بعد وفاة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، انطلقت المسيرة الخاتمة تحت سقف الامتحان والابتلاء بعد أن أقيمت عليها الحجة في عهد البعثة ، قال تعالى : ( ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات ما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين ، ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) (1) ومن فضل الله تعالى على بني الإنسان أنه أحاط القافلة البشرية الخاتمة بالحجة الدائمة ، بمعنى أن المعجزات التي كان الله تعالى يؤيد بها رسله قبل البعثة الخاتمة كانت تنتهي بوفاة الرسول ، ولكن الله عندما إستخلف الأمة الخاتمة أيدها بمعجزات ، منها ما انتهى بوفاة النبي (ص) ، ومنها ما إستمر بعد وفاة النبي وسار مع القافلة على امتداد المسيرة ، ومن هذا
---------------------------
(1) سورة يونس آية 14.
ابتلاءات الامم _ 278 _
القرآن الكريم وأحاديث الإخبار بالغيب ، فهذه المعجزات مهمتها إرشاد بني الإنسان إلى طريق الهداية ، الذي تتحقق عليه السعادة في الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي ، وهي شاهد صدق على نبوة النبي (ص) ، بمعنى أن إرشاد النبي وتعاليمه ، هي في
حقيقة الأمر دعوة إلى الجنس البشري على امتداد المسيرة من الحاضر إلى المستقبل ، للإيمان بنبوة النبي الخاتم (ص) ، فمن تبين حقيقة إرشاده ، ولم يؤمن به في أي زمان ، كان كمن كذبه عند بداية البعثة ونزول الوحي ، ويقتضي المقام أن نلقي بعض الضوء على هذه المعجزات.
القرآن معجزة باقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، وقد تولى الله حفظه فلا يمكن بحال أن يناله التغيير أو التبديل ، قال تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (1) ، وجميع المعارف الإلهية.
والحقائق الموجودة في القرآن تستند إلى حقيقة واحدة هي التوحيد ، ولقد وصف الله تعالى القرآن بالحكيم ، لأنه كتاب لا يوجد فيه نقطة ضعف أو لهو حديث ، ولا انحراف فيه في جميع الأحوال ، ولا يوجد في القرآن أي اختلاف ، وفي هذا دليل على أنه منزل من الله تعالى ، لأنه لا تخلو أقوال الناس في المراحل المختلفة من الاختلاف والانحراف ولهو الحديث ونقاط الضعف ، وعجز الناس على الإتيان بمثل القرآن.
دليل على إعجاز القرآن ، وعجز المشركين عن معارضة القرآن دليل على التوحيد ، وخضوع الأعناق للقرآن ، يعني أن إسناد القرآن إلى الله تعالى لا يحتاج إلى دليل سوى القرآن نفسه.
وفي عهد البعثة كان القرآن الملجأ الوحيد للنبي (ص) عندما كان
---------------------------
(1) سورة الحجر آية 9.
ابتلاءات الامم _ 279 _
يقيم حجته على الناس ، ولقد بين النبي الخاتم للناس ما أنزل إليهم من ربهم على امتداد البعثة ، وألزم القرآن الناس بأن يكون النبي (ص) لهم أسوة حسنة ، وجعل اتباع الرسول (ص) شرط في حب الله ، ولقد بين القرآن والسنة للمسيرة منذ يومها الأول ، أنه يجب أن ينتهي كل رأي ديني إلى القرآن الكريم حتى لا يتمكن الأجانب أن ينشروا الأباطيل بين المسلمين ، وبين القرآن والسنة للمسيرة أن كتاب الله لا يقبل النسخ والإبطال والتهذيب والتغيير ، وأن أي تعطيل سيفتح الطريق أمام سنن الأولين.
من لطف الله تعالى بعباده ، أنه تعالى أخبر على لسان الأنبياء والرسل بالغيب ، فأخبر بما ينتظر الإنسان في اليوم الآخر حيث أهوال القيامة ولهيب النار ونعيم الجنة ، وأخبر ببرنامج الشيطان وإلقاءاته على امتداد الدنيا ، وأخبر بمضلات الفتن مقدماتها ونتائجها ، وأخبر بالأمور العظيمة التي ما زالت في بطن النيب ، والإخبار بالغيب حجة بذاته ، وبه يمتحن الله تعالى عباده ، قال تعالى : ( ليعلم الله من يخافه بالغيب ) (1) وقال : ( وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ) (2).
وأي حدث منذ ذرأ ذرية آدم لا بد أن تكون له مقدمة يترتب عليها نتيجة ، والناس عند صنعهم لمقدمة الحدث كبيرا كان أو صغيرا.
يعلمون جانب الحلال فيه وجانب الحرام ، بما أودعه الله في الفطرة.
ولأن الله تعالى وهو العليم المطلق سبحانه ، يعلم مصير هذه المقدمة وما يترتب عليها من نتائج ما زالت في بطن الغيب ، يخبر سبحانه على
---------------------------
(1) سورة المائدة آية 94.
(2) سورة الحديد آية 25.
ابتلاءات الامم _ 280 _
لسان الأنبياء والرسل بما يستقبل الناس من نتائج ، لكي يأخذ الناس بأسباب الهدى ويتجنبوا أسباب الضلال ، فإذا ظهرت الأحداث بعد أن كانت غيبا يسقط في جانب باطلها كل إنسان لم يأخذ بأسباب الهدى.
وكل إنسان لم يتدبر في حركة الأحداث من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل ، باختصار : من أخذ بأسباب الدجال سقط في سلته ثم سقط في نار جهنم يوم القيامة ، ومن أخذ بأسباب الهدى شرب من حوض النبي (ص) يوم القيامة.
إن الله تعالى يمتحن الناس بأخذهم الأسباب ، والناس تحت مظلة الامتحان والابتلاء يتمتعون بحرية الأخذ بالأسباب ، وكل مسيرة على امتداد الزمان يتخللها ماضي وحاضر ومستقبل ، والماضي يحمل دائما في أحشائه الزاد ، ومهمة الحاضر أن ينضب في
هذا الزاد ليؤخذ منه أسباب الهدى وينطلق بها إلى المستقبل ، فمن أدركه الموت وهو على سبب الهدى ، بعثه الله على نفس السبب ، وكل إنسان مهاجر إلى ما هاجر إليه ، وأحاديث إخبار الرسول بالغيب تحت أضوائها تظهر المسيرة ، ويظهر ما في بطونها من زاد
الماضي ، وإذا وقف الحاضر أمام هذا الزاد ثم رجع القهقرى بتحليل الحوادث التاريخية ، يصل إلى المقدمة في الماضي البعيد ، فإذا أمعن النظر فيها وجد أنها تحتوي على أصول القضايا وأعراقها التي يراها في حاضره ، فكما تكون المقدمة تكون النتيجة
والدعوة الإلهية الخاتمة أمرت باتقاء الفتن وهذا لا يأتي إلا بالبحث في أصول القضايا ، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) (1) ، والنبي (ص) بين أن الحاضر إذا رضي بانحراف في الماضي ، شارك
---------------------------
(1) سورة الأنفال آية 24.
ابتلاءات الامم _ 281 _
بالمشاهدة وإن لم يحضر ، قال (ص) ( إذا عملت الخطيئة في الأرض ، كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ) (1).
والنبي (ص) بين لأمته المقدمات والنتائج حتى قيام الساعة ، حتى يكونوا على بينة من أمرهم ويأخذوا بأسباب الأهداف التي لله فيها رضا ، فعن أبي زيد قال ( صلى بنا رسول الله (ص) الفجر ، وصعد المنبر فخطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى ، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر ، ثم نزل فصلى ، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس ، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن ، فأعلمنا أحفظنا ) (2) ، وعن أنس قال ( قال رسول الله (ص) : من أحب أن يسأل عن شئ فليسأل عنه ، فوالله لا تسألوني عن شئ إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا ) (3) ، وعن حذيفة قال ( والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة ، كان رسول الله (ص) يحدث مجلسا أنا فيه عن الفتن ، فقال (ص) وهو يعد الفتن : منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئا ، ومنهن فتن كرياح الصيف منها صغار ومنها كبار ، قال حذيفة : فذهب أولئك الرهط كلهم غيري ) (4) ، وعن حذيفة أنه قال ( ما من ثلاثمائة تخرج إلا ولو شئت سميت سائقها وناعقها إلى يوم القيامة ) (5) ، وقال حذيفة ( والله ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوا ، والله ما ترك رسول الله (ص) من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا ، يبلغ معه ثلاثمائة فصاعدا ، إلا قد سماه باسمه واسم
---------------------------
(1) رواه أبو داوود رقم 4345.
(2) رواه مسلم (الصحيح 16 / 18) وأحمد (الفتح الرباني 272 / 21).
(3) رواه أحمد والبخاري ومسلم (كنز العمال 421 / 11).
(4) مسلم (الصحيح 18 / 15).
(5) رواه نعيم وسنده صحيح (كنز العمال 271 / 11).
ابتلاءات الامم _ 282 _
أبيه واسم قبيلته ) (1).
لقد أقام النبي (ص) الحجة عند المقدمة وهو يخبر بالغيب عن ربه ، وعندما انطلقت المسيرة بعد وفاة النبي (ص) تحت سقف الامتحان والابتلاء ، تخلو المسيرة من الفتن ، بدليل أن حذيفة الذي يعرف الفتن وقادتها قال بعد وفاة النبي (ص) بأقل من
ثلاثين عاما : إنما كان النفاق على عهد النبي (ص) ، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان (2) ، وقال ( إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي (ص) ، كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون ) (3) وقال ( إن كان الرجل يتكلم بالكلمة على عهد رسول الله (ص) فيصير منافقا ، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات ) (4).
والطريق من توضيح النبي للفتن وهي في بطن الغيب إلى ظهور الفتن في عالم المشاهدة ، طريق يخضع للبحث ، بهدف اتقاء الفتن المهلكة وحصار وقودها في دائرة الذين ظلموا خاصة ، وعدم البحث في هذا الطريق ، يفتح أبوابا عديدة ، منها مشاركة الذين ظلموا إذا رضى عن فعلهم ، لأن الراضي بفعل قوم كالداخل فيهم ، وفي الحديث يقول النبي (ص) ( المرء مع من أحب ) (5) ، وكما أن عدم البحث يلقي بالحاضر على الماضي ، فكذلك يلقي به على ما يستقبله من فتن مهلكة ، عن حذيفة أنه قال ( تعرض الفتن على القلوب ، فأي قلب أنكرها نكتت في قلبه نكتة بيضاء ، وأي قلب لم ينكرها نكتت في قلبه نكتة سوداء ، حتى يصير القلب أبيض مثل الصفا ، لا تضره فتنة ما
---------------------------
(1) رواه أبو داوود حديث رقم 4222.
(2) رواه البخاري (الصحيح 230 / 4).
(3) رواه البخاري (الصحيح 230 / 4).
(4) رواه أحمد وإسناده جيد (الفتح الرباني 173 / 19).
(5) رواه البخاري (الصحيح 77 / 4).
ابتلاءات الامم _ 283 _
دامت السماوات والأرض، والآخر أسودا مربدا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ، إلا ما أشرب في هواه ) (1) ، وما زالت في بطن الغيب أحداث وأحداث ، لا ينجو منها العالم إلا بعلمه ، وفي بطن الغيب أحداث إذا جاءت لا ينفع نفسا إيمانها يومئذ ، لأنها لم تبحث على امتداد الطريق ، فأنتج ذلك عدم معرفة الحق على امتداد الطريق ، ولما كان الحق عند هذه النفس يخضع لتحديد الأهواء ، تسقط النفس في سلة الدجال التي تحتوي على جميع الأهواء ، وما يستقبل الناس من آيات كبرى جاء في قوله تعالى : ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ، قل انتظروا إنا منتظرون ) (2) ، فالآية الكريمة بينت أن هناك آيات لا ينفع عند ظهورها إيمان ، ومن لم يكن مصلحا يومئذ وأعلن توبته لم تقبل منه توبته ، كما أن الله لا يقبل عملا صالحا من صاحبه إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك ، ومن هذه الآيات : الدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى بن مريم ، وخروج الدجال ، وطلوع الشمس من مغربها (3).
وبالجملة : أخبر النبي (ص) بالغيب عن ربه جل وعلا ، ليأخذ الناس بأسباب الهداية نحو ما يستقبلهم من أحداث ما زالت في بطن الغيب ، والأخذ بالأسباب من الوسائل التي يمتحن الله تعالى بها عباده ، وإخبار الرسول بالغيب هو في حقيقته دعوة للإيمان بالله ، لأنه يأمر بالاستقامة ، ويبين أن عدم الاستقامة يؤدي إلى كفران النعمة ، ويفتح الطريق أمام الفتن ، وكفران النعمة عقوبته سلب نعمة الهداية وعليها يأتي الهلاك ، وطريق الفتن يلقي بأتباعه تحت أعلام الدجال ، قال النبي (ص) ( ما صنعت
---------------------------
(1) رواه الإمام أحمد والحاكم وصححه (كنز العمال 119 / 11).
(2) سورة الأنعام آية 158.
(3) أنظر : تفسير ابن كثير 195 / 2.
ابتلاءات الامم _ 284 _
فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة أو كبيرة إلا لفتنة الدجال ) (1).
أمر الله تعالى في كتابه الكريم بعدم الاختلاف في الدين في أكثر من آية ، منه قوله تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) (2) ، وقال رسول الله (ص) ( لا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا ) (3) وقال جل شأنه : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) (4) وقال النبي (ص) ( إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ) (5).
وحذر تعالى من عاقبة الاختلاف في الدين في أكثر من آية من كتابه الكريم ، منه قوله تعالى : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ ، إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) (6) ، قال المفسرون : أي أن الذين فرقوا دينهم بالاختلافات والانشعابات المذهبية بعد أن جاءهم العلم ، ليسوا على طريقتك التي بنيت على وحدة الكلمة ونفي الفرقة ، إنما أمرهم في هذا التفريق إلى ربهم فينبئهم يوم القيامة بما كانوا يفعلون ، ويكشف لهم حقيقة أعمالهم ، والآية عامة ، تعم
---------------------------
(1) رواه أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح (الزوائد 335 / 7).
(2) سورة آل عمران آية 105.
(3) رواه البخاري (كنز العمال 177 / 1).
(4) سورة آل عمران آية 103.
(5) رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن ، والطبراني ، وقال المناوي رجاله موثقون (الفتح الرباني 186 / 1).
(6) سورة الأنعام آية 159.
ابتلاءات الامم _ 285 _
اليهود والنصارى والمختلفين بالمذاهب والبدع من هذه الأمة.
وفي الوقت الذي أمرت فيه الدعوة الإلهية الخاتمة بعدم الاختلاف ، أخبر النبي (ص) بالغيب عن ربه العليم المطلق سبحانه ، بأن الأمة ستختلف من بعده وسيتبع بعضها سنن اليهود والنصارى ، قال (ص) ( إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة ، فهلك إحدى وسبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة تهلك إحدى وسبعون وتخلص فرقة ، قيل : يا رسول الله من تلك الفرقة ؟ قال : الجماعة الجماعة ) (1) ، أما اتباع سنن الأولين ففي قوله تعالى : ( وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ، كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا ، أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ) (2) ، روى ابن جرير أن رسول الله (ص) قال في هذه الآية ( حذركم الله أن تحدثوا في الإسلام حدثا وقد علم أنه سيفعل ذلك أقوام من هذه الأمة ، فقال تعالى : ( فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم ... الآية ) ، وإنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم ، وإن الفتنة عائدة كما بدأت ) (3) ، وروى ابن كثير عن ابن عباس قال : ما أشبه الليلة بالبارحة ، ( كالذين من قبلكم ) هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم ، والذي نفسي بيده ليتبعنهم حتى لو دخل الرجل جحر ضب لدخلتموه ) (4) ، وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله (ص) ( لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا
---------------------------
(1) رواه أحمد (الفتح الرباني 6 / 24) والترمذي وصححه (الجامع 25 / 4).
(2) سورة التوبة آية 69.
(3) تفسير ابن جرير 122 / 10.
(4) تفسير ابن كثير 368 / 2.
ابتلاءات الامم _ 286 _
بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم ) قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ (1) وقال المفسرون : إن المنافقين والمنافقات بعضهم من بعض ، وإنهم جميعا والكفار ذو طبيعة واحدة في الإعراض عن ذكر الله والإقبال على الاستمتاع ، بما أوتوا من أعراض الدنيا من أموال وأولاد ، والخوض في آيات الله ، ثم في حبط أعمالهم في الدنيا والآخرة والخسران ، ومعنى الآيات : أنتم كالذين من قبلكم كانت لهم قوة وأموال وأولاد ، بل أشد وأكثر في ذلك منكم ، فاستمتعوا بنصيبهم ، وقد تفرع على هذه المماثلة أنكم استمتعتم كما استمتعوا وخضتم كما خاضوا ، أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ، وأنتم أيضا أمثالهم في الحبط والخسران.
لقد حذرت الدعوة الإلهية عند المقدمة من الاختلاف في الدين ، وذكرت أن الاختلاف بعد العلم لا يمكن أن يضع أصحابه على طريقة رسول الله (ص) ، لأنها طريقة بنيت على وحدة الكلمة ونفي الفرقة ، وحذرت الدعوة الخاتمة من سلوك سبيل الذين أوتوا الكتاب.
وبينت برامجهم وأهدافهم ، وأخبرت بأنهم يصدون عن سبيل الله ، ويعملون من أجل أن تضل الأمة وتتبع طريقتهم في الحياة ، ثم أخبر رسول الله (ص) بالغيب عن ربه بما يستقبل الناس ، ومنه : أن الأمة ستفترق وسيتبع بعضها طريقة اليهود والنصارى ، والتحذير عند المقدمة فيه أن الصراع قائم بين الحق وبين الباطل ، وظهور الذين اتبعوا اليهود والنصارى عند نهاية الطريق ، لا يعني سقوط المسيرة ، وإنما يعني سقوط الغثاء والزبد الذي لا قيمة له ، وأعلام هؤلاء يحملها المنافقين والمنافقات كما ظهر في صدر الآية الكريمة.
حذرت الدعوة الخاتمة من الميل إلى الذين ظلموا ، لأن على أعتابهم يأتي ضعف العقيدة وفقدان القدوة ، وبينت أن قيام الذين ظلموا بتوجيه الحياة العقلية والدينية للأمة ، ينتج عنه شيوع المشكلات الزائفة التي تشغل الرأي العام ، وتجعله داخل دائرة الصفر حيث الجمود والتخلف ، وعلى أرضية الجمود تفتح الأبواب لسنن الأولين ، ومعها يختل منهج البحث ومنهج التفكير ومنهج الاستدلال ، وبهذا يتم التعتيم على نور الفطرة وتغيب الحقيقة تحت أعلام الترقيع والتلجيم التي تلبست بالدين ، قال تعالى : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ) (1) قال المفسرون : نهى الله تعالى النبي (ص) وأمته عن الركون إلى من اتسم بسمة الظلم ، بأن يميلوا إليهم ويعتمدون على ظلمهم في أمر دينهم أو حياتهم الدينية ، لأن الاقتراب في أمر الدين أو الحياة الدينية من الذين ظلموا ، يخرج الدين أو الحياة الدينية عن الاستقلال في التأثير ، ويغيرهما عن الوجهة الخالصة ، ولازم ذلك السلوك إلى الحق من طريق الباطل ، أو إحياء حق بإحياء باطل ، أو إماتة الحق لإحيائه.
والنبي (ص) أخبر بالغيب عن ربه ، أن الأمة ستركن إلى هؤلاء ، وأمر بأن تأخذ الأمة بالأسباب لأن الله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون ، فعن ثوبان قال ، قال رسول الله (ص) ( إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين ) (2) ، وعن أبي هريرة قال ، قال رسول الله (ص) ( يهلك أمتي هذا الحي من قريش ) قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال ( لو أن
---------------------------
(1) سورة هود آية 113.
(2) رواه أحمد ومسلم والترمذي (الفتح الرباني 31 / 27).
ابتلاءات الامم _ 288 _
الناس اعتزلوهم ) (1) وعن خباب بن الإرث قال : إنا لقعود على باب رسول الله (ص) ( ننتظره أن يخرج لصلاة الظهر ، إذ خرج علينا فقال : إسمعوا ، فقلنا : سمعنا ، ثم قال : إسمعوا ، فقلنا : سمعنا ، فقال : إنه سيكون عليكم أمراء فلا تعينوهم على ظلمهم ، فمن صدقهم بكذبهم فلن يرد علي الحوض (2) ، وعن حذيفة قال ، قال رسول الله (ص) : سيكون عليكم أمراء يظلمون ويكذبون ، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم ، فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعينهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض (3) ، ومن هذه الأحاديث يستنتج أن الأمراء ضد خط أهل البيت ، بدليل أنهم لن يردوا على الحوض ، وفي الحديث أن أهل البيت مع القرآن ولن ينفصلا حتى يردا على الحوض ، ويستنتج أيضا أن أهل البيت لن يكونوا في صدر القافلة وأن هناك أحداث ستؤدي إلى إبعادهم عن مركز الصدارة ، بدليل وجود الأئمة المضلين وأمراء الظلم ، فلو كان أهل البيت في الصدارة ، ما اتخذوا هؤلاء بطانة لهم ، لأن أهل البيت مع القرآن والقرآن نهى عن ذلك.
وبالجملة : أخبر النبي (ص) بوجود تيار في بطن الغيب سيعمل ضد سياسة أهل البيت ، وإن هذا التيار لن يرد على الحوض ، لقوله (ص) ( لا يبغضنا أحد ولا يحسدنا أحد إلا ذيد يوم القيامة عن الحوض ) (4) ، وقوله لعلي بن أبي طالب ( يا علي ، معك يوم القيامة عصا من عصي الجنة
---------------------------
(1) رواه البخاري (الصحيح 280 / 2) ومسلم (الصحيح 41 / 18) وأحمد (الفتح الرباني 39 /
23).
(2) رواه أحمد (الفتح الرباني 30 / 23) وابن حبان في صحيحه وابن أبي عاصم وقال الألباني رجاله ثقات (كتاب السنة 352 / 2).
(3) رواه أحمد والبزار وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح (الزوائد 248 / 5) وابن أبي عاصم وقال الألباني رجاله ثقات (كتاب السنة 353 / 2).
(4) رواه الطبراني (كنز العمال 104 / 12).
ابتلاءات الامم _ 289 _
تذود بها المنافقين عن حوضي ) (1) وأمر النبي (ص) بمواجهة هذا التيار باعتزالهم وعدم إعانتهم وعدم تصديقهم ، وروي عن ابن مسعود ، قال ، قال (ص) ( إن رحى الإسلام دائرة ، وإن الكتاب والسلطان سيفترقان ، فدوروا مع الكتاب حيث دار ، وستكون عليكم أئمة إن أطعتموهم أضلوكم وإن عصيتموهم قتلوكم ، قالوا : فكيف نصنع يا رسول الله ؟ قال : كونوا كأصحاب عيسى ، نصبوا على الخشب ونشروا بالمناشير ، موت في طاعة ، خير من حياة في معصية ) (2) وروي عن معاذ قال : قلت يا رسول الله أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك ، ولا يأخذون بأمرك ، فما
تأمرني في أمرهم ؟ فقال : لا طاعة لمن لم يطع الله عز وجل ) (3).
وروي عن ابن مسعود قال ، قال رسول الله (ص) ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل ، كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد ، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ثم تلى قوله تعالى : ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ) إلى قوله : ( فاسقون ) ثم قال رسول الله (ص) ( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ( أي لتردنه إلى الحق ) ، ولتقصرنه على الحق قصرا ، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم ) (4) ، وقال (ص) ( مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها ،
---------------------------
(1) رواه الطبراني وقال الهيثمي رجاله ثقات (135 / 9).
(2) رواه الطبراني عن ابن مسعود (كنز العمال 216 / 1) ورواه عن معاذ (كنز العمال 211 / 1).
(3) رواه عبد الله بن أحمد وإسناده جيد (الفتح الرباني 44 / 23).
(4) رواه أبو داوود حديث 4337 ، وقال الهيثمي رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (الزوائد 269 / 7).
ابتلاءات الامم _ 290 _
كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر ، فأصاب بعضهم أعلاها ، وأصاب بعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء فيصبون على الذين في أعلاها ، فقال الذين في أعلاها لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا ، فقال الذين في أسفلها فإننا ننقبها من أسفلها فنستقي ، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعا ، وإن تركوهم غرقوا جميعا ) (1) كانت هذه بعض تعاليم النبوة لمواجهة الظلم والجور في وقت ما على امتداد المسيرة ، أما بعد استفحال الظلم والجور ، نتيجة للثقافات التي سهر عليها المنافقون وأهل الكثاب لإيجاد غثاء مهمته النباح تأييدا للجلادين ، والتصفيق للزبانية ومصاصي الدماء ، يقول النبي (ص) ( ما ترون إذا أخرتم إلى زمان ، حثالة من الناس ، قد مرجت عهودهم ونذورهم فاشتبكوا ، وكانوا هكذا ، ( وشبك بين أصابعه ) قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنكرون ، ويقبل أحدكم على خاصة نفسه ، ويذر أمر العامة ) (2) ، وفي رواية : إتق الله عز وجل ، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر ، وعليك بخاصتك ، وإياك وعوامهم (3).
وبالجملة : بين النبي (ص) أن صنفا من الناس سيحرص على الإمارة من بعده ، قال (ص) ( إنكم ستحرصون على الإمارة ، وستصير حسرة وندامة يوم القيامة ، نعمت المرضعة وبئست الفاطمة ) (4) نعم المرضعة :
لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاد الكلمة وتحصيل اللذات الحسية ، وبئست الفاطمة : أي بعد الموت لأن صاحبها يصير إلى المحاسبة ، قال (ص) ( ليتمن أقوام ولوا هذا الأمر ، أنهم خروا من الثريا وأنهم لم يولوا شيئا ) (1) ، وليس معنى هذا أن الإسلام لا يعترف بالقيادة والإمارة ، فالإسلام يقوم على النظام وفيه لكل شئ ذروة ، والحديث يحذر غير أصحاب الحق من أن ينازعوا الأمر أهله ، لأنه في المنازعة ضياع للأمانة ، قال رسول الله (ص) ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ) قالوا : كيف أضاعتها يا رسول الله ؟ قال : إذا أسند الأمر إلى غير أهله ، فانتظروا الساعة ) (2) ، ويفسر هذا ما روي عن داوود بن أبي صالح ، قال ؟ أقبل مروان بن الحكم يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على قبر النبي (ص) ، فقال : أتدري ما تصنع ؟ وأقبل عليه وإذا هو أبو أيوب الأنصاري ، فقال : نعم جئت رسول الله (ص) ولم آت الحجر ، سمعت رسول الله (ص) يقول : لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله (3).
وبين النبي (ص) للأمة أسباب الهدى على امتداد المسيرة ، تحت مظلة الامتحان والابتلاء ، بين الأسباب في عصر به الصحابة ، وبينها في عصر به التابعين ، وبينها في عصور جاءت بعد ذلك ، والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون.
يرفع الذين آمنوا على غيرهم في العلم ، ويرفع الذين أوتوا العلم منهم درجات ، بمعنى أن العلم له مكان في دائرة الذين آمنوا ، وهذه الدائرة مراتب ولها ذروة ، قال تعالى : ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) (1) ، وذروة الذين أوتوا العلم ، مع الذين ارتبطوا بكتاب الله ولا ينفصلوا حتى يردوا على الحوض ، ومن دائرة الذروة تخرج المعارف الحقة والعلوم المفيدة ، لأن الذين في الذروة هم العامل الذي يحفظ الأخلاق ويحرسها في ثباتها ودوامها ، ولأن من عندهم تتدفق العلوم التي تصلح أخلاق الناس ، ليكونوا أهلا لتلقي المزيد من المعارف الحقة ، التي لا تكون في متناول البشر إلا عندما تصلح أخلاقه.
وكما أن النبي (ص) أمر أمته بأن يمسكوا بحبل الله ليردوا على الحوض ، أخبر كذلك بالغيب عن ربه بأن العلم سيرفع ، ورفعه هو نتيجة لذهاب أوعيته ، عن أبي الدرداء قال : كنا مع النبي (ص) ، فشخص ببصره إلى السماء ثم قال : هذا أو أن يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شئ ، فقال زياد بن لبيد : كيف يختلس منا ، وقد قرأنا القرآن ، فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا ، قال : ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة ، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى ، فماذا تغني عنهم (2) ، وفي رواية عن شداد بن أوس قال ( وهل تدري ما رفع العلم ؟ ذهاب أوعيته ) (3) وفي رواية عن أبي إمامة قال ( وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف ، لم يصبحوا
---------------------------
(1) سورة المجادلة آية 11.
(2) رواه الترمذي وقال حديث صحيح (تحفة الأحوازي 412 / 7).
(3) رواه أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه (النتح الرباني 183 / 1).
ابتلاءات الامم _ 293 _
يتعلقوا بحرف واحد مما جاءتهم به أنبياؤهم ، وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته ، وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته ، وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته ) (1) ، وقال في تحفة الأحوازي : ومعنى هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى ، أي أن القراءة دون علم وتدبر محل نظر ، وقال القارئ : أي فكما لم تفدهم قراءتهما مع عدم العمل بما فيهما فكذلك أنتم (2).
وعلى امتداد المسيرة ظهر ما كان في بطن الغيب ، ظهر الذين يقرؤون القرآن لا يعدوا تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، وظهر الذين قرؤا ثم نقروا ثم اختلفوا ثم ضرب بعضهم رقاب بعض ، وظهر الذين قرؤا ثم اعتزلوا ثم خرجوا
على جيرانهم بالسيوف ورموهم بالشرك ، بينما كانوا هم إلى الشرك أقرب ، وظهر الذين لا يقرؤن القرآن إلا في حفلات النفاق التي يشرف عليها اليهود والنصارى في كل مكان ، وعلى أكتاف هؤلاء وهؤلاء ، انطلق البعض في طريق التقدم إلى الخلف ، وارتبط مصيرهم بمصير الذين سبقوهم ، قال النبي (ص) ( إن بني إسرائيل إنما هلكت حين كثرت قراؤهم ) (3)وأخبر النبي (ص) بأن الذين يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم ، نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء ، كلما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم لصوصا سلابين ، وقال ( لا يزالوا يخرجون ، حتى يخرج آخرهم مع الدجال ) (4) ، وفي رواية ( كلما قطع قرن نشأ قرن ، حتى يكون مع بيضتهم الدجال ) (5).
---------------------------
(1) رواه أحمد والطبراني بسند صحيح (الزوائد 200 / 1).
(2) تحفة الأحوازي 413 / 7.
(3) رواه الطبراني (كنز العمال 268 / 10) (الزوائد 189 / 1).
(4) رواه أحمد ورجاله ثقات (الزوائد 299 / 6).
(5) رواه الطبراني ، وإسناده ، حسن (الزوائد 230 / 6).
ابتلاءات الامم _ 294 _
وبالجملة : أقام النبي (ص) الحجة في أول الطريق وانطلقت الحجة مع المسيرة حتى نهاية الطريق ، وأمر النبي (ص) أمته أن تأخذ بحبل الله حتى لا يضلوا ، وقال : ما من نبي بعثه الله عز وجل في أمة قبلي إلا له من أمته حواريون وأصحاب ، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف ، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) (1) ، وقال في الفتح الرباني : الحواريون هم خلصان الأنبياء وأصفيائهم ، والخلصان هم الذين نقوا من كل عيب ، وقيل : الخلصان هم الذين يصلحون للخلافة بعد الأنبياء (2).
لقد دافع الإسلام عن العلم ، ولم يقاتل يوما من أجل الكرسي ، وأمر الإسلام بالجهاد للإبقاء على الذروة التي تفيض بالعلم الإلهي ذروة كل العلوم وأشرف العلوم ، لأن هؤلاء وحدهم هم الذين يحملون النور المحمدي ، ذلك النور الذي يعتبر برزخا بين الناس وبين النور الإلهي ، الذي تندك له الجبال.
إن الله تعالى يمتحن الناس بالناس ، قال تعالى : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ) (3) فدائرة الهدى على امتداد المسيرة البشرية ، فتنة لسائر الناس يمتحنون بهم ، فيميز بهم أهل الريب من أهل الإيمان ، والمتبعون للأهواء من طلاب الحق الصابرين في طاعة
---------------------------
(1) رواه مسلم وأحمد (الفتح الرباني 190 / 1) وابن عساكر (كنز العمال 73 / 6).
(2) الفتح الرباني 190 / 1.
(3) سورة الفرقان آية 20.
ابتلاءات الامم _ 295 _
الله وسلوك سبيله ، وكما أن النبي (ص) أمر أمته بأن يتمسكوا بحبل العترة حتى لا يضلوا ، وقال ( أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ) (1) وقال ( إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) (2) ، فإنه أخبر أمته بأنهم سيمتحنون بأهل بيته ، قال ( إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي ) (3) ، وأخبر بالغيب عن ربه بما سيسفر عنه الامتحان ، فقال ( إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلا وتشريدا ) (4).
وأخبر النبي (ص) علي بن أبي طالب ، بما سيجري له من بعده ، وقال له ( إن الأمة ستغدر بك بعدي ، وأنت تعيش على ملتي ، وتقتل على سنتي ، من أحبك أحبني ، ومن أبغضك أبغضني ، وإن هذه ( يعني لحيته ) ستخضب من هذا ( يعني رأسه ) (5) ، وروي أن النبي (ص) قال له : ألا أحدثك بأشقى الناس ، رجلين ، أحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك يا علي على هذه ( يعني رأسه ) حتى تبتل منه هذه ( يعني لحيته ) (6).
وأخبر النبي (ص) الحسين بن علي بما سيجري له من بعده ، وروى ابن كثير عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها قالت : أشهد لقد سمعت عائشة تقول : أنها سمعت رسول الله نهض يقول : يقتل الحسين بأرض
---------------------------
(1) رواه مسلم (الصحيح 123 / 7).
(2) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 662 / 5) والنسائي (كنز العمال 172 / 1).
(3) رواه الطبراني (كنز العمال 124 / 11).
(4) رواه الحاكم ونعيم بن حماد (كنز العمال 169 / 11).
(5) رواه أحمد والحاكم وصححه (المستدرك 142 / 3) والدارقطني والخطيب (كنز العمال 617 / 11) والبيهقي (البداية 218 / 6).
(6) قال الهيثمي رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات (الزوائد 136 / 9) و الحاكم والبيهقي بسند صحيح (المستدرك 141 / 3 ، البداية والنهاية 218 / 6 ، كنز العمال 136 / 13).
ابتلاءات الامم _ 296 _
بابل (1) وروى الحاكم عن ابن عباس قال : ما كنا نشك وأهل البيت متوافرون أن الحسين يقتل بالطف (2) وروي أن النبي (ص) قال : إن ابني هذا يقتل بأرض من أرض العراق يقال لها كربلاء ، فمن شهد ذلك فلينصره (3) ، وقال النبي (ص) : أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف ، وجاءني بهذه التربة وأخبرني أن فيها مضجعه (4).
والخلاصة : إن الله يختبر الناس بالناس ، وعلى هذا الاختبار يظهر أهل الريب من أهل الإيمان ، قال تعالى : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ) (5) ، وقال سبحانه ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ، أليس الله أعلم بالشاكرين ) (6) ، وقال تعالى : ( وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ) (7) ، والدعوة الخاتمة بينت الدرجات ، وأمر تعالى بمودة قربى النبي (ص) ، قال تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) (8) وبينت الدعوة أن الذين لا يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، والذين لم يأخذوا بما أمرهم تعالى به من طاعة وبما نهاهم به من نهي ، فهؤلاء خاسرون في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : ( الذين
---------------------------
(1) البداية والنهاية 177 / 8.
(2) رواه الحاكم وقال السيوطي سنده صحيح (الخصائص / السيوطي 213 / 2).
(3) رواه البغوي وابن السكن والبارودي وابن منده وابن عساكر وأبو نعيم (البداية والنهاية 199 / 8) (كنز العمال 126 / 12) (الخصائص الكبرى 213 / 2) (أسد الغابة 349 / 1) (الإصابة 68 / 1).
(4) أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار (الزوائد 188 / 9) والماوردي في أعلام النبوة بسند صحيح ص 83.
(5) سورة الفرقان آية 20.
(6) سورة الأنعام آية 53.
(7) سورة الأنعام آية 165.
(8) سورة الشورى آية 23.
ابتلاءات الامم _ 297 _
ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون ) (1) ، وقال جل شأنه ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ) (2).
وبينت الدعوة الإلهية الخاتمة ، أن عدم مودة الذين أمر الله بمودتهم ، يفتح الطريق أمام مودة أعداء الفطرة وقد أمروا بعدم مودتهم ، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ) (3).
فالآية تنهي عن مودة المشركين والكفار وتنهي أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء ، وتفتح الطريق أمام عبادة الأهواء والأوثان ، قال تعالى حاكيا عن إبراهيم قوله لقومه ( قال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ) (4) قال المفسرون : وبخهم على سوء صنيعهم في عبادة الأوثان ، وقال : إنما اتخذتم هذه ليجتمعوا على عبادتها في الدنيا صداقة وألفة منكم بعضكم لبعض في الحياة الدنيا ، ثم يوم القيامة ينعكس هذا الحال ، فتبقى هذه الصداقة والمودة بغضا وشنآنا ، وتتجاحدون ما كان بينكم ، ويلعن الأتباع المتبوعين ، والمتبوعين الأتباع.
فالطريق يبدأ بأمر الله ونهيه ، وعلى امتداد الطريق يمتحن الله الناس ببعض الناس ، فمن سلك فيما أمر الله به نجا ، ومن لم يؤخذ بوصايا الله ضل ، والله تعالى أمر بصلة الأرحام ، وذروة الأرحام عترة
---------------------------
(1) سورة البقرة آية 27.
(2) سورة محمد آية 23.
(3) سورة الممتحنة آية 1.
(4) سورة العنكبوت آية 25.
ابتلاءات الامم _ 298 _
النبي الخاتم (ص) ، قال (ص) ( إن الله تعالى جعل ذرية كل نبي في صلبه ،
وأن الله تعالى جعل ذريتي في صلب علي بن أي طالب ) (1) ، وقال ( أن لكل بني أب عصبة ينتمون إليها إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم ) (2) ، وقال ( نحن خير من أبنائنا ، وبنونا خير من أبنائهم ، وأبناء بنينا خير من أبناء أبنائهم ) (3) ، وهكذا فكما أن للعلم درجات ، فللأرحام درجات ، وميزان هذه الدرجات هو التقوى والعلم بالله ، فمن التف حول الذين أمر الله بمودتهم شرب من الماء ، ومن أبى فتحت عليه مودة أخرى يتهوكون فيها تهوك اليهود في الظلم ، ويوم القيامة يعض على يديه ، قال تعالى : ( يوم يعض الظالم على يديه ويقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ، يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ، وكان الشيطان للإنسان خذولا ، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) (4).
وعلى امتداد المسيرة الإسلامية ، قامت طائفة الحق بالدفاع عن الفطرة ، ولم يضرها من عاداها أو من خذلها ، وفي عهد الإمام علي ، خرج عليه أصحاب الأهواء ، فقاتلهم الإمام على تأويل القرآن ، وعنه أنه قال ( أمرني رسول الله (ص) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ) (5) ، فالناكثين : أهل الجمل ، والقاسطين : أهل الشام ، والمارقين : الخوارج ، وانطلقت مسيرة الإمام (ع) بأعلام الحمية ، وروي أن النبي (ص) قال له ( أنت أخي وأبو ولدي ، تقاتل في سنتي وتبرئ ذمتي ، من مات
---------------------------
(1) رواه الطبراني عن جابر ، والخطيب عن ابن عباس (كنز 600 / 11).
(2) رواه الحاكم وابن عساكر (كنز 98 / 12).
(3) رواه الطبراني (كنز 104 / 12).
(4) سورة الفرقان آية 27.
(5) رواه ابن عدي والطبراني وقال ابن كثير روي عن طرق عديدة (البداية والنهاية 334 / 7) (كنز العمال 292 / 11).
ابتلاءات الامم _ 299 _
في عهدي فهو كنز الله ، ومن مات في عهدك فقد قضى نحبه ، ومن مات يحبك بعد موتك ختم الله له بالأمن والإيمان ما طلعت شمس أو غربت ، ومن مات يبغضك مات ميتة جاهلية ، وحوسب بما عمل في الإسلام ) (1) ، وقال (ص) ( من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية ، ومن فاتل تحت راية عمية ، يغضب لعصبته ويقاتل لعصبته وينصر عصبته ، فقتل فقتلته جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى لمؤمنها ولا يفي الذي عهدها ، فليس مني ولست منه ) (2).
وتحت هذا الضوء انطلقت الأمة الخاتمة تحت سقف الامتحان والابتلاء ، والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون ، لاستحقاق الثواب والعقاب يوم القيامة.
---------------------------
(1) رواه أبو يعلى وقال البوصيري رجاله ثقات (كنز العمال 159 / 13).
(2) رواه مسلم (كنز العمال 509 / 3) وأحمد (الفتح الرباني 52 / 23).
كان الساحة بعد وفاة النبي (ص) بها جميع الأنماط البشرية ، بها المؤمن القوي والمؤمن الضعيف ، وبها الذين في قلوبهم مرض أو زيغ ، وهؤلاء لا يخلو منهم مجتمع على امتداد المسيرة البشرية ، وكان الذين في قلوبهم مرض يختزنون في ذاكرتهم ببعض ما أخبر به النبي (ص) فيما يستقبل الناس ، ومنه تفسيره لقوله تعالى : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) (1) وقوله : ( فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون ) (2) وقوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) (3) ، وقول النبي القرشي ( يا معشر قريش ، ليبعثن الله عليكم رجلا منكم امتحن الله قلبه للإيمان ، فيضرب رقابكم على الدين ) فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا ، قال عمر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنه خاصف النعل ، وقد كان ألقى نعله إلى علي بن أبي طالب يخصفها ) (4).
---------------------------
(1) سورة الحج آية 78.
(2) سورة الزخرف آية 41.
(3) سورة إبراهيم آية 28.
(4) رواه الحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 138 / 2) وابن جرير والضياء بسند صحيح (كنز 173 / 13) والترمذي وصححه (الجامع 634 / 5).
ابتلاءات الامم _ 301 _
وكان بالساحة أفرادا وقبائل ذمهم أو لعنهم الله تعالى على لسان رسوله (ص) وهو يخبر بالغيب عن ربه لما يعلم الله ما في قلوبهم ، ومنه أمره (ص) بجهاد مخزوم وعبد شمس (1) وقوله ( إن أشد قومنا لنا بغضا بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم ) (2) وفي رواية : بنو أمية وثقيف وبنو حنيفة (3) ولعنه للحكم بن أبي العاص (4) ولعنه أبو الأعور السلمي (5) ولعنه لأحياء : لحيان ورعلا وذكوان وعصية (6) وكان بالساحة مجموعة تخريبية من اثني عشر رجلا ، حاولوا قتل النبي (ص) عند عودته من تبوك ، آخر غزواته ، وأسر النبي (ص) بأسمائهم إلى حذيفة ، وكان حذيفة وعمار بن ياسر معه (ص) عند محاولة هذه المجموعة اغتياله ، وروي أن حذيفة قال : يا رسول الله ألا تبعث إلى كل رجل منهم فتقتله ، فقال : أكره أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ) ، وقال النبي (ص) لحذيفة ( فإن هؤلاء فلانا وفلانا ( حتى عدهم ) منافقون لا تخبرن أحد ) (7) ، وعدم إفشاء النبي (ص) بأسمائهم يستنتج منه ، أن هذه المجموعة لم تكن من رعاع القوم وإنما من أشد الناس فتكا ، وقتلهم يؤدي إلى طرح ثقافة يتناقلها
---------------------------
(1) رواه أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه (كنز 480 / 2).
(2) رواه نعيم بن حماد والحاكم (كنز 169 / 11).
(3) رواه نعيم بن حماد وقال ابن كثير رواه البيهقي ورجاله ثقات (كنز العمال 274 / 11) (البداية 268 / 6).
(4) أنظر: مجمع الزوائد 112 / 1 ، المستدرك 481 / 4 ، البداية والنهاية 50 / 10 ، الإصابة 29 / 2.
(5) كنز العمال 82 / 8.
(6) مسلم (الصحيح 135 / 2).
(7) محاولة الاغتيال رواها الإمام أحمد والطبراني وابن سعد وغيرهم (أنظر الزوائد 110 / 11).
ابتلاءات الامم _ 302 _
الناس بأن محمدا في آخر أيامه بدأ يقتل أصحابه ، ويستنتج منه أيضا أن الله تعالى شاء أن تنطلق المسيرة تحت مظلة الامتحان والابتلاء ، بعد أن تبينت طريق الحق وطريق الباطل ، وإخفاء أسماء المجموعة التخريبية هو في حقيقته دعوة للالتفاف حول الذين بينهم وأظهرهم رسول الله للناس ، وروى الإمام مسلم عن حذيفة أنه قال ( أشهد الله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) (1) ، وروى عن عمار بن ياسر أنه قال ( قال رسول الله (ص) : إن في أمتي اثني عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط ) (2) ، وكان عمار بن ياسر علامة مميزة في المسيرة لأنه كان يحمل قول النبي (ص) فيه ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ) (3).
فالساحة بعد وفاة النبي (ص) كان بها جميع التيارات ، وكان بها مجموعة حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ، ويبدو من قراءة الأحداث أن الساحة كان بها مجموعة من أصحابه أخذت في اعتبارها أن ولاية علي بن أبي طالب قد تؤدي إلى أحداث اعتقدوا
أنها يمكن أن تعصف بالدعوة ، فاختاروا حلا وسطا ويبتعد به علي بن أبي طالب عن مركز الصدارة ، وتظل به الدعوة قائمة ، ويشهد بذلك قول أبي بكر لرافع بن أبي رافع حين عاتبه على توليه الخلافة ( إن رسول الله (ص) قبض والناس حديثو عهد بكفر فخفت أن يرتدوا وأن يختلفوا فدخلت فيها وأنا كاره ) (4) وفي رواية قال ( تخوفت أن تكون
فتنة يكون بعدها
---------------------------
(1) رواه مسلم (الصحيح 125 / 7).
(2) رواه مسلم (الصحيح 124 / 7) وأحمد (الفتح الرباني 140 / 23).
(3) رواه البخاري ك لصلاة ب التعاون في بناء المساجد ، ورواه أحمد (الفتح الرباني 331 / 22).
(4) رواه ابن خزيمة في صحيحه والبغوي وابن راهويه (كنز العمال 586 / 5).
ابتلاءات الامم _ 303 _
ردة ) (1) ويشهد به أيضا قول عمر بن الخطاب أثناء خلافته ( إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ) (2) ، قال في لسان العرب : يقال كان ذلك الأمر فلتة ، أي فجأة إذا لم يكن عن تدبر ولا ترو ، والفلتة : الأمر يقع من غير إحكام ، وفي حديث عمر ، أراد فجأة وكانت كذلك لأنها لم ينتظر بها العوام ، وقال ابن الأثير في حديث عمر : والفلتة كل شئ فعل من غير روية ، وإنما بودر بها خوف انتشار الأمر (3).
ويشهد به قول عمر لابن عباس : يا ابن عباس ما منع قومكم منكم ؟ قال : لا أدري ، قال : لكني أدري يكرهون ولايتكم لهم ، يكرهون أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة (4) ، وزاد في رواية : فاختارت قريش لنفسها فأصابت ووفقت (5) .
وروي أن عمر بن الخطاب عندما اختلف بعض الأنصار مع بعض المهاجرين في سقيفة بني ساعدة ، على من الذي يتولى الخلافة ومن يتولى الوزارة ، أمر عمر بقتل مرشح الأنصار سعد بن عبادة ، وذلك حينما اشتد الخلاف وتشابكوا بالأيدي ، روى الطبري :
قال ناس من أصحاب سعد : إتقوا سعد ألا تطؤه ، فقال عمر : إقتلوه إقتلوه ، ثم قام على رأسه فقال : لقد هممت أن أطأك حتى تندر عضوك (6) ، وروى البخاري : قال قائل : قتلتم سعد بن عبادة ، فقال عمر : قتله الله (7) ، وكتبت النجاة لسعد ، وروي أنه قال بعد بيعة أبي بكر ( لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي ) (8) ، ولم يبايع سعد حتى خرج في خلافة عمر بن الخطاب إلى الشام ، وقتل في الطريق ، وروي أن الجن هم الذين قتلوه !
---------------------------
(1) رواه أحمد بسند صحيح (الفتح الرباني 61 / 23).
(2) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 60 / 1) والطبري (تاريخ الأمم والملوك 200 / 3).
(3) لسان العرب مادة فلت ص 3455.
(4) تاريخ الأمم والملوك 30 / 5.
(5) المصدر السابق 31 / 5.
(6) المصدر السابق 210 / 3.
(7) البخاري (الصحيح 291 / 2) ...
(8) تاريخ الأمم 210 / 3.