مَا هُوَ نوع الاقتصاد الإسلامي

المدرسة الاسلامية   ـ 151 ـ

   ماذا نعني بوجود إقتصاد في الإسلام ؟
   وما هي طبيعة هذا الإقتصاد الإسلامي ، الذي تساءلنا في البدء عنه ، ثمّ أكدنا وجوده وإيماننا به ؟
   ان هذا هو ما يجب أن نبدأ بتوضيحه قبل كل شيء. لأننا حين ندّعي وجود إقتصاد في الإسلام ، لا يمكننا البحث عن إثبات الدعوى ، ما لم تكن محددة ومفهومة ، وما لم نشرح للقارئ ، المعنى الذي نريده من الإقتصاد الإسلامي.
   اننا نريد بالإقتصاد الإسلامي ، المذهب الإقتصادي لا علم الإقتصاد.
   والمذهب الإقتصادي ، هو عبارة عن : إيجاد طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية ، تتفق مع وجهة نظر معينة عن العدالة.
   فنحن حين نتحدث عن اقتصاد الإسلام ، انما نعني طريقته في تنظيم الحياة الإقتصادية ، وفقاً لتصوراته عن العدالة.
   ولا نريد بالإقتصاد الإسلامي ، أي لون من الوان البحث العلمي في الإقتصاد .
   وهذا النوع من التحديد للاقتصاد الإسلامي ، يجعلنا نواجه مسألة التمييز بين المذهب الإقتصادي وعلم الإقتصاد ، فما دام الإقتصاد الإسلامي مذهباً إقتصادياً ، وليس علماً للإقتصاد فيجب أن نعرف بوضوح اكبر ، ما معنى المذهب الإقتصادي وما معنى علم الإقتصاد ، وما هي معالم التمييز بينهما ؟ وما لم

المدرسة الاسلامية   ـ 152 ـ

   يتضح ذلك وضوحاً كافياً ، مدعماً بالأمثلة ، فسوف تظل هوية الإقتصاد الإسلامي ، مكتنفة بالغموض .
   اننا حين نصف شخصاً بأنه مهندس ، وليس طبيباً ، يجب أن نعرف معنى المهندس ، وما هي وظيفته ، وثقافته ، وما هو نوع عمله ، وبماذا يفترق عن الطبيب ، لكي نتأكد من صدق الوصف ، على ذلك الشخص ، وكونه مهندساً حقاً لا طبيباً .
   وكذلك حين يقال : ان الإقتصاد الإسلامي ، مذهب اقتصادي وليس علماً للاقتصاد ، يجب أن نفهم معنى المذهب الاقتصادي بصورة عامة ، والوظيفة التي تمارسها المذاهب الإقتصادية وطبيعة تكونها ، والفوارق بين المذهب الإقتصادي ، وعلم الإقتصاد. لكي نستطيع أن نعرف في ضوء ذلك ، هوية الإقتصاد الإسلامي ، وكونه مذهباً اقتصادياً ، لا علماً للاقتصاد .
   وفي عقيدتي ، ان ايضاح هوية الإقتصاد الإسلامي ، على أساس التمييز الكامل ، بين المذهب الإقتصادي وعلم الإقتصاد وادراك ان الإقتصاد الإسلامي مذهب ، وليس علماً .
   ان هذا الايضاح ، سوف يساعدنا كثيراً ، على اثبات الدعوى ـ أي اثبات وجود اقتصاد في الإسلام ـ ، وينقض المبررات التي يستند اليها جماعة ممن ينكرون وجود الإقتصاد في الإسلام ويستغربون من القول بوجوده .

المدرسة الاسلامية   ـ 153 ـ

   وعلى هذا الاساس ، سوف نقوم بدراسة للمذهب الإقتصادي وعلم الاقتصاد ، بصورة عامة وللفوارق بينهما .

المذهب الاقتصادي وعلم الاقتصاد
   كل انسان منا يواجه لونين من السؤال في حياته الاعتيادية ويدرك الفرق بينهما .
   فحين نريد ان نسأل الاب عن سلوك ابنه مثلا : قد نسأله كيف ينبغي ان يسلك ابنك في الحياة ؟ وقد نسأله كيف يسلك ابنك فعلاً في حياته ؟ .
   وحين نوجّه السؤال الاول الي الاب ، ونقول له كيف ينبغي ان يسلك ابنك في الحياة ؟ يستوحي الاب جوابه ، من القيم والمثل والأهداف ، التي يقدسها ، ويتبناها في الحياة.
   فيقول مثلاً : ينبغي ان يكون ولدي شجاعاً جريئاً طموحاً أو يقول ينبغي ان يكون مؤمناً بربه ، واثقاً من نفسه ، مضحياً في سبيل الخير والعقيدة .
   وأما حين نوجّه السؤال الثاني للاب ، ونقول له : كيف يسلك ابنك فعلاً في حياته ؟ فهو لا يرجع الى قيمه ومثله ليستوحي منها الجواب ، وانما يجيب على هذا السؤال ، في ضوء اطلاعاته عن سلوك ابنه ، وملاحظاته المتعاقبة له .
   فقد يقول : هو فعلاً مؤمن واثق شجاع .
   وقد يقول : انه يسلك سلوكاً

المدرسة الاسلامية   ـ 154 ـ

   متميعاً ، ويتاجر بايمانه ، ويجبن عن مواجهة مشاكل الحياة.
   فالأب يستمد جوابه على السؤال الأول من قيمه ومثله ، التي يؤمن بها .
   ويستمد جوابه على السؤال الثاني ، من ملاحظاته وتجربته لابنه في معترك الحياة.
   ويمكننا أن نستخدم هذا المثال ، لتوضيح الفرق بين المذهب الإقتصادي ، وعلم الإقتصاد.
   فإننا في الحياة الاقتصادية ، نواجه سؤالين متميزين ، كالسؤالين اللذين واجههما الأب عن سلوك ابنه فتارة نسأل : كيف ينبغي أن تجري الأحداث في الحياة الإقتصادية ؟ وأخرى نسأل : كيف تجري الاحداث فعلاً في الحياة الاقتصادية.
   والمذهب الإقتصادي ، يعالج السؤال الاول ، ويجيب عليه ويستلهم جوابه من القيم والمثل التي يؤمن بها ، وتصوراته عن العدالة ، كما استلهم الأب جوابه على السؤال الأول ، من قيمه ومثله .
   وعلم الاقتصاد يعالج السؤال الثاني ، ويجيب عليه ، ويستلهم جوابه من الملاحظة والتجربة .
   فكما كان الاب يجيب على السؤال الثاني ، على أساس ملاحظته لسلوك ابنه ، وتجربته له ، كذلك علم الاقتصاد ، يشرح حركة الاحداث في الحياة الإقتصادية ، على ضوء الملاحظة والخبرة .
   وهكذا نعرف ، ان علم الإقتصاد ، يمارس عملية الإكتشاف لما يقع في الحياة الإقتصادية من ظواهر اجتماعية وطبيعية ، ويتحدث

المدرسة الاسلامية   ـ 155 ـ

   عن اسبابها وروابطها ، والمذهب الاقتصادي يقيم الحياة الاقتصادية ويحدد كيف ينبغي أن تكون ، وفقاً لتصوراته عن العدالة وما هي الطريقة العادلة في تنظيمها ؟.
   العلم يكتشف ، والمذهب يقيِّم .
   العلم يتحدث عما هو كائن ، وأسباب تكونه ، والمذهب يتحدث عما ينبغي أن يكون ، وما لا ينبغي ان يكون .
  ولنبدأ بالأمثلة ، للتمييز بين وظيفة العلم ، ومهمة المذهب بين الاكتشاف والتقييم.
   المثال الأول :
   ولنأخذ هذا المثال : من ارتباط الثمن في السوق ، بكمية الطلب فكلنا نعلم من حياتنا الاعتيادية ، أن السلعة اذا كثر عليها الطلب ، وازدادت الرغبة في شرائها لدى الجمهور ، ارتفع ثمنها .
   فكتاب نؤلفه في الرياضيات ، قد يباع بربع دينار ، فاذا قررت المعارف تدريسه ، وأدى ذلك الى كثرة الطلب عليه ، من التلاميذ ، ارتفع ثمنه في السوق ، تبعاً لزيادة الطلب.
   وهكذا سائر السلع ، فان ثمنها ، يرتبط بكمية الطلب عليها في السوق فكلما زاد الطلب ارتفع الثمن.
   وارتباط الثمن هذا ، بالطلب ، يتناوله العلم والمذهب معاً ، ولكن كلاً منهما يعالجه من زاويته الخالصة.

المدرسة الاسلامية   ـ 156 ـ

   فعلم الاقتصاد يدرسه ، بوصفه ظاهرة ، تتكون وتوجد في السوق الحرة ، التي لم يفرض عليها أثمان السلع من جهة عليا كالحكومة ، ويشرح كيفية تكون هذه الظاهرة ، نتيجة لحرية السوق ويكتشف مدى الارتباط بين الثمن ، وكمية الطلب.
   ويقارن بين الزيادة النسبية في الثمن ، والزيادة النسبية في الطلب فهل يتضاعف الثمن ، اذا تضاعف الطلب ، او يزداد بدرجة أقل ، ويشرح ما اذا كان ارتباط الثمن بكمية الطلب ، بدرجة واحدة في جميع السلع ، او ان بعض السلع ، يؤثر عليها ازدياد طلبها ، على ارتفاع ثمنها اكثر ، مما يؤثره في سلع أخرى.
   كل هذا يدرسه العلم ، لاكتشاف جميع الحقائق التي تتصل بظاهرة ارتباط الثمن بالطلب ، وشرح ما يجري في السوق الحرة ، وما ينجم عن حريته ، شرحاً علمياً ، قائماً على اساليب البحث العلمي والملاحظة المنظمة.
   والعلم في ذلك كله ، لا يضيف منه شيئاً الى الواقع ، وانما هدفه الاساسي ، تكوّن فكرة دقيقة عما يجري في الواقع ، وما ينجم عن السوق الحرة ، من ظواهر ، وما بين تلك الظواهر من روابط ، وصياغة القوانين التي تعبر عن تلك الروابط وتعكس الواقع الخارجي ، بمنتهى الدقة الممكنة.
   وأما المذهب الإقتصادي : فهو لا يدرس السوق الحرة ليكتشف نتائج هذه الحرية ، واثرها على الثمن ، وكيف يرتبط

المدرسة الاسلامية   ـ 157 ـ

   الثمن بكمية الطلب في السوق الحرة .
   ولا يلقي على نفسه سؤال لماذا يرتفع ثمن السلعة في السوق الحرة اذا زاد الطلب عليها ؟ .
   ان المذهب لا يصنع شيئاً من ذلك ، وليس من حقه هذا لان اكتشاف النتائج والاسباب ، وصياغة الواقع في قوانين عامة تعكسه وتصوره ، من حق العلم ، بما يملك من وسائل الملاحظة والتجربة والاستنتاج .
   وانما يتناول المذهب ، حرية السوق ، ليقيِّم هذه الحرية ويقيِّم ما تسفر عنه من نتائج ، وما تؤدي اليه من ربط الثمن بكمية الطلب الذي يغزو السوق.
   ونعني بتقييم الحرية ، وتقييم نتائجها ، الحكم عليها من وجهة نظر المذهب ، إلى العدالة.
   فإن كل مذهب اقتصادي ، له تصوراته العامة عن العدالة.
   ويرتكز تقييمه لأي منهج من مناهج الحياة الإقتصادية ، على أساس القدر الذي يجسده ذلك المنهج من العدالة ، وفقاً لتصور المذهب لها .
   فحرية السوق ، اذا بحثت على الصعيد المذهبي ، فلا تبحث باعتبارها ظاهرة موجودة في الواقع ، لها نتائجها ، وقوانينها العلمية بل بوصفها منهجاً اقتصادياً ، يراد اختبار مدى توفر العدالة فيه .
   فالسؤال القائل : ما هي نتائج السوق الحرة ، وكيف يرتبط الثمن بكمية الطلب فيها ، ولماذا يرتبط أحدهما بالآخر

المدرسة الاسلامية   ـ 158 ـ

   يجيب عليه علم الإقتصاد.
   والسؤال القائل : كيف ينبغي أن تكون السوق ، وهل أن حريتها كفيلة بتوزيع السلع توزيعاً عادلاً ، وإشباع الحاجات بالصورة التي تفرضها العدالة الإجتماعية ؟ إن هذا السؤال ، هو الذي يجيب عليه المذهب الإقتصادي.
   وعلى هذا الأساس ، فمن الخطأ أن نترقب من أي مذهب إقتصادي ، أن يشرح لنا ، مدى ارتباط الثمن ، بكمية الطلب في السوق الحرة ، وقوانين العرض والطلب ، التي يتحدث عنها علماء الإقتصاد ، في دراستهم لطبيعة السوق الحرة.
   المثال الثاني :
   من رأي ريكاردو ، أن أجور العمال ، اذا كانت حرة وغير محدودة من جهة عليا ، كالحكومة ، تحديداً رسمياً ، فلا تزيد عن القدر الذي يتيح للعامل معيشة الكفاف ، ولو زادت أحياناً عن هذا القدر ، كان ذلك شيئاً موقتاً ، وسرعان ما ترجع إلى مستوى الكفاف مرة أخرى.
   ويقول ريكاردو ، في تفسير ذلك ، أن أجور العمال ، اذا زادت عن الحد الأدنى من المعيشة ، أدى ذلك الى ازديادهم نتيجة لتحسن أوضاعهم ، وإقبالهم على الزواج والإنجاب .
   وما دام عمل العامل سلعة في سوق حرة ، لم تحدد فيها الأجور والأثمان

المدرسة الاسلامية   ـ 159 ـ

   فهو يخضع لقانون العرض والطلب ، فاذا ازداد العمال ، وكثر عرض العمل في السوق انخفضت الأجور.
   وهكذا ، كلما ارتفعت الأجور عن مستوى الكفاف ، وجدت العوامل التي تحتم انخفاضها من جديد ، ورجوعها الى حدها المحتوم ، كما انها اذا نقصت عن هذا الحد.
   نتج عن ذلك ، ازديات بؤس العمال ، وشيوع المرض والموت فيهم ، حتى ينقص عددهم وإذا نقص عددهم ، ارتفعت الأجور ، ورجعت إلى مستوى الكفاف لأن كل سلعة اذا نقصت كميتها ، وقلَّت ، ارتفع ثمنها في السوق الحرة.
   وهذا ما يطلق عليه ريكاردو ، اسم القانون الحديدي للاجور .
   وريكاردو في هذا القانون ، انما يتحدث عما يجري في الواقع اذا توفرت السوق الحرة للاجراء .
   ويكتشف المستوى الثابت للاجور ، في كنف هذه السوق ، والعوامل الطبيعية والاجتماعية التي تتدخل في تثبيت هذا المستوى ، والحفاظ عليه ، كلما تعرض الاجر لارتفاع او هبوط استثنائيين.
   فريكاردو ، انما يجيب في هذا القانون ، على سؤال : ماذا يجري في الواقع ؟ لا عما ينبغي أن يجري ، ولأجل هذا كان بحثه في نطاق علم الاقتصاد ، لأنه بحث يستهدف اكتشاف ما يجري من احداث وما تتحكم فيها من قوانين .

المدرسة الاسلامية   ـ 160 ـ

   والمذهب الاقتصادي ، حين يتناول أجور العمال ، لا يريد أن يكتشف ما يقع في السوق الحرة ، وانما يوجد طريقة لتنظيمها ، تتفق مع مفاهيم العدالة عنده.
   فهو يتحدث عن الاساس الذي ينبغي أن تنظم بموجبه الاجور ، ويبحث عما اذا كان مبدأ الحرية الاقتصادية ، يصلح ان يكون أساساً لتنظيم الاجور ، من وجهة نظره عن العدالة أولاً.
   وهكذا لا نرى ، ان المذهب الإقتصادي ، يحدد كيف ينبغي أن تنظم السوق من وجهة نظره الى العدالة.
  هل تنظم على أساس مبدأ الحرية الاقتصادية ، او على أساس آخر ؟ وعلم الاقتصاد ، يدرس السوق المنظمة ، على أساس مبدأ الحرية الاقتصادية ، مثلاً ، ليتعرف على ما يحدث في السوق المنظمة وفقاً لهذا المبدأ ، من أحداث ، وكيف تحدد فيها أثمان السلع واجور العمال ، وكيف ترتفع وتنخفض .
   وهذا معنى قولنا : ان العلم يكتشف ، والمذهب يقيِّم ويقدر .
   المثال الثالث :
   ولنأخذ المثال الثالث من الانتاج ، ولنحدد الزاوية التي منها يدرس علم الإقتصاد الانتاج ، والزاوية التي منها يدرس الانتاج في المذهب الإقتصادي.
   ونتبين الفارق بين الزاويتين.

المدرسة الاسلامية   ـ 161 ـ

   فعلم الإقتصاد ، يدرس من الانتاج الوسائل العامة ، التي تؤدي الى تنمية الانتاج ، كتقسيم العمل ، والتخصص ، فيقارن مثلاً ، بين مشروعين لإنتاج الساعات ، يشتمل كل منهما على عشرة عمال ، يكلف كل عامل في أحد المشروعين ، بانتاج ساعة كاملة .
   وأما في المشروع الآخر ، فيقسم العمل ، ويوكل الى كل عامل نوع واحد من العمليات ، التي يتطلبها انتاج الساعة ، فهو يكرر هذا النوع الواحد من العملية ، باستمرار ، دون أن يمارس العلميات الاخري ، التي تمر بها الساعة ، خلال انتاجها.
   ان البحث العلمي في الاقتصاد ، يدرس هذين المشروعين وطريقتيهما المختلفتين ، وأثر كل منهما على الانتاج وعلى العامل.
   وهكذا يدرس علم الاقتصاد أيضاً ، كل ما يرتبط بالانتاج الإقتصادي ، من قوانين طبيعية ، كقانون تناقص العلة في الإنتاج الزراعي ، القائل أن نسبة زيادة الإنتاج الزراعي من الأرض تقل عن نسبة زيادة النفقات (1).

**************************************************************
(1) بمعني أن الشخص الذي ينفق مئة دينار ، على استثمار أرضه ، ويحصل منها على عشرين أردباً من القمح، لو أراد أن يضاعف النفقات ، فأنفق على الأرض مئتين ، بدلاً من مئة دينار ، لم يحصل على ضعف الناتج السابق.
   أي أنه لا يظفر بأربعين أردباً من القمح ، بل يحصل على أقل من الضعف.
   ولو أنفق ثلاثمائة لم يحصل على ثلاثة أضعاف من القمح ، بل على زيادة أقل نسبياً من الزيادة التي يحصل عليها ، بإنفاق مئتين ، وهكذا تظل الزيادة الناتجة عن مضاعفة النفقات ، تتناقض نسبياً ، حتى تندعم نهائياً ، ويعود الانفاق عبثاً باطلاً .
   وسبب هذا ، أن الأرض نفسها ، هي عامل أساسي في الانتاج ، فمضاعفة النفقات ، لا تكفي لمضاعفة الانتاج ، ما دامت كمية العامل الأساسي في الانتاج أي الأرض ، ثانية لم تضاعف .

المدرسة الاسلامية   ـ 162 ـ

   كل هذا يدرسه علم الإقتصاد. لأنه يعبر عن اكتشاف الحقائق على الصعيد الاقتصادي ، كما تجري ، ويحدد العوامل التي تؤثر بطبيعتها على الانتاج ، تأثيراً موافقاً او معاكساً .
   وأما المذهب ، فهو يبحث الأمور التالية.
   هل ينبغي أن يبقى الانتاج حراً ، أو يجب اخضاعه لتخطيط مركزي من قبل الدولة ؟
   هل ينبغي اعتبار تنمية الانتاج ، هدفاً أصيلاً ، او وسيلة لهدف أعلى ؟ واذا كانت تنمية الإنتاج ، وسيلة لهدف أعلى ، فما هي الحدود والإطارات التي تفرضها طبيعة ذلك الهدف الأعلى ، على هذه الوسيلة ؟ وهل يجب أن تكون سياسة الإنتاج ، أساساً لتنظيم التوزيع ، أو العكس ؟ بمعنى ، أن أيهما يجب أن ينظم لمصلحة الآخر ؟ فهل ننظم توزيع الثروة ، بالشكل الذي يوفر الإنتاح ويساعد على تنميته ، فتكون مصلحة الإنتاج ، أساساً للتوزيع « فإذا اقتضت مصلحة الإنتاج ، تشريع الفائدة على القروض

المدرسة الاسلامية   ـ 163 ـ

   التجارية ، لجذب رؤوس الأموال ، الى مجال الإنتاج.
   اتخذت الإجراءات بهذا الشأن ، ونظم التوزيع ، على أساس الإعتراف بحق رأس المال في الفائدة » أو تنظم توزيع الثروة ، وفقاً لمقتضيات العدالة التوزيعية ، ونحدد تنمية الإنتاج ، بالمناهج والوسائل التي تتفق مع مقتضيات العدالة التوزيعية.
   كل هذا يدخل في نطاق المذهب الإقتصادي ، لا علم الإقتصاد لأنه يرتبط بتنظيم الإنتاج ، وكيف ينبغي أن تصمم سياسته العامة.

استخلاص من الأمثلة السابقة
   يمكننا أن نستخلص من الأمثلة السابقة ، الخطين المتميزين للعلم والمذهب : خط الاكتشاف والتعرف على أسرار الحياة الإقتصادية ، وظواهرها المختلفة ، وخط التقييم ، وايجاد طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية ، وفقاً لتصورات معينة عن العدالة.
   وعلى هذا الأساس ، يمكننا أن نميز بين الأفكار العلمية والأفكار المذهبية.
   فالفكرة العلمية ، تدور حول اكتشاف الواقع ، كما يجري ، والتعرف على أسبابه ونتائجه ، وروابطه ، فهي بمثابة منظار علمي ، للحياة الإقتصادية ، فكما أن الشخص حين يضع منظاراً على عينيه ، يستهدف رؤية الواقع ، دون أن يضيف اليه ، أو يغير فيه شيئاً ، وكذلك التفكير العلمي

المدرسة الاسلامية   ـ 164 ـ

   يقوم بدور منظار للحياة الإقتصادية ، فيعكس قوانينها وروابطها ، فالطابع العام للفكرة العلمية هو الإكتشاف.
   وأما الفكرة المذهبية ، فهي ليست منظاراً للواقع ، بل هي تقدير خاص للموقف ، على ضوء تصورات عامة للعدالة ، فالعلم يقول : هذا هو الذي يجري في الواقع.
   والمذهب يقول : هذا هو الذي ينبغي أن يجري في الواقع.

علم الاقتصاد والمذهب كالتاريخ والأخلاق
   وهذا الفرق الذي تبيناه ، بين علم الإقتصاد والمذهب الإقتصادي ، ـ بين البحث عما هو كائن والبحث عما ينبغي أن يكون ـ ، يمكننا أن نجد نظيره بين علم التاريخ والبحوث الاخلاقية.
   فان علم التاريخ ، يتفق مع علم الإقتصاد في خطه العلمي العام.
   والبحوث الأخلاقية ، كالمذهب الإقتصادي ، في التقييم والتقدير .
   والناس يتفقون عادة ، على التفرقة بين علم التاريخ والبحوث الاخلاقية.
   فهم يعرفون ان علماء التاريخ ، يحدثونهم مثلاً عن الأسباب التي أدت الى سقوط الامبراطورية الرومانية ، في أيدي الجرمان.
   والعوامل التي دعت الى شن الحملات الصليبية على فلسطين ، وفشلها جميعاً .
   والظروف التي ساعدت على اغتيال قيصر ، وهو في قمة انتصاره ومجده ، او على قتل عثمان

المدرسة الاسلامية   ـ 165 ـ

   ابن عفان والثورة عليه.
   كل هذه الاحداث ، يدرسها علم التاريخ ، ويكتشف أسبابها وروابطها ، مع سائر الاحداث الاخرى ، وما تمخضت عنه من نتائج ، وتطورات ، في مختلف الميادين.
   وهو بوصفه علماً ، يقتصر على اكتشاف تلك الاسباب ، والروابط ، والنتائج ، بالوسائل العلمية .
   ولا يقيم تلك الاحداث من الناحية الخلقية.
   فعلم التاريخ ، لا يحكم في نطاقة العلمي ، بأن اغتيال قيصر أو قتل عثمان ، كان عملاً صحيحاً ، خلقياً ، او منحرفاً عن المقاييس التي تحتم القيم العليا ، اتباعها في السلوك.
   وليس من شأنه ، أن يقيم الحملات الصليبية ، أو غزو البرابرة الجرمان للرومان ، ويحكم بأنها حملات عادلة أو ظالمة ، وانما يرتبط تقييم تلك الاحداث ، جميعاً ، بالبحوث الاخلاقية.
   فعلى ضوء ما تتبنى من مقاييس للعمل ، في البحث الاخلاقي ، نحكم بأن هذا عدل او ظلم ، وان هذه استقامة أو انحراف.
   فكما ان علم التاريخ يصف السلوك والحادثة ، كما وقعت ويأتي البحث الخلقي ، بمقاييسه العامة ، فيقيمها .
   كذلك علم الاقتصاد ، يصف احداث الحياة الاقتصادية ، والمذهب يقيم تلك الأحداث ، ويحدد الطريقة ، التي ينبغي تنظيم الحياة الاقتصادية على أساسها ، وفقاً لتصوراته العامة عن العدالة.

المدرسة الاسلامية   ـ 166 ـ

علم الاقتصاد كسائر العلوم
   وما قلناه ، في تحديد وظيفة علم الاقتصاد ، وانها مقتصرة على الاكتشاف ، دون التقدير والتقييم .
   لا يخص علم الاقتصاد فحسب .
   فان الوظيفة الاساسية ، لجميع العلوم ، هي الاكتشاف خاصة .
   ولا فرق بين العالم الاقتصادي ، وعلماء الفيزياء والذرة والفلك والنفس ، سوى انه يمارس وظيفته في الحقل الاقتصادي من حياة الإنسان ، واولئك يمارسون نفس الوظيفة ، وهي اكتشاف الحقائق ، وروابطها وقوانينها ، في حقول اخرى متنوعة طبيعية او بشرية .
   فالعالم في الفيزياء الاعتيادية ، يدرس مثلاً السرعات المختلفة للنور والصوت وغيرهما ، ويكتشف المعادلات الدقيقة لها .
   والعالم الذري ، يدرس تركيب الذرة ، وعدد كهاربها ونوع شحناتها المخبوءة فيها ، والقوانين التي تتحكم في حركتها .
   والعالم الفلكي ، يدرس الاجرام الكبيرة في الفضاء ، والقوانين التي تنظم حركتها .
   والعالم النفسي : يدرس مثلاً عملية الابصار ، ومحتواها السيكولوجي والعوامل المؤثرة فيها .
   والعالم الاقتصادي ، يكتشف من ناحيته أيضاً ، قوانين الظواهر الاقتصادية ، سواء كانت طبيعية ، كظاهرة تناقص

المدرسة الاسلامية   ـ 167 ـ

   الغلة او اجتماعية ، كظاهرة انخفاض الثمن وارتفاعه ، في السوق الحرة ، وفقاً لكمية الطلب.
   فكل هؤلاء بوصفهم العلمي ، يكتشفون ولا يقيمون .

الفارق في المهمة لا الموضوع
   في ضوء ما تقدم ، تعرف أن الفارق بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي ، ينبع من اختلافهما في المهمة ، نظراً الى ان مهمة علم الاقتصاد ، اكتشاف ظواهر الحياة الاقتصادية وروابطها .
   ومهمة المذهب ، ايجاد طريقة لتنظيم الحياة الاقتصادية كما ينبغي ان تنظم ، وفقاً لتصوراته عن العدالة.
   وعلى هذا الاساس ، ندرك الخطأ في المحاولات التي ترمي الى التمييز بين علم الاقتصاد ، والمذهب الاقتصادي ، من ناحية الموضوع.
   عن طريق القول ، بأن علم الاقتصاد ، يبحث في الانتاج وقوانينه ، والعوامل التي تساعد تنميته .
   والمذهب الاقتصادي يبحث في التوزيع ، وأحكامه ، والروابط التي تنشأ بين أفراد المجتمع على أساسه.
   ان هذه المحاولات خاطئة ، لاننا رأينا في الأمثلة السابقة التي قدمناها للتفرقة بين العلم والمذهب ، ان المذهب الاقتصادي يتناول الانتاج ، كما يتناول التوزيع ، ( راجع المثال الثالث ).
   وعلم الاقتصاد يتناول التوزيع ، كما يتناول الانتاج ، ( راجع

المدرسة الاسلامية   ـ 168 ـ

   المثال الاول والثاني ).
   فقانون الاجور الحديدي ، الذي سبق في المثال الثاني ، قانون علمي ، بالرغم من انه يتصل بالتوزيع وتنظيم الانتاج ، على أساس مبدأ الحرية الاقتصادية ، أو على اساس التوجيه المركزي من الدولة ، يعتبر قضية من قضايا المذهب ، بالرغم من كونه بحثاً في الانتاج.
   فمن الخطأ ، ان نحكم على أي بحث ، بأنه علمي ، اذا كان يتناول الانتاج، وانه مذهبي ، اذا كان يتناول التوزيع.
   بل العلامة الفارقة للبحث العلمي ، عن البحث المذهبي ، هي علاقة البحث بالواقع ، او العدالة.
   فان كان بحثاً عن الواقع في الحياة الإقتصادية ، وكيف هو ، فالبحث علمي .
   وان كان بحثاً عن العدالة ، وكيف ينبغي ان تحقق ، فالبحث مذهبي .
   أي ارتباط الفكرة بالعدالة ، هو العلامة الفارقة ، للمذهب بشكل عام ، عن البحوث العلمية التي يضمها علم الاقتصاد.

المذهب قد يكون اطاراً للعلم
   عرفنا ، ان علم الإقتصاد ، كما يبحث في الانتاج ، ويكتشف قانون الغلة المتناقصة ، مثلاً ، كذلك يبحث في التوزيع ويكشف قانوناً ، كالقانون الحديدي للاجور .
   ولكن بالرغم من ذلك ، يوجد أحياناً فرق بين البحث العلمي ، في الانتاج ، والبحث العلمي في التوزيع.
   ولنأخذ

المدرسة الاسلامية   ـ 169 ـ

   قانون الغلة المتناقصة ، والقانون الحديدي للاجور مثالاً ذلك .
   فالقانون الاول ، يمثل البحث العلمي ، في الانتاج. والقانون الثاني ، يمثل البحث العلمي في التوزيع.
   ونحن ، اذا لاحظنا قانون الغلة المتناقصة ، نجد انه يشتمل على حقيقة عن الانتاج الزراعي ، تصدق على الارض في مجتمع بشري ، مهما كان نوع المذهب الإقتصادي الذي يتبناه ، فالارض في المجتمع الرأسمالي ، تتناقص غلتها وفقاً لذلك القانون كما تتناقص في المجتمع الاشتراكي او الإسلامي.
   وهذا يعني ، ان قانون الغلة المتناقصة ، ليس متوقفاً على وضع مذهبي معين ، بل يعبر عن حقيقة علمية مطلقة .
   واما القانون الحديدي للاجور ، الذي مر شرحه في المثال الثاني.
   فهو يكتشف ، كما رأينا المستوى الثابت لاجور العمل في مجتمع تسوده الحرية الاقتصادية ، ويقرر ان المجتمع الذي تسوده الحرية ، تظل فيه اجور العمال على مستوى الكفايه واذا ارتفعت ، او انخفتضت ، لسبب طارئ عادت مرة اخر وبصورة طبيعية ، الى ذلك المستوى.
   وهذا القانون علمي بطبيعته ، ومضمونه ، وهدفه .
   لانه يحاول اكتشاف الواقع ، والتعرف على حركة الاجور واتجاهها كما يحدث في المجتمع.
   ولكنه يقرر ، في نفس الوقت ، أن هذه

المدرسة الاسلامية   ـ 170 ـ

   الحقيقة التي يتحدث عنها ، انما تصدق ، على مجتمع تسوده الحرية الإقتصادية الرأسمالية ، ولا تنطبق على مجتمع موجه إقتصادياً تفرض الدولة فيه تحديداً عالياً للاجور .
   فالحرية الرأسمالية ، شرط لصدق القانون العلمي ، عن الأجور ، او هي الإطار العام ، الذي يتحقق القانون الحديدي ضمنه .
   وهذا معنى أن القانون مضمونه علمي ، واطاره العام ـ شرط صدقه ـ ، مذهبي .
   وأكبر الظن ، ان عدم التمييز بين المضمون والإطار ، او بين القانون العلمي ، وشروطه ، هو الذي أدى الى القول ، بأن بحوث التوزيع ، كلها مذهبية ، وليس للعلم ، ان يبحث في حقل التوزيع.
   فان اشراط القوانين العلمية في التوزيع ، باطار مذهبي معين ، جعل أصحاب هذا القول يتخيلون ان تلك القوانين مذهبية بطبيعتها .

النتائج المستخلصة
   نستخلص مما سبق ، النتائج التالية :
   أولاً : ان علم الإقتصاد والمذهب الإقتصادي ، يختلفان في مهمتهما الاساسية ، لأن مهمة العلم ، اكتشاف الحياة الإقتصادية وظواهرها ، كما توجد في الواقع ، ومهمة المذهب ، ايجاد طريقة لتنظيم الحياة الإقتصادية ، كما ينبغي أن توجد ، وفقاً لتصوراته

المدرسة الاسلامية   ـ 171 ـ

   العامة عن العدالة. فالعلم يعمل لتجسيد الواقع ، والمذهب يعمل لتجسيد العدالة.
   ثايناً : ان علم الإقتصاد ، يبحث في الإنتاج والتوزيع معاً كما ان المذهب الإقتصادي ، يبحث في الإنتاج والتوزيع أيضاً ، ولا اساس للتفرقة بينهما ، على أساس الموضوع ، يجعل الإنتاج موضوعاً للعلم ، والتوزيع موضوعاً للمذهب .
   لأن العلم والمذهب يختلفان في مهمة البحث وطريقته ، لا في موضوعه .
   وثالثاً : ان قوانين علم الإقتصاد ، في الانتاج ، تعبر عن حقائق ثابتة ، في مختلف المجتمعات ، مهما كان نوع المذهب الاقتصادي المطبق عليها .
   واما قوانين علم الإقتصاد ، في التوزيع فهي تشرط عادة باطار مذهبي معين ، بمعنى ان العالم الإقتصادي يفترض مجتمعاً يطبق مذهباً كالرأسمالية ، والحرية الإقتصادية ثمّ يحاول أن يكتشف قوانينه ، وحركة الحياة الإقتصادية فيه .

المذهب لا يستعمل الوسائل العلمية
   عرفنا ، من التحليلات السابقة للمذهب والعلم ، أن مهمة المذهب ، التعبير عن مقتضيات العدالة ، بينما يكون على العلم مهمة اكتشاف الأحداث الإقتصادية ، كما تقع ، باسبابها وروابطها .
   وهذا الإختلاف في المهمة الأساسية بينهما ، يفرض اختلافهما

المدرسة الاسلامية   ـ 172 ـ

   في وسائل البحث ، حتماً. بمعنى أن علم الإقتصاد ، بوصفه علماً ، يكتشف ما يقع في الكون والمجتمع ، مما يتصل بالحياة الإقتصادية يستعمل الوسائل العلمية ، من الملاحظة أو التجربة وتتبع الأحداث التي تزخز بها الحياة الإقتصادية ، لكي يستنبط على ضوء ذلك ، روابطها وقوانينها العامة ، ومتى كانت قضية من القضايا موضعاً للشك ، ولم يعلم مدى صدقها وتصويرها للواقع ، أمكن للعالم الإقتصادي ، أن يرجع الى المقاييس العلمية وملاحظاته المنظمة ، للاحداث المتعاقبة ، لكي يكتشف مدى صحة تلك القضية وصدقها في تصوير الواقع.
   ان العالم الإقتصادي ، كالعالم الطبيعي ، من هذه الناحية (1) فالعالم الطبيعي ، اذا أراد أن يكتشف درجة الغليان في الماء امكنه أن يقيس حرارة الماء قياساً علمياً ، بوصفها ظاهرة طبيعية ، ويلاحظ درجة الحرارة ، التي تبدأ عندها الغليان.
   والعالم الإقتصادي ، اذا أراد ان يكشف دورية الأزمات الإقتصادية ، المشهورة ، التي تنتاب المجتمع الرأسمالي ، بين حين وآخر ، فعليه أن يرجع إلى أحداث الحياة الإقتصادية ، كما تسلسلت ووقعت ، ليحدد الفاصل التاريخي ، بين كل ازمة واخرى

**************************************************************
(1) لا نعني بذلك ، ان الوسائل العلمية ، التي يستعملها العالم الطبيعي ، هي نفس الوسائل التي يستعملها العالم الإقتصادي ، وانما نعني ان الوسائل التي يستعملها العالمان ، موضوعية وليست ذاتية.

المدرسة الاسلامية   ـ 173 ـ

   فاذا وجد ان الفاصل التاريخي ، بين كل أزمة وسابقتها واحد استطاع أن يحدد دورة تلك الأزمات ، وبالتالي يبحث عن أسبابها ، والعوامل المؤثرة فيها .
   وعلى العكس من ذلك ، المذهب الإقتصادي ، فانه لا يمكنه أن يقيس الموضوعات التي يعالجها ، قياساً علمياً ، لأنه يدرس تلك الموضوعات ، من زاوية العدالة ، ويحاول ايجاد طريقة للتنظيم ، وفقاً لمقتضيات العدالة ، ومن الواضح ، ان العدالة تختلف عن حرارة الماء وغليانه ، وعن الازمات الاقتصادية ودورتها ، لأنها ليست من الظواهر الكونية ، أو الإجتماعية التي تقبل الملاحظة الموضوعية ، والقياس العلمي ، وأساليب التجربة المتعارفة في العلم ، ففي المذهب الإقتصادي ، لا يكفي أن نطل برأسنا على الواقع ، ونلاحظ الاحداث ، ملاحظة علمية ، لنعرف ما هي العدالة ، في التنظيم ، كما يطل العالم الإقتصادي ويدرس الازمات الاقتصادية ليعرف ودورتها وقانونها .
   ولنأخذ العدالة في التوزيع ، مثلاً على ذلك ، فهناك من يقول ان العدالة في التوزيع ، تتحقق في نظام يكفل المساواة بين أفراد المجتمع ، في الحرية ، بدلاً عن الرزق ، هي الاساس العادل للتوزيع ، وان أدت ممارسة الافراد لحقهم في الحرية الى اختلافهم في الرزق ، وزيادة ثروة بعضهم ، على ثروة الآخرين

المدرسة الاسلامية   ـ 174 ـ

   ما دام الآخرون ، يتمتعون بنفس الحرية ، الممنوحة للجميع بدرجة واحدة .
   وهناك من يرى عدالة التوزيع ، تتحقق في ضمان مستوى عام من الرزق ، للجميع ، ومنح الحرية لهم خارج حدود ذلك المستوى ، كما يصنع الإسلام :
   فاذا أردنا ان نعرف ، ما هو طريق تحقيق العدالة في التوزيع هل هو التسوية في الرزق والثروة ، أو اعطاء كل فرد الحرية في ممارسة مختلف الوان النشاط الاقتصادي ، وتحديد نصيبه من الرزق ، وفقاً لطريقة ممارسته للحرية ، او اسلوب ثالث بين هذا وذاك .
   اذا أردنا أن نعرف ، ما هو طريق العدالة ، من هذه الأساليب فلا يمكننا ان نقيس ، ونستعمل وسائل البحث العلمي.
   لان العدالة ، ليست ظاهرة طبيعية ، كالحرارة والغليان ، لكي نحس بها ، ببصرنا او لمسنا او سائر حواسنا ، وليست ظاهرة اجتماعية كالازمات الاقتصادية ، في المجتمع الرأسمالي ، لتقاس وتلاحظ وتجرب .
   ان العلم ، يمكنه ان يقيس الناس أنفسهم ، فيعرض مدى تساويهم او اختلافهم ، في صفاتهم الجسدية والنفسية ، ولكنه لا يستطيع ، ان يقيس حقهم في الرزق ، ليعرف ما اذا كان من العدل أن يتساووا في الرزق ، أو لا ، لأن العدالة والحق ليس من الصفات الموضوعية ، الخاضعة للقياس العلمي والحس كصفات الجسد وظواهر الحياة.

المدرسة الاسلامية   ـ 175 ـ

   خذ اليك رأسمالياً ، يؤمن بأن الناس سواسية في حق الحرية وان اختلفت أرزاقهم ، واشتراكياً ، يؤمن بأن الناس سواسية في حق الرزق ، واسألهما : هل يوجد مقياس زئبقي ، للعدالة كالمقياس الزئبقي للحرارة ، لكي أعرف درجة العدالة ، في مجتمع تتساوى ارزاق أفراده ، ومجتمع تتساوى حريات أفراده وان اختلفت أرزاقهم ؟ وهل ان الحق الذي يتمتع به أفراد المجتمع ، ظاهرة من الظواهر ، التي يمكن الاحساس بها ، كما نحس بألوانهم وطول قامتهم ، ومدى نباهتهم ، ونوع أصواتهم لكي ندرس الحق ، بأساليب البحث العلمي ، القائمة على أساس الحس والتجربة .
   ان الجواب على كل هذا ، بالنفي طبعاً ، فليس للعدالة مقياس زئبقي ، لانها ليست من الظواهر ، التي يمكن ادراكها بالحس والمشاهدة ، وليس حق الناس في الرزق ، او حق الناس في حرية اكتسابه ، ظاهرة من ظواهرهم ، كطول قامتهم او سرعة بديهتهم ، لنحكم العلم في تحديد ذلك الحق.
   ونخرج من ذلك كله ، بأن المذهب ، لا يمكنه ما دام يدرس القضايا من زاوية العدالة والحق ، ان يكتفي بأساليب البحث العلمي.
   بل لا بد له ، أن يستلهم الطريقة التي يفضلها ، في تنظيم الحياة الإقتصادية ، من تصوراته الذاتية للعدالة ، وقيمه ومثله ، التي يؤمن بها ، ونظرته العامة الى الحياة.