الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وأصلي وأسلم على حبيبنا ورسولنا محمد وأهل بيته الأطهار ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 3 _
بالإبتلاء ؟ فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن أئمتنا من أهل بيت الرحمة والعصمة عشرات الروايات تشير إلى ذلك المعنى.
فقد روى أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل يبتلي العبد على قدر إيمانه فإن كان صلب الإيمان شدد عليه البلاء ، وإن كان في إيمانه ضعف خفف عنه البلاء ).
وقد أخرج الحاكم في المستدرك و ابن أبي شيبة وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ( بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبل فتية من بني هاشم ، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اغرورقت عيناه وتغير لونه ، فقلت : ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه فقال : ( إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريدا وتطريدا ، حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود ، فيسألون الخير فلا يعطونه فيقاتلون فينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤوها قسطا كما ملؤوها جورا ، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج ).
وروى في فتح الباري والسيوطي والمناوي في فيض القدير وغيرهم عن عدد من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال ـ ما أوذي أحد ما أوذيت.
فالنبي محمد والأئمة من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ، هم حجج الله على عباده ، وهم المصطفون الأبرار وهم أفضل خلق الله ، فلماذا تعرضوا إلى الظلم والأذى وجميع أنواع الإبتلاءات ؟ وما علاقة الإبتلاء بهم وبنا ؟ وما أثر الإبتلاء عليهم وعلينا ؟ وما الذي يجب أن يكون عليه موقفنا تجاه ابتلاءاتهم ومظلومياتهم ؟.
والذي دفعني للبحث في الإبتلاء ، هو أنه وعلى مر تاريخنا الإسلامي ، لم يكن أحد أكثر ابتلاءً وتعرضا للظلم والتطريد والتشريد من أهل البيت وأتباعهم وشيعتهم ، كان ذلك منذ انتقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا ، وأتصور
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 4 _
أن ذلك صار يدركه كل من يقرأ التاريخ بإنصاف أو يتابع المحطات الفضائية وبشكل يومي.
لقد ذكر أئمتنا من أهل بيت النبوة والعصمة سلام الله تعالى عليهم وقالوا ( ما منا إلا مسموم أو مقتول ) ، ولو راجع المسلم المنصف تاريخ الإسلام والمسلمين ، لعرف بعضا مما تعرض له رسول الله وأهل بيته من الظلم والأذى والإضهاد ، ويكفي أن نتذكر مصيبة الحسين عليه السلام وأهل بيته وأنصاره ، حيث ظلموا وقتلوا في كربلاء وسلبوا وسبيت نساؤهم ، وليس البحث لسرد مظلوميات أهل البيت عليهم السلام ، فهناك أبحاث متخصصة في هذا المجال يستطيع القارئ أن يراجعها ويرجع إلى كتابنا سبيل المستبصرين ، ومن أجل البحث في هذا الموضوع ، فإنه لابد من الدخول في شرح ولو باختصار لبعض المصطلحات والمفاهيم الشرعية التي تنبثق عنها قضية الإبتلاءات ، لأنها كلها مرتبطة ببعضها.
كما أنه لا يمكن الوصول إلى حقيقة معنى الإبتلاء وأنواعه ونتائجه ، والإجابة على التساؤلات المطروحة بدون تقديم طرح عن العبودية لله تعالى وأوصافها ، والربوبية وحقوقها وبعض الأمثلة عليها من الشريعة المقدسة ، وكذلك بحث معاني الفتنة والتمحيص والإختبار والإستدراج وما يتعلق بتلك المفاهيم ، إذ لا يمكن تجريد معنى الإبتلاء وحقيقته عن كل تلك المعاني.
ولذلك كان لابد من التفصيل فيها عند وجود الضرورة لذلك ، ولو بتفصيل مختصر يفي بالغرض المطلوب ، فلا تستغرب عزيزي القارئ عند قراءة العنوان أو عند تداخل القضايا مع بعضها والتي تبدو وللوهلة الأولى وكأنه ليس لها علاقة في بحث الإبتلاء.
مفهوم الإبتلاء : أما بالنسبة لمعرفة الإبتلاء ومعناه وحقيقته ونتائجه وأنواعه ، وهو المهم في هذا البحث ، فالإبتلاء والبلاء هو الإمتحان والإختبار ، ويكون الإبتلاء في الخير والشر ، قال تعالى ( ونبلوكُم بالشَّرّ والخير فتنةً ).
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 5 _
وقال تعالى في سورة التوبة الآية : 126 { أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون }.
وقال تعالى في سورة العنكبوت الآيات : 1 ـ 3 { الم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }.
وقال تعالى في سورة النحل الآية 92 { إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون }.
وقال تعالى في سورة المائدة الآية 48 { ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات }.
وقال تعالى في سورة الملك ، الآية : 2 { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور }.
وقال تعالى في سورة الأنفال ، الآية : 25 { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب }.
وقال تعالى في سورة الأنفال الآية28 { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم }.
وقال تعالى في سورة الأنفال الآية : 73 { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير }.
وكما ترى فإن كلمة الإبتلاء والبلاء في الآيات الشريفة مرتبطة بكلمة الفتنة ، وهما تحملان نفس المعنى وهو الإختبار والإمتحان ، ولكن الفرق بين الإبتلاء والفتنة ، هو أن كلمة الإبتلاء تعني واقع الإبتلاء وحاله ، أما الفتنة فهي النتيجة المنيثقة عن الإبتلاء ، وعليه فإن معنى الإبتلاء هو حال وواقع الإبتلاء والفتنة هي النتيجة له.
والآيات مرة تطرح الفتنة مقترنة بالإبتلاء في نفس الآية ، ومرة نجد كلمة الفتنة لوحدها ، ومرة كلمة الإبتلاء لوحدها.
وكما قلنا فإن الفتنة هي نتيجة الإمتحان والإختبار التي ربما تكون استدراجا وبعدا عن الله تعالى ، وربما تكون نجاحا وترقية ومزيد قرب من الله ، وأما الإبتلاء فهو حال وواقع الإبتلاء من جميع نواحيه.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 6 _
والإبتلاء : هو تعرف من الله تعالى إلى عبده ، حتى يقيم الحجة عليه ، وحتى يشهد العبد ويظهر حقيقة ظاهره وباطنه أمام الله تعالى ، وهذا التعرف يطلق عليه العلماء العارفون بالله التعرف الجلالي وقد يصل البعض ( كالأنبياء وأهل البيت والصديقين من الأولياء ) إلى درجات عالية من التمكن الإيماني ويعتبرونه عطاء جماليا.
أما لماذا أطلق على الإبتلاء بأنه تعرف جلالي ؟ ، ذلك أن النفس البشرية من طبيعتها تحب النزوع إلى الراحة والخمول ومراقبة غرائزها وإشباعها ، فإذا ما تعرضت لنوازل قهرية وتعرفات جلالية مثل الأمراض والأوجاع والشدائد والأهوال وكل ما يثقل على
النفس ويؤذيها ويؤلمها كالفقر والذل وأذية الخلق وغير ذلك مما تكرهه النفس البشرية
بطبعها من ضغوطات نفسية أو جسدية أو فكرية ، فإنها تنزعج وتقلق وتضطرب ، فالإنسان
لايحب كل تلك النوازل القهرية ، ويطمح دائما إلى ما فيه راحته النفسية والجسدية
والعقلية وإلى كل ما يطيل عمره وأمله في الحياة الدنيا ، وهذا ما يفسر الإقبال الشديد
على الدنيا وزخرفها وزبرجها ، وعلى النفس وشهواتها وأهوائها من أغلب الناس ونسيان
الآخرة.
قال تعالى في سورة آل عمران الآية 14 { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع
الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب }.
وأما بقية الناس الذين يرغبون في الآخرة ويستعدون لها فهم في حالة صراع ونزاع مع الدنيا والنفس وهو ما أطلق عليه النبي الأكرم وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام المجاهدة والجهاد الأكبر.
روى السيوطي في الجامع الصغير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لقوم رجعوا من الجهاد قال ـ قدمتم خير مقدم ، وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر : مجاهدة العبد هواه.
فالمجاهدة هي محاولة تغيير مسار حياة العبد من النزوع إلى الدنيا ، والتوجه في السلوك إلى الآخرة عن طريق تقييد النفس وشهواتها وأهوائها بقيود شرعية ربانية ، وهو ما يسميه العلماء العارفون بالله بالتحلية والتخلية ، أي
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 7 _
تحلية النفس بالصفات والأخلاق الإسلامية الفاضلة ، وتخليتها من كل خلق وسلوك مذموم ذمه الشارع المقدس وحذر منه رسول الله والأئمة من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام.
ومع وجود النية الصادقة والإرادة الصالحة ، والعزيمة القوية ، والإخلاص لله تعالى ، ومتابعة الرسول الأكرم وأهل بيته المعصومين والإقتداء بهديهم ، فإن الله تعالى يوفق لتلك المجاهدة ، وينير للعبد طريقه ويهديه إلى الصراط المستقيم ، قال تعالى في سورة العنكبوت ، الآية : 69 { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }.
ولذلك كانت الإبتلاءات وبشكل عام ، تزعج الإنسان وتذكره بأن هذه الدار دار فناء لا دار بقاء ، وتذكره بربه ومصيره وآخرته.
فعادة ما يكون الإبتلاء بما يخالف رغبات النفس وغرائزها وحاجاتها من كل تلك الأنواع التي ذكرناها ، ولكنها إذا نزلت بما يتوافق مع رغبات النفس وشهواتها ، كانفتاح الدنيا وزينتها وزخرفها ، فإن ذلك ربما يكون استدراجا للعبد ولذلك يستشهد المستدرجون من الناس بقول يرفعونه أمام كل من يعترض على سلوكهم وأفعالهم ، وهذا القول المشهور هو ( لولا أنني على حق ما أعطاني الله النعمة ) وقول آخر يعشش في أذهانهم يرددونه عند حصول مخالفة عند الآخرين فيتغاضون عن قبح أفعالهم وسوء سلوكهم بقولهم ( نحن أولياء بالنسبة إلى الناس ) ولا يلتفت إلى قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا رأيتم الله عز وجل يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج ) ولذلك كان من الواجب على العبد أن يدرك ماهية تلك المفاهيم كالإبتلاء والتمحيص والفتنة والإختبار والإستدراج وغير ذلك ، حتى إذا ما نزلت به نازلة من تلك النوازل ، فإنه يستطيع أن يتصرف التصرف الشرعي اللائق ، على نور وبصيرة من ربه.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 8 _
أركان الإبتلاء : إن على العبد المؤمن الذي يرجوا رحمة ربه ورضوانه أن يتذكر دائما أربع قضايا أساسية يرتكز عليها الإبتلاء وهي :
أولا : معرفة المبتلي والممتحن.
وثانيا : معرفة المبتلى من زاوية العبودية.
وثالثا : كيف يتصرف العبد المبتلى أثناء الإبتلاء.
ورابعا : نوع الإبتلاء ونتائجه.
من هو المبتلي والممتحن ؟
فهو الله تعالى ، خالقنا وبارئنا ، الذي له الأمر والخلق ، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، ربنا وسيدنا ومولانا ، الذي يعلم كل شيء ، ويعلم ما ينفعنا ويصلحنا ، ويضرنا وينفعنا ، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ، فقد نسب الإبتلاء إلى نفسه من خلال الآيات القرآنية الشريفة قال تعالى في سورة النحل الآية 92 { إنما يبلوكم الله به } وقال تعالى في سورة الأنعام الآية 165 { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم } ، وقال تعالى في سورة الملك الآية 2 { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور } ، وقال تعالى في سورة محمد الآية 31 { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } ، وقال تعالى في سورة آل عمران الآية 154 { وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم } ، وقال تعالى في سورة البقرة الآية 249 { إن الله مبتليكم بنهر } ، وهناك آيات أكثر مما ذكرت تدل على ما ذهبنا إليه.
وبناء على ذلك فإن الله تعالى جعل الثواب والعقاب في الآخرة ، وجعل الدنيا دار ابتلاء واختبار ، فليست الدنيا دار جزاء للمؤمن ولا دار عقاب للكافر ، فكانت دار امتحان واختبار قدر الله تعالى لها ذلك ، حتى تكون محل عمل يعمل فيها العبد ويبنى لآخرته ، أو ينسى نفسه فيها ويظن أنها دار مقر ، فقد جعلها الله دارا يشهد فيها العبد على حقيقة ذاته وأعماله ظاهرها وباطنها.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 9 _
روى في كنز العمال والديلمي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( يا أيها الناس ، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء ، ودار ترح لا دار فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشدة ، ألا وإن الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى ، والآخرة دار عقبى ، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة ، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا
عوضا ، فيأخذ ويبتلي ليجزي ، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها واحذروا لذيذ عاجلها
لكربة آجلها ، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها ، ولا تواصلوها وقد أراد
منكم اجتنابها ، فتكونوا لسخطه متعرضين ولعقوبته مستحقين ).
قال الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة ( إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزوّد منها ، ودار موعظة لمن اتعظ بها ، مسجد أحباء الله ومهبط وحي الله ، ومتجر أولياء الله ، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة ).
وروي عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال ـ لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن الدنيا إلى الآخرة.
وروي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين ( عليهما السلام ) أنه سئل : من أعظم الناس خطراً ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( من لم ير الدنيا خطراً لنفسه ).
وأما المبتلى فهو العبد الجالس على بساط العبودية لله تعالى ، قال تعالى في سورة الذاريات ، الآية : 56 { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }.
ولذلك كانت العبودية لله أساس وجود وحياة العبد في الدنيا ، يتلقى من ربه كل ما يصلح له وينفعه في رحلته الدنيوية ، فإذا عرف الإنسان أنه عبد فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه.
ذكر العارفون بالله تعالى أن العبودية جوهرة كنهها الربوبية ، وهذا يعني أن للعبودية أركان وأسس ، من أدركها وفهمها وأسس عبوديته عليها ، فإنه حتما سوف يصل إلى معرفة حقيقة وجوده والمراد منه.
فالعبودية لله تعالى هي التذلل والافتقار للواحد القهار مالك الحكم والاختيار ، وهي الإستسلام والإنقياد لله تعالى في كل حال.
وهذه المعاني تقتضي منا معرفة أوصاف العبودية حتى يتحقق بها العبد ، وأهم تلك الأوصاف ، هي الضعف والجهل والذل والفقر من العبد بين يدي ربه وسيده ، فمن تحقق بها وما يبتنى عليها من أوصاف ، يكون قد حقق معنى العبودية في ذاته وسلوكه.
ويقابل كل صفة من صفات العبودية صفة من صفات الربوبية لا يجوز للعبد أن يتجاوزها أو يتعدى عليها فالذل والفقر من أوصاف العبودية يقابلهما العز والكبرياء من أوصاف الربوبية فقد روى أحمد والحاكم والنسائي وابن ماجة ومسلم في صحيحه عن ابن عباس
وغيره الحديث القدسي قال ـ قال الله تعالى : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري ، فمن
نازعني واحدا منهما قصمته ، وفي لفظ آخر ـ ألقيته في جهنم.
وإذا نظرنا إلى صفات الله ، وأخذنا كل صفة من صفات الربوبية فإن عكسها يكون للعباد ، فهو الخالق ونحن المخلوقين وهو الرب ونحن العبيد وهو الملك ونحن المملوكون وهو الغفار ونحن المذنبون وهو العليم ونحن الجهلاء ، وهكذا بقية الصفات ،
وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذه المعاني وبشكل صريح في القرآن الكريم ، نذكر عددا من
الآيات الشريفة توضح ذلك.
قال تعالى في سورة فاطر الآية : 15 { يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد } ، فنحن الفقراء وهو الغني.
وقال تعالى في سورة هود الآية 66 { إن ربك هو القوي العزيز } ، فهو عز وجل القوي العزيز ونحن الضعفاء الأذلاء.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 11 _
وقال تعالى في سورة النساء الآية 139 { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا }.
وقال تعالى في سورة البقرة الآية 216 { عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } ، فهو العالم ونحن لا نعلم ، ومن تمعن في آيات القرآن الكريم فإنه يجد مئات الآيات التي تبين أوصاف الربوبية وأوصاف العبودية ، ولذلك فإن العبد المؤمن الصالح الذي يعمل على تحقيق أوصاف
العبودية يستمد قوته من الله القوي ويعالج فقره بالله الغني ، ويستمد علمه من الله
العالم ، ويرفع ذلته بالله العزيز ، فهو غني بالله قوي بالله عزيز بالله عالم بالله
قال تعالى في سورة البقرة الآية 282 { واتقوا الله ويعلمكم الله }.
وعليه فإن على العبد أن يجلس على بساط العبودية في هذه الحياة ويعمل على أن يتحقق بما منحه الله من أوصاف ، حتى يتأكد معنى الصلة بين العبد وربه ، ويتجسد معنى العبودية عند أداء العبد العبادات كالصلاة والحج والصيام والدعاء والتضرع والمناجاة وغيرها من الطاعات كالزكاة والصدقات بالكيفية التي علمنا الله إياها ، فإذا حقق العبد من خلال العبادة ، التخشع والتذلل والخضوع والفقر وأداها لله خالصة ، كان من جناب الربوبية القبول والمدد بالعزة والقوة ، وكانت الصلة بالله أقوى وأوثق ، فكلما كان التحقيق بأوصاف العبودية أقوى كانت الصلة بالله أوثق والقبول والإستجاية أوكد ، قال تعالى في سورة غافر الآية 60 { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } ، وربما يدرك العبد معنى العبودية أكثر كلما كانت الضرورة لحاجات الحياة أكثر وأشد ، فلو أخذنا مثلا من العبادات صلاة الإستسقاء ، عند انحباس المطر وفقد عنصر من أهم عناصر الحياة ، فالحكم حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة مع التوبة النصوح ، وقد استسقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المصلى متواضعا متذللا
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 12 _
متخشعا متوسلا متضرعا وحسبك به فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد.
طاعة رسول الله والأئمة من أهم مظاهر العبودية : وأرجوا أن نلاحظ الآيات التالية التي تضيف معنى آخر للعبودية ، وهي طاعة رسول الله وأوصياءه لأن طاعتهم عبودية لله تعالى واستسلاما لأمره ، ويستحيل تحقيق معنى العبودية لله تعالى بدون طاعتهم وولايتهم ، وأي عمل لا يرتبط بهم وبولايتهم وطاعتهم لا يقبل.
روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( لو أن رجلا صفن بين الركن والمقام ، فصلى ، وصام ، ثم لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمد دخل النار ) ، رواه الطبراني ، وفي كنز العمال ، وفي مجمع الزوائد ، ورواه ابن حبان وقال رجاله رجال الصحيح.
ومن أجل تأكيد دورهم ، وكيف أن الله تعالى قد خصهم بالمدد الإلهي الخاص حتى يكونوا وسيلة بيننا وبين الله تعالى حتى يعلموا الجهلاء ويغنوهم ويزكوهم ، ويتفضلوا على عباد الله بالنور والهداية أثناء رحلة تحقيق معنى العبودية في ذاتنا وسلوكنا وظاهرنا وباطننا ، فقد جعل الله تعالى طاعته مقترنة بطاعتهم ، وقضاءه بقضائهم ، وحربه حربهم ، وسلمه سلمهم وغير ذلك من ما بينته الآيات القرآنية ، وسأذكر بعضا منها على سبيل المثال والإختصار ، ولا يتسع المجال لذكرها مفصلة ، ولكن وقبل ذلك أذكر بأن الله قد شرط على العباد قبول طاعاتهم إذا تقدمها ذكر محمد وآل محمد ، فالصلاة وإن تحققت فيها أوصاف العبودية غير أنه لم يصلى فيها على محمد وآل محمد لن تقبل ، وهذا ما أجمع عليه كل علماء المسلمين ، وبشتى طوائفهم.
قال تعالى في سورة النساء الآية 80 { ومن يطع الرسول فقد أطاع الله } ، وقال تعالى في سورة آل عمران الآية 132 { وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون }.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 13 _
وقال تعالى في سورة النساء ، الآية : 59 { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }.
روى الطبري والمتقي الهندي في كنز العمال وغيرهم كثير عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا بني عبد المطلب ! إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعا وقلت : يا نبي الله ! أكون وزيرك عليه ؟ فأخذ برقبتي ثم قال : هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا.
وقال تعالى في سورة التوبة الآية 59 { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله ، سيؤتينا الله من فضله ورسوله ، إنا إلى الله راغبون }.
وقال تعالى في سورة التوبة الآية 74 { وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله }.
وقال تعالى سورة البقرة الآية 151 { كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } ، أي أنه تعالى فوض أمر تعليم العباد وتزكيتهم لرسوله صلى الله عليه وآله ، جعله المصدر لذلك والواسطة بيننا وبين ربنا ، والوسيلة للوصول إليه.
وقال تعالى في سورة التوبة الآية 105 { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ، وهذه تدل على أن أعمالنا مراقبة في ظل رؤية الله لنا ومتابعة الرسول والأئمة المعصومين لأعمالنا.
وقال تعالى في سورة الأحزاب ، الآية : 36 { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا }.
جعل الله قضاءه وقضاء رسوله واحدا ، وعصيان العباد لقضاء رسول الله هو نفس عصيان قضاء الله تعالى.
وقال تعالى في سورة الفتح الآية 10 { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله }.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 14 _
وقال تعالى في سورة البقرة الآية 279 { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله }.
أي حرب رسول الله هي حرب الله نفسها ، وهناك عشرات الآيات غير التي ذكرنا ، تدلل بشكل واضح وصريح على أن العبودية لله تعالى تمر من خلال طاعة رسول الله وأهل بيته الطاهرين المعصومين ، كما أن الأحاديث النبوية الصحيحة المتعلقة بطاعة وولاية أهل البيت أكثر من أن تحصى في مصادر كل طوائف المسلمين.
روى الحاكم في المستدرك عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليا فقد أطاعني ، ومن عصى عليا فقد عصاني ، ورواه في كنز العمال.
لقد جعل الله سبحانه وتعالى ذكر أهل البيت عبادة ، وفرض على المسلمين الصلاة على رسول الله بشرط أن يذكر أهل البيت عليهم الصلاة والسلام معه ، كما أنه تعالى اسمه جعل النظر إلى وجوههم عبادة.
فقد روى السيوطي في الجامع الصغير ، والديلمي في مسند الفردوس عن أم المؤمنين عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (ذكر علي عبادة) ، ورواه في كنز العمال ، وروى الطبراني في الكبير ، والحاكم في المستدرك عن عمران بن الحصين وعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (النظر إلى وجه علي عبادة) ، ورواه ابن عساكر ، وفي مجمع الزوائد ، وابن حبان ، والحديث ورد من رواية أحد عشر صحابيا بعدة طرق وتلك طرق عدة التواتر.
مصير من ترفع عن العبودية وتطاول على الربوبية : ولنعد إلى موضوع العبودية وأوصافها ، ونضرب بعض الأمثلة من القرآن والسنة حتى يتضح المعنى ويتوضح.
فإذا ادعى إنسان القوة التي اختصها الله لنفسه ، وجعلها من أوصاف الربوبية ولا تصلح للعبد إلا إذا كانت بالله ومن الله ، فلو ادعاها عبد ضعيف ولم يستمد قوته من الله القوي العزيز ، فإنه يضع نفسه في موضع لم يرضاه الله له ، لأنه
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 15 _
بالأصل ضعيف ، وأنى له القوة إذا لم تكن من الله مالك القوة جميعا ، وبالتالي فإن ذلك العبد سوف يخرج عن معنى العبودية لله ويدعي الربوبية لنفسه ، ثم يكون مصيره أن يؤكد الله تعالى له ضعفه وعجزه ويقصمه ثم يلقي به في جهنم ، وهذا ما حصل مع الطاغية فرعون ، الذي ادعى القوة لنفسه ثم تطور إلى التجرؤ على رب العزة ، وادعاء الربوبية والتأله على العباد ، فأهلكه الله تعالى بعد أن كشف ضعفه وفقره وذلته ، وهذا يبشر بمصير كل الطواغيت في هذا العصر ، الذين يدعون التفرد بالقوة ويتسلطون على خلق الله وعباده المؤمنين بالظلم والقهر والأذى ، فتلك نهاية محتومة لمن خرجوا عن عبوديتهم لله ، وفطرتهم التي فطرهم الله عليها.
قال تعالى في سورة النازعات الآية 15 ـ 26 { هل أتاك حديث موسى ، إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ، اذهب إلى فرعون إنه طغى ، فقل هل لك إلى أن تزكى ، وأهديك إلى ربك فتخشى ، فأراه الآية الكبرى ، فكذب وعصى ، ثم أدبر يسعى ، فحشر فنادى ، فقال أنا ربكم الأعلى ، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى }.
وقال تعالى في سورة القصص { وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين ، واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ،
فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ، وجعلناهم أئمة
يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ، وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم
القيامة هم من المقبوحين }.
وكذلك لو ادعى عبد الغنى الذي لا يصلح للعبد إلا بالله ، فإنه يخرج عن حقيقته البشرية ، فنحن الفقراء إلى الله وهو تعالى الغني ، فالإنسان مهما امتلك في هذه الدنيا الفانية ، ووصل إلى أعلى حالات الغنى والتملك ، فإن ذلك لا يخرجه عن حقيقة
فقره وحاجته إلى الله تعالى ومدده ، فإذا خرج عن أصله ولم يستمد غناه من الله ، فإنه
سوف يدعي التفرد بالغنى ويدعي ما ليس له ، ومن ادعى ما ليس له فضحته شواهد الإمتحان ،
وسوف يكون مصيره مثل مصير قارون
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 16 _
الذي ادعى الغنى لنفسه ، ولم ينسبه إلى الله تعالى ، ولم يعترف بالعبودية لله ، فخسف الله به وبماله الأرض ، ليكون عبرة لكل من يتفرد بالغنى ويدعيه لنفسه ويخرج عن طور العبودية لله الغني الحميد ، وهذا يبشر بمصير المتجبرين الذين يتلاعبون في أرزاق عباد الله المؤمنين ، ويظنون أنهم هم الذين يرزقون الناس ويتفضلون عليهم بالإنتعاش الإقتصادي والرفاهية ولو على حساب العبودية لله تعالى.
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة القصص الآيات : 76 ـ 82 { إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين ، قال إنما أوتيته على علم عندي ، أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من
القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ، فخرج على قومه
في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ
عظيم ، وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها
إلا الصابرون ، فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما
كان من المنتصرين ، وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق
لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون }.
وقال تعالى قي سورة العنكبوت ، الآية : 39 ـ 40 { وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ، فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }.
وقال تعالى في سورة فصلت الآية 13 ـ 16 { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 17 _
ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون ، فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون ، فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا
ينصرون }.
وقال تعالى في سورة العلق { كلا إن الإنسان ليطغى ، أن رآه استغنى }.
تلك كانت بعض الأمثلة على من ادعى ما ليس له من أوصاف الربوبية التي لا تنبغي للعباد ، فظلموا أنفسهم وعتوا وتجبروا واستكبروا على العبودية ، وتطاولوا على مقام الربوبية ، فكانت النتيجة أن أهلكهم الله تعالى ، بعد أن أظهر ضعفهم وعجزهم وخستهم وذلتهم ، حتى يكونوا عبرة لكل من يخرج عن مقام العبودية لله تعالى.
ومن المناسب أن نذكر عن العبد المؤمن الصالح نبي الله سليمان عليه السلام الذي ملكه الله تعالى الأرض ومن عليها وآتاه ملكا عظيما ، فلم يزيده كل ذلك إلا عبودية وطاعة لله تعالى.
قال تعالى في سورة النمل الآيات 36 ـ 40 { فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ، ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ، قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ، قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين ، قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم }.
إن تصرفات وسلوكيات العبد المؤمن المطيع لله تعالى ، تكون دائما من منطلق العبودية لله تعالى ، ويعتبر ذلك شرف عظيم منحه الله إياه ، ولذلك مدح الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وآله بالعبودية فقال في سورة الإسراء
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 18 _
الآية 1 { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير }.
يقول الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه : إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار ، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار.
ويقول الأمام علي عليه السلام مناجيا رب العزة ـ إلهي ما عبدتك ـ حين عبدتك ـ خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنتك ، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك.
ويقول الإمام الصادق عليه السلام في زيارة جده الإمام الحسين عليه السلام في يوم الأربعين : وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة.
إذ أن أعلى شرف للإنسان أن يكون عبدا لله تعالى على بساط العبودية متحققا بأوصاف العبودية قائما بحقوق الربوبية متبعا لأوامر الله كلها مطيعا مستسلما له ، من
الإيمان بالله تعالى وبنبوة محمد وإمامة علي والأئمة من ولده الذين اجتباهم الله
واختارهم هداة لعباده ، وهذا كله لمن يدرك أنه عبد لله عليه السمع والطاعة لربه من
على بساط العبودية حتى تصح وتصلح الصلة بينه وبين ربه ، ولذلك تجد العبد المؤمن
المؤدب بآداب ربه دائما يردد أنا فقير إلى الله محتاج إلى الله ، غني بالله عزيز
بالله ، قوي بالله عالم بالله ، لأن الله تعالى هو الذي يمد عبده بالقوة والعزة
والعلم والغنى وما إلى ذلك من أوصاف كريمة.
لقد جسد النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين المعصومين معنى العبودية وتحققوا بكامل أوصافها ، وأدوا حقوق الربوبية لله تعالى فكانوا مطهرين معصومين كما أخبر عنهم القرآن الكريم في آية التطهير ، قال تعالى في سورة الأحزاب { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا }.
روى البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، فقلت له : لم تصنع هذا يا رَسُول اللَّهِ وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال ـ أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 19 _
أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في التفكر وابن المنذر وابن حبان في صحيحه وابن مردويه والأصبهاني في الترغيب وابن عساكر عن عطاء قال ( قلت لعائشة أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : وأي شأنه لم يكن عجبا ! إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثم قال : ذريني أتعبد لربي ، فقام فتوضأ ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره ، ثم ركع فبكى ، ثم سجد فبكى ، ثم رفع رأسه فبكى ، فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة فقلت : يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال : أفلا أكون عبدا شكورا.
وأما عبودية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والسيدة فاطمة الزهراء والأمام الحسن والإمام الحسين سلام الله تعالى عليهم جميعا ، فكانت استسلاما كاملا لله تعالى في جميع نواحي الحياة ، فقد نذروا أنفسهم لله تعالى ، ويكفيهم شرفا سورة الدهر التي نزلت في حقهم قال تعالى في سورة الدهر { إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا } ، قال الإمام الحسن بن علي عليه السلام يصف حالة من حالات العبودية للسيدة فاطمة
الزهراء عليها السلام قال ـ رأيت أمي فاطمة الزهراء عليها السلام قامت في محرابها
ليلة جمعة ، فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح ، وسمعتها تدعوا للمؤمنين
والمؤمنات وتسميهم ، وتكثر الدعاء لهم ولاتدعوا لنفسها بشيء ، فقلت لها يا أماه لم
لاتدعين لنفسك كما تدعين لغيرك ؟ فقالت يا بني الجار ثم الدار.
وقال الحسن البصري ـ ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة الزهراء عليها السلام ، كانت تقوم حتى تورمت قدماها.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال : ( لقد دخل الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام على الإمام السجاد علي بن الحسين ـ فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، فرآه قد اصفرّ لونه من السهر ، ورمضت عيناه من البكاء ، ودبرت جبهته ، وانخرم أنفه من السجود ، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة ،
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 20 _
قال أبو جعفر الباقر عليه السلام : فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء ، فبكيت رحمة له ، وإذا هو يفكر ، فالتفت إليّ بعد هنيهة من دخولي وقال : يا بنيّ ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام ، فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً ، ثم تركها من يده تضجراً وقال : من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام : كان علي بن الحسين عليه السلام إذا قام في الصلاة تغير لونه فإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقاً.
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال كان علي بن الحسين عليه السلام يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة ... وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لونا آخر ، وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل.
عن الإمام الباقر عليه السلام : إن أبي علي بن الحسين عليه السلام ما ذكر نعمة الله عليه إلا سجد ، ولا قرأ آية من كتاب الله عزوجل فيها سجود إلا سجد.
ولا دفع الله تعالى عنه سوءً يخشاه أو كيد كايد إلا سجد ، ولا فرغ من صلاة مفروضة إلا سجد ، ولا وفق لإصلاح بين اثنين إلا سجد ، وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده ، فسمي السجاد لذلك.
لقد جسدوا معنى العبودية لله تعالى في أدعيتهم ، فهذا الإمام أبي عبد الله الحسين سلام الله تعالى عليه يناجي رب العزة في دعاء يوم عرفه ، ويقدم بين يدي دعائه
إعترافا بأوصاف العبودية وأداء لحقوق الربوبية فيقول سلام الله تعالى عليه ـ ( إلهي
أنا الفقير في غناي ، فكيف لا أكون فقيرا في فقري ، إلهي أنا الجاهل في علمي ، فكيف لا أكون جهولا في جهلي ).
وكان أيضا من دعاء الإمام علي بن الحسين الإمام السجاد زين العابدين دعاء التذلل : ( مولاي مولاي ، أنت المولى وأنا العبد ، وهل يرحم العبد إلا المولى ،
مولاي مولاي ، أنت العزيز وأنا الذليل ، وهل يرحم الذليل إلا العزيز.
مولاي مولاي ، أنت المالك وأنا المملوك ، وهل يرحم المملوك إلا المالك.
مولاي مولاي ، أنت الخالق وأنا المخلوق ، وهل يرحم المخلوق إلا الخالق.
مولاي مولاي ، أنت المعطي وأنا السائل ، وهل يرحم السائل إلا المعطي.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 21 _
مولاي مولاي ، أنت المغيث وأنا المستغيث ، وهل يرحم المستغيث إلا المغيث.
مولاي مولاي ، أنت الباقي وأنا الفاني ، وهل يرحم الفاني إلا الباقي.
مولاي مولاي ، أنت الدائم وأنا الزائل ، وهل يرحم الزائل إلا الدائم.
مولاي مولاي ، أنت الحي وأنا الميت ، وهل يرحم الميت إلا الحي.
مولاي مولاي ، أنت القوي وأنا الضعيف ، وهل يرحم الضعيف إلا القوي.
مولاي مولاي ، أنت الغني وأنا الفقير ، وهل يرحم الفقير إلا الغني.
مولاي مولاي ، أنت الكبير وأنا الصغير ، وهل يرحم الصغير إلا الكبير).
وكان من دعاء الإمام موسى بن جعفر الكاظم سلام الله تعالى عليه : ( اللهم عد على جهلي بحلمك ، وعلى فقري بغناك ، وعلى ذلي بعزك وسلطانك ، وعلى ضعفي بقوتك ، وعلى خوفي بأمنك ، وعلى ذنوبي وخطاياي بعفوك ورحمتك يا رحمان يا رحيم ).
هذه نماذج من أدعية أهل البيت سلام الله تعالى عليهم ، أظنها واضحة الدلالة في تبيان معنى العبودية وأوصافها ، ( ومن أراد المزيد من أدعية أهل البيت عليهم السلام فعليه بالصحيفة السجادية ، وكتب الأدعية المختارة كمفاتيح الجنان وضياء الصالحين وغيرها ) فهم يعلموننا أوصاف العبودية التي يجب على العبد المؤمن أن يحققها في ذاته وسلوكه ، وكلما تحققت كان العبد أقرب إلى ربه ، ذلك أن العبد إذا عرف أوصافه فمن المحتوم أن يعرف ربه كما بينت ذلك أدعية أهل البيت ، فعندما يعرف العبد أنه مخلوق يعرف الخالق ، وعندما يعرف أنه ضعيف يعرف أن ربه هو القوي ، وهذا ما تتميز به أنواع الإبتلاء التي سأبينها في مواضعها إن شاء الله تعالى.
وكما ضربنا أمثلة على من ادعى ما ليس له من أوصاف الربوبية من القرآن الكريم من طواغيت عصورهم كفرعون وقارون ، نتطرق إلى قضية أهم عانت ولازالت الأمة الإسلامية تعاني منها ومن آثارها ، نضرب مثلا على أساس من أسس العبودية وهو الجهل ، فالعبد في حقيقته جاهل ، ولا يمكن أن يعلم إلا بالله ومن الله عن طريق الأنبياء والأوصياء الذين اختارهم لنا الله ، فمهما بلغ العبد
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 22 _
من العلم والمعرفة لا يمكن أن يصل إلى حد الإحاطة ، ولابد أن يبقى محتاج إلى الرب تعالى ، فكيف يمكن للعبد الجاهل أن يعرف ما يريد الله منه ، لولا اختيار الله تعالى لمن يخبر عنه ما يريد منا ، لأننا نعجز عن معرفة شريعة الله وأمره ونهيه من أنفسنا ، ولا نعرف ما يصلحنا أو يفسدنا ، ولا نعرف ما يهدينا أو يضلنا إلا أن يخبرنا الله تعالى عن ذلك ، فنحن في مقام الجهل ، ولذلك اختار الله تعالى لنا رسوله الأكرم محمدا وأوصياءه الأئمة من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام وفوض إليهم ذلك ، ودور العباد هو الطاعة لهم وموالاتهم وإتباعهم والإقتداء بهديهم ، وقد أمر الله الناس بموالاتهم وطاعتهم ، وأدلة الطاعة لرسول الله وأهل بيته واضحة جلية في القرآن الكريم ذكرنا بعضا منها في هذا البحث.
لكن المصيبة أن يخرج الجهلاء عن بساط العبودية ، ولا يعترفون بجهلهم ويتطاولون على مقام الربوبية ، ولا يطيعون الله ورسوله فيما يريده منهم ويأمرهم به ، فهذا هو الضلال بعينه بل وربما أكثر من ذلك والعياذ بالله.
فعندما أمر الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وآله أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه فيما يتعلق بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، فالواجب على العبيد أن يطيعوا أمر ربهم ، في إختيار من يخلف رسول الله بعد وفاته.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم ، في علي بن أبي طالب.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } أن عليا مولى المؤمنين { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس }.
أما صيغة الأمر الإلهي علي لسان رسول الله يوم غدير خم فكانت كما في الروايات التالية.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 23 _
فقد روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عدد كبير من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وآله خطب يوم غدير خم قال ـ من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ... ثم نزلت في ذلك اليوم آية إكمال الدين وتمام النعمة وهي قوله تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } ، أي أن الله تعالى قد أكمل دينه بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وأتم علينا النعمة بذلك.
ويتوضح معنى ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ووصايته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، بالروايات المتضافرة والمتواترة في صحاح السنة ومسانيدها.
كحديث الثقلين ، والولاية ، والسفينة ، وغيرها من الأحاديث الصحيحة المتواترة التي لاتحتمل إلا معنى واحدا وهو ولاية أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام.
روي في كل صحاح المسلمين ومسانيدهم عن زيد بن أرقم قال : لما رجع رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ من حجة الوداع ، ونزل غدير خم ، أمر بدوحات ، فقممن ، فقال : كأني قد دعيت فأجبت ، إني قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله تعالى ، وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض.
ثم قال : إن الله ـ عز وجل ـ مولاي ، وأنا مولى كل مؤمن ، ثم أخذ بيد علي ـ عليه السلام ـ فقال : من كنت مولاه فهذا وليه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله.
وأخرج الحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ( مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ).
وأخرج أحمد والحاكم عن ابن مسعود ، أنه سئل كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال : سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : اثنا عشر كعدة بني إسرائيل.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 24 _
إن العبد مهما بلغ من العلم ما بلغ لا يمكن له أن يختار بعقله الناقص المحتاج من يكون وصي رسول الله ، ولذلك اقتضت الضرورة العقلية أن يكون البلاغ من الله ، والواجب على المسلمين الطاعة والإلتزام ، وليس تأويل معنى النصوص الشرعية وفق رغبات العبيد الجهلاء ، بل الأصل أن يتذكر الإنسان أن العبد عبد والرب رب ، فإذا خرج العباد عن موقعيتهم فالنتيجة هي غضب الرب والعصيان والحرمان والضلال.
ثم وقبل انتقال رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى ، دعا الصحابة وأمرهم أن يأتوه بدواة وكتف ، ليكتب لهم كتابا حتى لا يضلوا بعد رسول الله أبدا ، فهو صلى الله عليه وآله يعلمنا بالله وينيرنا بالله ويهدينا بالله تعالى إلى صراطه المستقيم ، فهو صلى الله عليه وآله ينطق بالوحي من الرب العالم الذي يعلم ما ينفعنا ويصلحنا ، ويجنبنا طريق الضلال والطغيان.
قال تعالى سورة الأنفال ، الآية : 20 { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون }.
فبعد أن أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده أبدا ، كثر لغط الصحابة ، وتنازعوا ولا ينبغي لهم أن يتنازعوا عند رسول الله ، ولا يعترضوا على أوامره.
قال تعالى في سورة الأنفال ، الآية : 46 { وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } ، لأن تكليف العبيد أن يسمعوا ويطيعوا رسول ربهم وسيدهم ، وأن يتذكروا أنهم عبيد وليس للعبد التطاول على أوامر سيده.
وبعد أن تنازعوا ، ولم يطيعوا وتمردوا على الله ورسوله ، رموا رسول الله بالهجر أي الهذيان والخرف ، وبدلا من أن يجيبوا رسول الله ، قالوا لبعضهم دعوه فإنه يهجر ثم زادوا على ذلك بأن قالوا لا نريد أمر رسول الله ولا نريد أن نسمع كلامه وتركوه ، وكان قائد تلك الحركة التمردية عمر بن الخطاب ومعه عددا كبيرا من الصحابة.
روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس ، أنه قال : يوم الخميس ! وما يوم الخميس ! ثم جعل تسيل دموعه ، حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ ، قال :
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 25 _
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ائتوني بالكتف والدواة (أو اللوح والدواة) أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ، فقالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر.
روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال : لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال : (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا من بعده) ، قال عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع ، وعندنا كتاب الله حسبنا ، فاختلفوا وكثر اللغط ، قال : (قوموا عني ، ولا ينبغي عندي التنازع) ، فخرج ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه.
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما حُضِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال ، فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : هَلُمَّ أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ، فقال عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول : قرِّبوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قوموا.
قال عبيد الله : فكان ابن عباس يقول : إن الرَّزيَّة كل الرَّزيَّة ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ، من اختلافهم ولغطهم ، لقد خرج أولئك عن حقيقة العبودية لله تعالى إلى عبودية أهوائهم وآرائهم ، وترفعوا عن الإعتراف بحقيقة جهلهم إستكبارا وعتوا ، وحسدا وبغضا ، وادعوا الأعلمية على الله ورسوله ، ونتيجة لذلك الرفض لكتاب رسول الله والترفع عن العبودية بعدم الإستجابة لرسول الله ، فإن كل ما نراه اليوم من ضلال وتمزق وتشرذم وخلافات وصراعات في الأمة الإسلامية ، وقتل للأبرياء ، وضعف شديد ، وتداعي الأمم الكافرة علينا ، كله نتيجة لرفض أمر رسول الله والترفع عن العبودية ، لأن رسول الله قال لهم لن تضلوا ، وقال لهم في موقع آخر لن
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 26 _
تضلوا ما إن تمسكتم بهما أي الكتاب والعترة الطاهرة ، وكرر ذلك طيلة حياته ، وكلامه حق وقوله صدق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
قال تعالى في سورة الأنفال ، الآية : 24 { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم }.
وقال تعالى في سورة النور الآية 63 { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }.
روى البخاري مسلم في صحيحهما عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال صلى الله عليه وسلم : ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم ، واختلافهم على أنبيائهم.
وروى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه.
ولم تكن تلك الحادثة هي الوحيدة التي خرجوا فيها عن حدود العبودية لله تعالى ، فقد كان هناك عشرات الحوادث ممتلئة بها كتب التأريخ الإسلامي ، فلنراجع قصة الحديبية عندما قيل لرسول الله ما قيل ، حيث شك البعض في نبوة محمد صلى الله عليه وآله ، وذلك لأنهم نسوا أن حقيقتهم الجهل ، فنسوا أنه رسول الله الذي ينطق عن الله ، ولا يفعل إلا ما يأمره الله به ، واعتقدوا أنهم أعلم من رسول الله ، وحاولوا فرض جهلهم على بقية المسلمين.
روى البخاري في صحيحه أن عمر بن الخطاب قال عن يوم الحديبية : فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت : ألست نبي الله حقا ؟ قال : بلى ، قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال : إني رسول الله ، ولست أعصيه ، وهو ناصري ، قلت : أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى ، فأخبرتك أنا نأتيه العام ، قال : قلت : لا ، قال : فإنك آتيه ومطوف به ، قال : فأتيت أبا بكر فقلت : يا أبا بكر ، أليس هذا نبي الله حقا ، قال بلى ، قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال : أيها الرجل ، إنه لرسول الله صلى الله
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 27 _
عليه وسلم ، وليس يعصي ربه ، وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه ، فوالله إنه على الحق ؟ قلت : أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ، قال : بلى ، قال الزهري : قال عمر : فعملت لذلك أعمالا ، قال : فلما فرغ من قضية الكتاب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : (قوموا فانحروا ثم احلقوا) ، قال : فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد.
قال عمر بن الخطاب : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ.
لاحظ في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله ، بعد أن أكد لعمر أنه رسول الله ، لم يقنع بذلك ، وذهب بعد جواب رسول الله إلى أبي بكر ، ثم بعد ذلك أكد أنه قام بإعمال ليمنع رسول الله من تنفيذ أمر ربه ، وبعد ذلك اعترف بأنه شك في نبوة محمد صلى الله عليه وآله.
وهناك أيضا مخالفتهم لرسول الله في معركة أحد وتركهم رسول الله ومعه أمير المؤمنين علي وهربوا إلى رؤوس الجبال ومنهم من رجع إلى أحضان قبائل المشركين ومنهم من كان ينتظر ليرى نهاية الأمر حتى يقرر مع أي جهة يميل.
وهروبهم يوم حنين ، حيث أعجبوا بما ليس لهم ، فأظهر الله حقيقة جبنهم وتخاذلهم ، وهربوا وتركوا رسول الله وأمير المؤمنين علي وثلة من مؤمني بني هاشم ، وستظهر لك الروايات إذا راجعتها أن كبار الصحابة كانوا من الهاربين.
قال تعالى في سورة التوبة الآية 25 { ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين }.
وروى البخاري عن أبي قتادة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام حنين ، فلما التقينا ، كانت للمسلمين جولة ، فرأيت رجلا من المشركين علا رجلا من المسلمين ، فاستدرت حتى أتيته من ورائه حتى ضربته بالسيف على حبل عاتقه ، فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت فأرسلني ، فلحقت عمر بن الخطاب فقلت : ما بال الناس ؟ قال : أمر الله.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 28 _
ثم تركهم لرسول الله يوم الجمعة يخطب ليلحقوا بركب أهل الدنيا ، قال تعالى في سورة الجمعة الآية : 11 { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين } ، ولم يبق مع رسول الله في المسجد سوى علي وفاطمة والحسن والحسين والمؤمنون من بني هاشم وبعض الصحابة الأبرار كعمار وبلال وسلمان وروي عنه عليه وآله الصلاة والسلام أنه قال : والذي نفسي بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا.
ورفع أصواتهم فوق صوت النبي قال تعالى في سورة الحجرات ، الآية : 2 { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون }.
روى البخاري ومسلم أن أبا بكر وعمر رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر ، قال نافع : لا أحفظ اسمه ، فقال : أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي ، قال : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا لاترفعوا أصواتكم }.
وتلاحيهم في المسجد أمام رسول الله الذي خرج ليخبرهم عن ليلة القدر ونتيجة لذلك حرم المسلمون من معرفتها.
روى البخاري عن أنس قال : أخبرني عبادة بن الصامت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر ، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال : إني خرجت لأخبركم بليلة القدر ، وإنه تلاحى فلان وفلان ، فرفعت.
وعندما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وآله أن الأئمة بعده إثنا عشر وأراد أن يسميهم ويعددهم وقال كلهم من بني هاشم ، بدأ القوم برفع أصواتهم وكثر اللغط حتى لايسمع الحاضرون ماذا يقول رسول الله.
روى أحمد في المسند عن جابر بن سمرة قال ـ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن هذا الدين لا يزال عزيزا إلى اثني عشر خليفة قال : ثم تكلم بكلمة لم أفهمها وضج الناس فقلت لأبي : ما قال قال : كلهم من قريش.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 29 _
وروى أحمد في المسند عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى إثني عشر خليفة فكبر الناس وضجوا وقال كلمة خفية قلت لأبي : يا أبت ما قال ؟ قال : كلهم من قريش.
وكذلك ترك الصحابة ونقضهم لعشرات الأحكام الربانية بعد وفاة رسول الله ، حيث حذرهم رسول الله مرارا وتكرارا قبل وفاته حتى لا يدعوا ما ليس لهم ويتطاولوا على مقام الربوبية.
روى الحاكم في المستدرك عن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة ، وليكونن أئمة مضلون ، وليخرجن على أثر ذلك الدجالون الثلاثة.
روى أحمد وابن حبان والحاكم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال ـ لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة ، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها ، فأولهن نقضا الحكم ، و آخرهن الصلاة.
روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إني فرطكم على الحوض ، من مر علي شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبدا ، ليردنَّ علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثم يحال بيني وبينهم قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال : هكذا سمعت من سهل ؟ فقلت : نعم ، فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري ، لسمعته وهو يزيد فيها : ( فأقول : إنهم مني ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي.
وروى البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وآله قال ـ إنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا ربَّ أصحابي ، فيقول : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح : ( وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم ـ إلى قوله ـ الحكيم ) ، قال : فيقال : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم.
ومن نظر في آيات القرآن الكريم التي تأمر بطاعة الله ورسوله ، من حيث كثرتها ، يتبين له أن ميول النفس تنزع إلى التمرد على العبودية ، إذ يكفي العبد
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 30 _
المؤمن المطيع أن يؤمر لمرة واحدة حتى يلتزم بطاعة ربه على بساط العبودية لله وحده.
فيجب على العبد المسلم أن يراقب عبوديته لله تعالى ، ومراقبة سلوكه وأفعاله ، وأن يتحقق بأوصاف العبودية في هذه الدنيا ، ويقوم بحقوق الربوبية ، لأجل الهدف الذي خلقنا الله تعالى من أجله ، ونقتدي في ذلك برسول الله والأئمة الأطهار من أهل بيته وأتباعهم وشيعتهم خير البرية ، الذين يعبدون الله تعالى عبادة الأحرار ، الذين التزموا بولاية أهل البيت عليهم السلام ، لأن عبودية الله تعالى لا يتم معناها إلا من خلالهم وموالاتهم وطاعتهم ، لأن طاعتهم من طاعة الله تعالى ، ومعصيتهم هي عين
معصية الله تعالى.
أما ما يجب أن يكون عليه حال العبد المؤمن أثناء الإبتلاء ، فهو ما أخبر عنه الله تعالى في القرآن الكريم ومن خلال الذين كلامهم نور رسول الله وأهل بيته المعصومين الطاهرين ، وأول حال يجب على العبد المؤمن هو الصبر.
قال تعالى في سورة البقرة الآية 155 { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون }.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله { ولنبلونكم ... } الآية ، قال : أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء ، وأنه مبتليهم فيها وأمرهم بالصبر ، وبشرهم فقال { وبشر الصابرين }.
وأخبر أن المؤمن إذا سلم لأمر الله ورجع واسترجع عند المصيبة كتب الله له ثلاث خصال من الخير : الصلاة من الله ، والرحمة ، وتحقيق سبل الهدى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفا صالحا يرضاه ).
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 31 _
وقال تعالى في سورة محمد الآية : 31 { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم }.
قال اللَّه تعالى في سورة آل عمران 200 { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا }.
وقال تعالى (الزمر 10) : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب }.
وقال تعالى (الشورى 43) : { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور }.
وقال تعالى (البقرة 153) : { استعينوا بالصبر والصلاة إن اللَّه مع الصابرين }.
روي في مصادر الشيعة وأهل السنة أن النبي صلى الله عليه وآله قال ( الصبر نصف الإيمان ) ، وقال ( الصبر كنز من كنوز الجنة ) ، وقال ( الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد ، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان ).
ثم بعد الصبر الرضا بقضاء الله تعالى وهو من أهم تصرفات العبد المؤمن أثناء الإبتلاء ، قال الإمام الصادق عليه السلام ( كيف يكون المؤمن مؤمنا وهو يسخط قسمته ، ويحقر منزلته ، والحاكم عليه الله ، وأنا الضامن لمن لم يهجس في قلبه إلا الرضا أن يدعوا الله فيستجاب له ).
وروي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال ( ومن سخط القضاء ، مضى عليه القضاء ، وأحبط الله أجره ).
وروي عنهم عليهم السلام أن النبي صلى الله عليه وآله قال ( إذا أحب الله عبدا ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن رضي اصطفاه ).
وكذلك على العبد المؤمن أن يكون متوكلا على الله قال تعالى { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ، وقال تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه }.
ثم على العبد أن يكون حسن الظن بالله تعالى ، حليما ، محتسبا ، والمهم أن لا يتجاوز حدود العبودية لله تعالى إذا حلت به نازلة ، وأن لا يستكبر ، وأن يتحلى بالأخلاق النبوية وأخلاق أهل البيت عليهم السلام ، وأكتفي بما ذكرت من آيات
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 32 _
روايات في الفضائل ، فلا مجال لذكرها في هذا البحث بتفاصيلها ، وأحيل القارئ العزيز إلى القرآن الكريم وكتب الأخلاق والفضائل الإسلامية الواردة عن أهل البيت عليهم السلام وما أكثرها ، لكنها بحاجة إلى من يطبق حكمها وأحكامها .
قال تعالى في سورة الواقعة الآية 7 ـ 12 { وكنتم أزواجا ثلاثة ، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ، والسابقون السابقون ، أولئك المقربون ، في جنات النعيم }.
هذه الآيات تبين أن أصناف الناس ثلاثة ، السابقون وأهل اليمين وأهل الشمال ، وهذا التصنيف يحدد ما كانوا عليه في الدنيا دار الإبتلاء والعمل.
أما الصنف الأول من الناس فهم السابقون ، وهم أهل البيت عليهم السلام ومن تبعهم ووالاهم بصديقية وإحسان ، ولذلك نستطيع القول بأن النوع الأول من الإبتلاء هو إبتلاء الصديقين.
أما الصنف الثاني فهم أهل اليمين ، وهم أهل الصدق في التوجه إلى الآخرة والعمل لها ، يتعرضون للإبتلاءات في هذه الدنيا من أجل تحديد موقعهم على مقياس ابتلاءات أهل اليمين ، ولنطلق على نوع ابتلائهم ، إبتلاء الصادقين.
وأما الصنف الثالث من الناس فهم أهل الشمال ، وابتلاآتهم تشمل المطرودين من رحمة الله الملعونين أهل العقوبة الفورية والمستدرجين أيضا ، ونسمي ابتلاءهم ، إبتلاء الكاذبين.
وعلى ذلك فإن الإبتلاء والإختبار والتعرف الجلالي يدور على ثلاثة محاور.
محور السابقين الصديقين ، وهم النبي والأئمة المعصومين من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ، ويشمل أيضا الصديقين من أبنائهم وأتباعهم ، كالسيدة زينب ، والعباس بن أمير المؤمنين ، والسيدة فاطمة المعصومة ، وكأصحاب الإمام الحسين وغيرهم من أمثالهم ، وهؤلاء ابتلاءاتهم عبارة عن ترقية لهم ورفعة ، وهي كشف لحقيقة رسوخهم وتمكنهم وصديقيتهم وسبقهم ، وهناك دور آخر لإبتلاءاتهم وهو أنها حجة على المشاهد والمستمع من عباد الله.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 33 _
وأما محور الإبتلاء الثاني فهو محور أهل اليمين ، وابتلاءاتهم تشمل دور تأديبهم وتنبيههم وتذكيرهم وتطهيرهم ، وأيضا لتمييز المدعي من غير المدعي لموقعية أهل
اليمين.
وأما المحور الثالث فهو محور أهل الشمال ويشمل عقوبتهم وطردهم من رحمة الله وفضحهم وكشف حقيقة استكبارهم ، وتشمل أيضا التأكيد على حقيقة ذاتهم وسلوكهم من خلال الإستدراج.
ولنعد إلى أنواع الإبتلاء بشكل مفصل أكثر بعد هذا التقديم البسيط من أجل إستيعاب موضوع انواع الإبتلاء بشكل أوضح.
النوع الأول :
وهو ابتلاء السابقين والصديقين المحسنين ، وهو ابتلاء الزيادة والترقي ، ونتيجته الرفعة والرقي في مقامات التمكين ، والرسوخ في منازل الأولياء والصديقين ، فبقدر الإمتحان يكون الإمتكان.
روى السيوطي في الدر المنثور قال أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى : { السابقون السابقون } قال : نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجار الذي ذكر في يس ، وعلي بن أبي طالب ، وكل رجل منهم سابق أمته ، وعلي أفضلهم سبقا.
قال الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في قوله تعالى { والسابقون السابقون أولئك المقربون } قال { نحن السابقون و نحن الآخرون }.
وروى في بحار الأنوار عن ابن عبّاس قال : سألت رسولَ الله صلّى الله عليه وآله عن قول الله عزّوجلّ { والسابقون السابقون أٌولئك المُقرَّبون } ، فقال : قال لي جبرائيل : ذاك عليٌّ وشيعته ، هم السابقون إلى الجنّة ، المقرّبون من الله بكرامته لهم.
قال تعالى في سورة النحل الآيتان : 127 ـ 128 { واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون }.
وقال تعالى { وسنزيد المحسنين } ، وقال تعالى { إن الله يحب المحسنين }.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 34 _
وقال تعالى { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله }.
وقال تعالى في سورة فاطر الآية : 29 ـ 30 { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ، ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور } ، وقال تعالى في سورة الشورى { ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله }.
وقال تعالى في سورة الفتح الآية 4 { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم }.
وعليه فإن المبتلى بهذا النوع من الإبتلاء لا يكون ممتحنا بقدر ما هو ترفيع وترقية وتمكين ورسوخ في المقامات العرفانية الفاضلة ، وكأن الله عندما ينزل الإبتلاء بعبده المؤمن المستسلم للإرادة الإلهية ، كأنه يباهي به ليظهر حقيقة صدقه وتمكنه وإخلاصه لربه ، وصدق عبوديته للواحد الأحد ، وليظهر على عبده صديقية ما في مكنونه من تحقيق للعبودية وقياما لحقوق الربوبية ، وليظهر أيضا محبوبية هذا العبد عنده ، فإذا أحب الله عبدا ابتلاه ليخرج من باطنه كل ما فيه حب وولاء واستسلام لأمره تعالى.
ولذلك إذا تجلى الرب على عبده المؤمن من خلال هذا النوع من التعرفات الجلالية ، فإن العبد لا يرى في ذلك التعرف إلا الجمال ، فلا يرى ما يراه البشر بطبيعتهم أثناء الإبتلاء من ألم أو جزع أو هلع ، ولا يفقد ثقته بالله تعالى ، ويحسن الظن به ، بل ويعتقد أن الله تعالى ما أنزل به تلك النوازل إلا لأنها خير له ، لأنه فوض أموره إلى الله ، لأن الله بصير بعباده فينقلب الإبتلاء والتعرف الجلالي إلى نعمة ومنة إلهية ، فحتى يسهل على نفسه جلال الإبتلاء ، فإنه يقلبه جمالا من ساعته ، فيقابل الشيء الذي يراه بضده قياما بحقوق الربوبية لله تعالى ، لأنه يدرك أن المبتلي هو الله ربه ، وهو العبد الذي ليس له أي اعتراض على سيده بل يقر ويعترف أن كل ما ينزل به هو الجمال.
ولنستمع إلى السيدة زينب بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام ، ونعيش معها لحظات جلالية حولتها إلى جمالية ، بعد أن رأت بأم عينها
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 35 _
مقتل أخيها الإمام الحسين عليه السلام وأبناءه وأصحابه وكذلك مقتل عدد من أبنائها عليها السلام ، ولم يثنيها ذلك عن ممارسة أعلى درجات العبودية لله تعالى والدعوة لدين الله تعالى ونهج رسول الله وأهل بيته المعصومين الطاهرين.
فعندما أدخل أسرى آل الرسول (موكب السبايا) إلى مجلس ابن زياد (عليه وأمثاله لعائن الله) ، وهو العتل الزنيم ابن المرأة الفاجرة وأبوه زياد الذي لم يعرف له أب فقيل زياد بن مرجانة أو زياد بن أبيه ، هنالك دخلت زينب متنكرة ، فلما توجه إليها ابن زياد قائلا من هذه المتنكرة ، قيل له إنها زينب بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فأراد ابن زياد أن يتشفى منها فقال : الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم ، فقالت سلام الله تعالى عليها : إنما يفتضح الفاسق ، ويكذب الفاجر وهو غيرنا ، فقال ابن زياد : كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك ، فقالت ما رأيت إلا جميلا ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم ، فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة.
وكما ترى فهذه حفيدة رسول الله وبنت الإمام علي والسيدة فاطمة الزهراء وأخت الإمامين الحسن والحسين ، التي تربت وترعرعت في ظل أجواء النبوة والإمامة ، من أهل بيت النبوة والرحمة والعصمة ، قد حولت التعرف الجلالي إلى جمالي ، مع المحافظة على وجود أسمى معاني الأيمان بالله تعالى ، والثقة به والتوكل عليه ، والإعتقاد الجازم بعدل الله ولطفه ، ووعده ووعيده.
فإذا كانت السيدة زينب سلام الله تعالى عليها ثابتة المقام في العبودية لله تعالى فكيف بالأئمة من أهل البيت عليهم السلام وأصحابهم وأتباعهم المخلصون الصادقون الموفون بعهدهم وبيعتهم ، الذين أنزل الله تعالى فيهم قرآنا يتلى عندما قال في سورة البينة الآية 7 { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية }.
أخرج ابن عدي عن ابن عباس قال : لما نزلت { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : هو
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 36 _
أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين ) ، رواه في كنز العمال والطبري ومجمع الزوائد والحاكم وغيرهم كثير.
إن الله تبارك وتعالى أختص لنفسه بعد نبيه خاصة وهم أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ، علاهم بتعليته وسماهم إلى رتبته وجعلهم إليه الأدلاء بالإرشاد إليه ، أئمة معصومين هادين مهديين ، فاضلين كاملين ، وجعلهم الحجج على الورى والعباد ودعاة إليه ، شفعاء بإذنه ، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ، يحكمون بأحكامه ويستنون بسننه ، ويقيمون حدوده ، ويؤدون فروضه ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من يحيي عن بينه ، صلوات الله والملائكة الأبرار والمقربين على محمد وآله الأخيار.
ولذلك كانوا دائما في مقام الشكر لله تعالى ، لأنهم يرون كل شيء منة ونعمة وعطاءات إلهية جميلة ، تزيدهم نورا وجمالا وبهاء ، ورفعة عند الله ، انظر إلى عبادتهم ، كان رسول الله يقوم حتى تتفطر قدماه وكذلك السيدة الزهراء والأئمة من أهل البيت عليهم السلام ، والمخلصون من أتباعهم.
روى العلامة المجلسي في بحار الأنوار ورد عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل أنه قال في قضية الإسراء والمعراج لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل الله تعالى ( إن الله مختبرك ـ أي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ في ثلاث ينظر كيف جدك ، قال : أسلم لأمرك يا رب ، ولا قوة لي على الصبر إلا بك ، فما هن ؟ ... إلى أن يقول الإمام الثالثة ... وأما الثالثة : فما يلقى أهل بيتك من بعدك من القتل : أما أخوك علي فيلقى من أمتك الشتم والتضعيف والتوبيخ والحرمات والجهد والظلم وآخر ذلك القتل.
فقال : يا رب ، سلمت وقبلت ، ومنك التوفيق والصبر.
وأما ابنتك فتظلم ، وتحرم ، ويؤخذ حقها غصباً الذي تجعله لها ، وتضرب وهي حاملة ، ويدخل على حريمها ومنزلها بغير إذن ، ثم يمسها هوان وذل ثم لا تجد مانعاً ، وتطرح ما في بطنها من الضرب ، وتموت من ذلك الضرب ، قلت إنا لله وإنّا إليه راجعون قبلت يا رب وسلمت ومنك التوفيق والصبر.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 37 _
روى القندوزي الحنفي في ينابيع المودة قال علي بن أبي طالب عليه السلام ـ كل حقد حقدته قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أظهرته في ، وستظهره في ولدي من بعدي ، ما لي ولقريش ! إنما وترتهم بأمر الله وأمر رسوله ، أفهذا جزاء من أطاع الله ورسوله إن كانوا مسلمين ؟ ، ثم تلا قوله تعالى وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.
وروى القندوزي في ينابيع المودة عن علي بن أبي طالب قال : كنت أمشي مع النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم في بعض طرق المدينة ، فأتينا على حديقة !
فقلتُ : يا رسول الله ! ما أحسن هذه الحديقة ! فقال : رسول الله : ما أحسنها ؟! ولك يا علي في الجنّة أحسن منها !
ثمّ أتينا على حديقة أُخرى ، فقلتُ : يا رسول الله ! ما أحسن هذه الحديقة ! فقال رسول الله : ما أحسنها ! ولك يا علي في الجنّة أحسن منها ! ثمّ أتينا على حديقة أُخري ، فقلت : يا رسول الله ، ما أحسنها من حديقة !
فقال رسول الله : لك في الجنّة أحسن منها ! قال : فمشينا حتّي أتينا على سبع حدائق ، وكلّما مررنا بحديقة منها ، كنت أقول : يا رسول الله ! ما أحسنها ! فيقول : لك في الجنّة أحسن منها !
فَلَمَّا خَلاَ لَهُ الطَّرِيقُ اعْتَنَقَنِي وَأَجْهَشَ بَاكِياً ! فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَهِ ! مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ : ضَغَائِنُ فِي صُدُورِ أَقْوَامٍ لاَيُبْدوُنَهَا لَكَ إلاَّ بَعْدِي ! فَقُلْتُ : فِي سَلاَمَةٍ مِنْ دِينِي ؟! قَالَ : فِي سَلاَمَةٍ مِنْ دِينِكَ.
وروي في ينابيع المودة وفي مناقب الخوارزمي عن أبي سعيد الخدريّ قال : أخبر رسولا لله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليّاً بما يلقي إليه من أعدائه من المقاتلة : فَبَكَي علي وَقَالَ : أَسْأَلُكَ يَا رَسُولَ اللَهِ بِحَقِّ قَرَابَتِي وَبِحَقِّ صُحْبَتِي أَنْ تَدْعُو اللَهَ أَنْ يَقْبِضَنِي إليهِ ! فَقَالَ : يَا علي ! أَنَا أَدْعُو اللَهَ لَكَ لأجَلٍ مُؤَجَّلٍ ! فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَهِ ! على مَا أُقَاتِلُ الْقَوْمَ ؟! قَالَ على الإحْدَاثِ فِي الدِّينِ.
وأخرج موفّق بن أحمد الخوارزميّ بسنده عن أبي ليلي ، عن أبيه ، قال : أعطى النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم الراية يوم خيبر إلى علي ، ففتح
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 38 _
الله عليه ، وفي يوم غدير خُمّ أعلم الناس أنـّه مولي كلّ مؤمن ومؤمنة ، وقال له : أنت منّي وأنا منك ، وأنت تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ! وقال له : أنت منّي بمنزلة هارون من موسي إلاّ أنـّه لانبيّ بعدي ، وقال له : أنا سلم لمن سالمك ، وحرب لمن حاربك ، وأنت العروة الوثقى ! وأنت تبيِّن ما اشتبه عليهم من بعدي ! وأنت وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة بعدي ! وأنت الذي أنزل الله فيك : وَأَذَانٌ مِنَ اللَهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكبر.
وأنت الآخذ بسنّتي ! والذابُّ عن ملّتي ! وأنا وأنت أوّل من تنشقّ الأرض عنه ، وأنت معي تدخل الجنّة ، والحسن والحسين وفاطمة معنا ، إنّ الله أوحي إليَّ أن أُبيّن فضلك ، فقلت للناس وبلّغتهم ما أمرني الله تبارك وتعإلي بتبليغه!
ثمّ قال : اتَّقِ الضَّغائِنَ الَّتِي كَانَتْ فِي صُدُورِ قَوْمٍ لاَ تُظْهِرُهَا إلاَّ بَعْدَ مَوْتِي ، أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ وَبَكَى.
ثُمَّ قَالَ : أَخْبَرَنِي جَبْرَائِيلُ أَنـَّهُمْ يَظْلِمُونَكَ بَعْدِي ، وَأَنَّ ذَلِكَ الظُّلْمَ لاَ يَزُولُ بِالكُلِّيَّةِ عَنْ عِتْرَتِنَا حَتَّي إذَا قَامَ قَائِمُهُمْ ، وَعَلَتْ كَلِمَتُهُمْ ، وَاجْتَمَعَتِ الأمة على مَوَدَّتِهِمْ ، وَالشَّانِئ لَهُمْ قَلِيلاً ، وَالكَارِهُ لَهُمْ ذَلِيلاً ، وَالمَادِحُ لَهُمْ كَثِيراً.
وذلك حين تغيّر البلاد ، وضعف العباد ، حين اليأس من الفرج ، فعند ذلك يظهر القائم مع أصحابه ، فبهم يظهر الله الحقّ ، ويخمد الباطل بأسيافهم ، ويتبعهم الناس راغباً إليهم وخائفاً منهم ! أبشروا بالفرج فإنّ وعد الله حقّ لا يخلف ، وقضاءه لا يردّ ، وهو الحكيم الخبير ، وإنّ فتح الله قريب.
اللَهُمَّ إنَّهُمْ أَهْلِي فَأذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ
تَطْهِيراً ، اللَّهُمَّ اكْلأهُمْ وَارْعَهُمْ ، وَكُنْ لَهُمْ وَانْصُرْهُمْ ،
وَأَعِزَّهُمْ وَلاَ تُذِلَّهُمْ ، واخْلُفْنِي فِيهِمْ إِنَّكَ على مَا تَشَاءُ
قَدِيرٌ.
لاحظوا في الأحاديث كيف كان هم أمير المؤمنين سلامة الدين ، والمحافظة على تعاليم الإسلام سالمة من عبث العابثين ، ولم يكن يركز إلا على سلامة عبوديته لله تعالى وطاعته وما فيه رضى رب العالمين.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 39 _
ثم إن في هذا النوع من الإبتلاءات أي ابتلاء الرفعة والترقية الذي اختص به الرسول وأهل بيته وشيعتهم ، حجة على المشاهد الحاضر والمستمع الغائب ، فإذا كان الله تعالى قد فرض على المسلمين طاعتهم وولايتهم ، فكيف بهم إذا شاهدوا وسمعوا ابتلاءهم ومظلومياتهم والأذى الذي تعرضوا له ، فعندما يقول الله تعالى قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور ، وعندما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله عن الحسين عليه السلام ، إن ابني هذا ـ يعني الحسين عليه السلام ـ يقتل بأرض من أرض العراق يقال لها كربلاء ، فمن شهد ذلك منهم فلينصره ، (رواه ابن حجر في الإصابة ، وفي كنز العمال ، والبداية والنهاية لإبن كثير عن أنس بن الحارث).
وكذلك عندما يقول في حديث الثقلين إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.
وعندما يقول صلى الله عليه وآله ـ من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله.
وعندما يقول ـ فاطمة بضعة مني ، من آذاها فقد آذى الله ، ومن أرضاها فقد أرضى الله.
وعندما يقول حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا ، وأبغض الله من أبغض حسينا.
فالأصل عند هذه الأوامر الإلهية هو السمع والطاعة ، بمتابعة وولاية من أمر الله بطاعتهم وولايتهم ، ووجوب متابعة ومراقبة حالهم وأحوالهم ، وذلك أمر ظاهر في منطوق كل ما مر من النصوص الشرعية التي تفرض على البصر والبصيرة ، دوام التطلع والتبصر في حقيقتهم وأحقيتهم ، ونصرتهم وولايتهم ، والنظر في كل أمورهم ، ظاهرها وباطنها ، دقيقها وجليلها ، هذا ما دلت عليه النصوص الشرعية عند كل طوائف المسلمين.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 40 _
ولنقرأ معا النص التالي من الزيارة الجامعة لأهل البيت عليهم السلام المروية عن الإمام الهادي عليه السلام ( أنتم السبيل الأعظم ، والصراط الأقوم ، وشهداء دار الفناء ، وشفعاء دار البقاء ، والرحمة الموصولة ، والآية المخزونة ، والأمانة المحفوظة ، والباب المبتلى به الناس ، من أتاكم فقد نجى ، ومن لم يأتكم فقد هلك ، إلى الله تدعون ، وعليه تدلُّون ).
وروى السيوطي والطبراني عن خالد بن عرفطة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال ( إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي ).
فالناس مبتلون أي ممتحنون بأهل البيت عليهم السلام وبإمامتهم على أن يعتقدوا بذلك ويطبقوه ، ويبذلوا أموالهم وأنفسهم وأرواحهم في سبيل الثبات على أمر الله تعالى فيما يتعلق بأهل البيت.
وهذا الإختبار الإلهي قد أجج صراعا تاريخيا كبيرا وواسعا ، قد يبدوا غامضا عند البعض من الناس ، الذين لا يودون البحث عن الحقيقة والأحقية ، ذلك الصراع الذي بدأ منذ العصور الأولى للإسلام ، حيث ثارت الغيرة ، وظهرت الضغائن والأحقاد ، وانتشر الحسد ضد بني هاشم وأتباعهم من المؤمنين المخلصين ، قال تعالى في سورة النساء ، الآيتان : 54 ـ 55 { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ، فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا }.
عن بريد قال : كنت عند أبي جعفر عليه السلام فسألته عن قول الله تعالى :
{ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } قال : فنحن الناس ونحن المحسودون على ما آتانا الله من الامامة دون خلق الله جميعا { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما } جعلنا منهم الرسل والانبياء والائمة عليهم الصلاة والسلام ،
فكيف يقرون بها في آل إبراهيم ويكذبون بها في آل محمد عليهم الصلاة والسلام { فمنهم
من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا } ، روي ذلك ابن حجر في الصواعق ، وابن
المغازلي الشافعي ، وفي شواهد التنزيل للحسكاني.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 41 _
وكانت النتيجة أن عصى أغلب المسلمين أمر الله ، ولم ينجحوا في ذلك الإختبار الإلهي المتعلق بإمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من ولده عليهم الصلاة والسلام ، وكان أن تمكن من الحكم والسلطة ، من نزع من أهل البيت حقوقهم وإمامتهم ، ومن هجم على بيوتهم وحرقها ، وأسقطت السيدة فاطمة الزهراء جنينها بضربة من مجرم متأله فاجر ، أدت إلى عصرها عليها السلام بين الباب والحائط مما أدى إلى كسر أضلاعها وأذيتها ، وأهين الإمام علي وتم عزله عن الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية ، ودأب المسلمون على سبه وشتمه ، وبذل أولئك كل ما يملكون من قوة لطمس حقيقة أهل البيت وأحقيتهم ومظلومياتهم ، وإخفائها وإنكارها إذا اقتضى الأمر ، وملاحقة أتباعه وشيعته بالأذى والتشريد والتعذيب والقتل ، وعلى ذلك سار أتباعهم إلى يومنا هذا ، وهذا ما نشاهده اليوم من قتل وتشريد وإرهاب ضد أتباع أهل البيت عليهم السلام ، وما نقم أولئك من أتباع أهل البيت وشيعتهم إلا أن آمنوا بالله وأطاعوه واتبعوا أمره ، هذه هي تهمتهم العظمى.
أيوجد بلاء أعظم من هذا البلاء ؟ أليس هذا الإبتلاء حجة على من شاهد أو سمع ؟ ، فقد روى أبو داود عن العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها ـ وقال مرة فأنكرها ـ كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ) ، ورواه السيوطي في الجامع الصغير وقال صحيح.
وقال صلى اللّه عليه وسلم : ( إن اللّه لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه ، فلا ينكرونه ، فإذا فعلوا ذلك عذب اللّه الخاصة والعامة ) (رواه أحمد).
وروى في كنز العمال ومجمع الزوائد عن الإمام الحسين بن علي عليهما السلام قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( من شهد أمرا فكرهه كان كمن غاب عنه ، ومن غاب عن أمر فرضي به كان كمن شهده ).
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 42 _
وروى في كنز العمال عن ابن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( ستكون أمور فمن رضيها ممن غاب عنها كان كمن شهدها ، ومن كرهها ممن شهدها فهو كمن غاب عنها ) ورواه أبو نعيم وابن النجار.
أليس في مظلوميات النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين وبقية أهل البيت إثارة لعقول وعواطف المؤمنين ، وحجة بليغة ضد الغافلين عن أهل البيت وضد الناصبين لهم العداء ؟.
لاحظوا وفي الفترة الأخيرة عندما حوصرت كربلاء والنجف ، وقصفت مراقد الأئمة في العراق ، وتكرار تلك المشاهد من خلال المحطات الفضائية التي تنقل الحدث مباشرة ، والإعتداء على مساجد أهل البيت ، وحالات إغتيال أتباع أهل البيت عليهم السلام ، أليس في تلك المشاهد حجة على المشاهد والمستمع ، من أجل أن يسأل نفسه ، ما هي تلك المراقد ؟ ومن هم الشيعة ؟ ومن هم أهل البيت ؟ وما هي مظلومياتهم ؟.
فمن ثبت على ولائهم فهو من أهل الرسوخ والتمكين ويزيده الله تعالى رفعة وعلوا ، وأما من كان غافلا فربما يتنبه ويتوصل إلى الحقيقة ، وأما الناصب العداء لهم ولشيعتهم ، فلا تزيده مظلوميات أهل البيت وشيعتهم إلا سخطا وبغضا من الله تعالى ، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ونار جهنم هي المصير.
إن الناظر في ابتلاءات أهل البيت ومظلومياتهم ، يجد أنها كانت من أجلنا ، حتى ينقذنا الله بهم من الضلال ، ونسير بأمان وثبات على الصراط المستقيم.
فكلما تمعن العبد المؤمن في مظلوميات أهل البيت وابتلاءاتهم ، وتضحياتهم ، وحملهم الأمانة على أكمل وجه ، وصمودهم أمام الطواغيت والجبابرة في سبيل المحافظة على الدين ، يجد أن كل ذلك من أجلنا ، حتى يصلنا منهاج الشريعة المحمدية طاهرا صافيا
نقيا ، لم تمسه أيدي العابثين والحاسدين والحاقدين.
فهم عليهم الصلاة والسلام قد قدموا أنفسهم عبودية لله تعالى من أجلنا حتى نكون في مقدمة الأمم ، سباقين في كل المجالات ، وحتى نكون معهم من الناجين
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 43 _
في سفينة النجاة ، وحتى يرفعوا ونرفع معهم بإذن الله تعالى لواء الحق عاليا خفاقا فوق ربوع الأرض من دون إفراط أو تفريط.
لقد ضربوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء في سبيل المحافظة على رسول الله ودعوته ، وفي سبيل تعزيز الصلة بين العباد وربهم ، فبثوا لنا تراث النور والهداية ، وها هو تراثهم يملئ شرق الأرض وغربها ، بالرغم من كل محاولات طمس نورهم وإخفاءه عن الناس ، نجده يسطع متلألئا ، وبشكل مطرد ، منتظرا ظهور الأمام الثاني عشر الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، فكلما ازداد الظلم والجور ، اقترب الوعد الحق بظهوره عليه السلام.
لقد استطاع الأئمة من أهل البيت وشيعتهم أن يحولوا ابتلاءاتهم ومظلومياتهم من تعرفات جلالية إلى مقامات جمالية وكمالية رائعة ، وحلوا في مقامات الشكر العالية هم وأتباعهم المخلصون الموفون بعهدهم ، وكشفوا عن مكنونات حقائقهم الجمالية أمام الله وأمام العباد ، ونجدهم وكل أتباعهم دوما يرددون قوله تعالى { الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله }.
وروى الطبري والطبراني وابن كثير عن العتبي عن أبيه أن الأمام علي بن الحسين عليه السلام قال ( إنا أهل بيت نطيع الله عز وجل فيما نحبه ، ونحمده على ما نكره ).
وعلى ذلك يكون هذا النوع من الإبتلاء هو من أجل رفعة وترقية المبتلين به ، وإشهاد رسوخهم وتمكينهم وثباتهم ، ومن أجل إظهار مكنونات حقائقهم ، وحقيقة تمكنهم من الإيمان ، والإستسلام لأمر الله تعالى ، وبيان جاهزيتهم لخدمة الله تعالى وشريعته من على بساط العبودية الصادقة لله تعالى ، ولذلك كان رسولنا الأكرم وأهل بيته الطاهرين القدوة في كل شيء ، في الصبر والحلم والتقوى والشجاعة والعلم ، والتحمل ، وحمل الأمانة والتضحية والفداء ، فها هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يفدي رسول الله صلى الله عليه وآله عندما أجمعت قريش على قتله في مكة وبات في فراش النبي وهو يعلم أنه مقتول لا محالة ، فأظهر الله حقيقة حبه وفداءه للنبي ، وأنزل الله في ذلك قرآنا يتلى بعد أن باهى الله به الملائكة.
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 44 _
روى الحافظ العراقي عن ابن عباس بات علي عليه السلام في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوحى الله إلى جبريل وميكائيل إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة ؟ فاختارا كلاهما الحياة وأحباها ، فأوحى الله عز وجل إليهما أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين نبيي محمد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ؟ اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل عليه السلام يقول : بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب والله تعالى يباهي بك الملائكة فأنزل الله تعالى { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد } ، ورواه أحمد مختصرا ، وهو عليه السلام أول من بارز في بدر وأحد ، وهو وأهل البيت الذين بقوا في حنين بعد أن انهزم المسلمون ، وهو الذي تصدى لعمروا بن ود العامري وقتله ، بعد أن رفض الصحابة منازلته بعد أن ضمن رسول الله لمن ينازل عمروا بن ود الجنة ، وبالرغم من ذلك الضمان النبوي ، لم يتقدم سوى أمير المؤمنين.
روى السيوطي عن ابن عباس قال قتل علي بن أبي طالب عمرو بن ود ودخل على النبي صلى اللّه عليه وسلم فلما رآه كبر وكبر المسلمون فقال اللّهم أعط علياً فضيلة لم تعطها أحداً قبله ولا تعطها أحداً بعده فهبط جبريل ومعه أترجة من الجنة فقال إن اللّه يقول حي بهذه علي بن أبي طالب فدفعها إليه فانفلقت في يده فلقتين فإذا حريرة بيضاء مكتوب فيها سطرين تحية من الطالب الغالب إلى علي بن أبي طالب ، وفي ذلك الموقف قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( برز الإيمان كله إلى الشرك كله ) وقال ( ضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين ) ، وكذلك في يوم خيبر عندما لم يفلح أبو بكر ولا عمر بفتح حصون خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( لأعطين الراية غدا رجلا يفتح على يديه ، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ).
وها هو الإمام أبي عبد الله الحسين عندما خرج إلى كربلاء ، كان يعلم أنه مقتول هو وأبناءه وأصحابه ، وأخذ معه نساءه ، وبالرغم من محاولة ثنيه عن
الابتلاء سنة الهية على بساط العبودية _ 45 _
ذلك من بعض المسلمين ، قال عليه السلام ( لم أخرج أشرا ولا بطرا ، ولا مفسدا ولا ظالما ، وأنما خرجت لطلب الإصلاح في أمتي جدي ، آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ) ، فذهب مضحيا في كل شيء من أجل بعث دين جده محمد من جديد ، راضيا بقضاء الله مستسلما لأمره ، روى النووي في بستان العارفين عن الإمام الشافعي قال ( مات ولد للحسين بن عليٍّ عليهما السلام ، فلم يرى عليه كآبةٌ ! فعوتب في ذلك ، فقال : إنا أهل بيتٍ نسأل الله تعالى فيعطينا ، فإِذا أراد ما نكره فيما يحب ، رضينا ).
وأما السيدة فاطمة الزهراء سلام الله تعالى عليها ، سيدة نساء العالمين ، بضعة رسول الله ، فكانت القدوة في الثبات أمام المحن والإبتلاآت التي تعرض لها رسول الله صلى الله عليه وآله ، في بداية الدعوة وأثناء مراحلها كلها ، فقد كانت الأولى في كل شيء ، فاستحقت أوسمة الشرف الربانية بعد أن حققت أسمى معاني العبودية ، فكانت ولازالت وستبقى سيدة نساء العالمين ، وسيدة نساء أهل الجنة ، حتى أن الله تعالى لطهارتها وفنائها في الله تعالى قد منحها وساما عاليا رفيعا ، أن من آذاها فقد آذى الله ، ومن أغضبها فقد أغضب الله ، وأن الأئمة من ولدها وغير ذلك من الأوسمة العالية الرفيعة.
روى السيوطي وابن مردويه وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من حملة الإبل ، فلما نظر إليها قال : يا فاطمة تعجلي فتجرعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غدا فأنزل الله { ولسوف يعطيك ربك فترضى }.
وكذلك سيرة الإمام الحسن عليه السلام وبقية الأئمة من أهل البيت وأصحابهم المخلصين ، والعلماء الصادقين الذين اتبعوا نهجهم ، بصدق وأمانة وتحملوا كل أنواع الإبتلاء والأذى والظلم ، عبودية لله تعالى ، وطاعة له ولرسوله ، فكانت كل ابتلاءاتهم رفعة وترقية لهم عند الله ، وحجة علينا.