ذكر العديد من المحققين أن اليهود في عهد السبي ، انخرطوا في المجتمع.
وبالذات أن بابل كانت من أغنى المناطق في بلاد ما بين البحرين ، وهذا أتاح لهم العمل في الزراعة والتجارة والأعمال الخاصة ، وفي النهاية أصبحوا مواطنين عاديين داخل الدولة يتمتعون بكافة الحقوق السياسية والاجتماعية ، وعندما زالت دولة بابل وظهرت الدولة الفارسية التي خضعت لسيطرتها دول المنطقة ، استفاد اليهود من سياسة الملك الفارسي (قورش) ، وكانت المبادئ العامة لهذه السياسة إعادة السكان المبعثرين حول نهر دجلة والفرات إلى أوطانهم ، فهذه السياسة أحيت الأمل لدى اليهود في بابل في العودة مرة أخرى إلى فلسطين ، وبدأت الزعامة الدينية في الظهور تصنع الأحداث وتقود المسيرة ، وذكر العديد من المحققين أن اليهود كانوا في قديم الزمان يسمون فقهاءهم بالحكماء ، نظير تعليمهم الشعب القانون الشفهي وإشرافهم عليه ، وكان
ابتلاءات الامم _ 110 _
لهؤلاء الحكماء من المدارس في بابل والمدائن والشام ، ما لم يكن لأحد من الأمم مثله ، وكان لهم في العصر الواحد كثير من الحكماء ، في زمان دولة النبط البابليين والفرس ودولة اليونان ودولة الروم.
وبعد أن أحيت سياسة الملك الفارسي قورش الأمل في نفوس اليهود ، اتفق السامريون والعبرانيون على إعادة كتابة التوراة في بابل ، وشكل العلماء لجنة لهذا الغرض برآسة (عزرا) ، وقد جمعت هذه اللجنة معلومات من التاريخ القديم للمسيرة الإسرائيلية.
ومعلومات أرادوا إدخالها على النصوص الأصلية (1) ، وقبل أن تكمل هذه اللجنة عملها.
صدر الأمر الفارسي لليهود بالرجوع إلى أرض كنعان ، ويقول أبو الحسن السامري في تاريخه : إن الفارسيين لما سمحوا لليهود بالعودة ، طلبوا منهم أن يتحدوا تحت رآسة واحدة ، وتكون لهم عاصمة واحدة ليسهل التعامل معهم ، فانقسم اليهود.
وأصر يهود السامرة أن تكون الرآسة فيهم ، وأن يكون هيكلهم في نابلس ، وأصر يهود أورشاليم أن تكون الرآسة فيهم.
وبكون هيكلهم مكان الهيكل القديم ، واشتد العداء بين الفريقين وسجل العهد القديم هذا العداء ، عندما شرعوا في بناء الهيكل في أورشاليم (2).
وبدأت خطوات المسيرة للقافلة الإسرائيلية بإعادة بناء الهيكل تحت حكم زربابل (3) (538 ق . م) ثم بدأ ما سمي بعصر الاصلاح تحت حكم عزرا (4) (458 ق . م) ثم قام نحميا ببناء السور (5)
---------------------------
(1) نقد التوراة / د . حجازي السقا ص 74.
(2) أنظر عزرا إصحاح 4 ، 5.
(3) المصدر السابق 2 / 2.
(4) المصدر السابق 7 / 13.
(5) نحميا 2 / 1 ـ 9.
ابتلاءات الامم _ 111 _
(445 ق . م) وانتهت مسيرة العهد القديم بسفر النبي ملاخى (1) ، وكانت هناك فترة صمت لا يوجد فيها عهود جديدة.
وقررت هذه الفترة بأربعمائة عام ، ثم جاء العهد الجديد (2) ، والشواهد الكتابية للمسيرة الإسرائيلية (من 538 ـ ق . م) تنحصر في أسفار: عزرا ، نحميا ، استير ، حبقون ، زكريا ، ملاخى ، بالإضافة إلى رؤيا دنيال وما أخبر به حزقيال ، وبالنظر في حركة المسيرة من خلال هذه الشواهد الكتابية ، يجد الباحث أن المسيرة بدأت حركتها بالاختلاف.
وعلى هذا الاختلاف ظهرت توراة سامرية تقول أن القبلة في جبل (جزريم) ، وأخرى عبرانية تقول بأنها في جبل (عيبال) ، وقال يهود السامرة أن المسيح المنتظر من سبط يوسف بن يعقوب ، بينما قال أورشاليم أنه من سبط داوود.
وإذا أردنا أن نحكم على المسيرة من خلال الشواهد الكتابية ، نجد (نحميا) يقول عند المقدمة : ( في تلك الأيام رأيت في يهوذا قوما يدوسون معاصر في السبت ... فخاصمت عظماء يهوذا وقلت لهم : ما هذا الأمر القبيح الذي تعملونه وتدنسون
يوم السبت ، ألم يفعل آباؤكم هكذا فجلب إلهنا علينا كل هذا الشر وعلى هذه المدينة ، وأنتم تريدون غضبا على إسرائيل إذ تدنسون السبت ) (3) ، ويقول ( في تلك الأيام أيضا رأيت اليهود الذين ساكنوا نساء أشدوديات وعمونيات وموآبيات ، ونصف كلام بنيهم باللسان الأشدودي ، ولم يكونوا يحسنون التكلم باللسان اليهودي ، بل بلسان شعب وشعب ، فخاصمتهم ولعنتهم ) (4).
---------------------------
(1) مفاتيح الأسفار الإلهية ص 45.
(2) المصدر السابق ص 45.
(3) نحميا 13 / 15 ـ 18.
(4) المصدر السابق 13 / 22 ـ 5 2.
ابتلاءات الامم _ 112 _
أما عند النهاية ، نجد في (ملاخى) الذي بسفره ينتهي العهد القديم ، نجد إدانة واضحة للمسيرة ولقيادتها ، قال : ( قال لكم رب الجنود: أيها الكهنة المحتقرون اسمي ، وتقولون : بم احتقرنا اسمك ؟ تقربون خبزا نجسا على مذبحي وتقولون بم نجسناك ) (1) ، ويقول ( والآن إليكم هذه الوصية أيها الكهنة ، إن كنتم لا تسمعون ولا تجعلون في القلب لتعطوا مجدا لإسمي ، قال رب الجنود : فإني أرسل عليكم اللعنة وألعن بركاتكم ، بل قد لعنتها لأنكم لستم جاعلين في القلب ) (2) ، وقال لهم : ( قال رب الجنود : من فيكم يغلق الباب بل لا توقدون على مذبحي مجانا ، ليست لي مسرة بكم ، قال رب الجنود : ولا أقبل تقدمة من أيديكم ) (3).
وهكذا رأينا عند المقدمة كيف انحرفت المسيرة ، ثم رأينا عند النتيجة كيف ضربها اللعن ، وفي سفر (ملاخى) وهو آخر أسفار العهد القديم ، نجد أن السفر بين للمسيرة قيادة الهدى التي يختتم بها الله المسيرة الإسرائيلية ، وبشر بقيادة الهدى التي يختتم بها الله المسيرة البشرية ، وفي تحديد قيادة الهدى للمسيرة الإسرائيلية ، بين أن الباب الذي فتحه الله في سبط (لاوي) ، وجاء منه موسى وهارون وبنوه ، هو نفس الباب الذي يأتي منه آخر قيادة هدى للمسيرة الإسرائيلية، لتنتقل القيادة بعد ذلك في اتجاه شعب آخر وأرض جديدة ، قال (ملاخى) في قيادة الهدى التي ينبني على المسيرة انتظارها : ( إني أرسلت إليكم هذه الوصية ليكون عهدي مع لاوي قال رب الجنود : كان عهدي معه للحياة والسلام ، وأعطيته إياهما للتقوى فاتقاني ، ومن اسمي ارتاع هو ، شريعة
---------------------------
(1) ملاخي 1 / 6.
(2) المصدر السابق 2 / 1 ـ 3.
(3) المصدر السابق 1 / 9 ـ 11.
ابتلاءات الامم _ 113 _
الحق كانت في فيه ، والإثم لم يوجد في شفتيه ، سلك معي في السلام والاستقامة وأرجع كثيرين عن الإثم ، لأن شفتي الكاهن تحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة ، لأنه رسول رب الجنود ، أما أنتم فحدتم عن الطريق وأعثرتم كثيرين بالشريعة ، أفسدتم عهد لاوي ، فأنا أيضا صيرتكم محتقرين ودنيئين عند كل شعب ، كما إنكم لم تحفظوا طرقي بل حابيتم في الشريعة ) (1).
من هذه النصوص نجد أن (ملاخى) ذكرهم بالبداية التي عندها نصب الله هارون كاهنا للشريعة وجعلها من بعده في بنيه ، وهؤلاء هم ذروة سبط لاوي ، ثم بين لهم أن عهد الله مع هؤلاء وليس مع غيرهم ، فغيرهم حاد عن الطريق وأفسد في الأرض ، ثم أخبرهم بأن الله سيرسل إليهم واحد من هذا السبط ليسوق قاعدة السبط ومن ورائها بقية الأسباط ، ( ها أنذا أرسل ملاكي فيهئ الطريق أمامي ، ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تسرون به ، وهو ذا يأتي ، قال رب الجنود : ومن يحتمل يوم مجيئه ، ومن يثبت عند ظهوره ، لأنه مثل نار المحص ومثل أشنان القصار ، فيجلس ممحصا ومنقيا للفضة ، فينقي بني لاوي ويصفيهم كالذهب والفضة ، ليكونوا مقربين للرب تقدمة بالبر ، فتكون تقدمة يهوذا وأورشاليم مرضية للرب ، كما في أيام القدم وكما في السنين القديم ) (2) .
وبعد أن أشار السفر إلى بعثة آخر الأنبياء في سبط لاوي ، وهو المسيح عيسى بن مريم كما سنبين في موضعه ، تحدث عن اليوم المخوف الذي ينهي المسيرة البشرية ، وأخبرهم بأن الله قبل هذا اليوم.
سيبعث إلى البشرية النبي (إيليا) ومهمته هي فتح أبواب الرحمة ، قبل أن
---------------------------
(1) ملاخي 2 / 4 ـ 9.
(2) المصدر السابق 3 / 1 ـ 5.
ابتلاءات الامم _ 114 _
يضرب الله المستكبرين وكل فاعلي الشر ويحرقهم ، قال : ( فهوذا يأتي اليوم المتقد كالتنور ، وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشا ، ويحرقهم اليوم الآتي ، قال رب الجنود : فلا يبقى ، لهم أصلا ولا فرعا ، ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها ) ، ثم قال ( هأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجئ يوم الرب اليوم العظيم والمخوف ، فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم ، لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن ) (1).
وإيليا النبي ، وضعه اليهود وفقا لعلم حساب الحروف ، ومجموع هذا الاسم يشير إلى اسم النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، الذي يختتم به الله المسيرة البشرية (2).
وبهذه الخاتمة انتهى العهد القديم ليبدأ العهد الجديد ، الذي يتحدث عن المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام.
1 ـ ( آل عمران ) : انقسم اليهود حول المسيح المنتظر ، ففريق قال إنه يأتي من نسل يوسف ، وقال آخرون إنه يأتي من نسل داوود ، وذكر (ملاخى) أن الله جعل عهده في سبط (لاوي بن يعقوب) ، وذكر العهد القديم أن من أبناء لاوي (نحشوم) وولد له (
عمرام) وولد لعمرام موسى وهارون ومريم (3) ومن هذا النسل اختار الله تعالى الهداة الذين يسوقون المسيرة الإسرائيلية إلى الصراط المستقيم.
---------------------------
(1) المصدر السابق 4 / 1 ـ 6.
(2) أنظر كتاب بشارة نبي الإسلام / د . حجازي السقا.
(3) العدد 26 / 60.
ابتلاءات الامم _ 115 _
ولقد كشف يهود أورشاليم برامجهم وثقافاتهم التي تدعو إلى انتظار ابن داوود الذي يعيد مملكة داوود التي تعتبر عنوانا لعهد الله لإبراهيم ، وهذه البرامج والثقافات تخالف نصوص قطعية في العهد القديم حدد فيها من أي سبط يأتي المسيح المنتظر ، وإذا نظر الباحث في نسل داوود كما جاء في العهد القديم ، يجد أن فاتحة النسل جاءت من الزنا كما ذكر العهد القديم ، فيهوذا بن يعقوب زنى بامرأة ابنه المسماة (ثامارا) وأنجب منها فارص ، وفارص أنجب حصرون ، وحصرون أنجب أرام ، وأرام أنجب عميناداب ، وعميناداب أنجب نحشون ، ونحشون أنجب سلمون ، وسلمون أنجب بوعز ، وبوعز أنجب عوبيد ، وعبيد أنجب يس ، ويس أنجب داوود ، ولما كانت المقدمة بها زنا كما ذكر العهد القديم ، فإن هذه المقدمة لا تؤهل النسل في الدخول في جماعة الرب كما ذكر العهد القديم أيضا ، وهو قوله ( لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب حتى الجيل العاشر ، لا يدخل منه أحد في جماعة الرب ) (1).
وعندما بعث المسيح بن مريم عليهما السلام ، وهو من نسل (عجرام) كما سنبين في موضعه ، كانت ثقافة التفسير الشفهي للتوراة تغمر الساحة وتمد أتباعها بوقود انتظار بن داوود ، وعندما لم يأت المسيح لليهود بما تشتهي أنفسهم رفضوه وتآمروا عليه ، وبعد عصر المسيح عليه السلام أراد النصارى إثبات دعوة المسيح أمام اليهود ، فألحقوا المسيح بنسل داوود ، ليجعلوا اليهود بهذا الالحاق من الخارجين على المسيح عليه السلام ، وترتب على هذا الالحاق إشكال ، هو أنهم جعلوا للمسيح عليه السلام أربعة أجداد من الزنا ، ومن كان كذلك فقد خرج من حزب الله كما صرح العهد القديم ، والأجداد
---------------------------
(1) تثنية 23 / 1 ـ 2.
ابتلاءات الامم _ 116 _
الأربعة هم : مؤاب ، فارص ، بن عمي ، سليمان ، (أما مؤاب وبن عمى) فهما ابنا لوط ، ذكر العهد القديم ، أن لوطا زنا سكرانا بابنتيه فولدت له الكبرى مؤاب وولدت الصغرى بن عمى (1) ، ومن الأول جاء الموابيون ومن الثاني جاء العمونيون ، والعهد القديم يقول (لا يدخل عموني ولا موآبي في جماعة الرب حتى الجيل العاشر ، لا يدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد ) (2) (وأما فارص) فولد من ثامارا بعد أن زنى بها يهوذا (3) (وأما سليمان) فولد من بت شبع امرأة أوريا حيث زنا بها داوود (4) ـ وحاشاه ! والعهد القديم يقول ( لا يدخل ابن زنى في جماعة الرب حتى الجيل العاشر ) (5).
فوقها لهذه النصوص يكون الذين ألحقوا المسيح عليه السلام بنسل داوود ، قد أخرجوه في الحقيقة من جماعة الرب إلا الأبد ، لأنه لا يدخل جماعة الرب كل ولد زنا ولا سيما المؤابيين وبني عمي وهو منهما ، ومما يزيد الإشكال إشكالا أنهم على الرغم من هذا
النسب اعتبروا المسيح عليه السلام ابنا لله أو إلها متجسدا في الناسوت وتلك مصيبة كبرى.
وفي إشكال نسب المسيح يقول موريس بوكاي : تطرح شجرتا النسب اللتان يحتوي عليهما إنجيلا متي ولوقا ، مشاكل تتعلق بالمعقولية وبالاتفاق مع المعطيات العلمية ، ومن هنا فهي مشاكل تتعلق بالصحة ، وهي مشاكل تحرج جدا المعلقين المسيحيين ... وبادئ ذي بدء يجب ملاحظة أن هذين النسبين من جهة الرجال كما ذكر إنجيلا متي ولوقا ،
---------------------------
(1) تكوين 19 / 30 ـ 38.
(2) تثنية 23 / 2 ـ 3.
(3) تكوين 38 / 6 ـ 0 3.
(4) صموئيل 12 / 7 ـ 23.
(5) تثنية 23 / 1 ـ 2.
ابتلاءات الامم _ 117 _
معدوم المعنى فيما يتعلق بالمسيح ، ولو كان من الضروري إعطاء المسيح نسبا وهو وحيد مريم أمه وليس له أب بيولوجي ، فيجب أن يكون ذلك النسب من جهة مريم فقط (1).
ولقد تضارب إنجيل متي مع إنجيل لوقا في نسب المسيح إلى داوود ، فبينما يذكر متي أن من داوود إلى المسيح 26 جيلا ، يذكر لوقا إنه 41 جيلا ، وبينما يذكر متي أن يوسف النجار ابن يعقوب ، يذكر لوقا إنه ابن هالي ، وبينما يذكر متي أن المسيح من ولد سليمان بن داوود ، يذكر لوقا إنه من ولد ناثان بن داوود ، وبينما يذكر متي أن شلتائيل ابن يكنيا ، يذكر لوقا إنه ابن نيري ، وبينما يذكر متي أن ابن زور بابل يدعى أبيهود ، يذكر لوقا إنه يدعى ريسا (2) ، وبالجملة : النسب في العهد القديم به ولد زنا ، والنصوص القاطعة تفيد أن من جاء من هذا الطريق لا يدخل جماعة الرب ، وبعد بعثة المسيح انطلق متي ولوقا في إنجيل كل منهما ، من دائرة المسيح إلى دائرة نسب داوود التي ذكرها العهد القديم ، لإثبات أن المسيح بن مريم عليه السلام ، هو ابن داوود المذكور عند اليهود.
فجاء الانطلاق من دائرة إلى دائرة محرجا أمام النصوص.
والقرآن الكريم ينسب المسيح إلى أمه نسبة الولادة ، وينسبه إلى الله نسبة الخلقة ، ولقد طهر الله تعالى المسيح عن العهر عبر الأصلاب والأرحام وعما ينافي الطهارة إطلاقا بكلمة واحدة ، وهي قوله عند ولادته (وجعلني مباركا أينما كنت) (3) أي أينما كنت قبل الولادة في رحم أمي وجداتي حتى أمي الأولى حواء ، وفي صلب أبيها والآباء حتى
---------------------------
(1) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة / موريس بوكاي ص 105.
(2) أنظر متي الإصحاح الأول، لوقا الإصحاح الثالث.
(3) سورة مريم آية 31.
ابتلاءات الامم _ 118 _
آدم الأول ، فقد كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة ، لم تنجسني الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسني من مدلهمات ثيابها ، فقد كنت مباركا أينما كنت وحيثما كنت ، لم أر صلب زان ولا رحم زانية ، أو صلب مشرك جهول ورحم مشركة.
وجميع الأنبياء والرسل خرجوا من شجرة واحدة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، ولقد اصطفى الله الأنبياء وآلهم على العالمين كما في قوله تعالى : (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ، ذرية بعضها من بعض والله سميع
عليم) (1) اصطفى سبحانه آدم عليه السلام لأنه أول خليفة له في الأرض ، واصطفى نوح عليه السلام لأنه أول الخمسة أولي العزم من الرسل ، وهو أيضا الأب الثاني للنوع الإنساني بعد الطوفان ، لقوله تعالى : (وجعلنا ذريته هم الباقين) (2) واصطفى سبحانه آل إبراهيم ، وهم إسحاق وإسرائيل والأنبياء من بني إسرائيل عليهم السلام ، وإسماعيل والطاهر من ذريته وسيدهم محمد (ص) ، وقد جاء ذكره في دعاء إبراهيم وإسماعيل عند رفعهما قواعد بيت الله الحرام بمكة ، (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) إلى قوله تعالى (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) (3) واصطفى الله آل عمران ، وآل عمران من ذرية إبراهيم عليه السلام ، ولكن الله أفردهم في آية الاصطفاء ليكون في هذا إشارة بأن الله تعالى قدمهم على الناس في أمر أو أمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم.
وآية الاصطفاء في خطوطها العريضة إعلان للبشر بأن هؤلاء
---------------------------
(1) سورة آل عمران آية 33.
(2) سورة الصافات آية 77.
(3) سورة البقرة آية 129.
ابتلاءات الامم _ 119 _
الطيبين الذين خصهم الله والحق بهم من اختارهم ، هم في الحقيقة خير أمة أخرجت للجنس البشري ، ليقودوه على فترات إلى صراط الله العزيز الحميد ، وعلى امتداد المسيرة الإسرائيلية كان عهد الله في سبط (لاوي) وذروة هذا السبط هو عمرام ،
وولد لعمرام موسى وهارون ومريم كما ذكر العهد القديم ، وأمر الله بني إسرائيل بالطاعة لكهانة هارون ومن بعده لكهانة بنيه ، وعلى امتداد المسيرة امتحن الله تعالى بني إسرائيل بهذه الذرية وبجملة عهوده ووصاياه تعالى ، وشاء الله أن تختتم المسيرة بآل
عمران ، فجاءت الخاتمة يحمل عمودها الفقري نفس الأسماء التي وردت في المقدمة ، لعل القافلة أن تتذكر وتنصت إلى أقوال ملاخى وغيره ، ولا تلتفت لأقوال الفرق العديدة التي أفرزها التفسير الشفهي للتوراة.
إن المقدمة جاء ذكرها في العهد القديم ، بقوله ( إن امرأة عمرام يوكابد ، ولدت لعمرام هارون وموسى ومريم ) (1) أما الخاتمة فقد جاء ذكرها في القرآن في آيات كثيرة منها قوله تعالى : (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا) (2) وقال تعالى : (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها) (3) فالخاتمة أمام اليهود تحمل عناوين المقدمة ، واليهود كانوا يعلمون أن مريم بنت عمران في حاضرهم تنتسب إلى عمران في ماضيهم ، لكنهم ركبوا مراكب الاستكبار ، ومن الدليل على ذلك ، أن التشريع الوارد في سفر العدد.
يحتم أن تتزوج كل بنت من أسراتها إن أرادت الزواج من يهودي ، لقوله ( وكل بنت ورثت نصيبا من أسباط بني إسرائيل ، تكون امرأة لواحد من عشرة سبط أبيها ، لكي يرث بنو إسرائيل كل واحد نصيب
---------------------------
(1) العدد 26 / 60.
(2) سورة آل عمران آية 35.
(3) سورة التحريم آية 12.
ابتلاءات الامم _ 120 _
آبائه ) (1) أي إن من هو من سبط روابين مثلا ، يتزوج من سبطه ولا يتزوج من سبط شمعون ، وهكذا ، والنبي زكريا طبقا للشريعة تزوج من امرأة من بنات هارون فقد جاء في الإنجيل ( كان في أيام هيرودوس ملك اليهودية ، كاهن اسمه زكريا من فرقة إبيا ، وامرأته من بنات هارون واسمها اليصابات ) (2) والعذراء مريم أم المسيح عليهما السلام.
يحكي لوقا إنها كانت قريبة لأليصابات ، ومعنى ذلك إنها تكون من نفس السبط الذي منه اليصابات ، ولما ثبت أن اليصابات من بنات هارون ، فإنه يثبت بالضرورة أن مريم عليها السلام من بنات هارون.
ومن الدليل أيضا على أن اليهود كانوا يعرفون حقيقة النسب ، أنهم أفسحوا للمسيح الطريق ليلقي بمواعظه داخل الهيكل ، ذكر يوحنا : أن المسيح حضر إلى الهيكل ، وجاء إليه جميع الشعب فجلس يعلمهم (3).
وذكر لوقا : دخل المسيح المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ (4) وما كان اليهود ليسمحوا بذلك إلا لعلمهم أن المسيح الذي تربت أمه في الهيكل بعد أن كفلها زكريا الذي ينسب لهارون ، يحمل العلم الذي علموا موضعه على امتداد المسيرة والقرآن الكريم أخبر في آياته أن اليهود كانوا يعرفون هذا ، وأن الحجة قامت عليهم بما علموا وبما قدمه المسيح وحمله إليهم ، وقال تعالى بعد أن وضعت العذراء ولدها (فأتت به قومها تحمله ، قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا) (5) قال صاحب الكشاف : قوله ( يا أخت هارون ) إنما عنى هارون النبي ، وكانت من أعقابه في طبقة
---------------------------
(1) العدد 36 / 8.
(2) لوقا 1 / 5.
(3) يوحنا 8 / 1 ـ 6.
(4) لوقا 4 / 16.
(5) سورة مريم آية 27.
ابتلاءات الامم _ 121 _
الأخوة ، وعن أبي طلحة والسدي في قوله ( يا أخت هارون ) أي أخي موسى ، وكانت من نسله (1).
لقد كانت شرافة النسب تقتضي القول : أنها أخت موسى لا هارون ، لأفضلية موسى على هارون ، ولكن جاء انتسابها لهارون دون أبيها عمران ودون موسى ، لتكون الحجة عليهم دافعة وهم يتلون الكتاب ويفسرونه التفسير الذي لا يقره أبناء هارون.
والخلاصة : لقد وضع اليهود النسب الذي يتفق مع أهوائهم ، ثم شيدوا على هذا النسب فتن لا تقود إلا إلى الدجال ، ولقد بينت الرسالة الخاتمة أن للدجال كنى وأسماء تستقيم مع فتنته ، منها : ابن داوود ، أبو يوسف (2) والنصارى الذين دونوا نسب
المسيح لم يلتفتوا إلى أن المسيح ليس له أب بيولوجي ، وأن نسبته إلى يوسف النجار لا جدوى من ورائها ، لأن النسب يجب أن يكون من جهة العذراء فقط ، لكنهم عملوا خلاف ذلك ، واتبعوا النسب الذي وضعه اليهود ، اعتقادا منهم أن متابعة اليهود في هذا ، فيه
إدانة لليهود الذين لم يؤمنوا بدعوة المسيح عليه السلام ، ولكن هذا النسب الذي تجاهل سبط لاوي الذي على ذروته آل عمران ، قاد الذين ينتظرون المسيح ابن داوود أو المسيح ابن يوسف ، إلى فتنة وصفتها الرسالة الخاتمة بأنها أعظم فتنة منذ ذرأ الله ذرية آدم.
2 ـ ( الأعمدة المتصدعة وآل هارون ) : وقبل بعثة المسيح عليه السلام كانت المسيرة قد ارتوت من مياه الأمم الذين تعاقبوا على حكم فلسطين ، وكان لهذا الارتواء أثرا بالغا في بناء الشخصية الإسرائيلية بعد عهد السبي ، والدول التي تعاقبت على
---------------------------
(1) تفسير ابن كثير 118 / 3.
(2) بيان الأئمة ص 104 ، الفتن والملاحم / ابن كثير ص 133 بيان الأئمة ص 104
ابتلاءات الامم _ 122 _
حكم فلسطين بعد السبي هي : فارس (538 ـ 333 ق . م) ، اليونان (333 ـ 343 ق . م) مصر (323 ـ 204 ق . م) ، سور يا (204 ـ 167 ق . م) ، المكابين (167 ـ 63 ق . م) وفيها كان اليهود مستقلين من الناحية العملية ، روما (63 ق . م) وامتد حكم الرومان حتى (633 م) (1) ، وعلى امتداد هذه الفترة كان لليهود تجهيزاتهم التي أقاموها للحفاظ على تعاليمهم التي تقود إلى أهدافهم ، وكان الحي اليهودي يذخر بالفرق المتعددة ومن أهم هذه الفرق : (الفريسيين) وهؤلاء أهم فرق اليهود وأكثرهم خطرا ، ويتمسكون بالتفسير الشفهي (التلمود) وتقليد الشيوخ السابقين (2) ، ولقد حذر المسيح عليه السلام من هذه الفرقة (3) ، ومنهم جاء القديس بولس الذي قاد المسيرة المسيحية فيما بعد ، وسنبين ذلك في موضعه ، (الصدوقيين) وهؤلاء يتمسكون بالناموس المكتوب (4) ، (والأسنيين) وهؤلاء
يمارسون حياة رهبانية وهم يمثلون اليهودية السرية (5) ، (الهيروديين) وهم حزب سياسي يريد إرجاع السلطة إلى عائلة هيرودس (6) ، (الغيورين) وهؤلاء حزب قومي مستقل يؤيد استعمال العنف والقسوة (7) ، وكان يوجد داخل الحي اليهودي العديد من المؤسسات أهمها : (المجمع اليهودي) وهو مبنى يجتمع فيه اليهود لقراءة الأسفار ، وهو كان للتعليم (8) ، (السنهدرين) وهم السلطة
---------------------------
(1) مفاتيح الأسفار ص 55 ، 56.
(2) مفاتيح الأسفار ص 56.
(3) متي 24 / 10.
(4) مفاتيح الأسفار الإلهية ص 56.
(5) المصدر السابق 56.
(6) المصدر السابق 57.
(7) المصدر السابق 57.
(8) المصدر السابق ص 58.
ابتلاءات الامم _ 123 _
القضائية والدستورية العليا عند اليهود (1) ، (العشارين) وهم يهود يجمعون الضرائب للرومان (2) ، (الكتبة) وهم طبقة من الشعب مهمتهم شرح الناموس ، ولقد أكثروا من التقاليد الشفاهية ، وحددوا قواعد تشمل النواحي العملية للحياة اليومية ، وهم يسمون بالمحامين والمعلمين والربيين (3) ، (الناموس الشفاهي) وهو مجموعة التعليقات والتفاسير التي تدور حول ناموس موسى (4) ويشرف عليه كبار الحاخامات.
فتحت حكم الأمم تشكلت الشخصية الإسرائيلية بعد السبي ، وهذا التشكيل حمل معالم الشخصية الإسرائيلية قبل وأثناء السبي ، وقبل بعثة المسيح عليه السلام كانت الفرق الإسرائيلية المتعددة تتصارع على رقعة الاختلاف والجميع يتجه نحو هدف واحد ، وهذا الهدف نسجته الفتن المتعددة ، وفي النهاية ارتدى ثياب أمير السلام ، الذي يعيد مجد مملكة داوود الوعد الإلهي لإبراهيم.
وهذه الثياب يشرف على صيانتها العديد من المؤسسات التي تتمركز حول التفسير الشفهي للناموس (التلمود) ، وفي هذه الأجواء المشحونة بالرفض لكل منهج لا يخلص اليهود من حكم الأجانب ، لطف الله تعالى بعباده وبعث إليهم من يقيم عليهم الحجة
ويسوقهم إلى صراط الله العزيز الحميد ، لينظر سبحانه إلى عباده كيف يعملون تحت سقف الامتحان والابتلاء.
وعند خاتمة المسيرة الإسرائيلية ، بعث الله تعالى النبي يحيى والنبي عيسى ، وكل منهما يحمل معالم جفاف المسيرة ، ليتدبر فيها أصحاب العقول والأفهام ، وليعلموا أن القيادة ستنزع من أيديهم وتكون
---------------------------
(1) المصدر السابق ص 58.
(2) المصدر السابق 58.
(3) المصدر السابق 58.
(4) المصدر السابق 58.
ابتلاءات الامم _ 124 _
لشعب آخر من أبناء إبراهيم ، ومعالم الجفاف أن النبي يحيى ولد لأب اشتعل رأسه شيبا ولأم عاقر ، أما المسيح عليه السلام فولد لعذراء لم يمسسها بشر ، لقد جاء يحيى من طريق أبوين الذرية لهما أمر غير معهود ، ليكون مصدقا بعيسى عليه السلام الذي
جاء من جهة كلمة الايجاد (كن) ، وذلك لأن سائر الأفراد من الإنسان يجري ولادتهم على مجرى الأسباب العادية المألوفة ، ولكن ولادة المسيح عليه السلام لم تجر هذا المجرى.
لأنه فقد بعض الأسباب العادية ، لهذا كان وجوده بمجرد كلمة التكوين (كن) ولم يتخلل هذا الوجود الأسباب العادية.
لهذا كان الباب الذي دخل منه آخر أنبياء بني إسرائيل ، باب يدعو المسيرة إلى التدبر والإيمان ، وليحذروا المخالفة لأنها ستنتج على آخر الطريق فتنة ، ومعنى أن يغلقوا على أنفسهم باب الفتنة ، أن قيادة المسيرة البشرية لن تكون من داخل الأبواب المغلقة ، إنما ستنتقل إلى مكان أوسع وأرحب ، والله تعالى يورث الأرض لمن يشاء من عباده.
في نهاية المسيرة جاءت دعوة زكريا عليه السلام ، وكان متزوجا من اليصابات من بنات هارون (1) ويقول إنجيل لوقا فيهما إنهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه ) (2) ، وقال ( لم يكن لهما ولد ، إذ كانت اليصابات عاقرا وكلاهما قد تقدم في السن كثيرا ) (3) ، وذكر لوقا : بينما كان زكريا يؤدي خدمته الكهنوتية أمام الله سأله الولد.
فظهر له ملاك وقال له : لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت ، وزوجتك ستلد لك ابنا تسميه يوحنا ، وسوف يكون عظيما أمام الرب ، والقرآن الكريم ذكر هذه المعجزة في قوله تعالى : ( قال رب إني
---------------------------
(1) لوقا 1 / 5.
(2) المصدر السابق 1 / 6.
(3) المصدر السابق 1 / 8 ـ 16.
ابتلاءات الامم _ 125 _
وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا * ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا * فهب لي من لدنك وليا يرثني وبرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا * يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا ) (1).
وجاء يحيى وريث زكريا وآل يعقوب ، ليكون حجة على مسيرة خرج معظمها عن سبيل آل يعقوب ، وبدأ يحيى دعوته ، جاء في إنجيل متي ( في تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان (يحيى) يكرز في برية اليهودية قائلا : توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات ، فإن هذا هو الذي قيل عنه بأشعيا النبي القائل : صوت صارخ في البرية ، أعدوا طريق الرب.
اصنعوا سبله مستقيمة ) (2) ، ويقول متي هنري في تفسيره : كانت مهمة يوحنا دعوة الناس للتوبة عن خطاياهم ، فقوله ( توبوا ) هي في الأصل اليوناني ( تأملوا أو فكروا مليا ) أي : ليكن لكم فكرا آخر لتصلحوا أخطاء الماضي ، تأملوا طرقكم ، جددوا أذهانكم ، لقد أخطأتم التفكير فأعيدوا التفكير وأحسنوا التفكير (3).
ولكن القوم لم يتأملوا ولم يفكروا وعكفوا على أطروحة أرض الميعاد التي كتبها الله لإبراهيم دون قيد وشرط ، ورفعت فرقة (الفريسيين) أعلام الصد عن سبيل الله ، يقول إنجيل متي ( ولما رأى يوحنا كثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون اليه ليتعمدوا قال لهم : يا أولاد الأفاعي ، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي ، فأثمروا ثمرا يليق بالتوبة ولا تغللوا أنفسكم قائلين : لنا إبراهيم أبا ، فإني أقول لكم : إن الله قادر أن يطلع من هذه الحجارة أولاد إبراهيم ، وها إن الفأس قد
---------------------------
(1) سورة مريم آية 4 ـ 7.
(2) إنجيل متي 3 / 1 ـ 4.
(3) متي هنري 58 / 1.
ابتلاءات الامم _ 126 _
ألقيت على أصل الشجرة ، فكل شجرة لا تثمر ثمرا جيدا تقطع وتطرح في النار ) (1) ، ويقول متي هنري في تفسيره : نرى يوحنا يوجه حديثه إلى هؤلاء القوم بمنتهى الصراحة والأمانة ، وما قاله يوجهه في نفس الوقت إلى كل الجموع ... فاللقب الذي ناداهم به هو ( يا أولاد الأفاعي ) ، ولقد أعطاهم المسيح نفس هذا اللقب ، لقد كانوا كالأفاعي إذ كانت لهم صورة التقوى والمظهر الخلاب ، إلا أنهم مملوئين سما مشحونين خبثا وعداوة لكل ما هو حسن ، وكانوا أولاد الأفاعي نسل وذرية الأفاعي ، فكان السم يسري في دمهم وعظامهم.
وكانوا يفتخرون بأنهم ولدوا من إبراهيم ، ولكن يوحنا بين لهم أنهم من نسل
الحية وإن إبليس هو أبوهم (2) ، وقال لهم يوحنا (يحيى) : ( إن كنتم أولاد إبراهيم ، فلا تفتكروا إنكم لا تحتاجون إلى التوبة وإنه لا شئ هنالك تتوبون عنه وإن علاقتكم بإبراهيم لص اهتمامكم بالعهد الذي قطع معه يجعلانكم مقدسين ولا يوجد هنالك داع لتجديد أذهانكم وإصلاح طرقكم ، ولا تفتكروا بأنكم ستنجحون حتى وإن كنتم لا تتوبون ... أو وأن الله سيتغاضى عن عدم توبتكم لأنكم أولاد إبراهيم ) (3) ويقول متي هنري ( يقولون لنا إبراهيم أبا ، ولذلك لنا الحق في امتيازات العهد الذي قطعه الله معهم ... يا لغباوتهم في هذا الادعاء الذي لا أساس له ، لقد توهموا بأنهم وقد صاروا أولاد إبراهيم ، فإنهم هم شعب الله الوحيد في هذا العالم ، ولقد بين لهم يوحنا جهلهم الفاضح في هذا الادعاء الباطل والغرور الكاذب ).
فقال ( مهما افتكرتم أن تقولوا في أنفسكم ، أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاد إبراهيم ، إن امتحانكم دقيق جدا وقريب جدا ، الآن قد وضعت الفأس وقد رفعت أمام أنظاركم ووضعت على أصل الشجرة ،
---------------------------
(1) إنجيل متي 7 / 3 ـ 11.
(2) متي هنري في تفسيره 66 / 1.
(3) المصدر السابق ص 69 / 1.
ابتلاءات الامم _ 127 _
الآن ستوضعون في كفة الميزان لحظة واحدة ، الآن قد تحددت نهايتكم للهلاك الذي لا يمكن أن تفلتوا منه إلا بالتوبة العاجلة الصادقة ، الآن قد منحكم الله آخر فرصة للاختبار ، إما أن تنتهزوا الفرصة الآن ، أو تضيع من أيديكم إلى الأبد ، وبين كيف أن القصاص منهم سيكون صارما إن لم ينتهزوا الفرصة ، الحقيقة يوضحها يوحنا بوضع الفأس على أصل الشجرة ، ليبين لهم أن الله قضى أن كل شجرة مهما ارتفعت بمواهبها وأمجادها ، ومهما بدت خضراء بمظهرها الخارجي ، أن لم تصنع أثمارا صالحة تليق بالتوبة فإنها تقطع ، لا يعترف بها كشجرة في كرم الله ، تصبح غير جديرة بأن تحتل مكانا هناك وتلقى في النار ، وهي أليق مكانا للأشجار الجافة لأنها لا تصلح لشئ آخر ، إن لم تصلح للأثمار تصلح للنار (1).
ويقول متي هنري : لقد كانوا عصابة الأفاعي كلهم متساوون في الشر ، ورغم أنهم كانوا أعداء بعضهم لبعض ، إلا إنهم كانوا متحالفين في الشر ، إن نسل الشرير هو نسل الأفاعي ، ولقد كان الانذار الذي وجهه لهم يوحنا ( من أراكم أن تهربوا من
الغضب الآتي ) يتضمن أنهم كانوا في خطر الوقوع تحت طائلة الغضب الآتي ، وأنه لا أمل لهم في النجاة منه ، لأن قلوبهم قد قست ، الفريسيين بسبب تمسكهم بمظهر الديانة.
والصدوقيون بسبب كثرة مناقشتهم عن الديانة ، حتى كان يصبح كل مجهود
لمحاولة التأثير عليهم مقضيا عليه بالفشل ، لقد كان هناك غضبا آتيا ، ومن واجب كل واحد أن يهرب من هذا الغضب ، ومن رحمة الله أنه يحذر للهروب من هذا الغضب.
لقد كان يحيى (يوحنا) يتحدث بالحق الذي تحدث به آل يعقوب ، وكان عليه السلام يقف على أرضية آل عمران (آل هارون) ،
---------------------------
(1) تفسير متي هنري 68 ، 69 ، 70 / 1.
ابتلاءات الامم _ 128 _
قال متي هنري : وكان يوحنا كاهنا على طقوس هارون (1) وبينما كان يدعو الشعب للتوبة والإيمان بالله وسلوك سبيل آل هارون ، كان يعلن أمامهم أنه يمهد الطريق للمسيح عيسى ابن مريم ، ويقول ( لست المسيح ، بل أنا رسول يمهد له الطريق ) (2) ، وكان الشعب قد علم من قديم ، على لسان الأنبياء والرسل ببشارة تقول ( ها العذراء تحبل وتلد ابنا ) (3).
وعندما ولدت العذراء وشب ولدها عليه السلام ، يقول إنجيل متي ( جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليتعمد منه ) (4) ولأن حبل النبوة حبل واحد ، وحلقات الأنبياء يكمل بعضها بعضا ، قال يوحنا للمسيح : ( هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر ) (5) ، وكان المسيح عليه السلام آخر أنبياء الشجرة الإسرائيلية التي جعلها الله حجة على المسيرة الإسرائيلية ، وانتهت حياة نبي الله زكريا ونبي الله يحيى نهاية دموية ، روى أن القوم عندما عقدوا العزم على قتل زكريا ، هرب منهم فانفرجت له شجرة فدخل جوفها ثم التأمت عليه ، وعندما علم القوم نشروا الشجرة فقطعوها وقطعوه نصفين ، أما يحيى عليه السلام ، فسجنوه ، ثم قتلوه ، ثم قطعوا رأسه ، وحملت إلى ملك بني إسرائيل ليقدمها هدية لامرأة كان قد افتتن بها (6)