الإقتصاد الإسلامي كما نوعظ به

المدرسة الاسلامية   ـ 179 ـ

   أحسب ان البحث السابق ، يكفي لتكوين فكرة محددة عن المذهب الاقتصادي ، وعلم الاقتصاد ، ووظيفة كل منهما ووسائله في البحث.
   ولاجل هذا ، فسوف نستطيع الآن أن نوضح طبيعة فهمنا للاقتصاد الإسلامي ، وما نعنيه بتأكيدنا على وجود اقتصاد ، او نظام اقتصادي في الإسلام.
   ان الإقتصاد الإسلامي كما مر بنا ، في مستهل هذه الدراسة عبارة عن مذهب اقتصادي ، وليس علماً للاقتصاد .
   فنحن حين نقول : ان الإسلام جاء بمذهب اقتصادي ، لا نحاول ان نزعم ، ان الإسلام جاء بعلم الاقتصاد.
   وذلك ان الإسلام ، لم يجئ ليكتشف أحداث الحياة الإقتصادية ، وروابطها وأسبابها وليس من مسؤولياته ذلك ، كما ليس من مسؤوليته ، ان يكشف للناس قوانين الطبيعة ، او الظواهر الفلكية ، وروابطها وأسبابها .
   فكما لا يجب ان يشتمل الدين ، على علم الفلك ، وعلوم الطبيعة كذلك لا يجب أن يشتمل على علم الاقتصاد.
   وانما جاء الإسلام ، لينظم الحياة الإقتصادية ، بدلاً عن كشفها. ويضع التصميم ، الذي ينبغي أن تنظم به ، وفقاً لتصوراته عن العدالة.
   فالإقتصاد الإسلامي ، يصور وجهة نظر الإسلام عن العدالة وطريقته في تنظيم الحياة الإقتصادية ، ولا يعبر عن كشوف علمية ، لروابط الحياة الإقتصادية ، وعلاقاتها ، كما تجري في

المدرسة الاسلامية   ـ 180 ـ

   الواقع.
   وهذا معنى ، كون الإقتصاد الإسلامي مذهباً لا علماً .
   وبتعبير آخر : لو أن الإسلام ، جاء ليحدثنا عن الحياة الإقتصادية في الحجاز ، وما هي الاسباب التي تؤدي في المجتمع الحجازي ، مثلاً ، الى ارتفاع سعر الفائدة الربوية ، التي يتقاضاها المرابون ، لكان حديثه علمياً ، ومن علم الإقتصاد.
   ولكنه بدلاً عن ذلك ، جاء ليقيم نفس الفائدة الربوية ، فحرمها ونظم العلاقة بين رأس المال ، وصاحب المشروع ، على أساس المضاربة ، بدلاً عن الربا والفائدة ، وبذلك ، كان الإسلام يتخذ في اقتصاده الموقف المذهبي ، لا العلمي.
   ونحن ، اذا عرفنا بوضوح ، طبيعة الإقتصاد الإسلامي وكونه مذهباً اقتصادياً ، لا علماً للاقتصاد ، أمكننا أن ندحض أكبر العقبات ، التي تحول دون الاعتقاد ، بوجود اقتصاد في الإسلام.

ما هي اكبر العقبات
   وهذه العقبة الكبيرة ، التي يستند اليها كثير من الناس لرفض الاقتصاد الإسلامي ، نشأت من عدم التمييز ، بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي.
   فان هؤلاء الذين لم يتح لهم التمييز بين العلم والمذهب ، اذا سمعوا شخصاً يقول : ان في

المدرسة الاسلامية   ـ 181 ـ

   الإسلام اقتصاداً ، يبادرون قائلين : وكيف يمكن أن يكون في الإسلام اقتصاد ؟ ونحن لا نجد فيه بحوثاً ، كالبحوث التي نجدها عند علماء الاقتصاد ، كآدم سميث ، وريكاردو ، وغيرهما .
   فالإسلام لم يحدثنا عن قانون الغلة المتناقصة ، ولا عن قوانين العرض والطلب ، ولم يأت بقانون ، يناظر القانون الحديدي للأجور ، ولم تؤثر عنه فكرة ، عن تحليل القيمة ودرسها علمياً كما درسها علماء الاقتصاد.
   وكيف يطلب منا أن نصدق بالاقتصاد الإسلامي ، ونحن جميعاً نعلم بأن بحوث علم الاقتصاد انما نشأت وتكاملت خلال القرون الاربعة الاخيرة على يد رواد الفكر الاقتصادي الاوائل كآدم سميث ، ومن سبقه من التجاريين والطبيعيين .
   يقول المنكرون للاقتصاد الإسلامي كل هذا ، ظناً منهم بأنا ندعي قيام الإسلام ، بالبحث العلمي في الاقتصاد.
   واما بعد ان نعرف الفرق ، بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي ، وان الاقتصاد الإسلامي ، مذهب وليس علماً ، فلا يبقى موضع لكل ذلك القول ، لان وجود المذهب الاقتصادي في الإسلام ، لا يعني تحدث الإسلام الى الناس ، عن قوانين العرض والطلب ، بل يعني ان الإسلام ، دعا الى تنظيم متميز للحياة الاقتصادية ، وحدد ما ينبغي ان تقام عليه تلك الحياة من أسس ودعائم .

المدرسة الاسلامية   ـ 182 ـ

   ويبدو الايمان ، بوجود الاقتصاد الإسلامي ، على هذا الضوء أمراً معقولا ، ولا غرابة فيه .
   وسوف لن نبدأ في هذه الحلقة ، بدراسة تفاصيل الاقتصاد الإسلامي وحين أخذ التفاصيل بالبحث والدرس في الحلقات المقبلة ، سوف نقدم لك ، من الكتاب والسنة ، الدليل المادي المحسوس ، على وجود المذهب الاقتصادي في الإسلام.
   فانه لا أدل على وجود الشيء ، من ابرازه للحس .
   وهذا ما تقوم به الحلقات المقبلة ، باذن الله تعالى .
   والآن ، وقبل أن نستدل على وجود المذهب الإقتصادي في الإسلام ، بابرازه ، والتعرف على مواطن استخلاصه ، من الكتاب والسنة .
   نريد أن نقيم الدليل على وجوده ، من طبيعة الشريعة الإسلامية ، ومفاهيمنا المسبقة عنها ، كما سنرى .

شمول الشريعة واستيعابها
   ان شمول الشريعة واستيعابها ، لجميع مجالات الحياة ، من الخصائص الثابتة لها ، لا عن طريق تتبع احكامها ، في كل تلك المجالات فحسب ، بل عن طريق التأكيد على ذلك ، في مصادرها العامة أيضاً ، فنحن نستطيع ، ان نجد في هذه المصادر نصوصاً تؤكد بوضوح ، على استيعاب الشريعة ، وامتدادها الى جميع الحقول ، التي يعيشها الإنسان ، واغتنائها بالحلول لجميع

المدرسة الاسلامية   ـ 183 ـ

   المشاكل التي تعترضه في شتى المجالات.
   لاحظوا على سبيل المثال ، النصوص التالية :
  1 ـ روى أبو بصير ، عن الإمام الصادق (ع) ، انه تحدث عن الشريعة الإسلامية ، واستيعابها ، واحاطة أئمة أهل البيت بكل تفاصيلها .
   فقال : فيها كل حلال وحرام ، وكل شيء يحتاج الناس اليه ، حتى الارش في الخدش.
   وضرب بيده الى أبي بصير ، فقال : أتأذن لي يا أبا محمد ؟ فقال له أبو بصير : جعلت فداك ، انما أنا لك ، فاصنع ما شئت ، فغمزه الإمام بيده وقال : حتى أرش هذا!
  2 ـ وعن الإمام الصادق (ع) ، في نص آخر ، انه قال : فيها كل ما يحتاج الناس اليه ، وليس من قضية ، إلا وهي فيها حتى ارش الخدش ، ( أي الغرامة التي يدفعها الشخص الى آخر اذا خدشه ).
  3 ـ وفي نهج البلاغة ، ان امير المؤمنين علياً عليه السلام قال يصف الرسول (ص) ، والقرآن الكريم :
   أرسله على حين فترة من الرسل ، وطول هجعة من الامم وانتقاص من المبرم.
   فجاءهم بتصديق الذي بين يديه ، والنور المقتدى به ، ذلك القرآن ، فاستنطقوه ، ولن ينطق ، ولكن أخبركم عنه ، الا ان فيه ما يأتي ، والحديث عن الماضي ، ودواء دائكم ، ونظم ما بينكم .

المدرسة الاسلامية   ـ 184 ـ

   ان هذه النصوص ، تؤكد بوضوح ، استيعاب الشريعة لمختلف مجالات الحياة.
   واذا كانت الشريعة ، تضمن الحلول حتى لأتفه المشاكل وحتى لارش الخدش ، ـ أي الغرامة التي يجب على الإنسان دفعها الى الآخر ، اذا خدشه ـ ، فمن الضروري ، حتماً ، بمنطق تلك النصوص ، أن تكون في الشريعة ، حلول للمشاكل الإقتصادية وطريقة لتنظيم الحياة ، في الحقل الإقتصادي. والا فأي معنى لاستيعاب الشريعة وشمولها ، اذا كانت تغفل جانباً من أهم جوانب الحياة ، وأوسعها ، وأكثرها أهمية وتعقيداً .
   هل تتصور أن الشريعة ، تحدد الغرامة التي من حقك الحصول عليها ، اذا خدشك شخص خدشاً بسيطاً ، ولا تحدد حقك في الثروة المنتجة ، ولا تنظم طريقة اتفاقك مع عمالك او مع الرأسماليين ، في مختلف الوان العمل ، التي تحتاج فيها الى عامل ، أو رأسمالي .
   وهل من المعقول ، ان تحدد الشريعة ، حقك حين تخدش ولا تحدد حقك ، حين تحيي أرضاً ، او تستخرج معدناً ، أو تستنبط عين ماء ، أو تستولي على غابة.
   وهكذا نعرف ان من يؤمن بالشريعة ومصادرها ، ونصوصها يستنتج من تلك النصوص ، علاج الشريعة ، للمشاكل الإقتصادية وتنظيمها للحقل الإقتصادي ، وبالتالي وجود اقتصاد اسلامي

المدرسة الاسلامية   ـ 185 ـ

   يمكن استخلاصه من الكتاب والسنة .
   وفي ضوء تلك النصوص ، يعرف القارئ ، خطأ القول الشائع ، عند البعض ، بأن الشريعة تنظم سلوك الفرد ، لا المجتمع ، والمذهب الإقتصادي ، تنظيم اجتماعي ، فهو خارج عن نطاق الشريعة ، التي تقتصر في تشريعها ، على تنظيم سلوك الفرد فحسب .
   ان النصوص السابقة ، تبرهن على خطأ هذا القول ، لأنها تكشف ، عن امتداد الشريعة ، الى كل ميادين الحياة ، وتنظيمها للمجتمع والفرد على السواء.
   والحقيقة ، أن القول بأن الشريعة ، تنظم سلوك الفرد لا المجتمع ، يتناقض مع نفسه ، اضافة الى اصطدامه بتلك النصوص لأنه حين يفصل سلوك الفرد ، وتنظيمه ، عن تنظيم المجتمع يقع في خطأ كبير ، من ناحية ، ان النظام الإجتماعي ، لأي جانب من الجوانب العامة في المجتمع ، سواء كان اقتصادياً ، أم سياسياً ، أم غير ذلك ، يتجسد في سلوك الفرد ، فلا يمكن تنظيم سلوك الفرد ، بصورة منعزلة عن تنظيم المجتمع.
   خذ اليك النظام الرأسمالي ، بوصفه تنظيماً اجتماعياً ، فانه ينظم الحياة الإقتصادية ، على أساس مبدأ الحرية الإقتصادية وهذا المبدأ يتجسد في سلوك الرأسمالي ، مع العامل ، وطريقة ابرامه معه عقد العمل ، وفي سلوك المرابي ، مع زبائنه ، الذين

المدرسة الاسلامية   ـ 186 ـ

   يقرضهم بفائدة ، وطريقة ابرامه معهم عقد القرض.
   وهكذا كل تنظيم اجتماعي ، فانه يتصل بسلوك الفرد ، وينعكس عليه ويتجسد فيه .
   فاذا كانت الشريعة ، تنظم سلوك الفرد ، فلها طريقتها اذن ، في تنظيم سلوكه ، حين يقترض مالاً ، او حين يستأجر عاملاً ، او حين يؤجر نفسه ، وهذا يرتبط حتماً ، بالتنظيم الاجتماعي.
   فكل فصل بين سلوك الفرد والمجتمع في التنظيم ، يحتوي على تناقض .
   فما دمنا نعترف ، بأن الشريعة ، تنظم سلوك الفرد ، وان كل فعل من أفعال الإنسان ، له حكمه الخاص ، في الشريعة.
   ما دمنا نعترف بذلك ، فلا بد ان ننساق مع اعترافنا الى النهاية ونؤمن بوجود التنظيم الاجتماعي في الشريعة.

التطبيق دليل آخر
   ولا أدري ، ماذا يقول هؤلاء الذين يشكون في وجود اقتصاد اسلامي ، او علاج للمشاكل الاقتصادية في الإسلام ، ماذا يقولون عن عصر التطبيق في صدر الإسلام ؟
   أفلم يكن المسلمون ، يعيشون في صدر الإسلام ، بوصفهم مجتمعاً له حياته الاقتصادية ، وحياته في كل الميادين الاجتماعية ؟

المدرسة الاسلامية   ـ 187 ـ

  أفلم تكن قيادة هذا المجتمع الإسلامي ، بيد النبي والإسلام .
   أفلم تكن هناك حلول محددة ، لدى هذه القيادة ، يعالج بها المجتمع ، قضايا الانتاج والتوزيع ، ومختلف مشاكله الاقتصادية ؟
   فماذا لو ادعينا ، أن هذه الحلول ، تعبر عن طريقة الإسلام في تنظيم الحياة الاقتصادية ، وبالتالي عن مذهب اقتصادي في الإسلام ؟ .
   نحن اذا تصورنا ، المجتمع الإسلامي على عهد النبي (ص) فلا يمكن أن نتصوره ، بدون نظم اقتصادي ، اذ لا يمكن أن يوجد مجتمع ، بدون طريقة يتبناها ، في تنظيم حياته الاقتصادية وتوزيع الثروة بين أفراده.
   ولا يمكن ان نتصور النظام الاقتصادي ، في مجتمع عصر النبوة ، منفصلاً عن الإسلام ، وعن النبي ، بوصفه صاحب الرسالة الذي يتولي تطبيقها .
   فلا بد ان يكون النظام الاقتصادي ، مأخوذاً منه ، قولاً او فعلاً او تقريراً ، أي مأخوذاً من نصوصه وأقواله أو من أفعاله ، وطريقته للعمل الاجتماعي بوصفه رئيساً للدولة أو من تقريره لعرف سائد وقبوله به .
   وكل ذلك يسبغ على النظام الطابع الإسلامي.

المذهب يحتاج الى صياغة
   ونحن حين نقول ، بوجود اقتصاد اسلامي ، او مذهب

المدرسة الاسلامية   ـ 188 ـ

   اقتصادي في الإسلام ، لا نريد بذلك ، اننا سوف نجد في النصوص بصورة مباشرة نفس النظريات الاساسية في المذهب الاقتصادي الإسلامي ، بصيغها العامة.
   بل ان النصوص ومصادر التشريع ، تتحفنا بمجموعة كبيرة من التشريعات ، التي تنظم الحياة الاقتصادية وعلاقات الإنسان ، بأخيه الإنسان ، في مجالات انتاج الثروة وتوزيعها ، وتداولها .
   كأحكام الإسلام ، في احياء الاراضي والمعادن ، وأحكامه في الاجارة والمضاربة والربا ، وأحكامه في الزكاة والخمس ، والخراج وبيت المال.
   وهذه المجموعة من الاحكام والتشريعات ، اذا نسقت ودرست دراسة مقارنة بعضها ببعض ، أمكن الوصول إلى أصولها والنظريات العامة التي تعبر عنها ، ومن تلك النظريات نستخلص المذهب الاقتصادي في الإسلام.
   فليس من الضروري ، مثلاً ، أن نجد في النصوص ومصادر الشريعة ، صيغة عامة لتحديد مبدأ يقابل مبدأ الحرية الاقتصادية في المذهب الرأسمالي ، أو يماثله .
   ولكننا نجد في تلك النصوص والمصادر ، عدداً من التشريعات ، التي يستنتج منها ، موقف الإسلام من مبدأ الحرية الاقتصادية.
   ويعرف عن طريقها : ما هو المبدأ البديل له ، من وجهة النظر الإسلامية.
   فتحريم الإسلام للاستثمار الرأسمالي الربوي ، وتحريمه تملك الارض بدون احياء وعمل ، واعطاء ولي الأمر صلاحية الاشراف

المدرسة الاسلامية   ـ 189 ـ

   على أثمان السلع ، مثلاً كل ذلك ، يكون فكرتنا ، عن موقف الإسلام ، من الحرية الاقتصادية ، ويعكس المبدأ الإسلامي العام.

اخلاقية الاقتصاد الإسلامي
   قد يقال : ان الاقتصاد الذي تزعمون وجوده في الإسلام ليس مذهباً اقتصادياً ، وانما هو في الحقيقة ، تعاليم اخلاقية من شأن الدين ان يتقدم بها الى الناس ، ويرغبهم في اتباعها.
   فالإسلام ، كما أمر بالصدق والأمانة ، وحث على الصبر وحسن الخلق ، ونهى عن الغش والنميمة ، كذلك ، أمر بمعونة الفقراء ونهى عن الظلم ، ورغب الأغنياء في مواساة البائسين ، ونهاهم عن سلب حقوق الآخرين ، وحذرهم من اكتساب الثروة ، بطرق غير مشروعة ، وفرض عبادة مالية ، في جملة ما فرض من عبادات وهي الزكاة.
   اذ شرعها الى صف الصلاة والحج والصيام ، تنويعاً لاساليب العبادة ، وتأكيداً على ضرورة اعانة الفقير والإحسان اليه.
   كل ذلك ، قام به الإسلام ، وفقاً لمنهج أخلاقي عام ، ولا تعدو تلك الاوامر والنصائح والإرشادات ، عن كونها تعاليم أخلاقية ، تستهدف ، تنمية الطاقات الخيرة في نفس الفرد المسلم والمزيد من شده الى ربه ، والى أخيه الإنسان ، ولا يعني ذلك

المدرسة الاسلامية   ـ 190 ـ

   مذهباً اقتصادياً ، على مستوى تنظيم شامل للمجتمع .
   وبكلمة أخرى ، أن التعاليم السابقة ، ذات طابع فردي أخلاقي ، هدفها اصلاح الفرد ، وتنمية الخير فيه ، وليست ذات طابع اجتماعي ، تنظيمي ، فالفرق بين تلك التعاليم ، والمذهب الإقتصادي ، هو الفرق بين واعظ يعتلي المنبر ، فينصح الناس بالتراحم والتعاطف ، ويحذرهم من الظلم والاساءة ، والاعتداء على حقوق الآخرين ، وبين مصلح اجتماعي ، يضع تخطيطاً لنوع العلاقات ، التي يجب أن تقام بين الناس ، ويحدد الحقوق والواجبات .
   وجوابنا على هذا كله : ان واقع الإسلام ، وواقع الاقتصاد الإسلامي ، لا يتفق اطلاقاً مع هذا التفسير ، الذي ينزل بالاقتصاد الإسلامي عن مستوى مذهب ، الى مستوى نصائح واوامر أخلاقية.
   صحيح ، ان الإتجاه الاخلاقي واضح ، في كل التعاليم الإسلامية.
   وصحيح ، ان الإسلام ، يحتوي على مجموعة ضخمة ، من التعاليم والأوامر الاخلاقية ، في كل مجالات الحياة ، والسلوك البشري وفي المجال الإقتصادي خاصة .
   وصحيح ، ان الإسلام ، حشد أروع الأساليب ، لتنشئة الفرد المسلم على القيم الخلقية ، وتنمية طاقاته الخيرة ، وتحقيق المثل الكامل فيه .

المدرسة الاسلامية   ـ 191 ـ

   ولكن هذا لا يعني ، ان الإسلام ، اقتصر على تربية الفرد خلقياً ، وترك تنظيم المجتمع. ولا ان الإسلام ، كان واعظاً للفرد ، فحسب ، ولم يكن الى جانب ذلك ، مذهباً ونظاماً للمجتمع ، في مختلف مجالات حياته ، بما فيها حياته الإقتصادية.
   ان الإسلام ، لم ينه عن الظلم ، ولم ينصح الناس بالعدل ولم يحذرهم من التجاوز على حقوق الآخرين ، بدون ان يحدد مفاهيم الظلم والعدل ، من وجهة نظره ، ويحدد تلك الحقوق التي نهى عن تجاوزها .
   ان الإسلام ، لم يترك تلك المفاهيم ، مفاهيم العدل والظلم والحق ، غائمة غامضة ، ولم يدع تفسيرها لغيره ، كما يصنع الوعاظ الاخلاقيون.
   بل انه جاء بصورة محددة ، للعدالة وقواعد عامة للتعايش بين الناس ، في مجالات انتاج الثروة وتوزيعها وتداولها ، واعتبر كل شذوذ وانحراف ، عن هذه القواعد ، وتلك الصورة ، التي حددها للعدالة ، ظلماً ، وتجاوزاً على حقوق الآخرين.
   وهذا هو الفارق ، بين موقف الواعظ ، وموقف المذهب الإقتصادي.
   فان الواعظ ، ينصح بالعدل ، ويحذر من الظلم ولكنه لا يضع مقاييس العدل والظلم ، وانما يدع هذه المقاييس الى العرف العام المتبع ، لدى الواعظ وسامعيه .
   واما المذهب الاقتصادي ، فهو يحاول أن يضع هذه المقاييس ، ويجسدها في

المدرسة الاسلامية   ـ 192 ـ

   نظام اقتصادي ، مخطط ، ينظم مختلف الحقول الاقتصادية.
   فلو ان الإسلام ، جاء ليقول للناس ، اتركو الظلم ، وطبقوا العدل ، ولا تعتدوا على الآخرين ، وترك للناس ، ان يحددوا معنى الظلم ، ويضعوا الصورة التي تجسد العدل ، ويتفقوا على نوع الحقوق التي يتطلبها العدل ، وفقاً لظروفهم ، وثقافتهم ، وما يؤمنون به من قيم ، وما يدركونه من مصالح وحاجات .
   لو أن الإسلام ترك كل هذا للناس ، واقتصر على الامر بالعدل والترغيب فيه ، والنهي عن الظلم والتحذير منه ، بالاساليب التي يملكها الدين للاغراء والتخويف ، لكان واعظاً فحسب .
   ولكن الإسلام ، حين قال للناس ، اتركوا الظلم ، وطبقوا العدل ، قدم لهم في نفس الوقت ، مفاهيمه عن العدل والظلم وميز بنفسه ، الطريقة العادلة ، في التوزيع والتداول والانتاج عن الطريقة الظالمة ، فذكر مثلاً ، ان تملك الارض بالقوة ، وبدون احياء ، ظلم ، وان الاختصاص بها ، على أساس العمل والاحياء ، حق ، وأن حصول رأس المال ، على نصيب من الثروة المنتجة باسم فائدة ، ظلم ، وحصوله على ربح ، عدل.
   الى كثير من الوان العلاقات ، والسلوك ، التي ميز فيها الإسلام بين الظلم والعدل .
   وأما حث الإسلام للاغنياء ، على مساعدة اخوانهم ، وجيرانهم من الفقراء ، فهو صحيح ، ولكن الإسلام ، لم يكتف بهذا الحث

المدرسة الاسلامية   ـ 193 ـ

   وهذه التربية الخلقية ، للاغنياء ، بل فرض ، على الدولة ، ضمان المعوزين ، وتوفير الحياة الكريمة لهم ، فرضاً يدخل في صلب النظام ، الذي ينظم العلاقات ، بين الراعي والرعية .
   ففي الحديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام ، انه ذكر ، وهو يحدد مسؤولية الوالي في أموال الزكاة : ان الوالي ، يأخذ المال ، فيوجهه الوجه الذي وجه الله على ثمانية أسهم ، للفقراء والمساكين ... يقسمها بينهم ، بقدر ما يستغنون في سنتهم ، بلا ضيق ولا تقية .
   فان فضل من ذلك شيء ، رد الى الوالي ، وان نقص من ذلك شيء ، ولم يكتفوا به ، كان على الوالي ان يمونهم من عنده ، بقدر سعتهم ، حتى يستغنوا .
   وواضح ، في هذا النص ، ان فكرة الضمان ، وضرورة توفير الحياة الكريمة للجميع ، ليست هنا فكرة وعظية ، وانما هي ، من مسؤوليات الوالي في الإسلام. وبذلك ، تدخل في صلب تنظيم المجتمع ، وتعبر عن جانب ، من جوانب ، التصميم الإسلامي للحياة الاقتصادية.
   ان هناك ، فرقاً كبيراً بين النص المأثور ، القائل ، ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جائع وهذا النص الذي يقول : كان على الوالي ، أن يمونهم من عنده ، بقدر سعتهم حتى يستغنوا .
   فالأول ذو طابع وعظي ، وهو يبرز الجانب الاخلاقي ، من التعاليم الإسلامية.
   واما الثاني ، فطابعه تنظيمي

المدرسة الاسلامية   ـ 194 ـ

   ويعكس ، لأجل ذلك ، جانباً من النظام الإسلامي.
   ولا يمكن أن يفسر ، إلا بوصفه جزءاً من منهج اسلامي ، عام للمجتمع .
   والزكاة هي عبادة ، من أهم العبادات ، الى صف الصلاة والصيام ، لا شك في ذلك ، ولكن اطارها العبادي ، لا يكفي للبرهنة على انها ليست ذات مضمون اقتصادي ، وانها لا تعبر عن وجود تنظيم اجتماعي ، للحياة الإقتصادية في الإسلام.
   ان ربط الزكاة ، بولي الامر ، واعتبارها أداة يستعين بها على تحقيق الضمان الإجتماعي ، في المجتمع الإسلامي ، ـ كما رأينا في النص السابق ـ هو وحده ، يكفي ، لتمييز الزكاة ، عن سائر العبادات الشخصية ، والتدليل على انها ليست مجرد عبادة فردية ، وتمرين خلقي ، للغني على الإحسان الى الفقير ، وانما هي على مستوى تنظيم اجتماعي ، لحياة الناس.
   أضف الى ذلك ، أن نفس التصميم التشريعي ، لفريضة الزكاة ، يعبر عن وجهة مذهبية ، عامة للإسلام .
   فان نصوص الزكاة ، دلت على انها تعطى للمعوزين ، حتى يلتحقوا بالمستوى العام للمعيشة .
   وهذا يدل ، على ان الزكاة ، جزء من مخطط اسلامي عام ، لايجاد التوازن ، وتحقيق مستوى عام ، موحد من المعيشة ، في المجتمع الإسلامي ، ومن الواضح ، ان التخطيط المتوازن ، ليس وعظاً ، وانما هو فكر تنظيمي ، على مستوى مذهب اقتصادي.

المدرسة الاسلامية   ـ 195 ـ

   ماذا ينقص الاقتصاد الإسلامي عن غيره ؟
   وأنا لا ادري ، لماذا يسخو المنكرون للاقتصاد الإسلامي بلقب المذهب الإقتصادي ، على الرأسمالية والاشتراكية ، ثمّ لا يمنحون هذا اللقب ، للاقتصاد الإسلامي ، بل يجعلونه مجموعة من التعاليم الاخلاقية.
   فمن حقنا ، أن نتساءل : بم استحقت الرأسمالية او الاشتراكية أن تكون مذهباً اقتصادياً ، دون الإقتصاد الإسلامي ؟.
   اننا نلاحظ ، ان الإسلام ، عالج نفس الموضوعات التي عالجتها الرأسمالية ، مثلاً ، وعلى نفس المستوى ، وأعطى فيها أحكاماً ، من وجهة نظره الخاصة ، تختلف عن وجهة النظر الرأسمالية ، فلا مبرر للتفرقة بينهما ، او للقول ، بأن الرأسمالية مذهب ، وليس في الإسلام ، إلا المواعظ والاخلاق .
   ولنوضح ذلك ، في مثالين ، لنبرهن ، على ان الإسلام أعطى آراءه ، على نفس المستوى الذي عالجته المذاهب الإقتصادية.
   والمثال الاول : يتعلق بالملكية ، وهي المحور الرئيسي للاختلاف بين المذاهب الإقتصادية.
   فان الرأسمالية ، ترى ان الملكية الخاصة ، هي المبدأ ، وليست الملكية العامة إلا استثناء.

المدرسة الاسلامية   ـ 196 ـ

   بمعنى ان كل نوع من أنواع الثروة ، ومرافق الطبيعة ، يسمح بتملكه ملكية خاصة ، ما لم تحتم ضرورة معينة ، تأميمه واخراجه عن حقل الملكية الخاصة.
   والماركسية ، ترى ان الملكية العامة ، هي الاصل والمبدأ ، ولا يسمح بالملكية الخاصة لأي نوع من أنواع الثروة الطبيعية ، والمصادر المنتجة ، ما لم توجد ضرورة معينة ، تفرض ذلك. فيسمح بالملكية الخاصة عندئذ ، في حدود تلك الضرورة ، وما دامت قائمة .
   والإسلام ، يختلف عن كل من المذهبين ، في طريقة علاجه للموضوع ، فهو ينادي بمبدأ الملكية المزدوجة ، أي ذات الأشكال المتنوعة.
   ويرى ان الملكية العامة ، والملكية الخاصة ، شكلان أصيلان للملكية ، في مستوى واحد ، ولكل من الشكلين حقله الخاص.
   أفليس هذا الموقف الإسلامي ، يعبر عن وجهة نظر اسلامية على مستوى المدلول المذهبي ، للموقف الرأسمالي والموقف الاشتراكي ؟ فلماذا يكون مبدأ الملكية الخاصة ، ركناً من أركان المذهب الرأسمالي ، ويكون مبدأ الملكية العامة ، ركناً في المذهب الاشتراكي الماركسي ، ولا يكون مبدأ الملكية المزدوجة ، ـ أي ذات الشكل العام والخاص ـ ، ركناً في مذهب اقتصادي اسلامي ؟
   والمثال الثاني : يتعلق بالكسب ، القائم على أساس ملكية

المدرسة الاسلامية   ـ 197 ـ

   مصادر الانتاج ، فان الرأسمالية تجيز هذا الكسب. بمختلف ألوانه ، فكل من يملك مصدراً من مصادر الانتاج ، له أن يؤجره ويحصل على كسب ، عن طريق الاجور التي يتقاضاها ، بدون عمل .
   والاشتراكية الماركسية ، تحرم كل لون من الوان الكسب القائم على أساس ملكية مصادر الانتاج ، لانه كسب بدون عمل .
   فالاجرة ، التي يتقاضاها صاحب الطاحونة ، ممن يستأجر طاحونته ، والاجرة التي يتقاضاها الرأسمالي ، باسم فائدة ممن يقترض منه ، غير مشروعة في الاشتراكية الماركسية ، بينما هي مشروعة في الرأسمالية.
   والإسلام ، يعالج نفس الموضوع ، من وجهة نظر ثالثة فيميز بين بعض الوان الكسب ، القائم على أساس ملكية مصادر الانتاج ، وبعضها الآخر .
   فيحرم الفائدة مثلاً ، ويسمح باجرة الطاحونة.
   فالرأسمالية ، اذن ، تسمح بالفائدة ، وباجرة الطاحونة معاً ، تجاوباً مع مبدأ الحرية الاقتصادية.
   والاشتراكية الماركسية ، لا تسمح للرأسمالي ، بأخذ الفائدة على القرض ، ولا لصاحب الطاحونة ، بالحصول على اجور ، لأن العمل ، هو المبرر الوحيد للكسب ، والرأسمالي ، حين يقرض

المدرسة الاسلامية   ـ 198 ـ

   مالاً ، وصاحب الطاحونة ، حين يؤجر طاحونته ، لا يعمل شيئاً .
   والإسلام ، لا يأذن للرأسمالي ، بتقاضي الفائدة ، ويسمح لصاحب الطاحونة ، بالاكتساب عن ايجارها ، وفقاً ، لنظريته العامة في التوزيع ، التي سوف نشرحها في الاعداد المقبلة بإذن الله تعالى .
   مواقف ثلاثة مختلفة ، تبعاً لاختلاف وجهات النظر العامة في التوزيع.
   فلماذا يوصف الموقف الرأسمالي والماركسي ، بالطابع المذهبي ولا يقال ذلك ، عن الموقف الإسلامي ؟ مع أنه يعبر عن وجهة نظر مذهب اقتصادي ثالث ، يختلف عن كل من المذهبين.