قامت الرسالة الخاتمة بإرشاد بني إسرائيل إلى طريق الحق ، وقامت بتصحيح ما لديهم من معلومات وما يحتفظون من ذكريات تتعلق بأحداث لم يشهدوها في الماضي ، ابتداءا من هجرة إبراهيم عليه السلام إلى الأرض المباركة ، ومرورا بخلافة داود عليه
السلام وقيام مملكته وبناء سليمان عليه السلام للهيكل ، وانتهاء ببعثة المسيح عليه السلام وما انتهت إليه ، ولكن الذين كفروا من بني إسرائيل لم ينصتوا إلى الحق
ابتلاءات الامم _ 33 _
الذي أخبرتهم به الرسالة الخاتمة ، وركنوا إلى مقولة الأخبار في عهودهم القديمة والتي تقول : إن داود إختاره الله وعينه ملكا.
ومملكة داوود هي عنوان ووعاء عهد الله لإبراهيم ، وأورشاليم اختارها الله عاصمة لهذا الملك ، ولأن داوود هو مؤسس المملكة فهو المسيح المصطفى وعلى الجميع أن يخضعوا لسلطان مملكته الأزلية ولعاصمتها أورشاليم ، لأن التعجد لله لا ينفصل عن الولاية للأرض وعاصمتها ، ولما كانت المملكة قد زالت على أيدي الغزاة في الماضي ، فإن على المؤمنين بها أن يعملوا من أجل عودتها ، وأن يظل هذا العمل دائما حتى يأتي المسيح ابن داوود في المستقبل ، ليعيد المملكة إلى الوجود ويعيد المجد والرفعة إلى اليهود.
وعندما ركن اليهود إلى هذه المقولة ولم يؤمنوا بالرسالة الخاتمة ،
وقالوا يوما : ليس علينا في الأميين سبيل ، ويوما آخر : نحن أولياء الله من دون الناس ونحن أبناء الله وأحبائه ، ثم راحوا يسعون في الأرض فسادا ، وينسبوا إلى الله تعالى ما لا يناسب ساحة قدسه وكبرياء ذاته جلت عظمته ، فعندما فعلوا هذا وغيره ، لعنهم الله ، وألقى سبحانه بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، وقوله تعالى : (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) (1) فيه ما لا يخفى من الدلالة على بقاء أمتهم إلى آخر الدنيا ، وحذر الله تعالى المسلمين أن يردوا موردهم فيصيبهم ما أصابهم.
ولما كان الله تعالى قد توعد الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق بصرفهم عن آياته ، وهو قوله تعالى : (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنون بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه
---------------------------
(1) سورة المائدة آية 64.
ابتلاءات الامم _ 34 _
سبيلا) (1) .
ولما كانت في بطن الغيب آيات عندما تأتي لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، وهو قوله تعالى : (يوم يأت بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون) (2).
ولما كان خروج المسيح الدجال أحد هذه الآيات كما أخبر النبي (ص) ، فإن الذين كفروا من بني إسرائيل قد وقعوا في شباك الدجال ولحق بهم الذين اتبعوا سنتهم وأمسكوا بذيولهم.
وإذا كانت النتيجة هي وقوعهم في شباك المسيح الدجال ، فإن ذلك يستقيم مع ما قدموه لأنفسهم عند المقدمة ، حيث لم ينقادوا إلا إلى اللذة والكمال المادي وما يستحسنه لهم كبرائهم ، وعلى هذا الطريق نسجوا للبشرية شباكا من الفتن المتعددة ، ومن
صنع فتنة وقع فيها ، قال تعالى : (لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون ، وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما
يعملون) (3) قال في الميزان : والفتنة هي المحنة التي تغر الإنسان. أو هي أعم من شر وبلية ، والعمى هو عدم إبصار الحق وعدم تمييز الخير من الشر ، والصمم عدم سماع العظة وعدم الأعباء بالنصيحة ، وهذا العمى والصمم معلولا حسبانهم أن لا تكون فتنة.
والظاهر أن حسبانهم ذلك معلول ما قدروا لأنفسهم من الكرامة بكونهم من شعب إسرائيل ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه فلا يمسهم السوء وإن فعلوا وارتكبوا ما ارتكبوا.
ومعنى الآية : أنهم لمكان ما اعتقدوا لأنفسهم من كرامة التهود ، ظنوا أن لا يصيبهم سوء أو لا يفتنون بما فعلوا ، فأعمى
---------------------------
(1) سورة الأعراف آية 146.
(2) سورة الأنعام آية 158.
(3) سورة المائدة آية 71.
ابتلاءات الامم _ 35 _
ذلك الظن والحسبان أبصارهم عن إبصار الحق ، وأصم ذلك آذانهم عن سماع ما ينفعهم من دعوة أنبيائهم ... على أن الله تعالى فتح لهم أبواب التوبة فرفع هذا الحسبان عن قلوبهم والعمى والصم عن أبصارهم وآذانهم ... ونجا بالتوبة بعضهم ، وعلى امتداد المسيرة اعتقدوا ما اعتقدوه لأنفسهم من قبل كرامة التهود ، وظنوا أن لا يصيبهم سوء أو لا يفتنون ، فعموا وصموا كثيرا منهم (1).
فعند بداية الطريق جهر الأنبياء بما ينفع المسيرة ، وحذروا من الفتن التي تلقي بأصحابها تحت أقدام المسيح الدجال آخر الزمان ، يقول النبي (ص) : ( إن الله لم يبعث نبيا إلا إمته الدجال (2) ) وقال : ( ... وما صنعت فتنة منذ كانت الدنيا صغيرة ولا كبيرة إلا لفتنة الدجال ) (3) وقال : ( إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال ) (4) ، ولكن المسيرة الإسرائيلية لم تنصت في نهاية المطاف إلى تحذيرات الأنبياء ، ومع تحريفهم المستمر للأصول التقطوا تحذير الدجال ووضعوا عليه لباس التبشير ، وذلك عندما وجدوا أن ما معه يلتقي مع فقه الحسن والزينة الذي تشربوا أصوله من أفواه الأخبار ، ولقد صرحوا للنبي (ص) بأنهم ينتظرون أميرا يملكون به الأرض (5) ، وما هذا الأمير إلا المسيح الدجال ، وسنبين ذلك في موضعه إن شاء الله.
لقد عموا وصموا ولم ينفعهم ما قدروا لأنفسهم من الكرامة بل أعماهم وأوردهم مورد الهلكة والفتنة ، لأن ما قدروه لأنفسهم لم تنطق به الفطرة ولا شرائع الأنبياء ولا حركة التاريخ.
---------------------------
(1) الميزان 68 ، 69 / 6.
(2) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 69 / 24) وابن ماجة حديث رقم 4077.
(3) رواه الإمام أحمد والبزار ورجاله رجال الصحيح (الفتح الرباني 69 / 24).
(4) رواه أحمد (الفتح الرباني 69 / 24) وابن ماجة.
(5) تفسير ابن كثير 84 / 4.
ابتلاءات الامم _ 36 _
وإذا كنا قد ألقينا شعاعا من الضوء على مسيرة الدجال ، فإننا في هذا المدخل نلقي شعاعا آخر على مسيرة المهدي المنتظر التي حددها الدين الخاتم ، وفي البداية نقول : لما كان الدجال شر مخبوء في بطن الغيب يلتقط الانحراف وأصحابه آخر الزمان ، فإن المهدي المنتظر هو الخير المخبوء في بطن الغيب ومعسكره هو الذي سيواجه معسكر الدجال آخر الزمان ، وبين المعسكرين ستدور معارك الفطرة والقدس ، ومن عدل الله أن جعل أمام الشر المخبوء خير مخبوء آخر الزمان.
ليكون في ذلك حجة على جبين المستقبل ، وهذا من سنن الوجود قال تعالى : (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) (1).
ولما كان الخير المخبوء والشر المخبوء يقرأ الحاضر أحداثهما كما رواها الأنبياء والرسل عليهم السلام وذلك لينظم الحاضر خطواته في إتجاه الطريق الصحيح ، وهو يسير تحت سقف الامتحان والابتلاء لينظر الله إلى عباده كيف يعملون ، فإن الحاضر إذ لم يصحح خطواته في يومه فلن ينفعه أن يصحح خطواته عند ظهور الأحداث واشتعال الملاحم في المستقبل ، وذلك لأنه سيكون قد ارتبط ارتباطا وثيقا بما يعتقد من انحرافات سياسية واقتصادية واجتماعية ، وهذا الارتباط يدعمه المسيح الدجال.
الذي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فتنته ( ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال ) (2).
والقرآن الكريم أشار إلى آيات وفتن وملاحم وأحداث مستقبلية ، وأخبر بأن الذين كفروا لن ينفعهم إيمانهم يومئذ ، قال تعالى : (ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين ، قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون فأعرض عنهم وانتظر إنهم
---------------------------
(1) سورة الأنبياء آية 18.
(2) رواه الامام مسلم (الصحيح 267 / 4).
ابتلاءات الامم _ 37 _
منتظرون) (1) .
قال المفسرون : معنى الفتح إزالة الإغلاق والإشكال.
وذكر ابن كثير ، أن هذا الفتح لم يكن هو فتح مكة على زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنما هو فتح ما زال في بطن الغيب ، وقال تعالى : (يوم يأت بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون) (2).
قال في الميزان: إن الآية تتضمن تهديدا جديا لا تخويفا صوريا فالإيمان لا ينفع نفسا لم تؤمن قبل ذلك اليوم إيمان طوع واختيار ، أو آمنت قبله ولم تكن كسبت في إيمانها خيرا ولم تعمل صالحا ، بل انهمكت في السيئات والمعاصي ، إذ لا
توبة لمثل هذا الإنسان ، قال تعالى : (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن) (3).
فالنفس التي لم تؤمن من قبل إيمان طوع ورضى ، أو آمنت بالله وكذبت بآيات الله ولم تعتن بشئ من شرائع الله واسترسلت في المعاصي الموبقة ، ولم تكتسب شيئا من صالح العمل فيما كان عليها ذلك ، ثم شاهدت البأس الإلهي فحملها الاضطرار إلى الإيمان لترد به بأس الله تعالى لم ينفعها ذلك ، ولم يرد عنها بأسا ولا يرد بأس الله عن القوم المجرمين ...
وفي الآية دلالة على أن هذه الأمة سيشملهم القضاء بينهم بالقسط والحكم الفصل مما لا سترة عليها ، كقوله : (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا
ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل ـ إلى أن قال ـ ويستنبئونك أحق هو ، قل أي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين) (4) إلى آخر الآية.
---------------------------
(1) سورة السجدة آية 28.
(2) سورة الأنعام آية 158.
(3) سورة النساء آية 18.
(4) سورة يونس آية 47 ـ 53.
ابتلاءات الامم _ 38 _
ولما كان الطريق إلى المسيح الدجال هو طريق التزيين والإغواء والاحتناك.
ورموزه هم أئمة الضلال على امتداد التاريخ الإنساني ، فإن طريق المهدي المنتظر هو طريق الفطرة الذي يحمل أعلام التوحيد والأخلاق ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حدد طريق المهدي تحديد دقيق ، فبين أنه يحمل أعلام القسط والعدل آخر الزمان ، يقول عليه الصلاة والسلام ( لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلما وجورا وعدوانا ، ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ) (1) وبين أن المهدي من ولد فاطمة عليها السلام ، فقال ( المهدي من عترتي من ولد فاطمة ) (2) وأخبر بأن طريق المهدي هو الطريق المنصور ، لا يضر أتباعه من عاداهم أو من خذلهم ، قال عليه الصلاة والسلام ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله ) (3).
وطريق المهدي رموزه هم أئمة الهدى ، فعن جابر بن سمرة قال ، قال رسول الله (ص) ( يكون من بعدي اثنا عشر أميرا ) قال : ثم تكلم بشئ لم أفهمه ، فسألت الذي يليني فقال : ( كلهم من قريش ) (4) ولما كان النبي قد ذم قريش وغلمانها في بعض الأحاديث ، فلا يمكن فهم هذا الحديث إلا في ضوء الذين لم يذمهم النبي من قريش ، وأيضا في
---------------------------
(1) رواه الحاكم وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (المستدرك 557 / 4).
(2) قال في التاج الجامع للأصول رواه أبو داوود والحاكم بسندين صحيحين (التاج 343 / 5) وأنظر سنن أبو داوود 107 / 4 ، عون المعبود 371 / 11 ، كنز العمال 264 / 14 ، سنن ابن ماجة حديث 4086 ، مستدرك الحاكم 557 / 4.
(3) رواه الترمذي وقال في تحفة الأحوازي رواه مسلم وابن ماجة (التحفة 483 / 6).
(4) رواه الترمذي وقال في تحفة الأحوازي وأخرجه الشيخان وأبو داوود وغيرهم (التحفة 474 / 6).
ابتلاءات الامم _ 39 _
النظر في أصول الدعوة الإلهية ، وقد علمنا من هذه الأصول أن العلم بالله هو أشرف العلوم ، لأن الله هو أشرف معلوم على الاطلاق ، وهذا العلم لا يبوح بأسراره إلا لأهله ، ولهذا وضعت النبوة أهل هذا العلم على ذروة المسيرة من بعدهم ، لكي يحفظوا الدين من شطحات المنافقين وأحبار وعلماء السوء ، ووجدنا في التوراة الحاضرة أن موسى عليه السلام أوقف هذا العلم على هارون وبنيه لا يتعداهم إلى غيرهم ، فهم وحدهم الذين يفسرون الشريعة للشعب (1) ، وعندما بغى بني إسرائيل على الراسخين في العلم ، ضلوا وأضلوا كما بينا.
ولم يشذ الدين الخاتم عن هذه القاعدة لأن الدعوة الإلهية دعوة واحدة ، وفي أحاديث كثيرة ربط النبي (ص) بين أهله بالكتاب ومن هذه الأحاديث قوله : ( إني تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، أو ما بين السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يتفرقا حتى يردوا على الحوض ) (2) وفي أحاديث أخرى ربط النبي في (ص) بينه وبين علي بن أبي طالب ، كما ربط موسى عليه السلام بين نفسه وبين هارون أخيه ، قال النبي (ص) لعلي ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنك لست نبيا ، إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي في كل مؤمن من بعدي ) (3).
ولما كانت منزلة علي بن أبي طالب من النبي صلى لله عليه وآله وسلم كمنزلة هارون من موسى ، ولما كان أهل موسى من ذرية هارون هم وحدهم أهل الاختصاص بتفسير الشريعة ، وأهل محمد (ص) ، هم
---------------------------
(1) أنظر سفر اللاويين 1 / 9 ـ 11 ، 1 ـ 14.
(2) رواه الإمام أحمد وقال الهيثمي إسناده جيد (مجمع الزوائد 193 / 9) (الفتح الرباني 105 / 22) (كنز العمال 172 / 1).
(3) رواه أحمد (الفتح الرباني 204 / 21) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 133 / 3) وابن أبي عاصم وصححه الألباني (كتاب السنة 565 / 2).
ابتلاءات الامم _ 40 _
وحدهم مع القرآن الكريم في حبل واحد ولن يفترقا حتى يردوا على الحوض ، فعلى هذا يمكن فهم حديث الاثني عشر أميرا السابق ذكره والذي روي بألفاظ متعددة ، ومنها قول النبي (ص) ( إن عدة الخلفاء بعدي عدة نقباء موسى ) (1) وفي رواية ( اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل ) (2).
والأمة الخاتمة امتحنها الله تعالى بأهل بيت النبي (ص) كما امتحن سبحانه بني إسرائيل بأهل بيت موسى من بعده ، وروي أن النبي (ص) قال ( أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ) (3) وقال ( يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) (4) ، وانطلقت المسيرة تحت مظلة الامتحان ، لينظر الله تعالى إلى عباده كيف يعملون ، بعد أن استخلفهم كما إستخلف الذين من قبلهم ، ومن معجزات النبوة قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر ، وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم ) قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى.
قال ( فمن ) (5) المراد بالشبر والذراع وجحر الضب التمثيل بشدة الموافقة لهم ، وسيأتي تفصيل ذلك كله في موضعه من هذا الكتاب.
وكل مقدمة أول الزمان ستلحق بها نتيجتها آخر الزمان ، والناس في بداية الطريق ، يعرفون طريق الخير وطريق الشر ، ولكن للأهواء
---------------------------
(1) رواه ابن عدي وابن عساكر (كنز العمال 89 / 1) وأبو نعيم (كنز العمال 33 / 12).
(2) رواه أحمد (الفتح الرباني 12 / 23) وأبو يعلى والبزار (مجمع الزوائد 190 / 5) والحاكم (المستدرك 501 / 4).
(3) رواه الإمام مسلم (الصحيح 179 / 15).
(4) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 662 / 5) والنسائي (كنز العمال 172 / 1).
(5) رواه البخاري (الصحيح 264 / 4) ومسلم (الصحيح 219 / 16) وأحمد (الفتح الرباني 197 / 1).
ابتلاءات الامم _ 41 _
زخرف وزينة ، ومع الأهواء يسيرون في طريق لا يرون إلا بدايته أو وسطه ولا يرون في نهاية الطريق، لأن نهاية الطريق لا ترى إلا بعد أن تجئ.
الإخبار بالغيب من الأمور التي يمتحن الله تعالى بها عباده ، قال تعالى : (وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) (1) قال في الميزان : المراد بنصره ورسله ، الجهاد في سبيله دفاعا عن مجتمع الدين وبسطا لكلمة الحق ، والمراد بعلمه بمن ينصره ورسله تميزهم ممن لا ينصر ، وقوله تعالى : (إن الله قوي عزيز) إشارة إلى إن أمره بالجهاد إنما هو ليميز الممتثل منهم من غيره ، لا حاجة منه تعالى إلى ناصر ينصره ، إنه تعالى قوي لا سبيل للضعف إليه ، عزيز لا سبيل للذلة إليه (2).
وعلى طريق الإخبار بالغيب يكون الثواب والعقاب في الحياة الدنيا والآخرة ، ومن الذين يدخلون إلى دائرة الأمان كل من تحرك الحركة الصحيحة نحو الأحداث التي تستقبل الناس والتي أخبر بها الأنبياء والرسل ، قبل أن تأتي آيات الله لا ينفع نفسا
إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ، فدائرة الأمان يدخلها من تعامل مع الإخبار بالغيب تعامل المتفكر المتذكر لتكون حركته في الدنيا مرتبطة بالله تعالى.
وفي الآخرة يدخل الذين يخشون ربهم بالغيب ، والذين أخذوا بأسباب الحياة
الكريمة في مغفرة الله جل وعلا ، قال تعالى : (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير) (3) قال في الميزان :
---------------------------
(1) سورة الحديد آية 25.
(2) الميزان 172 / 19.
(3) سورة الملك آية 12.
ابتلاءات الامم _ 42 _
وعد سبحانه خشيتهم بالغيب ، لكون ما آمنوا به محجوبا عنهم تحت حجب الغيب.
والله تعالى يعلم الغيب لذاته قال سبحانه (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) (1) فالآية أفادت معنى الأصالة ، فعلم الغيب في الأصل يختص بالله تعالى وغيره يعلمه منه سبحانه ، وهو سبحانه يظهر لرسله ما شاء من الغيب ، قال تعالى : (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) (2).
وإخبار الأنبياء والرسل بالغيب عند ربهم ، فيه لطف من الله لعبادة وهم تحت سقف الامتحان والابتلاء ، فالله يعلم أن عباده يجهلون أكثر مصالحهم وطرقها في الحياة ، ولذا سن سبحانه الشرايع وما فيه خيرهم.
ليدلهم على الصراط المستقيم والسعادة الدائمة ويزجرهم عما فيه الفساد ، ولعلمه سبحانه أن أكثر عباده لا يطيعونه فيما شرع لهم ، أظهر لرسله بعض ما يستقبل الناس من أحداث في الدنيا والآخرة ، ليكون هذا الإخبار بالغيب حجة وسراج يهدي إلى الطريق المستقيم ، ليهلك من هلك عن بينة ، والإخبار بالغيب في خطوطه العريضة لطف ورحمة ، ولا يرفع هذا اللطف وهذه الرحمة أن يكون العباد متمرسين على طاعته سبحانه غير منقادين إلى أوامره ونواهيه ، لأنه سبحانه اللطيف بعباده الجواد الكريم.
يلطف ويأمر بالطاعة لأنه مريد لها وينهى عن المعصية لأنه كاره لها.
ومنهج البحث في هذا الكتاب يتخذ من الإخبار بالغيب عمودا فقريا للوصول إلى الحقيقة التي يجلس على قمتها آخر الزمان ( المهدي المنتظر ) رمزا لطائفة الحق ، و ( المسيح الدجال ) رمزا للانحراف
---------------------------
(1) سورة الأنعام آية 59.
(2) سورة الجن آية 26.
ابتلاءات الامم _ 43 _
والشذوذ ، ومعنى تتبع الإخبار بالغيب للوصول إلى الحقيقة ، هو إيماني بأن النبوءة هي التي تفسر التاريخ وليس العكس ، فالأنبياء يخبرون بالغيب عن ربهم فيما يستقبل الناس ، وهذا الإخبار إما في دائرة التحذير وإما في دائرة التبشير ، وكل دائرة لا بد أن يكون لها أصحاب وأتباع ، والله تعالى له في كل موضع في هذا الكون شاهد وهذا الشاهد حجة ، وبالنظر إلى هذه الدوائر بضوء الإخبار بالغيب يمكن أن نرى حقيقة الحركة الإنسانية ، حركة التاريخ تحت سقف الامتحان والابتلاء ، ومن هذه الحركة يمكن أن
نخرج بمضمون وبقضية وبهدف ، ويمكن أن نضع أيدينا بكل يسر على العروة الوثقى التي نحكم بها على المسيرة التاريخية.
تلك المسيرة التي ظهر على ساحتها العديد من أعلام الزينة والإغواء والأهواء ودخل أصحابها في دائرة التحذير ، وعندما أصبحوا أعمدة في هذه الدائرة ، حذرت النبوءة منهم ومن دوائرهم ، ثم سلطت أضواءها على دائرة التبشير ليتحرك الناس
الحركة التي يحبون أن ينظر الله إليهم وهم يتحركونها ، لأن سنة استخلاف الإنسان في الأرض تقوم على حكمة ( لينظر الله كيف تعملون ).
وبالجملة : لقد حذر الوحي من الشيطان ، وحذرت النبوءة من المنافقين والمترفين الذين اتخذوا من الصد عن سبيل الله هدفا لهم ، وفي دائرة التحذير وقف الشيطان وبرنامجه وأتباعه من أهل الأهواء تحت ضوء الإخبار بالغيب ، ليتبين الناس الوقود الذي أمد المسيرة.
ويعلموا أن التاريخ وإن ظهر كوحدة واحدة ، إلا أنه في الحقيقة وحدة إنسانية واحدة ذات حركتين ، حركة حق وحركة باطل ، ولأن الحاضر ابنا للماضي فإنه يرث هذه التركة وينطلق بها إلى المستقبل ، وعلى الإنسان في هذه الحالة أن ينقب ويبحث وينظر فيما حوله من حجج عليه ، لأنه مستخلف في الأرض ، والاستخلاف يقتضي حركة ، والحركة منظورة من الله .
ابتلاءات الامم _ 44 _
ولما كنا نهدف من هذه الدراسة أن نمسك بخيوط المسيح الدجال والمهدي المنتظر ، فإننا لا يمكن أن ننحي مصادر أهل الكتاب جانبا ، ومصادر أهل الكتاب وأقصد ( الكتاب المقدس ) ، وأن كان قد ذهب منه الكثير من الوحي ، ودخل فيه الشئ الكثير من
الأوهام حتى أصبح الكتاب به الكثير من المتناقضات ، وبهذا شهد علماء مقارنة الأديان والحضارة من أهل الكتاب أنفسهم ، وشهد القرآن الكريم أن أيدي أهل الكتاب امتدت إلى النصوص بالحذف والإضافة ، وبأنهم استبدلوا نصوص تحمل التوجيه الإلهي بغيرها تعبر عن المصلحة والهوى عند الأحبار والرهبان ، إلا أن الكتاب المقدس لا يخلو من وحي إلهي ومعالم سماوية باهتة.
وهذا الوحي الظاهر حجة على أهل الكتاب لأنه يرشدهم إلى دعوة النبي الخاتم (ص) ، أما المعالم الباهتة والمتناقضات فهي دعوة لقبول البينة التي حملها رسول من الله يتلو صحفا مطهرة.
وفي دراستنا هذه سنسلط الأضواء على المسيرة التاريخية لبني إسرائيل ، من واقع إخبار أنبيائهم بالغيب عن ربهم ، وذلك لنقف على الانحراف وحجمه وإلى أين قاد أتباعه ، وعلى امتداد عملية الرصد هذه سنسلط الأضواء القرآنية على هذه الأحداث
والانحرافات ، ليظهر طريق الخير وطريق الشر ونميز ما هو تقوى في هذه الأحداث مما هو فجور ، وعند البحث عن الخلل في سيرة الأمة الخاتمة ، سننطلق من الأصول وننظر في المسيرة من خلال إخبار النبي (ص) بالغيب عن ربه ، ثم ننظر عليها وهي تشق طريقها نحو المستقبل ، وعلى هذا التصور أقدم قراءتي لحركة التاريخ.
تذكر التوراة الحاضرة ، أن الله أمر موسى عليه السلام ببناء خيمة الاجتماع لتكون مركزا للعبادة ، وذكر سفر الخروج كيف تم تحديد المكان وكيف تم البناء (1).
فقال ( وكلم الرب موسى قائلا : في الشهر الأول في اليوم الأول من الشهر تقيم مسكن خيمة الاجتماع ) (2) ( وأخذ موسى الخيمة ونصبها ) (3).
ولأن العلم بالله هو أشرف العلوم وهو ذروة كل العلوم ، فإن الله تعالى زكى من عباده طائفة ليحملوا هذا العلم الرفيع ويبينوا مراده وأسراره للناس ، بعد أن أخذ الشيطان على عاتقه القعود على الصراط المستقيم يزخرف العلوم ويصد عن العبادة
الحق ، وفي عهد خيمة
---------------------------
(1) الخروج إصحاح 25 ، 26 وما بعده.
(2) المصدر السابق 40 / 1.
(3) المصدر السابق 33 / 7.
ابتلاءات الامم _ 48 _
الاجتماع كان آل عمران وعلى رأسهم هارون وبنيه هم وحدهم الذين لهم الحق في تفسير الشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام ، وتروي التوراة أن الله تعالى طهرهم وأعطاهم فقه هذا العلم الرفيع ، وفي اختيار الله تعالى لهم تذكر التوراة أن الله
قال لموسى ( تقدم هارون وبنيه إلى باب خيمة الاجتماع ، وتغسلهم بماء وتلبس هارون الثياب المقدسة وتمسحه وتقدسه ليكهن لي ، وتقدم بنيه وتلبسهم أقمصة وتمسحهم كما مسحت أباهم ليكهنوا لي ، ويكون ذلك لتصير لهم مسحتهم كهنوتا أبديا في أجيالهم ) (1).
وتذكر التوراة أن موسى فعل ما أمر به الله ( فقدم موسى هارون وبنيه وغسلهم بماء ، وجعل عليه القميص ... وألبسه الجبة وجعل عليه الرداء ... ووضع العمامة على رأسه ... ومسحه لتقديسه ، ثم قدم موسى بني هارون وألبسهم أقمصة ... كما أمر الرب موسى ) (2).
وفي مرتبة هارون وبنيه الفقهية ، تذكر التوراة أن الله كلم هارون وأمره بحفظ الشعائر التي علمها له ، لتعليم بني إسرائيل الفرائض التي فرضها الله ( وكلم الرب هارون قائلا : خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك ... للتمييز بين المقدس والمحلل وبين النجس والطاهر ، ولتعليم بني إسرائيل جميع الفرائض التي كلم الرب بها بيد موسى ) (3) وكان الله تعالى يبين الشريعة لموسى وهارون تارة.
ويوصي موسى بأن يبين لهارون وبنيه أمور من الشريعة تارة أخرى ( وكلم الرب موسى وهارون قائلا لهما : كلما بني إسرائيل قائلين هذه هي الحيوانات التي تأكلونها من جميع البهائم التي على الأرض ) (4) ( وكلم الرب موسى قائلا : كلم هارون وبنيه قائلا : هذه شريعة ذبيحة
---------------------------
(1) المصدر السابق 40 / 11 ـ 15.
(2) اللاويين 8 / 1 ـ 12.
(3) المصدر السابق ، 8 / 10 ـ 11.
(4) المصدر السابق 11 / 1.
ابتلاءات الامم _ 49 _
الخطية ... ) (1) وبعد أن تم التطهير والتعليم وعلمت الجموع منزلة هارون وبنيه من موسى ، تقول التوراة ( ثم رفع هارون يده نحو الشعب وباركهم ... ودخل موسى وهارون إلى خيمة الاجتماع ، ثم خرجا وباركا الشعب ) (2).
وتذكر التوراة أسماء بني هارون الذين اختارهم الله ليعلموا الشعب (3) وذكرت أن هؤلاء وحدهم لهم حق تفسير الشريعة.
( وتوكل هارون وبنيه فيحرسون كهنوتهم والأجنبي الذي يقترب يقتل ) (4) وأخبرت التوراة بأن سبط لاوي ـ ولاوي هو جد موسى وهارون ـ مهمته خدمة خيمة الاجتماع وحفظ أمتعته ، وأن الله وهب هؤلاء لهارون وبنيه (5).
ومما يذكر أن موسى وهارون هما ابنا عمران ، وفي ذرية هارون أودع الله فقه الشريعة التي جاء بها موسى ، وهذه الذرية من الذين اصطفاهم الله على العالمين ، ومنها مريم ابنة عمران وابنها المسيح عليهما السلام.
واختتم الله بهما الشجرة الإسرائيلية ، بعد أن حملت الخاتمة بعض أسماء المقدمة لتتذكر المسيرة البداية من عند النهاية ، وسنبين ذلك في موضعه ، فسبط لاوي جد موسى وهارون ، يقول فيهم الله كما ذكرت التوراة ( يخدمون خدمة المسكن.
فيحرسون كل أمتعة خيمة الاجتماع ... وتعطي اللاويين لهارون وبنيه إنهم موهوبون له هبة من عند بني إسرائيل ) (6) أما هارون بن عمران وبنوه ، فيقول فيهم ( وتوكل هارون وبنيه فيحرسون كهنوتهم والأجنبي الذي يقترب
---------------------------
(1) المصدر السابق 6 / 24.
(2) المصدر السابق 9 / 22.
(3) سفر العدد 3 / 22.
(4) المصدر السابق 3 / 10.
(5) المصدر السابق 3 / 5.
(6) المصدر السابق 3 / 5.
ابتلاءات الامم _ 50 _
يقتل ) (1) وهكذا تم تحديد القاعدة وذروتها.
وبالجملة : كان الكاهن الأعلى يقوم بمهمته بعد اختيار الله له ، وهذه قاعدة أصيلة في الدعوة الإلهية للناس ، والله يزكي من يشاء ويختار من يشاء ، والعهد الجديد يقر بذلك فيقول ( ولم يكن أحد يتخذ لنفسه هذه الوظيفة الشريفة متى أراد بل كان يتخذها من دعاه الله إليها كما دعا هارون ) (2) والرسالة الخاتمة أقرت بهذه الحقيقة ، وذلك في قول النبي (ص) لعلي بن أبي طالب ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنك لست نبيا إنه لا ينبني أن أذهب إلا وأنت خليفتي في كل مؤمن بعدي ) (3) وسيأتي الحديث عن هذه المنزلة في موضعه.
ولقد ألقى القرآن الكريم بأضوائه على منزلة هارون ، وذلك لما سأل موسى عليه السلام ربه تعالى (اجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا) (4) قال في لسان العرب : الوزير الذي يحمل ثقل الملك ويعينه برأيه ، والوزير في اللغة : اشتقاقه من الوزر ، والوزر الجبل الذي يعتصم به لينجي من الهلاك (5) وقال في الميزان في تفسير الآية : وإنما سأل موسى ذلك ، لأن الأمر كثير الجوانب متباعد الأطراف ، ويحتاج فيه موسى إلى وزير يشاركه في ذلك ، فيقوم ببعض الأمر فيخفف عنه.
ويكون مؤيدا لموسى فيما يقوم به موسى ، وهذا معنى أقوله (اشدد به أزرى وأشركه في أمري) أي في أمر كان يخص موسى وهو تبليغ ما
---------------------------
(1) المصدر السابق 3 / 10.
(2) العبرانيين 5 / 1 ـ 4.
(3) رواه الإمام أحمد (الفتح الرباني 204 / 21) والحاكم وأقره الذهبي (المستدرك 33 1 / 3) وابن أبي عاصم وقال الألباني رجاله ثقات (كتاب السنة 565 / 2).
(4) سورة طه آية 29 ـ 32.
(5) لسان العرب ص 4824.
ابتلاءات الامم _ 51 _
بلغه من ربه ، فهذا هو الأمر الذي يخصه ولا يشاركه فيه أحد سوى هارون (1).
تذكر التوراة أن موسى عليه السلام بعد أن أقام حجته أشهد الله تعالى على بني إسرائيل ، وأخبر بالغيب عن ربه أن المسيرة من بعده ستختلف وستفترق وسترتكب جرائم تستحق عليها لعنة الله ، تقول التوراة ( أمر موسى اللاويين حاملي عهد الرب قائلا :
خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب هناك شاهد عليكم ، لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة ، هوذا وأنا معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب ، فكم بالحري بعد موتي ، اجمعوا إلى كل شيوخ أسباطكم وعرفاءكم ، لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد عليهم السماء والأرض ، لأني عارف إنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به ، ويصيبكم الشر في آخر الأيام لأنكم تعملون الشر أمام الرب ، (2).
وفي هذا البيان إشارة إلى انقلاب القوم على الخط الرسالي الذي يقوده أبناء هارون ، فبعد موت موسى عليه السلام يبدأ الفساد ويزيغون عن الطريق الذي أوصاهم به ، وهذا يستوجب أن يصيبهم الشر في آخر الأيام ، لأن الوتد الذي تم دقه عند البداية لم يبليه الزمان وأصبح له جذور عند النهاية ...
وتذكر التوراة أن موسى عليه السلام ذكرهم في هذا اليوم بالله الذي خلقهم واستخلفهم ، وذكرهم بأيام الله وكيف يأخذ الله الأمم
---------------------------
(1) الميزان تفسير سورة طه.
(2) التثنية 31 / 24 ـ 28.
ابتلاءات الامم _ 52 _
الظالمة (1).
وتذكر التوراة تحذيرات نطق بها موسى عليه السلام على مسامع القوم ، منها ( لا تصنعوا لكم أوثانا ولا تقيموا لكم تمثالا منحوتا أو نصبا ولا تجعلوا في أرضكم مصورا لتسجدوا له ) (2) ( إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم ، تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتدركك ، ملعونا تكون في المدينة ، ملعونا تكون في الحقل ... ملعونا تكون في دخولك ملعونا تكون في خروجك ، ويرسل الرب عليك اللعنة والاضطراب والزجر في كل ها تمتد إليه يدك لتعمله ... يضربك الرب بجنون وعمى وحيرة قلب فتتلمس في الظهر كما يتلمس الأعمى في الظلام ... تأتي عليك جميع هذه اللعنات وتتبعك وتدركك حتى تهلك ... فتكون فيك آية وأعجوبة وفي نسلك إلى الأبد ) (3) ( إن لم تسمعوا لي ولم تعملوا كل هذه الوصايا وإن رفضتم فرائضي ، وكرهت أنفسكم أحكامي فما عملتم كل وصاياي بل نكثتم ميثاقي ، فإني أعمل هذه بكم : أسلط عليكم رعيا وسلا وحمى تفني العين وتتلف النفس وتزرعون باطلا زرعكم فيأكله أعداؤكم واجعل وجهي ضدكم فتنهزمون أمام أعدائكم ويتسلط عليكم مبغضوكم وتهربون وليس من يطردكم ) (4).
وبالجملة : انطلقت المسيرة الإسرائيلية تحت مظلة الامتحان لينظر الله إليهم كيف يعملون ، بعد أن أخذ عليهم سبحانه العهود بأن يسمعوا ويطيعوا ، وحذرهم من عواقب الكفر والانحراف ، ومما ذكرته التوراة قوله لهم ( أنظر ، أنا واضع أمامكم اليوم
بركة ولعنة ، البركة إذا سمعتم لوصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها اليوم ، واللعنة إذا لم تسمعوا
لوصايا إلهكم وزغتم عن الطريق التي أنا أوصيكم بها اليوم لتذهبوا وراء آلهة أخرى لم تعرفوها ) (1).
والقرآن الكريم أشار إلى الحكمة التي من وراء استخلاف بني إسرائيل في الأرض ، فقال له (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) (2) وأشار إلى العهود التي أخذها الله عليهم ومنها أن لا يقولوا على الله إلا الحق (3) وأن يذكروا ما في الكتاب لعلهم يتقون (4) وأن يوفوا بعهده (5) وأن يذكروا نعمته عليهم وتفضيله لهم في قيادة المسيرة (6) وحذرهم من الكفر بآيات الله ومن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وقال تعالى : (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذوي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة) (7) وقد بدأت الآية بقوله (لا تعبدون إلا الله) وختمت بقوله (وقولوا للناس حسنا) الآية.
وبين البداية والخاتمة كان للمسيرة وجوه ، فعبدوا غير الله وأضاعوا حقوق القربى وعلى رأسهم قربى موسى عليه السلام ، وأضاعوا حقوق اليتامى والمساكين وأفسدوا في الأرض ، وأضاعوا الصلاة والزكاة واتبعوا الشهوات ، وكل هذا شهد به الكتاب المقدس والقرآن الكريم وحركة التاريخ.
---------------------------
(1) التثنية 11 / 26 ـ 29.
(2) سورة الأعراف آية 129.
(3) سورة الأعراف آية 169.
(4) سورة البقرة آية 63.
(5) سورة البقرة آية 40.
(6) سورة البقرة آية 47.
(7) سورة البقرة آية 83.
ذكرت التوراة تحذير الله لبني إسرائيل ( واللعنة إذا لم تسمعوا لوصايا إلهكم وزغتم عن الطريق ) وأخبر القرآن الكريم أنهم لم يسمعوا وزاغوا عن الطريق ، وقال تعالى : (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) (1)
والزيغ : الميل عن الاستقامة ، ولازمه الانحراف عن الحق إلى الباطل ، فهم زاغوا أولا ، فأزاغ الله قلوبهم لسوء اختيارهم ، وإزاغته تعالى إمساك رحمته وقطع هدايته عنهم كما يفيد التعليل بقوله (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) حيث علل الإزاغة بعدم الهداية (2) .
والذين تلبسوا بالزيغ وفتحوا طريق الضلال ، ظل منهجهم يعمل على طريق الصد عن سبيل الله على امتداد الرحلة الإسرائيلية ، وانطلق تحت ظلاله الذين أخذوا بذيول آبائهم وخرجوا عن سبيل موسى وهارون عليهما السلام ، وسنبين في موضعه أن الخط الذي خرج عن طريق هارون وبنيه ، هو الذي صد عن سبيل المسيح عيسى عليه السلام وهو الذي مهد
للمسيح الدجال بعد ذلك.
ويبين العهد القديم أن الانحراف فتحت أبوابه مع الفتوحات العسكرية من بعد موسى عليه السلام فمع القتال على الملك اتسعت رقعة الأرض ودخل السبي ومعهم آلهتهم الغريبة وثقافاتهم التي تفسد الفطرة ، وسجل العهد القديم قول يوشع بن نون لبني إسرائيل ( أنتم شهود على أنفسكم إنكم قد اخترتم لأنفسكم الرب لتعبدوه ، فقالوا : نحن شهود.
فالآن انزعوا الآلهة الغريبة التي في وسطكم وأميلوا قلوبكم
إلى الرب إله إسرائيل ) (1).
وتعليمات يوشع بن نون بنزع الآلهة الغريبة لم تلبث طويلا ، لأنها ذابت في غبار المسيرة بعد وقت قصير ، ويذكر سفر القضاة أن الشعب الإسرائيلي اختار لنفسه مجموعة من الزعماء تولوا قيادته ، وكان هؤلاء الزعماء يتم اختيارهم وفقا لصفاتهم الجسمانية أو الشخصية ، وكان معظمهم من العسكريين ، وعلى أكتاف هذه الزعامة بدأت المسيرة تتجرد من المعنى الديني الذي وضعت أصوله في خيمة الاجتماع ، ولبست المسيرة رداء الغزو والاحتلال ، ولم يكن الشعب على امتداد هذه المدة يحكمه قائد واحد.
فمع تمزيق الوحدة الدينية تمزقت الأرض من تحتهم وتحولت إلى رفع للأسباط والجنود ، يقول سفر القضاء ( وفي تلك الأيام لم يكن ملك في إسرائيل ، كان كل واحد يعمل ما يحسن في عينيه ) (2).
ومن القيادات التي ذكرها السفر ، امرأة تدعى (ديورة) وكانت من العسكريين ، يقول السفر ( وديورة ... زوجة لفيدوت ، هي قاضية إسرائيل في ذلك الوقت ... وكان بنو إسرائيل يصعدون إليها للقضاء ) (3) ومنهم (جدعون) الذي قاد معارك ضد الجوالة ، (والجلعاوي) الذي حارب بني عموت ، و (شمشون) الذي حارب أهل فلسطين.
ويذكر السفر ما ترتب هذه الفتوحات وهذا القتال على الملك ، فيقول ( فسكن بنو إسرائيل في وسط الكنعانيين والحيثيين والآموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين ، واتخذوا لأنفسهم نساء ، وأعطوا بناتهم لبنيهم ، وعبدوا آلهتهم ، فعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب ، ونسوا
---------------------------
(1) يوشع 24 / 21 ـ 23.
(2) القضاة 17 / 6.
(3) المصدر السابق 4 / 4 ـ 6.
ابتلاءات الامم _ 56 _
الرب إلههم ، وعبدوا البعليم والسوارى ) (1) ( وعبدوا البعليم.
والعشتاروت ، وآلهة آرام وآلهة صيدون ، وآلهة مو آب وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيين ، وتركوا الرب ولم يعبدوه ) (2) ( وزنوا وراء البعليم وجعلوا لهم بعل يرث إلها ) (3).
وهكذا جاءت النتيجة وفقا لمقدمة انقلبوا فيها على أعقابهم بعد وفاة موسى عليه السلام بزمن يسير ، لقد ساروا بلا رأس وراء الزخرف والأهواء.
فانتهت بهم أقدامهم وهم تحت سقف الامتحان إلى التيه والضياع.
بعد أن تمزقت الوحدة الدينية واختلف الذين أوتوا الكتاب بعد أن جاءهم العلم ، وبعد أن جرت الروح العسكرية حاملة للعدوان في جسد المسيرة ، لم تجف الساحة من الأنبياء والمصلحين الذين حملوا مشاعل الفطرة على امتداد الطريق ، ومن هؤلاء (طالوت)
ويسميه العهد القديم (شاول) ، اصطفى الله طالوت وزاده بسطة في العلم والجسم ، فكان علمه منارا في ساحة ليس فيها علم يرى ، وكانت قوته معجزة في ساحة يختار أهلها الزعيم وفقا لصفاته الجسمية ومقدرته العسكرية ، ويضاف إلى هذا وذاك أن طالوتا جاء إليهم بما ضيعوه على طريق الاختلاف والافتراق ، لقد جاء ومعه تابوت موسى فيه سكينة من الله وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ، لعل المسيرة إن تتذكر وتتدبر وتؤمن.
قال تعالى : (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا
---------------------------
(1) المصدر السابق 3 / 5 ـ 7.
(2) المصدر السابق 10 / 6 ـ 7.
(3) المصدر السابق 7 / 33.
ابتلاءات الامم _ 57 _
أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ، قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ، وقال لهم نبيهم إن آية ملكة أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما
ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين) (1).
فعندما أخبرهم نبيهم بملك طالوت حكموا الحس في الأمر ، واعترضوا بأنهم أحق بالملك منه وأنه لم يؤت سعة من المال ، فحمل الرد إليهم : أن الملك وهو استقرار السلطة على مجتمع من الناس ، الغرض منه أن يدبر صاحبه المجتمع تدبيرا يوصل كل فرد من أفراده إلى كماله اللائق به ، ويجمع الناس تحت إرادة واحدة فلا يزاحم فرد فردا.
ولا يتقدم فرد من غير حق ولا يتأخر فرد من غير حق ، والذي يحقق هذا المطلب أمران :
(أحدهما) : العلم بجميع مصالح الناس ومفاسدها
(وثانيهما) القدرة الجسمية على إجراء ما يراه من مصالح المملكة ، وهما اللذان يشير إليهما قوله تعالى : (وزاده بسطة في العلم والجسم).
ثم حاصرهم الرد بحجة دافعة وهي قوله تعالى : (والله يؤتي ملكه من يشاء) أي له تعالى التصرف في ملكه كيف شاء وأراد ، وليس لأحد أن يقول : لماذا أو بماذا ، أي ليس لأحد أن يسأل عن علة التصرف لأن الله هو السبب المطلق.
ويذكر أبو الفتح السامري في تاريخه ، أن طالوتا قاتل بني إسرائيل ، وجعل ساحات البعل خالية وأبطل طرقها وإنه داهم بني إسرائيل في مرج البهاء وقتل كل من وجده في ساحة البعل ، وحفظ الشريعة اثنين وعشرين عاما (2) ولم يقف طالوت أمام الشذوذ الداخلي
---------------------------
(1) سورة البقرة آية 248.
(2) نقد التوراة / حجازي لا السقا ص 92.
ابتلاءات الامم _ 58 _
في المسيرة فقط وإنما جهز جيشا لقتال عدوه الخارجي المتمثل في (جالوت) ويسميه العهد القديم (جليات) (1) وأثناء تقدم الجيش في إتجاه المعركة ، أجرى طالوت على الجنود اختبارا على قاعدته يميز الصادق من المنافق ، لتتعرى المسيرة العسكرية التي تاجر بها بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام ، قال تعالى : (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده ، فشربوا إلا قليلا منهم ، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه ، قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) (2).
ذكر في الميزان أن الجنود كانوا في الظاهر مع طالوت ، ولكن لم يتميز بعد الطيب من الخبيث ، ولم يتحقق بعد من هم الذين مع طالوت ، فكان النهر الذي ابتلاهم به الله ، ليتعين به من ليس منه وهو من شرب من النهر ، ويتعين به من هو منه وهو من لم
يطعمه ، وبعد جواز النهر تمت المفاصلة وبقي معه الذين هم منه ، والذين لم يخرجهم من المغترفين ، والتدبر في الآيات يعطي أن يكون القائلون : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ، هم المغترفون ، والذين قالوا ( كم من فئة قليلة ) هم الذين لم يطعموا
الماء أصلا (3).
وبدأت المعركة لتظهر اسم داوود من خلالها ، قال تعالى : (ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله
---------------------------
(1) صموئيل أول 17 / 23.
(2) سورة البقرة آية 249.
(3) الميزان 285 / 2.
ابتلاءات الامم _ 59 _
الملك والحكمة وعلمه مما يشاء) (1) وعلى هذا تكون مملكة طالوت مهدت الطريق لمملكة داوود ، وبالجملة : لقد سجلت مملكة طالوت على المسيرة الإسرائيلية ، أنها مسيرة ليس فيها علم يرى لاتجاهها نحو البعل والأصنام ، وسجلت عليهم تولي أكثرهم عند إنجاز القتال قبل مجئ طالوت ، وهو قوله تعالى : (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين ، وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) الآية ، وسجل عليهم الاعتراض على ملكه ، والشرب من النهر ، وقولهم : لا طاقة لنا بجالوت وجنوده.
ونظرا لأن طالوتا بعث عليهم بالحجة والقبضة الحديدية ، فإن سيرته لم تجد لها حظا وافرا ضمن أمجاد بني إسرائيل ، والذي يقرأ سفر صموئيل يجد أن كاتب السفر قد وقع في تناقضات عديدة ، وهدم قيادة طالوت لحساب قيادة داوود ، وأكد معنى يقول أن خلاص
الشعب من طالوت كان على أيدي داوود ، ويستلزم ذلك أن مملكة داوود هي المتنفس الذي ينبغي أن تتوجه إليه المسيرة وهي تجتر ذكرياتها ، ولم ينسى كاتب السفر أن يجعل طالوت عدوا لدودا لداوود ، فذكر أن طالوتا (شاول) قال لابنه ( ما دام ابن عيسى (داوود) حيا على الأرض ، لا تثبت أنت ومملكتك ، والآن أرسل وأت به إلي لأنه ابن الموت هو ) (2) وذكر أن طالوت أمر عبيده وجنوده بقتل داوود (3) وإن داوود هرب خوفا منه (4) وقال أن طالوت قتل كهنة الرب (5).
وكانت نهايته نهاية
---------------------------
(1) سورة البقرة آية 251.
(2) صموئيل أول 20 / 30.
(3) المصدر السابق 19 / 1.
(4) المصدر السابق 27 / 1.
(5) المصدر السابق 23 / 17.
ابتلاءات الامم _ 60 _
المهزوم المكسور نتيجة لغضب الله عليه (1) لأنه حول الحرب اليهودية من حرب قومية مع الجيران ، إلى حرب جانبية لتصفية الصراعات الشخصية.
وذكر كاتب السفر أن الله زاد (شاول) بسطة في الجسم ، ولم يشر الكاتب إلى بسطة العلم ، وأدى ذلك إلى الخلط بين الحقيقة وبين الأوهام التي دثرها الخيال على امتداد طريق تداول الذكريات.
وجاء داوود عليه السلام على أرضية فيها ( التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ) وشد الله تعالى ملكه بالهيبة وحسن التدبير والمعارف الحقة ، وكانت مملكة داوود عليه السلام دعوة من أجل العودة إلى الينبوع
الفطري ، وكان تسبيح داوود عين معجزته ، فالجبال في تسبيحها توافق تسبيحه والطير يسبح معه وتقرع تسبيحها أسماع الناس ، قال تعالى : (واذكر عبدنا داوود ذا الأيدي إنه أواب ، إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ، والطير محشورة كل له أواب ، وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) (2) لقد كان التسبيح حجة على أصحاب القلوب التي قدت من حديد ، وكان حجة من شأنها إنها ترفع الصدأ الذي على القلوب لمن أراد أن يتخذ إلى ربه سبيلا ، ولم تفطن المسيرة إلى حكمة التسبيح في مملكة داوود.
وتصفحت أمام الأرض والطين وحدود مملكة داوود.
ومن بعد داوود جاء سليمان عليهما السلام ، وأعطاه الله المعجزات التي يخضع لها أصحاب العقول والأفهام والذين أفنوا حياتهم في غيبوبة بناء المقابر والأهرامات ومعابد العجول ، جاء سليمان عليه السلام بالمعجزة التي تذيب النحاس ، وأسال الله له النحاس فكان
---------------------------
(1) المصدر السابق 28 / 15.
(2) سورة ص آية 18 ـ 19.
ابتلاءات الامم _ 61 _
كالعين الجارية ، وسخر له الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وصحائف الطعام وما يجمع فيه الماء ، والقدور الراسيات التي يطبخ فيها الطعام وغير ذلك ، ولم يكن هذا من أجل الأبهة ، وإنما كان من أجل إقامة الحجة على مسيرة بشرية ، تسير تحت سقف الامتحان لينظر الله إليهم كيف يعملون.
وذكر العهد القديم أن داوود لم يأمر ببناء المحراب في أورشاليم ، وإنما أمر ببناء مذبحا في (بيدر أرونة) اليبوسي ، وعندما أراد صاحب الأرض أن يتبرع مكان المذبح ، رفض داوود عليه السلام أن يكون المكان مجانا واستشراه ، وأقام عليه المذبح (1) وأتى بالتابوت وأمر آل هارون واللاويين فحملوا التابوت ( كما أمر موسى حسب كلام الرب بالعصي على أكتافهم ) (2) وعندما بعث سليمان عليه السلام ، أمر الله تعالى ببناء البيت في أورشاليم ، يقول العهد القديم أن الله قال لداوود ( إنك أنت لا تبني البيت ، بل ابنك الخارج من حلبك هو الذي يبني البيت الأسمي ) (3) وذكر العهد القديم أن سليمان قال ( وهان ذا قائل على بناء بيت لاسم الرب إلهي ، كما كلم الرب داوود أبي ) (4).
عندما فرغ سليمان من بناء البيت ، ذكر العهد القديم أنه قال ( ليعلم كل شعوب الأرض ، أن الرب هو الله وليس آخر ، فليكن قلبكم كاملا لدى الرب إلهنا إذ تسيرون في فرائضه وتحفظون وصاياه ) (5) وأخبر
---------------------------
(1) صمونيل الثاني 24 / 23 ـ 25.
(2) أخبار الأيام الأول 15 / 15.
(3) الملوك الأول 18 / 18 ـ 20.
(4) المصدر السابق 8 / 60.
(5) المصدر السابق 8 / 61.
ابتلاءات الامم _ 62 _
بني إسرائيل أن الله يحذرهم من ترك فرائضه ، فقال : ( إن كنتم تنقلبون أنتم أو أبناؤكم من ورائي ، ولا تحفظون وصاياي وفرائضي التي جعلتها أمامكم بل تذهبون وتعبدون آلهة أخرى وتسجدون لها ، فإني أقطع إسرائيل عن وجه الأرض التي أعطيتهم إياها.
والبيت الذي قدسته لاسمي أنفيه من أمامي ، ويكون إسرائيل مثلا وهزأة في جميع الشعوب.
وهذا البيت يكون عبرة ) (1).
بعد وفاة سليمان عليه السلام انقسمت الدولة الواحدة التي وضع داوود عليه السلام أساسها ، ويمكن القول أنه بعد سليمان أصبح لدينا تاريخين لليهود الذين لم يتحدوا في مملكة واحدة بعد سليمان ، تاريخ مملكة إسرائيل في الشمال ، وتاريخ مملكة يهوذا في الجنوب ، ويمكننا القول أيضا أنه بعد سليمان أصبح لليهود قبلتين لا قبلة واحدة ، وتحديد القبلة في التوراة جاء كما يلي ( وإذا جاء بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها ، فاجعل البركة على جبل جرزيم ، واللعنة على جبل عيبال ) (2) وعلى أرضية الخلاف والاختلاف والافتراق ، قال السامريون إنها جبل ( جزريم ) وعلى ذلك دونوا توراتهم ، وقال العبرانيون إنها جبل ( عيبال ) وعلى ذلك دونوا توراتهم ، وهذه الكلمة هي التي ميزت بين التوراتين ، وفي عهد المسيح ابن مريم عليه السلام سألته امرأة سامرية عن هذا الاختلاف قالت له ( يا سيد أرى إنك نبي.
آباؤنا عبدوا الله في هذا الجبل ، وأنتم اليهود تصرون على أن أورشاليم يجب أن تكون المركز الوحيد للعبادة ، فأجابها يسوع : صدقيني يا امرأة
---------------------------
(1) المصدر السابق 9 / 6 ـ 9.
(2) التثنية 26 / 11.
ابتلاءات الامم _ 63 _
ستأتي الساعة التي فيها تعبدون الله لا في هذا الجبل ولا في أورشاليم ) (1) وكان عليه السلام يشير بذلك إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة كما سنبين في موضعه.
وجماعة اليهود مختلفون في الصحيح بين النصين حتى الآن ، فكل جماعة من اليهود تدعي أن الآخرين حرفوا هذا الموضع في التوراة ، وما زال الخلاف بين العلماء.
فآدم كلارك في تفسيره 1 / 817 ينقل عن المحقق ( كنيكات ) إنه يدعي صحة السامرية ، والمحققان (باري) و (درشيور) يدعيان صحة العبرانية (2).
ويمكننا القول أيضا أنه بعد سليمان عليه السلام صدرت قرارات رسمية من القيادة بعبادة العجول ، وأول من سن هذه السنة (يربعام) مؤسس مملكة إسرائيل الشمالية ، فعندما وجد شعبه يذهب إلى أورشاليم عاصمة خصمه ملك يهوذا ليقربوا ذبانحهم في بيت الله هناك قال : ( إن صعد هذا الشعب ليقربوا ذبائح في بيت الرب في أورشاليم ، يرجع قلب هذا الشعب إلى سيدهم ملك يهوذا ويقتلوني ) (3) ولهذا السبب أقدم على عمل واتخذ قرارا.
يقول العهد القديم : ( وعمل عجلين من ذهب ، وقال لهم (4) كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشاليم ، هوذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر ، ووضع واحد في بيت إيل وجعل الآخر في دان (5) ... وبنى المرتفعات وصير كهنة من أطراف الشعب لم يكونوا من أبناء لاوي ) (6) (والكهانة ، في سبط لاوي موقوفة على أبناء هارون)
---------------------------
(1) إنجيل يوحنا 4 / 20 ـ 22.
(2) المقارنات / د ، محمد الصادقي ص 99.
(3) الملوك الأول 12 / 25.
(4) أي قال للشعب.
(5) الملوك الأول 12 / 28 ـ 29.
(6) المصدر السابق 12 / 21 ـ 22.
ابتلاءات الامم _ 64 _
وما لبثت هذه السنة أن انتشرت ، وصدرت قرارات عليا على امتداد المسيرة تنظم هذه العبادة ، وعلى امتداد المسيرة الإسرائيلية بعث الله تعالى الأنبياء إليهم في المملكتين ، ليسوقوهم إلى سبيل الفطرة وليكونوا عليهم حجة وهم يتحركون تحت سقف الامتحان والابتلاء لينظر الله إليهم كيف يعملون ، ويذكر الكتاب المقدس أن الأنبياء الذين بعثوا في مملكة إسرائيل الشمالية هم : إيليا ، اليشع، عاموس ، هوشع ، أما الذين بعثوا في مملكة يهوذا الجنوبية فهم : يوئيل ، أشعيا ، ميخا ، صفنيا حبقوق ، أرميا ،
وكذب الشعب منهم من كذب وقتل منهم من قتل.
وسجل سفر الملوك انحرافات بني إسرائيل بعد سليمان في أكثر من موضع ، منه ( إن بني إسرائيل أخطأوا إلى الرب إلههم الذي أصعدهم من أرض مصر من تحت يد فرعون مصر ، واتقوا آلهة أخرى وسلكوا حسب فرائض الأمم الذين طردهم الرب من أمام بني إسرائيل وملوك إسرائيل الذين أقاموهم ، وعمل بنو إسرائيل سرا ضد الرب إلههم أمور ليست بمستقيمة وبنوا لأنفسهم مرتفعات في جميع مدنهم ... وأقاموا لأنفسهم أنصابا وسوارى على كل تل عال وتحت كل شجرة خضراء.
وأوقدوا هناك على جميع المرتفعات مثل الأمم الذين ساقهم الرب من أمامهم.
وعملوا أمورا قبيحة ... وعبدوا الأصنام التي قال الرب لهم عنها لا تعملوا هذا الأمر ، وأشهد الرب على إسرائيل وعلى يهوذا عن يد جميع الأنبياء وكل راء قائلا : إرجعوا عن طرقكم الردية واحفظوا وصاياي فرائضي حسب كل الشريعة التي أوصيت بها آباءكم والتي أرسلتها إليكم عن يد عبيدي الأنبياء ، فلم يسمعوا بل صلبوا أقفيتهم كأقفية آبائهم الذين لم يؤمنوا بالرب إلههم ، ورفضوا فرائضه وعهده الذي قطعه مع آبائهم وشهاداته التي شهد بها عليهم.
وساروا وراء الباطل وصاروا باطلا وراء الأمم الذين حولهم الذين أمرهم الرب أن لا يعملوا مثلهم ، وتركوا جميع وصايا الرب إلههم وعملوا
ابتلاءات الامم _ 65 _
لأنفسهم مسبوكات عجلين ، وعملوا سوارى وسجدوا لجميع جند السماء وعبدوا البعل ) (1).
وسجل أشعيا في سفره هذه الانحرافات ، ومما قال كما ذكر العهد القديم : ( أسمعي أيتها السماوات ، واصغي أيتها الأرض ، الآن الرب يتكلم ، ربيت بنين ونشأتهم ، أما هم فعصوا علي ، الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه ، أما إسرائيل فلا يعرف ، شعبي لا يفهم ، ويل للأمة الخاطئة ، الشعب الثقيل الإثم ، نسل فاعلي الشر ، أولاد مفسدين ، تركوا الرب ، استهانوا بقدوس إسرائيل ، ارتدوا إلى الوراء ، على من تضربون بعد ، تزدادون زيغانا ، كل الرأس مريض وكل القلب سقيم ، من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة ، بل جرح وإحباط وضربة طرية لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت ) (2) وقال : ( وقد ارتد الحق إلى الوراء والعدل يقف بعيدا ، لأن الصدق سقط في الشارع والاستقامة لا تستطيع الدخول ، وصار الصدق معدوما ، والحائد عن الشر يسلب ) (3).
والخلاصة لقد أقام الله الحجة على بني إسرائيل ببعث الأنبياء فيهم ، وأمرهم سبحانه أن يوفوا بعهده وأن يذكروا نعمته التي أنعمها عليهم وأن لا يعبدوا إلا إياه ، وحذرهم سبحانه من عواقب العصيان والكفر ، ولكن قست قلوبهم واندفعت قافلتهم في طريق الانحراف ، رافعة لأعلام والاستكبار في الأرض بغير حق تصد بها عن سبيل الله ، وعلى طريق الانحراف وضعوا مقدمات الفتن التي تنتهي نتائجها في سلة المسيح الدجال.
---------------------------
(1) الملوك الثاني 17 / 7 ، 10 ، 11 ، 12 ، 13 ، 17.
(2) أشعيا 1 / 3 ـ 7.
(3) المصدر السابق 59 / 14.
ابتلاءات الامم _ 66 _
ولما كان اليهود قد رفعوا على امتداد مسيرتهم بعد ذلك لافتة تقول بأنهم شعب الله المختار ، فإننا سنلقي بعض الضوء على مملكة إسرائيل في الشمال ومملكة يهوذا في الجنوب ، لتظهر رموز المسيرة ويقف الباحث على الحركة الحقيقية للقافلة ، ليقرر ماذا قدمت الصفوة والقدوة في مملكة إسرائيل الشمالية ومملكة يهوذا الجنوبية ، وهل ما قدموه يستقيم مع صراط الفطرة ، وهل تحليل حوادث هذه المرحلة التاريخية يقود إلى دوائر الأمان الغيبية التي بينها الأنبياء والرسل.