الفهرس العام

ثانيا ـ ( أضواء على حركة الاجتهاد والرأي )


ثالثا ـ ( المقدمات العمرية والنتائج الأموية )
أولا ـ ( الأمر برواية الحديث )
( إجتهادات الصحابة في رواية الحديث وتدوينه ) :
( من آثار عدم الرواية والتدوين ) :
1 ـ أضواء على القص :
2 ـ الخفوت والظهور :
ثانيا ـ ( الأمر النبوي في الأموال ) :
( إجتهاد الصحابة في الأموال )

  على امتداد عهد البعثة كان النبي (ص) يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم ، وكان بالساحة من سمع من رسول الله (ص) شيئا ولم يحفظه على وجهه ، ويرويه ويعمل به ويقول أنا سمعته من رسول الله ، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه ، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه ، وكان بالساحة من سمع من رسول الله (ص) شيئا يأمر به ، ثم نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه ، وكان بالساحة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، لم يكذبوا على الله ولا على رسوله ، حفظوا ما سمعوا على وجهه ، فلم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه ، حفظوا الناسخ فعملوا به ، وحفظوا المنسوخ فجنبوا عنه ، عرفوا الخاص والعام ، والمحكم والمتشابه ، فوضعوا كل شئ موضعه ، وقد كان يكون من رسول الله (ص) الكلام له وجهين ، فكلام خاص وكلام عام ، فيسمعه من لا يعرف ما عنى به الله سبحانه به ، ولا ما عنى رسول الله (ص) ، فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من أجله ، وليس كل أصحاب رسول الله في من كان يسأله يستفهمه ، حتى إن كانوا يحبون أن يجيئ الأعرابي والطارئ فيسأله عليه الصلاة

ابتلاءات الامم _ 305 _

  والسلام حتى يسمعوا ، وقال الإمام علي : وكان لا يمر بي من ذلك شئ إلا سألته عنه وحفظته (1) ، ويضاف إلى هذه الأصناف ، الذين احترفوا الكذب على رسول الله (ص) ، ولقد كذب على رسول الله (ص) على عهده ، حتى قام خطيبا فقال ( من كذب علي معتمدا ، فليتبوأ مقعده من النار ).
  ونظر لاتساع الهوة في رواية الحديث بعد إبعاد أهل البيت عن مكانهم في الذروة ، اختلف الناس في الفتوى ، حتى قال الإمام علي ( ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام ، فيحكم فيها برأيه ، ثم ترد القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا ، وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد ، أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه ، أم نهاهم عنه فعصوه ، أم أنزل سبحانه دينا تاما فقصر الرسول عن تبليغه وأدائه ، والله تعالى يقول ( ما فرطنا في الكتاب من شئ ) (2) ، وفيه تبيان كل شئ ، وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا ، وإنه لا اختلاف فيه.
  ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) (3) ، ( إن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ، ولا تنقضي غرائبه ، ولا تكشف الظلمات إلا به ) (4).
  ويشهد بعدم معرفة جميع الصحابة بما روي عن رسول الله (ص) ، واختلافهم في الفتوى ، ما رواه البخاري عن أبي هريرة أنه قال ( إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم ، وإن أبا هريرة كان يلزم

---------------------------
(1) أنظر شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ص 591 / 3.
(2) سورة الأنعام آية 38.
(3) سورة النساء آية 82.
(4) شرح النهج / ابن أبي الحديد 233 / 1.

ابتلاءات الامم _ 306 _

  رسول الله (ص) ، يشبع بطنا ، ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون ) (1) ، وروى البخاري أن عمر بن الخطاب لم يكن يعلم حكم الاستئذان ، وذلك عندما استأذنه أبو موسى ، وعندما لم يؤذن له رجع ، فقال له عمر : ما منعك ؟ قال : استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت ، وقال النبي (ص) : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع ، فقال عمر : والله لتقيمن عليه بينة ، فانطلق أبو موسى إلى مجلس من الأنصار ، وقال : أمنكم أحد سمعه من رسول الله (ص) ؟ فقال أبي بن كعب : لا يقوم معك إلا أصغر القوم ، وفي رواية : لا يشهد إلا أصاغرنا (2) ، قال أبو سعيد الخدري ، وكنت أصغر القوم ، فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي (ص) قال ذلك (3) ، وفي رواية : قال عمر : خفي علي هذا من أمر رسول الله (ص) ، ألهاني الصفق بالأسواق ) (4).
  ويشهد بأنهم لم يكونوا على علم بجميع ما روي عن رسول الله ، ما روي في حديث صحيح ، عن سالم بن عبد الله عن أبيه ( أن أبا بكر وعمر وناس ، جلسوا بعد وفاة النبي (ص) ، فذكروا أعظم الكبائر فلم يكن عندهم فيها علم ، فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو أسأله ، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر ، فأتيتهم فأخبرتهم فأنكروا ذلك ، ووثبوا إليه شيعا حتى أتوه في داره ، فأخبرهم بحديث رسول الله ... ) (5).
  ويشهد باختلافهم في الفتوى ، أن عمر بن الخطاب لم يكن يعلم حكم دية الأصابع ، فكان يقضي بتفاوت ديتها على حسب اختلاف

---------------------------
(1) البخاري (الصحيح 214 / 1).
(2) البخاري ك الإعتصام (الصحيح 269 / 4).
(3) البخاري ك الإستئذان (الصحيح 88 / 4).
(4) البخاري ك الإعتصام (269 / 4).
(5) قال المنذري : رواه الطبراني بإسناد صحيح والحاكم وصححه وقال صحيح على شرط مسلم (الترغيب والترهيب 184 / 3).

ابتلاءات الامم _ 307 _

  منافعها ، حتى وجد كتابا عند آل عمرو بن حزم ، يذكر فيه سنة النبي في ذلك (1) ، ولم يعلم عمر حكم الجنين إذا أسقط قبل ولادته ، حتى جاء المغيرة بقضاء رسول الله (ص) في ذلك (2) ، واختلفوا في ميراث الجدة (3).
  وبالجملة : اجتهد الصحابة تحت سقف الامتحان والابتلاء ، وكان الاجتهاد قابلا للخطأ وللصواب ، فعن موسى بن إبراهيم قال ( إن أبا بكر حين استخلف ، قعد في بيته حزينا ، فدخل عليه عمر بن الخطاب ، فأقبل أبو بكر عليه يلومه ، وقال : أنت كلفتني هذا الأمر ، وشكا إليه الحكم بين الناس ، فقال عمر : أو ما علمت أن رسول الله (ص) ، قال ( إن الوالي إذا اجتهد فأصاب الحق فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ فله أجرا واحدا ... فكأنه سهل على أبي بكر ) (4).

ثالثا ـ ( المقدمات العمرية والنتائج الأموية )
أولا ـ ( الأمر برواية الحديث )

  أمرت الدعوة الإلهية الخاتمة بتدوين ما بين الناس حفظا للحقوق ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) ، إلى قوله تعالى : ( ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ) (5) ، قال الخطيب البغدادي : أدب الله تعالى عباده ، بقيد ما بينهم من معاملات في بداية التعامل حفظا للدين وإشفاقا من دخول الريب فيه ، فلما أمر الله تعالى بكتابة الدين حفظا له ، كان العلم الذي

---------------------------
(1) أخرجه الشافعي في الأم بسند حسن ، والنسائي.
(2) رواه البخاري ك الديات (الصحيح 193 / 4).
(3) رواه أحمد (الفتح الرباني 198 / 15) والترمذي (الجامع 419 / 4).
(4) رواه البيهقي وابن راهويه وخثيمة (كنز العمال 630 / 5).
(5) سورة البقرة آية 282.

ابتلاءات الامم _ 308 _

  حفظه أصعب من حفظ الدين ، أحرى أن تباح كتابته خوفا من دخول الريب والشك فيه (1) ، والكتابة أوكد الحجج ، ببطلان ما يدعيه أهل الريب والضلال ، فالمشركين لما ادعوا بهتانا اتخاذ الله سبحانه بنات من الملائكة ، أمر الله تعالى رسوله أن يقول لهم ( فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين) (2).
  والنبي (ص) أمر بكتابة العلم وقال ( قيدوا العلم بالكتاب ) (3) وعن رافع قال ( خرج علينا رسول الله (ص) فقال : تحدثوا ، وليتبوأ من كذب علي مقعده من النار ، قلت : يا رسول الله إنا لنسمع منك أشياء فنكتبها ؟ قال : إكتبوا ولا حرج ) (4) ، وعن أبي هريرة قال : ليس أحد من أصحاب النبي (ص) أكثر مني حديثا عن رسول الله إلا ابن عمرو ، فإنه كان يكتب ولا أكتب ) (5).
  وروي أن النبي (ص) قال ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ) (6) ، وكان يقول ( نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره ، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ورب حامل فقه ليس بفقيه ) (7) ، وقال ( تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم ) (8).

---------------------------
(1) تقييد العلم / الخطيب البغدادي ص 34.
(2) سورة الصافات آية 157.
(3) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 152 / 1) وابن عبد البر (جامع العلم 86 / 11).
(4) رواه الطبراني (الزوائد 151 / 1) والخطيب وسمويه (كنز العمال 232 / 10).
(5) رواه الترمذي وصححه (الجامع 40 / 5).
(6) رواه أحمد (الفتح الرباني 191 / 1) والحاكم (المستدرك 109 / 1).
(7) رواه أحمد (كنز العمال 220 / 10) والترمذي وابن حبان في صحيحه (كنز 221 / 10).
(8) رواه أحمد وأبو داوود والحاكم (كنز 223 / 10) .

ابتلاءات الامم _ 309 _

  ولقد وقف البعض من قريش في طريق الرواية والكتابة ، ومن المحفوظ أن الله تعالى لعن على لسان رسوله (ص) بعض الأفراد والقبائل ، وأن الرسول ذكر أسماء رؤوس الفتن وهو يخبر بالغيب عن ربه ، حتى أن حذيفة قال ( والله ما ترك رسول (ص) من قائد فتنة ، إلى أن تنقضي الدنيا بلغ معه ثلثمائة فصاعدا ، إلا قد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته ) (1) ويشهد بصد قريش عن الرواية ، ما روي عن عبد الله بن عمرو قال : قلت يا رسول الله أقيد العلم ؟ قال : نعم ، قلت ؟ وما تقييده ؟ قال : الكتابة (2) ، وروي عنه أنه قال : كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله (ص) أريد حفظه ، فنهتني قريش فقالوا : إنك تكتب كل شئ تسمعه من رسول الله (ص) ، ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا ، فأمسكت عن الكتابة ، فذكرت ذلك لرسول الله (ص) ، فقال : أكتب والذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق ـ وأشار إلى فيه (3) ، وما حدث مع عبد الله ، حدث مع ابن شعيب ، فعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال ( قلت يا رسول الله ـ أكتب كل ما أسمع منك ؟ قال : نعم قلت : في الرضا والغضب ؟ قال : نعم فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقا ) (4).
  وبينما كان النبي (ص) يحث على الرواية والكتابة على امتداد عهد البعثة ، كان يخبر بالغيب عن ربه بأنه يوشك أن يكذبه أحدهم ، وأن الرواية سيتم تعطيلها إلى أن يشاء الله ، فعن معد يكرب قال ( قال رسول الله (ص) ، يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ على أريكته ، يحدث بحديث من حديثي فيقول ، بيننا وبينكم كتاب الله ، فما وجدنا فيه

---------------------------
(1) رواه أبو داوود حديث رقم 4243.
(2) رواه الطبراني (الزوائد 152 / 1).
(3) رواه أحمد (الفتح الرباني 173 / 1) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 106 / 1) وأبو داوود (حديث رقم 3646) والدرامي في سننه 125 / 1.
(4) رواه ابن عبد البر (جامع العلم 85 / 1) والخطيب (تقييد العلم ص 74).

ابتلاءات الامم _ 310 _

  من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ) (1) ، وقال (ص) لأصحابه ( لألفين أحدهم متكئا على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري بما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه ) (2) ، وقوله يوشك إشارة إلى أن الأمر قريب ، وقوله متكئ على أريكته ، المتكئ ، كل من استوى قاعدا على وطاء متمكنا.

( إجتهادات الصحابة في رواية الحديث وتدوينه ) :

  إجتهد أبو بكر في رواية الحديث وتدوينه ، روى الحافظ عماد الدين بن كثير عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت : جمع أبي الحديث عن رسول الله (ص) ، فكانت خمسمائة حديث ، فبات ليلة يتقلب كثيرا ، فغمتني ، فقلت : تتقلب بشكوى أو بشئ بلغك ؟ فلما أصبح قال : أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك ، فجئت لها ، فدعا بنار فأحرقها ، وقال : خشيت أن أموت وهي عندك ، فيكون فيها أحاديث عن رجل إئتمنه ووثقت به ولم يكن كما حدثني ، فأكون قد تقلدت ذلك ) (3) ، وذكر الذهبي في تذكرته ، عن أبي بكر أنه قال ( إنكم تحدثون عن رسول الله (ص) أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشد اختلافا ، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا ، فمن سألكم فقولوا ، بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه ) (4).


---------------------------
(1) رواه أحمد (الفتح الرباني 191 / 1) والحاكم وصححه (المستدرك 109 / 1) والترمذي وصححه (الجامع 38 / 5).
(2) رواه أحمد وأبو داوود وابن ماجة والحاكم وصححه (كنز 174 / 1) والترمذي وصححه (الجامع 37 / 5).
(3) رواه ابن كثير (كنز العمال 285 ، 286 / 10).
(4) تذكرة الحفاظ 2 ، 3 / 1.

ابتلاءات الامم _ 311 _

  وروي أن عمر بن الخطاب في خلافته قال : إني كنت أريد أن أكتب السنن ، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم ، كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله ، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشئ أبدا ) (1) وروي عن مالك أن عمر قال ( لا كتاب مع كتاب الله ) (2) ، وعن يحمى بن جعدة قال : ( أراد عمر أن يكتب السنة ثم بدا له أن لا يكتبها ، ثم كتب في الأمصار : من كان عنده شئ من ذلك فليمحه ) (3) ، وعن القاسم بن محمد أن عمر قال : لا يبقى أحد عنده كتاب إلا آتاني به فأرى فيه رأيي ، فظن الناس أنه يريد أن ينظر فيها ويقومها على أمر لا يكون فيه اختلاف ، فأتوه بكتبهم ، فأحرقها بالنار (4).
  وعن سعد بن إبراهيم عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود ولأبي ذر ولأبي الدرداء ، ما هذا الحديث عن رسول الله (ص) ، وأحسبه حبسهم بالمدينة حتى أصيب (5) ، وعن السائب بن يزيد قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة : لتتركن الحديث عن رسول الله (ص) ، أو لألحقنك بأرض دوس (6) ، وعن الزهري عن أبي سلمة قال : سمعت أبو هريرة يقول : ما كنا نستطيع أن نقول ، قال رسول الله (ص) ، حتى قبض عمر بن الخطاب (7).

---------------------------
(1) رواه ابن عبد البر (كنز 292 / 10) وابن سعد (كنز 293 / 10) والخطيب (تقييد العلم ص 49).
(2) رواه ابن عبد البر (كنز 292 / 10).
(3) رواه خيثمة وابن عبد البر (كنز 292 / 10) والخطيب (تقييد العلم 53).
(4) رواه الخطيب (تقييد العلم 52).
(5) رواه ابن عبد البر (كنز العمال 292 / 10) وابن سعد (كنز 293 / 0 1) والخطيب (العلم 49).
(6) رواه ابن عساكر (291 / 10).
(7) رواه ابن كثير (البداية والنهاية 107 / 8).

ابتلاءات الامم _ 312 _

  وبعد عمر بن الخطاب بدأ بعض الصحابة يروون بعض ما عندهم ، فأخذ عثمان بن عفان بسنة عمر في عدم الرواية ، فعن محمود بن لبيب قال : سمعت عثمان بن عفان يقول ، لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع في عهد أبي بكر ولا عهد عمر ) (1) ، ثم أخذ معاوية بن أبي سفيان بهذه السنة ، فقال ( أيها الناس ، أقلوا الرواية عن رسول الله (ص) ، وإن كنتم تتحدثون فتحدثوا بما كان يتحدث به في عهد عمر ) (2).
  وعندما جاء عهد الإمام علي بن أبي طالب ، لم يكن السواد الأعظم من الأمة يعرفون عنه إلا القليل ، وذلك لأن عهده جاء بعد وفاة النبي في بربع قرن تقريبا ، عتم فيها عدم الرواية على منزلته ومناقبه ، وفي عهد علي بن أبي طالب بدأ الصحابة يروون الأحاديث عن رسول الله (ص) ، وكان علي يقول ( خرج علينا رسول الله (ص) فقال : اللهم إرحم خلفائي ، اللهم إرحم خلفائي ، اللهم إرحم خلفائي ، قالوا : يا رسول الله ومن خلفائك ؟ قال : الذين يأتون من بعدي ويروون أحاديثي ويعلمونها للناس ) (3) ، وعن الحسن بن علي قال ( قال رسول الله (ص) ، رحمة الله على خلفائي ، قالوا : ومن خلفاؤك يا رسول الله ؟ قال : الذين يحيون سنتي ويعلمونها للناس ) (4) ، وعن سعيد بن المسيب قال ( ما كان أحد من الناس يقول سلوني ، غير علي بن أبي طالب ) (5) ، وكان علي يحض الناس على السؤال ويقول ( ألا رجل يسأل فينتفع ، وينتفع

---------------------------
(1) رواه ابن سعد (الطبقات 336 / 2) وابن عساكر (كنز 295 / 10).
(2) رواه ابن عساكر (كنز 291 / 10).
(3) رواه الطبراني والرامهرمزي والخطيب والديلمي وابن النجار والدينوري والقشيري ونصر (كنز العمال 294 / 10).
(4) رواه ابن عساكر وأبو نصر السجزي (كنز 229 / 10).
(5) رواه ابن عبد البر (جامع العلم 137 / 1).

ابتلاءات الامم _ 313 _

  جلساءه ) (1) ، وكان يقول ( تزاوروا وتدارسوا الحديث ، ولا تتركوه يدرس ( أي تعهدوه لئلا تنسوه ) ) (2) وقال ( تعلموا العلم ، فإذا علمتموه فاكظموا عليه ولا تخالطوه بضحك وباطل فتمحه القلوب ) (3).
  وبالجملة : بينت الدعوة الإلهية الخاتمة ، أن الحديث عن النبي الخاتم (ص) ، لا غنى للمسيرة عنه ، لأنه مكمل للتشريع ومبين لمجملات القرآن ، ومخصص لعموماته ومطلقاته ، كما أن الحديث تكفل بكثير من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والتربوية ، وأخبر فيه النبي (ص) بالغيب عن ربه جل وعلا ، فبين للناس ما يستقبلهم من أحداث ليأخذوا بأسباب النجاة من مضلات الفتن ، وبعد رحيل النبي الخاتم (ص) أجتهد بعض الصحابة في أمر الرواية والتدوين ، ولقد تواترت الأخبار في منع عمر بن الخطاب الصحابة وهم الثقات العدول ، وردعهم عن رواية العلم وتدوينه ، وفي هذا يقول ابن كثير : هذا معروف عن عمر (4) ، ثم سار على سنة عمر خلفاء وملوك بني أمية ، ولم ترو الأحاديث الجامعة للعلم والمبينة للناس ما يستقبلهم من أحداث ، إلا في عهد الإمام علي بن أبي طالب (ع) (5).

( من آثار عدم الرواية والتدوين ) :

  كانت أهم آثار عدم الرواية ، ظهور القص في المساجد ، ومن خلال القص دخلت الأحاديث الإسرائيلية ، ورفع القص من شأنه أفراد وقبائل ذمهم الله على لسان رسوله ، وفي نفس الوقت عتم القص على

---------------------------
(1) المصدر السابق 137 / 1.
(2) رواه الخطيب (كنز العمال 304 / 10).
(3) رواه عبد الله بن أحمد والخطيب (كنز 304 / 10).
(4) البداية والنهاية 107 / 8.
(5) أنظر / معالم الفتن / سعيد أيوب ط دار الكرام بيروت.

ابتلاءات الامم _ 314 _

  أفراد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وفي عهد الإمام علي عندما أظهر الإمام أحاديث رسول الله ، قابله أهل الشام وغيرهم بأحاديث يجري القص في عروقها ، وترتب على ذلك اختلاط الأمور على السواد الأعظم من الأمة ولم يكونوا من الصحابة حتى يميزوا بين الصالح وبين الطالح ، وجرت المعارك ، ثم إختلفت الأمة وتفرقت ، وكل فرقة كان في حوزتها أحاديث تتفق مع أهواء شيوخهم.

1 ـ أضواء على القص :

  قال رسول الله (ص) ( إن بني إسرائيل لما هلكوا قصوا ) (1) ، وقال ( سيكون بعدي قصاص لا ينظر الله إليهم ) (2) ، وأول من أمر بالقص ، عمر بن الخطاب ، روى الإمام أحمد عن السائب بن يزيد قال : ( إنه لم يكن يقص على عهد رسول الله (ص) ولا أبي بكر ، كان أول من قص تميم الداري ، إستأذن عمر أن يقص على الناس قائما فأذن له ) (3).
  واستلم بني أمية أعلام القص بعد ذلك ، روي أن عبد الملك بن مروان قال : ( إنا جمعنا الناس على أمرين ، رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة ، والقصص بعد الصبح والعصر ) (4) ، ولبس القص الزي الديني في عهد بني أمية ، وذلك أن النبي (ص) كان يبدأ بالصلاة في العيدين ثم يخطب بعد ذلك ، ففعل بني أمية العكس ، وبدؤوا بالخطبة لينشروا بذلك مذهبهم السياسي بين الناس ، روى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري.

---------------------------
(1) رواه الطبراني ورجاله موثقون وفيه الأجلح الكندي والأكثر على توثيقه (الزوائد 189 / 1).
(2) رواه ابن فضالة في أماليه (كنز العمال 282 / 10).
(3) رواه أحمد والطبراني (الزوائد 190 / 1) والعسكري عن بشر بن عاصم (كنز 281 / 10) والمروزي عن أبي نضرة (كنز 281 / 10).
(4) رواه أحمد والبزار وقال ابن حجر إسناده جيد (الفتح الرباني 194 / 1).

ابتلاءات الامم _ 315 _

  أن رسول الله (ص) ، كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر ، فيبدأ بالصلاة ، فإذا صلى صلاته وسلم ، قام فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم ، فإن كان له حاجة ببعث ذكره للناس ، أو كانت له حاجة بغير ذلك أمرهم بها (1).
  أما التغيير ففي ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري ( أن مروان خطب قبل الصلاة ، فقال له أبو سعيد : غيرتم والله ، قال مروان : يا أبا سعيد قد ذهب ما تعلم ، فقال : ما أعلم والله خير مما لا أعلم ، قال مروان : إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة ، فجعلتها قبل الصلاة ) وقد اختلف في أول من سن هذه السنة ، قال في تحفة الأحوازي : اختلف في أول من غير ذلك ، فرواية الإمام مسلم صريحة في أن مروان أول من بدأ الخطبة قبل الصلاة ، وقيل ، سبقه إلى ذلك عثمان بن عفان ، روى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال : أول من خطب قبل الصلاة عثمان ، وروى أن مروان فعل ذلك تبعا لمعاوية ، ومعاوية عندما قدم المدينة قدم الخطبة (2) ...
  وكان الإمام علي يتصدى للقصاصين وينهاهم عن القص ، فعن أبي البحتري قال : دخل علي بن أبي طالب المسجد ، فإذا رجل يخوف ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : رجل يذكر الناس ، فقال : ليس برجل يذكر الناس ، ولكنه يقول أنا فلان بن فلان ، اعرفوني ، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ ، قال : لا ، فقال : أخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه (3).

---------------------------
(1) رواه مسلم (الصحيح 20 / 3).
(2) تحفة الأحوازي 74 / 3.
(3) رواه العسكري والمرزوي (كنز العمال 281 / 10) وانظر : كنز العمال 282 / 10.

ابتلاءات الامم _ 316 _

  وبالجملة : قال في الفتح الرباني : القص هو إخبار الناس بقص الماضين ، وعمل ذلك مذموم شرعا ، لأنه يصرف الناس عن الاشتغال بالعلوم الدينية ، ولم يعهد ذلك في عصر النبي (ص) ، وقال ابن حبان ، قال أبو حاتم : كان القصاصون يضعون الحديث في قصصهم ، وكانوا إذا دخلوا بمساجد الجماعات ومحافل القبائل من العوام والرعاع أكثر جسارة على وضع الحديث (1) ، كما وضعوا أحاديث تنافي عصمة الأنبياء ، فجعلتهم يخطؤن ، ونسبوا إلى النبي (ص) أنه كان يسب ويلعن ويجلد بغير سبب ، ونسبوا إليه أنه كان يسهو في الصلاة وأنه كان ينسى آيات القرآن الكريم ، وأرادوا من وراء تجريد النبي من العصمة أن يبرروا أخطاء الأمراء الذين جلدوا الشعوب وضيعوا الصلاة ، وأن يعطوا للذين لعنهم الله على لسان رسوله (ص) ، جواز المرور لتولي المراكز القيادية.
  ووضع القصاصون أحاديث تحمل بصمة أهل الكتاب ، والصق بالتفسير روايات وقصص لا يتصورها عقل ولا يجوز أن يفسر بها كتاب الله ، ووضعوا في هذه الأحاديث ، أن الله يشغل حيزا من المكان ، ويضحك وينتقل من مكان إلى آخر ، وأنه يتألف من أعضاء ، وهو عبارة عن هيكل مادي ، وعين ويد وأصابع وساق وقدم.
  وبالجملة : كان القص وراء تغييب العقل ووطئه بالأقدام ، وتحت سقفه إختل منهج البحث ومنهج التفكير ومنهج الاستدلال ، وعلى موائده لا تظهر القراءة النقدية المتفحصة التقيمية إلا بعد عناء شديد ، وكان القص وراء إهمال الواجبات والتسامح في المحرمات والتهاون بالسنن والمستحبات ، وكان البذرة الأولى لظهور المبادئ والمنظمات الباطلة التي وضعت القوانين على طبق أهوائهم وآرائهم ، وعلى هذه المبادئ انقسمت الأمة إلى قوافل ، وكل قافلة تتولى حزبا وتحبه ، لأنها

---------------------------
(1) المجروحين / ابن حبان ص ، 88 / 1.

ابتلاءات الامم _ 317 _

  تميل إلى قوانينه وتحب القائمين عليه ، وعلى رؤوس الجميع الحجة قائمة ، والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون.

2 ـ الخفوت والظهور :

  وكان من آثار عدم الرواية ، التعتيم على أهل البيت (ع) ، وذلك لأن الأمر بحرق الكتب ، أطاح بالعديد من الأحاديث التي تبين منزلة أهل البيت ومناقبهم ، ويشهد ذلك ما رواه الخطيب البغدادي عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه قال : جاء علقمة بكتاب من مكة أو اليمن.
  صحيفة فيها أحاديث في أهل بيت النبي (ص) ، فاستأذنا على عبد الله ، فدخلنا عليه فدفعنا إليه الصحيفة ، فدعا الجارية ثم دعا بطست فيها ماء ، فقلنا له : يا أبا عبد الرحمن انظر فيها ، فإن فيها أحاديث حسانا ، فجعل يميثها في الماء ، ويقول ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ) القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ، ولا تشغلوها بما سواه (1).
  ويشهد بذلك أن عليا عندما تولى الخلافة لم يكن السواد الأعظم يعلم عن منزلته ومناقبه شيئا ، حتى أنشد بالله كل امرئ مسلم سمع النبي (ص) يقول ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) أن يقوم ، وكان قد جمعهم في الرحبة ، ولم يعرف العوام مناقبه إلا من خلال ما رواه الصحابة بعد ذلك وكان العديد من الصحابة يتحدثون في مجالسهم الخاصة عن مناقبه ، ولكن هذا الحديث لم يكن يخرج إلى الساحات العامة ، وفي مقابل هذا التعتيم ، كان لعدم الرواية الأثر الكبير في ظهور الذين حذر منهم النبي (ص) وهو يخبر بالغيب عن ربه ، ويشهد بذلك ما روي عن حذيفة أنه قال : ( والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا ، والله ما ترك

---------------------------
(1) تقييد العلم / الخطيب ص 54.

ابتلاءات الامم _ 318 _

  رسول الله (ص) من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا بلغ من معه ثلثمائة فصاعدا ، إلا وقد سماه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته ) (1) ومعنى ( أم تناسوا ) أي أظهروا النسيان لمصلحة ، ومعنى ( باسمه واسم أبيه ) يعني وصفا واضحا مفصلا لا مبهما ، مجملا فالاستقصاء متصل.
  وروي عن حذيفة أنه قال : إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي (ص) ، كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون (2) ، وقال : إنما كان النفاق على عهد النبي (ص) ، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان (3) ، وحذيفة مات بعد مقتل عثمان بأقل من شهر ، وكان مريضا ، وعندما علم بأن الناس بايعوا علي بن أبي طالب ، بايع وهو على فراش المرض ، وحث الناس على الالتفاف حول علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر ، وأمر ولداه بالقتال مع علي ، فقاتلا تحت أعلام الإمام علي ، حتى قتلا (4).
  وبعد ظهور النفاق في ظل سياسة اللارواية ، خاف الصحابة فلم يحدثوا بالأحاديث الكاشفة ، ويشهد بذلك ، ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال : حفظت من رسول الله (ص) وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم ، (5) ، وعنه أنه قال : قال رسول الله (ص) ( هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش ) إن شئت أن أسميهم بني فلان وبني فلان (6) وعنه أنه قال : إني لأحدث أحاديث ، لو تكلمت بها في زمان عمر ، أو عند عمر ، لشج رأسي (7).

---------------------------
(1) رواه أبو داوود 4243.
(2) رواه البخاري (الصحيح 230 / 4).
(3) رواه البخاري (الصحيح 230 / 4).
(4) أنظر : معالم الفتن / سعيد أيوب.
(5) البخاري (الصحيح 34 / 1).
(6) البخاري (الصحيح 280 / 2).
(7) رواه ابن عبد البر (جامع العلم 148 / 1) وابن كثير (البداية والنهاية 107 / 8).

ابتلاءات الامم _ 319 _

  ويشهد به أيضا ، ما روي عن بجالة قال ، قلت لعمران بن حصين : حدثني عن أبغض الناس إلى رسول الله (ص) ، فقال : تكتم علي حتى أموت ؟ قلت : نعم ، قال : بنو أمية وثقيف وبنو حنيفة (1) ، ومن الثابت والمعروف أن بني أمية شقوا طريقهم نحو السلطة بعد وفاة النبي (ص) ، بتأمير أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان على الشام (2) ، وبعد وفاة يزيد ، قام عمر بتأمير معاوية (3).
  وروي أن عمر كان يقول للناس : ( أتذكرون كسرى وعندكم معاوية ) (4) ، وقال لهم عندما ذكروا معاوية : ( دعوا فتى قريش وابن سيدها ، إنه لمن يضحك في الغضب ، ولا ينال منه إلا على الرضا ) (5).
  وأحاديث النبي (ص) التي يحذر فيها من بني أمية ، أحاديث كثيرة ، منها : ما روي عن أبي ذر أنه قال ، قال رسول الله (ص) ( إذا بلغ بنو أمية أربعين رجلا ، اتخذوا مال الله دولا ، وعباد الله خولا ، ودين الله دغلا ) (6) ، ومعنى ( مال الله دولا ) أي يكون لقوم دون قوم ( وعباد الله خولا ) أي خدما وعبيدا ( ودين الله دغلا ) أي يدخلوا في الدين أمور لم ترد بها السنة.
  والحديث روي عن أبي سعيد الخدري وابن عباس وأبي ذر ، ورواه الإمام أحمد والحاكم وأبو يعلى والطبراني والبيهقي ، وروي بلفظ ( إذا بلغ بنو أبي العاص ) وبلفظ ( إذا بلغ بنو فلان ) ، وقال الحاكم بعد

---------------------------
(1) نعيم بن حماد (كنز العمال 274 / 11).
(2) تاريخ الأمم والملوك 28 / 4.
(3) ابن سعد (كنز العمال 606 / 13) البداية والنهاية 118 / 8 ، تاريخ الأمم 69 / 5 ، الإستيعاب 596 / 3.
(4) تاريخ الأمم 184 / 6 ، الإستيعاب 596 / 3.
(5) الديلمي (كنز 587 / 13) البداية والنهاية 125 / 8 ، الإستيعاب 597 / 3.
(6) الحاكم وصححه (المستدرك 479 / 3).

ابتلاءات الامم _ 320 _

  روايته للحديث : ليعلم طالب العلم ، أن هذا باب لم أذكر فيه ثلث ما روي ، وأن أول الفتن في هذه الأمة فتنتهم ، ولم يسعني فيما بيني وبين الله تعالى ، أن أخلي الكتاب من ذكرهم (1).
  والخلاصة : كان لسياسة اللارواية والتدوين آثار جانبية ، منها : اكتفاء الناس بتلاوة القرآن دون الوقوف على معانيه وأهدافه ، وأدى ذلك إلى ظهور الذين يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، وفي عهد الإمام علي ظهرت حقيقتهم أمام الناس ، وحاربهم الإمام في موقعة النهروان ، وما زالت بقيتهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء لأن منهجهم وثقافتهم لن تموت حتى يخرج الدجال ، ومنها : ظهور الذين لعنهم الله على لسان نبيه بعد أن ضاع التحذير منهم في عالم اللارواية ، ومنها التعتيم على الهداة.
  واقتصر ذكرهم في المجالس الخاصة ، ومنها ظهور القص وعلى مائدته صنعت مناقب وتواريخ لقوافل لا تحمل من العلم إلا قشوره ، وعلى القص ظهرت ثقافات التحمت مع ثقافة أهل الكتاب ، وتشهد بذلك عقيدة الجبرية يقول الشيخ محمد أبو زهرة : أول من دعا إلى هذه النحلة من المسلمين ( الجعد بن درهم ) ، وقد تلقى ذلك عن يهودي بالشام ، لأن اليهود أول من فعل ذلك وعلموه بعض المسلمين وهؤلاء أخذوا ينشرونه (2) ، ولقد استغل بنو أمية هذه العقيدة في إخضاع المسلمين ، بحجة أن قيادتهم مفروضة عليهم بقضاء الله وقدره ، وأن أي تمرد عليهم هو تمرد على قضاء الله ، ولقد قامت هذه العقيدة على أحاديث وضعها القصاص ، كان الهدف من ورائها تزييف النشاط الإنساني منذ بدء الخلق إلى قيام الساعة والتطوع بالوحي كله ، وتحت أعلام عقيدة الجبر انطلقت جحافل بني أمية إلى ديار المسلمين ،

---------------------------
(1) المستدرك 482 / 4.
(2) تاريخ المذاهب الإسلامية / أبو زهرة 102 / 2.

ابتلاءات الامم _ 321 _

  بعد أن مهد القص والأحاديث الموضوعة طريقهم نحو اتخاذ دين الله دغلا ، ليتخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا ، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس ، من أمثال حجر بن عدي والحسين بن علي وغيرهما.
  ولم تكن عقيدة المرجئة بعيدة عن نسيج القصاص ، لأن الأحاديث الموضوعة هي التي غذتها ، وعلى ذروة عقيدة المرجئة يجلس يوحنا الدمشقي ، وهو آخر كبار علماء النصرانية على مذهب الكنيسة الإغريقية ، وكان أبوه صاحب عبد الملك بن مروان ، وصنف يوحنا كتاب في فضائل النصرانية على منهج محادثة بين مسلم ونصراني (1) وقال الشيخ أبو زهرة ( كان يوحنا يبث بين علماء النصارى في البلاد الإسلامية طرق المناظرات التي تشكك المسلمين في دينهم ، وظهرت آراء يوحنا بالشام ) ، بعد أن وجدت لها حصنا صنعه القص والأحاديث الموضوعة ، ومن خلال هذا الالتقاء ، تطرق البحث حول مرتكب الكبيرة ، هل هو مؤمن أم غير مؤمن ؟ وهل يضر مع الإيمان ذنب ؟ وعلى مائدة البحث خرجت العقيدة التي تعتذر عن بني أمية فيما ارتكبوه من جرائم ، بمعنى : لقد ضربوا بعقيدة الجبرية ، واعتذروا بعقيدة المرجئة ، التي تقول بأنه لا ينبغي المفاضلة بين المسلمين ولا الحكم على أحد بتقوى وغير تقوى ، فالمسلم يكفي أن يكون مسلما ، وبهذه العقيدة تم الافتراء على الله ورسوله بتغيير الأحكام الشرعية ، وإظهار البدع والباطل ، وقولهم أن الأمة مرحومة والله رفع العذاب عنها ، وإنهم في أمن من عذاب الله وإن انهمكوا في كل إثم وخطيئة وهتكوا كل حجاب ، والأمة مغفور لها محسنهم ومسيئهم ، وإن لهم الكرامة في الدنيا ، ولهم أن يفعلوا ما شاؤا بعد أن استظلوا بمظلة حجاب الأمن ، ولهم في الآخرة

---------------------------
(1) تاريخ الأدب العربي / بروكلمان 256 / 1.

ابتلاءات الامم _ 322 _

  مغفرة توجب فتح أبواب الجنة أمامهم ، وبعقيدة المرجئة اشتد الساعد بعد أن ارتدى قفازا من حرير في الوقت الذي يحتفظ فيه بقبضته الحديدية ، وملئت الأرض ظلما وجورا.

ثانيا ـ ( الأمر النبوي في الأموال ) :

  قال النبي (ص) ( إن لكل أمة فتنة ، وفتنة أمتي المال ) (1) ، ولما كان فتنة الأمة في المال ، بينت الشريعة الخاتمة موضع الرحاب الآمن ، وشاء الله أن يكون الأمن في فعل الرسول ، بمعنى أن النجاة لن تكون في منع الرواية عن الرسول ، لأن الله تعالى بين موضع كل مال ، وقسمه بين عباده تقسيما حقا بوضع قوانين عادلة تعدل الملك تعديلا حقا يقطع منابت الفساد ، وهذه القسمة وهذه القوانين نفذها النبي (ص) وهو يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم ، وفي الوقت الذي كان النبي (ص) يقيم الحجة ، كان يخبر بالغيب عن ربه ويقول ( إن هذا الدينار والدرهم أهلكا من قبلكم وهما مهلكاكم ) (2) ، وأمر النبي (ص) بأوامر تدفع هذا الهلاك ، ومنها التقدم بالصدقة ، لأن من خاصتها أنها تنمي المال ، لأنها تنشر الرحمة وتورث المحبة ، وتآلف القلوب وتبسط الأمن ، وتصرف القلوب عن أن تهم بالغضب والاختلاس والفساد والسرقة ، وتدعو إلى الاتحاد والمساعدة والمعونة ، وبذلك يفسد أغلب طرق الفساد ، وحذر عليه الصلاة والسلام من التعامل بالربا ، لأن الربا من خاصته أنه يمحور المال ويفنيه تدريجيا ، من حيث أنه ينشر القسوة والخسارة ويورث البغض والعداوة وسوء الظن ، ويفسد الأمن والحفظ ، ويهيج النفوس على الانتقام بأي وسيلة أمكنت ، ويدعو إلى التفرق والاختلاف ، وبذلك يفتح

---------------------------
(1) رواه الترمذي وصححه (الجامع 569 / 4).
(2) رواه أبو داوود عن أبي موسى (كنز 191 / 3) والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود (كنز 191 / 3).

ابتلاءات الامم _ 323 _

  أغلب طرق الفساد وأبواب الزوال على المال.
  ولأن المجتمع في نظر الشريعة ذو شخصية واحدة ، له كل المال الذي أقام به صلبه وجعله له معاشا ، فإن الشريعة الزمت المجتمع بأن يدير المال ويصلحه ويعرضه معرض النماء ، ويرتزق به ارتزاقا معتدلا مقتصدا ، ويحفظه من الضيعة والفساد ، ومن مجملات القرآن التي تتعلق بالأموال وبينها رسول الله (ص) ليستقيم حال المجتمع ، قوله تعالى : ( يسألونك عن الأنفال * قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) (1) ، والمعنى : يسألك أصحابك يا محمد عن هذه الغنائم التي غنمتها ، فقل : هي لله والرسول ، يحكم فيها الله بحكمه ويقسمها الرسول.
  وروي أن النبي (ص) قال ( إنما أنا قاسم وخازن ، والله يعطي ) (2) ، وقال ( ما أعطيكم ولا أمنعكم أنا قاسم أضع حيث أمرت ) (3) ، وبين النبي (ص) حكم الله في الغنيمة ، وقال تعالى : ( واعلموا إنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله ... ) (4) ، وبين الرسول حكم الخمس وحكم الأربعة أخماس ، وعلموا حق الذين حرمت عليهم الصدقة من ذي القربى ، وحق الجنود.
  وقال تعالى : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب وفي سبيل الله ، فريضة من الله والله عليم حكيم ) (5) ، قال المفسرون : بين الله تعالى أنه هو الذي قسم الصدقات وبين حكمها وتولى أمرها بنفسه ، ولم يكل قسمتها إلى أحد غيره ، فقوله

---------------------------
(1) سورة الأنفال آية 1.
(2) رواه البخاري (الصحيح 190 / 2).
(3) رواه البخاري (الصحيح 192 / 2).
(4) سورة الأنفال آية 41.
(5) سورة التوبة آية 60.

ابتلاءات الامم _ 324 _

  ( فريضة من الله ) إشارة إلى أن تقسيمها إلى الأصناف الثمانية أمر مفروض منه تعالى ، وإشارة إلى أن الزكاة فريضة واجبة ، وقوله تعالى : ( والله عليم حكيم ) إشارة إلى أن فريضة الزكاة مشرعة على العلم والحكمة ، لا تقبل تغيير المغير.
  وروى أبو داوود عن زياد بن الحارث قال ( أتيت النبي (ص) فبايعته ، فأتاه رجل ، فقال : اعطني من الصدقة ، فقال له النبي (ص) : إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها ، فجزأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك ).
  وأقامت الشريعة الخاتمة الحجة على المسيرة ، فأخبر النبي الخاتم (ص) ، إن فتنة أمته في المال ، وبين كيف تدخل الأمة في حجاب الأمن ، وفي الوقت الذي بين فيه النبي (ص) حكم الغنيمة أخبر بالغيب عن ربه ، بأن فتنة المال ستصيب البعض ، وقال ( كأني براكب قد أتاكم فنزل ، فقال ، الأرض أرضنا والفيئ فيئنا وإنما أنتم عبيدنا ، فحال بين الأرامل واليتامى وما أفاء الله عليهم ) (1) ، أخبر النبي بهذا حتى يأخذوا بالأسباب وهم تحت سقف الامتحان والابتلاء ، لأن الله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون.

( إجتهاد الصحابة في الأموال )

  ذكرنا أن الساحة بعد رسول الله كان بها صحابة سمعوا من النبي شيئا ولم يحفظوه على وجهه ، وكان بها من سمع منه شيئا يأمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم ، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، وأدى هذا في نهاية المطاف إلى تضارب القرارات ثم ضياع مال الله في عهد بني أمية ، بعد أن بسطوا أيديهم على بيوت المال ، وبالجملة نقدم هنا

---------------------------
(1) رواه ابن النجار (كنز 195 / 11).

ابتلاءات الامم _ 325 _

  الأحاديث التي تشهد بالمقدمات الأولى.
  روى البخاري ومسلم ، عن عائشة أن فاطمة بنت رسول الله (ص) ، سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله (ص) أن يقسم لها ميراثها مما ترك رسول الله (ص) ، فقال لها أبو بكر : إن رسول الله (ص) قال : لا نورث ما تركناه صدقة ، فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرة له حتى توفيت ، وعاشت بعد رسول الله (ص) ستة أشهر ، فكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله (ص) من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر ذلك ... ) (1).
  وروى الإمام أحمد ( لما قبض رسول الله (ص) أرسلت فاطمة إلى أبي بكر : فقال : أأنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله ؟ فقال : بل أهله ، قالت : فأين سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إني سمعت رسول الله (ص) يقول : إن الله عز وجل إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه جعله للذي يقوم من بعده ، فرأيت أن أرده على المسلمين ) (2).
  ولقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أن أبا بكر أبى أن يعطي فاطمة (ع) ما ترك رسول الله (ص) من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ، وذلك لما عنده من حديث لم يرويه غيره ، وفي عهد عمر روى البخاري ومسلم ، أن صدقة رسول الله (ص) بالمدينة ، دفعها عمر إلى علي بن أبي طالب والعباس ، وأمسك خيبر وفدك (3) ، وذلك أيضا لما عنده من حديث ، وروي أن أهل البيت ردوا إلى عمر ما دفعه إليهم لأنهم وجدوه دون حقهم الذي بينه رسول الله لهم ، فعن يزيد بن هرمز ، أن نجدة الحروري أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى ، ويقول لمن

---------------------------
(1) رواه البخاري (الصحيح 186 / 2) وأحمد ومسلم والبيهقي (كنز 242 / 7).
(2) رواه أحمد بإسناد صحيح (الفتح الرباني 63 / 23).
(3) رواه البخاري ومسلم وأحمد والبيهقي (كنز 242 / 7).

ابتلاءات الامم _ 326 _

  تراه ؟ فقال ابن عباس : لقربى رسول الله (ص) ، قسمه لهم رسول الله (ص) ، وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه ، وأبينا أن نقبله ) (1).
  وكان لقرار منع ميراث الرسول وصدقته آثار جانبية منها : التعتيم على أهل البيت ، لأن خروجهم من تحت سقف ما كتبه الله لهم وهم الذين حرمت عليهم الصدقة ، يجعلهم كغيرهم من الناس ، ولم يفعل النبي (ص) هذا في حياته ، وإنما كان يضع الناس في مواضعهم التي حددها الله تعالى ، فعن جبير بن مطعم قال ( مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله (ص) ، فقلنا : يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم منك بمنزلة واحدة ، فقال : إنما بنو المطلب وبنو هاشم شئ واحد ) (2) وفي رواية ( إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام ، وإنما نحن وهم شئ واحد ، وشبك بين أصابعه ) (3).
  أما فيما يختص بحقوق الجنود ، فقد بينه النبي (ص) حين سئل : ما تقول في الغنيمة ؟ قال : لله خمس ، وأربعة أخماس للجيش ) (4) ، لكن عمر بن الخطاب اجتهد في هذا ، وأمر بوضع جميع الغنائم في بيت المال ثم قام بتقسيم هذه الغنائم وفقا لما يراه ، ودون على ذلك الدواوين ، وعدم قسمة عمر للغنائم يشهد به ما روي عن إبراهيم إنه قال : لما افتتح المسلمون السواد قالوا لعمر : ( إقسمها بيننا فإنا فتحنا ، فأبى عمر وقال : فما لمن جاء بعدكم من المسلمين ) (5) وقال عمر ( لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها سهمانا كما قسم رسول الله

---------------------------
(1) رواه مسلم وأحمد وأبو داوود والنسائي (الفتح الرباني 77 / 14).
(2) رواه البخاري (الصحيح 196 / 2).
(3) رواه أحمد (الفتح الرباني 76 / 14) وأبو داوود حديث 2980.
(4) رواه البغوي (كنز العمال 375 / 4).
(5) رواه أبو عبيد وابن زنجويه (كنز 574 / 4).

ابتلاءات الامم _ 327 _

  خيبر سهمانا ، ولكني أردت أن يكون جزية تجري على المسلمين ، وكرهت أن يترك آخر المسلمين لا شئ لهم ) (1) وفي رواية قال : ولكني أتركها خزانة لهم (2).
  ويشهد التاريخ أن هذه الخزانة أضرت أكثر مما نفعت ، فبعد أن بسطت بنو أمية أيديهم على بيوت المال التي تركها عمر بن الخطاب ، اتخذوا دين الله دغلا ، ومال الله دولا ، وعباد الله خولا ، واستمرت بيوت المال على امتداد المسيرة يشترى بها الحكام الذمم ويسفكون بها الدم الحرام.
  وكان هناك العديد من الصحابة الذين عارضوا سياسة عدم قسمة الغنائم على سنة رسول الله (ص) ، منهم الزبير بن العوام ، فعن سفيان بن وهب قال : لما فتحنا مصر بغير عهد ، قام الزبير فقال : إقسمها يا عمرو بن العاص فقال : لا أقسمها ، فقال الزبير : والله لتقسمنها كما قسم رسول الله خيبر ، فقال : والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين ، فكتب عمر إليه : أقرها حتى تغزوا منها حبل الحبلة (3) ، قال المفسرون في رد عمر ... يريد حتى يغزو أولاد الأولاد ويكون عاما في الناس.
  وقيل : أو يكون أراد المنع من القسمة حيث علقه على أمر مجهول ، ويشهد التاريخ أن عمرو بن العاص بسط يده على مصر كلها وكان خراجها له طيلة حياته في عهد معاوية بن أبي سفيان ، وذلك عندما تكاتف عمرو مع معاوية على علي بن أبي طالب ، فكافأه معاوية بأن تكون مصر له طعمة ، ومن الذين اعترضوا على قرار عمر ، بلال بن

---------------------------
(1) رواه أحمد والبخاري وابن خزيمة في صحيحه وابن الجارود والطحاوي وأبو يعلى وابن أبي شيبه وأبو عبيد (كنز 555 / 4).
(2) رواه البخاري وأبو داوود (كنز 514 / 4).
(3) رواه الشيخان وابن عساكر وابن زنجويه وأبو عبيد (كنز 557 / 4).

ابتلاءات الامم _ 328 _

  رباح ، قال له عندما افتتحوا أرضا : إقسمها بيننا وخذ خمسها ، فقال عمر : لا هنا عين المال ، ولكني أحبسه فيئا يجري عليهم وعلى المسلمين ، فقال بلال وأصحابه : إقسمها بيننا ، فقال عمر : اللهم اكفني بلالا وذويه ، قال راوي الحديث : فما حال الحول ومنهم عين تطرف (1) أي : ماتوا بفضل دعاء عمر.
  وكان بلال كثير الاعتراض على سياسة عمر ، عن ابن أبي حازم قال : جاء بلال إلى عمر حين قدم الشام ، وعنده أمراء الأجناد ، فقال ، يا عمر ، يا عمر ، إنك بين هؤلاء وبين الله ، وليس بينك وبين الله أحد ، فأنظر من بين يديك ومن عن يمينك ومن شمالك ، فإن هؤلاء الذين جاؤوك ( أي أتباع بلال ) والله لم يأكلوا إلا لحوم الطير ( أي لم يصل إليهم من الأمراء شيئا ) ، فقال عمر للأمراء : لا أقوم من مجلسي هذا حتى تكفلوا لي لكل رجل من المسلمين بمديت (2) بر وحظهما من الخل والزيت ، قالوا : تكفلنا لك يا أمير المؤمنين (3).
  أما قسمة عمر بن الخطاب بين الناس ، فلقد فضل عمر المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين ، وفضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة ، وفضل العرب على العجم ، وروي أنه قال ( من أراد أن يسأل عن المال فليأتني ، فإن الله جعلني له خازنا وقاسما ، ألا وإني بادئ بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي فمعطيهم ، ثم بادئ بالأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان فمعطيهم ، ثم بادئ بأزواج النبي (ص) فمعطيهن ، ـ وفي رواية ) ففرق لأزواج النبي (ص) إلا جويرية وصفية وميمونة ، فقالت عائشة : إن رسول الله (ص) كان يعدل بيننا ، فعدل

---------------------------
(1) المغني / لابن قدامة 716 / 2.
(2) مكيال معروف بالشام.
(3) رواه أبو عبيد (كنز العمال 575 / 4).

ابتلاءات الامم _ 329 _

  بينهن عمر ) (1) ، ثم قال عمر : من أسرعت به الهجرة أسرع به العطاء ، ومن أبطأ عن الهجرة أبطأ به عن العطاء فلا يلومن أحدكم إلا مناخ راحلته ) (2).
  وبالجملة : قال رسول الله (ص) أيما قرية افتتحها الله ورسوله فهى لله ورسوله ، وأيما قرية افتتحها المسلمون عنوة ، فخمسها لله ولرسوله وبقيتها لمن قاتل عليها ) (3) ، وكان (ص) يسوي بين الجنود في القسمة ، ولم يخص أحدا بشئ دون الآخر (4) ، ولقد أخبر بالغيب عن ربه بما سيحدث من بعده ، وقال لأبي ذر ( كيف أنت وأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفيئ ، إصبر حتى تلقاني ) (5) ، وقال ( خذوا العطاء ما دام عطاء ، فإذا كان إنما هو رشا فاتركوه ، ولا أراكم تفعلون ، يحملكم على ذلك الفقر والحاجة ، ألا وإن رحى بني مرج قد دارت ، وإن رحى الإسلام دائرة ، وإن الكتاب والسلطان سيفترقان ، فدوروا مع الكتاب حيث دار ... ) (6).
  وإذا كان الاجتهاد قد أخرج أهل البيت والجنود الذين شاركوا في المعارك من تحت سقف قسمة رسول الله (ص) ، فإن الاجتهاد ، قد أخرج المؤلفة قلوبهم من تحت سقف القسمة التي قسمها الله تعالى.
  ولقد ذكرنا من قبل أن الله تعالى هو الذي قسم الصدقات ، وبين حكمها وتولى أمرها بنفسه ، ولم يكل قسمتها إلى أحد غيره ،

---------------------------
(1) رواه البيهقي (كنز العمال 578 / 4).
(2) رواه أبو عبيد وابن أبي شيبة والبيهقي وابن عساكر (كنز 556 / 4).
(3) رواه البخاري ومسلم (كنز العمال 378 / 4).
(4) أنظر : الفتح الرباني 72 / 13 ، كنز العمال 375 / 4.
(5) رواه أحمد وأبو داوود وابن سعد (كنز العمال 373 ، 374 / 4).
(6) رواه الطبراني عن معاذ ، وابن عساكر عن ابن مسعود وأبو داوود عن أبي مطير باختصار (كنز 216 / 1) أبو داوود حديث 2958.

ابتلاءات الامم _ 330 _

  وجزءها سبحانه ثمانية أجزاء ، لا تقبل تغيير المغير ، قال تعالى : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب وفي سبيل الله فريضة من الله ) (1) وروي أن النبي (ص) أعطى المؤلفة قلوبهم ، وكانوا صنفان : صنف كفار وصنف أسلموا على ضعف ، وذلك ليأمن شرهم وفتنتهم ، لأن من شأن الصدقة أنها تؤلف القلوب وتبسط الأمن ، وظل النبي (ص) يعطي هذا السهم للمؤلفة قلوبهم ليعاونوا المسلمين أو ليتقوى إسلامهم ، حتى وفاته (ص).
  وكان أبو سفيان (2) وابنه معاوية (3) من الذين أعطاهم النبي من سهم المؤلفة قلوبهم ، وروي أن عمرو بن العاص حين جزع عن موته فقيل له : ( قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدينك ويستعملك ، فقال : أما والله ما أدرى أحبا كان ذلك أم تألفا يتألفني ) (4) ، وعلى الرغم من أن النبي (ص) كان يعطي أبا سفيان من سهم المؤلفة ، إلا أن الصحابة كانوا يختلفون في تحديد موقعه ، روي أن أبي سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر ، فقالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها ، فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ، فأتى النبي (ص) فأخبره ، فقال النبي (ص) : يا أبا بكر لعلك أغضبتهم ، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك ، فأتاهم أبو بكر ، فقال : يا إخوتاه أغضبتكم ، قالوا : يغفر الله لك يا أخي (5) ، قال النووي : هذه فضيلة

---------------------------
(1) سورة التوبة آية 60.
(2) أنظر : صحيح مسلم 156 / 7 ، البداية والنهاية 359 / 4 ، كنز العمال 176 / 9.
(3) أنظر : البداية والنهاية 359 / 4.
(4) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 310 / 22) الزوائد 353 / 9) وابن سعد (الطبقات 263 / 1).
(5) رواه مسلم (الصحيح 16 / 16).

ابتلاءات الامم _ 331 _

  ظاهرة لسلمان ورفقته هؤلاء (1) ، وروي أن النبي (ص) أعطى قريشا حين أفاء الله عليه أموال هوازن ، فقال الناس من الأنصار : يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ، فعندما سمع رسول الله (ص) بمقالتهم ، أرسل إلى الأنصار فجمعهم ولم يدع أحد غيرهم ، فقال : ( إني لأعطي رجالا حدثاء عهد بكفر أتألفهم ، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون برسول الله إلى رحابكم ، فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به ، قالوا : أجل يا رسول الله قد رضينا ) فقال لهم ( إنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة ، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإني فرطكم على الحوض ) (2).
  لقد كان في سهم المؤلفة امتحان وابتلاء ، ولكن الصحابة بعد رسول الله (ص) اجتهدوا فيه ، روي أن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصين وكانا من المؤلفة قلوبهم ، جاءا يطلبان أرضا من أبي بكر ، فكتب بذلك خطأ ، فمزقه عمر بن الخطاب ، وقال : هذا شئ كان يعطيكموه رسول الله (ص) تأليفا لكم ، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام وأغنى عنكم ، فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف ، فرجعوا إلى أبي بكر ، فقالوا : أنت الخليفة أم عمر ؟ بذلت لنا الخط ومزقه عمر ، فقال أبو بكر : هو إن شاء الله ، ووافق عمر ) (3).
  وعن الشعبي أنه قال : كانت المؤلفة على عهد رسول الله (ص) ، فلما ولي أبو بكر انقطعت (4) ، واعترض ابن قدامة على انقطاع سهم

---------------------------
(1) مسلم شرح النووي 16 / 16.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد (الفتح الرباني 89 / 14).
(3) الفتح الرباني 62 / 9 ، الدر المنثور 252 / 2 ، تفسير المنار 496 / 10 ، فقه السنة / سيد سابق 425 / 1.
(4) رواه ابن أبي شيبة والطبراني (تحفة الأحوازي 335 / 3).

ابتلاءات الامم _ 332 _

  المؤلفة وقال : إن الله تعالى سمى المؤلفة في الأصناف الذين سمى الصدقة لهم ، والنبي (ص) قال ( إن الله حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاءا ) وكان عليه الصلاة والسلام يعطي المؤلفة كثيرا في أخبار مشهورة ، ولم يزل كذلك حتى مات ، ولا يجوز ترك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال ، ثم إن النسخ إنما يكون في حياة النبي (ص) ، لأن النسخ إنما يكون بنص ولا يكون النص بعد موت النبي (ص) وانقراض زمن الوحي ، ثم إن القرآن لا ينسخ إلا بقرآن وليس في القرآن نسخ لذلك ولا في السنة ، فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم أو بقول صحابي أو غيره (1).
  والخلاصة : ختم الله تعالى آية الأنفال بقوله ( وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) (2) ، وفي هذا تحذير من الاختلاف ، وإخبار بأن طاعة الرسول طاعة لله ، وختم سبحانه آية الخمس بقوله ( إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ) (3) ، قال ابن كثير : أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وما أنزلنا على الرسول في القسمة (4) وختم سبحانه آية الزكاة بقوله ( فريضة من الله والله عليم حكيم ) (5) قال ابن كثير : أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه ، فهو تعالى عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده فيما يقوله ويفعله ويشرعه ويحكم به (6).

---------------------------
(1) المغني / ابن قدامة 666 / 2.
(2) سورة الأنفال آية 1.
(3) سورة الأنفال آية 41.
(4) تفسير ابن كثير 313 / 2.
(5) سورة التوبة آية 60.
(6) تفسير ابن كثير 366 / 2.

ابتلاءات الامم _ 333 _

  والمسيرة قد اجتهدت تحت سقف الامتحان والابتلاء ، ولكن أحاديث الإخبار بالغيب ، وحركة التاريخ ، تثبت أن بعض هذه الاجتهادات انتهت في نهاية المطاف إلى دائرة لا تحقق الأمان بصورة من الصور ، قد تكون بيوت المال قد امتلأت بالذهب والفضة عند المقدمة ، ولكن عند النتيجة نرى أن تفضيل هذا عن ذاك في القسمة ، أدى إلى الصراع القبلي بين ربيعة ومضر ، وبين الأوس وبين الخزرج (1) وأشعل الصراع العنصري بين العرب والعجم ، والصريح والموالي (2) كما أدى الاجتهاد في الخمس إلى اختلاف الأمة في من هم عشيرة النبي الأقربين ؟ ومن هم أهل بيته وعترته ؟ ، وأدى الاجتهاد في الأربعة أخماس الخاصة بالجنود ، إلى احتواء الأمراء في الأمصار على معظم هذه الأموال ، وكان لهذا أثرا سيئا على امتداد المسيرة ، وأدى الاجتهاد في سهم المؤلفة ، إلى استواء ضعيف الإيمان مع قوى الإيمان ، وأدى إلى تهييج النفوس على الانتقام بأي وسيلة ، لأن الصدقة من خصائصها أنها تنشر الرحمة وتورث المحبة ، وتألف القلوب ، وتبسط الأمن ، فإذا أمسكت ، وكان تحت سقف الأمة منافقين ، منهم اثني عشر رجلا أخبر النبي (ص) أنهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ولن يدخلوا الجنة حتى يلج الجمل سم الخياط ، كان إمساكها سببا في فتح طرق الفساد.

---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي 106 / 2.
(2) ابن أبي الحديد 111 / 8.