مما لا شك فيه أن وجود الفرد في بيئة معينة واتصاله المستمر بالعالم الخارجي يجعله يكتسب خبرات جديدة تعدل من استعداداته وميوله الفطرية ، فالعالم الخارجي له أثرا بالغا على تنظيم الانفعال الذي يمد الفرد بالطاقة العصبية اللازمة. للتعبير عن الغريزة حتى تتجمع حول شخص معين أو حول شئ معين ، والمسيرة الإسرائيلية لم تنقطع يوما عن العالم الخارجي ، ولهذا اكتسبت مجموعة من الخصائص الانفعالية المميزة للفرد ، أو بعبارة أخرى مجموعة الصفات التي يتسم بها سلوك الفرد وانفعالاته ودوافعه ، وعلى امتداد المسيرة وفي كل مرة يحدث الاتصال بالعالم الخارجي ، تتأثر مجموعة من الغرائز والانفعالات المختلفة ، فإن كانت في مجموعها تلتقي مع الأهواء أدت إلى عاطفة حب ، وإن كانت في مجموعها مؤلمة أدت إلى عاطفة كره.
والدين الإلهي لم يترك الإنسان للعالم الذي من حوله ، وإنما قدم البناء اللازم الذي تتكامل به الشخصية وتتآلف عناصرها بحيث تتجه اتجاها موحدا نحو غرض معين ، ولكن المسيرة الإسرائيلية إختلفت عناصر شخصيتها عندما ابتعدت عن خط الأنبياء ، مما
أدى إلى حدوث الانقسامات المختلفة بين العناصر وتعارضت اتجاهاتها ، فكان من نتيجة
ابتلاءات الامم _ 86 _
ذلك ضعف الشخصية أمام الزينة والزخرف في العالم الخارجي ، فراحت تأكل من ثماره وتجتر ذكرياتها على سبيله ، وأنتج زاد الثمار والذكريات العقد النفسية التي هي في مجملها استعداد وجداني مكتسب دائم ، يؤثر في سلوك المرء وشعوره ويفرغ عليهما طابعا خاصا ، ومما لا شك فيه أن العقدة النفسية قد تنشأ من صدمة انفعالية عنيفة ، أو قد تنشأ من صراع نفسي غير محسوم ، أو قد تنشأ من تربية غير رشيدة ، هذا كله له معالم على امتداد المسيرة الإسرائيلية التي أرغمتها العقد النفسية في نهاية المطاف على الخوف ، حتى ولو لم يكن هناك داعيا إلى الخوف ، وهذا كله نتيجة حقيقية ، لمقدمة حقيقية ، غيروا فيها اتجاههم الفطري.
وأصبحوا عالة على حركة وإنتاج الأمم من حولهم.
والباحث في المسيرة الإسرائيلية يجد أن المسيرة قد تأثرت بعقائد العالم الخارجي ، ومن ثياب هذه العقائد اتخذت المسيرة ثوبا واحدا أضافت إليه معالم سماوية باهتة ، تتفق مع أهوائهم وتنسجم مع العقد النفسية التي أفرزتها الأحداث على امتداد المسيرة ، وفي نهاية المطاف رشحت ثقافات هذه العقائد على المدنية المعاصرة وهددت الإنسانية بالانهدام ، ومهدت الطريق إلى المسيح الدجال ، وفي إفرازات المسيرة الإسرائيلية يقول صاحب تفسير الميزان : إذا تأملت قصص بني إسرائيل المذكورة في
القرآن ، وأمعنت فيها ، وما فيها من أسرار أخلاقهم وجدت أنهم كانوا قوما غائرين في المادة مكبين على ما يعطيه الحس من لذائذ الحياة الصورية ، فقد كانت هذه الأمة لا تؤمن بما وراء الحس ولا تنقاد إلا إلى اللذة والكمال المادي ، وهم اليوم كذلك ، وهذا
الشأن هو الذي صبر عقولهم وإرادتهم تحت انقياد الحس والمادة ، لا يعقلون إلا ما يجوزانه ، ولا يريدون إلا ما يرخصان لهم ذلك ، فانقياد الحس يوجب لهم أن لا يقبلوا قولا إلا إذا دل عليه الحس ، وانقياد المادة اقتضى فيهم أن يقبلوا كل ما يريده أو يستحسنه لهم كبرائهم من جمال
ابتلاءات الامم _ 87 _
المادة وزخرف الحياة ، فأنتج ذلك فيهم التناقض قولا وفعلا ، فهم يذمون كل اتباع باسم أنه تقليد وإن كان مما ينبغي إذا كان بعيدا من حسهم ، ويمدحون كل اتباع باسم أنه حظ الحياة وإن كان مما لا ينبغي إذا كان ملائما لهوساتهم المادية ، وقد ساعدهم على ذلك وأعانهم عليه مكثهم الممتد وقطونهم الطويل بمصر تحت استذلال المصريين ، واسترقاقهم وتعذيبهم ، وبالجملة : فكانوا لذلك صعبة الانقياد لما يأمرهم به أنبيائهم والربانيون من علمائهم مما فيه صلاح معاشهم ومعادهم ، وسريعة اللحوق إلى ما يدعوهم المغرضون والمستكبرون منهم ، وقد ابتليت الحقيقة والحق اليوم بمثل هذه البلية بالمدنية المادية ، فهي مبنية القاعدة على الحس والمادة ، فلا يقبل دليل فيما بعد عن الحس ، ولا يسأل عن دليل فيما تضمن لذة مادية حسية ، فأوجب ذلك إبطال الغريزة الإنسانية في أحكامها ، وارتحال المعارف العالية والأخلاق الفاضلة من بيننا ، فصار يهدد الإنسانية بالانهدام ، وجامعة البشر بأشد الفساد وليعلمن نبأه بعد حين (1).
فالمسيرة اكتسبت من العالم الوثني الشئ الكثير ، وكان لهذا أثرا بالغا على سلوك الفرد وانفعالاته ودوافعه ، ودفعت المسيرة في صراع نفسي غير محسوم أدى إلى تناقض حركتها قولا وفعلا ، وهذا الاهتزاز النفسي رشح فيما بعد على الجامعة البشرية
وهددها بالفساد ، ولبيان المكتسبات الإسرائيلية من الأمم الوثنية الاستكبارية ، نلقي بعض الضوء على أهم المحطات التي تزودت منها المسيرة الإسرائيلية.
لا شك أن أبرز ظاهرة في خصائص الديانة المصرية القديمة هي
---------------------------
(1) الميزان 296 / 8.
ابتلاءات الامم _ 88 _
كثرة الآلهة ، ولو ذرعنا المنطقة من منف إلى أسوان وبحثنا في كل مركز من مراكز العبادة ، لوجدنا كائنات إلهية تتخذ صور الأبقار والتماسيح والكباش والكلاب الوحشية واللبؤات والعجول ، وكثيرا من المخلوقات الأخرى ويطلق عليها عادة أسماء شتى
في مختلف المدن ، ورغم أن الآلهة تبعا لبلادها كانت تختلف في الشكل وفي الاسم ، إلا أنه توجد عدة دلائل على أن المعتقدات الدينية كانت موحدة في أذهان المصريين أكثر مما نظن من واقع اختلاف أشكال الآلهة وأسمائهم (1) ويجل جميع قدماء المصريين البقرة لأنها معطية اللبن ولأنها الأم السماوية للشمس كما يعتقدون ، وأطلقوا على البقرة اسم (صخور) وكثيرا ما كانوا يبنون لها المعابد ويكرسون لها قطعانا كاملة من أخواتها ، وكذلك للآلهة التي تتخذ صورة الثور (مثل : مونتو ، ومين ، وآمون) وللثيران التي تتجسد فيها الآلهة (مثل : منفيس ، أبيس ، هليوبوليس) (2).
والعجل أبيس له بصمات واضحة على العقيدة المصرية القديمة ، فهو رمز الاخصاب ، واعتقد المصريون أن العجل أبيس اقترن بإله منف (بتاح) واندمج في (أوزيريس) فتكون منهما إله جنائزي ، ومنذ ذلك الوقت اتخذ موت العجل أبيس أهمية بالغة ،
فيدفن بجنازة رسمية وسط جمع من الكهنة وغيرهم الذين كانوا يحضرون له الهدايا من كافة أرجاء المملكة ، وكانوا يعتقدون أن أبيس عندما يموت يعود فيولد من جديد ، ولهذا كان الكهنة يبحثون عنه بمجرد أن يموت ، ويتوجهون إلى الحقول ويفحصون القطعان للعثور على ذلك الإله الذي يمكن التعرف عليه بعلامات خاصة فوق جلده ، وعندما يعثرون عليه يحل الفرح محل الحزن ويتوج العجل الإلهي في الحظيرة المقدسة بمنف ، حيث يعيش
---------------------------
(1) الميزان 210 / 1.
(2) معجم الحضارة المصرية القديمة ص 32.
ابتلاءات الامم _ 89 _
مع أمه يحيط به حريم الأبقار (1).
فالبقرة ترمز إلى الاخصاب ، وعقيدتها تقول أنها في (أبيس) بمجرد أن تموت تبعث من جديد ، وهي في (صخور) حاكمة السماء وجسمها الحقيقي ، والروح الحية للأشجار ، ومربية ملك مصر ، وأم حورس ، وربة الذهب ، وشخصية متعددة الألوان بوسعها أن تأخذ صورة لبؤة ، وهي ربة للسعادة والرقص والموسيقى (2).
فس هذه العقائد شربت قلوب الذين كفروا من بني إسرائيل حب العجول ، وقبل أن تجف أقدامهم من عبور البحر مع موسى عليه السلام اتخذوا العجل إلها ، قال تعالى : (ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ، وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم) (3).
وعلى عقيدة بعث العجل بمجرد أن يموت ، إنطلقوا في آشور وفي بابل تحت سقف السبي ، يبحثون عن هوية جديدة تبعث عليها دولتهم ، لتضاهي (حخور) حاكمة السماء وجسمها الحقيقي ، وتكون كالروح الحية للأشجار كما تقول عقيدة الأبقار ، وتحت سقف البحث عن هوية.
كانت يد الله تعمل في الخفاء وهم لا يشعرون ، قال تعالى : (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين) (4) وذلك لأن نظام العالم هو نظام الأسباب والمسببات ، والمسيرة لم تأخذ بأسباب التوبة والرجوع إلى الله ، وإنما
---------------------------
(1) المصدر السابق ص 3.
(2) المصدر السابق ص 96.
(3) سورة البقرة آية 92.
(4) سورة الأعراف آية 152.
ابتلاءات الامم _ 90 _
أخذت بأسباب لا تحقق النجاة ولا تهدي طريقا إلا طريق الفتنة التي تقود أتباعها إلى جهنم.
لا شك في أن الشيطان صد عن العبادة الحق التي تصل الإنسان بربه ، وتحقق له السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي ، وبرنامج الشيطان الذي صد به عن العبادة.
هو نفس البرنامج الذي شوه به رموز هذه العبادة لينفق الناس من حولهم ، فالله تعالى اصطفى من خلقه آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران وآل محمد ، كما أخبر القرآن والسنة.
فهؤلاء من دون الناس الذين أخلصهم الله تعالى لعبادته ، وباختصار :
اصطفى الله الأنبياء والرسل واختار سبحانه من عباده من يقوم بيان شريعته للناس.
فهؤلاء أصحاب الدماء النقية ، بمعنى أن الشيطان ليس له فيهم نصيب ، والشيطان صد عن هذا السبيل بإلقاءاته ، ومن معالم هذه الإلقاءات ظهور ثقافة تبناها الجبابرة والطواغيت على امتداد المسيرة البشرية ، والعمود الفقري لهذه الثقافة ، أن في عروق هؤلاء وأسرهم تجري دماء الآلهة ، ووفقا لهذا الاعتقاد الذي فرضوه على شعوبهم.
حكموا بالحديد وبالنار ، وظل الحكم في هذه الأسر قرونا طويلة نتيجة لهذا الاعتقاد ، وما أن تسقط أسرة حتى تقوم مكانها أسرة جديدة ، تنطلق من هذا المستنقع الذي ابتليت به المسيرة البشرية.
وعلى هذا الاعتقاد كان الفراعنة وملوك آشور وملوك بابل والإغريق والبطالمة ، وجميع هؤلاء احتكت بهم المسيرة الإسرائيلية.
وتأثرت ببرامجهم المادية والحسية ، ولقد رشحت ثقافة تزكية الفرد والأسرة والقبيلة التي تحتويها هذه البرامج على المسيرة البشرية فيما بعد ، ورد عليها القرآن الكريم ، قال تعالى : (ألم تر إلى الذين يزكون
ابتلاءات الامم _ 91 _
أنفسهم ، بل الله يزكي من يشاء ولا تظلمون فتيلا ، أنظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا) (1) وقال جل شأنه (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى) (2).
وفي آشور وبابل لم يضع بني إسرائيل أعمدة الأسرة المختارة وإنما وضعوا أعمدة الشعب المختار الذي يدخر له الغيب أميرا مختارا يمتلكون به الأرض، وكانت الأرضية التي وضعوا عليها هذه الأعمدة قولهم : سيغفر لنا ، ولكي يتفق هذا المدخل مع ما ارتكبوه من جرائم ، نسبوا إلى الأنبياء ما لا يتفق مع عصمتهم ومكانتهم ، بمعنى أن الخطأ إذا وقع فيه الأنبياء ، فإن من دونهم يلتمس له الأعذار ، وبعد أن أدخلوا أنفسهم في دائرة المغفرة ، أدخلوا أنفسهم في دوائر التبشير التي أخبر بها الأنبياء عن ربهم ، بمعنى إذا كان في بطن الغيب أمه اختارها الله لقيادة البشرية ادعوا أن الأمة أمتهم ، وأن الأوصاف التي بينها الأنبياء تنطبق عليهم في بطن الغيب لكونهم شعب الله المختار ، الذين ينفردون عن الناس ولهم أفضليتهم على جميع المخلوقات في نظر الخالق ، وبهذا وبغيره جعلوا الكتاب المقدس ينطق ، بعد أن حرفوا النصوص وتأولوها ، وبعد أن وضعوها في غير مواضعها.
وقولهم سيغفر لنا ، أشار إليه قوله تعالى : (وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ، وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ، فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ...) (3) قال ابن
---------------------------
(1) سورة النساء آية 49.
(2) سورة النجم آية 32.
(3) سورة الأعراف آية 168.
ابتلاءات الامم _ 92 _
كثير : يذكر تعالى أنه فرقهم في الأرض طوائف وفرقا ، فيهم الصالح وغير ذلك ، واختبرهم بالرخاء والشدة والرغبة والرهبة والعافية والبلاء لعلهم يرجعون ، فخلف من بعدهم خلف لا خير فيهم وقد ورثوا دراسة التوراة ، لا يشرف لهم شئ من الدنيا إلا
أخذوه حلالا كان أو حراما ويقولون سيغفر لنا (1).
وقال في الميزان : قولهم ( سيغفر لنا ) قول جزافي لهم قالوه ، ولا معول لهم فيه إلا الاغترار بشعبهم الذي سموه شعب الله ، كما سموا أنفسهم أبناء الله وأحباءه ، ولم يقولوا ذلك لوعد النفس بالتوبة ، ولا أنهم قالوا ذلك رجاء للمغفرة الإلهية ، فليس ما تظاهروا به رجاءا صادقا بل أمنية نفسانية كاذبة ، وتسويل شيطاني موبق ، فمن كان يرجو لقاء ربه ، فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (2).
ومن باب قولهم سيغفر لنا فتحوا أبوابا قالوا عندها يوما : نحن أولياء الله من دون الناس ، ويوما : نحن أبناء الله وأحبائه ، ووضعوا هذه الأقوال داخل عقيدة تقول خطوطها العريضة : ليس علينا في الأميين سبيل ، ومن هذا النسيج قاموا ببناء نظرية
تفوقهم على البشر وانفراديتهم عن الناس وأفضليتهم على جميع المخلوقات في نظر الخالق ، وانطلقوا وراء الأحبار يرددون القول بأنهم أمة فريدة تقف من الأمم موقف المختار الذي يتمتع بحقوق ليس لغيره ، ولأنهم أمة فريدة فإن أمتهم عندما تموت تبعث من
جديد ، لأنها كالروح الحية للأشجار ، وكالأم السماوية معطية اللبن لجميع المواليد ليؤمنوا بالعهد الألفي السعيد.
ومن الترديد وراء الأحبار انطلقوا إلى دائرة العمل ، وخطوطها العريضة تقول : إن داوود إختاره الإله وعينه ملكا ، ومملكة داوود هي
---------------------------
(1) تفسير ابن كثير 2 / 265.
(2) الميزان 298 / 8.
ابتلاءات الامم _ 93 _
عنوان ودعاء عهد الإله لإبراهيم ، وأورشاليم اختارها الله عاصمة لهذا الملك ، وعلى الجميع أن يخضعوا لهذه المملكة ولعاصمتها ، لأن التعبد لله لا ينفصل عن الدولة وعاصمتها ، وإذا كانت الدولة قد اندثرت على أيدي الغزاة ، فإنها عندما اندثرت من على الأرض ولدت من جديد داخل صدور بني إسرائيل ، وعليهم أن يعملوا لبسط نفوذ الدولة وفقا لنظرية تفوقهم على البشر وانفراديتهم عن الناس ، حتى يأتي ابن داوود أمير السلام آخر الزمان ، فهو وحده المسيح الذي سيعيد المجد لإسرائيل على أرض الواقع ، وعلى الجميع أن يخضع من اليوم لمملكته الأزلية ولعاصمتها أورشاليم.
وهكذا جعلوا الكرامة الإلهية سهلة التناول ، وزعموا أن هذه الكرامة وضعت على عاتق العنصر العبري ، أكرمهم الله بها إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد ، ولما كانت هذه الكرامة والسؤدد أمر جنسي خص بني إسرائيل ، جعلوا الانتساب الإسرائيلي مادة الشرف وعنصر السؤدد ، والمنتسب إلى إسرائيل له التقدم المطلق على غيره ، لأن هذه الروح الباغية إذا دبت في قالب قوم ، بعثتهم إلى إفساد الأرض وإماتة روح الإنسانية وآثارها الحاكمة في الجامعة البشرية ، بينت الرسالة الخاتمة على نبيها الصلاة والسلام ، أن الكرامة الإلهية ليست بذاك المبتذل السهل التناول ، يحسبها كل محتال أو مختال كرامة جنسية أو قومية ، بل يشترط في نيلها الوفاء بعهد الله وميثاقه والتقوى في الدين ، فإذا تمت الشرائط حصلت الكرامة ، وهي المحبة والولاية الإلهية التي لا تعدوا عباده المتقين ، وأثرها النصرة الإلهية والحياة السعيدة التي تعمر الدنيا وتصلح بال أهلها وترفع درجات الآخرة ، وبالجملة : إن الله تعالى لا يصطفي أحدا بالاستخلاف اصطفاءا جزافا ، ولا يكرم أحدا إكراما مطلقا من غير شرط ولا قيد ، والاستخلاف تحت سقف الامتحان والابتلاء يخضع لسنة الله الحاكمة ، ومنها النقل والإقالة ، ولا يخص الله
ابتلاءات الامم _ 94 _
بحسن العاقبة إلا من يتقيه من عباده أينما وجدوا ، ولقد رد القرآن الكريم على بني إسرائيل ومن حذى حذوهم من النصارى قولهم بأفضليتهم على البشر ، فقال تعالى : (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ، قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم
بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) (1) ، ورد على بني إسرائيل قولهم بأنهم مغفور لهم ، وأن مسيرتهم نحو أهدافهم مسيرة يتعبدون فيها لله ، فقال جل شأنه (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ، ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة ، وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون) (2).
والخلاصة : لقد أخذت المسيرة الإسرائيلية بسنن الأولين ، فأخذوا من عقائد البقر وعقائد الدماء النقية الأعمدة التي أقاموا عليها ديمومة الكرامة والحكم ، والكتاب المقدس ينفي في أكثر من موضع مقولتهم بالدماء النقية ، ويسجل أنهم سكنوا بين الأمم الوثنية واتخذوا بناتهم لأنفسهم نساء وأعطوا بناتهم لبنيهم ، وعبدوا آلهتهم (3) وقال نحميا في سفره ( رأيت اليهود الذين ساكنوا نساء أشدوديات وعمونيات وموآبيات ، ونصف كلام بينهم باللسان الأشدودي ، ولم يكونوا يحسنون التكلم باللسان اليهودي، بل بلسان شعب وشعب ) (4) فكيف يكون نقاء الدم تحت سقف هذه الأصول وغيرها : ؟.
---------------------------
(1) سورة المائدة آية 18.
(2) سورة البقرة آية 94.
(3) القضاه 3 / 5 ـ 7.
(4) نحميا 13 / 22 ـ 5 2.
لا شك في أن تحريف الأصول السماوية عمود أساسي يقوم عليه فساد الدين الفطري ، وهذا الفساد يهدد الإنسانية بالانهدام ، لأن الفرد الذي يفسد دينه الفطري لا تتعادل قواه الحسية الداخلية ، فيتبع القوى الخارجية التي تنسجم مع هواه وباتباعه لها يقوى جانبها في الصد عن سبيل الله ، وتحريف المسيرة الإسرائيلية للكتاب ونسيانهم حظا من الدين وكذبهم على الله بواسطة القصص التي قصوها على الشعب ، كل ذلك لا شك فيه واعترف به العهد القديم وعلماء الكتاب المقدس وأخبر به القرآن الكريم.
والتحريف كان لهدف ، وهدفه ما استقر عليه القوم فيما يتعلق بشعب الله المختار ، ففي اتجاه هذا الهدف أولوا ما ورد في النبي الخاتم (ص) من بشارات ، ومن قبل أولوا ما ورد في المسيح ابن مريم عليه السلام ، وقالوا : إن المسيح الموعود لم
يجئ بعد وهم ينتظرون قدومه إلى اليوم ، ليحكموا به الشعوب ويعود به ملك داوود عنوان ووعاء عهد الله لإبراهيم ، ونظرا لأن الجرائم والآثام تحيط بالمسيرة الإسرائيلية ، فإن التحريف رفع عن المسيرة هذا الحرج فنسبوا إلى الأنبياء ما لا يجوز في حقهم ،
فالأنبياء عندهم أول من سن عبادة العجول وأول من سن إقامة التماثيل وعبادة آلهة الأمم! وعلى هذه القاعدة فبما أنه لا يمكن أن تخرج نبيا من الأنبياء من تحت سقف الأنبياء ، لارتكابه معصية بهذا الحجم ، فكذلك لا يمكن أن تخرج الشعب من تحت
سقف شعب الله المختار ، لاتباعه ما سنه الأنبياء ولارتكابه الجرائم والمعاصي ، وبالجملة : كان التحريف من أجل رفع حرج وقعت فيه المسيرة على امتداد تاريخها ، وكان من أجل هدف التقطته المسيرة من ديار العالم الخارجي ، ثم أضفت عليه بعض المعالم
ابتلاءات الامم _ 96 _
السماوية الباهتة ليكون له مشروعية القبول.
وشهادة العهد القديم في نسيان بني إسرائيل حظا مما ذكروا به ، جاء على لسان أرميا ، قال : ( أما وحي الرب فلا تذكروه بعد ، لأن كلمة كل إنسان وحيه إذ قد حرفتم كلام الإله الحي ) (1) ، وقال في تحريفهم وكذبهم على الله: ( كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا حقا إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب ) (2) ، وقال في ثقافة القص التي كذبوا على الله ليكون للشذوذ قاعدة : ( الذين يأخذون لسانهم ويقولون قال ـ ها أنذا على الذين يتنبأون بأحلام كاذبة ، يقول الرب : الذين يقصونها ويضلون شعبي بأكاذيبهم ومفاخراتهم ، وأنا لم أرسلهم ولا أمرتهم ، فلم يفيدوا هذا الشعب فائدة ) (3).
أما شهادة علماء الكتاب المقدس ، ومنهم المفسر (هارسلي) يقول : لا شك في تحريف الكتاب المقدس ، في متنه وأصله ، يدلنا على ذلك اختلاف النسخ حيث الاختلاف آية الاختلاق ، فقد أدخلت كلمات وقحة في المتون المطبوعة مما لا يناسب ساحة الوحي (4) ، ويقول الدكتور (همفري) : إن تدخل الأوهام في العهد العتيق بين لحد يتضح للقارئ بأدنى تأمل ، إنهم قضوا على البشارات المسيحية في العهد القديم) ، ويقول (كريزاستم) : لقد انمحق الكثير من كتب الأنبياء.
حيث حرفتها اليهود على غفلة وعلى عمد ، فمزقوا البعض منها.
---------------------------
(1) أرميا 23 / 36.
(2) المصدر السابق 8 / 8.
(3) المصدر السابق 23 / 31.
(4) تفسيره في مقدمة كتاب يوشع 282 / 3 نقلا من كتاب المقارنات / د . الصادقي ص 89.
ابتلاءات الامم _ 97 _
وحرفوا ما تبقى (1).
أما شهادة القرآن الكريم بأن أهل الكتاب حرفوا أو نسوا حظا مما ذكروا به.
فلقد جاءت في أكثر من آية ، منها قوله تعالى : (من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه) (2) ، ففي هذه الآية وصف تعالى هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه.
وذلك إما بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم والتأخير والإسقاط والزيادة ، وإما بتفسير ما ورد عن موسى عليه السلام وعن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحق ، وقوله تعالى : (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظأ مما ذكروا به) (3) قال في الميزان : إن أهل الكتاب إنما ابتلوا بما ابتلوا له لنسيانهم ميثاق الله سبحانه ، ولم يكن إلا ميثاقا بالإسلام لله ، وكان لازم ذلك أن يتقوا مخالفة ربهم ويتخذوه وكيلا في أمور دينهم يختارون ما يختاره لهم ، ويتركون متابعة غير الله ورسله ، لكنهم نبذوا الميثاق وراء ظهورهم فأبعدوا من رحمة الله ، وحرفوا الكلم عن مواضعه وفسروها بغير ما أريد بها ، فأوجب ذلك أن نسوا حظا من الدين ولم يكن إلا حظا وسهما يرتحل بارتحاله عنهم كل خير وسعادة ، وأفسد ذلك ما بقي بأيديهم من الدين ، فإن الدين مجموع من معارف وأحكام مرتبط بعضها ببعض يفسد بعضه بفساد بعض آخر ، سيما الأركان والأصول (4).
وإفسادهم للدين الفطري يتضح للقارئ بمجرد أن يتأمل عقيدتهم في الله ورسله عليهم السلام ، فالتحريف جعل التوراة تشتمل
---------------------------
(1) تفسيره التاسع على إنجيل متي نقلا من كتاب المقارنات ص 91.
(2) سورة النساء آية 46.
(3) سورة المائدة آية 13.
(4) الميزان 239 / 5.
ابتلاءات الامم _ 98 _
على أمور في التوحيد لا يصح إسنادها إلى الله تعالى ، كالتجسيم والحلول في المكان ونحو ذلك ، ونسب ما لا يجوز العقل نسبته إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور والزلات ، وهذا المنهج إذا إختلط بعقيدة سماوية أفسد ما بقي منها ، ويقول د . جوستاف لوبون عن عقيدة اليهود : في وادي الفرات وفي مصر نشأت ديانة بني إسرائيل ، أو على الأصح مختلف العبادات التي مارسها بنو إسرائيل ، وذلك بين إقامتهم بفلسطين وعودتهم من السبي ، حتى أن أسماء آلهتهم تدل على أصلها ، وليست الآلهة
الكبرى الشهوانية عشتروت التي كان العبريون يعبدونها ، إلا زهراء فينوس بابل عشتار ... وحتى في دور السبي كان شعب إسرائيل قد بلغ من الغرق في الاشراك ، ما كان يتعذر معه عزيمة ملك أو خطب نبي تخليصه منه ... ودام دين اليهود القائل بتعدد الآلهة بعباداته الكثيرة وطقوسه المتنوعة وأساطيره المتكاتفة (1) ، وقال د . جوستاف لوبون عن عقيدة اليهود بعد دور السبي : لم يعبد بنو إسرائيل إلها يمكن أن يكون رب الأمم الأخرى ، ثم يصل د . لوبون إلى نتيجة مفادها : لم تكن الديانة اليهودية في كل زمن ، مطابقة لما نسميه اليوم باليهودية ، ولا شبه بين إله اليهود الراهن وإله سيناء يهوه ، فبنو إسرائيل كانوا يعبدون ألوهيمات في أثناء حياتهم البدوية التي قضتها أجيالهم الأولى ، ولذلك لا ينبغي أن يطلب من هذا الشعب البسيط تعريف وثيق لموضوع عبادته (2).
أما ما نسبوه إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر والفجور ، فكان الهدف منه تبرير أخطاء المسيرة ، بمعنى أنهم إذا أجازوا على الأنبياء الوقوع في الزلات ، تلتمس الأعذار لمن دونهم إذا وقعوا فيها أو في
---------------------------
(1) اليهود في الحضارات الأولى / جوستاف لويون ص 58 وما بعدها.
(2) المصدر السابق ص 62 وما بعدها.
ابتلاءات الامم _ 99 _
أشد منها ، وإذا كان التحريف قد قطع شوطا كبيرا في نسبة الزلات إلى الأنبياء ، إلا أن القارئ للعهد القديم يقع في حيرة عندما يجد نصوص أخرى تمتدحهم ، وتزول الحيرة إذا علمنا أن القوم اعتمدوا في حركتهم على أشد الأمور فتكا وإثارة للفتنة ، وهو تلبيس الحق بالباطل ، ليكون عندهم لكل سؤال جواب.
فهارون عليه السلام ، أشارت التوراة إلى تطهيره من المعاصي.
واختيار الله له ليكون مفسرا للشريعة ، وغير ذلك من الأمور التي تبين وقع أقدامه على الطريق المستقيم (1) ، وفي مقابل هذا ذكرت التوراة أن هارون هو الذي أقام العجل لبني إسرائيل وبني مذبحه ، يقول العهد القديم ( فقال لهم هارون : انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها ، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها هارون ، فأخذ ذلك من أيديهم ، وصوره بالأزميل.
وصنعه عجلا مسبوكا ، فقالوا هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر ، فلما نظر هارون بنى مذبحا أمامه ) (2) ! لم يشيروا إلى السامري الذي أضلهم وجاء ذكره في القرآن الكريم ، لأن موقع السامري لا يرفع عن المسيرة حرج.
وفي موضع آخر من العهد القديم ، افتروا على موسى وهارون عليهما السلام بفرية العصيان ، ومن هذا : ( فقال الرب لموسى وهارون من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل ، لذلك لا تدخلان هذه الجماعة إلى الأرض التي إعطيتهم إياها ) (3) ، وفي موضع آخر نرى نصا يقول بأن الله كان يأمر وموسى يطيع ، وكان الله معه في
---------------------------
(1) أنظر سفر العدد 18 / 1 ، 19 / 1 والخروج 29 / 1 ـ 30.
(2) الخروج 32 / 2 ـ 6.
(3) عدد 12 / 20.
ابتلاءات الامم _ 100 _
كل خطواته ، لقد قالوا ليوشع بن نون عندما قاتلوا معه ( كل ما أمرتنا به نعمله وحيثما ترسلنا نذهب ، حسب كل ما سمعنا لموسى نسمع لك.
إنما الرب إلهك يكون معك كما كان مع موسى ) (1).
وتناول العهد القديم سيرة سليمان عليه السلام ، وبينما نجد نصوصا تمتدحه ، نجد نصوصا أخرى تنسب إليه الزلات ، فالنصوص التي امتدحته بينت كيف كان يحذرهم من مخالفة أوامر الله ، وعندما قدم العهد القديم أمثال سليمان صدرها بقوله : ( أمثال سليمان بن داوود ملك إسرائيل ، لمعرفة حكمة وأدب ، لإدراك أقوال الفهم ، لقبول تأديب المعرفة والعدل والحق والاستقامة ، لتعطي الجهال ذكاء والشاب معرفة وتدبرا ، يسمعها الحكيم فيزداد علما ، والفهم يكتسب تدبيرا ، لفهم المثل واللغز ، أقوال الحكماء وغوامضهم ، مخافة الرب رأس المعرفة ) (2) وتقابل هذه النصوص نصوص أخرى منها قولهم : ( وأحب سليمان نساء غريبة كثيرة مع بنت فرعون ، موآبيات وعمونياث وأدوميات وصيدونيات وحيثيات ، من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل لا تدخلوا إليهم وهم لا يدخلون إليكم ، لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهة أخرى ، فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة ) (3) ، وقال العهد القديم ( إن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى ) (4) وقال ( فذهب سليمان وراء عشتروت آلهة الصيدونيين ) (5) وقال ( بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين ) (6) وقال ( وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن
---------------------------
(1) يوشع 16 / 1.
(2) أمثال 1 / 1 ـ 7.
(3) ملوك أول 11 / 1.
(4) المصدر السابق 11 / 5.
(5) المصدر السابق 11 / 6.
(6) المصدر السابق 11 / 7.
ابتلاءات الامم _ 101 _
لآلهتهن ) (1) فمن هذه النصوص أخذوا تبريرا لاتجاه مسيرتهم نحو الآلهة المتعددة ، ومن نص آخر أخذوا تبريرا للأسباب التي أدت إلى تمزيق مملكة سليمان إلى مملكتين ، يقول ( فقال الرب لسليمان من أجل أن ذلك عندك ، ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها ، فإني أمزق المملكة عندك تمزيقا ) (2).
وبوقود التحريف ظهرت التربية الغير رشيدة ، التي أثرت على سلوك المسيرة وشعورها وأفرغت عليها طابعا خاصا فيما بعد.
حذر الأنبياء والرسل على امتداد المسيرة البشرية من إلقاءات الشيطان ، وبينوا أن ما يلقيه الشيطان ما هو إلا فتنة تصيب الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ، ليكونوا علامة سوء على امتداد الطريق كي يحذر الناس برامجهم وأطروحاتهم ، والقرآن الكريم بشر الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ولم يتوبوا بعذاب جهنم ، وفي عالم الفتن انطلقت المسيرة الإسرائيلية بعد عهد السبي تبشر بالمسيح المنتظر الذي يعيد مجد المملكة الداوودية ، وتولى التلمود عملية التبشير ، ولليهود تلمودان .
الأول: التلمود الاورشاليمي ، وقد وضعه أحبار اليهود في أورشاليم .
والثاني : التلمود البابلي وقد وضعه أحبار اليهود في بابل ، ويزعم كثير من اليهود أن موسى تسلم القانون المكتوب على ألواح الحجر ، كما تسلم من الله تفسيرات وشروحا لهذا القانون ، وهو ما يدعى بالقانون الشفهي (3) ، وذكرت مصادر أخرى أن فرقة الفريسيين
---------------------------
(1) المصدر السابق 11 / 8.
(2) المصدر السابق 11 / 12.
(3) الكنز المرصود في فضائح التلمود / د . محمد الشرقاوي ط مكتبة الوعي مصر ص 32.
ابتلاءات الامم _ 102 _
اليهودية التي ظهرت قبل ميلاد المسيح ابن مريم عليه السلام بمائتي عام ، هم الذين ابتدعوا القانون الشفهي ، وهم الذين وضعوا التلمود (1).
ونظرا لما أنتجه التحريف من تناقض وما أنتجه التلمود من اختلافات ، ارتقى الأحبار منزلة كبيرة بين الشعب ، وكانت مهمتهم النزول على الشعب بتفسيراتهم للتلمود ، وهي تفسيرات لا ينبغي أن يناقشها غيرهم ، ومن أجل هذه المهمة رفعهم التفسير التلمودي
إلى مكانة عالية ، قال ( إن تعاليم الحاخامات لا يمكن نقضها ولا تغييرها ) (2) ، وقال ( من احتقر أقوال الحاخامات استحق الموت ، وليس كذلك من احتقر أقوال التوراة ، ولا خلاص لمن ترك تعاليم التلمود واشتغل بالتوراة فقط ) (3) ، وقال الحاخام روسكي : التفت يا بني إلى أقوال الحاخامات أكثر من التفاتك إلى شريعة موسى (4) ، وجاء في كتاب كرافت المطبوع سنة 1590 : إعلم أن أقوال الحاخامات أفضل من أقوال الأنبياء (5) ، وقال الحاخام في أقوال الحاخامات المناقض بعضها بعضا ( إنها كلام الله مهما وجد فيها من تناقض ، فمن لم يؤمن بها أو قال إنها ليست أقوال الله ، فقد أخطأ في حق الله ) (6).
ومن أقوال الحاخامات في شعب الله المختار : ( تتميز أرواح اليهود عن باقي الأرواح بأنها جزء من الله كما أن الابن جزء من
---------------------------
(1) المصدر السابق ص 32.
(2) التراث الإسرائيلي / صابر طعيمة ص 401.
(3) الكنز المرصود ص 14.
(4) المصدر السابق 169.
(5) المصدر السابق ص 170.
(6) المصدر السابق 171.
ابتلاءات الامم _ 103 _
والده (1) ، ولهذا اختار الله الجنس العبري ليكون منه شعب الله المختار ، وأعطى الله ميثاقه لهذا العنصر ، وهو ليس عقدا بل عهدا لأنه جاء من جانب واحد ، وهو عهد أزلي لا ينقض ، وأنه تنفيذا لهذا الميثاق أخرج الله العنصر العبري من مصر وأنقذه من فرعون ، وأهلك أهل فلسطين من أجله وأسكنهم أرضهم وملكها لهم ، وإذا كان هذا الملك قد أفلت في عصر من العصور وآل للأمم ، إلا أن هذا الملك لله أولا وأخيرا ، ولقد قضى الله منذ الأزل أنه من نصيب شعبه ، ومن ثم فلا خوف من ضياعه ، وهذا العنصر العبري المختار سيظل لذلك يتطلع إلى أن يعيد الله هذا الملك لهذا الشعب كما قضى في كتابه ، وسيكون تطلع هذا الشعب لإعادة هذا الملك بكل عقله وقلبه ، وإنه لا يشك للحظة إنه سيستعيده ، وهو لا بد مسترجعه (2).
واختلفوا في المسيح المنتظر الذي سيستعيد مملكة داوود وعاء عهد الله لإبراهيم ، فزعم يهود السامرة أن المسيح سيكون من سبط يوسف عليه السلام ، وزعم يهود أورشاليم أنه سيكون من سبط يهوذا من نسل داوود (3) واتفقوا في أحداث مجئ
المسيح ، وقالوا ( تطرح الأرض فطيرا وملابس من الصوف ، وقمحا حبه بقدر كلاوي الثيران الكبيرة ، وفي ذلك الزمان ترجع السلطة لليهود ، وكل الأمم تخدم ذلك المسيح وتخضع له ، وفي ذلك الوقت يكون لكل يهودي ألفان وثمانمائة عبد يخدمونه ، وثلثمائة وعشرة أكوان تحت سلطته ، ولكن لا يأتي المسيح إلا بعد القضاء على حكم الأشرار ، ولذلك يجب على
كل يهودي أن يبذل جهده لمنع امتلاك باقي الأمم في الأرض ، كي تظل السلطة لليهود وحدهم ، لأنه من الضروري أن تكون لهم السلطة أينما
---------------------------
(1) الكنز المرصود ص 190.
(2) المصدر السابق ص 84.
(3) نقد التوراة / حجازي السقا ص 168.
ابتلاءات الامم _ 104 _
حلوا ، فإن لم يتيسر لهم ذلك اعتبروا منفيين وأسارى ، وإذا تسلط غير اليهود على وطن اليهود ، حق لهؤلاء أن يندبوا عليه ويقولون : يا للعار ويا للخراب ويستمر ضرب الذل والمسكنة على بني إسرائيل حتى ينتهي حكم الأجانب ، وقبل أن يحكم اليهود نهائيا باقي الأمم يجب أن تقوم الحرب على قدم وساق ، ويهلك ثلثا العالم ويبقى اليهود سبع سنوات متواليات يحرقون الأسلحة التي كسبوها بعد النصر ... ويعيش اليهود في حرب طاحنة مع باقي الشعوب في انتظار ذلك اليوم ، وسيأتي المسيح الحقيقي ويحقق النصر المنتظر ويقبل المسيح إذ ذاك هدايا جميع الشعوب ... وتكون الأمة اليهودية يومئذ في غاية الثراء ... وإن هذه الكنوز ستملأ بيوتا كثيرة لا يمكن حمل مفاتيحها وأقفالها إلا على ثلاثمائة حمار ، وترى الناس كلهم حينئذ يدخلون في دين اليهود أفواجا ... ويتحقق أمل الأمة اليهودية بمجئ المسيح ، وتكون هي الأمة المتسلطة على باقي الأمم عند مجئ المسيح ) (1).
وعلى امتداد المسيرة الإسرائيلية ، اكتسب التلمود في نفوس الجماعات الإسرائيلية قداسة وأهمية تفوقان كل مقدس وكل تصور ، يقول د . طعيمة : والتلمود من بين جملة المصادر الدينية الإسرائيلية قد أصبح التوراة المهمة في عواطف القوم ومعتقداتهم ، وهو جملة من القواعد والوصايا والشرائع والتعاليم الدينية والأدبية ، والشروح والتفاسير والروايات المتعلقة بدين وتاريخ وجنس إسرائيل على مدى التاريخ ، وكانت هذه التعاليم والقواعد والشرائع تتناقل وتدرس مشافهة من حين إلى آخر ، ولما تعاظم شأن هذه التعاليم في نفوس الجماعات الإسرائيلية ، وكثرة هذه التعاليم ، قرر كبار الحاخامات أن يسجلوا هذه التعاليم حتى تضاف إلى ما لديهم من نصوص أو مستندات ، وبدأت عملية التسجيل والتدوين
على مراحل متعددة ، وفي مواقع مختلفة (1).
والخلاصة : لقد ركبت المسيرة طريق الانحراف الذي سلكته الأمم الوثنية ، ومن هذا الطريق اكتسبت المسيرة مجموعة من النصائح الانفعالية ، طرحتها ثقافات لا تصيب أصحابها إلا بصدمات نفسية ، أو تجعلهم دائما وأبدا في صراع نفسي غير محسوم ،
وكان بين يدي المسيرة دوائر تبشير ودوائر تحذير ، بينها الأنبياء والرسل وهم يخبرون بالغيب عن ربهم ، ومن دائرة التبشير بشروا بمسيح تلده عذراء الزهد علامة من علاماته ، ومن دائرة التحذير حذروا من مسيح يخرج آخر الزمان فتنة للناس ، معه ماء وطعام ، وذهب وأهواء ، ولكن دوائر التحذير اختلطت بدوائر التبشير ، عندما بدأ القوم يحرفون النصوص.
وعندما أنستهم مناهج المادة والحس حظا مما ذكروا به ، فالتقطوا من بين الخليط ما يتفق مع القاسية قلوبهم ، وعندما بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، أقام الحجة على المسيرة البشرية ، وأخبر أهل الكتاب بما كانوا يختلفون فيه ، ولكن الذين كفروا منهم تكبروا وجادلوا في آيات الله ، قال تعالى : (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير) (2) ، قال ابن كثير : نزلت الآية في اليهود ، وذلك أنهم ادعوا أن المسيح منهم وأنهم يملكون به الأرض ، فأمر الله نبيه ، أن يستعذ من فتنة الدجال (3) وقال في الميزان: أخبر سبحانه أن هؤلاء المجادلين لا ينالوا بغيتهم ولن ينالوا ، وقال لرسوله ، فلا يحزنك جدالهم ، وحصر سبحانه السبب الموجب لمجادلتهم في الكبر ، يريدون به إدحاض الحق الصريح ، وأمره الله أن يستعذ منهم بما لهم من كبر ، كما استعاذ موسى من كل متكبر مجادل.
---------------------------
(1) التراث الإسرائيلي ص 395.
(2) سورة غافر آية 56.
(3) تفسير ابن كثير 84 / 4.