الفهرس العام

بسم الله الرحمن الرحيم


المجلس الثالث : من اليوم الرابع :
المجلس الرابع : من اليوم الرابع :
المجلس الخامس : من اليوم الرابع :


  عبيدالله : أتتك بخائن رجلاه ، فلما دنا من ابن زياد ـ وعنده شريح القاضي ـ التفت نحوه فقال :
أريدُ   حباءَه  ويريدُ  iiقتلي      عذيرُكَ مِنْ خليلِكَ مِنْ مُرَادِ
  وقد كان أول ما قدم مكرماً له ملطفاً ، فقال له هانىء : وما ذاك أيها الأمير ؟ قال : إيه يا هانىء بن عروة ، ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين ، جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك ، وجمعت له الجموع ، والسلاح والرجال في الدور حولك ، وظننت أن ذلك يخفى عليَّ ؟ قال : ما فعلت ذلك وما مسلم عندي ، قال : بلى قد فعلت ، فلما كثر بينهما وأبى هانىء إلاَّ مجاحدته ومناكرته ، دعا ابن زياد معقلا ذلك العين ، فجاء حتى وقف بين يديه وقال : أتعرف هذا ؟ قال : نعم ، وعلم هانىء عند ذلك أنه كان عيناً عليه ، وأنه قد أتاه بأخبارهم فأسقط في يده ساعة .
  ثم راجعته نفسه ، فقال : اسمع مني وصدِّق مقالتي ، فوالله ما كذبت ، والله ما دعوته إلى منزلي ، ولا علمت بشيء من أمره حتى جاءني يسألني النزول ، فاستحييت من ردّه ، وداخلني من ذلك ذمام فضيَّفته وآويته ، وقد كان من أمره ما بلغك ، فإن شئت أن أعطيك الآن موثقاً مغلَّظاً أن لا أبغيك سوءاً ولا غائلة ، ولآتينّك حتى أضع يدي في يدك ، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك ، وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض ، فأخرج من ذمامه وجواره .
  فقال له ابن زياد : والله لا تفارقني أبداً حتى تأتيني به ، قال : لا والله لا أجيئك به أبداً ، أجيئك بضيفي تقتله ؟ قال : والله لتأتيني به ، قال : والله لا آتيك به ، فلمّا كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي ـ وليس بالكوفة شاميٌّ ولا بصريّ غيره ـ فقال : أصلح الله الأمير ، خلّني وإياه حتى أكلِّمه ، فقام فخلا به

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 127 _

  ناحية من ابن زياد ، وهما منه بحيث يراهما ، فإذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان .
  فقال له مسلم : يا هانىء ، أنشدك الله أن تقتل نفسك ، وأن تدخل البلاء في عشيرتك ، فوالله إني لأنفس بك عن القتل ، إن هذا ابن عمِّ القوم ، وليسوا قاتليه ولا ضائريه ، فادفعه إليهم ، فإنه ليس عليكم بذلك مخزاة ولا منقصة ، إنما تدفعه إلى السلطان .
  فقال هانىء : والله إن عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح أسمع وأرى ، شديد الساعد ، كثير الأعوان ، والله لو لم يكن لي إلاَّ واحد ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه ، فأخذ يناشده وهو يقول : والله لا أدفعه إليه أبداً .
  فسمع ابن زياد لعنه الله ذلك فقال : أدنوه مني ، فأدنوه منه ، فقال : والله لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك ، فقال هانىء : إذاً والله تكثر البارقة حول دارك ، فقال ابن زياد : والهفاه عليك ، أباالبارقة تخوِّفني ؟ وهو يظنّ أن عشيرته سيمنعونه ، ثمَّ قال : أدنوه منّي ، فأدني منه ، فاستعرض وجهه بالقضيب ، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخدّه حتى كسر أنفه ، وسالت الدماء على وجهه ولحيته ، ونثر لحم جبينه وخدّه على لحيته ، حتى كسر القضيب ، وضرب هانىء يده على قائم سيف شرطي وجاذبه الرجل ومنعه .
  فقال عبيدالله : أحروري سائر اليوم ؟ قد حلّ دمك ، جرُّوه ، فجرُّوه فألقوه في بيت من بيوت الدار ، وأغلقوا عليه بابه ، فقال : اجعلوا عليه حرساً ، ففعل ذلك به ، فقام إليه حسان بن أسماء فقال : أَرُسُلُ غَدْر سائر اليوم ؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى إذا جئناك به هشَّمت أنفه ووجهه ، وسيَّلت دماءه على لحيته ، وزعمت أنك تقتله ؟ فقال له عبيدالله : وإنك لههنا ؟ فأمر به فلهز وتعتع وأجلس ناحية ، فقال

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 128 _

  محمد بن الأشعث : قد رضينا بما رأى الأمير ، لنا كان أم علينا ، إنما الأمير مؤدِّب .
  وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئاً قد قتل فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم ، وقال : أنا عمرو بن الحجاج ، وهذه فرسان مذحج ووجوهها ، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة ، وقد بلغهم أن صاحبهم قد قُتل فأعظموا ذلك ، فقيل لعبيدالله بن زياد : وهذه فرسان مذحج بالباب ؟ !
  فقال لشريح القاضي : ادخل على صاحبهم فانظر إليه ، ثم اخرج فأعلمهم أنه حيّ لم يُقتل ، فدخل شريح فنظر إليه ، فقال هانىء لما رأى شريحاً : يا لله يا للمسلمين ، أهلكت عشيرتي ؟ أين أهل الدين ؟ أين أهل المصر ؟ والدماء تسيل على لحيته ، إذ سمع الضجّة على باب القصر ، فقال : إني لأظنّها أصوات مذحج ، وشيعتي من المسلمين ، إنه إن دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني .
  فلمَّا سمع كلامه شريح خرج إليهم فقال لهم : إن الأمير لما بلغه كلامكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه فأتيته فنظرت إليه ، فأمرني أن ألقاكم وأعرِّفكم أنه حيٌّ ، وأن الذي بلغكم من قتله باطل ، فقال له عمرو بن الحجاج وأصحابه : أمَّا إذا لم يُقتل فالحمد لله ، ثم انصرفوا .
  فخرج عبيدالله بن زياد فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشُرطه وحشمه ، فقال :
  أمّا بعد أيها الناس ، فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ، ولا تفرَّقوا فتهلكوا وتذلّوا وتقتلوا وتجفوا وتحرموا ، إن أخاك من صدقك ، وقد أعذر من أنذر ، والسلام. ثمَّ ذهب لينزل فما نزل عن المنبر حتى دخلت النظارة المسجد من قبل باب التمارين يشتدّون ويقولون : قد جاء ابن عقيل ، فدخل عبيدالله القصر مسرعاً وأغلق أبوابه ، فقال عبدالله بن حازم : أنا ـ والله ـ رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر ما فعل هانىء ، فلمَّا ضُرب وحُبس ركبت فرسي فكنت أول داخل الدار

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 129 _

  على مسلم بن عقيل بالخبر ، وإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين : يا عبرتاه ، يا ثكلاه ، فدخلت على مسلم فأخبرته الخبر ، فأمرني أن أنادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور حوله فكانوا فيها أربعة آلاف رجل ، فقال : ناد : يا منصور أمت ، فناديت فتنادى أهل الكوفة واجتمعوا عليه .
  فعقد مسلم رحمه الله لرؤوس الأرباع : كندة ومذحج وتميم وأسد ومضر وهمدان ، وتداعى الناس واجتمعوا ، فما لبثنا إلاّ قليلا حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق ، وما زالوا يتوثّبون حتى المساء ، فضاق بعبيدالله أمره ، وكان أكثر عمله أن يمسك باب القصر ، وليس معه إلاّ ثلاثون رجلا من الشُرَط ، وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته وخاصته ، وأقبل من نأى عنه من أشراف الناس يأتونه من قبل الباب الذي يلي دار الروميين ، وجعل من في القصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم وهم يرمونهم بالحجارة ويشتمونهم ...(1) .
  ولله درّ الشفهيني عليه الرحمة إذ يقول :
يَا   وَاقِفاً   في   الدارِ  iiمفتكراً      مهلا   فقد   أودى   بك  iiالفِكْرُ
إِنْ    تُمْسِ    مكتئباً    iiلِبَيْنِهِمُ      فعقيبَ     كُلِّ    كآبة    iiوِْرُز
هلاَّ صَبَرْتَ على المصابِ iiبهم      وعلى  المصيبةِ  يُحْمَدُ  iiالصبرُ
وجعلتَ رُزْءَكَ في الحسينِ ففي      رُزْءِ   ابنِ  فاطمة  لكَ  iiالأجرُ
مكروا   به  أَهْلُ  النفاقِ  وهل      لمنافق       يُسْتَبْعَدُ      iiالمَكْرُ
بصحائف   كوجوهِهِمْ   iiوَرَدَتْ      سُوداً   وَفَحْوُ   كَلاَمِهِم   iiهَجْرُ
حتى    أناخ    بِعقرِ   سَاحَتِهِم      ثِقَةً     تَأَكَّدَ     منهُمُ     الْغَدْرُ
وتسارعوا      لقتالِهِ     iiزُمَرَاً      مَا   لا   يحيطُ   بعدِّهِ   iiحَصْرُ
طافوا   بأَرْوَعَ   في   iiعَرينتِهِ      يُحْمَى   النزيلُ   وَيَأْمَنُ  iiالثَّغْرُ

---------------------------
(1) الإرشاد ، المفيد : 2 / 46 ـ 52 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44 / 344 / 349 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 130 _

جيشٌ    لَهَامٌ    يومَ   iiمعركة      وليومِ    سِلْم    وَاحِدٌ    iiوترُ
فكأنَّهم   سِرْبٌ   قد  iiاجتمعت      ألفاً    فبدَّدَ    شَمْلَها    iiصَقْرُ
حتى   إذا  قَرُبَ  المدى  iiوبه      طَافَ  العدى  وَتَقَاصَرَ iiالعمرُ
أردوه    منعفراً    تمجُّ   iiدماً      منه   الظُّبا   والذُّبَّلُ   iiالسُّمْرُ
تَطَأُ  الخيولُ  إِهَابَه وعلى iiال      خدِّ    التريبِ   لوطيِهَا   iiأَثْرُ
ظَام     يبلُّ     أَوامَ    iiغُلَّتِهِ      ريّاً   بفيضِ   نجيعِهِ   iiالنَّحْرُ
تأباها     إجلالا    iiفتزجُرُها      فئةٌ    يقودُ   عُصَاتَها   iiشِمْرُ
فتجولُ  في  صَدْر أَحَاطَ iiعلى      عِلْمِ    النبوَّةِ   ذلك   iiالصَّدْرُ
بأبي  القتيلَ  وَمَنْ  iiبمصرعِهِ      ضَعُفَ الهدى وَتَضَاعَفَ الكُفْرُ
بأبي   الذي   أَكْفَانُهُ   نُسِجَتْ      من  عِثْيَر وَحَنُوطُهُ عَفْرُ(1) ii

المجلس الثالث : من اليوم الرابع :

  مقتل مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) :
  جاء في بعض زيارات أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) : فهل المحن يا ساداتي إلاَّ التي لزمتكم ، والمصائب إلاَّ التي عمَّتكم ، والفجايع إلاَّ التي خصَّتكم ، والقوارع إلاَّ التي طرقتكم ، صلوات الله عليكم وعلى أرواحكم وأجسادكم ، ورحمة الله وبركاته ، بأبي وأمي يا آل المصطفى ، إنّا لا نملك إلاَّ أن نطوف حول مشاهدكم ، ونعزّي فيها أرواحكم ، على هذه المصائب العظيمة الحالّة بفنائكم ، والرزايا الجليلة النازلة بساحتكم ، التي أثبتت في قلوب شيعتكم القروح ، وأورثت أكبادهم الجروح ، وزرعت في صدورهم الغصص ، فنحن نُشهد الله أنّا قد شاركنا أولياءكم وأنصاركم

---------------------------
(1) الغدير ، الشيخ الأميني : 6/367 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 131 _

  المتقدِّمين ، في إراقة دماء الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقتلة أبي عبدالله سيِّد شباب أهل الجنة يوم كربلاء ، بالنيَّات والقلوب ، والتأسُّف على فوت تلك المواقف ، التي حضروا لنصرتكم ، والله وليّي يبلِّغكم منّي السلام (1) .
  روي عن ابن عباس ، قال : قال علي ( عليه السلام ) لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا رسول الله ، إنك لتحبّ عقيلا ؟ قال : إي والله ، إنّي لأحبُّه حبين : حبّاً له ، وحباً لحبِّ أبي طالب له ، وإن ولده لمقتول في محبّة ولدك ، فتدمع عليه عيون المؤمنين ، وتصلّي عليه الملائكة المقرَّبون ، ثمَّ بكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى جرت دموعه على صدره ، ثم قال : إلى الله أشكو ما تلقى عترتي من بعدي (2) .
  قال الراوي فيما يخص أمر مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) في الكوفة : إن ابن زياد دعا كثير بن شهاب ، وأمره أن يخرج فيمن أطاعه في مذحج ، فيسير في الكوفة ويخذّل الناس عن ابن عقيل ( عليه السلام ) ، ويخوِّفهم الحرب ، ويحذّرهم عقوبة السلطان ، وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت ، فيرفع راية أمان لمن جاء من الناس ، وقال مثل ذلك لقعقاع الذهلي ، وشبث بن ربعي التميمي ، وحجار بن أبجر السلمي ، وشمر بن ذي الجوشن العامري ، وحبس باقي وجوه الناس عنده استيحاشاً إليهم لقلّة عدد من معه من الناس .
  فخرج كثير بن شهاب يخذّل الناس عن مسلم ، وخرج محمد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة ، فبعث ابن عقيل إلى محمد بن الأشعث عبدالرحمن بن شريح الشيباني ، فلمّا رأى ابن الأشعث كثرة من أتاه تأخَّر عن مكانه ، وجعل محمد بن الأشعث ، وكثير بن شهاب ، والقعقاع بن ثور الذهلي ، وشبث بن ربعي يردّون الناس عن اللحوق بمسلم ، ويخوّفونهم السلطان ، حتى اجتمع إليهم عدد

---------------------------
(1) المزار ، محمد بن المشهدي : 299 .
(2) الأمالي ، الصدوق : 191 ح 3 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 22/288 ح 58 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 132 _

  كثير من قومهم وغيرهم ، فصاروا إلى ابن زياد من قبل دار الروميين ، ودخل القوم معهم .
  فقال كثير بن شهاب : أصلح الله الأمير! معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك ، فاخرج بنا إليهم ، فأبى عبيدالله ، وعقد لشبث بن ربعي لواء وأخرجه ، وأقام الناس مع ابن عقيل يكثرون حتى المساء ، وأمرهم شديد ، فبعث عبيدالله إلى الأشراف فجمعهم ، ثمَّ أشرفوا على الناس فمنَّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة ، وخوَّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة ، وأعلموهم وصول الجند من الشام إليهم .
  وتكلَّم كثير بن شهاب حتى كادت الشمس أن تغرب ، فقال : أيها الناس ، الحقوا بأهاليكم ، ولا تعجلوا الشرَّ ، ولا تعرِّضوا أنفسكم للقتل ، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت ، وقد أعطى اللهَ الأميرُ عهداً لئن تممتم على حربه ، ولم تنصرفوا من عشيَّتكم ، أن يحرم ذرّيّتكم العطاء ، ويفرِّق مقاتليكم في مفازي الشام ، وأن يأخذ البريء منكم بالسقيم ، والشاهد بالغائب ، حتى لا يبقى له بقية من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت أيديها ، وتكلَّم الأشراف بنحو من ذلك .
  فلمّا سمع الناس مقالتهم أخذوا يتفرَّقون ، وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها فتقول : انصرف! الناس يكفونك ، ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه ويقول : غداً تأتيك أهل الشام ، فما تصنع بالحرب والشرّ ؟ انصرف! فيذهب به فينصرف ، فما زالوا يتفرَّقون حتى أمسى ابن عقيل ، وصلَّى المغرب وما معه إلاّ ثلاثون نفساً في المسجد .
  فلمّا رأى أنه قد أمسى وليس معه إلاّ أولئك النفر خرج متوجهاً إلى أبواب كندة ، فلم يبلغ الأبواب إلاَّ ومعه منه عشرة ، ثمَّ خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان يدلّه ، فالتفت فإذا هو لا يحسّ أحداً يدلّه على الطريق ، ولا يدلّه على منزله ،

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 133 _

  ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدوّ ، فمضى على وجهه متلدِّداً في أزقّة الكوفة لا يدري أين يذهب ؟ حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة ، فمضى حتى أتى إلى باب امرأة يقال لها طوعة ، أم ولد كانت للأشعث بن قيس ، وأعتقها وتزوَّجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا ، وكان بلال قد خرج مع الناس ، وأمه قائمة تنتظره .
  فسلَّم عليها ابن عقيل فردَّت عليه السلامَ ، فقال لها : يا أمة الله ، اسقيني ماء ، فسقته وجلس ، ودخلت ثمَّ خرجت فقالت : يا عبدالله ، ألم تشرب ؟ قال : بلى ، قالت : فاذهب إلى أهلك ، فسكت ، ثمَّ أعادت مثل ذلك ، فسكت ، ثم قالت في الثالثة : سبحان الله! يا عبدالله ، قم عافاك إلى أهلك ، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ، ولا أحلّه لك ، فقام وقال : يا أمة الله ، ما لي في هذا المصر أهل ولا عشيرة ، فهل لك في أجر ومعروف ، ولعلي مكافيك بعد هذا اليوم ، قالت : يا عبدالله ، وما ذاك ؟ قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذّبني هؤلاء القوم ، وغرّوني وأخرجوني ، قالت : أنت مسلم ؟! قال : نعم ، قالت : ادخل .
  فدخل إلى بيت في دارها غير البيت الذي تكون فيه ، وفرشت له وعرضت عليه العشا فلم يتعش ، ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه ، فقال لها : والله إنه ليريبني كثرة دخولك إلى هذا البيت وخروجك منه منذ الليلة ، إن لك لشأناً ، قالت له : يا بنيَّ ، الهُ عن هذا ، قال : والله لتخبريني ، قالت له : أقبل على شأنك ، ولا تسألني عن شيء ، فألحَّ عليها فقالت : يا بنيّ ، لا تخبرن أحداً من الناس بشيء مما أخبرك به ، قال : نعم ، فأخذت عليه الأيمان فحلف لها ، فأخبرته فاضطجع وسكت .
  ولما تفرَّق الناس عن مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) ، طال على ابن زياد ، وجعل لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتاً كما كان يسمع قبل ذلك ، فقال لأصحابه : أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحداً ؟ فأشرفوا فلم يجدوا أحداً ، قال : فانظروهم لعلهم

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 134 _

  تحت الظلال قد كمنوا لكم ، فنزعوا تخاتج المسجد ، وجعلوا يخفضون بشعل النار في أيديهم وينظرون ، وكانت أحياناً تضيء لهم ، وتارة لا تضيء لهم كما يريدون ، فدلّوا القناديل ، وأطنان القصب تشدّ بالحبال ثم يجعل فيها النيران ، ثمّ تدلّى حتى ينتهي إلى الأرض ، ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها حتى فعل ذلك بالظلّة التي فيها المنبر ، فلمَّا لم يروا شيئاً أعلموا ابن زياد بتفرّق القوم .
  ففتح باب السدّة التي في المسجد ، ثمَّ خرج فصعد المنبر ، وخرج أصحابه معه ، وأمرهم فجلسوا قبيل العتمة ، وأمر عمر بن نافع فنادى : ألا برئت الذمة من رجل من الشُرَط أو العرفاء والمناكب أو المقاتلة صلَّى العتمة إلاَّ في المسجد ، فلم يكن إلاّ ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس ، ثم أمر مناديه فأقام الصلاة وأقام الحرس خلفه وأمرهم بحراسته من أن يدخل إليه من يغتاله ، وصلَّى بالناس ، ثمَّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإن ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق ، فبرئت ذمة الله من رجل وجدناه في داره ، ومن جاء به فله ديته ، اتقوا الله عباد الله ، والزموا الطاعة وبيعتكم ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا .
  يا حصين بن نمير! ثكلتك أمك إن ضاع باب سكة من سكك الكوفة ، وخرج هذا الرجل ولم تأتني به ، وقد سلَّطتك على دور أهل الكوفة ، فابعث مراصد على أهل الكوفة ودورهم ، وأصبح غداً واستبرء الدور ، وجسْ خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل ، وكان الحصين بن نمير على شرطه ، وهو من بني تميم ، ثم دخل ابن زياد القصر وقد عقد لعمرو بن حريث راية ، وأمَّره على الناس .
  فلمّا أصبح جلس مجلسه وأذن للناس ، فدخلوا عليه ، وأقبل محمد بن الأشعث فقال : مرحباً بمن لا يُستغشّ ولا يُتَّهم ، ثم أقعده إلى جنبه ، وأصبح ابن تلك العجوز فغدا إلى عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث ، فأخبره بمكان مسلم بن

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 135 _

  عقيل عند أمه ، فأقبل عبدالرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زياد فسارَّه ، فعرف ابن زياد سراره ، فقال له ابن زياد بالقضيب في جنبه : قم فأتني به الساعة ، فقام وبعث معه قومه لأنه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصاب فيهم مثل مسلم بن عقيل .
  فبعث معه عبيدالله بن عباس السلمي في سبعين رجلا من قيس حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) ، فلمَّا سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال علم أنه قد أتي .
  ( وفي رواية : فعجَّل دعاءه الذي كان مشغولا به بعد صلاة الصبح ، ثمَّ لبس لامته وقال لطوعة : قد أدَّيتِ ما عليك من البر ، وأخذتِ نصيبك من شفاعة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولقد رأيت البارحة عمي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في المنام وهو يقول لي : أنت معي في الجنة ) (1) وخرج إليهم مصلتاً سيفه وقد اقتحموا عليه الدار ، فشدَّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار ، قال ابن شهر آشوب عليه الرحمة : فحمل مسلم عليهم وهو يقول :
هو الموتُ فاصنع وَيْكَ ما أنت صَانِعُ      فأنتَ  لكأسِ  الموتِ  لا  شكَّ  iiجَارِعُ
فصبراً    لأمرِ    اللهِ   جَلَّ   iiجلالُهُ      فَحُكْمُ   قَضَاءِ  اللهِ  في  الخلقِ  iiذائعُ
  فقتل منهم واحداً وأربعين رجلا (2) قال محمد بن أبي طالب : لما قَتل مسلم منهم جماعة كثيرة ، وبلغ ذلك ابن زياد ، أرسل إلى محمد بن الأشعث يقول : بعثناك إلى رجل واحد لتأتينا به ، فثلم في أصحابك ثلمة عظيمة ، فكيف إذا أرسلناك إلى غيره ؟ فأرسل ابن الأشعث : أيها الأمير ، أتظنّ أنك بعثتني إلى بقَّال من بقالي الكوفة ، أو إلى جرمقاني من جرامقة

---------------------------
(1) نفس المهموم ، الشيخ عباس القمي : 56 .
(2) مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوف : 4/93 ، مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، المقرم : 159 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 136 _

  الحيرة ؟ أو لم تعلم أيها الأمير أنك بعثتني إلى أسد ضرغام ، وسيف حسام ، في كفّ بطل همام ، من آل خير الأنام ، فأرسل إليه ابن زياد : أعطه الأمان فإنك لا تقدر عليه إلاّ به (1) وفي رواية قال : وإنما أرسلتني إلى سيف من أسياف محمد بن عبدالله ( صلى الله عليه وآله ) ، فمدّه بالعسكر (2) .
  قال العلامة المجلسي عليه الرحمة : روي في بعض كتب المناقب عن عمرو بن دينار قال : أرسل الحسين ( عليه السلام ) مسلم بن عقيل إلى الكوفة وكان مثل الأسد ، قال عمرو وغيره : لقد كان من قوّته أنه يأخذ الرجل بيده ، فيرمي به فوق البيت (3) .
  رجعنا إلى رواية الشيخ المفيد عليه الرحمة قال : ثمَّ عادوا إليه ، فشدَّ عليهم كذلك ، فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمري ضربتين ، فضرب بكر فم مسلم ، فقطع شفته العليا ، وأسرع السيف في السفلى وفصلت له ثنيتاه ، وضرب مسلم في رأسه ضربة منكرة ، وثنَّاه بأخرى على حبل العاتق ، كادت تطلع إلى جوفه .
  فلمَّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت ، وأخذوا يرمونه بالحجاة ، ويلهبون النار في أطنان القصب ثمَّ يرمونها عليه من فوق البيت ، فلما رأى ذلك خرج عليهم مصلتاً بسيفه في السكة ، فقال محمد بن الأشعث : لك الأمان لا تقتل نفسك ، وهو يقاتلهم ويقول :
أقسمتُ  لا  أُقتلُ  إلاّ  iiحرّا      وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكْرا
ويُخْلَطُ   الباردُ  سُخْناً  iiمرّا      رَدَّ  شُعَاعَ  الشمس iiفاستقرّا
كلُّ  امرىء يوماً ملاق iiشراً      أخافُ  أن  أُكْذَبَ  أو iiأُغرَّا
  فقال له محمد بن الأشعث : إنك لا تكذب ولا تغرّ ولا تخدع ، إن القوم بنو

---------------------------
(1) بحار الأنوار ، المجلسي : 44/354 .
(2) المنتخب ، الطريحي : 299 الليلة العاشرة .
(3) بحار الأنوار ، المجلسي : 44/354 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 137 _

  عمك ، وليسوا بقاتليك ، ولا ضائريك ، وكان قد أثخن بالحجارة ، وعجز عن القتال فانتهز واستند ظهره إلى جنب تلك الدار .
  ( وجاء في بعض الروايات : وأثخنته الجراحات وأعياه نزف الدم فاستند إلى جنب تلك الدار ، فتحاملوا عليه يرمونه بالسهام والحجارة ، فقال : ما لكم ترموني بالحجارة كما ترمى الكفار وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار ؟ ألا ترعون حقّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في عترته ؟ فقال له ابن الأشعث : لا تقتل نفسك وأنت في ذمتي ، قال مسلم ( عليه السلام ) : أأوسر وبي طاقة ؟ لا والله لا يكون ، لا يكون ذلك أبداً ، وحمل على ابن الأشعث فهرب منه ، ثمَّ حملوا عليه من كل جانب ، وقد اشتد به العطش ، فطعنه رجل من خلفه فسقط إلى الأرض وأسر (1) .
  وقيل : إنهم عملوا له حفيرة وستروها بالتراب ، ثمَّ انكشفوا بين يديه حتى إذا وقع فيها أسروه ) (2) ولله درّ السيد رضا الهندي عليه الرحمة إذ يقول :
فللهِ    من   مُفْرَد   iiأسلموه      لحكم   الدعيِّ  فما  استسلما
وآثَرَ    وهو   وليدُ   iiالأُبَاةِ      بأَنْ يَرْكَبَ الأخطرَ iiالأعظما
ولمَّا  رأوا  بَأْسَه في iiالوغى      شديداً   يُجَلُّ   بأَنْ   يُرْغَما
أطلُّوا على شُرُفَاتِ السُّطُوحِ      ويَرْمُونَهُ  الْحَطَبَ iiالمُضْرَما
ولولا    خديعتُهُمْ    بالأمانِ      لَمَا  أوثقوا  الأَسَدَ  iiالضَّيْغَما (3)
  وفي رواية الشيخ المفيد عليه الرحمة قال : فأعاد ابن الأشعث عليه القول : لك الأمان ، فقال : آمنٌ أنا ؟ قال : نعم ، فقال للقوم الذين معه : ألي الأمان ؟ قال القوم له : نعم ، إلاَّ عبيدالله بن العباس السلمي فإنه قال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل ،

---------------------------
(1) مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 44/244 ، مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، الخوارزمي 1/209 ـ 210 .
(2) المنتخب ، الطريحي : 299 الليلة العاشرة .
(3) المنتخب من الشعر الحسيني ، السيد علي أصغر الحسيني : 174 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 138 _

  ثمَّ تنحَّى .
  فقال مسلم : أما لو لم تأمنوني ما وضعت يدي في أيديكم ، فأتي ببغلة فحمل عليها ، واجتمعوا حوله ونزعوا سيفه ، وكأنه عند ذلك يئس من نفسه ، فدمعت عيناه ، ثمَّ قال : هذا أول الغدر ، فقال له محمد بن الأشعث : أرجو أن لا يكون عليك بأس ، قال : وما هو إلاَّ الرجاء ؟ أين أمانكم ؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، وبكى ، فقال له عبيدالله بن العباس : إن من يطلب مثل الذي طلبت إذا ينزل به مثل ما نزل بك لم يبكِ ، قال : والله إني ما لنفسي بكيت ، ولا لها من القتل أرثي ، وإن كنتُ لم أحبَّ لها طرفة عين تلفاً ، ولكني أبكي لأهلي المقبلين ، إني أبكي للحسين وآل الحسين ( عليه السلام ) .
  ولله درّ الشيخ حسين الحياوي عليه الرحمة إذ يقول :
قد خاض بَحْرَ الموتِ في iiحَمَلاتِهِ      وعُبَابُهُ     بِصِفَاحِهِم     iiمُتَلاطِمُ
وتراه  طَلاَّعَ  الثنايا  في iiالوَغَى      تبكي  العدى  والثغرُ  منه  iiباسمُ
قد   آمنته   وَلاَ   أَمَانَ   لِغَدْرِها      فَبَدَتْ    له   مما   تُجِنُّ   عَلاَئِمُ
سلبته   لاَمَةَ   حَرْبِهِ  ثمَّ  اغتدى      متأمِّراً     فيه    ظلُومٌ    iiغاشمُ
أسرته  ملتهبَ  الفؤادِ  من iiالظما      وله  على  الْوَجَناتِ  دَمْعٌ  iiسَاجِمُ
لم  يبكِ  من  خوف  على  iiنفس      لكنَّه     أبكاه     رَكْبٌ     iiقَادِمُ
يبكي   حسيناً  أن  يُلاَقيَ  iiمالقي      من غَدْرِهِم فَتُبَاحَ منه مَحَارِمُ  (1)
  ثم أقبل على محمد بن الأشعث فقال : يا عبدالله ، إني أراك والله ستعجز عن أماني ، فهل عندك خير ؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني أن يبلغ حسيناً ـ فإني لا أراه إلاّ وقد خرج اليوم أو خارج غداً وأهل بيته ـ ويقول له : إن ابن عقيل بعثني إليك ، وهو أسير في يد القوم لا يرى أنه يمسي حتى يقتل ، وهو يقول لك : ارجع فداك أبي وأمي بأهل بيتك ، ولا يغررك أهل الكوفة فإنهم

---------------------------
(1) رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 146 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 139 _

  أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل ، إن أهل الكوفة قد كذبوك وليس لمكذوب رأي ، فقال ابن الأشعث : والله لأفعلنَّ ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك .
  قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : وأقبل ابن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر ، واستأذن فأذن له ، فدخل على عبيدالله بن زياد ، فأخبره خبر ابن عقيل ، وضرب بكر إياه ، وما كان من أمانه له ، فقال له عبيدالله : وما أنت والأمان ؟ كأنّا أرسلناك لتؤمنه ، إنما أرسلناك لتأتينا به ، فسكت ابن الأشعث وانتهى بابن عقيل إلى باب القصر ، وقد اشتدَّ به العطش ، وعلى باب القصر ناس جلوس ، ينتظرون الإذن ، فيهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن حريث ، ومسلم بن عمرو ، وكثير بن شهاب ، وإذا قلّةٌ باردةٌ موضوعةٌ على الباب ، فقال مسلم : اسقوني من هذا الماء .
   فقال له مسلم بن عمرو : أتراها ما أبردها ؟! لا والله لا تذوق منها قطرة أبداً حتى تذوق الحميم في نار جهنم ، فقال له ابن عقيل : ويحك ، من أنت ؟ فقال : أنا الذي عرف الحق إذ أنكرته ، ونصح لإمامه إذ غششته ، وأطاعه إذ خالفته ، أنا مسلم بن عمرو الباهلي ، فقال له ابن عقيل : لأمك الثكل ، ما أجفاك واقطعك وأقسى قلبك! أنت ـ يا ابن باهلة ـ أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني .
   ثم جلس فتساند إلى حائط ، وبعث عمرو بن حريث غلاماً له فأتاه بقلّة عليها منديل وقدح ، فصبَّ فيه ماء ، فقال له : اشرب ، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فمه ، ولا يقدر أن يشرب ، ففعل ذلك مرتين ، فلمَّا ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثناياه في القدح ، فقال : الحمد لله ، لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته ، ولله درّ من قال من الشعراء :
عينُ  جودي  لمسلمِ بنِ عقيلِ      لرسولِ الحسينِ سبطِ الرسولِ

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 140 _

لغريب  بَيْنَ  الأعادي iiوحيد      وقتيل   لنَصْرِ   خيرِ  iiقتيلِ
وابكِ مَنْ قد بكاه أحمدُ شجواً      قَبْلَ   ميلادِهِ   بعهد  iiطويلِ
وبكاه   الحسينُ  والآلُ  iiلمَّا      جاءهم   نَعْيُه  بدمع  iiهَمُولِ
تركوه   لدى  الهِيَاجِ  وحيداً      لعدوٍّ     مُطالب     iiبذُحُولِ
ثمَّ   ساقوه   بينهم   iiيتهادى      للدعيِّ  الرذيلِ وابنِ iiالرذيلِ
ظامياً  طاوياً  عليلا iiجريحاً      طالباً   منهُمُ   رُوَاءَ  iiالغليلِ (1)
  قال الراوي : وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخاله إليه ، فلمَّا دخل لم يسلِّم عليه بالإمرة ، فقال له الحرسي : ألا تسلِّم على الأمير ؟ فقال : إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه ؟ ! (2) ، وفي رواية السيد ابن طاووس قال : فقال له : اسكت ويحك ، والله ما هو لي بأمير ، فقال ابن زياد : لا عليك ، سلَّمت أم لم تسلِّم فإنك مقتول ، فقال له مسلم : إن قتلتني فلقد قتل مَنْ هو شرٌّ منك من هو خير مني ، وبعد فإنك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السريرة ، ولؤم الغلبة ، لا أحد أولى بها منك ، فقال له ابن زياد : يا عاقّ ، يا شاقّ ، خرجت على إمامك ، وشققت عصا المسلمين ، وألقحت الفتنة بينهم .
  فقال له مسلم : كذبت يا بن زياد ، إنما شقَّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وأما الفتنة فإنما ألقحها أنت وأبوك زياد بن عبيد ، عبد بني علاج من ثقيف ، وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يدي شرّ بريّته (3) .
  فقال له ابن زياد : لعمري لتقتلن ، قال : كذلك ؟ قال : نعم ، قال : فدعني أوصي إلى بعض قومي ، قال : افعل ، فنظر مسلم إلى جلساء عبيدالله بن زياد ،

---------------------------
(1) المنتخب من الشعر الحسيني ، السيد علي أصغر المدرسي : 171 .
(2) الإرشاد ، المفيد : 2/58 ـ 61 .
(3) اللهوف في قتلى الطفوف ، السيد ابن طاووس الحسني : 35 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 141 _

  وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا عمر ، إن بيني وبينك قرابة ، ولي إليك حاجة ، وقد يجب لي عليك نجح حاجتي ، وهي سرٌّ ، فامتنع عمر أن يسمع منه ، فقال له عبيدالله بن زياد : لم تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك ؟ فقام معه فجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد ، فقال له : إن عليَّ بالكوفة ديناً استدنته منذ قدمت الكوفة سبع مائة درهم ، فبع سيفي ودرعي فاقضها عني ، وإذا قتلت فاستوهب جثتي من ابن زياد فوارها ، وابعث إلى الحسين ( عليه السلام ) من يردّه ، فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه ، ولا أراه إلاّ مقبلا .
  فقال عمر لابن زياد : أتدري ـ أيها الأمير ـ ما قال لي ؟ إنه ذكر كذا وكذا فقال ابن زياد : إنه لا يخونك الأمين ، ولكن قد يؤتمن الخائن ، أمّا ماله فهو له ، ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحبَّ ، وأمّا جثّته فإنا لا نبالي إذا قتلناه ما صُنع بها ، وأمّا حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده .
  ثمَّ قال ابن زياد : إيه ابن عقيل ، أتيت الناس وهم جمع فشتَّت بينهم ، وفرّقت كلمتهم ، وحملت بعضهم على بعض ، قال : كلا لست لذلك أتيت ، ولكنَّ أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل ، وندعو إلى الكتاب ، فقال له ابن زياد : وما أنت وذاك يا فاسق ؟ لِمَ لمْ تعمل فيهم بذلك إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر ؟
  قال مسلم : أنا أشرب الخمر ؟ أما ـ والله ـ إن الله ليعلم أنك غير صادق وأنك قد قلت بغير علم ، وأني لست كما ذكرت ، وأنك أحقّ بشرب الخمر مني ، وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغاً ، فيقتل النفس التي حرَّم الله قتلها ، ويسفك الدم الذي حرَّم الله على الغصب والعداوة ، وسوء الظن ، وهو يلهو ويلعب ، كأن لم يصنع شيئاً .
  فقال له ابن زياد : يا فاسق ، إن نفسك منَّتك ما حال الله دونه ، ولم يرك الله له

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 142 _

  أهلا ، فقال مسلم : فمن أهله إذا لم نكن نحن أهله ؟ فقال ابن زياد : أمير المؤمنين يزيد ، فقال مسلم : الحمد لله على كل حال ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم ، فقال له ابن زياد : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام من الناس .
  فقال له مسلم : أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن ، وإنك لا تدع سوء القتلة ، وقبح المثلة ، وخبث السيرة ، ولؤم الغلبة ، لا أحد أولى بها منك ، فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم الحسين وعلياً وعقيلا ، وأخذ مسلم لا يكلِّمه .
  ولله درّ السيد رضا الهندي عليه الرحمة إذ يقول :
وجاؤوا  به مُثْقَلا iiبالجراحِ      ظمآن   أعياهُ  نَزْفُ  iiالدِّمَا
غَريبَ الدِّيَارِ فَدَتْكَ النفوسُ      تُكَابِدُ  وَحْدَكَ  ما  استُعظما
أَتُوْقَفُ   بين   يَدَيْ  iiفاجر      ويسقيك  من  كَأْسِهِ iiالعلقما
ويشتمُ   أُسْرَتَك   iiالطيِّبين      وقد  كان  أولى بأَنْ iiيُشْتََما
وَتُقْتَلُ  صبراً  ولا  iiناصرٌ      وَلاَ  مَنْ  يقيمُ  لك  iiالمأتما
(1)   ثم قال ابن زياد : اصعدوا به فوق القصر ، فاضربوا عنقه ، ثم أتبعوا جسده ، فقال مسلم ( عليه السلام ) : والله لو كان بيني وبينك قرابة ما قتلتني ، فقال ابن زياد : أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف ؟ فدعا بكر بن حمران الأحمري ، فقال له : اصعد فليكن أنت الذي تضرب عنقه ، فصعد به ، وهو يكبِّر ويستغفر الله ويصلّي على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ويقول : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا وخذلونا ، وأشرفوا به على موضع الحذّائين اليوم ، فضرب عنقه وأتبع جسده رأسه (2) .
  وقال السيد ابن طاووس عليه الرحمة بعد ما ذكر بعض ما مرَّ : فضرب عنقه ونزل مذعوراً ، فقال له ابن زياد : ما شأنك ؟ فقال : أيها الأمير ، رأيت ساعة قتلته

---------------------------
(1) المنتخب من الشعر الحسيني ، السيد علي أصغر الحسيني : 174 .
(2) كتاب الإرشاد ، المفيد : 2/61 / 63 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 143 _

  رجلا أسود سيّيء الوجه حذائي ، عاضّاً على إصبعه أو قال : شفتيه ، ففزعت فزعاً لم أفزعه قط! فقال ابن زياد : لعلّك دهشت (1) .
  وقال المسعودي : دعا ابن زياد بكير بن حمران الذي قتل مسلماً ، فقال : أقتلته ؟ قال : نعم ، قال : فما كان يقول وأنتم تصعدون به لتقتلوه ؟ قال : كان يُكبِّر ويُسبِّح ويُهلِّل ويستغفر الله ، فلمّا أدنيناه لنضرب عنقه قال : اللهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذّبونا ثم خذلونا وقتلونا ، فقلت له : الحمد لله الذي أقادني منك ، وضربته ضربة لم تعمل شيئاً ، فقال لي : أوما يكفيك فيَّ خدش مني وفاء بدمك أيها العبد ؟ قال ابن زياد : وفخراً عند الموت ؟ قال : وضربته الثانية فقتلته (2) .
  قال الشيخ المفيد عليه الرحمة : فقام محمد بن الأشعث إلى عبيدالله بن زياد فكلَّمه في هانىء بن عروة ، فقال : إنك قد عرفت موضع هانىء من المصر ، وبيته في العشيرة ، وقد علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك ، وأنشدك الله لمّا وهبته لي ، فإني أكره عداوة المصر وأهله ، فوعده أن يفعل ، ثم بداله وأمر بهانىء في الحال ، فقال : أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه ، فأخرج هانىء حتى أتي به إلى مكان من السوق كان يباع فيه الغنم ، وهو مكتوف ، فجعل يقول : وامذحجاه ولا مذحج لي اليوم ، يا مذحجاه ، يا مذحجاه ، أين مذحج ؟ فلمَّا رأى أن أحداً لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف ، ثم قال : أما من عصا أو سكين أو حجارة أو عظم يحاجز به رجل عن نفسه ؟ ووثبوا إليه فشدّوه وثاقاً ، ثم قيل له : امدد عنقك ، فقال : ما أنا بها بسخيٍّ ، وما أنا بمعينكم على نفسي ، فضربه مولى لعبيدالله بن زياد تركي يقال له : رشيد بالسيف ، فلم يصنع شيئاً ، فقال له هانىء : إلى الله المعاد ، اللهم إلى رحمتك ورضوانك ، ثم ضربه أخرى فقتله .

---------------------------
(1) اللهوف في قتلى الطفوف ، ابن طاووس : 36 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/357 .
(2) مروج الذهب ، المسعودي : 3/60 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 144 _

  ولما قتل مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة رحمة الله عليهما بعث ابن زياد برأسيهما مع هانىء بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد ابن معاوية ... وفي مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة رحمهما الله يقول عبدالله بن الزبير الأسدي :
فإن كنتِ لا تدرين ما الموتُ فانظري      إلى  هانىء  في  السوقِ  وابنِ عقيلِ
إلى   بَطَل  قد  هشَّمَ  السيفُ  iiوَجْهَه      وآخَرَ    يهوي   من   طِمَارِ   iiقتيلِ
أصابهما    أمرُ    اللعينِ    iiفأصبحا      أحاديثَ   مَنْ   يسري   بكلِّ   سبيلِ
ترى   جسداً  قد  غيَّر  الموتُ  iiلَوْنَهُ      وَنَضْحَ   دم   قد   سال   كلَّ  iiمَسِيلِ
فتىً   كان   أحيى   من   فتاة  iiحيّية      وَأقْطَعَ   من   ذي   شفرتينِ  iiصقيلِ
أيركبُ     أسماءُ    الهماليجَ    iiآمناً      وقد     طالبته     مَذْحجٌ     iiبذُحُولِ
تُطِيفُ     حواليه     مُرَادٌ    iiوكلُّهم      على    رقبة   من   سائل   iiومسولِ (1)

المجلس الرابع : من اليوم الرابع :

  وصول خبر مقتل مسلم للحسين ( عليه السلام ) وخبر ابنته حميدة :
  قال السيد ابن طاووس عليه الرحمة : ثمَّ سار الحسين ( عليه السلام ) حتى بلغ زبالة ، فأتاه فيها خبر مسلم بن عقيل ، فعرَّف بذلك جماعة ممن تبعه فتفرَّق عنه أهل الأطماع والارتياب ، وبقي معه أهله وخيار الأصحاب .
  قال الراوي : وارتجَّ الموضع بالبكاء والعويل لقتل مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) ،

---------------------------
(1) الإرشاد ، المفيد : 2/63 / 65 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/349 ـ 360 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 145 _

  وسالت الدموع كل مسيل ، ثم إن الحسين ( عليه السلام ) سار قاصداً لما دعاه الله ، فلقيه الفرزدق الشاعر فسلَّم عليه وقال : يا ابن رسول الله ، كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمِّك مسلم بن عقيل وشيعته ؟ قال : فاستعبر الحسين ( عليه السلام ) باكياً ثم قال : رحم الله مسلماً ، فلقد صار إلى رَوح الله وريحانه ، وتحيّته ورضوانه ، أما إنه قد قضى ما عليه ، وبقي ما علينا ، ثم أنشأ يقول :
فإنْ    تكن    الدنيا   تُعَدُّ   iiنفسيةً      فَدَارُ   ثوابِ   اللهِ   أعلى   iiوأنبلُ
وإن  تكن  الأبدانُ  للموتِ  iiأُنشئت      فَقَتْلُ  امرء  بالسيفِ في اللهِ iiأفضلُ
وإن   تكن  الأرزاقُ  قسماً  iiمقدَّراً      فَقِلَّةُ حِرْصِ المرءِ في الرزقِ أجملُ
وإن  تكن  الأموالُ  للتركِ  iiجَمْعُها      فما  بالُ  متروك  به  المرءُ iiيبخلُ(1)
  وروي في خبر آخر عن عبدالله بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديين قالا : لمّا قضينا حجَّنا لم تكن لنا همّة ، إلاَّ اللحاق بالحسين ( عليه السلام ) لننظر ما يكون من أمره ، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقنا بزرود ، فلمَّا دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين ( عليه السلام ) ، فوقف الحسين كأنه يريده ، ثمَّ تركه ومضى ومضينا نحوه ، فقال أحدنا لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا لنسأله ، فإنَّ عنده خبر الكوفة ، فمضينا إليه فقلنا : السلام عليك ، فقال : وعليكما السلام ، قلنا : ممن الرجل ؟ قال : أسدي ، قلنا له : ونحن أسديان ، فمن أنت ؟ قال : أنا بكر بن فلان ، وانتسبنا له ، ثم قلنا له : أخبرنا عن الناس من ورائك .
  قال : لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ، ورأيتهما يجّران بأرجلهما في السوق ، فأقبلنا حتى لحقنا الحسين ( عليه السلام ) فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسياً ، فجئنا حين نزل فسلَّمنا عليه فردَّ علينا السلام ، فقلنا له ، رحمك الله ، إن عندنا خبراً إن شئت حدَّثناك علانية وإن شئت سراً ، فنظر إلينا

---------------------------
(1) اللهوف في قتلى الطفوف ، ابن طاووس : 45 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/347 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 146 _

  وإلى أصحابه ثمَّ قال : ما دون هؤلاء سر ، فقلنا له : رأيت الراكب الذي استقبلته عشية أمس ؟ قال : نعم ، وقد أردت مسألته ، فقلنا : قد والله استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته ، وهو امرؤ منّا ذو رأي وصدق وعقل ، وإنه حدَّثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهاني ورآهما يجّران في السوق بأرجلهما .
  فقال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، رحمة الله عليهما ، يردِّد ذلك مراراً ، فقلنا له : ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلاَّ انصرفت من مكانك هذا ، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة ، بل نتخوَّف أن يكونوا عليك ، فنظر إلى بني عقيل فقال : ما ترون فقد قتل مسلم ؟ فقالوا : والله لا نرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق ، فأقبل علينا الحسين ( عليه السلام ) وقال : لا خير في العيش بعد هؤلاء ، فعلمنا أنه قد عزم رأيه على المسير ، فقلنا له : خار الله لك ، فقال : رحمكما الله .
  فقال له أصحابه : إنك والله ما أنت مثل مسلم ، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع ، فسكت .
  وارتجَّ الموضع بالبكاء لقتل مسلم بن عقيل ، وسالت الدموع عليه كلَّ مسيل ، وفي رواية : وبكى ( عليه السلام ) وبكى معه الهاشميون ، وكثر صراخ النساء حتى ارتجّ الوضع لقتل مسلم بن عقيل (1) .
  وجاء في معالي السبطين للحائري عليه الرحمة قال : وفي بعض كتب المقاتل : كانت لمسلم ( عليه السلام ) بنت عمرها إحدى عشرة سنة ، واسمها حميدة ، وأمها أم كلثوم بنت علي ( عليه السلام ) ، وقيل : اسمها عاتكة وأمها رقيّة بنت علي ( عليه السلام ) وعمرها سبع سنين ، وهي التي سُحقت يوم الطفّ بعد شهادة الحسين ( عليه السلام ) لما هجم القوم على المخيَّم ، وكانت مع الحسين ( عليه السلام ) فلمَّا قام الحسين ( عليه السلام ) من مجلسه جاء إلى الخيمة فعزَّز البنت وقرَّبها من مجلسه ، فحسَّت البنت بالشرّ ، فمسح الحسين ( عليه السلام ) على رأسها وناصيتها

---------------------------
(1) مقتل الحسين ( عليه السلام ) ، المقرم : 178 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 147 _

  كما يُفعل بالأيتام ، فقالت : يا عمّ ، ما رأيتك قبل هذا اليوم تفعل بي مثل ذلك ، أظنّ أنه قد اُستشهد والدي ، فلم يتمالك الحسين ( عليه السلام ) من البكاء ، وقال : يا بنتي ، أنا أبوكِ وبناتي أخواتكِ ، فصاحت ونادت بالويل ، فسمع أولاد مسلم بن عقيل ذلك الكلام ، وتنفسَّوا الصعداء ، وبكوا بكاءً شديداً ورموا بعمائمهم إلى الأرض ، ونادوا : وا مسلماه ، وا ابن عقيلاه (1) .
لم يُبْكِهَا عَدَمُ الوثوقِ بعمِّها      كلا ولا الوجدُ المبرِّحُ iiفيها
لكنَّها   تبكي  مَخَافَةَ  iiأنها      تمسي  يتيمةَ  عمِّها iiوأبيها
  وقال آخر :
أتقضي  ولم  تَبْكِكَ الباكياتُ      أمَا لك في المِصْرِ مِنْ نَائِحَه
وكم  طفلة  لك  قد  iiأعولت      وَجَمْرَتُها  في  الحَشَا iiقَادِحَه
يُعَزِّزُها  السبطُ  في  iiحِجْرِهِ      لتغدوَ   في   قُرْبِهِ   iiفَارِحَه
تقولُ  مَضَى  عمُّ  منّي iiأبي      فَمَنْ     ليتيمتِهِ     iiالنائحه
  قال الراوي : ثم انتظر حتى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه : أكثروا من الماء ، فاستقوا وأكثروا ، وكان لا يمرُّ بماء إلاَّ اتّبعه مَنْ عليه ، ثم ارتحلوا فسار حتى انتهى إلى زبالة ، فأتاه بها خبر عبدالله بن يقطر ، وهو أخو الحسين ( عليه السلام ) من الرضاعة ، وكان سرَّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يعلم بقتله فأخذته خيل (2) .

---------------------------
(1) معالي السبطين ، الحائري : 1/266 .
(2) لواعج الأشجان ، الأمين : 84 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 148 _


المجلس الخامس : من اليوم الرابع :

  مقتل ولدي مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) :
  روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة في الأمالي ، قال : حدَّثنا أبي ( رحمه الله ) ، قال : حدَّثنا علي بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن إبراهيم بن رجاء الجحدري ، عن علي بن جابر ، قال : حدَّثني عثمان بن داود الهاشمي ، عن محمد بن مسلم ، عن حمران بن أعين ، عن أبي محمد شيخ لأهل الكوفة ، قال : لما قُتل الحسين بن علي ( عليهما السلام ) أُسر من معسكره غلامان صغيران ، فأتي بهما عبيدالله بن زياد ، فدعا سجاناً له ، فقال : خذ هذين الغلامين إليك ، فمن طيِّب الطعام فلا تطعمهما ، ومن البارد فلا تسقهما ، وضيِّق عليهما سجنهما ، وكان الغلامان يصومان النهار ، فإذا جنَّهما الليل أُتيا بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح .
  فلمَّا طال بالغلامين المكث حتى صارا في السنة قال أحدهما لصاحبه : يا أخي ، قد طال بنا مكثنا ، ويوشك أن تفنى أعمارنا وتبلى أبداننا ، فإذا جاء الشيخ فأعلمه مكاننا ، وتقرَّب إليه بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) لعله يوسِّع علينا في طعامنا ، ويزيد في شرابنا. فلما جنَّهما الليل أقبل الشيخ إليهما بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح ، فقال له الغلام الصغير : يا شيخ ، أتعرف محمداً ؟
  قال : فكيف لا أعرف محمداً وهو نبيّي! قال : أفتعرف جعفر بن أبي طالب ؟
  قال : وكيف لا أعرف جعفراً وقد أنبت الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء ؟ !
  قال : أفتعرف عليَّ بن أبي طالب ؟ قال : وكيف لا أعرف علياً هو ابن عمِّ نبيّي وأخو نبيّي ؟ !
  قال له : يا شيخ ، فنحن من عترة نبيك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، ونحن من ولد مسلم بن

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 149 _

  عقيل بن أبي طالب ، بيدك أسارى ، نسألك من طيِّب الطعام فلا تطعمنا ، ومن بارد الشراب فلا تسقينا ، وقد ضيَّقت علينا سجننا ، فانكبَّ الشيخ على أقدامهما يقبِّلهما ويقول : نفسي لنفسكما الفداء ، ووجهي لوجهكما الوقاء ، يا عترة نبيِّ الله المصطفى ، هذا باب السجن بين يديكما مفتوح ، فخذا أيَّ طريق شئتما ، فلمَّا جنَّهما الليل أتاهما بقرصين من شعير وكوز من الماء القراح ووقفهما على الطريق ، وقال لهما : سيرا ـ يا حبيبيَّ ـ الليل ، واكمنا النهار حتى يجعل الله عزَّ وجلَّ لكما من أمركما فرجاً ومخرجاً ، ففعل الغلامان ذلك ، ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
أفدي  يتيمي  مسلم إذا أُسِرَا      ظلماً وفي سجنِ الدعيِّ عُذِّبا
قد ضُيِّقَ السجنُ عليهما iiوَلاَ      ذَاقَا  طعاماً  طَيِّبا أو iiمشربا
حتى  إذا  ضاقا  بما  نالهما      ذرعاً  وأمرُ  اللهِ جَلَّ iiاقتربا
فخاطبا  السجَّانَ في iiأمرِهما      وبالنبيِّ   المصطفى   تقرَّبا
هناك  خلَّى  عنهما  iiفانطلقا      لا   يَعْرِفانِ  مَسْلَكاً  iiومَذْهَبا
سَارا  بليل  وَهُما  لم iiيدريا      أين  الطريقُ  يَطْلُبَانِ مَهْرَبا(1)
  قال : فلمَّا جنَّهما الليل انتهيا إلى عجوز على باب ، فقالا لها : يا عجوز ، إنا غلامان صغيران غريبان حدثان غير خبيرين بالطريق ، وهذا الليل قد جنَّنا ، أضيفينا سواد ليلتنا هذه ، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق .
  فقالت لهما : فمن أنتما يا حبيبيَّ ؟ فقد شممت الروائح كلها ، فما شممت رائحة أطيب من رائحتكما ، فقالا لها : يا عجوز ، نحن من عترة نبيك محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، هربنا من سجن عبيد الله بن زياد من القتل ، قالت العجوز : يا حبيبيَّ ، إن لي ختناً فاسقاً ، قد شهد الواقعة مع عبيد الله بن زياد ، أتخوَّف أن يصيبكما هاهنا فيقتلكما ، قالا :

---------------------------
(1) ديوان العلامة الجشي : 365 .

المجالس العاشوريّة في المآتم الحسينيّة _ 150 _

  سواد ليلتنا هذه ، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق ، فقال : سآتيكما بالطعام ، ثم أتتهما بطعام فأكلا وشربا ، فلمَّا ولجا الفراش قال الصغير للكبير : يا أخي ، إنا نرجو أن نكون قد أمنا ليلتنا هذه ، فتعال حتى أعانقك وتعانقني ، وأشمَّ رائحتك وتشمَّ رائحتي قبل أن يفرِّق الموت بيننا ، ففعل الغلامان ذلك ، واعتنقا وناما .
  فلمَّا كان في بعض الليل أقبل ختن العجوز (1) الفاسق حتى قرع الباب قرعاً خفيفاً ، فقالت العجوز : من هذا ؟ قال : أنا فلان ، قالت : ما الذي أطرقك هذه الساعة ، وليس هذا لك بوقت ؟ قال : ويحكِ ، افتحي الباب قبل أن يطير عقلي ، وتنشقَّ مرارتي في جوفي ، جهد البلاء قد نزل بي ، قالت : ويحك ، ما الذي نزل بك ؟ قال : هرب غلامان صغيران من عسكر عبيد الله بن زياد ، فنادى الأمير في معسكره : من جاء برأس واحد منهما فله ألف درهم ، ومن جاء برأسيهما فله ألفا درهم ، فقد أتعبت وتعبت ولم يصل في يدي شيء ، فقالت العجوز : يا ختني ، احذر أن يكون محمد خصمك في يوم القيامة ، قال لها : ويحكِ ، إن الدنيا محرص عليها ، فقالت : وما تصنع بالدنيا ، وليس معها آخرة ؟ قال : إني لأراك تحامين عنهما ، كأن عندك من طلب الأمير شيئاً ، فقومي فإن الأمير يدعوك ، قالت : وما يصنع الأمير بي ؟ وإنما أنا عجوز في هذه البرية ، قال : إنما لي طلب ، افتحي لي الباب حتى أريح وأستريح ، فإذا أصبحت بكَّرت في أي طريق آخذ في طلبهما. ففتحت له الباب ، وأتته بطعام وشراب فأكل وشرب ، فلما كان في بعض الليل سمع غطيط (2) الغلامين في جوف البيت ، فأقبل يهيج كما يهيج البعير الهائج ، ويخور كما يخور الثور ، ويلمس بكفه جدار البيت حتى وقعت يده على جنب الغلام الصغير ، فقال له : من هذا ؟ قال : أمّا أنا فصاحب المنزل ، فمن أنتما ؟

---------------------------
(1) الختن : كل من كان من قبل المرأة كأبيها وأخيها ، وكذلك زوج البنت أو زوج الأخت .
(2) الغطيط : الصوت الذي يخرج مع نفس النائم .