  إذا مسَّه الضرُّ
وذرّيّةٌ      دريَّةٌ     منه     iiتسعةٌ      أئمةُ   حقٍّ   لا   ثمان  ولا  iiعَشْرُ
أيُقْتَلُ    ظمآناً    حسينٌ    iiبكربلا      وفي  كلِّ  عُضْو  من  أنامِلِه  بحرُ
ووالدُهُ الساقي على الحوضِ في غَد      وفاطمةٌ   مَاءُ   الفُرَاتِ   لها  iiمَهْرُ (1)
  وقال آخر عليه الرحمة :
مولى بتربته الشفاء وتحت قبته      الدعاء   من   كل  داع  iiيسمعُ
فيه  الإمام  أبو  الأئمة  iiوالذي      هو   للنبوة   والإمامة   iiمجمعُ

المجلس الخامس : من اليوم الخامس :

  جود الإمام الحسين ( عليه السلام ) ومكارم أخلاقه الشريفة وفضل زيارته :
  جاء في زيارة الناحية المرويَّة عن الحجّة عجَّل الله تعالى فرجه الشريف : فلئن أخَّرتني الدهور ، وعاقني عن نصرك المقدور ، ولم أكن لمن حاربك محارباً ، ولمن نصب لك العداوة مناصباً ، فلأندبنّك صباحاً ومساء ، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً ، حسرة عليك ، وتأسُّفاً على ما دهاك وتلهّفاً ، حتى أموت بلوعة

---------------------------
(1) الغدير ، الأميني : 7/15 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 189 _

  المصاب وغصّة الاكتئاب... (1) ولله درّ الشيخ محمد علي اليعقوبي عليه الرحمة إذ يقول في استنهاض الإمام الحجة ( عليه السلام ) :
فيا   حبَّذا   يومٌ   به   تَنْشُرُ   iiاللِّوا      وتَشْهَرُ   ذاك   المشرفيَّ  من  iiالغمدِ
تصولُ   بجند   من   ملائكةِ  iiالسَّمَا      كجدِّك   لمَّا  صال  في  ذلك  iiالجندِ
يسدُّ   الفضاءَ   الرَّحْبَ  عَدّاً  iiوعُدَّةً      ولم  يَبْقَ  دونَ الحقِّ للشركِ من iiسَدِّ
كأن المواضي البيضَ إنْ مطرت دماً      بروقٌ   وأصواتُ  الملائكِ  iiكالرَّعْدِ
ونسمعُ  روحَ  القُدْسِ  في أُفُقِ iiالسما      ينادي بأهل الأرضِ قد ظهر iiالمهدي
فتجمعُ    شَمْلَ    المسلمين    iiمُؤَلِّفاً      قلوباً  طواها  الاختلافُ  على iiالحقدِ
وتسْتَلُّ   في   كفّيكَ   سيفَ   iiمحمَّد      ومنه  على  عِطْفَيْكَ فضفاضةُ السردِ
وتَسْتَرْجِعُ  الأمرَ  الذي استأثَرَتْ iiبِهِ      كَمَا  شاءت  الأعداءُ في الحَلِّ والعَقْدِ
نُلاَقي   بِلاَ   وَعْد   مُحَيَّاكَ   iiطالعاً      وما  أحسنَ  اللُّقْيَا  تجيءُ  بلا  iiوَعْدِ (2)
  جاء في كتاب أنس المجالس أن الفرزدق أتى الحسين ( عليه السلام ) لما أخرجه مروان من المدينة فأعطاه ( عليه السلام ) أربعمائة دينار ، وروي أن أعرابياً وفد المدينة فسأل عن أكرم الناس بها ، فدلّ على الحسين ( عليه السلام ) ، فدخل المسجد فوجده مصليّاً ، فوقف بإزائه وأنشأ :
لم يخبِ الآنَ مَنْ رَجَاكَ وَمَنْ      حَرَّكَ  مِنْ  دُونِ بَابِكَ iiالحَلَقَة
  قال : فسلَّم الحسين ( عليه السلام ) وقال : يا قنبر ، هل بقي من مال الحجاز شيء ؟ قال : نعم ، أربعة آلاف دينار ، فقال : هاتها قد جاء من هو أحقّ بها منا ، ثم نزع برديه ولفَّ الدنانير فيها ، وأخرج يده من شقّ الباب حياء من الأعرابي ، وأنشأ :
خُذْهَا  فإني  إليك  iiمعتذرٌ      واعلمْ بأني عليك ذو شَفَقَه

---------------------------
(1) المزار ، المشهدي : 501 .
(2) الشيخ اليعقوبي دراسة نقدية في شعره ، للدكتور عبد الصاحب الموسوي : 337 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 190 _

لو كان في سَيْرِنَا الغَدَاةَ عَصَاً      أمست   سَمَانا  عليك  مُنْذَفِقَه
لكنَّ  ريبَ  الزمانِ  ذو iiغِيَر      والكفُّ   منّي   قليلةُ   iiالنَّفَقَه
  قال : فأخذها الأعرابي وبكى ، فقال له : لعلّك استقللت ما أعطيناك ، قال : لا ، ولكن كيف يأكل التراب جودك (1) .
   أقول : وما درى الأعرابي ما يحلّ بالحسين ( عليه السلام ) بعرصة كربلاء ، وكيف لو رآه وهو جثة بلا رأس ، مقطَّعاً بالسيوف ، تريب الخد ، مسلوب الثياب ؟ ولله درّ بعض الشعراء إذ يقول :
فيا  نكبةً  هَدَّتْ  قُوَى  دينِ  أحمد      وَعُظْمَ مُصَاب في القُلُوبِ له iiسُعْرُ
أيرتفعُ  الرأسُ  الكريمُ  على iiالقَنَا      ويُهْدَى إلى رِجْس قد اغتاله iiالكُفْرُ
ويُمْنَعُ  شُرْبَ  الماءِ  عمداً  iiوكفُّه      به  من  عَطَايَا  جُوْدِ  إنعامِهِ iiبَحْرُ
ويُقْتَلُ     ظمآناً    كئيباً    iiوجدُّه      نبيٌّ  له  الإقبالُ  والعزُّ  iiوالنصرُ
حبيبٌ   أجلُّ   المرسلين   iiمَقَامُهُ      رسولٌ  به تُرْجَى الشفاعةُ iiوالبُشْرُ
ووالدُهُ  الهادي  الوصيُّ خليفةُ iiال      نبيِّ أبو الأطهارِ والصِّنْوُ والصِّهْرُ
إمامٌ  له  السرُّ  العظيمُ  وشأنُهُ iiال      قديمُ   وفي  أوصافِهِ  نَزَلَ  iiالذِّكْرُ(2)
  وعن شعيب بن عبدالرحمن الخزاعي قال : وجد على ظهر الحسين بن علي ( عليه السلام ) يوم الطف أثر ، فسألوا زين العابدين ( عليه السلام ) عن ذلك فقال : هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين .
  وقيل : إن عبدالرحمن السلمي علَّم ولد الحسين ( عليه السلام ) الحمد ، فلمَّا قرأها على أبيه أعطاه ألف دينار ، وألف حلّة ، وحشا فاه درّاً ، فقيل له في ذلك فقال : وأين يقع هذا من عطائه يعني تعليمه ؟ وأنشد الحسين ( عليه السلام ) :

---------------------------
(1) بحار الأنوار ، المجلسي : 44/189 .
(2) المنتخب ، الطريحي : 190 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 191 _

إذا  جادت الدنيا عليكَ فَجُدْ بها      على الناسِ طرّاً قَبْلَ أَنْ تتفلَّتِ
فلا الجودُ يُفْنِيها إذا هي iiأَقْبَلَتْ      ولا  البُخْلُ يُبقيها إذا ما iiتَوَلَّتِ
  ومن تواضعه ( عليه السلام ) أنه مرَّ بمساكين وهم يأكلون كسراً لهم على كساء ، فسلَّم عليهم ، فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم ، وقال : لولا أنه صدقة لأكلت معكم ، ثم قال : قوموا إلى منزلي ، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم (1) .
  وروي عن الحسين بن علي ( عليهما السلام ) أنه قال : صحَّ عندي قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أفضل الأعمال بعد الصلاة إدخال السرور في قلب المؤمن بما لا إثم فيه ، فإني رأيت غلاماً يواكل كلباً فقلت له في ذلك ، فقال : يا ابن رسول الله ، إني مغموم ، أطلب سروراً بسروره ، لأن صاحبي يهودي أريد أفارقه ، فأتى الحسين إلى صاحبه بمائتي دينار ثمناً له ، فقال اليهودي : الغلام فداء لخطاك ، وهذا البستان له ، ورددت عليه المال ، فقال ( عليه السلام ) : وأنا قد وهبت لك المال ، قال : قبلت المال ووهبته للغلام ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : أعتقت الغلام ووهبته له جميعاً ، فقالت امرأته : قد أسلمت ووهبت زوجي مهري ، فقال اليهودي : وأنا أيضاً أسلمت وأعطيتها هذه الدار (2) .
  وقال أنس : كنت عند الحسين ( عليه السلام ) فدخلت عليه جارية فحيَّته بطاقة ريحان ، فقال لها : أنت حرّة لوجه الله ، فقلت : تجيئك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها ؟ قال : كذا أدَّبنا الله ، قال الله : ( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّة فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ) (3) .
  وكان أحسن منها عتقها (4) .
  وعن عمرو بن دينار قال : دخل الحسين ( عليه السلام ) على أسامة بن زيد وهو مريض ، وهو يقول : واغمَّاه ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : وما غمك يا أخي ؟ قال : ديني ،

---------------------------
(1) بحار الأنوار ، المجلسي : 44/190 ـ 191 ح 3 .
(2) بحار الأنوار ، المجلسي : 44/194 ح 7 .
(3) سورة النساء ، الآية : 86 .
(4) بحار الأنوار ، المجلسي : 44/195 ح 8 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 192 _

  وهو ستون ألف درهم ، فقال الحسين : هو عليَّ ، قال : إني أخشى أن أموت ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : لن تموت حتى أقضيها عنك ، قال : فقضاها قبل موته (1) .
  وجنى غلام له جناية توجب العقاب عليه فأمر به أن يضرب ، فقال : يا مولاي ( والكاظمين الغيظ ) قال : خلّوا عنه ، فقال : يا مولاي ( والعافين عن الناس ) قال : قد عفوت عنك ، قال : يا مولاي ( والله يحب المحسنين ) قال : أنت حرٌّ لوجه الله ، ولك ضعف ما كنت أعطيك (2) .
  وفي أسانيد أخطب خوارزم أورده في كتاب له في مقتل آل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أن أعرابياً جاء إلى الحسين بن علي ( عليهما السلام ) فقال : يا ابن رسول الله ، قد ضمنت دية كاملة وعجزت عن أدائها ، فقلت في نفسي : أسأل أكرم الناس ، وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : يا أخا العرب ، أسألك عن ثلاث مسائل ، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال ، وإن أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال ، وإن أجبت عن الكل أعطيتك الكل .
  فقال الأعرابي : يا ابن رسول الله ، أمثلك يسأل مثلي وأنت من أهل العلم والشرف ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) : بلى ، سمعت جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : المعروف بقدر المعرفة ، فقال الأعرابي : سل عما بدا لك ، فإن أجبت وإلاَّ تعلَّمت منك ، ولا قوة إلاَّ بالله .
  فقال الحسين ( عليه السلام ) : أيُّ الأعمال أفضل ؟ فقال الأعرابي : الإيمان بالله ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : فما النجاة من المهلكة ؟ فقال الأعرابي : الثقة بالله ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : فما يزين الرجل ؟ فقال الأعرابي : علم معه حلم ، فقال : فإن أخطأه ذلك ؟ فقال : مال معه مروءة ، فقال : فإن أخطأه ذلك ؟ فقال : فقر معه صبر ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : فإن أخطأه ذلك ؟ فقال الأعرابي : فصاعقة تنزل من السماء وتحرقه فإنه أهل لذلك .

---------------------------
(1) بحار الأنوار ، المجلسي : 44/189 ح 2 .
(2) بحار الأنوار ، المجلسي : 44/195 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 193 _

  فضحك الحسين ( عليه السلام ) ورمى بصرّة إليه فيها ألف دينار ، وأعطاه خاتمه ، وفيه فص قيمته مائتا درهم ، وقال : يا أعرابي ، أعط الذهب إلى غرمائك ، واصرف الخاتم في نفقتك ، فأخذ الأعرابي : وقال ( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) (1) الآية (2) .
  وممّا جاء في فضل زيارة الحسين ( عليه السلام ) ما رواه ابن قولويه عليه الرحمة ، عن معاوية بن وهب ، قال : استأذنت على أبي عبدالله ( عليه السلام ) فقيل لي : ادخل ، فدخلت ، فوجدته في مصلاّه في بيته ، فجلست حتى قضى صلاته ، فسمعته وهو يناجي ربَّه وهو يقول : اللهم يا من خصَّنا بالكرامة ، ووعدنا بالشفاعة ، وخصَّنا بالوصية ، وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي ، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا ، اغفر لي ولإخواني ، وزوَّار قبر أبي عبدالله الحسين ، الذين أنفقوا أموالهم ، وأشخصوا أبدانهم ، رغبة في برِّنا ، ورجاء لما عندك في صلتنا ، وسروراً أدخلوه على نبيك ، وإجابة منهم لأمرنا ، وغيظاً أدخلوه على عدوّنا ، أرادوا بذلك رضوانك ، فكافهم عنّا بالرضوان ، واكلأهم بالليل والنهار ، واخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلّفوا بأحسن الخلف ، واصحبهم ، واكفهم شرَّ كل جبار عنيد ، وكل ضعيف من خلقك وشديد ، وشرَّ شياطين الإنس والجن ، وأعطهم أفضل ما أمّلوا منك في غربتهم عن أوطانهم ، وما آثرونا به على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم .
  اللهم إن أعداءنا عابوا عليهم بخروجهم ، فلم ينههم ذلك عن الشخوص إلينا خلافاً منهم على من خالفنا ، فارحم تلك الوجوه التي غيَّرتها الشمس ، وارحم تلك الخدود التي تتقلَّب على حفرة أبي عبدالله الحسين ( عليه السلام ) ، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا ، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا ، وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا ، اللهم إني أستودعك تلك الأبدان وتلك

---------------------------
(1) سورة الأنعام ، الآية : 24 .
(2) بحار الأنوار ، المجلسي : 44/196 ح 11 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 194 _

  الأنفس ، حتى توافيهم (1) .
  ولله درّ الشيخ محمد علي اليعقوبي عليه الرحمة إذ يقول :
يَا مَنْ بأرضِ الطفوفِ مشهدُهُ      كالركنِ  بينَ  الحجيجِ  iiيُسْتَلَمُ
وَيَا  أبَا التسعةِ الأُولى كَرُمَتْ      منها  السجايا  وطابت  الشِّيَمُ
أمَّتْ   حِمَاك  الوفودُ  iiزائرةً      لاَنَصَبٌ   عَاقَها   وَلاَ   iiسَأَمُ
تطوفُ  فيه  الملوكُ iiخاضعةً      له   وأهلُ   السَّمَا   به  خَدَمُ (2)

المجلس الأول : من اليوم السادس :

  توافد الخيل والرجال إلى كربلاء ودعوة حبيب لبني أسد :
  جاء في كتاب المزار للمشهدي عليه الرحمة في بعض الزيارات : يا سادتي يا آل رسول الله ، إني بكم أتقرَّب إلى الله جلَّ وعلا ، بالخلاف على الذين غدروا بكم ، ونكثوا بيعتكم ، وجحدوا ولايتكم ، وأنكروا منزلتكم ، وخلعوا ربقة طاعتكم ، وهجروا أسباب مودّتكم ، وتقرَّبوا إلى فراعنتهم بالبراءة منكم ، والإعراض عنكم ، ومنعوكم من إقامة الحدود ، واستئصال الجحود ، وشعب الصدع ، ولمّ الشعث ، وسدّ الخلل ، وتثقيف الأود ، وإمضاء الأحكام ، وتهذيب الإسلام ، وقمع الآثام ، وأرهجوا عليكم نقع الحروب والفتن ، وأنحوا عليكم سيوف الأحقاد ، وهتكوا منكم الستور ، وابتاعوا بخمسكم الخمور ، وصرفوا صدقات المساكين إلى .

---------------------------
(1) كامل الزيارات ، ابن قولويه : 228 ـ 229 ح 2 .
(2) الشيخ اليعقوبي دراسة نقدية في شعره ، الدكتور عبد الصاحب الموسوي : 346 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 195 _

  المضحكين والساخرين (1) ولله درّ السيد محمد حسين القزويني عليه الرحمة إذ يقول في استنهاض الإمام الحجة المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف :
متى   أيُّها   الموتورُ   تَبْعَثُ   iiغارةً      تُعِيدُ   العِدَى  والبَرُّ  من  دَمِهِمْ  iiبَحْرُ
أَتُغْضي  وأنت  المُدْرِكُ  الثارِ عن iiدَم      بِرَغْمِ  الهدى  أَضْحَى  وليس  له وِتْرُ
وتلك   بجَنْبِ   الطفِّ   فِتْيَانُ  iiهاشم      ثَوَتْ  تَحْتَ  أطرافِ  القَنَا  دَمُها iiهَدْرُ
فَلاَ   صبرَ   حتَّى   ترفعوها  iiذوابلا      من  الخطِّ  لا  يُلْوَى بخرصانِها iiكَسْرُ
وتبتعثوها    في    المَغَارِ   iiصواهلا      من  الخيلِ  مقروناً  بأعرافِها  iiالنصرُ
فكم    نكأت    منكم    أميَّةُ    iiقُرْحَةً      إلى الحشرِ لا يأتي على جُرْحها السَّبْرُ (2)
  قال الراوي : كتب ابن زياد لعنه الله إلى الحسين صلوات الله عليه : أمَّا بعد يا حسين ، فقد بلغني نزولك بكربلاء ، وقد كتب إليَّ أمير المؤمنين يزيد أن لا أتوسَّد الوثير ، ولا أشبع من الخمير ، أو ألحقك باللطيف الخبير ، أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد بن معاوية ، والسلام .
  فلمَّا ورد كتابه على الحسين ( عليه السلام ) وقرأه رماه من يده ، ثم قال : لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فقال له الرسول : جواب الكتاب أبا

---------------------------
(1) المزار ، محمد بن المشهدي : 295 / 296 .
(2) مثير الأحزان ، الجواهري : 116 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 196 _

  عبدالله ؟! فقال ( عليه السلام ) : ما له عندي جواب ، لأنه قد حقَّت عليه كلمة العذاب ، فرجع الرسول إليه فخبَّره بذلك ، فغضب عدوّ الله من ذلك أشدَّ الغضب ، والتفت إلى عمر ابن سعد وأمره بقتال الحسين ( عليه السلام ) ، وقد كان ولاَّه الريَّ قبل ذلك ، فاستعفى عمر من ذلك ، فقال ابن زياد : فاردد إلينا عهدنا ، فاستمهله ، ثم قبل بعد يوم خوفاً عن أن يُعزل عن ولاية الريّ .
  وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فلمّا كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد ابن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف فارس ، فنزل بنينوى ، فبعث إلى الحسين ( عليه السلام ) عروة بن قيس الأحمسي ، فقال له : ائته فسله ما الذي جاء بك ؟ وما تريد ؟ وكان عروة ممن كتب إلى الحسين ( عليه السلام ) ، فاستحيى منه أن يأتيه ، فعرض ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه ، وكلّهم أبى ذلك وكرهه .
   فقام إليه كثير بن عبدالله الشعبي ـ وكان فارساً شجاعاً لا يردّ وجهه شيء ـ فقال له : أنا أذهب إليه ، والله لئن شئت لأفتكنَّ به ، فقال له عمر بن سعد : ما أريد أن تفتك به ، ولكن ائته فسله ما الذي جاء به ؟ فأقبل كثير إليه ، فلمّا رآه أبو ثمامة الصيداوي قال للحسين ( عليه السلام ) : أصلحك الله يا أبا عبدالله! قد جاءك شرّ أهل الأرض وأجرأه على دم وأفتكه ، وقام إليه فقال له : ضع سيفك ، قال : لا والله ولا كرامة ، إنما أنا رسول ، إن سمعتم كلامي بلَّغتكم ما أرسلت به إليكم ، وإن أبيتم انصرفت عنكم ، قال : فإني آخذ بقائم سيفك ثم تكلَّم بحاجتك ، قال : لا والله لا تمسّه ، فقال له : أخبرني بما جئت به وأنا أبلِّغه عنك ، ولا أدعك تدنو منه ، فإنك فاجر ، فاستبَّا وانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر .
  فدعا عمر بن سعد قرة بن قيس الحنظلي ، فقال له : ويحك ، الق حسيناً فسله ما جاء به ؟ وماذا يريد ؟ فأتاه قرّة فلمّا رآه الحسين ( عليه السلام ) مقبلا قال : أتعرفون هذا ؟ فقال حبيب بن مظاهر : هذا رجل من حنظلة تميم ، وهو ابن أختنا ، وقد كنت

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 197 _

  أعرفه بحسن الرأي ، وما كنت أراه يشهد هذا المشهد ، فجاء حتى سلَّم على الحسين ( عليه السلام ) وأبلغه رسالة عمر بن سعد إليه ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : كتب إليَّ أهل مصركم هذا أن اقدم ، فأمَّا إذا كرهتموني فأنا أنصرف عنكم ، فقال حبيب بن مظاهر : ويحك يا قرة ، أين تذهب ؟ إلى القوم الظالمين ؟ انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيَّدك الله بالكرامة ، فقال له قرة : أرجع إلى صاحبي بجواب رسالته وأرى رأيي ، فانصرف إلى عمر بن سعد وأخبره الخبر ، فقال عمر بن سعد : أرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله .
   وكتب إلى عبيدالله بن زياد : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، أمّا بعد ، فإني حيث نزلت بالحسين ( عليه السلام ) بعثت إليه رسولي فسألته عمَّا أقدمه وماذا يطلب ؟ فقال : كتب إليَّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم ، ويسألوني القدوم إليهم ففعلت ، فأمَّا إذا كرهوني ، وبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم ، فأنا منصرف عنهم .
  قال حسان بن قائد العبسي : وكنت عند عبيدالله بن زياد حين أتاه هذا الكتاب ، فلمَّا قرأه قال :
الآن   إِذْ   عَلِقَتْ  مَخَالِبُنَا  iiبه      يرجو النَّجَاةَ وَلاَتَ حينَ مَنَاصِ
  وكتب إلى عمر بن سعد : أمَّا بعد ، فقد بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت ، فاعرض على الحسين ( عليه السلام ) أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه ، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا ، والسلام .
  فلمَّا ورد الجواب على عمر بن سعد قال : خشيت أن لا يقبل ابن زياد العافية (1) .
  وقال محمد بن أبي طالب : فلم يعرض ابن سعد على الحسين ( عليه السلام ) ما أرسل به ابن زياد ، لأنه علم أن الحسين ( عليه السلام ) لا يبايع يزيد أبداً ، قال : ثم جمع ابن زياد

---------------------------
(1) الإرشاد ، المفيد : 2/84 / 86 ، بحار الأنوار ، المجلسي 44/383 / 385 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 198 _

  الناس في جامع الكوفة ، ثمَّ خرج فصعد المنبر ، ثم قال : أيها الناس ، إنكم بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤمنين يزيد ، قد عرفتموه حسن السيرة ، محمود الطريقة ، محسناً إلى الرعية ، يعطي العطاء في حقّه ، قد أمنت السبل على عهده ، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد من بعده ، يكرم العباد ، ويغنيهم بالأموال ، ويكرمهم ، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة ، وأمرني أن أوفرها عليكم ، وأخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين ، فاسمعوا له وأطيعوا .
  ثم نزل عن المنبر ، ووفَّر الناس العطاء ، وأمرهم أن يخرجوا إلى حرب الحسين ( عليه السلام ) ، ويكونوا عوناً لابن سعد على حربه ، فأول من خرج شمر بن ذي الجوشن في أربعة آلاف ، فصار ابن سعد في تسعة آلاف ، ثم أتبعه بيزيد بن ركاب الكلبي في ألفين ، والحصين بن نمير السكوني في أربعة آلاف ، وفلاناً المازني في ثلاثة آلاف ، ونصر بن فلان في ألفين ، فذلك عشرون ألفاً .
  ثم أرسل إلى شبث بن ربعي أن أقبل إلينا ، وإنا نريد أن نوجِّه بك إلى حرب الحسين ( عليه السلام ) ، فتمارض شبث ، وأراد أن يعفيه ابن زياد ، فأرسل إليه : أمَّا بعد فإن رسولي أخبرني بتمارضك ، وأخاف أن تكون من الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ، إنما نحن مستهزؤن ، إن كنت في طاعتنا فأقبل إلينا مسرعاً .
  فأقبل إليه شبث بعد العشاء لئلا ينظر إلى وجهه فلا يرى عليه أثر العلة ، فلما دخل رحَّب به وقرَّب مجلسه ، وقال : أحبّ أن تشخص إلى قتال هذا الرجل عوناً لابن سعد عليه ، فقال : أفعل أيها الأمير ، فما زال يرسل إليه بالعساكر حتى تكامل عنده ثلاثون ألفاً ما بين فارس وراجل ، ثمَّ كتب إليه ابن زياد : إني لم أجعل لك علة في كثرة الخيل والرجال ، فانظر لا أصبح ولا أمسي إلاّ وخبرك عندي غدوة وعشية ، وكان ابن ياد يستحثّ عمر بن سعد لستة أيام مضين من المحرم .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 199 _

   وأقبل حبيب بن مظاهر إلى الحسين ( عليه السلام ) فقال : يا ابن رسول الله ، ههنا حي من بني أسد بالقرب منا ، أتأذن لي في المصير إليهم فأدعوهم إلى نصرتك ، فعسى الله أن يدفع بهم عنك ؟ قال : قد أذنت لك ، فخرج حبيب إليهم في جوف الليل متنكراً حتى أتى إليهم ، فعرفوه أنه من بني أسد ، فقالوا : ما حاجتك ؟ فقال : إني قد أتيتكم بخير ما أتى به وافد إلى قوم ، أتيتكم أدعوكم إلى نصر ابن بنت نبيكم ( صلى الله عليه وآله ) ، فإنه في عصابة من المؤمنين ، الرجل منهم خير من ألف رجل ، لن يخذلوه ولن يسلموه أبداً ، وهذا عمر بن سعد قد أحاط به ، وأنتم قومي وعشيرتي ، وقد أتيتكم بهذه النصيحة ، فأطيعوني اليوم في نصرته تنالوا بها شرف الدنيا والآخرة ، فإني أقسم بالله لا يُقتل أحد منكم في سبيل الله مع ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صابراً محتسباً إلاَّ كان رفيقاً لمحمد ( صلى الله عليه وآله ) في عليين ، قال : فوثب إليه رجل من بني أسد ـ يقال له عبدالله بن بشر ـ فقال : أنا أول من يجيب إلى هذه الدعوة ، ثم جعل يرتجز ويقول :
قد  علم القومُ إذا iiتواكلوا      وأحجم الفرسانُ إذ تناقلوا
أني  شجاعٌ  بطلٌ  مُقَاتِلُ      كأنني  ليثُ عرين iiبَاسِلُ
  ثم تبادر رجال الحي حتى التأم منهم تسعون رجلا ، فأقبلوا يريدون الحسين ( عليه السلام ) ، وخرج رجل في ذلك الوقت من الحيّ حتى صار إلى عمر بن سعد فأخبره بالحال ، فدعا ابن سعد برجل من أصحابه يقال له الأزرق فضمَّ إليه أربعمائة فارس ، ووجَّه نحو حي بني أسد ، فبينما أولئك القوم قد أقبلوا يريدون عسكر الحسين ( عليه السلام ) في جوف الليل إذا استقبلهم خيل ابن سعد على شاطىء الفرات ، وبينهم وبين عسكر الحسين ( عليه السلام ) اليسير ، فناوش القوم بعضهم بعضاً ، واقتتلوا قتالا شديداً ، وصاح حبيب بن مظاهر بالأزرق : ويلك ، مالك ومالنا ؟ انصرف عنا ، ودعنا يشقى بنا غيرك ، فأبى الأزرق أن يرجع ، وعلمت بنو أسد أنه

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 200 _

  لا طاقة لهم بالقوم ، فانهزموا راجعين إلى حيِّهم ، ثم إنهم ارتحلوا في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يبيِّتهم ، ورجع حبيب بن مظاهر إلى الحسين ( عليه السلام ) فخبَّره بذلك فقال ( عليه السلام ) : لا حول ولا قوة إلا بالله (1) ولله درّ الشيخ حسين بن محمد الدندن الأحسائي عليه الرحمة إذ يقول :
فأتى  إلى  وادي  الطفوفِ  iiبفتية      تَرِدُ    الرَّدَى    بنفوسِهَا   iiتَفْدِيهِ
مُضَريَّة    غُلْب    نَمَاها   iiهاشمٌ      كبني     أبيه    وعمِّه    iiوأخيهِ
وتنادبت    للذَّبِّ   عنه   iiعُصبَةٌ      لبَّت     نُفُوسُهُمُ     نِدَا    iiدَاعِيهِ
من كلِّ أشوسَ يرتوي فَيْضَ الدِّمَا      وَشَبَا  الحُسَامِ  من  الطُّلاَ  iiيُرْوِيهِ
حتَّى  قضوا عطشاً بماضيهِ iiالظُّبا      أَرْوَاهُمُ    من    نَحْرِهِمْ   iiهَامِيهِ
فَدَعَاهُمُ   يَا  أُسْدَ  غَابَاتِ  الوَغَى      لِمَنِ   اللِّوى  مِنْ  بَعْدِكُمْ  iiأُعْطِيهِ
وَغَدَا  وحيداً  لم  يَجِدْ  من ناصر      غيرَ   السِّنَانِ   وصارم   iiيَحْمِيهِ(2)
  عظَّم الله لكم الأجر أيها المؤمنون ، وأحسن الله لكم العزاء في مصاب الحسين ( عليه السلام ) ، وهكذا ضيَّق عليه أهل النفاق والشقاق ، ومنعوا أن يصل إليه أحد لنصرته ، وبقي مع هؤلاء الثلّة من أصحابه ، وكانوا نيِّفاً وسبعين رجلا ، وأهل بيته ( عليهم السلام ) وكانوا سبعة عشر رجلا ، فلهفي على الحسين ( عليه السلام ) لما صُرِّع أصحابه يوم العاشر من المحرَّم ، وبقي بعدهم ( عليه السلام ) وحيداً فريداً ، لا ناصر له ولا معين ، يستغيث فلا يغاث ، ويرى أصحابه صرعى على بوغاء كربلاء .
  قال بعض الرواة : ثم توجَّه ( عليه السلام ) نحو القوم ، وجعل ينظر يميناً وشمالا ، فلم ير أحداً من أصحابه وأنصاره إلاَّ من صافح التراب جبينه ، ومن قطع الحمام أنينه ، فنادى ( عليه السلام ) : يا مسلم بن عقيل ، ويا هاني بن عروة ، ويا حبيب بن مظاهر ، ويا

---------------------------
(1) بحار الأنوار ، المجلسي : 44/386 .
(2) مجلة تراثنا ، مؤسسة آل البيت : عدد 29/ ص 190 .