الفهرس العام

أولا ـ ( مقام التطهير ) :
ثانيا ـ ( حكام العلم ) :
3 ـ ( الترغيب والترهيب )
4 ـ ( رحيل النبي الخاتم (ص) )


  والتنجس نتيجة لما تحتويه بواطنهم واعتقاداتهم ، والذين في قلوبهم مرض ويتلبسون بالدين الخاتم ورثوا قلوب وعقول الذين سبقوهم من بني إسرائيل ، فإذا كان الذين كفروا من بني إسرائيل لا يقبلون إلا ما يوافق أهواءهم ، فإن المنافقين إذا سمعوا آية من كتاب الله زادتهم رجسا إلى رجسهم ، قال تعالى : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) (1) ، قال المفسرون : ( زادتهم رجسا إلى رجسهم ) أي زادتهم شكا إلى شكهم وريبا إلى ريبهم ، وهذا من جملة شقائهم ، أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم ، كما أن سئ المزاج لو غذى بما غذى به لا يزيده إلا خبالا ونقصا.
  ولأن تيار النفاق لا يزداد إلا رجسا ، ولأنهم أصحاب السنة وإذا سمعهم السامع أصغى إلى قولهم لبلاغتهم ، ولأن برنامج الصد عن سبيل الله إذا تلبس بالدين كان أشد خطرا على الدعوة ، فإن الدعوة الخاتمة قامت بعزل هذا التيار عن ساحتها ، وأقامت حجتها بطائفة الحق ، وتحت سقف الامتحان والابتلاء تسير القافلة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا.
  وطائفة الحق من خصائصها أن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وبهذه الصفة كانوا مع كتاب الله ولن ينفصلا حتى يردا على حوض النبي (ص) ، ومعنى أنهم مع كتاب الله أنهم أعلم الناس بكتاب الله ، وهم أمان للأمة من الوقوع في دائرة التأويل الخاطئ لكتاب الله.
  وخاصة الآيات المتشابهة ، وذلك لأن تيار الذين في قلوبهم زيغ يتخذ من المتشابه حقلا له إبتغاء الفتنة ، قال تعالى : ( هو الذي أنزل عليك

---------------------------
(1) سورة التوبة آية 125.

ابتلاءات الامم _ 250 _

  الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه إبتغاء الفتنة وابتناء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ) (1) قال المفسرون : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ ) أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ( فيتبعون ما تشابه منه ) أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة.
  وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه ، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه ، لأنه دافع لهم وحجة عليهم ، ولهذا قال تعالى : ( إبتغاء الفتنة ) أي الاضلال لأتباعهم إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم القرآن ، وهو حجة عليهم لا لهم ، وقوله تعالى ( وابتغاء تأويله ) أي تحريفه على ما يريدون.
  لأن تيار الذين في قلوبهم زيغ والذين في قلوبهم مرض يتلبس بالدين ويجلس في خيام القافلة ، أقام الله الحجة بالكتاب وبالعترة التي لا يضرها من عاداها أو من خذلها أو من خالفها لأنها شعاع يهدي والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون ، وتطهير أهل البيت والشهادة لهم بالعلم والعمل ، والتحذير من مخالفتهم ، وغير ذلك ، وردت فيه أحاديث صحيحة ، سنقدمها ونقابلها بما في منزلة هارون من موسى عليهما السلام.

أولا ـ ( مقام التطهير ) :

  قال تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (2) قال ابن عباس : ( يذهب عنكم الرجس ) أي عمل

---------------------------
(1) سورة آل عمران آية 7.
(2) سورة الأحزاب آية 33.

ابتلاءات الامم _ 251 _

  الشيطان وما ليس لله فيه رضا ، وقال الأزهري : الرجس اسم لكل مستقذر من كل عمل ، وقال ابن حجر : والمعنى.
  التطهير من الأرجاس والأدناس ونجاسة الآثام (1).
  وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( خرج النبي (ص) غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين فدخل معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (2) ، وروي عن عمر بن أبي سلمة أنه قال : لما نزلت هذه الآية ( إنما يريد الله ... ) دعا رسول الله (ص) فاطمة وحسنا وحسينا ، فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره فجلله بكساء ، ثم قال ( اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، قالت أم سلمة رضي الله عنها : وأنا معهم يا نبي الله ، قال : أنت على مكانك وأنت على خير ) (3) ، وعن شداد بن عمار قال ، دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم ، فذكروا عليا رضي الله عنه فشتموه ، فشتمته معهم ، فلما قاموا.
  قال لي شتمت هذا الرجل ؟ ، قلت : قد شتموه فشتمته معهم ، قال : ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله (ص) ؟ قلت : بلى ، قال : أتيت فاطمة رضي الله عنها أسألها عن علي رضي الله عنه ، فقالت : توجه إلى رسول الله (ص) ، فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله (ص) ومعه علي وحسن وحسين رضي الله عنهم ، آخذا كل واحد منهما بيده حتى دخل ، فأدنى عليا وفاطمة رضي الله عنهما وأجلسهما بين يديه ، وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه ، ثم لف عليهم كساءه ، ثم تلى (ص) هذه الآية

---------------------------
(1) أنظر : الفتح الرباني 238 / 18.
(2) رواه مسلم (الصحيح 194 / 15) والحاكم (المستدرك 147 / 3).
(3) رواه الترمذي (الجامع 351 / 5) وابن جرير والطبراني وابن مردويه (تحفة الأحوازي 97 / 9) وابن كثير في التفسير (485 / 3).

ابتلاءات الامم _ 252 _

  ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) ، وقال اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحور (1) ، وعن أبي الحمراء قال : رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله (ص) ، رأيت رسول الله (ص) إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي وفاطمة رضي الله عنهما ، فقال : ( الصلاة الصلاة إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (2) ، وعن أنس بن مالك قال : أن رسول الله (ص) كان يمر بباب فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر ، يقول ( الصلاة يا أهل البيت ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (3).
  وحديث الكساء وردت فيه روايات جمة تزيد على سبعين حديثا رواها : أم سلمة ، وعائشة ، وأبي سعيد الخدري ، وسعد بن أبي وقاص ، وواثلة ، وأبي الحمراء ، وابن عباس ، وثوبان ، وعبد الله بن جعفر ، وعلي ، والحسين بن علي.
  والمتدبر في حديث الكساء يجد أن أحداثه وقعت في أكثر من مكان ، وقعت في بيت أم سلمة وفي بيت عائشة وفي بيت فاطمة وأمام أكثر من واحد ، ويجد أيضا أن النبي (ص) كان ينادي عند بيت فاطمة وقت صلاة الفجر لمدة ستة أشهر وفي رواية سبعة أشهر ، وتكرار المشهد واستمرار النداء طيلة هذه المدة ، يعطي أن النبي (ص) كان يقيم بهذا الحجة على كل من سمع ورأى وصلى في مسجده ، بأن هؤلاء هم أهل البيت ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يثبت أمرا من الأمور في ذاكرة من حوله ، يكرر هذا الأمر من ثلاثة إلى عشر مرات ، ووضح

---------------------------
(1) قال ابن كثير رواه الإمام أحمد وابن جرير (التفسير 483 / 3).
(2) قال ابن كثير رواه ابن جرير (التفسير 483 / 3).
(3) قال ابن كثير رواه الإمام أحمد (التفسير 483 / 3).

ابتلاءات الامم _ 253 _

  ذلك في روايات عديدة حملت تحذيرات مما يستقبل الناس من أحداث.
  ينتج عنها ما ليس لله فيه رضا.
  وإذا كانت دعاء الرسول لمن تحت الكساء وتلاوته (ص) لآية التطهير ، يعطي للناس مفهوم إذهاب الرجس والتطهير لمن تحت الكساء عليهم السلام ، فإن الدعوة الإلهية لبني إسرائيل أعطت لبني إسرائيل نفس المفهوم ، ولكن بطريقة تستقيم مع الشريعة في هذا الوقت ، جاء في العهد القديم ( قال الرب لموسى : وتقدم هارون وبنيه إلى باب خيمة الاجتماع ، وتغسلهم بماء ، وتلبس هارون الثياب المقدسة ، وتمسحه وتقدسه ليكهن لي ، وتقدم بنيه وتلبسهم أقمصة ، وتمسحهم كما مسحت أباهم ليكهنوا لي ) (1).

ثانيا ـ ( حكام العلم ) :

  إن العلم بالله هو ذروة كل العلوم وهو أشرف العلوم ، لأن الله هو أشرف معلوم على الاطلاق ، ولأن العلم بالله من أشق العلوم وأبعدها منالا ، لطف الله بعباده وباح سبحانه بالعلم الشريف لأنبيائه ورسله ومن ارتضاه من عباده ، ليسوقوا الناس إلى صراط الله العزيز الحميد ، ويقيموا الحجة على كل سمع وكل بصر وكل فؤاد ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
  روي عن الإمام علي أنه قال ( إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به ) ثم تلى قوله تعالى : ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) (2) ، وروي عن مكحول قال لما نزل على رسول الله (ص) قوله تعالى : ( وتعيها أذن واعية ) قال رسول

---------------------------
(1) سفر الخروج 4 / 11 ـ 16.
(2) رواه اللالكائي (كنز العمال 379 / 1).

ابتلاءات الامم _ 254 _

  الله (ص) ( سألت ربي أن يجعلها أذن علي ) فكان علي يقول : ما سمعت من رسول الله (ص) شيئا قط فنسيته (1) ، وعن ابن مرة الأسلمي قال ، قال رسول الله (ص) لعلي ( إني أمرت أن أدنيك ولا أقصيك وأن أعلمك وأن تعي وحق لك أن تعي ) فنزلت هذه الآية ( وتعبها أذن واعية ) (2) وعن أبي الطفيل قال ، قال علي : ( سلوني عن كتاب الله فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار في سهل أم في جبل ) (3) ، وعن سليمان الأحمس قال ، قال علي : إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا ناطقا (4).
  وفي قوله تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ، ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن اكثر الناس لا يؤمنون ، ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ) (5).
  روي عن علي بن أبي طالب أنه قال : قال رسول الله (ص) ( أفمن كان على بينة من ربه ، أنا ، ويتلوه شاهد منه ، علي ) (6) ، وعن علي أنه قال : ما من رجل من قريش إلا نزلت فيه طائفة من القرآن ، فقال له رجل : ما نزل فيك ؟ قال : أما تقرأ سورة هود ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ) رسول الله (ص) على بينة من ربه ، وأنا شاهد

---------------------------
(1) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (تفسير ابن كثير 413 / 4) ورواه الضياء بسند صحيح وابن مردويه وأبو نعيم (كنز العمال 177 / 13.
(2) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (تفسير ابن كثير 413 / 4).
(3) رواه ابن سعد (الطبقات الكبرى 338 / 2).
(4) رواه ابن سعد (الطبقات الكبرى 338 / 2).
(5) سورة هود آية 17 ، 18.
(6) رواه ابن مردويه بإسنادين (كنز العمال 439 / 2.

ابتلاءات الامم _ 255 _

  منه (1) ، وقال صاحب الميزان : والظاهر ، أن المراد بهذا الشاهد بعض من أيقن بحقية القرآن وكان على بصيرة إلهية من أمره ، فآمن به عن بصيرة وشهد بأنه حق منزل من عند الله تعالى ، كما يشهد بالتوحيد والرسالة ، فإن شهادة الموقن البصير على أمر تدفع عن الإنسان مرية الاستيحاش وريب التفرد ، فإن الإنسان إذا أذعن بأمر وتفرد فيه ، ربما أوحش التفرد فيه إذا لم يؤيده أحد في القول به ، أما إذا قال به غيره من الناس وأيد نظره في ذلك ، زالت عنه الوحشة وقوى قلبه وارتبط جأشه.
  وقد احتج تعالى بما يماثل هذا المعنى في قوله ( قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم ) (2) ، وعلى هذا فقوله (يتلوه) من التلو لا من التلاوة.
  والضمير فيه راجع إلى ( من ) أو إلى ( بينة ) باعتبار أنه نور أو دليل.
  ومآل الوجهين واحد ، فإن الشاهد الذي يلي صاحب البينة يلي بينته كما يلي نفسه ، والضمير في قوله ( منه ) راجع إلى ( من ) دون قوله ( ربه ) وعدم رجوعه إلى البينة ظاهر ، ومحصل المعنى : من كان على بصيرة إلهية من أمر ، ولحق به من هو من نفسه ، فشهد على صحة أمره واستقامته.
  وعلى هذا الوجه ينطبق ما ورد في الروايات أن المراد بالشاهد.
  علي بن أبي طالب ، إن أريد به أنه المراد بحسب انطباق المورد لا بمعنى الإرادة الاستعمالية ، وقوله تعالى : ( ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة ) راجع ، إلى الموصول أو إلى البينة على حد ما ذكرناه في ضمير ( يتلوه ) والجملة حال بعد حال ، أي أفمن كان على بصيرة إلهية ينكشف له بها أن القرآن حق منزل من عند الله ، والحال أن معه شاهد

---------------------------
(1) رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم وأبو نعيم (كنز العمال 439 / 2).
(2) سورة الأحقاف آية 10.

ابتلاءات الامم _ 256 _

  منه يشهد بذلك عن بصيرة ، والحال أن هذا الذي هو على بينة سبقه كتاب موسى إماما ورحمة ، فليس ما عنده من البينة ببدع من الأمر غير مسبوق بمثل ونظير ، بل هناك طريق مسلوك من قبل يهدي إليه كتاب موسى ، وقد ذكر الله تعالى كتاب موسى بالإمام والرحمة في موضع آخر ، وهو قوله تعالى : ( ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ) (1).
  وإذا كان صدر الآية وهو قوله تعالى : ( ويتلوه شاهد منه ) قد ورد في تفسيره أن المراد بالشاهد علي بن أبي طالب ، فإن قوله تعالى : ( ومن قبله كتاب موسى إماما ) يرى في ظلاله منزلة هارون من موسى عليه السلام ، لأن موسى سأل ربه جل وعلا أن يؤيده بهارون ليشهد له شهادة الموقن البصير على أن الذي جاء به هو من عند الله ، وهو قوله تعالى حاكيا عن موسى قوله ( وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي رداءا يصدقني أني أخاف أن يكذبون ) (2) قال ابن كثير : سأل ربه أن يرسل معه هارون وزيرا ومعينا ومقويا لأمره ، يصدقه فيما يقول ويخبر به عن الله تعالى ، لأن خبر الاثنين أنجح في النفوس من خبر الواحد ) (3) ، ويمكن القول أن الآية الكريمة يرى في ظلالها المنزلتين.
  منزلة علي بن أبي طالب وهو من الرسول (ص) ، ومنزلة هارون وهو من موسى عليهما السلام ، ومن الآيات التي تلقى بظلالها على منزلة علي من رسول الله ، قوله تعالى : ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) (4) روي عن علي أنه قال :

---------------------------
(1) سورة الأحقاف آية 12.
(2) سورة القصص آية 34.
(3) تفسير ابن كثير 388 / 3.
(4) سورة الرعد 7.

ابتلاءات الامم _ 257 _

  رسول الله (ص) المنذر ، وأنا الهادي (1) وفي لفظ : والهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه ، وروي لما نزلت الآية ، وضع رسول الله (ص) يده على صدر علي وقال : أنا المنذر ، وأومأ بيده إلى منكب علي وقال : أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي ) (2) ، وروي عن الجنيد أنه قال : الهادي هو علي بن أبي طالب (3).
  وبالجملة : روي في حديث صحيح أن النبي (ص) قال لفاطمة رضي الله عنها ( إني زوجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما ) (4) ، وروي عن ابن عباس أنه قال ( أقضانا علي ) (5) وعن ابن مسعود أنه قال ( كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي ) (6).
  بعد وضوح منزلة علي بن أبي طالب من رسول الله (ص) على امتداد عهد البعثة ، بدأ النبي (ص) يمهد الساحة لإعلان ولاية علي بن أبي طالب ، ومن ذلك قوله لعلي ( أنت ولي في كل مؤمن بعدي ) (7) وقوله لبريدة الأسلمي عندما جاءه يشكو عليا ( فإنه مني وأنا منه ، وهو وليكم

---------------------------
(1) رواه ابن أبي حاتم (كنز العمال 441 / 2).
(2) الفتح الرباني 185 / 18.
(3) الفتح الرباني 185 / 18 ، تفسير ابن كثير 501 / 2.
(4) رواه الإمام أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 101 / 9) (الفتح الرباني 133 / 23) وابن جرير وصححه عن علي (كنز العمال 114 / 13) والخطيب عن بريدة) (كنز العمال 135 / 13) والطبراني عن معقل بن يسار (كنز العمال 605 / 11).
(5) رواه البغوي في شرح السنة ، والبخاري في التفسير وأبو نعيم (كشف الخفاء 184 / 1).
(6) رواه الحاكم وصححه (كشف الخفاء 184 / 1).
(7) رواه أحمد وقال الهيثمي رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي بلج وهو ثقة وفيه لين (الفتح الرباني 116 / 23) وقال ابن كثير رواه أبو داوود الطيالسي (البداية 346 / 7) وصححه الألباني (الصحيحة 263 / 5).

ابتلاءات الامم _ 258 _

  بعدي ، وإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي ) (1) ، وراوي هذا الحديث هو ابن بريدة قال في الفتح الرباني : أقسم ابن بريدة أنه تلقى هذا الحديث من والده بريدة مباشرة ليس بينه وبينه واسطة ، وهو يفيد أن والده تلقاه من النبي (ص) مباشرة بغير واسطة ، يشير بذلك إلى علو السند (2).
  وعندما جاء العام العاشر الهجري ، خرج النبي (ص) إلى حجة الوداع ، روي عن جابر بن عبد الله أنه قال : رأيت رسول الله (ص) في حجته يوم عرفة ، وهو على ناقته القصواء يخطب ، فسمعته يقول : أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) (3) ، وروي عن يحيى بن آدم ، وكان قد شهد حجة الوداع ، أن رسول الله (ص) قال : علي مني وأنا منه ، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي ) (4).
  وبعد أن أدى رسول الله (ص) المناسك ، وعند عودته إلى المدينة ، وقف في غدير خم ، وهو مكان يقع على الطريق بين مكة والمدينة ، على بعد ثلاثة أميال من الجحفة ، وروي عن زيد بن أرقم أنه قال : لما رجع رسول الله (ص) من حجة الوداع ، فنزل غدير خم أمر بدوحات فقممن ، ثم قام فقال : كأني قد دعيت فأجيب ، إني قد تركت فيكم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن

---------------------------
(1) رواه أحمد وقال في الفتح رواه الترمذي باختصار والبزار باختصار وفيه الأجلح الكندي وثقه ابن معين وبقية رجال أحمد رجال الصحيح (الفتح الرباني 214 / 21).
(2) الفتح الرباني 214 / 21.
(3) رواه الترمذي وقال حديث حسن (الجامع 662 / 5) والنسائي (كنز العمال 172 / 1).
(4) رواه أحمد (الفتح الرباني 121 / 23) والترمذي وقال حديث حسن (الجامع 636 / 5) وصححه الألباني (الصحيحة 632 / 5).

ابتلاءات الامم _ 259 _

  يتفرقا حتى يردا على الحوض ، ثم قال : إن الله مولاي وأنا مولى كل مؤمن ، ثم أخذ بيد علي فقال : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ) قيل لزيد بن أرقم : أأنت سمعته من رسول الله (ص) ؟ فقال : ما كان في الدوحات أحد إلا قد رآه بعينه وسمعه بأذنه (1).
  وعن عائشة بنت سعد قالت : سمعت أبي يقول : سمعت رسول الله (ص) وأخذ بيد علي فخطب ثم قال : أيها الناس إني وليكم ، قالوا : صدقت ، فرفع يد علي فقال : هذا وليي والمؤدي عني وإن الله مولى من والاه ومعادي من عاداه ) (2).
  وعندما نوزع علي بن أبي طالب أيام خلافته ، ذكر الناس بهذا الحديث ، فعن أبي الطفيل قال : جمع علي الناس في الرحبة ثم قال : أنشد بالله كل امرئ مسلم سمع رسول الله (ص) يقول يوم غدير خم ما قال لما قام ، فقام إليه ثلاثون من الناس ، قال أبو نعيم : فقام إليه ناس كثير ، فشهدوا حين أخذ النبي (ص) بيده فقال : أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، قالوا : بلى يا رسول الله (ص) ، قال : من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ) (3) ، وزاد في رواية : وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله ) (4).

---------------------------
(1) رواه ابن جرير من زيد بن أرقم وعن أبي سعيد الخدري (كنز العمال 104 / 13) والنسائي (البداية 209 / 5).
(2) قال ابن كثير : رواه ابن جرير وقال الذهبي هذا حديث حسن ، وقال وجدت ذلك في نسخة مكتوبة عن ابن جرير (البداية 213 / 5).
(3) رواه أحمد وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة وهو ثقة (الزوائد 104 / 9).
(4) رواه البزار وابن جرير وقال الهيثمي رجاله ثقات (كنز العمال 158 / 13) وصححه الألباني (الصحيحة 343 / 5).

ابتلاءات الامم _ 260 _

  وقال في الفتح الرباني ، قال السيوطي في الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة : حديث من كنت مولاه ، أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم ، والإمام أحمد عن علي وأبو أيوب الأنصاري ، والبزار عن عمرو ذي مر ، وأبي هريرة ، وطلحة ، وعمار وابن عباس ، وبريدة ، والطبراني عن ابن عمر ، ومالك بن الحويرث ، وحبشي بن جنادة ، وجرير ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي سعيد الخدري ، وأبو نعيم عن جندع الأنصاري ، وقد خصص له الهيثمي سبع صفحات (1).
  وقال الحافظ الكتاني : حديث من كنت مولاه في رواية لأحمد أنه سمعه من النبي (ص) ثلاثون صحابيا ، وشهدوا به لعلي لما نوزع أيام خلافته ، وصرح المناوي بتواتره ، وقال ابن حجر : حديث من كنت مولاه أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق ، وقد استوعبها ابن عقدة في مؤلف مفرد ، وأكثر أسانيدها صحيح أو حسن (2).
  وقال ابن كثير : حديث من كنت مولاه رواه الإمام أحمد عن زيد بن أرقم ، وقد رواه عن زيد بن أرقم جماعة ، ورواه معروف بن جرموز عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد ، ورواه ابن ماجة من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد ، ورواه عن عدي بن ثابت بن البراء.
  وعن أبي إسحاق عن البراء ، ورواه عن سعد وطلحة بن عبد الله وجابر بن عبد الله ، وله طرق عنه (3).
  وقال الألباني : حديث من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، حديث صحيح جاء من طرق جماعة من

---------------------------
(1) النتح الرباني 128 / 23).
(2) نظم المتناثر في الحديث المتواتر ص 195.
(3) البداية والنهاية 350 / 5.

ابتلاءات الامم _ 261 _

  الصحابة ، خرجت أحاديث سبعة منهم ، ولبعضهم أكثر من طريق واحد ، وقد خرجتها كلها وتكلمت على أسانيدها في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1).
  ولما كنا قد قابلنا بعض الأحداث التي جرت في عهد البعثة الخاتمة ، بمثيلاتها على عهد أنبياء بني إسرائيل ، ونحن نرصد منزلة هارون من موسى ، فإننا نجد في مقام التطهير والعلم ( وكلم الرب هارون قائلا : خمر ومسكر لا تشرب أنت وبنوك معك ، ، فرضا دهريا في أجيالكم ، وللتمييز بين المقدس والمحلل ، وبين النجس والطاهر ، ولتعليم بني إسرائيل جميع الفرائض التي كلم الرب بها بيد موسى ) (2).
  ولقد علمنا أن النبي (ص) بعد أن أدى المناسك ، أعلن ولاية علي بن أبي طالب ، وفي مقابل هذا الحدث ، نجد العهد القديم يذكر أنه في اليوم الثامن من الشهر الذي تؤدي فيه المناسك ، أمر موسى هارون أن يأخذ له عجلا ليذبحه في اليوم الذي يفيض الله برحمته على العباد ، وفعل هارون ما أمر به موسى ، ( ثم رفع هارون يده نحو الشعب وباركهم ... ودخل موسى وهارون خيمة الاجتماع ثم خرجا وباركا الشعب ) (3).
  إن الدعوة الإلهية للناس دعوة واحدة ، والتوحيد هو عماد هذه الدعوة ، والإخلاص في العبادة يجعل شجرة التوحيد داخل النفس الإنسانية شجرة مورقة ، لهذا كان الإخلاص في العبادة أفضل الأمور الدينية ومن أوجب الواجبات الشرعية ، ولكي يتحقق الإخلاص ، فلا بد من حفظ الصلة بالله عز وجل ، والمدخل إلى حفظ الصلة بالله ، هو

---------------------------
(1) كتاب السنة / ابن أبي عاصم ، تحقيق نصر الدين الألباني ص 566 / 2.
(2) اللاويين 10 / 8 ـ 11.
(3) المصدر السابق 9 / 22 ـ 24.

ابتلاءات الامم _ 262 _

  حفظ الصلة بالرسول ، لأن النور المحمدي هو البرزخ الذي بين الناس وبين النور الإلهي الذي تندك له الجبال ، وحفظ الصلة بالرسول له قواعد وله علامات وقديما قالت العرب :

إذ  لم يكن صدر المجالس سيدا      فلا خير فيمن صدرته المجالس
3 ـ ( الترغيب والترهيب )

  إن حفظ الصلة بالرسول (ص) حثت عليه الدعوة الخاتمة في أكثر من آية ، منه قوله تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) (1) ، والمعنى : إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم ، فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب والتي ترفع أعلام الإخلاص والإسلام ، وتسير بأتباعها نحو صراط الله المستقيم فإن اتبعتموني في سبيلي أحبكم الله ، ومنه قوله تعالى ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) (2).
  والآية تشير إلى سبيل رسول الله (ص) ، وفيها يأمره تعالى أن يخبر الناس أن هذه سبيله ، أي طريقته ومسلكه وسنته ، وأن هذا السبيل هو الذي يصل بمن يسلكه إلى سعادة الدارين ، لأن النبي يدعو إلى الله على بصيرة ويقين وبرهان ، وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه النبي (ص) ، ومنه قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور ) (3).
  في هذه الآية جعل الله تعالى أجر رسالة النبي المودة في القربى ، فأي قربى ؟ إن مودة الأقرباء على الاطلاق ليست مما يندب إليه في الإسلام قال

---------------------------
(1) سورة آل عمران آية 31.
(2) سورة يوسف آية 108.
(3) سورة الشورى آية 23.

ابتلاءات الامم _ 263 _

  تعالى : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ) (1) ، والذي يندب إليه الإسلام هو الحب في الله ، وبما أن لكل شئ ذروة ، فإن الحب في الله ذروته حب النبي (ص) ، ولهذا قيل أن المراد بالمودة في القربى ، هو مودة قرابة النبي (ص) ، وهم عترته من أهل بيته ، ومن يتأمل في الروايات المتواترة عن النبي (ص) ، كحديث الثقلين وغيره ، يجد أن النبي (ص) دفع الناس في اتجاه أهل البيت لفهم كتاب الله بما فيه من أصول معارف الدين وفروعها وبيان حقائقه ، وهذا لا يدع ريبا في أن إيجاب مودتهم وجعلها أجرا للرسالة ، إنما كان ذريعة إلى إرجاع الناس إلى أهل البيت ، على إعتبار أن لهم المرجعية العلمية.
  وروي عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) قالوا : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم ؟ قال : علي وفاطمة وولداها (2) ، وعن أبي الديلم قال : لما جيئ بعلي بن الحسين أسيرا فأقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم فقال له علي بن الحسين : أقرأت القرآن ؟ قال : نعم قال : أقرأت آل حم ؟ قال : نعم قال : أما قرأت ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) ؟ قال : فإنكم لأنتم هم ؟ قال : نعم (3).
  ومما يثبت أن المقصود بذي القربى : علي وفاطمة وولداها.

---------------------------
(1) سورة المجادلة آية 22.
(2) رواه الطبراني وقال الهيثمي فيه جماعة ضعفاء وقد وثقوا (الزوائد 168 / 9) وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(3) أخرجه ابن جرير ، والبغوي (تفسير البغوي 364 / 7) والمقريزي (فضائل أهل البيت ص 72).

ابتلاءات الامم _ 264 _

  تحذير النبي (ص) من الاقتراب منهم بأذى ، لأن من يؤذيهم يكون في الحقيقة قد آذى رسول الله (ص) ، ويقع تحت عقوبة لا يدفعها دافع ، قال تعالى : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ) (1) ومن المعلوم أنه لا يوجد مخلوق يمكن أن يتقدم بأذى لله تعالى ، ولكن الآية تتوعد كل من آذى النبي بشئ ، لأن من آذاه فقد آذى الله ، كما أن من أطاعه فقد أطاع الله.
  وتحذيرات النبي (ص) من الاقتراب بأي أذى لعترته ، وردت في أحاديث كثيرة ، منه ما روي عن سعد بن أبي وقاص قال : كنت جالسا في المسجد أنا ورجلين معي فنلنا من علي ، فأقبل رسول الله (ص) غضبان يعرف في وجهه الغضب ، فتعوذت بالله من غضبه ، فقال : ( ما لكم وما لي من آذى عليا فقد آذاني ) (2) ، ومنه ما روي عن عمرو بن شاس الأسلمي ،
  قال ، خرجت مع علي إلى اليمن ، فجفاني في سفري ذلك ، حتى وجدت في نفسي عليه ، فلما قدمت أظهرت شكايته في المسجد ، حتى بلغ رسول الله (ص) ، فلما رآني أبدى عينيه ( أي حدد إلي النظر ) حتى إذا جلست قال : يا عمرو والله لقد آذيتني.
  قلت أعوذ بالله أن أؤذيك يا رسول الله ، قال : بلى من آذى عليا فقد آذاني (3) ومنه ما روي عن المسور بن مخرمة قال ، قال النبي (ص) :

---------------------------
(1) سورة الأحزاب آية 57.
(2) أخرجه الإمام أحمد وقال الهيثمي رجال أحمد ثقات (الزوائد 129 / 9) (الفتح الرباني 120 / 23) ورواه الحاكم وصححه (المستدرك 122 / 3) ورواه البزار (كشف الأستار 200 / 3) ورواه ابن حبان في صحيحه (الزوائد 129 / 9) ورواه ابن أبي شيبة وابن سعد والبخاري في تاريخه والطبراني (كنز العمال 142 / 131) وابن كثير (البداية 347 / 7).
(3) رواه أبو يعلى وقال الهيثمي رجاله ثقات (الزوائد 129 / 9) وابن كثير (البداية 347 / 7).

ابتلاءات الامم _ 265 _

  ( إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ) (1).
  وبالجملة إن الدعوة الإلهية الخاتمة بينت أن الإخلاص في العبادة أفضل الأمور الدينية ومن أوجب الواجبات الشرعية ، وبينت إن حفظ الصلة بالرسول هو صراط حفظ الصلة بالله ، فمن آذى الرسول فقد آذى الله ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله ، ولأن المنافقين في كل عصر يعملون من أجل تدمير الدعوة من داخلها ، فإن الدعوة الإلهية الخاتمة فتحت بين حركة النفاق وبين حركة الإيمان ، لتصحيح الساحة بعد هذا الفتح من طرفين ، لكل طرف أعلامه ومذاقه ، لتسير القافلة وهي على بينة من أمرها ، لينظر الله إلى عباده كيف يعملون ، وهذا الفتح يرى بوضوح إذا تدبر الباحث في الأحاديث المروية عن رسول الله (ص) ، ومنها ما روي عن علي بن أبي طالب أنه قال : ( والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ، إنه لعهد النبي (ص) إلي ، أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ) (2) ، وما روي عن أبي ذر أنه قال ، قال رسول الله (ص) لعلي : ( يا علي من فارقني فارق الله ، ومن فارقك يا علي فارقني ) (3) ، وما روي عن عبيد الله بن عباس قال : نظر النبي (ص) إلى علي فقال : ( يا علي أنت سيد في الدنيا ، سيد في الآخرة ، حبيبك حبيبي ، وحبيبي حبيب الله ، وعدوك عدوي ، وعدوي عدو الله ، الويل لمن أبغضك بعدي ) (4).

---------------------------
(1) رواه مسلم (الصحيح 3 / 16) والبخاري بلفظ : فمن أغضبها أغضبني (الصحيح 2 / 302).
(2) رواه مسلم (الصحيح 64 / 2) والترمذي (الجامع 643 / 5) وأحمد (الفتح الرباني 122 / 23).
(3) رواه البزار وقال الهيثمي رجاله ثقات (كشف الأستار 3 / 201) (الزوائد 135 / 9) والحاكم وصححه (المستدرك 121 / 3).
(4) رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين وأبو الأزهر بإجماعهم ثقة وإذا تفرد الثقة بحديث فهو على أصلهم صحيح والحديث سمعه يحيى بن معين من أبي الأزهر فصدقه (المستدرك 128 / 3) ورواه ابن كثير (البداية 356 / 7).

ابتلاءات الامم _ 266 _

  وما روي عن أسرة عمار ابن ياسر ، فعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه عن جده أنه قال ، قال رسول الله (ص) ( أوصي من آمن بي وصدقني بولاية علي بن أبي طالب ، فمن تولاه فقد تولاني ، ومن تولاني فقد تولى الله ، ومن أحبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله ، ومن أبغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله عز وجل ) (1) ، وعنه أيضا قال ، قال رسول الله (ص) : اللهم من آمن بي وصدقني فليتولى علي بن أبي طالب ، فإن ولايته ولايتي وولايتي ولاية الله (2) وقيل لسلمان الفارسي : ما أشد حبك لعلي ، قال : سمعت رسول الله (ص) يقول : من أحب عليا فقد أحبني ومن أبغض عليا فقد أبغضني (3) ، وقيل لعمار بن ياسر ، ما أشد حبك لعلي ، فقال : قال رسول الله (ص) : يا عمار إن رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس واديا غيره ، فاسلك مع علي ودع الناس (4).
  وما روي عن أسرة أبي رافع ، فعن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده قال : قال النبي (ص) : يا أبا رافع سيكون بعدي قوم يقاتلون عليا ، حق على الله جهادهم ، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه ، ومن لم يستطع بلسانه ، فبقلبه ليس وراء ذلك شئ (5) ، وعن عمار بن ياسر قال ، قال رسول الله (ص) : يا علي ستقاتلك الفئة الباغية

---------------------------
(1) رواه الطبراني في الكبير وابن عساكر (كنز العمال 610 / 11).
(2) رواه الطبراني في الكبير (كنز 611 / 11).
(3) رواه الحاكم وقال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (المستدرك 130 / 3).
(4) رواه الديلمي (كنز العمال 614 / 11).
(5) رواه الطبراني (كنز العمال 613 / 11) وقال الهيثمي رواه الطبراني وفيه محمد بن عبد الله وثقه ابن حبان ، ويحيى بن الحسين لم أعرفه وبقية رجاله ثقات (الزوائد 134 / 9).

ابتلاءات الامم _ 267 _

  وأنت على الحق ، فمن لم ينصرك يومئذ فليس مني (1) ، وعمار راوي هذا الحديث ، قاتل مع الإمام عليا ، وقتل في صفين ، وكان النبي قد أخبر بقتله وهو يخبر بالغيب عن ربه جل وعلا ، روى البخاري أن النبي (ص) قال : ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار (2).
  وبالجملة : عن أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله (ص) : لا يبغضنا أهل البيت أحدا إلا أدخله الله النار (3).
  وعن أبي هريرة قال : نظر النبي (ص) إلى علي وابنيه وفاطمة وقال : أنا حرب لمن حاربكم وسلم لس سالمكم (4).
  ولأن النبي (ص) جعل الكتاب والعترة في حبل واحد ، وأخبر بالغيب عن ربه بأنهما لن ينفصلا حتى يردا علي الحوض.
  ولأنه (ص) حث الأمة في أكثر من مكان بأن تمسك بهذا الحبل لأنه واقي لها من الضلال ، وقال ( فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) فإنه أخبر بالغيب عن ربه بأن أهل بيته سيلقون بعده من الأمة قتلا وتشريدا ، وكما حذر موسى عليه السلام بني إسرائيل من الاختلاف في الوقت الذي خبر فيه بأنهم سيختلفون وهو يخبر بالغيب عن ربه ، كذلك فعل النبي الخاتم (ص) ، كان

---------------------------
(1) رواه ابن عساكر (كنز العمال 613 / 11).
(2) رواه البخاري ك الصلاة ب التعاون في بناء المساجد ، ورواه أحمد (الفتح الرباني 331 / 22).
(3) رواه الحاكم وقال حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (المستدرك 150 / 3).
(4) رواه الحاكم وقال حديث صحيح ولم يخرجاه (المستدرك 149 / 3) وأحمد (الفتح الرباني 106 / 22) والترمذي عن زيد بن أرقم (الجامع 699 / 5) وابن ماجة والحاكم عن زيد (كنز 96 / 12) والطبراني وأحمد والحاكم عن أبي هريرة (كنز 97 / 12) وابن أبي شيبة وابن حبان في صحيحه والضياء بسند صحيح عن زيد (كنز 640 / 13).

ابتلاءات الامم _ 268 _

  يحذر من الاختلاف ويقول ( لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا ) (1) ، وفي نفس الوقت يخبر بالغيب عن ربه.
  ويقول ( إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة فهلك سبعون فرقة ، وخلصت فرقة واحدة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة ، تهلك إحدى وسبعون وتخلص فرقة ، قيل : يا رسول الله من تلك الفرقة ؟ قال : الجماعة الجماعة (2).
  لقد كان الإخبار بالغيب فيما يستقبل الناس من أحداث ، لطف من الله ليعلم سبحانه من يخافه بالغيب فلا يأخذوا بالأسباب التي عليها التحذير ، ويأخذوا بالأسباب التي فيها لله ولرسوله رضا ، والنبي (ص) أمر الأمة بأن تأخذ بطرف الحبل الذي عليه الكتاب والعترة ، ثم يخبر بالغيب عن ربه فيقول ( إن أهل بيتي سيلقون بعدي من أمتي قتلا وتشريدا ) (3) ، وعن علي بن أبي طالب أنه قال : إن مما عهد إلي رسول الله (ص) أن الأمة ستغدر بك بعدي (4) ، وكل طريق له أسبابه ، والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون.
  ولأن الطريق عليه لاختلاف وافتراق وغدر ونفي وقتل وتشريد.
  ظهرت النتيجة عند الحوض في إخبار الرسول (ص) بالغيب عن ربه ، فعن سهل قال : سمعت رسول الله (ص) يقول : أنا فرطكم على الحوض ، من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ، وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ، ثم يحال بيني وبينهم (5) ، وعن عبد الله قال : قال رسول

---------------------------
(1) رواه البخاري (كنز العمال 177 / 1).
(2) رواه أحمد عن أنس وأبي هريرة (كنز 210 / 1) والترمذي وصححه (الجامع 25 / 4).
(3) رواه الحاكم ونعيم ابن حماد (كنز العمال 169 / 11).
(4) رواه البيهقي وقال ابن كثير سنده صحيح (البداية 218 / 6).
(5) رواه البخاري (الصحيح 141 / 4) ومسلم (الصحيح 53 / 15) وأحمد (الفتح الرباني 195 / 1).

ابتلاءات الامم _ 269 _

  الله (ص) : أنا فرطكم على الحوض ، ولأنازعن أقواما ، ثم لأغلبن عليهم.
  فأقول : يا رب أصحابي أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (1) وفي رواية عن أبي هريرة بزيادة : إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى (2) ، وفي رواية عن ابن عباس : فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم (3) ، وفي رواية عن أم سلمة : فناداني مناد من بعدي.
  فقال : إنهم قد بدلوا من بعدك ، فأقول : سحقا سحقا لمن بدل بعدي (4).
  لقد حذر النبي الخاتم (ص) من النتيجة التي لا تستقيم مع المقدمة ، ولم تجامل الدعوة الإلهية الخاتمة أحدا بعد أن أقامت حجتها ، يقول النبي (ص) ( ليردن على الحوض رجال ممن صحبني ورآني ... ) (5) ولم تغن عنهم الصحبة من الله شيئا ، وقال ( إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أموت أبدا ) (6) ومعنى أن تعطي النتيجة قطع صلتهم بالنبي في الآخرة ، أنهم قطعوا الصلة يوم أن سارت القافلة تحت سقف الامتحان والابتلاء لينظر الله إلى عباده كيف يعملون ، قال تعالى : ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) (7).
  وإذا كانت الدعوة الإلهية الخاتمة قد حذرت كل من يقترب من

---------------------------
(1) رواه البخاري (الصحيح 141 / 4) ومسلم (الصحيح 29 / 15).
(2) رواه البخاري (الصحيح 142 / 4).
(3) رواه البخاري (الصحيح 160 / 3) مسلم (الصحيح 194 / 17).
(4) رواه أحمد وقال في الفتح سنده جيد (الفتح الرباني 197 / 1).
(5) رواه مسلم (الصحيح 195 / 1).
(6) رواه الحاكم والإمام أحمد (كنز العمال 197 / 11) وابن عساكر (كنز 271 / 11).
(7) سورة العنكبوت آية 3.

ابتلاءات الامم _ 270 _

  سبيل رسول الله (ص) بأي أذى ، فإن الدعوة الإلهية إلى بني إسرائيل حذرت كل من يقترب من هارون وبنيه بأذى ، جاء في العهد القديم ، بأن الله كلم موسى عليه السلام ، وأمره بأن يقدم سبط لاوي أمام هارون ليخدموه ويحفظوا شعائره ، ويخدمون خيمة الاجتماع ويحرسون أمتعتها ، وقال له ( وتوكل هارون وبنيه فيحرسون كهنوتهم والأجنبي الذي يقترب يقتل ) (1).

4 ـ ( رحيل النبي الخاتم (ص) )

  لقد جاء النبي (ص) بالأدلة المقبولة ، والمعجزات التي هي بلسان التواتر منقولة ، وقد قال المسيح عليه السلام : من قبل ثمارهم تعرفونهم ، وقد علم المخالف والموالف ، أن محمدا رسول الله لم تثمر شجرته عبادة غير الله ولم يشرك مع الله غيره ، ولا جعل له ندا من خلقه ولا ولدا ، ولا قال لأمته اعبدوا إلهين اثنين ولا ثالث ثلاثة ، ولا عبد رجلا ولا عجلا ولا كوكبا ، بل دعا إلى ملة إبراهيم ، إله واحد لا إله إلا هو ، وأخلص لله وحده ، ونزهة عن النقائض والآفات ، وجاء بكتاب من عند الله أمر فيه بطاعة الله ، ونهى عن معصيته ، وزهد في الدنيا ورغب في الآخرة ، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وأمر ببر الوالدين وصلة الرحم وحفظ الجار ، وفرض الصدقات ، وأمر بالصوم والصلاة ، وحث على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات ، ثم كسر الأصنام وعطل الأوثان ، وأخمد النيران وأعلن الآذان ، فهذه هي ثمار النبي (ص) ، الذي بعثه الله والناس في ظلمة الجهل والانحراف ، فأنار الطريق وأقام الحجة ، وبين منهجه للبشرية الطريق الذي يحقق السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي ، لأنه يمد الإنسان بالوقود الذي يميز به بين

---------------------------
(1) سفر العدد 3 / 5 ـ 10.

ابتلاءات الامم _ 271 _

  الحلال وبين الحرام ، وينطلق بالإنسان نحو الأهداف التي من أجلها خلقه الله ، بالوسائل التي لله فيها رضا ، ومن خلال المنهج الإسلامي يحفظ الإنسان صلته بالله ورسوله ، لأن المنهج يقوم على أوامر الله ، فهو سبحانه مصدر جميع السلطات وإليه تنتهي جميع القرارات ، لأنه تعالى مصدر الخلق والتكوين ، وواهب الحياة ومقوماتها ، فكما أن له سبحانه الخلق والإبداع ، كذلك له الأمر والنهي.
  وبعد أن أقام النبي (ص) الحجة ، حانت الساعة التي يدعى فيها فيجيب ، وعلى فراش المرض أخذ النبي (ص) بالأسباب حتى لا تختلف الأمة من بعده ، وهو يعلم أن الاختلاف واقع لا محالة ، ونظام العالم هو نظام الأسباب والمسببات ، والإنسان مطالب بأن يكون اعتماده على الله عند أخذه بالأسباب وفي كل حال ، وعلى هذا سار الأنبياء والرسل عليهم السلام ، كانوا يخبرون بالغيب عن الله بما يستقبل الناس من فتن وأهوال ، ثم يأخذون بالأسباب فيحذرون الناس من مخاطر الطريق.
  عن ابن عباس قال : لما حضر رسول الله (ص) ، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبي (ص) : هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ، فقال عمر : إن النبي (ص) قد غلبه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل البيت فاختصموا منهم من يقول : قربوا يكتب لكم النبي (ص) كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قاله عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي (ص) ، قال النبي (ص) : قوموا ! ( فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ، ما حال بين النبي (ص) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ، من اختلافهم ولغطهم ! ) (1) ، وفي رواية :

---------------------------
(1) رواه البخاري ب قول المريض قوموا (الصحيح 7 / 4) ومسلم ب ترك الوصية (الصحيح 76 / 5) وأحمد (الفتح الرباني 191 / 22.

ابتلاءات الامم _ 272 _

  قال النبي (ص) ( قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع ) (1) ، وروي عن جابر بن عبد الله ( أن النبي (ص) دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتابا لا يضلون بعده ، فخالف عليها عمر بن الخطاب حتى رفضها ) (2) ، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس إنه قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثم جعل تسيل دموعه ، حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ ، قال : قال رسول الله (ص) ( أئتوني بالكتف والدواة ـ أو اللوح والدواة ـ أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ، فقالوا ؟ إن رسول الله (ص) يهجر (3).
  قال ابن الأثير : القائل هو عمر بن الخطاب (4) ، ومعنى هجر.
  قال في لسان العرب : يهجر هجرا ، إذا كثر الكلام فيما لا ينبغي ، وهجر يهجر هجرا ، بالفتح : إذا خلط في كلامه وإذا هذى (5) وقال في المختار الهجر : الهذيان (6) وقال في المعجم ، هجر المريض : هذى (7).
  لقد اختلفوا وأكثروا اللغط ولا ينبغي عند رسول الله التنازع ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) (8) ، وقال جل شأنه ( فليحذر الذين يخالفون من أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) (9) ، وقال ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين

---------------------------
(1) رواه البخاري ك العلم (الصحيح 31 / 1).
(2) رواه أحمد (الفتح الرباني 225 / 22) وابن سعد (الطبقات 243 / 2).
(3) رواه مسلم ب ترك الوصية (الصحيح 76 / 5).
(4) لسان العرب ص 4618.
(5) المصدر السابق 4618.
(6) مختار الصحاح ص 690.
(7) المعجم الوسيط 972 / 2.
(8) سورة الحجرات آية 2.
(9) سورة النور آية 63.

ابتلاءات الامم _ 273 _

  المرء وقلبه وإنه إليه تحشرون ، واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) (1).
  ومن يتدبر في أحداث يوم الصحيفة ويمسك بأطرافها ، تجد أن الرسول (ص) أراد أن يكتب لهم كتاب يكون سببا في الأمن من الضلال ، وهذا السبب كان كافيا لتنفيذ الأمر ، ولكن بعض الذين حضروا قالوا ( هجر ) ، فكانت هذه الكلمة كافية ليمسك الرسول عن كتابة الصحيفة ، لأنها ربما تكون مدخلا لتشكيك البعض في كل ما كتب من وصايا وعهود ويترتب على ذلك فتن عديدة ، ويشهد بذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال ( قالوا : إن نبي الله ليهجر ، فقيل له : ألا نأتيك بما طلبت ؟ قال : أو بعد ماذا ! ) (2) ، وأمر الرسول إليهم بأن يأتوه بصحيفة لتكتب لهم الكتاب ، هذا الأمر في حد ذاته كافيا لإقامة الحجة عليهم وإن لم يأتوا إليه بالصحيفة ، ومن المعلوم أن النبي (ص) قد أقام الحجة على الأمة بالبلاغ في حجة الوداع وقبلها وبعدها في غدير خم ،
  وقد احتج البعض أن قولهم ( حسبنا كتاب الله ) يستند إلى أن الكتاب جامع لكل شئ ، وقولهم هذا ينتج إشكالا ، لأن الكتاب الجامع لكل شئ أمر بطاعة الرسول ، وعلى الرغم من أن الكتاب جامع إلا أنه ليس في استطاعة كل واحد أن يستخرج منه ما يريده على وجه الصواب ، لهذا فوض الله رسوله في أن يبين للناس ما أنزل إليهم من ربهم ، ولأن الناس في حاجة إلى السنة مع كون الكتاب جامعا ، جعل النبي (ص) عترته مع الكتاب في حبل واحد ولن يفترقا حتى يردا عليه الحوض ، وبالجملة : لما كان الكتاب به آيات متشابهات ، وهذه الآيات يتتبعها الذين في قلوبهم زيغ لإثارة الفتن ولتأويل الكتاب ، حتى ينتهي

---------------------------
(1) سورة الأنفال آية 25.
(2) ابن سعد (الطبقات الكبرى 242 / 2).

ابتلاءات الامم _ 274 _

  تأويلهم إلى تعطيل الحكم بالكتاب ، ولما كان الكتاب مع كونه جامعا لكل شئ لا يحقق دوام الهداية وعدم الاختلاف ، بدليل أن الضلال وقع والتفريق وقع فعلا ، فإن الأمن من الضلال لا يكون إلا بالكتاب ، ومعه الطاهر الذي يتأوله ، ويمكن للباحث أن يستنتج ذلك ، إذا ربط بين أمر الرسول وهو على فراش المرض ، وبين البلاغ الذي أقام به الحجة قبل ذلك ، فيوم الصحيفة قال (ص) ( آتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا ) (1) وفي بلاغه ، قال (ص) ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) (2).

---------------------------
(1) ابن سعد (الطبقات الكبرى 242 / 2).
(2) رواه الترمذي وقال حديث حسن (الجامع 663 / 5).