على أعتاب الدعوة الإلهية الخاتمة كانت الساحة الإنسانية ترتع فيها أعلام المادية ، التي لا يريد أصحابها إلا الحياة الدنيا وزينتها ، ولا يرجون بعثا ولا نشورا ، ولا يعبأون بشئ من الفضائل المعنوية والروحية ، وفي مقابل أصحاب المادة ، رفع دعاة الروح أعلامهم.
وانطلقوا في مسيرة يرفضون فيها الكمالات الجسمية التي أظهرها الله تعالى في مظاهر النشأة المادية ، لتكون ذريعة كاملة إلى نيل ما خلق لأجله الإنسان ، وسارت القافلة البشرية تحت هذه الأعلام التي لا تحقق السعادة في الدنيا ، لأن حملة الأعلام المادية أبطلوا النتيجة بالوقوف على سببها والجمود عليه ، وحملة أعلام الروح أبطلوا النتيجة بإبطال سببها.
كانت المسيرة البشرية في حاجة وسط يقف بين الطرفين.
ويقودهما إلى الهدف الذي من أجله خلق الله الإنسان ، وسط لا إلى هذا الطرف ولا إلى ذاك الطرف ، وإنما يقف بين الجانبين جانب الجسم
ابتلاءات الامم _ 210 _
وجانب الروح ، وبه يقاس ويوزن كل من طرفي الافراط والتفريط ، ليكون شهيدا على سائر الناس الواقعة في الأطراف.
ومن لطف الله تعالى ورحمته بالعباد ، بعث سبحانه النبي الخاتم ، النبي الأمي العربي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ليقود أمة تحمل للبشرية دينا يهدي الناس إلى وسط الطرفين ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
توجهت الدعوة الإلهية الخاتمة إلى البشرية كافة ، وأن أهل الكتاب بينهم من يعرفون الحق ومعارف الدين ، وفيهم رهبان وزهاد يعرفون عظمة ربهم ولا يستكبرون ، وفيهم الباحث عن الحقيقة ، توجهت الدعوة إليهم من طرق عديدة لتحيطهم بالحجة من كل
مكان.
وبين الله تعالى لهم أن رسوله الخاتم (ص) ، هو النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، وقال تعالى : (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من إتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه وبهديهم إلى صراط مستقيم) (1) ، والمعنى : أن الرسول يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه وافتروا على الله فيه ، ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه ، وأن دعوته تدعو إلى الصراط المستقيم المهيمن على الطرق كلها.
---------------------------
(1) سورة المائدة آية 15.
ابتلاءات الامم _ 211 _
ونظرا لأن مسيرة اليهود رشحت عليها عقائد الأمم الوثنية ، وحمل التوحيد على امتداد مسيرتهم بصمات الآلهة المتعددة ، حتى صار الإله في نهاية المطاف إلها خاصا ببني إسرائيل دون غيرهم من الأمم ، ونظرا لأن الأحبار والرهبان بدلوا الدين الذي بعث به عيسى عليه السلام ، ونسبوا إلى المسيح ما لا يجوز وقالوا بألوهيته ، وأطاعتهم القافلة النصرانية من غير قيد وشرط ، فإن الدعوة الخاتمة صححت هذه المفاهيم في أكثر من آية ، ومنها قوله تعالى لرسوله (ص) (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا
وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) (1) ، والمعنى : تعالوا إلى كلمة عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها ، ثم فسر هذه الكلمة بقوله ( أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ، لا وثنا ولا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا نارا ولا شئ ، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له ، وهذه دعوة كل الرسل منذ ذرأ الله ذرية آدم ، ثم قال (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) ، أي لا يسجد بعضنا لبعض ، أو يطيع بعضنا بعضا في معصية الله ، أو نحرم الحلال ونحل الحرام ، فنحن وأنتم ما أمرنا إلا لنعبد الله وحده ، الذي إذا حرم شئ فهو الحرام.
وما حلله فهو الحلال ، وما شرعه إتبع ، وما حكم به نفذ.
تعالى الله سبحانه وتقدس وتنزه عن الشركاء ، والنظراء ، والأعوان ،
والأضداد ، لا إله إلا هو ولا رب سواه ، فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة ، فاشهدوا أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم.
---------------------------
(1) سورة آل عمران آية 64.
عندما بعث النبي الخاتم (ص) ، كان الاختلاف بين اليهود على تحديد القبلة اختلاف ثابتا لا شك فيه ، ونسيانهم للجبل المقدس الذي يجب أن يتوجهوا إليه ، نسيان مسطور فيما بين أيديهم من كتاب ، قال أشعيا وهو يحذرهم بأن الرب قال لهم ( أما أنتم الذين تركوا الرب ونسوا جبل قدسي فإني أعينكم للسيف ) (1) ، وهذا النسيان ترى معالمه على التوراتين : السامرية والعبرية ، فبينما تقول التوراة السامرية أن القبلة في اتجاه جبل ( جرزيم ) ، تقول التوراة العبرانية إنها في اتجاه جبل ( عيبال ) ، والمسيح عليه السلام شهد بوجود هذا الاختلاف في عهد بعثته ، وبشرهم بأن العبادة لن تكون في المستقبل لا في اتجاه هذا الجبل ولا في اتجاه أورشاليم ، وذلك لأن الله سينزع من أيديهم القيادة ويسلمها إلى شعب آخر (2) ، وما ذكره المسيح عليه السلام بخصوص القبلة ، جاء عندما كان متوجها إلى أورشاليم ، فقالت له امرأة سامرية ( يا سيدي أرى إنك نبي ، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل ، وأنتم تقولون أن في أورشاليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه ، فأجابها يسوع : صدقيني يا امرأة ستأتي الساعة التي فيها تعبدون الآب لا في هذا الجبل ولا في أورشاليم ) (3) ، وقبل البعثة الخاتمة ، لم يكن في أورشاليم هيكلا ، بعد أن دمر الإمبراطور تيطس آخر هيكل عام 75 ميلادية ، ولم يكن في أورشاليم حاخامية لليهود ، بعد أن ألغى الإمبراطور ثيودوسيوس الحاخامية عام 435 ميلادية وترتب على ذلك تفرق اليهود في الأرض.
ولما كانت الدعوة الإلهية المتوجهة إلى بني إسرائيل قد نزل
عليها الستار بعد بعثة عيسى عليه السلام ، لأنه آخر أنبياء بنو إسرائيل عليهم السلام ، ولما كان عيسى عليه السلام يسجد لله في اتجاه أورشاليم ، ولما كانت الدعوة الإلهية اللاحقة تبدأ من حيث انتهت الدعوة الإلهية التي سبقتها ، باعتبار أن الدعوة الإلهية للناس منذ ذرأ الله ذرية آدم دعوة واحدة ، صراطها واحد وغاياتها واحدة ، فتبدأ دعوة اللاحق من الرسل من حيث انتهت دعوة السابق من الرسل ، ثم يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد ، ويكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء ، لأنه تعالى له الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك ، ولما كان أهل الكتاب يعلمون من كتب أنبيائهم أن الدعوة الخاتمة لها صفات خاصة بها ، وأنها ستبين لهم ولغيرهم الاتجاه الذي يجب أن يسجد نحوه الناس لله ، فإن الله تعالى عندما بعث رسوله الخاتم (ص) ، أمره بالتوجه إلى قبلة بيت المقدس ، والمعنى الذي يستشف من هذا الحدث هو أن الدعوة الإلهية دعوة واحدة ، وأن الحلقات فيها ترتبط بعضها ببعض ، وتحت هذا السقف تقام الحجة على الذين اختلفوا في الدين والذين جعلوا الدين دينا خاص بهم ، وتحت هذا السقف ينظر الله إلى عباده كيف يعملون ، ومن يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.
وعندما كانت القبلة في اتجاه بيت المقدس ، تدبر في الأحداث الذين يعرفون الحق ومعارف الدين والزهاد من أهل الكتاب وأصغوا لصوت الحق ، وتكاتم البعض ذلك بينهم حسدا وكفرا وعنادا ، وانطلقوا يصدون عن سبيل الله ، وبعد أن أقامت الدعوة حجتها على
بني إسرائيل في هذا الأمر ، أمر تعالى رسوله (ص) بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بمكة ، وأخبره بأن أهل الكتاب يعلمون أنه الحق من ربهم ، قال تعالى : (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول
ابتلاءات الامم _ 214 _
عليكم شهيدا ، وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه) إلى قوله تعالى : (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ، ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم) (1) قال المفسرون ، والمعنى : إنما شرعنا لك يا محمد أولا التوجه إلى بيت المقدس ، ثم صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ، ممن ينقلب على عقبيه ، وإن
كان صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة لأمرا عظيما في النفوس ، إلا على الذين هدى الله قلوبهم ، فأيقنوا بتصديق الرسول ، وبأن كل ما جاء به هو الحق الذي لا مرية فيه ، وبأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وله تعالى أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء ، وهذا بخلاف ما يقوله الذين في قلوبهم مرض ، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا ، ثم أخبره تعالى بأن صلاتهم إلى بيت المقدس لن يضيع ثوابها عند الله ، وأمره تعالى بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام ، وأخبره أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أن الله سيوجهه إلى هذه القبلة : مما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسوله الخاتم (ص).
وما خصه الله تعالى به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة ، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدا وكفرا وعنادا ، وأخبر تعالى أن الرسول لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به ، لما اتبعوا قبلته كفرا وعنادا ، وإنه لن يتبع قبلتهم لأن ذلك عن أمر الله تعالى ، له الحكمة التامة والحجة البالغة ، ثم أشار تعالى إلى اختلافهم فيما بينهم في تحديد قبلتهم
---------------------------
(1) سورة البقرة آية 142 ـ 145.
ابتلاءات الامم _ 215 _
القديمة ، وهو قوله ( وما بعضهم بتابع قبلة بعض ) ، وأمره تعالى أن يستمسك بأمر الله ولا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ، وقال جل شأنه ( ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ، الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) (1) ، والمعنى : أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاء به الرسول ، ومن ذلك توجهه شطر المسجد الحرام ، كما يعرف أحدهم ولده.
وبالجملة كان التوجه إلى بيت المقدس ، ثم صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة ، امتحان لأهل الكتاب الذين علموا من أبنائهم أن قيادة الدعوة الإلهية ستنتقل من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل ، وأن عنوان هذه الدعوة ورسولها هو النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان امتحان أيضا للذين اتبعوا النبي (ص) من العرب وغيرهم ، لأن صرف التوجه عن بيت المقدس سيثير شكوك البعض ، وسيغذي أهل الكتاب والذين في قلوبهم مرض هذه الشكوك وهم يصدون عن سبيل الله ، وتحت سقف هذا الامتحان ينظر الله إلى عباده كيف يعملون.
بعد عهد السبي تاجر اليهود بالميراث الذي كتبه الله لإبراهيم ، وانطلقوا في اتجاه هذا الهدف بالعمل على إقامة مملكة داوود وعاصمتها أورشاليم ، بعد أن تبنوا عقيدة تقول أن مملكة داوود هي وعاء للعهد الإبراهيمي ، وعلى امتداد مسيرتهم وبخهم الأنبياء على هذا الاعتقاد ، فقال لهم حزقيال تقولون ( إن إبراهيم كان واحدا وقد ورث الأرض ، ونحن كثيرون لنا أعطيت الأرض ميراثا ... تأكلون بالدم وترفعون
---------------------------
(1) سورة البقرة آية 146.
ابتلاءات الامم _ 216 _
أعينكم إلى أصنامكم وتسفكون الدم ، أفترثون الأرض ؟ ) (1) وقال لهم يوحنا (يحيى) تقولون ( لنا إبراهيم أبا ، فإني أقول لكم إن الله قادر أن يطلع من هذه الحجارة أولاد إبراهيم ) (2) وقال لهم المسيح عليه السلام ( لو كنتم أولاد إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم ) وقال ( أنتم أولاد أبيكم إبليس ، وشهوات أبيكم ترغبون في أن تعملوا ، فهو من البدء كان قاتلا للناس ) (3).
وعندما بعث النبي الخاتم (ص) ، تحدث أهل الكتاب بعقيدتهم الخاصة بالميراث ، وعملوا على نشر الثقافة التي تصب في وعاء هذه العقيدة ، واليهود في مصادر الإسلام أعلنوا أنهم في انتظار المسيح الذي يملكون به الأرض ، والنصارى تحدثوا بما وضعه بولس في عقولهم.
وهو أن الأمم شركاء لليهود في الميراث ، ووفقا لهذا الاعتقاد بدؤوا في التحرك لوقف تحرك الدعوة الخاتمة في اتجاه الأمم ، وشيد اليهود والنصارى صروحهم على إبراهيم عليه السلام ، فبينما زعم الحي اليهودي أن إبراهيم كان يهوديا ، زعم الحي النصراني أن إبراهيم كان نصرانيا ، وفي زحمة هذه الثقافات ، قالت اليهود ليست النصارى على شئ ، وقالت النصارى ليست اليهود على شئ ، وهذه الأقوال والاعتقادات شهد بها القرآن الكريم ورد عليها وأقام على هؤلاء وهؤلاء الحجة الدامغة ، ومن هذه الآيات قوله تعالى : ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ، قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) (4) والمعنى : لو كنتم كما تدعون أبناؤه وأحباؤه ، فلم أعددت لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم ) بل
---------------------------
(1) حزقيال 33 / 23 ـ 25.
(2) متي 3 / 7 ـ 11.
(3) يوحنا 8 / 37.
(4) سورة المائدة آية 18. (8)
ابتلاءات الامم _ 217 _
أنتم بشر ممن خلق ) أي لكم أسوة بأمثالكم من بني آدم وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده ، فعال لما يريد لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
وقال تعالى : ( وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ، قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا
نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ، فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ، وإن تولوا فإنما هم في شقاق ) (1) وقبل هذه الآيات بين تعالى أن الدين الحق الذي كان عليه أولاد إبراهيم من إسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده ، كان هو الإسلام الذي كان عليه إبراهيم حنيفا ، ويستنتج من ذلك أن أهل الكتاب على عهد البعثة الخاتمة ، كانوا قد انتهى بهم المطاف إلى أرضية الاختلافات والانشعابات ، التي أفرزتها اختراعاتهم وهوساتهم ، بعد أن صبغوا دين الله بصبغة الأهواء والأغراض والمطامع ، وروي أن اليهودي عبد الله بن صوريا قال للرسول (ص) : ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد ، وقالت النصارى مثل ذلك (2) ، فقال الله لرسوله ( قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ) أي : قل بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا ، فإنها الملة الواحدة التي كان عليها جميع أنبيائكم ، وما كان صاحب هذه الملة وهو إبراهيم من المشركين.
ثم ذكر لهم أن الدعوة الخاتمة تؤمن بالله وما أنزل إليها وهو القرآن وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ، ثم ذكر ما أوتي موسى وعيسى وخصهما بالذكر لأن المخاطبة مع اليهود
---------------------------
(1) سورة البقرة آية 135.
(2) تفسير ابن كثير 186 / 1.
ابتلاءات الامم _ 218 _
والنصارى ، ثم ذكر ما أوتي النبيون من ربهم لتشمل الشهادة جميع الأنبياء فيستقيم قوله بعد ذلك ( لا نفرق بين أحد منهم ).
ثم قال تعالى : ( فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا ) أي ، فإن آمنوا بما آمنتم به من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه.
من الآيات السابقة يمكن أن نستشف الثقافة التي كان اليهود والنصارى يبثونها على عهد الرسالة الخاتمة ، فلقد ادعوا بأنهم أبناء الله وأحباؤه ، وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ، ويبدو أن القرآن عندما ضرب العمود الفقري لثقافتهم هذه ، قرروا بأن يعمل كل حي من أحيائهم على إنفراد ، ويمكن أن نستشف ذلك من قوله تعالى : ( وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب ) (1) قال المفسرون : هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله (ص) ، وهذا القول يقتضي أن كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى ، ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه مع علمهم بخلاف ذلك ، ولهذا قال تعالى : ( وهم يتلون الكتاب ) أي وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل ، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت ، ولكنهم تجاحدوا فيما بينهم عنادا وكفرا ومقابلة للفاسد بالفاسد (2) ، وبالجملة : قد كان أوائل اليهود والنصارى على شئ ، وهذا لا تخلو منهم كتبهم لإقامة الحجة عليهم على امتداد المسيرة ، ثم ابتدع الذين من بعدهم وتفرقوا ، ثم جاء العلماء الذين وضعوا التفسير الشفهي للتوراة (التلمود) وعنده انقسم اليهود إلى فرق وأحزاب ، وانتهى الأمر بأن وقف الحي اليهودي داخل دائرة حددها
---------------------------
(1) سورة البقرة آية 113.
(2) ابن كثير 155 / 1.
ابتلاءات الامم _ 219 _
الأحبار ، ووقف الحي النصراني داخل دائرة حددها بولس لخدمة أصحاب الدائرة الأولى ، فالثقافة التي تخرج من مدونات خدمة النصارى لليهود تقول بأن اليهود والنصارى أبناء الله وأحباؤه ، أما الثقافة التي يقول كل منهم أن الآخر ليس على شئ ، فهي نتيجة لحجة البعثة الخاتمة ومواجهتها للأطراف مجتمعين ، فالدعوة الخاتمة أرشدتهم إلى الحق ليتفكروا ويتدبروا ، وبدلا من أن يرجعوا إلى كتبهم التي لا تخلو من حق ويعرضونها على منهج البعثة الخاتمة ، إنطلقوا من التفسير الشفهي وهذا التفسير لا يقيم حقا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، لأنه مقابلة للفاسد بالفاسد.
وفي مجال عمل كل حي منفردا عن الآخر ، قام كل منهما بوضع جميع الأنبياء داخل الحي الخاص به ، ورد القرآن عليهم قولهم ، قال تعالى : ( أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ، ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون ) (1) ، والمعنى : قال كل من الفريقين إن إبراهيم ومن ذكر بعده منهم ، فقال تعالى : ( قل أأنتم أعلم أم الله ) ، أي فإن الله أخبرنا وأخبركم في الكتاب أن موسى وعيسى وكتابهما بعد إبراهيم ، فإذا كان تشريع اليهودية أو النصرانية بعد إبراهيم ومن ذكر معه ، فكيف يكون إبراهيم والذين ذكروا معه هودا أو نصارى ؟
وقال تعالى : ( يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ، ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ، إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا
---------------------------
(1) سورة البقرة آية 140.
ابتلاءات الامم _ 220 _
والله ولي المؤمنين ، ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ، وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون ، با أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ، يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) (1).
لقد أنكر الله عليهم قولهم ذلك ، وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها ، وشهد سبحانه بأن إبراهيم كان متحنفا عن الشرك قاصدا إلى الإيمان وما كان من المشركين ، وأخبر سبحانه بأن أحق الناس بمتابعة إبراهيم ، الذين اتبعوه على دينه ، وهذا النبي ، يعني محمدا (ص) والذين آمنوا ، لأنهم على الإسلام الذي اصطفى الله به إبراهيم ، وكذا كل من اتبعه دون أن يكفر بآيات الله ويلبس الحق بالباطل ، ثم أخبر تعالى بأن طائفة من أهل الكتاب تود أن تضل الذين آمنوا بإلقاء الشبهات بينهم ، وإنهم يضلون أنفسهم أولا ، لأن الإنسان لا يفعل شيئا من خير أو شر إلا لنفسه كما قال تعالى : ( من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ) (2) ، ثم قال سبحانه ( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون ) وأهل الكتاب لا ينكرون أن للعالم إلها ، وإنما ينكرون أمورا من الحقائق بينتها لهم الكتب السماوية المنزلة عليهم وعلى غيرهم ، كنبوة النبي (ص) ، وكون عيسى عبدا لله ورسولا منه ، وأن إبراهيم ليس بيهودي ولا نصراني ، وإن يد الله مبسوطة ، وإن الله غني ، وإن الدجال فتنة فيه تصب جميع الفتن ، إلى غير ذلك ، وقوله تعالى : ( وأنتم تشهدون ) والشهادة هو الحضور والعلم عن حس ، دلالة على أن المراد بكفرهم بآيات الله ، إنكارهم كون النبي (ص) هو النبي الموعود الذي بشر
---------------------------
(1) سورة آل عمران آية 65 ـ 71.
(2) السجدة آية 46.
ابتلاءات الامم _ 221 _
به التوراة والإنجيل ، مع مشاهدتهم انطباق الآيات والعلائم المذكورة فيهما عليه ، وأيضا إنكارهم ما يبينه لهم النبي الخاتم (ص) من آيات ربهم التي تنطق بها كتبهم ، التي بين أيديهم ويشهد القرآن بها ، ثم قال تعالى : ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون ) والمعنى لم تظهرون الحق في صورة الباطل ؟ وقوله : ( وأنتم تعلمون ) دلالة أو تلويح على أن المراد باللبس والكتمان ما هو في المعارف الدينية ، غير ما يشاهد من الآيات التي حرفوها أو كتموها أو فسروها بغير ما يراد منها.
ولما كان الله تعالى قد أنكر عليهم كفرهم بآيات الله وهم يشهدون ، فإنه تعالى بين في آية أخرى من آيات القرآن الكريم ، أن جدالهم في آيات الله بغير سلطان أتاهم ، رغبة منهم في إدحاض الحق الصريح بهذا الجدال ، قد أوقعهم في فتنة المسيح الدجال ، ففي قوله تعالى : ( إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير ) (1) ، أخرج ابن أبي حاتم عن كعب ، أن هذه الآية نزلت في اليهود فيما ينتظرونه من أمر الدجال ، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : قال اليهود ، يكون منا ملك آخر الزمان ، البحر إلى ركبتيه ، والسحاب دون رأسه ، يأخذ الطير بين السماء والأرض ، معه جبل خبز ونهر ، وقال أبو العالية : نزلت هذه الآية في اليهود ، وذلك إنهم ادعوا أن المسيح ( الدجال ) منهم وإنهم يملكون به الأرض ، فقال الله لنبيه (ص) آمرا له : أن يستعذ من فتنة الدجال (2).
وبالجملة بينت الدعوة الإلهية الخاتمة ، أن الرقعة التي يقف
---------------------------
(1) سورة غافر آية 56.
(2) أنظر تفسير ابن كثير 84 / 4 ، تفسير الميزان 348 / 17.
ابتلاءات الامم _ 222 _
عليها أهل الكتاب ويطالبون من فوقها الميراث الذي كتبه الله لإبراهيم ، رقعة لا علاقة لها بإبراهيم ولا بالأنبياء الذين جاؤوا من بعده ، لأنها رقعة أوجدها الاختلافات والانشعابات ، وهذا لا يستقيم مع الدين الإلهي ، لأن الدين واحد كما أن الإله المعبود بالدين واحد وهو دين إبراهيم عليه السلام ، وهذا الدين هو الذي تتمسك به الدعوة الإلهية الخاتمة ، ولما كان القوم لا علاقة لهم بإبراهيم ، وشهد بذلك حزقيال وأشعيا ويوحنا والمسيح عليه السلام ، وشهد بذلك القرآن الكريم الذي أنزل على محمد (ص) ، فالنتيجة هي أن القوم لا علاقة لهم بميراث إبراهيم في الدنيا والآخرة ، ولما كان القوم ما زالوا يعتقدون بأن القدر يخبئ لهم أمير سيخرج آخر الزمان يمتلكون به الأرض ، فإن الدعوة الخاتمة أخبرت بأن المسيح الدجال سيخرج آخر الزمان ، وأنه سيرفع شعار أرض الميعاد ، وأن أكثر أتباعه من اليهود ، ويلحق بهم الذين أخذوا بذيول اليهود ، ثم الذين اتبعوا سنن أهل الكتاب شبرا بشبر وذراعا بذراع ...
أقامت الدعوة الإلهية الخاتمة حجتها على أهل الكتاب ، وبينت لهم أن الله تعالى منذ بعث نوح عليه السلام لم يرسل بعده رسولا ولا نبيا إلا من ذريته ، وكذلك إبراهيم عليه السلام لم ينزل من السماء كتابا ولا أرسل سبحانه رسولا ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته ، قال تعالى : ( ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ) (1) وبينت الدعوة الخاتمة أن جميع الأنبياء يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، قال تعالى ( وما أرسلنا من قبلك من
---------------------------
(1) سورة الحديد آية 21.
ابتلاءات الامم _ 223 _
رسول إلا نوحي إليه إنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) (1) ، وإن إبراهيم عليه السلام لم يدع غيره ولا أشرك به طرفة عين ، وتبرأ من كل معبود سواه ، ومن ترك طريقة إبراهيم عليه السلام يكون قد ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال ، وبينت الدعوة أن إبراهيم عليه السلام وصى بنيه بالإسلام وبنيه وصوا أبناءهم به من بعدهم ، قال تعالى : ( ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ) (2).
وبينت الدعوة الخاتمة بأنها تؤمن بكل نبي أرسل ، وأخبرت أن كل من سلك طريقا سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ، قال تعالى لرسوله (ص) ( قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ، ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) (3) ، وأعلنت الدعوة من يومها الأول أنها على ملة إبراهيم عليه السلام قال تعالى : ( ثم أوحينا إليك أن إتبع ملة إبراهيم حنيفا ) (4) ، وقال جل شأنه لرسوله (ص) ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ، قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) (5).
---------------------------
(1) سورة الأنبياء آية 25.
(2) سورة البقرة آية 131.
(3) سورة آل عمران آية 162.
(4) سورة النحل آية 123.
(5) سورة الأنعام آية 162.
ابتلاءات الامم _ 224 _
لقد بينت الدعوة الإلهية الخاتمة للبشرية العقيدة الحقة ، وأقامت الحجة على أهل الكتاب ليتفكروا وليتدبروا ، ليعلموا أن دين إبراهيم برئ من جميع العقائد التي عليها بصمات العجول وآلهة الأمم المتعددة ، وأن دين إبراهيم لا علاقة له بعقائد التثليث وألوهية المسيح ، ولم تكن مهمة إبراهيم عليه السلام في يوم من الأيام هي البحث عن الميراث من النيل إلى الفرات ، وإنما كان عليه السلام إماما للناس ، يقتدون به ويتبعونه في أقواله وأفعاله ، وهذه الإمامة لا ينالها ظالم من ولده ، لأن الله لا يجعل الظالمين أئمة ولا يعطي الإمامة لعدوه ، لأن هؤلاء يأتون كنتيجة لأعمال الظالمين من الناس ، والله تعالى رؤوف بالعباد ، والناس تحت مظلة الاختبار يمتحنون ، فمن سلك طريقا على ذروته إمام للرحمة والعدل ، وصل إلى غايته ، ومن سلك طريقا على ذروته إمام يدعو إلى النار ، دخل فيها.
وعلى امتداد عهد البعثة الخاتمة ، بين الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أن شريعته تنهى عن الفحشاء والمنكر وتأمر بالمعروف ، وتحذر من البغي والاستكبار والاختلاف ، وتنادي بالعدل والإحسان والاستقامة ، وتدعو إلى العمل الصالح
والتفكر والتدبر والإصلاح والإخلاص ، وإن منهج الدعوة عموده الفقري هو التوحيد ، وشجرته الأخلاق الفاضلة ، إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي.
وعلم أهل الكتاب وغيرهم أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، وقال تعالى : ( إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) (1) ، ولقد أختبر الله تعالى الفرع الإسرائيلي من الشجرة الإبراهيمية ، وبعث فيهم الأنبياء والرسل لينظر سبحانه كيف تعمل القافلة ، وعلم أهل الكتاب كيف سارت القافلة ، وبماذا حكم الله عليها.
---------------------------
(1) سورة الأعراف آية 128.
ابتلاءات الامم _ 225 _
وهذا الحكم يقرؤه فيما بين أيديهم من التوراة الحاضرة ، ومنه قول الرب لهم ( ها أنذا أنساكم وأرفضكم من أمام وجهي أنتم والمدينة التي أعطيتكم وآبائكم إياها ، وأجعل عليكم عارا أبديا وخزيا أبديا لا ينسى ) (1) ، وقال : ( هوذا من أجل آثامكم بعتم ، ومن أجل ذنوبكم طلقت أمكم ) (2) ، وبين هذا الحكم وبين البعثة الخاتمة ، قتلوا الأنبياء الذين بعثهم الله لإقامة الحجة على الأجيال المتعاقبة ، وعندما جفت المسيرة من الماء ، بعث النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ليختبر الله تعالى بمنهجه أمة جديدة في مقدمة عالم جديد.
وببعثة النبي الخاتم ، حكمت الدعوة الإلهية حكمها الفصل على قصة الميراث ، التي سهر عليها بني إسرائيل ليلا طويلا ، وذلك ببسط الدعوة يدها على المسجد الحرام والمسجد الأقصى في رحلة واحدة في ليلة واحدة ، قال تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ) (3) ، فالميراث بدأت حدوده من موضع سجود ، وانتهت إلى موضع سجود ، وهو ممتد إلى كل موضع سجود ، وليس معنى هذا أن الدعوة الخاتمة تبحث عن الأرض والطين ، وإنما معناه أنها ترعى التقوى في أي مكان وتعمل من أجل الاصلاح في كل مكان ، ترعى التقوى لأن العاقبة للمتقين ، وتعمل من أجل الاصلاح حتى يرث الصالحون ، قال تعالى : (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) (4).
ولأن الدعوة تقوم على التوحيد ، ولأن التوحيد هو الحصن
---------------------------
(1) أرميا 23 / 40.
(2) أرميا 17 / 2 ـ 4.
(3) سورة الإسراء آية 1.
(4) سورة الأنبياء آية 105.
ابتلاءات الامم _ 226 _
الحصين الذي يحفظ الإنسان من الزلل ، قال رسول الله (ص) ( والذي نفس محمد بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أصحاب النار ) (1) ، وروي أنه (ص) ذهب إلى يهود ، وقال لهم ( يا معشر يهود أسلموا تسلموا ) فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم ، فقال ( أسلموا تسلموا ) فقالوا : قد بلغت يا أبا القاسم فقال ( ذلك أريد ) ( أي : أريد أن تعرفوا أني بلغت ) ثم قال لهم ( إعلموا إنما الأرض لله ولرسوله ، وإني أريد أن أجليكم من هذه الأرض ، فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه ، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ورسوله ) (2) فالرسول (ص) بلغ بالإسلام ، ولكن القوم كانت عيونهم على الأرض والطين ، لأنهم من أجل هذا الميراث يعملون ، فوقفوا بما يعتقدون أمام القول الفصل وهو ( إعلموا أن الأرض لله ورسوله ) ، ولم يكن الجلاء من جزيرة العرب عقابا وحيدا للذين يصدون عن سبيل الله ، وإنما أنذرهم الله بعقاب أليم في الحياة الدنيا والآخرة ، قال تعالى : ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما أنزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها على أدبارها ، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمرا مفعولا ) (3) ، قال في الميزان : دعاهم الله تعالى إلى الإيمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم ، وأوعدهم بالسخط الذي يلحقهم لو تمردوا واستكبروا من طمس أو لعن يتبعانهم اتباعا لا ريب فيه ، وطمس الوجوه محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدهم الحيوية مما فيه سعادة الإنسان المرتقبة والمرجوة ، وهذا المحو ليس هو المحو الذي يوجب فناء الوجوه وزوالها ، بل محو يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها ، فإذا كانت الوجوه تقصد مقاصدها على الفطرة التي فطر الله
---------------------------
(1) رواه مسلم (الصحيح 93 / 1).
(2) رواه مسلم (الصحيح 159 / 5).
(3) سورة النساء آية 47.
ابتلاءات الامم _ 227 _
الناس عليها ، فإن الوجوه المطموسة لا تقصد إلا ما خلفته وراءها ولا تمشي إليه إلا القهقرى ، وهذا الإنسان الذي يسير في غير اتجاه الفطرة كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه وصلاحا لدينه ودنياه لم ينل إلا شرا وفسادا ، وكلما بالغ في التقدم زاد في التأخر وليس بفالح أبدا ، وقوله تعالى : ( نطمس وجوها ) فيه أنه تعالى أتى بالجمع المنكر ، ولو كان المراد الجميع لم ينكر ، ولتنكير الوجوه وعدم تعيينها هدف من ورائه حكمة ، هي أن المقام لما كان مقام الإبعاد والتهديد وهو إبعاد للجماعة بشر لا يلحق إلا ببعضهم ، كان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الانذار والتخويف ، لأن وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كل واحد من القوم ، فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب (1).
حذرت الدعوة الخاتمة من سلوك سبيل الذين كفروا من أهل الكتاب ، لأن الدعوة تقيم وجهها للدين وتتجه بالبشرية إلى الأمام.
وتمدها على امتداد الطريق بالزاد الفطري الذي يحقق السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي ، بينما تتقدم قافلة الذين كفروا إلى الخلف بزاد عذاب الطمس الذي ضربه الله عليهم بما كسبت أيديهم ، وعلى امتداد هذا الطريق ، كلما بالغ أصحابه في التقدم زادوا في التأخر ولن يحصلوا على السعادة الحقيقية أبدا.
ومن الآيات التي حذر فيها الله من الذين كفروا من أهل الكتاب قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء
---------------------------
(1) الميزان 367 / 4.
ابتلاءات الامم _ 227 _
بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) (1) ، قال في الميزان : نهى عن مودتهم الموجبة إلى تجاذب الأرواح والنفوس ، لأن ذلك يقلب حال المجتمع من السيرة الدينية المبنية على سعادة اتباع الحق ، إلى سيرة الكفر المبنية على اتباع الهوى وعبادة الشيطان والخروج عن صراط الحياة الفطرية ، وقوله تعالى : ( بعضهم أولياء بعض ) أي لتضارب نفوسهم وتجاذب أرواحهم ، المستوجب لاجتماع آرائهم على اتباع الهوى والاستكبار عن الحق وقبوله ، واتحادهم على إطفاء نور الله سبحانه ، وتناصرهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، كأنهم نفس واحدة ذات ملة واحدة وليسوا على وحدة الملية ، لكن يبعث القوم على الاتفاق ويجعلهم يدا واحدة على المسلمين أن الإسلام يدعوهم إلى الحق ، ويخالف أعز المقاصد عندهم وهو اتباع الهوى والاسترسال في مشتهيات النفس وملاذ الدنيا ، فهذا هو الذي جعل الطائفتين اليهود والنصارى على ما بينهما من الشقاق والعداوة مجتمعا واحدا ، يقترب بعضه من بعض ويرتد بعضه إلى بعض ، يتولى اليهود النصارى وبالعكس ، ويتولى بعض اليهود بعضا وبعض النصارى بعضا ، وبالجملة : لا تتخذوهم أولياء لأنهم على تفرقهم وشقاقهم فيما بينهم يدا واحدة عليكم ، لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودة والمحبة ، وربما أمكن أن يستفاد من قوله ( بعضهم أولياء بعض ) معنى آخر وهو : أن لا تتخذوهم أولياء لأنكم إنما تتخذونهم أولياء لتنتصروا ببعضهم الذين هم أولياؤكم على البعض الآخر ، ولا ينفعكم ذلك ، فإن بعضهم أولياء بعض فليسوا ينصرونكم على أنفسهم (2).
ومن آيات التحذير أيضا قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا
---------------------------
(1) سورة المائدة آية 51.
(2) تفسير الميزان 373 / 5.
ابتلاءات الامم _ 229 _
نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ) (1) قال في الميزان : أي أنك ترى اليهود الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، أي حظا منه لا جميعه كما يدعون لأنفسهم ، يشترون
الضلالة وتختارونها على الهدى ويريدون أن تضلوا السبيل ، فإنهم وإن لقوكم ببشر الوجه ، وظهروا لكم في زي الصلاح ، واتصلوا بكم اتصال الأولياء الناصرين ، فذكروا لكم ما ربما استحسنته طباعكم واستصوبته قلوبكم ، لكنهم ما يريدون إلا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لأنفسهم الضلالة ، والله أعلم منكم بأعدائكم.
وهم أعداؤكم ، فلا يغرنكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم ، فإياكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوقة وإلقاءاتهم المزخرفة وأنتم تقدرون أنهم أولياءكم وأنصاركم ، فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة ونصرتهم المرجوة ، وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ، فأي حاجة مع ولايته ونصرته إلى ولايتهم ونصرتهم (2).
ومنها قوله تعالى : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ، قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير ) (3) ، قال في الميزان : أي ، إن هؤلاء ليسوا براضين عنك حتى تتبع ملتهم التي ابتدعوها بأهوائهم ونظموها بآرائهم ، ثم أمر الله رسوله بالرد عليهم بقوله ( قل إن هدى الله هو الهدى ) أي إن الاتباع إنما هو لفرض الهدى ولا هدى إلا هدى الله ، أما غيره وهو ملتكم ليس بالهدى ، فهي أهوائكم ألبستموها لباس الدين وسميتموها باسم الملة (4) ، وقال ابن كثير : وقوله تعالى :
---------------------------
(1) سورة النساء آية 45.
(2) الميزان 363 / 4.
(3) سورة البقرة آية 120.
(4) الميزان 265 / 1.
ابتلاءات الامم _ 230 _
( ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ... الآية ) فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طريق اليهود والنصارى ، بعد ما علموا من القرآن والسنة ، والخطاب مع الرسول والأمر لأمته ، وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله ( حتى تتبع ملتهم ) حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة (1).
وبالجملة : حذر الله تعالى الأمة من تنظيمات أهل الكتاب.
التي لها أهداف قريبة وأهداف بعيدة ، والتي يحمل أعلامها الفرق المختلفة والطوائف المختلفة ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ) (2) قال المفسرون : يحذر تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا فريقا من أهل الكتاب ، الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله ، كما قال تعالى : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم ) (3) وهكذا قال ههنا ( إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ) وفي آية أخرى قال تعالى : ( ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ) (4).
وباختصار : فالقاعدة العريضة منهم ودوا لو يردون الذين آمنوا من بعد إيمانكم كفارا ، وهناك فرق حملت أعلام هذه القاعدة وانطلقت رجاء تنفيذ هذا الهدف ، وهناك طائفة من أهل الكتاب مهمتها إطفاء الأنوار رغبة منها في أن تضل قافلة الذين آمنوا عن الطريق ، والمعنى : أن الطائفة في خدمة الفريق والفريق في خدمة القاعدة ، وليس معنى
---------------------------
(1) ابن كثير في التفسير 163 / 1.
(2) سورة آل عمران آية 100.
(3) سورة البقرة آية 109.
(4) سورة آل عمران آية 69.
ابتلاءات الامم _ 231 _
هذا إن قاعدة أهل الكتاب خالية من العلماء الذين يبحثون عن الحقيقة.
فهؤلاء أثر أقدامهم على الطريق ، والإسلام لم يغلق أبوابه أمام الذين يريدون الاستبصار منهم في الدين ، وقد أمر الله تعالى بمجادلتهم بالتي هي أحسن ، فقال تعالى في آية محكمة ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ) (1) وقوله : ( إلا الذين ظلموا منهم ) يعني أهل الحرب ، وذكر تعالى في كتابه ، إن الذين قالوا أنهم من أتباع عيسى عليه السلام وعلى منهاج إنجيله ، فيهم مودة للإسلام وأهله ، وما ذاك إلا لما في قلوبهم من الرقة والرحمة ، ويوجد فيهم قسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم ورهبانا ، من صفتهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع والانقياد للحق واتباعه والإنصاف ، وإذا سمعوا ما أنزل على الرسول الخاتم (ص) ، ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، قال تعالى : ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وإنهم لا يستكبرون ، وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ، يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ، وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين ) (2) ، فهذا الصنف من النصارى كان أول ظهوره بالحبشة في النجاشي وأصحابه ، وهم المذكورين في قوله تعالى : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله ) (3) ، وهم الذين قال الله فيهم ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ) (4) ، ومنذ أيام النجاشي
---------------------------
(1) سورة العنكبوت آية 46.
(2) سورة المائدة آية 82.
(3) سورة آل عمران آية 199.
(4) سورة القصص آية 52.
ابتلاءات الامم _ 232 _
وعلى امتداد المسيرة الإسلامية ، لم تغلق الدعوة أبوابها في وجوه الذين يريدون الاستبصار في الدين ، لأن الله تعالى أمر رسوله الخاتم (ص) ، أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة ، والموعظة الحسنة ليحذروا بأس الله تعالى ، وأمره تعالى أن من احتاج من الناس إلى مناظرة وجدال ، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب.
فمن هذه النصوص ومن غيرها نعلم أن الدعوة الإلهية الخاتمة حذرت من اتباع أي مشروع تقدمه الطوائف أو الفرق التي تهدف من وراء برامجها الصد عن سبيل الله ، وفي نفس الوقت فتحت الدعوة أبوابها للباحثين عن الحقيقة من أهل الكتاب لتقيم الحجة
عليهم وعلى غيرهم في كل مكان وزمان ...