الفهرس العام

بسم الله الرحمن الرحيم


المجلس الثاني  : من يوم عاشوراء :
المجلس الثالث  : من يوم عاشوراء :
المجلس الرابع  : من يوم عاشوراء :



  الله جلَّ جلاله وإليهم من التقصير فيما يجب لهم عليك  ، وأن يعفو عمّا لم تعمله مما كنت تعلمه مع من يعزّ عليك  ، فإنه من المستبعد أن تقوم في هذا المصاب الهائل بقدر خطبه النازل  ، واجعل كلَّ ما يكون من الحركات والسكنات في الجزع عليه خدمة لله جلَّ جلاله  ، ومتقرِّباً بذلك إليه  ، واسأل من الله جلّ جلاله ومنهم ما يريدون أن يسئله منهم  ، وما أنت محتاج إليه  ، وإن لم تعرفه ولم تبلغ أملك إليه  ، فإنهم أحق أن يعطوك على قدر إمكانهم  ، ويعاملوك بما يقصر عنه سؤالك من إحسانهم. ولعلَّ قائلا يقول : هلاّ كان الحزن الذي يعملونه من أول عشر المحرم قبل وقع القتل يعملونه بعد يوم عاشوراء لأجل تجدّد القتل .
  فأقول : إن أول العشر كان الحزن خوفاً مما جرت الحال عليه  ، فلما قُتل صلوات الله عليه وآله دخل تحت قول الله تعالى : ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) (1) فلمّا صاروا فرحين بسعادة الشهادة وجب المشاركة لهم في السرور بعد القتل لنظفر معهم بالسعادة .
  فإن قيل : فعلام تجدّدون قراءة المقتل والحزن كل عام ؟ فأقول : لأن قراءته هو عرض قصة القتل على عدل الله جلّ جلاله ليأخذ بثاره كما وعد من العدل  ، وأما تجدّد الحزن كل عشر والشهداء صاروا مسرورين فلأنه مواساة لهم في أيام العشر  ، حيث كانوا فيها ممتحنين  ، ففي كل سنة ينبغي لأهل الوفاء أن يكونوا وقت الحزن محزونين  ، ووقت السرور مسرورين (2) .
  روي عن عبدالله بن الفضل قال : قلت للصادق ( عليه السلام ) : يا ابن رسول الله  ، كيف

---------------------------
(1) سورة آل عمران ، الآية : 169 ـ 170 .
(2) إقبال الأعمال  ، ابن طاووس : 3/90 ـ 91 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 352 _

  سمَّت العامة يوم عاشوراء يوم بركة ؟ فبكى ( عليه السلام ) ثمَّ قال : لما قُتل الحسين ( عليه السلام ) تقرَّب الناس بالشام إلى يزيد  ، فوضعوا له الأخبار وأخذوا عليها الجوائز من الأموال  ، فكان مما وضعوا له أمر هذا اليوم وأنه يوم بركة  ، ليعدل الناس فيه من الجزع والبكاء والمصيبة والحزن إلى الفرح والسرور والتبرّك والاستعداد فيه  ، حكم الله بيننا وبينهم .
  وروي عن علي بن الحسن بن فضال  ، عن أبيه  ، عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) قال : من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة  ، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره  ، وقرَّت بنا في الجنان عينُه  ، ومن سمَّى يوم عاشوراء  ، يوم بركة وادّخر فيه لمنزله شيئاً لم يبارك له فيما ادّخر  ، وحشر يوم القيامة مع يزيد وعبيدالله بن زياد وعمر بن سعد ـ لعنهم الله ـ إلى أسفل درك من النار (1) .
  وروى جابر الجعفي عليه الرحمة قال : دخلت على جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) في يوم عاشوراء فقال لي : هؤلاء زوَّار الله  ، وحقٌّ على المزور أن يكرم الزائر  ، من بات عند قبر الحسين ( عليه السلام ) ليلة عاشوراء لقي الله يوم القيامة ملطَّخاً بدمه كأنما قتل معه في عرصته  ، وقال : من زار قبر الحسين ( عليه السلام ) ليوم عاشوراء وبات عنده كان كمن اُستشهد بين يديه (2) .
  وروي عن حريز  ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : من زار الحسين ( عليه السلام ) يوم عاشوراء وجبت له الجنة. وعن زيد الشحام  ، عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : من زار قبر الحسين بن علي ( عليهما السلام ) يوم عاشورا عارفاً بحقّه كان كمن زار الله في عرشه ، وعن محمد بن جمهور العمي  ، عمن ذكره  ، عنهم ( عليهم السلام ) قال : من زار قبر الحسين ( عليه السلام )

---------------------------
(1) علل الشرائع  ، الصدوق : 1/226 / 227 ح 1/ 2 .
(2) كامل الزيارات  ، ابن قولويه : 323 ح 1 / 2 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 353 _

  يوم عاشوراء كان كمن تشحَّط بدمه بين يديه. وروى محمد بن أبي سيار المدايني بإسناده قال : من سقى يوم عاشوراء عند قبر الحسين ( عليهم السلام ) كان كمن سقى عسكر الحسين ( عليه السلام ) وشهد معه .
  وروي عن زيد الشحام  ، عن جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) قال : من زار الحسين ( عليه السلام ) ليلة النصف من شعبان غفر الله له ما تقدَّم من ذنوبه وما تأخَّر  ، ومن زاره يوم عرفة كتب الله له ثواب ألف حجّة متقبَّلة  ، وألف عمرة مبرورة  ، ومن زاره يوم عاشوراء فكأنّما زار الله فوق عرشه (1) .
  وروى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن المفضل بن عمر  ، عن الصادق جعفر بن محمّد  ، عن أبيه  ، عن جده ( عليهم السلام ) : أن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) دخل يوما إلى الحسن ( عليه السلام )   ، فلما نظر إليه بكى  ، فقال له : ما يبكيك يا أبا عبدالله  ؟ قال : أبكى لما يصنع بك  ، فقال له الحسن ( عليه السلام ) : إن الذي يؤتى إليَّ سم يُدس إليَّ فأُقتل به  ، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبدالله  ، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل  ، يدَّعون أنهم من أمة جدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم )  ، وينتحلون دين الإسلام  ، فيجتمعون على قتلك  ، وسفك دمك  ، وانتهاك حرمتك  ، وسبي ذراريك ونسائك  ، وانتهاب ثقلك  ، فعندها تحل ببني أمية اللعنة  ، وتمطر السماء رماداً ودماً  ، ويبكي عليك كلُ شيء حتّى الوحوش في الفلوات  ، والحيتان في البحار (2) .
  وروي عن زين العابدين علي بن الحسين ( عليهما السلام ) قال : ولا يوم كيوم الحسين ( عليه السلام ) ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل  ، يزعمون أنهم من هذه الأمة كل يتقرب إلى الله عزّوجل بدمه  ، وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون  ، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً ... (3) .

---------------------------
(1) كامل الزيارات  ، ابن قولويه : 324 / 325 .
(2) الأمالي  ، الشيخ الصدوق : 177 / 178 ح 3  ، مناقب آل أبي طالب  ، ابن شهر آشوب : 2/238 .
(3) الأمالي  ، الشيخ الصدوق : 547 ح 10 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 354 _

  وروى عبدالله بن سنان قال : دخلت على سيدي أبي عبدالله جعفر بن محمّد ( عليهما السلام ) في يوم عاشوراء فألفيته كاسف اللون ظاهر الحزن ودموعه تنحدر من عينيه كاللؤلؤ المتساقط. فقلت : يا ابن رسول الله !
  مِمَ بُكاؤك  ؟ لا أبكى الله عينيك  ، فقال لي : أو في غفلة أنت  ؟ أما علمت أن الحسين بن علي أُصيب في مثل هذا اليوم  ؟ (1) .
  وروي أن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال لعبد الله بن حماد البصري في مصيبة الحسين ( عليه السلام ) : فإنه غريب بأرض غربة  ، يبكيه من زاره  ، ويحزن له من لم يزره  ، ويحترق له من لم يشهده  ، ويرحمه من نظر إلى قبر ابنه عند رجله  ، في أرض فلاة لا حميم قربه ولا قريب  ، ثم منع الحق وتوازر عليه أهل الردة  ، حتى قتلوه وضيعوه وعرَّضوه للسباع  ، ومنعوه شرب ماء الفُرات الذي يشربه الكلاب  ، وضيعوا حق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووصيته به وبأهل بيته  ، فأمسى مجفواً في حفرته  ، صريعاً بين قرابته  ، وشيعته بين أطباق التراب  ، قد أوحش قربه في الوحدة والبعد عن جده  ، والمنزل الذي لا يأتيه إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان وعرفه حقنا  ، إلى أن قال ( عليه السلام ) : ولقد حدثني أبي إنه لم يخل مكانه منذ قُتل من مصلي يصلي عليه من الملائكة  ، أو من الجن أو من الإنس أو من الوحش  ، وما من شيء إلاّ وهو يغبط زائره ويتمسح به  ، ويرجو في النظر إليه الخير لنظره إلى قبره .
  ثم قال : بلغني أن قوماً يأتونه من نواحي الكوفة وناساً من غيرهم  ، ونساء يندبنه  ، وذلك في النصف من شعبان  ، فمن بين قارئ يقرأ  ، وقاص يقص  ، ونادب يندب  ، وقائل يقول المراثي  ، فقلت له : نعم جعلت فداك قد شهدت بعض ما تصف  ، فقال : الحمد لله الذي جعل في الناس من يفد الينا ويمدحُنا ويرثي لنا  ، وجعل عدونا من يطعن عليهم من قرابتنا وغيرهم يهدرونهم ويقبّحون ما

---------------------------
(1) مصباح المتهجد  ، الطوسي : 782 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 355 _

  يصنعون (1) .
  وعن الريان بن شبيب قال : دخلت على الرضا ( عليه السلام ) في أول يوم من المحرم وساق الحديث عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) إلى أن قال : يا ابن شبيب إن المحرم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضى يحرمون فيه الظلم والقتال لحرمته  ، فما عرفت هذه الأمة حرمة شهرها ولا حرمة نبيها  ، لقد قتلوا في هذا الشهر ذريته  ، وسبوا نساءه  ، وانتهبوا ثقله  ، فلا غفر الله لهم ذلك أبداً  ، يا ابن شبيب إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهما السلام ) فإنه ذبح كما يُذبح الكبش  ، وقُتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا  ، مالهم في الأرض شبيهون  ، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله  ، ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره  ، فوجدوه قد قُتل  ، فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم  ، فيكونون من أنصاره  ، وشعارهم يا لثارات الحسين .
  يا ابن شبيب لقد حدثني أبي  ، عن أبيه  ، عن جده أنه لما قُتل جدي الحسين أمطرت السماء دماً وتراباً أحمر إلى أن قال ( عليه السلام ) : يا ابن شبيب إن سرك أن تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فالعن قتلة الحسين .
  يا ابن شبيب إن سرك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين فقل متى ما ذكرته : يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيماً  ، يا ابن شبيب إن سرك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان  ، فاحزن لحزننا  ، وافرح لفرحنا  ، وعليك بولايتنا  ، فلو أن رجلا تولى حجرا لحشره الله معه يوم القيامة (2) .

  وفي زيارة الناحية يقول الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف : فلئن أخرتني الدهور  ، وعاقني عن نصرك المقدور  ، ولم أكن لمن حاربك محاربا  ، ولمن

---------------------------

(1) كامل الزيارات  ، ابن قولويه : 537 / 539 ح 1 .
(2) بحار الأنوار  ، المجلسي : 44/285 ح 23 عن عيون أخبار الإمام الرضا ( عليه السلام ) .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 356 _

  نصب لك العداوة مناصبا  ، فلأندبنك صباحا ومساء  ، ولأبكين عليك بدل الدموع دماً  ، حسرة عليك  ، وتأسفا على ما دهاك  ، وتلهفا حتى أموت بلوعة المصاب وغصة الاكتئاب ... (1) .
  وروى الشيخ الصدوق عليه الرحمة  ، عن إبراهيم بن أبي محمود قال : قال الرضا ( عليه السلام ) : إن المحرَّم شهر كان أهل الجاهليّة يُحرِّمون فيه القتال  ، فاستُحلّت فيه دماؤنا  ، وهُتكت فيه حرمتنا  ، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا  ، وأُضرمت النيران في مضاربنا  ، واُنتهب ما فيها من ثقلنا  ، ولم ترع لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حرمة في أمرنا  ، إن يوم الحسين أقرح جفوننا  ، وأسبل دموعنا  ، وأذلَّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء  ، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء  ، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون  ، فإن البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام .
  ثمَّ قال ( عليه السلام ) : كان أبي إذا دخل شهر المحرَّم لا يُرى ضاحكاً  ، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام  ، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه  ، ويقول : هو اليوم الذي قُتل فيه الحسين صلَّى الله عليه (2) .
  ومن كتاب النوادر لعلي بن أسباط عليه الرحمة  ، عن بعض أصحاب الأئمة ( عليهم السلام ) رواه  ، قال : إن أبا جعفر ( عليه السلام ) قال : كان أبي مبطوناً يوم قُتل أبوه ( عليه السلام )   ، وكان في الخيمة  ، وكنت أرى موالينا كيف يختلفون معه  ، يتبعونه بالماء  ، يشدّ على الميمنة مرَّة  ، وعلى الميسرة مرَّة  ، وعلى القلب مرّة  ، ولقد قتلوه قتلة نهى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يُقتل بها الكلاب  ، ولقد قُتل بالسيف والسنان  ، وبالحجارة  ، وبالخشب  ، وبالعصا  ، ولقد أوطؤوه الخيل بعد ذلك (3) .

---------------------------
(1) المزار  ، المشهدي : 501 .
(2) الأمالي  ، الصدوق : 190 ـ 191 ح 2 .
(3) بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/91 ح 30 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 357 _

  وقال البيروني : لقد فعلوا بالحسين ( عليه السلام ) ما لم يُفعل في جميع الأمم بأشرار الخلق من القتل بالسيف والرمح والحجارة وإجراء الخيول (1) .
  ولله درّ الشيخ عبد الحسين شكر عليه الرحمة إذ يقول :
مَنِ   المعزّي   نبيَّ   الكائناتِ   iiبمَنْ       أقام     دَعْوَتَه     بالبيضِ    والسُّمُرِ
والأَنْجُمُ   الزُّهْرِ   أَبْنَاهُ   الذينَ   iiبِهِمْ       قد  أَشْرَقَ  الكونُ  لا  بالأنجمِ  iiالزُّهُرِ
لولا   حُسَامٌ   أحارَ   المبصرينَ   iiبِهِ       لم  يَنْظُرِ  الدِّينَ  والتكوينَ  ذو  iiبَصَرِ
وَاضيعةَ    الدِّيْنِ    وَالدُّنْيَا   iiوأَهْلِهِمَا       حَلَّ    الذبولُ   بِعُود   للنَّدَى   iiنَضِرِ
لَمْ  أَنْسَ  زينبَ  تدعو  وهي  iiحاسرةٌ       قَدْ غَابَ وَاسُوْءَ حالي في الثرى قَمَري
لاَ  غَرْوَ  أَنْ  ناح  جبريلٌ وَرَنَّ iiأسىً       على    مُعَلِّمِهِ    في   غَابِرِ   العُصُرِ
والرُّسْلُ   أنْ   أَعْوَلُوا   حُزْناً   لأنهُمُ       لولاه   لم  ينظروا  يوماً  إلى  iiالظَّفَرِ(2)

المجلس الثاني  : من يوم عاشوراء :

  خطبة الإمام الحسين ( عليه السلام ) يوم عاشوراء :
  جاء في بعض زيارات الإمام الحسين ( عليه السلام ) الشريفة : أشهد أن دمك سكن في الخلد  ، واقشعرّت له أظلّة العرش  ، وبكى له جميع الخلائق  ، وبكت له السماوات السبع  ، والأرضون السبع  ، وما فيهن وما بينهن  ، ومن يتقلَّب في الجنّة والنار من خلق ربِّنا  ، وما يُرى وما لا يُرى  ، أشهد أنّك حجَّة الله وابن حجّته  ، وأشهد أنك قتيل الله وابن قتيله  ، وأشهد أنك ثائر الله وابن ثائره  ، وأشهد أنك وتر الله الموتور في السماوات والأرض  ، وأشهد أنك قد بلَّغت ونصحت  ، ووفيت وأوفيت  ،

---------------------------
(1) مقتل الحسين  ، المقرم : 303 .
(2) رياض المدح والرثاء  ، الشيخ حسين القديحي : 316 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 358 _

  وجاهدت في سبيل الله  ، ومضيت للذي كنت عليه شهيداً ومستشهِداً  ، وشاهداً ومشهوداً ... (1) .
  قال بعض الرواة : وأصبح الحسين ( عليه السلام ) فعبَّأ أصحابه بعد صلاة الغداة  ، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلا  ، وقال السيِّد ابن طاووس عليه الرحمة : روي عن الباقر ( عليه السلام ) أنهم كانوا خمسة وأربعين فرساً ومائة راجل  ، وكذا قال ابن نما .
  قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه  ، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه  ، وأعطى رايته العباس أخاه  ، وجعلوا البيوت في ظهورهم  ، وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت أن يُترك في خندق كان قد حفر هناك  ، وأن يُحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم .
  وأصبح عمر بن سعد في ذلك اليوم وهو يوم الجمعة  ، وقيل يوم السبت  ، فعبَّأ أصحابه  ، وخرج فيمن معه من الناس نحو الحسين ( عليه السلام )   ، وكان على ميمنته عمرو بن الحجاج  ، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن  ، وعلى الخيل عروة بن قيس  ، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي  ، وأعطى الراية دريداً مولاه  ، وقال محمد بن أبي طالب : وكان نيفا على اثنين وعشرين ألفا  ، وفي رواية عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ثلاثين ألفاً .
  وفي ذلك يقول السيد رضا الهندي عليه الرحمة :
وعاد   ريحانة   المختار  منفرداً       بين  العدى  ما له حام ولا iiعضدُ
يكر    فيهم   بماضيه   iiفيهزمُهم       وهم   ثلاثون  ألفاً  وهو  iiمنفردُ
لو  شئت  ياعلة التكوين iiمحوَهُم       ما كان يثبُتُ منهم في الوغى أحد
  وقال آخر :

---------------------------
(1) الكافي  ، الكليني : 4/576 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 359 _

ملءُ القفار على ابن فاطمة جندٌ       وملءُ        قلوبِهمُ       iiذُخلُ
بجحافل      بالطف      iiأولُها       واخيرُها     بالشام     iiمتصلُ
  قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : روي عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) أنه قال : لمَّا أصبحت الخيل تُقبل على الحسين ( عليه السلام ) رفع يديه وقال : اللهم أنت ثقتي في كل كرب  ، ورجائي في كل شدّة  ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدّة  ، كم من كرب يَضعف عنه الفؤاد  ، وتقلُّ فيه الحيلة  ، ويخذل فيه الصديق  ، ويشمت فيه العدوُّ  ، أنزلته بك وشكوته إليك  ، رغبةً منّي إليك عمَّن سواك  ، ففرَّجته وكشفته  ، فأنت وليُّ كل نعمة  ، وصاحب كل حسنة  ، ومنتهى كل رغبة .
  قال : فأقبل القوم يجولون حول بيت الحسين ( عليه السلام )   ، فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب والقصب الذي كان اُلقي فيه  ، فنادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته : يا حسين! أتعجَّلت بالنار قبل يوم القيامة ؟ فقال الحسين ( عليه السلام ) : من هذا ؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن ؟ فقالوا : نعم  ، فقال له : يا بن راعية المعزى! أنت أولى بها صليّا .
  ورام مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم فمنعه الحسين ( عليه السلام ) من ذلك  ، فقال له : دعني حتى أرميه  ، فإن الفاسق من أعداء الله وعظماء الجبّارين  ، وقد أمكن الله منه  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم بقتال (1) .
  وقال محمد بن أبي طالب : وركب أصحاب عمر بن سعد  ، فقرِّب إلى الحسين ( عليه السلام ) فرسه فاستوى عليه  ، وتقدَّم نحو القوم في نفر من أصحابه  ، وبين يديه برير بن خضير  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : كلِّم القوم  ، فتقدَّم برير فقال : يا قوم! اتقوا الله  ، فإن ثقل محمد قد أصبح بين أظهركم  ، هؤلاء ذرّيّته وعترته وبناته وحرمه  ، فهاتوا ما عندكم  ، وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم ؟ فقالوا : نريد أن نمكِّن منهم

---------------------------
(1) الإرشاد  ، المفيد : 2/96  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 45 / 4 / 5 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 360 _

  الأمير ابن زياد فيرى رأيه فيهم  ، فقال لهم برير : أفلا تَقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاؤوا منه ؟ ويلكم يا أهل الكوفة  ، أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها  ، يا ويلكم  ، أدعوتم أهل بيت نبيِّكم  ، وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم  ، حتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد  ، وحلأتموهم عن ماء الفرات ؟! بئس ما خلفتم نبيَّكم في ذرّيّته  ، ما لكم ؟ لا سقاكم الله يوم القيامة  ، فبئس القوم أنتم .
  فقال له نفر منهم : يا هذا! ما ندري ما تقول  ، فقال برير : الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة  ، اللهم إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم  ، اللهم ألق بأسهم بينهم  ، حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان  ، فجعل القوم يرمونه بالسهام فرجع برير إلى ورائه .
  وتقدَّم الحسين ( عليه السلام ) حتى وقف بإزاء القوم  ، فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنهم السيل  ، ونظر إلى ابن سعد واقفاً في صناديد الكوفة  ، فقال : الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال  ، متصرِّفة بأهلها حالا بعد حال  ، فالمغرور من غرَّته  ، والشقيُّ من فتنته  ، فلا تغرَّنَّكم هذه الدنيا  ، فإنها تقطع رجاء مَنْ ركن إليها  ، وتُخيِّب طمع مَنْ طمع فيها  ، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم  ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم  ، وأحلَّ بكم نقمته  ، وجنَّبكم رحمته  ، فنعم الربُّ ربُّنا  ، وبئس العبيد أنتم  ، أقررتم بالطاعة  ، وآمنتم بالرسول محمد ( صلى الله عليه وآله )   ، ثمَّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيّته وعترته تريدون قتلهم  ، لقد استحوذ عليكم الشيطان  ، فأنساكم ذكر الله العظيم  ، فتّباً لكم ولما تريدون  ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون  ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين .
  فقال عمر : ويلكم  ، كلِّموه فإنّه ابن أبيه  ، والله لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما انقطع ولما حَصُر  ، فكلِّموه  ، فتقدَّم شمر لعنه الله فقال : يا حسين ! ما هذا

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 361 _

  الذي تقول ؟ أفهمنا حتى نفهم .
  فقال : أقول : اتقوا الله ربَّكم ولا تقتلوني  ، فإنه لا يحلُّ لكم قتلي  ، ولا انتهاك حرمتي  ، فإنّي ابن بنت نبيِّكم  ، وجدّتي خديجة زوجة نبيِّكم  ، ولعلّه قد بلغكم قول نبيِّكم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة...
  وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : ودعا الحسين ( عليه السلام ) براحلته فركبها  ، ونادى بأعلى صوته : يا أهل العراق ـ وجلُّهم يسمعون ـ فقال : أيُّها الناس! اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحقُّ لكم عليَّ  ، وحتى أعذر عليكم  ، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فاجمعوا رأيكم  ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمَّة  ، ثم اقضوا إليَّ ولا تنظرون  ، إن وليّي الله الذي نزَّل الكتاب وهو يتولَّى الصالحين .
  ثمَّ حمد الله وأثنى عليه  ، وذكر الله بما هو أهله  ، وصلَّى على النبيِّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلى ملائكته وعلى أنبيائه  ، فلم يسمع متكلِّم قط قبله ولا بعده أبلغ منه في منطق .
  ثمَّ قال : أمَّا بعد  ، فانسبوني فانظروا من أنا  ، ثم راجعوا أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألست ابن بنت نبيِّكم  ، وابن وصيِّه وابن عمِّه وأول مؤمن مصدِّق لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بما جاء به من عند ربِّه ؟ أو ليس حمزة سيِّد الشهداء عمّي ؟ أو ليس جعفر الطيار في الجنّة بجناحين عمّي ؟ أو لم يبلغكم ما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لي ولأخي : هذان سيِّدا شباب أهل الجنّة ؟ فإن صدَّقتموني بما أقول وهو الحق  ، والله ما تعمَّدت كذباً مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله  ، وإن كذَّبتموني فإنّ فيكم مَنْ إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم  ، اسألوا جابر بن عبدالله الأنصاري  ، وأبا سعيد الخدري  ، وسهل بن سعد الساعدي  ، وزيد بن أرقم  ، وأنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لي ولأخي  ، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 362 _

  فقال له شمر بن ذي الجوشن : هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول  ، فقال له حبيب بن مظاهر : والله إنّي لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً  ، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول  ، قد طبع الله على قلبك .
  ثمَّ قال لهم الحسين ( عليه السلام ) : فإن كنتم في شك من هذا أفتشكُّون أني ابن بنت نبيِّكم ؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيركم  ، ويحكم  ، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ؟ أو مال لكم استهلكته ؟ أو بقصاص من جراحة ؟
  فأخذوا لا يكلِّمونه  ، فنادى : يا شبث بن ربعي! يا حجّار بن أبجر! يا قيس بن الأشعث! يا يزيد بن الحارث! ألم تكتبوا إليَّ أن قد أينعت الثمار  ، واخضرَّ الجناب  ، وإنّما تقدم على جند لك مجنَّد ؟ فقال له قيس بن الأشعث : ما ندري ما تقول  ، ولكن انزل على حكم بني عمِّك  ، فإنّهم لن يروك إلاَّ ما تحب  ، فقال لهم الحسين ( عليه السلام ) : لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل  ، ولا أقرُّ لكم إقرار العبيد .
  ثمَّ نادى : يا عباد الله! إنّي عذت بربّي وربِّكم أن تُرجمون  ، وأعوذ بربّي وربِّكم من كل متكبِّر لا يؤمن بيوم الحساب. ثم إنَّه أناخ راحلته  ، وأمر عقبة بن سمعان بعقلها  ، وأقبلوا يزحفون نحوه (1) .
  وفي المناقب روى بإسناده عن عبدالله قال : لما عبَّأ عمر بن سعد أصحابه لمحاربة الحسين بن علي ( عليهما السلام )   ، ورتَّبهم مراتبهم  ، وأقام الرايات في مواضعها  ، وعبَّأ أصحاب الميمنة والميسرة  ، فقال لأصحاب القلب : اثبتوا  ، وأحاطوا بالحسين من كل جانب حتى جعلوه في مثل الحلقة  ، فخرج ( عليه السلام ) حتى أتى الناس  ، فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا  ، حتى قال لهم : ويلكم  ، ما عليكم أن تنصتوا إليَّ فتسمعوا قولي ؟ وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد  ، فمن أطاعني كان من المرشدين  ، ومن عصاني كان

---------------------------
(1) الإرشاد  ، المفيد : 2/97 / 99 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 363 _

  من المهلكين  ، وكلّكم عاص لأمري  ، غير مستمع قولي  ، فقد مُلئت بطونكم من الحرام  ، وطُبع على قلوبكم  ، ويلكم  ، ألا تنصتون ؟ ألا تسمعون ؟ فتلاوم أصحاب عمر بن سعد بينهم وقالوا : أنصتوا له .
  فقام الحسين ( عليه السلام ) ثمَّ قال : تبّاً لكم أيَّتُها الجماعة وترحاً  ، أفحين استصرختمونا ولهين متحيِّرين فأصرختكم مؤدين مستعدين  ، سللتم علينا سيفاً في رقابنا  ، وحششتم علينا نار الفتن خباها عدوُّكم وعدوُّنا  ، فأصبحتم إلباً على أوليائكم  ، ويداً عليهم لأعدائكم  ، بغير عدل أفشوه فيكم  ، ولا أمل أصبح لكم فيهم  ، إلاَّ الحرام من الدنيا أنالوكم  ، وخسيس عيش طمعتم فيه  ، من غير حدث كان منّا  ، ولا رأي تفيل لنا  ، فهلاّ ـ لكم الويلات ـ إذ كرهتمونا وتركتمونا تجهَّزتموها والسيف لم يشهر  ، والجاش طامن  ، والرأي لم يستحصف  ، ولكن أسرعتم علينا كطيرة الذباب  ، وتداعيتم كتداعي الفراش  ، فقبحاً لكم  ، فإنّما أنتم من طواغيت الأمّة  ، وشذّاذ الأحزاب  ، ونبذة الكتاب  ، ونفثة الشيطان  ، وعصبة الآثام  ، ومحرِّفي الكتاب  ، ومطفيء السنن  ، وقتلة أولاد الأنبياء  ، ومبيري عترة الأوصياء  ، وملحقي العهار بالنسب  ، ومؤذي المؤمنين  ، وصراخ أئمّة المستهزئين  ، الذين جعلوا القرآن عضين .
  وأنتم ابن حرب وأشياعه تعتمدون  ، وإيّانا تخاذلون  ، أجل والله  ، الخذل فيكم معروف  ، وشجت عليه عروقكم  ، وتوارثته أصولكم وفروعكم  ، وثبتت عليه قلوبكم  ، وغشيت صدوركم  ، فكنتم أخبث شيء سنخاً للناصب  ، وأكلة للغاصب  ، ألا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها  ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا  ، فأنتم والله هُم .
  ألا إنّ الدعيَّ ابن الدعيِّ قد ركز بين اثنتين  ، بين القتلة والذلّة  ، وهيهات ما آخذ الدنيّة  ، أبى الله ذلك ورسوله  ، وجدود طابت  ، وحجور طهرت  ، وأنوف

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 364 _

  حميّة  ، ونفوس أبيّة لا تؤثر مصارع اللئام على مصارع الكرام  ، ألا قد أعذرت وأنذرت  ، ألا إنّي زاحف بهذه الأسرة  ، على قلّة العتاد  ، وخذلة الأصحاب. ثم أنشأ يقول :
فَإِنْ نَهْزَمْ فهزَّامون iiقِدْماً       وَإِنْ نُهْزَمْ فغيرُ مُهَزَّمينا
وَمَا إِنْ طِبُّنا جُبُنٌ iiولكنْ       مَنَايَانا   وَدَوْلَةُ  iiآخرينا
  وزاد بعدهما في الملهوف :
إِذَا ما الموتُ رَفَّعَ عن أُناس       كَلاَكِلَهُ     أَنَاخ     iiبآخرينا
فأفنى  ذالكم  سَرَوَاتِ iiقومي       كَمَا  أفنى  القُرُونَ  iiالأوَّلينا
فلو  خَلُدَ  الملوكُ  إذاً iiخَلُدْنا       ولو  بقي  الكِرَامُ  إذاً  iiبقينا
فَقُلْ   للشامتين   بِنَا  iiأَفيقوا       سَيَلقى  الشامتون  كَمَا  لَقِينا
  ألا! ثم لا تلبثون بعدها إلاَّ كريث ما يركب الفرس  ، حتى تدور بكم الرحى  ، عهد عهده إليَّ أبي عن جدّي  ، فأجمعوا أمركم وشركاءكم  ، ثم كيدوني جميعاً فلا تنظرون  ، إنّي توكلت على الله ربّي وربّكم  ، ما من دابّة إلاَّ هو آخذ بناصيتها  ، إن ربّي على صراط مستقيم  ، اللهم احبس عنهم قطر السماء  ، وابعث عليهم سنين كسنِّي يوسف  ، وسلَّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبرة  ، ولا يدع فيهم أحداً إلاَّ قتله قتلة بقتلة  ، وضربة بضربة  ، ينتقم لي ولأوليائي وأهل بيتي وأشياعي منهم  ، فإنّهم غرُّونا وكذَّبونا وخذلونا  ، وأنت ربُّنا  ، عليك توكَّلنا  ، وإليك أنبنا  ، وإليك المصير .
  ثمَّ قال : أين عمر بن سعد ؟ ادعوا لي عمر! فدعي له  ، وكان كارهاً لا يحبُّ أن يأتيه  ، فقال : يا عمر! أنت تقتلني ؟ تزعم أن يولِّيك الدعيُّ ابن الدعيِّ بلاد الريِّ وجرجان  ، والله لا تتهنَّأ بذلك أبداً  ، عهداً ومعهوداً  ، فاصنع ما أنت صانع  ، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة  ، ولكأنّي برأسك على قصبة قد نُصب بالكوفة  ، يتراماه

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 365 _

  الصبيان ويتخذونه غرضاً بينهم .
  فاغتاظ عمر من كلامه  ، ثمَّ صرف بوجهه عنه  ، ونادى بأصحابه : ما تنتظرون به ؟ احملوا بأجمعكم  ، إنّما هي أكلة واحدة .
  ثم إن الحسين ( عليه السلام ) دعا بفرس رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المرتجز فركبه  ، وعبَّأ أصحابه (1) .
قَسَتِ  القُلُوبُ  فَلَمْ  تَمِلْ لهداية       تبّاً   لهاتيك   القُلُوبِ  iiالقاسيه
مَا ذَاقَ طَعْمَ فُرَاتِهِمْ حَتَّى قَضَى       عَطَشَاً  وَغُسِّلَ  بالدِّمَاءِ iiالقَانِيه

المجلس الثالث  : من يوم عاشوراء :

  مقتل الأنصار ( عليهم السلام ) :
  قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فلمَّا رأى الحرُّ بن يزيد أن القوم قد صمَّموا على قتال الحسين ( عليه السلام ) قال لعمر بن سعد : أي عمر! أمقاتل أنت هذا الرجل ؟ قال : إي والله  ، قتالا شديداً أيسره أن تسقط الرؤوس  ، وتطيح الأيدي  ، قال : أفما لكم فيما عرضه علكيم رضى ؟
  قال عمر : أما لو كان الأمر إليَّ لفعلت  ، ولكنَّ أميرك قد أبى  ، فأقبل الحرُّ حتى وقف من الناس موقفاً  ، ومعه رجل من قومه يقال له قرّة بن قيس  ، فقال له : يا قرّة! هل سقيت فرسك اليوم ؟ قال : لا  ، قال : فما تريد أن تسقيه ؟ قال قرَّة : فظننت ـ والله ـ أنّه يريد أن يتنحَّى ولا يشهد القتال  ، فكره أن أراه حين يصنع ذلك  ، فقلت له : لم أسقه وأنا منطلق فأسقيه  ، فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه  ، فوالله لو أنه أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين .

---------------------------
(1) بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/8 ـ 10 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 366 _

  فأخذ يدنو من الحسين قليلا قليلا  ، فقال له مهاجر بن أوس : ما تريد يا ابن يزيد ؟ أتريد أن تحمل ؟ فلم يجبه  ، فأخذه مثل الأفكل وهي الرعدة  ، فقال له المهاجر : إن أمرك لمريب  ، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا  ، ولو قيل لي  ، من أشجع أهل الكوفة ؟ لما عدوتك  ، فما هذا الذي أرى منك ؟ فقال له الحر : إني والله اُخيِّر نفسي بين الجنّة والنار  ، فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطِّعت وأُحرقت .
  ثمَّ ضرب فرسه فلحق الحسين ( عليه السلام ) فقال له : جعلت فداك يا ابن رسول الله  ، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع  ، وسايرتك في الطريق  ، وجعجعت بك في هذا المكان  ، وما ظننت أن القوم يردُّون عليك ما عرضته عليهم  ، ولا يبلغون منك هذه المنزلة  ، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت  ، وأنا تائب إلى الله مما صنعت  ، فترى لي من ذلك توبة ؟ فقال له الحسين ( عليه السلام ) : نعم  ، يتوب الله عليك فانزل  ، فقال : أنا لك فارساً خير منّي راجلا  ، أقاتلهم على فرسي ساعة  ، وإلى النزول ما يصير آخر أمري  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) فاصنع ـ يرحمك الله ـ ما بدا لك .
  فاستقدم أمام الحسين ( عليه السلام ) فقال : يا أهل الكوفة لامِّكم الهبل والعبر  ، أدعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا أتاكم أسلمتموه ؟ وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه ؟ أمسكتم بنفسه  ، وأخذتم بكلكله  ، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجُّه إلى بلاد الله العريضة  ، فصار كالأسير في أيديكم  ، لا يملك لنفسه نفعاً  ، ولا يدفع عنها ضرّاً  ، وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري  ، تشربه اليهود والنصارى والمجوس  ، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابهم  ، وهاهم قد صرعهم العطش  ، بئسما خلفتم محمداً في ذرّيّته  ، لاسقاكم الله يوم الظمأ .
  فحمل عليه رجال يرمونه بالنبل  ، فأقبل حتى وقف أمام الحسين ( عليه السلام )

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 367 _

  ونادى عمر بن سعد : يا دريد! أدنِ رايتك  ، فأدناها  ، ثم وضع سهماً في كبد قوسه ثم رمى وقال : اشهدوا أني أول من رمى  ، ثم رمى الناس (1) .
  وقال محمد بن أبي طالب : فرمى أصحابه كلُّهم  ، فما بقي من أصحاب الحسين ( عليه السلام ) أحد إلاَّ أصابه من سهامهم .
  قيل : فلمَّا رموهم هذه الرمية قلَّ أصحاب الحسين ( عليه السلام ) وقُتل في هذه الحملة خمسون رجلا  ، وقال السيد ابن طاووس عليه الرحمة : فقال ( عليه السلام ) لأصحابه : قوموا ـ رحمكم الله ـ إلى الموت الذي لابدَّ منه  ، فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم  ، فاقتتلوا ساعة من النهار حملة وحملة  ، حتى قتل من أصحاب الحسين ( عليه السلام ) جماعة  ، قال : فعندها ضرب الحسين ( عليه السلام ) يده على لحيته  ، وجعل يقول : اشتدَّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً  ، واشتدَّ غضبه على النصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة  ، واشتدَّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس والقمر دونه  ، واشتدَّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيِّهم  ، أما والله لا أجيبهم إلى شيء مما يريدون حتى ألقى الله تعالى وأنا مخضَّب بدمي .
  وروي عن مولانا الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : سمعت أبي ( عليه السلام ) يقول : لمَّا التقى الحسين ( عليه السلام ) وعمر بن سعد لعنه الله وقامت الحرب  ، أُنزل النصر حتى رفرف على رأس الحسين ( عليه السلام )   ، ثم خُيِّر بين النصر على أعدائه وبين لقاء الله تعالى  ، فاختار لقاء الله تعالى  ، قال الراوي : ثمَّ صاح ( عليه السلام ) : أما من مغيث يغيثنا لوجه الله  ، أما من ذابٍّ يذبُّ عن حُرم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (2) .
  قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وحمل عمرو بن الحجاج على ميمنة أصحاب الحسين ( عليه السلام ) فيمن كان معه من أهل الكوفة  ، فلمَّا دنا من الحسين ( عليه السلام ) جثوا له على .

---------------------------
(1) كتاب الإرشاد  ، المفيد : 2/99 ـ 101  ، بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/10 .
(2) الملهوف  ، ابن طاووس : 60 ـ 61 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 368 _

  الركب  ، وأشرعوا الرماح نحوهم  ، فلم تقدم خيلهم على الرماح  ، فذهبت الخيل لترجع  ، فرشقهم أصحاب الحسين ( عليه السلام ) بالنبل  ، فصرعوا منهم رجالا  ، وجرحوا منهم آخرين .
  وجاء رجل من بني تميم يقال له عبدالله بن حوزة  ، فأقدم على عسكر الحسين ( عليه السلام )   ، فناداه القوم : إلى أين ثكلتك أمُّك ؟ فقال : إنّي أقدم على ربٍّ رحيم وشفيع مطاع  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) لأصحابه : من هذا ؟ فقيل له : هذا ابن حوزة التميمي  ، فقال : اللهم حُزْه إلى النار  ، فاضطرب به فرسه في جدول فوقع  ، وتعلَّقت رجله اليسرى في الركاب  ، وارتفعت اليمنى  ، وشدَّ عليه مسلم بن عوسجة فضرب رجله اليمنى فأطارها وعدا به فرسه فضرب برأسه كل حجر وكل شجر حتى مات  ، وعجَّل الله بروحه إلى النار  ، ونشب القتال فقتل من الجميع جماعة (1) .
  وقال محمد بن أبي طالب وصاحب المناقب وابن الأثير في الكامل ـ ورواياتهم متقاربة ـ إن الحرّ أتى الحسين ( عليه السلام ) فقال : يا ابن رسول الله! كنت أول خارج عليك فائذن لي لأكون أول قتيل بين يديك  ، وأول من يصافح جدَّك غداً  ، وإنّما قال الحر : لأكون أول قتيل بين يديك  ، والمعنى : يكون أول قتيل من المبارزين  ، وإلاَّ فإنَّ جماعة كانوا قد قتلوا في الحملة الأولى كما ذكر  ، فكان أول من تقدَّم إلى براز القوم  ، وجعل ينشد ويقول :
إنّي  أنا  الحرُّ  ومأوى iiالضيفِ       أضربُ   في  أعناقِكم  iiبالسيفِ
عن خيرِ مَنْ حلَّ بأرضِ الخَيْفِ       أضربُكم  ولا  أرى  من  iiحَيْفِ
  وَروي أن الحرَّ قتل أربعين فارساً وراجلا  ، ثمَّ لم يزل يقاتل حتى قُتل رحمه الله  ، فاحتمله أصحاب الحسين ( عليه السلام ) حتى وضعوه بين يدي الحسين ( عليه السلام ) وبه رمق  ، فجعل الحسين يمسح وجهه  ، ويقول : أنت الحرُّ كما سمَّتك أمُّك  ، وأنت الحرُّ في

---------------------------
(1) كتاب الإرشاد  ، المفيد : 2/102 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 369 _

  الدنيا  ، وأنت الحرُّ في الآخرة  ، ورثاه رجل من أصحاب الحسين ( عليه السلام )   ، وقيل : بل رثاه علي بن الحسين ( عليهما السلام )
لَنِعْمَ  الحرُّ  حُرُّ بني iiرِياحِ       صبورٌ عند مُخْتَلَفِ الرِّمَاحِ
وَنِعْمَ  الحرُّ إِذْ نادى iiحسيناً       فجاد  بنفسِهِ  عند iiالصِّيَاحِ
فَيَا  رَبِّي  أَضِفْهُ في iiجِنَان        وَزَوِّجْهُ مع الحورِ iiالمِلاَحِ
  وقال ابن شهر آشوب : قتل نيّفاً وأربعين رجلا منهم  ، وقال ابن نما : ورويت بإسنادي أنه قال للحسين ( عليه السلام ) : لمَّا وجَّهني عبيد الله إليك خرجت من القصر فنوديت من خلفي : أبشر ـ يا حرُّ! ـ بخير  ، فالتفتُّ فلم أر أحداً  ، فقلت : والله ما هذه بشارة وأنا أسير إلى الحسين  ، وما أحدِّث نفسي باتّباعك  ، فقال ( عليه السلام ) : لقد أصبت أجراً وخيراً (1). ثمَّ قالوا : وكان كل من أراد الخروج ودَّع الحسين ( عليه السلام ) وقال : السلام عليك يا ابن رسول الله! فيجيبه : وعليك السلام  ، ونحن خلفك  ، ويقرأ ( عليه السلام ) : ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) .
  ثم برز برير بن خضير الهمداني بعد الحُر  ، وكان من عباد الله الصالحين  ، فبرز وهو يقول :
أَنَا   بُرَيرٌ   وأبي   iiخُضَيْر       ليثٌ يروعُ الأُسْدَ عند iiالزَّئْرِ
يَعْرِفُ فينا الخيرَ أهلُ الخيرِ       أضربُكُمْ وَلاَ أَرى من iiضَيْرِ
  كذاك فِعْلُ الخيرِ من iiبُرَيْرِ
  وجعل يحمل على القوم وهو يقول : اقتربوا منّي يا قتلة المؤمنين! اقتربوا منّي يا قتلة أولاد البدريّين! اقتربوا منّي يا قتلة أولاد رسول ربِّ العالمين وذرّيّته الباقين! وكان برير أقرأ أهل زمانه  ، فلم يزل يقاتل حتى قتل ثلاثين رجلا .

---------------------------
(1) مثير الأحزان  ، ابن نما الحلي : 44 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 370 _

  قال : فحمل رجل من أصحاب ابن زياد فقتل بريراً رحمه الله  ، وكان يقال لقاتله : بحير بن أوس الضّبي. قال : ثمَّ ذكر له بعد ذلك أن بريراً كان من عباد الله الصالحين  ، وجاءه ابن عمٍّ له وقال : ويحك يا بحير! قتلت برير بن خضير  ، فبأيِّ وجه تلقى ربَّك غداً ؟ قال : فندم الشقيُّ لعنه الله .
  ثمَّ برز من بعده وهب بن عبدالله بن حباب الكلبي  ، وقد كانت معه أمُّه يومئذ  ، فقالت : قم يا بنيَّ فانصر ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )  ، فقال : أفعل يا أمّاه ولا أقصِّر  ، فبرز وهو يقول :
إِنْ  تُنْكِرُوني  فأنا  ابنُ iiالكلبي       سوف  تَرَوْني وَتَرَونَ iiضَرْبي
وَحَمْلَتي  وَصَوْلَتي في iiالْحَرْبِ       أُدْرِكُ  ثَأْري  بَعْدَ ثَأْرِ iiصَحْبي
وَأَدْفَعُ   الكَرْبَ   أمام  iiالْكَرْبِ       ليس جِهَادِي في الوغى باللعبِ
  ثمَّ حمل فلم يزل يقاتل حتى قتل منهم جماعة  ، فرجع إلى أمِّه وامرأته  ، فوقف عليهما فقال : يا أمَّاه! أرضيت ؟ فقالت : ما رضيت أو تقتل بين يدي الحسين ( عليه السلام )   ، فقالت امرأته : بالله لا تفجعني في نفسك! فقالت أمُّه : يا بنيَّ! لا تقبل قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )  ، فيكون غداً في القيامة شفيعاً لك بين يدي الله  ، فرجع فلم يزل يقاتل حتى قتل تسعة عشر فارساً واثني عشر راجلا  ، ثمَّ قُطعت يداه  ، فأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول : فداك أبي وأمّي  ، قاتل دون الطيّبين حرم رسول الله  ، فأقبل كي يردَّها إلى النساء  ، فأخذت بجانب ثوبه وقالت : لن أعود أو أموت معك  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : وجعل يقاتل حتى قتل رضوان الله عليه .
  قال : فذهبت امرأته تمسح الدم عن وجهه  ، فبصر بها شمر  ، فأمر غلاماً له فضربها بعمود كان معه فشدخها وقتلها  ، وهي أول امرأة قتلت في عسكر الحسين ( عليه السلام ) .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 371 _

  ورأيت حديثاً أن وهب هذا كان نصرانياً فأسلم هو وأمُّه على يدي الحسين ( عليه السلام )   ، فقتل في المبارزة أربعة وعشرين راجلا واثني عشر فارساً  ، ثم أُخذ أسيراً  ، فأُتي به عمر بن سعد فقال : ما أشدَّ صولتك! ثمَّ أمر فضُربت عنُقه  ، ورمي برأسه إلى عسكر الحسين ( عليه السلام )   ، فأخذت أمُّه الرأس فقبَّلته  ، ثم رمت بالرأس إلى عسكر ابن سعد فأصابت به رجلا فقتلته  ، ثم شدَّت بعمود الفسطاط  ، فقتلت رجلين  ، فقال لها الحسين ( عليه السلام ) : ارجعي يا أمَّ وهب  ، أنت وابنك مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإن الجهاد مرفوع عن النساء  ، فرجعت وهي تقول : إلهي لا تقطع رجائي  ، فقال لها الحسين ( عليه السلام ) : لا يقطع الله رجاك يا أمَّ وهب .
   ثمَّ برز من بعده عمرو بن خالد الأزدي وقاتل حتى قُتل ـ رحمه الله ـ قال الراوي : وصاح عمرو بن الحجاج بالناس : يا حمقى! أتدرون من تقاتلون ؟ تقاتلون فرسان أهل المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين  ، لا يبرز منكم إليهم أحد إلاَّ قتلوه على قلّتهم  ، والله لو لم ترموهم إلاَّ بالحجارة لقتلتموهم  ، فقال له عمر بن سعد ـ لعنه الله ـ : الرأي ما رأيت  ، فأرسل في الناس من يعزم عليهم أن لا يبارزهم رجل منهم  ، وقال : لو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم مبارزة .
  ودنا عمرو بن الحجاج من أصحاب الحسين ( عليه السلام ) فقال : يا أهل الكوفة! الزموا طاعتكم وجماعتكم  ، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين وخالف الإمام  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : يا ابن الحجاج! أعليَّ تُحرِّض الناس ؟ أنحن مرقنا من الدين وأنتم ثبتّم عليه ؟ والله لتعلمنَّ أيّنا المارق من الدين  ، ومن هو أولى بصلي النار .
  ثمَّ حمل عمرو بن الحجاج لعنه الله في ميمنته من نحو الفرات  ، فاضطربوا ساعة  ، فصُرع مسلم بن عوسجة  ، وانصرف عمرو وأصحابه  ، وانقطعت الغبرة فإذا مسلم صريع  ، وقال محمد بن أبي طالب : فسقط إلى الأرض وبه رمق  ، فمشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : رحمك الله يا مسلم فـ

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 372 _

  ( مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) ثمَّ دنا منه حبيب فقال : يعزُّ عليَّ مصرعك يا مسلم  ، أبشر بالجنّة  ، فقال له قولا ضعيفاً : بشَّرك الله بخير  ، فقال له حبيب : لولا أعلم أنّي في الأثر لأحببت أن توصي إليَّ بكل ما أهمَّك  ، فقال مسلم : فإني أوصيك بهذا ـ وأشار إلى الحسين ( عليه السلام ) ـ فقاتل دونه حتى تموت  ، فقال حبيب : لأنعمنَّك عيناً  ، ثمَّ مات رضوان الله عليه .
  قال : وصاحت جارية له : يا سيّداه! يا ابن عوسجتاه! فنادى أصحاب ابن سعد مستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة  ، فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله : ثكلتكم أمّهاتكم  ، أما إنّكم تقتلون أنفسكم بأيديكم  ، وتذلّون عزَّكم  ، أتفرحون بقتل مسلم بن عوسجة  ، أما والذي أسلمت له  ، لرُبَّ موقف له في المسلمين كريم  ، لقد رأيته يوم آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتام خيول المسلمين (1)   ، ولله درّ الشاعر إذ يقول :
رِجَالٌ  تَوَاصَوا  حيثُ طَابَتْ iiأُصُولُهُمْ       وَأَنْفُسُهُمْ  بالصَّبْرِ  حَتَّى  قَضَوا iiصَبْرا
حُمَاةٌ   حَمَوا   خِدْراً  أَبَى  اللهُ  iiهَتْكَهُ       فَعَظَّمَهُ      شَأْناً      وَشَرَّفَهُ     قَدْرَا
فَأَصْبَحَ     نَهْباً    لِلْمَغَاوِيرِ    iiبَعْدَهُمْ        وَمِنْهُ بَنَاتُ المصطفى أُبْرِزَتْ حَسْرَى
  وقال آخر :
السَّابقون  إِلَى المكارِمِ iiوَالْعُلَى       وَالحائِزُونَ غَداً حِيَاضَ الْكَوثَرِ
لولا  صَوَارِمُهُمْ  وَوَقْعُ  iiنِبَالِهِمْ       لَمْ  تَسْمَعِ  الآذَانُ صَوْتَ مُكَبِّرِ(2)

---------------------------
(1) بحار الأنوار  ، المجلسي : 45/10 ـ 20 .
(2) نفثة المصدور  ، الشيخ عباس القمي : 629 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 373 _


المجلس الرابع  : من يوم عاشوراء :

  مقتل الأنصار ( عليهم السلام ) أيضاً :
  قال الراوي : ثمَّ حمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة  ، فثبتوا له  ، وقاتلهم أصحاب الحسين ( عليه السلام ) قتالا شديداً  ، وإنما هم اثنان وثلاثون فارساً  ، فلا يحملون على جانب من أهل الكوفة إلاَّ كشفوهم  ، فدعا عمر بن سعد بالحصين بن نمير في خمسمائة من الرماة  ، فأقبلوا حتى دنوا من الحسين ( عليهم السلام ) وأصحابه  ، فرشقوهم بالنبل  ، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم  ، وقاتلوهم حتى انتصف النهار  ، واشتدَّ القتال  ، ولم يقدروا أن يأتوهم إلاَّ من جانب واحد; لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض  ، فأرسل عمر بن سعد الرجال ليقوِّضوها عن أيمانهم وشمائلهم ليحيطوا بهم  ، وأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخلَّلون فيشدُّون على الرجل يعرض وينهب  ، فيرمونه عن قريب فيصرعونه فيقتلونه .
  فقال ابن سعد : أحرقوها بالنار  ، فأضرموا فيها  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) : دعوهم يحرقوها  ، فإنهم إذا فعلوا ذلك لم يجوزوا إليكم  ، فكان كما قال ( عليه السلام ) .
  وقيل : أتاه شبث بن ربعي وقال : أفزعنا النساء ثكلتك أمُّك  ، فاستحيى وأخذوا لا يقاتلونهم إلاَّ من وجه واحد .
  وشدّ أصحاب زهير بن القين فقتلوا أبا عذرة الضبابي من أصحاب شمر .
  فلم يزل يُقتل من أصحاب الحسين ( عليه السلام ) الواحد والاثنان فيبين ذلك فيهم لقلَّتهم  ، ويُقتل من أصحاب عمر العشرة فلا يبين فيهم ذلك لكثرتهم .
  فلمَّا رأى ذلك أبو ثمامة الصيداوي قال للحسين ( عليه السلام ) : يا أبا عبدالله! نفسي لنفسك الفداء  ، هؤلاء اقتربوا منك  ، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك  ، وأحبُّ أن

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 374 _

  ألقى الله ربّي وقد صلَّيت هذه الصلاة  ، فرفع الحسين رأسه إلى السماء وقال : ذكرت الصلاة  ، جعلك الله من المصلّين  ، نعم هذا أول وقتها  ، ثمَّ قال : سلوهم أن يكفُّوا عنّا حتى نصلي  ، فقال الحصين بن نمير : إنّها لا تقبل  ، فقال حبيب بن مظاهر : لا تقبل الصلاة ـ زعمت ـ من ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتقبل منك ياختار  ، فحمل عليه حصين بن نمير  ، وحمل عليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف  ، فشبَّ به الفرس ووقع عنه الحصين  ، فاحتوشته أصحابه فاستنقذوه  ، فقال الحسين ( عليه السلام ) لزهير بن القين وسعيد بن عبدالله : تقدَّما أمامي حتى أصلّي الظهر  ، فتقدَّما أمامه في نحو من نصف أصحابه حتى صلَّى بهم صلاة الخوف .
  وروي أن سعيد بن عبدالله الحنفي تقدَّم أمام الحسين ( عليه السلام )   ، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل  ، كلّما أخذ الحسين ( عليه السلام ) يميناً وشمالا قام بين يديه  ، فما زال يُرمى به حتى سقط إلى الأرض وهو يقول : اللهم العنهم لعن عاد وثمود  ، اللهم أبلغ نبيَّك السلام عنّي  ، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح  ، فإنّي أردت بذلك نصرة ذرّيّة نبيِّك ( صلى الله عليه وآله وسلم )   ، ثمَّ مات رضوان الله عليه  ، فوجد به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح .
  وقال ابن نما : وقيل : صلَّى الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه فرادى بالإيماء  ، ثم قالوا : ثمَّ خرج عبد الرحمان بن عبدالله اليزني وهو يقول :
أَنَا  ابنُ  عَبْدِ اللهِ مِنْ آلِ iiيَزَنْ       ديني  على دينِ حسين iiوَحَسَنْ
أضربُكُمْ ضَرْبَ فَتَىً مِنَ الَْيمَنْ       أَرْجُو بذاك الفوزَ عِنْدَ iiالمُؤْتَمَنْ
  ثمَّ حمل فقاتل حتى قُتل .
  وقال السيِّد : فخرج عمرو بن قرظة الأنصاري فاستأذن الحسين ( عليه السلام ) فأذن له : فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء  ، وبالغ في خدمة سلطان السماء  ، حتى قتل جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد  ، وجمع بين سداد وجهاد  ، وكان لا يأتي إلى الحسين سهم

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 375 _

  إلاَّ اتّقاه بيده  ، ولا سيف إلاَّ تلقَّاه بمهجته  ، فلم يكن يصل إلى الحسين سوء حتى أُثخن بالجراح  ، فالتفت إلى الحسين وقال : يا ابن رسول الله! أوفيت ؟ قال : نعم  ، أنت أمامي في الجنّة  ، فاقرأ رسول الله منّي السلام  ، وأعلمه أنّي في الأثر  ، فقاتل حتى قُتل رضوان الله عليه .
  وفي المناقب أنه كان يقول :
قَدْ   عَلِمَتْ   كتيبةُ   الأنصارِ       أَنْ  سوف أَحْمِي حَوْزَةَ iiالذِّمَارِ
ضَرْبَ غُلاَم غَيْرِ نَكْس شَارِي       دُوْنَ  حُسَين  مُهْجَتي  iiوَدَاري
  وقال السيِّد : ثم تقدَّم جون مولى أبي ذر الغفاري  ، وكان عبداً أسود  ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : أنت في إذن منّي  ، فإنّما تبعتنا طلباً للعافية  ، فلا تبتلِ بطريقنا  ، فقال : يا ابن رسول الله! أنا في الرخاء الحس قصاعكم  ، وفي الشدّة أخذلكم  ، والله إن ريحي لمنتن  ، وإن حسبي للئيم  ، ولوني لأسود  ، فتنفَّس عليَّ بالجنّة  ، فتطيب ريحي  ، ويَشرف حسبي  ، ويبيضّ وجهي  ، لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم .
  ثمَّ قاتل حتى قُتل  ، فوقف عليه الحسين ( عليه السلام ) وقال : اللهم بيِّض وجهه  ، وطيِّب ريحه  ، واحشره مع الأبرار  ، وعرِّف بينه وبين محمد وآل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  وروي عن الباقر ( عليه السلام )   ، عن علي بن الحسين ( عليهما السلام ) أن الناس كانوا يحضرون المعركة  ، ويدفنون القتلى  ، فوجدوا جوناً بعد عشرة أيام يفوح منه رائحة المسك رضوان الله عليه .
  قال الراوي : ثمَّ خرج الحجاج بن مسروق ـ وهو مؤذِّن الحسين ( عليه السلام ) ـ ويقول :
اقْدِمْ حسينُ هَادِياً مَهْدِيّا       اليومَ  تَلْقَى جَدَّكَ iiالنبيّا