الفهرس العام

ثانيا ( دعوة المسح عليه السلام )

1 ـ ( أصول الدعوة )
2 ـ ( الدعوة والمفاصلة )
3 ـ ( الدعوة وبرامج التحريف )
4 ـ ( التبشير بالانتقال )

1 ـ ( أصول الدعوة )

  تجري دعوة المسيح عليه السلام في اتجاهين يصبان في هدف واحد ، الاتجاه الأول : دعوة بني إسرائيل وتصحيح عقائدهم واتجاهاتهم وسوقهم إلى صراط الله العزيز الحميد ، وهذا الاتجاه ينطلق من التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام ، والاتجاه الثاني : هو التبشير بنبي الإسلام خاتم الأنبياء والمرسلين ، وهذا الاتجاه ينطلق من بشارات الأنبياء السابقين ، ويبشر به المسيح عليه السلام وفقا لسنة الإخبار بالغيب عن الله ، وهي سنة جارية ، فكل نبي يخبر بالذي يليه ، ويمكن القول بأن دعوة المسيح عليه السلام دعوة تربط بين الدعوة الإلهية التي حملها بنو إسرائيل ، وبين الدعوة الإلهية التي يبعث بها النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، والدعوة الإلهية منذ ذرأ الله ذرية آدم هي دعوة واحدة ، ولا تدعو النبوة إلا إلى دين واحد وهو التوحيد ، وعلى هذا فإذا كذب الناس أحد الأنبياء فقد كذبوا كل الأنبياء في الحقيقة.
  وأصول دعوة المسيح عليه السلام في قوله تعالى : (وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي

ابتلاءات الامم _ 130 _

  من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) (1).
  فالذي حكاه تعالى عن عيسى عليه السلام ملخص دعوته ، وقد أعلن أصل دعوته بقوله ( أني رسول الله إليكم ) فأشار إلى أنه لا شأن له إنه حامل رسالة من الله إليهم ، ثم بين متن ما أرسل إليهم لأجل تبليغه في رسالته بقوله ( مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول ) الخ.
  فقوله ( مصدقا لما بين يدي من التوراة ) بيان أن دعوته لا تغاير دين التوراة ، ولا تناقض شريعتها بل تصدقها ولم تنسخ من أحكامها إلا يسيرا ، والنسخ بيان انتهاء أمد الحكم وليس بإبطال ، ولذا جمع عليه السلام بين تصديق التوراة ونسخ بعض أحكامها فيما حكاه الله تعالى من قوله (مصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) (2) ، ولم يبين لهم إلا بعض ما يختلفون فيه ، كما في قوله (قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون) (3).
  وبالجملة : فالمسيح يحمل رسالة من الله إلى بني إسرائيل ، وهذه الرسالة لا تناقض التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام ، بل هو مصدقا لما علمه الله من التوراة النازلة على موسى ، وأنه عليه السلام جاء لنسخ بعض الأحكام المحرمة المكتوبة عليهم ، كما في قوله تعالى : (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) (4) ، وما حرم عليهم أشار إليه قوله تعالى : (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) (5).

---------------------------
(1) سورة الصف آية 6.
(2) سورة آل عمران آية 50.
(3) سورة الزخرف آية 63.
(4) سورة آل عمران آية 50.
(5) سورة النساء آية 160.

ابتلاءات الامم _ 131 _

  والأناجيل الحاضرة أشارت إلى أن دعوة المسيح موجهة إلى بني إسرائيل دون غيرهم ، جاء في إنجيل متي قول المسيح ( لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ) (1) وأشارت إلى أن الدعوة لا تغاير دين التوراة ولا تناقض شريعتها بل تصدقها ، وإنها تنسخ بعض الأحكام التي انتهى أمد حكمها ، جاء في إنجيل متي قول المسيح ( لا تظنوا أني جئت لألغي الشريعة أو الأنبياء ، ما جئت لألغي بل لأكمل ) (2) ويقول متي هنري في تفسيره : إن المسيح في كل النواحي خضع للناموس وأكمله.
  أكرم والديه وقدس السبت وصلى وأعطى صدقه ، وأطاع طاعة كاملة (3).
  وكان المسيح عليه السلام يحمل المعجزات التي تؤيد صدق دعوته ، ومنها النفخ في الطين فيكون طيرا بإذن الله ، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ، وينبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم ، وكان عليه السلام يحمل معجزة العلم بالكتاب والحكمة ، وهو قوله تعالى : (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) (4) وما جاء به المسيح عليه السلام ، أصاب علماء بني إسرائيل بالدهشة ، وعلى الرغم من هذا حاولوا قتله ، جاء في إنجيل يوحنا ( صعد يسوع إلى الهيكل وبدأ يعلم الناس ، فدهش اليهود وتساءلوا : كيف يعرف هذا الكتاب وهو لم يتعلم ، فأجابهم يسوع : ليس تعليمي من عندي بل من عند الذي أرسلني ، ومن أراد أن يعمل بمشيئة الله يعرف ما إذا كان تعليمي من عند الله أو أنني أتكلم من عندي.
  من يتكلم من عنده يطلب المجد لنفسه.
  أما الذي يطلب المجد لمن أرسله فهو صادق لا إثم فيه ، أما أعطاكم

---------------------------
(1) متي إصحاح 15 / 25.
(2) المصدر السابق 5 / 17.
(3) تفسير متي هنري ص 142 / 1.
(4) سورة آل عمران آية 48.

ابتلاءات الامم _ 132 _

  موسى الشريعة ولكن ما أحد منكم يعمل بالشريعة ، لماذا تسعون إلى قتلي ؟ ) (1) ، وجاء في إنجيل متي ( بهت الجميع من تعاليمه لأنه يعلمهم كمن له سلطان ) (2).
  كان هذا هو الشطر الأول من دعوته عليه السلام ، أما الشطر الثاني فهو قوله ( ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) ومن المعلوم أن البشرى هي الخبر الذي يسر المبشر ويفرحه ، ولا يكون إلا بشئ من الخير يوافيه ويعود إليه ، والخير المترقب من بعثة النبي أحمد ودعوته ، هو انفتاح باب من الرحمة الإلهية على الناس فيه سعادة دنياهم وعقباهم ، من عقيدة حقة أو عمل صالح أو كليهما ،
  وقال صاحب الميزان : ويعود معنى كلامه ( إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا ... ) الآية.
  إلى: أني رسول الله إليكم أدعو إلى شريعة التوراة ومنهاجها ـ ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ـ وهي شريعة سيكملها الله ببعث نبي يأتي من بعدي اسمه أحمد ، وهو كذلك ، فإمعان التأمل في المعارف الإلهية التي يدعو إليها الإسلام ، يعطي أنها أدق مما في غيره من الشرائع السماوية السابقة ، وخاصة ما يندب إليه من التوحيد ، الذي هو أصل الأصول الذي يبتني عليه كل حكم ويعود إليه كل من المعارف الحقيقية ، وكذا الشرائع والقوانين العملية التي لم تدع شيئا مما دق وجل من أعمال الإنسان الفردية والاجتماعية ، إلا عدلته وحدت حدوده وقررته على أساس التوحيد ووجهته إلى غرض السعادة ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : ( الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات

---------------------------
(1) يوحنا 7 / 14 ـ 20.
(2) متي 7 / 29.

ابتلاءات الامم _ 133 _

  ويحرم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) (1).
  وقوله ( اسمه أحمد ) دلالة السياق على تعبير عيسى عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم بأحمد ، وعلى كونه اسما له يعرف به عند الناس ، كما كان يسمى بمحمد ظاهرة لا سترة عليها ، ويدل عليه قوله حسان :

صلى الإله ومن يحفف بعرشه      والطيبون  على المبارك iiأحمد
  ومن أشعار أبي طالب قوله :
وقـولوا  لأحـمد أنت iiأمرء      خلوف اللسان ضعيف السبب
ألا  إن أحـمد قـد iiجـاءهم      بـحق  ولـم يـأتهم بالكذب
  وقوله مخاطبا للعباس وحمزة وجعفر وعلي بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
كـونوا  فدى لكم أمي وما iiولدت      في نصر أحمد دون الناس أتراسا
  ومن شعره فيه صلى الله عليه وآله وسلم وقد سماه باسمه الآخر محمد :
ألـم  تـعلموا أنا وجدنا iiمحمدا      نبيا كموسى خط في أول الكتب
  ويستفاد من البيت أنهم عثروا على وجود البشارة به صلى الله عليه وآله وسلم ، في الكتب السماوية التي كانت عند أهل الكتاب يومئذ ذاك ، ويؤيده أيضا إيمان جماعة من أهل الكتاب من اليهود والنصارى وفيهم قوم من علمائهم كعبد الله بن سلام وغيره ، وقد كانوا يسمعون هذه الآيات القرآنية التي تذكر البشارة به صلى الله عليه وآله وسلم ،

---------------------------
(1) سورة الأعراف آية 157.

ابتلاءات الامم _ 134 _

  وذكره في التوراة والإنجيل ، فتلقوه بالقبول ولم يكذبوه ، ولا أظهروا فيه شيئا من الشك والترديد (1) وخلو الأناجيل الدائرة اليوم من بشارات عيسى عليه السلام بما فيها من الصراحة ، فالقرآن الكريم في غنى عن تصديقها ، لأنه الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
  وهو المعجزة الباقية ، والبشارات بنبي الإسلام (ص) لا يخلو الكتاب المقدس منها ، وبعض هذه البشارات حرفت وغيرت إما بتغيير لفظ أو محل ، وإما بزيادة أو نقصان ، أو غير ذلك.
  ولقد ذكر العهد القديم بشارات إذا تدبرها الباحث وجد أنها لا تستقيم إلا مع البعثة الخاتمة ، وسنلقي ضوءا على هذه البشارات في موضعها ، أما العهد الجديد فلقد بشر بالنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم في مواضع ، وبشر بشريعته تحت عنوان ( اقترب ملكوت السماوات ) ، وكان المسيح عليه السلام يقول لتلاميذه ( أكرزوا قائلين : إنه اقترب ملكوت السماوات ) (2) ، ومعنى الملكوت الذي أشار إليه المسيح : السلطنة والحكم ، ويشير إليه قول الله تعالى لرسوله الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ( قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله * قل فأنى تسحرون * بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون * ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ) (3) ، وقال المفسرون : الملكوت هو الملك ، بمعنى : السلطنة والحكم ، وقد فسر تعالى ملكوته بقوله : ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون * فسبحانه الذي بيده ملكوت كل شئ ) (4) ، فكون ملكوت كل شئ بيده

---------------------------
(1) الميزان 253 / 19.
(2) متي 10 / 7.
(3) سورة المؤمنون آية 88 ـ 91.
(4) سورة يس آية 83.

ابتلاءات الامم _ 135 _

  أن ملكه تعالى محيط بكل شئ ونفوذ أمره ومضي حكمه ثابت على كل شئ ، والنظر في ملكوت الأشياء يهدي الإنسان إلى التوحيد هداية قطعية ، قال تعالى : (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ وإن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعد ، يؤمنون) (1).
  فالمسيح عليه السلام بشر بالنبي الخاتم الذي تحقق شريعته الاستكمال الإنساني ، ويقوم دينه على التوحيد الذي لا يرى غير الله من يملك أي شئ ، وينطلق في دعوته من ينبوع دين الله في فطرة الإنسان نفسه ، إلى صفحة الكون الواسع العريض التي تعليه على الوجود ، إن الإيمان بالله أمر فطري ولا يحتاج إلى معجزة لتثبته ، فدعوته من الفطرة وإلى الفطرة ، ويؤكد هذا المعنى أن المسيح عليه السلام أشار إلى الفطرة وهو يتحدث عن ملكوت الله ، جاء في إنجيل متي ( في تلك الساعة تقدم التلاميذ إلى يسوع يسألونه : من هو الأعظم إذن في ملكوت السماوات ؟ فدعا إليه بولد صغير وأوقفه وسطهم وقال : الحق أقول لكم إن كنتم لا تتحولون وتصيرون مثل الأولاد الصغار ، فلن تدخلوا ملكوت السماوات أبدا ) (2) ويقول متي هنري في تفسيره : قوله ( إن لم ترجعوا ) وحسب الترجمة الإنجليزية ( يجب أن تتجددوا ) أو ( تتغيروا ، أي : يجب تجديد ذهنكم ، يجب أن يكون لكم شكل آخر وطبع آخر وأفكار أخرى ، سواء عن أنفسكم أو عن ملكوت السماوات ، يجب أن ترجعوا إلى أنفسكم ، يجب أن تصيروا مثل الأولاد (3).
  لقد دعا المسيح عليه السلام إلى طرح الاعتقادات الباطلة التي

---------------------------
(1) سورة الأعراف آية 185.
(2) متي 18 / 1 ـ 3.
(3) متي هنري 106 / 2.

ابتلاءات الامم _ 136 _

  أنتجتها المسيرة وعليها شبت الأجيال ، وعلى ثقافتها سارعوا في الأرض فسادا طمعا في نشر شباك التهويد والتوثين على الفطرة ، وبين أن هناك الشباك ستكون عائقا أمام صاحبها عندما يبعث نبي شريعة الملكوت ، ولأجل هذا فلا بد من طرح الشباك لكي تستقبل الفطرة زادها ، وشباك الاعتقادات الباطلة هذه ، أشار إليها النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، بقوله ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) (1).
  والمسيح عليه السلام كان يمهد الطريق أمام نبي الدعوة الخاتمة.
  وأقام الحجة على أصحاب شباك التعتيم في المسيرة الإسرائيلية ، لكي يستقبلوا وتستقبل أجيالهم الدعوة التي ما زالت في بطن الغيب ، على أرضية ذات شكل آخر وطبع آخر وأفكار أخرى ، ولكي يزيل المسيح عليه السلام شباك التعتيم ، كان يكلم الشعب بطريقة ضرب الأمثال لهم لعلهم يفقهون ، جاء في إنجيل متي ( فتقدم إليه التلاميذ وسألوه : لماذا تكلمهم بالأمثال ؟ فأجاب : لأنه قد أعطى لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات ، أما أولئك فلم يعط لهم ذلك ، فإن من عنده يعطي المزيد فيفيض ، وأما من ليس عنده ينتزع منه ، لهذا السبب أكلمهم بأمثال ، فهم ينظرون دون أن يبصروا ويسمعوا دون أن يسمعوا أو يفهموا ، ففيهم قد تمت نبوءة أشعيا حيث يقول : سمعا تسمعون ولا تفهمون ، ونظرا تنظرون ولا تبصرون ، لأن قلب هذا الشعب قد صار غليظا ، وصارت آذانهم ثقيلة السمع ، وأغمضوا عيونهم ، لئلا يبصروا بعيونهم ، ويسمعوا بآذانهم ، ويفهموا بقلوبهم ، ويرجعوا إلي فأشفيهم ) (2) يقول متي هنري : أجابهم المسيح أنه علم بالأمثال ، لأن بها تصبح الأمور أكثر وضوحا

---------------------------
(1) رواه الإمام مسلم ك القدر بكل مولود يولد على الفطرة (الصحيح 52 / 8).
(2) متي 13 / 10 ـ 15.

ابتلاءات الامم _ 137 _

  وسهولة ، للذين يريدون أن يتعلموا ، وفي نفس الوقت تصبح أكثر صعوبة وغموضا للجهلاء بإرادتهم ، إن للتلاميذ معرفة وأما الشعب فليس لهم معرفة ، لأن قلب هذا الشعب قد ثقل ، ولا غرابة لمن كان قلبه هكذا إذا صارت الآذان ثقيلة السمع ، ولأنهم مصرين على أن لا يروا النور آتيا إلى العالم حينما أشرق شمس البر ، بل أغلقوا نوافذهم.
  لأنهم أحبوا الظلمة أكثر من النور ، إن النظر والسمع والفهم لازمه للرجوع والتجديد (1).
  وفي أوامر المسيح للتلاميذ ( أكرزوا قائلين إنه اقترب ملكوت السماوات ) (2) يقول متي هنري : هذا هو رأس الموضوع ، ويجب أن يتوسعوا في شرحه ، ليعرف الناس أن ملكوت المسيا (3) يجب أن يؤسس الآن حسبما جاء في الكتب ، الأمر الذي يتطلب أنهم يجب أن يتوبوا عن خطاياهم ، ويتركوها لكي يؤهلوا لامتيازات هذا الملكوت ، والتوبة تتفق مع تطبيق هذا التعليم الخاص باقتراب الملكوت ، لذلك يجب أن ينتظروا وأن يسمعوا عن هذا المسيا الذي طال انتظاره ، أكثر مما سمعوا ، يجب أن يكونوا مستعدين لقبول تعاليمه والإيمان به والخضوع له ، لقد كانت المناداة بهذا كنور الصباح الذي يبشر بقرب شروق الشمس (4).
  كانت هذه إشارات إلى رسالة النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، يتبينها كل باحث عن الحقيقة ، عند تدبره لأحداث المسيرة الإسرائيلية وما أنتجته من فتن واختلافات ، وعند تدبره لمنهج البعثة

---------------------------
(1) متي هنري 433 / 1 وما بعدها.
(2) متي 10 / 7.
(3) المسيا / إشارة إلى نبي الإسلام ، راجع كتاب : المسيا المنتظر نبي الإسلام / د . أحمد حجازي السقا.
(4) متي هنري 323 / 1.

ابتلاءات الامم _ 138 _

  الخاتمة ، وما قدمه للبشرية من زاد ودواء يشفى من كل داء ، وسنقدم المزيد من هذه البشارات في موضعها.
  والخلاصة : كان الشطر الأول من دعوة المسيح عليه السلام ، يتعلق الحجة التي تهدي إلى صراط الله ، وكان الشطر الثاني من الدعوة هو تجهيز الماضي وحاضر الدعوة ، لاستقبال دعوة جديدة في أرض جديدة ، وعلى هذا فدعوة المسيح دعوة رابطة ، تهدي مسيرة إلى مسيرة ، لينطلق الجنس البشري تحت سقف الامتحان والابتلاء ، لينظر الله كيف يعملون.

2 ـ ( الدعوة والمفاصلة )

  بدأ المسيح عليه السلام في بث دعوته داخل بني إسرائيل ، واختار عليه السلام اثني عشر رجلا ليلازموه ويرسلهم ليبشروا بملكوت السماوات ، ولم تكن مهمة المسيح مهمة سهلة داخل الحي اليهودي.
  لأن هذا الحي عج بالعديد من الفرق والمؤسسات التي تتجه نحو هدف واحد.
  حددته الأطروحات والثقافات التي تقول بشعب الله المختار.
  وتنتظر المسيح بن داود ليعيد الميراث الذي أعطاه الله لإبراهيم ، ولم تكن مهمة المسيح أن يأتي لهؤلاء بما تهوى أنفسهم ، وإنما كانت مهمته أن يدعوهم إلى عبادة الله عبادة خالصة ، وأن يعيدهم إلى الطريق الذي يخلو من جميع بصمات الأمم ، ذكر إنجيل مرقص أن المسيح سئل ( أية وصية هي أول الكل ؟ وأجاب يسوع : إن أول كل الوصايا هي : إسمع يا إسرائيل الرب إلهنا رب واحد ، وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك ، هذه هي الوصية الأولى ) (1) وهذه الوصية أشار إليها القرآن الكريم ، في قوله تعالى : (ووصى بها

---------------------------
(1) مرقص 12 / 28 ـ 34.

ابتلاءات الامم _ 139 _

  إبراهيم بنيه ويعقوب ، يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا : نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون) (1) ، وفي الآية إشارة إلى أن الدين هو الإسلام كما قال تعالى : (إن الدين عند الله الإسلام) (2).
  لم تكن المهمة سهلة في الحي اليهودي الذي أغلق الأبواب حتى لا تدخل الاستقامة ، كما قال أشعيا : ( قد ارتد الحق إلى الوراء والعدل يقف بعيدا ، لأن الصدق سقط في الشارع والاستقامة لا تستطيع الدخول وصار الصدق معدوما ) (3)
  وعلى الرغم من هذا العسر وهذا الصد عن السبيل ، حددت الدعوة للمسيح دائرة عمله ، وهي قوله : ( لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ) (4) ، ولهذا قال لتلاميذه ( إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا ، بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ) (5).
  ولأن الحي اليهودي يزخر بالثقافات التي أنتجتها العقائد الوثنية ، ويزخر بالانحرافات التي أنتجها التحريف والتأويل لنصوص الكتاب ، كان لا بد من المفاصلة بين الحق وبين الباطل داخل الحي اليهودي ، ليعرف الشعب أين تكون القدوة الصالحة وتقام عليه الحجة ، فالساحة شربت من قديم ثقافة يشير إليها قول أشعيا ( صارت القرية الآمنة زانية ... كان العدل يبيت فيها وأما الآن فالقاتلون ) وقوله ( رؤسائك متمردون ولغفاء اللصوص ، كل واحد منهم يحب الرشوة

---------------------------
(1) سورة البقرة آية 133.
(2) سورة آل عمران آية 19.
(3) أشعيا 59 / 11.
(4) متي 15 / 25.
(5) متي 10 / 6.

ابتلاءات الامم _ 140 _

  ويتبع العطايا ) (1) وعندما بعث المسيح تم الفصل بين ثقافة والتمرد والرشوة وقدوتها ، وبين العقيدة التي تتميز بالزهد ويسهر عليها قدوة صالحة ، ذكر الإنجيل أن المسيح قال لتلاميذه ( مجانا أخذتم مجانا أعطوا ، لا تقتنوا ذهبا ولا فضة ولا نحاسا في مناطقكم ، ولا مزودا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا ) (2).
  ونظرا لتعدد الفرق والمؤسسات داخل الحي اليهودي ، ونظرا لوجود تعاليم تلبست بالدين وأصبحت خطرا على الفطرة ، وتهدد المسيرة البشرية بالفتن المهلكة ، فإن حركة المسيح لتصحيح المسار.
  تميزت من بدايتها بالمفاصلة بين الحق وبين الباطل حتى داخل البيت الواحد ، ليهلك من هلك عن بينة ، ذكر متي أن المسيح قال ( لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض ، ما جئت لألقي سلاما بل سيفا ، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها ، والكنة ضد حماتها ، وأعداء الإنسان أهل بيته ، من أحب أبا وأما أكثر مني فلا يستحقني ، ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني ) (3) ، ولأن الدعوة الإلهية دعوة واحدة ، ولأن المفاصلة بين الحق وبين الباطل من الأمور الفطرية ، فلقد روى أن النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم قال ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) (4).
  ولما كانت المفاصلة تقتضي أن يكون القول موافق للعمل ، أمر المسيح تلاميذه بأن لا يقتفوا أثر الكتبة الفريسيين وغيرهم من علماء

---------------------------
(1) أنظر أشعيا 1 / 2 ـ 23.
(2) متي 1 / 9 ـ 11.
(3) متي 10 / 34 ـ 38.
(4) رواه مسلم ك الإيمان (الصحيح 49 / 1).

ابتلاءات الامم _ 141 _

  الشعب ، وقال ( لا تعملوا مثل ما يعملون ، لأنهم يقولون ولا يفعلون ، بل يحزمون أحمالا ثقيلة لا تطاق ويضعونها على أكتاف الناس ، ولكنهم هم لا يريدون أن يحركوها بطرف الإصبع ، وكل ما يعملونه فإنما يعملونه لكي يلفتوا نظر الناس اليهم ، فهم يعرضون عصائبهم ويطيلون أطراف أثوابهم ، ويحبون أماكن الصدارة في الولائم وصدور المجالس في المجامع ، وأن تلقى عليهم التحيات في الساحات ، وأن يدعوهم الناس : يا معلم يا معلم ، أما أنتم فلا تقبلوا أن يدعوكم أحد : يا معلم لأن معلمكم واحد وأنتم جميعا أخوة ) (1) فالطريق الأول إتبع الأهواء وفصل بها بين القول والعمل ، وأنتج برامج وثقافات لا تتفق بصورة مع كرسي موسى وهارون عليهما السلام ، فجاء الطريق الثاني بالمفاصلة التي عليها يسير كل طريق نحو هدفه.

3 ـ ( الدعوة وبرامج التحريف )

  بدأ المسيح عليه السلام في بث دعوته داخل الحي اليهودي ، وعندما أظهر المعجزات التي أيد الله تعالى بها دعوته كانوا يقولون : ( فمن أين له هذه كلها ) (2) وآمن بيسوع كثيرون من اليهود عندما شاهدوا المعجزات (3) ولكن فرقة الفريسيين أصحاب التفسير الشفهي ، الذي يهدف إلى انتظار المسيح ابن داوود ليعيد مملكة داوود ، وقفوا من الدعوة ومعجزاتها في موقف الصد عن سبيل الله ، يذكر متي أن الفريسيين قالوا : إن المسيح لا يطرد الشياطين إلا ببلعز بول رئيس الشياطين (4) وأمام حركات الصد عن سبيل الله ، يذكر متي : أن المسيح

---------------------------
(1) متي 23 / 4 ـ 9.
(2) المصدر السابق 13 / 57.
(3) يوحنا 11 / 45.
(4) متي 12 / 24.

ابتلاءات الامم _ 142 _

  بدأ يوبخ المدن التي جرت فيها أكثر معجزاته ، لكون أهلها لم يتوبوا (1) وبدأ اليهود يتحدثون بالعقائد التي دونوها على امتداد مسيرتهم وأظهروا تقاليد شيوخهم.
  فقال لهم المسيح : ( أنتم بهذا تلغون ما أوصى به الله محافظة على تقاليدكم ، أيها المراؤون ، أحسن أشعيا إذ تنبأ عنكم فقال : هذا شعب يكرمني بشفتيه أما قلبه فبعيد عني جدا ، إنما باطلا يعبدونني وهم يعلمون تعاليم ليست إلا وصايا الناس ) (2) وبدأ علماء الشريعة يدلون بدلوهم للصد عن دعوة المسيح عليه السلام ، فقال لهم : ( الويل أيضا لكم يا علماء الشريعة ، فإنكم تحملون الناس أحمالا مرهقة وأنتم لا تمسونها بإصبع من أصابعكم ، الويل لكم ، فإنكم تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم قتلوهم ، فأنتم إذن تشهدون موافقين على أعمال آبائكم ، فهم قتلوا الأنبياء ، وأنتم تبنون قبورهم ، لهذا السبب أيضا قالت حكمة الله ، سأرسل إليهم أنبياء ورسلا فيقتلون منهم ويضطهدون ، حتى أن دماء جميع الأنبياء المكفولة منذ تأسيس العالم ، يطالب بها هذا الجيل ، من دم هابيل إلى دم زكريا الذي قتل بين المذبح والمحراب ، أقول لكم ، نعم إن تلك الدماء يطالب بها هذا الجيل ، الويل لكم يا علماء الشريعة ، فإنكم خطفتم مفتاح المعرفة ، فلا أنتم دخلتم ولا تركتم الداخلين يدخلون ) (3) وإذا كان المسيح قد الحق الجيل الذي لم يشاهد الأحداث ، بالجيل الذي شارك في الأحداث وسفك فيها دماء الأنبياء.
  فإن النبي الخاتم قي قال ( إذا عملت الخطيئة في الأرض ، كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ) (4) ، وقال ( لا تقتل نفسا ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل

---------------------------
(1) المصدر السابق 11 / 20.
(2) متي 14 / 6 ـ 9.
(3) لوقا 11 / 46 ـ 52.
(4) رواه أبو داوود حديث رقم 4345.

ابتلاءات الامم _ 143 _

  من دمها لأنه أول من سن القتل ) (1) وقال تعالى في كتابه الكريم : (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فسادا في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) (2).
  كما بدأوا في طرح ثقافة أنهم الأحق بميراث إبراهيم ، لأنهم أولاد إبراهيم ، وكان يوحنا المعمدان قد رد قولهم من قبل وقال ( يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي ، فأثمروا ثمرا يليق بالتوبة ولا تغللوا أنفسكم قائلين : لنا إبراهيم أبا ، فإني أقول لكم : إن الله قادر أن يطلع من هذه الحجارة أولاد إبراهيم ) (3) ، ومن قبل يوحنا رد حزقيال عليهم قولهم وقال ( قال الرب : إن الساكنين في هذه الخرب في أرض إسرائيل يتكلمون قائلين : إن إبراهيم كان واحدا وقد ورث الأرض ، ونحن كثيرون لنا أعطيت الأرض ميراثا ، لذلك قل لهم : هكذا قال السيد الرب ، تأكلون بالدم وترفعون أعينكم إلى أصنامكم وتسفكون الدم ، أفترثون الأرض ؟ ) (4) وفي عهد المسيح بدؤا بالصد عن سبيل الله بهذه الثقافة ، يذكر يوحنا أن المسيح قال لمن آمن به من اليهود ( إن ثبتم في كلمتي كنتم حقا تلاميذي ، وتعرفون الحق والحق يحرركم ، فرد اليهود : نحن أحفاد إبراهيم ولم نكن عبيدا لأحد ، كيف تقول لنا إنكم ستصيرون أحرارا ) (5) فالقوم ليسوا في حاجة إلى الثبات على الإيمان الذي يعرفهم الحق ويحررهم من صدأ المادة وبريق الأهواء ، واكتفوا بالوقوف في أروقة آبائهم الذين تاجروا بثياب إبراهيم ، وذكر يوحنا أن

---------------------------
(1) رواه مسلم ك القسامة ب إثم من سن القتل (الصحيح 107 / 5).
(2) سورة المائدة آية 32.
(3) متي 3 / 7 ـ 11.
(4) حزقيال 33 / 23 ـ 25.
(5) يوحنا 8 / 30 ـ 34.

ابتلاءات الامم _ 144 _

  المسيح قال لهم ) (أنا أعرف إنكم أحفاد إبراهيم ، ولكنكم تسعون إلى قتلي ، لأن كلمتي لا تجد لها مكانا في قلوبكم ) وقال ( لو كنتم أولاد إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم ) وقال لهم ( لماذا لا تفهمون كلامي ؟ لأنكم لا تطيقون سماع كلمتي ، أنتم أولاد أبيكم إبليس وشهوات أبيكم ترغبون في أن تعملوا ، فهو من البدء كان قاتلا للناس ، ولم يثبت في الحق لأنه خال من الحق ، لأنه كذاب وأبو الكذاب ) (1).
  وواجه المسيح فرقة الكتبة وفرقة الفريسيين الذين يسهرون على ثقافة شعب الله المختار الذي يرث إبراهيم من دون خلق الله ، وفيهم يقول متي هنري في تفسيره : كان الكتبة والفريسيين قساة ... لم يصروا على دقائق الناموس ولم يكتفوا بالتشديد في مراعاتها ، بل أضافوا إليه بعض الإضافات وفرضوا اختراعاتهم وتقاليدهم تحت أشد العقوبات ، وتظاهروا كثيرا بالعظمة والرآسة وافتخروا بذلك أيما افتخار ، وكانوا يحتلون المراكز الرئيسية التي تقدم إليهم على أساس أنهم أعظم الناس وأفضلهم ، وأحبوا أن يحييهم الناس عند التقائهم بهم في الشوارع ، ولقد سرهم جدا أن يشار إليهم بالبنان ويقال : قفوا بعيدا هذا فريسي قادم ، وأن يحيوا بهذا اللقب الرفيع ( سيدي ، سيدي ) (2) وجاء في إنجيل متي أن المسيح قال للكتبة والفريسيين ( الويل لكم أيها الكتبة والفريسيين المراؤون ، فإنكم تنظفون الكاس والصفحة من الخارج ، ولكنهما من الداخل ممتلئتان ، مما كسبتم بالنهب والطمع ) ( الويل لكم ... فإنكم كالقبور المطلية بالكلس تبدو جميلة من الخارج ، ولكنها من الداخل ممتلئة بعظام الموتى وكل نجاسة ، كذلك أنتم أيضا تبدون للناس أبرار ولكنكم من الداخل ممتلؤون بالرياء والفسق ) (3) الويل لكم أيها الكتبة

---------------------------
(1) يوحنا 8 / 37 ـ 40.
(2) تفسير متي هنري 279 / 2 بتصرف.
(3) متي 23 / 25 ـ 28.

ابتلاءات الامم _ 145 _

  والفريسيون المراؤون ، فإنكم تبنون قبور الأنبياء وتزينون مدافن الأبرار وتقولون : لو عشنا زمن آبائنا لما شاركناهم في سفك دماء الأنبياء ، فبهذا تشهدون على أنفسكم بأنكم أبناء قاتلي الأنبياء ، أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تفلتون من عقاب جهنم ) (1) ( الويل لكم أيها الكتبة والفريسيين المراؤون ، فإنكم تغلقون ملكوت السماوات في وجوه الناس فلا أنتم تدخلون ولا تدعون الداخلين يدخلون ) (2) ( الويل لكم ... فإنكم تطوفون البحر لتكسبوا متهودا واحدا ، فإذا تهود جعلتموه أهلا لجهنم ضعف ما أنتم عليه ) (3) فمن هذه النصوص نتبين أن القوم شهدوا على أنفسهم بأنهم أبناء قتلة الأنبياء ، وعلى الرغم من ذلك فأنهم يقفون تحت مظلة الميراث الذي كتبه الله للأنبياء ! ومن تحت هذه المظلة صدوا عن سبيل الله زمن المسيح عليه السلام ، ووضعوا العراقيل في وجه الدعوة الخاتمة التي تحمل شريعة ملكوت الله ، ويقول متي هنري في تفسيره : أغلقوا ملكوت السماوات ، بتمسكهم بالناموس الطقسي وطمسهم النبوات ... وبتأثيرهم على عقول الشعب لرفض تعاليم المسيح.
  لقد كانوا ألد الأعداء لتجديد النفوس وكانوا في غاية النشاط لتضليل النفوس ، وانضمامها إلى زمرتهم ، وكانوا يستخدمون كل حيلة.
  ويكتبون ويتكلمون ويعملون بلا كلل أو ملل ، ويجعلون الدخيل تلميذا لهم يتشبع بآرائهم ، وهكذا يصنعونه ابنا لجهنم (4).
  وكانت فرقة الفريسيين أنشط الفرق في الدعوة إلى ثقافة شعب الله المختار ، وقد خصهم المسيح بقوله كما ذكر إنجيل لوقا ( الويل لكم أيها الفريسيين ، فأنكم تحبون تصدر المقاعد الأولى في المجامع وتلقي

---------------------------
(1) المصدر السابق 23 / 29 ـ 23.
(2) المصدر السابق 23 / 13 ـ 14.
(3) المصدر السابق 23 / 15.
(4) متي هنري 287 / 2 بتصرف.

ابتلاءات الامم _ 146 _

  التحيات في الساحات العامة ، الويل لكم ، فإنكم تشبهون القبور المخفية يمشي الناس عليها وهم لا يعلمون ) (1).
  بالجملة : قال المسيح عليه السلام لليهود ( يا أولاد الأفاعي ، كيف تقدرون وأنتم أشرار أن تتكلموا كلاما صالحا ، لأن الفم يتكلم بما يفيض به القلب ، فالإنسان الصالح من الكنز الصالح في قلبه يطلع ما هو صالح ، والإنسان الشرير يطلع ما هو شرير ) (2) ولقد سجل القرآن الكريم قسوة قلوبهم في مواضع عديدة.
  منها قوله تعالى : ( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ) (3) ، كما وصف المسيح رؤوس الفرق وأتباعهم بقوله ( فهم عميان يقودون عميانا وإذا كان الأعمى يقود أعمى يسقطان معا في حفرة ) (4) وحذر تلاميذه من هذه الفرق ومن تعاليمهم التي وصفها بالخميرة ، وذلك عندما كانوا يسيرون معه ونسوا أن يتزودوا بالخبز ، يقول متي في إنجيله ( ولما وصل تلاميذه إلى الشاطئ الآخر كانوا قد نسوا أن يتزودوا خبزا فقال لهم المسيح : انتبهوا خذوا حذركم من خمير الفريسيين والصدوقيين ، فبدأوا يحاجون بعضهم بعضا قائلين : هذا لأننا لم نتزود خبزا ) ( فقال لهم المسيح : كيف لا تفهمون أني لم أكن أعني الخبز حين قلت لكم خذوا حذركم من خمير الفريسيين والصدوقيين ، عندئذ أدرك التلاميذ أنه لم يكن يحذرهم من خمير الخبز بل من تعاليم الفريسيين والصدوقيين ) (5) يقول متي هنري في تفسيره : أدرك التلاميذ أن المقصود بالخمير تعاليم وطرق الفريسيين والصدوقين الفاسدة والسيئة ، التي دبروا أن تكون قابلة

---------------------------
(1) لوقا 11 / 43.
(2) متي 12 / 33 ـ 36.
(3) سورة المائدة آية 13.
(4) متي 15 / 6.
(5) المصدر السابق 16 / 5 ـ 12.

ابتلاءات الامم _ 147 _

  للانتشار في عقول البشر كالخمير ، لقد كان أصحاب هذه الفرقة قادة للشعب ، وقد ذاع صيتهم جدا بين الناس ، الامر الذي جعل خطر عدواهم بأخطائهم أشد هولا ، ونحن نستطيع القول : أننا في عصرنا الحاضر يمكننا تشبيه موجة الكفر والإلحاد وتسلط روح المادية بخمير الصدوقيين ، والبدع والهرطقات بخمير الفريسيين (1).
  ورغم هذه التحذيرات ، انطلقت قافلة النصارى بعد ذلك وراء القديس بولس ، الذي يعود إليه تأسيس المسيحية الحاضرة التي تنادي بحق اليهود في ميراث إبراهيم بصفتهم شعب الله المختار ، وبولس في رسائله كان يقول ( إنني كنت فريسيا ، أي تابعا للمذهب الأكثر تشددا في ديانتنا ) (2) وسيأتي الحديث عن ذلك في موضعه.

4 ـ ( التبشير بالانتقال )

  على امتداد المسيرة تاجرت القافلة الإسرائيلية بهيكل أورشاليم وميراث إبراهيم ، ولم يأتيهم نبي من الأنبياء إلا وتصدى لهذه المتاجرات ، وبين لهم أن الله تعالى لا يصطفي أحدا بالاستخلاف اصطفاءا جزافا ولا يكرم أحدا إكراما مطلقا من غير شرط وقيد ، ومن هؤلاء (أرميا) فلقد قال لهم كما ورد في العهد القديم (قال الرب ... أصلحوا طرقكم وأعمالكم فأسكنكم في هذا الموضع ، لا تتكلوا على كلام الكذب قائلين : هيكل الرب هيكل الرب هو ، لأنكم إن أصلحتم إصلاحا طرقكم وأعمالكم ، إن أجريتم عدلا بين الإنسان وصاحبه ، إن لم تظلموا الغريب واليتيم والأرملة ولم تسفكوا دما زكيا في هذا الموضع ، ولم تسيروا وراء آلهة أخرى لاذائكم ، فإني أسكنكم في هذا

---------------------------
(1) متي هنري 49 / 2.
(2) أعمال الرسل 26 / 5 ـ 7.

ابتلاءات الامم _ 148 _

  الموضع في الأرض ( وبعد أن بين أرميا شرط الاستخلاف بين أن مسيرتهم لم تكن في اتجاه شرط الله ) أتسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون كذبا ، وتنجزون للبعل وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها ، ثم تأتون وتقفون أمامي في هذا البيت الذي دعي باسمي عليه ، وتقولون قد أنقذنا ، حتى تعلموا كل هذه الرجاسات ، هل صار هذا البيت الذي دعى باسمي عليه مغارة لصوص في أعينكم ) (1).
  وعندما بعث فيهم المسيح عليه السلام ، منذ ادعاءاتهم وطردهم من الهيكل ، يقول متي في إنجيله ( ثم دخل يسوع الهيكل وطرد من ساحته جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون ، وقلب موائد الصارفة ، ومقاعد باعة الحمام ، وقال لهم : قد كتب أن بيتي بيتا للصلاة يدعى ، أما أنتم فقد جعلتموه مغارة لصوص ) (2).
  فالقوم تاجروا بالهيكل على امتداد المسيرة ، في الوقت الذي جعلوا فيه البيت مغارة لصوص ، كما جاء على لسان أرميا في العهد القديم وعلى لسان المسيح في العهد الجديد ، والقوم كانوا يعلمون أن سلوكهم في اتجاه عبادة المادة ، يعني انتقال القيادة إلى غيرهم ، وأن أعلام الاستخلاف سيرفعها قوم آخرين ، لينظر الله كيف يعملون تحت سقف الامتحان والابتلاء ، ونصوص سلب أعلام الاستخلاف من أيديهم كثيرة ، منها قول أرميا : قال الرب ( ها أنذا أنساكم نسيانا وأرفضكم من أمام وجهي أنتم والمدينة التي أعطيتكم وآباءكم إياها ، وأجعل عليكم عارا أبديا وخزيا أبديا لا ينسى ) (3).
  فهذا النص يفيد رفض الله لهم وأبدية العار والخزي عليهم ، فافهم

---------------------------
(1) أرميا 7 / 4 ـ 11.
(2) متي 21 / 12 ـ 14.
(3) أرميا 23 / 40.

ابتلاءات الامم _ 149 _

  ذلك ، ثم يقول أرميا ( وأجعلك تخدم أعداءك في أرض لم تعرفها ، لأنكم أضرمتم نارا بغضبي تتقد إلى الأبد ) (1) ، وهذا النص يفيد غضب الله على القاسية قلوبهم إلى الأبد ، وقبل أرميا قال أشعيا ، قال الرب ( هو ذا من أجل آثامكم بعتم ، ومن أجل ذنوبكم طلقت أمكم ) (2).
  والقوم كانوا يعرفون إلى أين ستنتقل أعلام الاستخلاف ، لكنهم عتموا على هذه البشارات بالتحريف أو بالتغيير ، ولقد ذكر أشعيا وغيره هذه البشارات ، وفيها رمز إلى المكان الجديد بأسماء عديدة منها : العاقر التي لم تلد ، وهذا الاسم يعود وفقا للأوصاف التي ذكرت في أشعيا على بيت الله الحرام بمكة شرفها الله ، يقول ( ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد ، أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل ، قال الرب : أوسعي مكان خيمتك ولتبسط شقق مساكنك ، لا تمسكي ، أطيلي أطنابك وشددي أوتارك لأنك تمدين إلى اليمين وإلى اليسار ، ويرث نسلك أمما ويعمر مدنا خربة ، لا تخافي لأنك لا تحزنين ) (3) ، ( قال وليك الرب : لأنه كمياه نوح هذه لي ، كما حلفت أن لا تعبر بعد مياه نوح على الأرض ، هكذا حلفت أن لا أغضب عليك ولا أزجرك ، فإن الجبال تزول والآكام تتزعزع ، أما إحساني فلا يزول عنك ، وعهد سلامي لا يتزعزع ، (4) ، فالنصوص تحدثت عن خراب أبدي داخل الحي اليهودي ، وأخبرت عن سلام أبدي لأبناء العاقر التي لم يبدأ أنبيائها بعد في إقامة حجة الله على المسيرة البشرية ، ثم يقول أشعيا في ندائه الذي يدعو فيه

---------------------------
(1) المصدر السابق 17 / 2 ـ 4.
(2) أشعيا 50 / 1.
(3) أشعيا 54 / 1 ـ 4.
(4) المصدر السابق 54 / 7 ـ 10.

ابتلاءات الامم _ 150 _

  المسيرة البشرية للتوجه إلى البناء الجديد ، الذي بنى الله بالأثمد حجارته ، وأسسه بالياقوت الأزرق ، وجعل كل تخومه حجارة كريمة (1) فيقول : ( أيها العطاشى جميعا هلموا إلى الحياة ، وبالذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا ، هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن ) (2) ويقول أشعيا موجها حديثه إلى مسيرة الحي الإسرائيلي ( أما أنتم الذين تركوا الرب ونسوا جبل قدسي (3) فإني أعينكم للسيف وتجثون كلكم للذبح ، لأني دعوت فلم تجيبوا ، تكلمت فلم تسمعوا ، بل عملتم الشر في عيني الرب واخترتم ما لم أسر به ، لذلك هكذا قال السيد الرب : هوذا عبيدي يأكلون وأنتم تجوعون ، هوذا عبيدي يشربون وأنتم تعطشون ، هوذا عبيدي يفرحون وأنتم تحزنون ، هوذا عبيدي يترنمون من طيبة القلب وأنتم تصرخون من كآبة القلب ، ومن انكسار الروح تولولون ، وتخلفون اسمكم لعنة لمختاري فيميتك السيد الرب ، ويسمي عبيده اسما آخر ، فالذي يتبرك في الأرض ، يتبرك بإله الحق ، والذي يحلف في الأرض يحلف بإله الحق ) (4).
  وبالجملة : لقد أخبرهم أشعيا بأن القيادة ستنتقل إلى أمة لا يزول إحسان الله عنها ، وأخبرهم بأن قبلة هذه الأمة ليست في جبل من جبال الحي اليهودي ، وإنما ستكون على أرض جديدة وتحت سماء جديدة ولها اسم جديد ، قال ( ها أنذا خالق سماوات جديدة وأرضا جديدة ، فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال ) (5) وهذه النصوص التي

---------------------------
(1) أشعيا 54 / 11 ـ 13.
(2) المصدر السابق 55 / 1 ـ 2.
(3) يشير إلى اختلافهم في تحديد الجبل الذي توضع عليه البركة ، أي الجبل الذي يحدد القبلة.
(4) أشعيا 65 / 11 ـ 15.
(5) المصدر السابق 65 / 17.

ابتلاءات الامم _ 151 _

  ذكرها أشعيا في العهد القديم ، فسرتها رؤيا يوحنا في العهد الجديد.
  ففي وصفه للبيت الجديد يقول يوحنا ( لم أجد في المدينة هيكلا ) (1).
  وقال عن البناء الجديد ( رأيت سماء جديدة وأرضا جديدة لا بحر فيها ، لأن السماء والأرض القديمتين قد زالتا ، وأنا رأيت المدينة المقدسة أورشاليم الجديدة (2) ، نازلة من عند الله مجهزة كأنها عروس مزينة لعريسها ، وسمعت صوتا هاتفا من العرش ) الآن صار بيت الله وسط الناس ) (3) ، ثم يقول يوحنا في رؤياه ( وكانت أرض المدينة مربعة طولها يساوي عرضها ) (4) ، قال مفسرو الكتاب المقدس : أي مكعبة (5) ثم أخبر يوحنا أن أعلام الدعوة الجديدة بيد ( الأمين الصادق ) (6) وهذا الاسم يشير إلى النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو أيضا مختصر لسيرته الشريفة قبل البعثة وبعدها ، وجاء ذكر الأمين الصادق في رؤيا يوحنا مرتين ، المرة الأولى يشير فيها إلى النبي (ص) وإلى دعوته التي يقول فيها لأهل الكتاب وغيرهم ( نصيحتي إليك أن تشتري مني ذهبا نقيا صنفته النار فنفتني حقا ، وثياب بيضاء ترتديها فتستر عريك المعيب ، وكحلا لشفاء عينيك فيعود إليك البصر ، إني أوبخ وأؤدب من أحبه ، لذا كنا حارا وتب ) (7) ، أما المرة الثانية التي ورد فيها اسم ( الأمين الصادق ) فقد جاءت عندما تحدث يوحنا عن معارك آخر الزمان ، وورود الاسم في هذا الموضع يشير إلى المهدي المنتظر ، ولقد روي عن النبي

---------------------------
(1) رؤيا يوحنا 21 / 22.
(2) إشارة إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة.
(3) رؤيا 21 / 1 ـ 4.
(4) المصدر السابق 21 / 16.
(5) أنظر كتابنا المسيح الدجال ط دار الهادي بيروت ، ط دار الفتح للإعلام العربي القاهرة.
(6) ا لرؤيا 3 / 14.
(7) المصدر السابق 3 / 18 ـ 20.

ابتلاءات الامم _ 152 _

  صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ( المهدي من عترتي من ولد فاطمة ) (1) وقال ( لا تقوم الساعة حتى يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي ) (2) وفي ذكر أحداث آخر الزمان يقول يوحنا في رؤياه ( وإذا حصان أبيض يسمى راكبه ) الأمين الصادق ( الذي يقضي ويحارب بالعدل ) (3) وفي الحديث الشريف قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلما وجورا وعدوانا ، ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ) (4) وسيأتي الحديث عن المهدي في موضعه.
  فالقوم على امتداد مسيرتهم كانوا على علم بأن الله سينزع الملك من أيديهم ويسلمه إلى أمة أخرى لينظر الله إلى قافلتها ماذا تفعل تحت سقف الامتحان والابتلاء ، وعندما بعث الله تعالى المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، كانت بعثته آخر ورقة أخرجها الله من الشجرة الإسرائيلية على أنبيائها ورسلها الصلاة والسلام ، ولقد أخبرهم المسيح بهذا الانتقال وبشرهم بالنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخبرهم أن دعوة البعثة الخاتمة تقضي بوقوف الاستكمال الإنساني ، فعدم نسخ الدين وثبات الشريعة.
  يستوجب أن الاستكمال الفردي والاجتماعي للإنسان هو هذا المقدار الذي اعتبره الدين الخاتم في بيانه وتشريعه.
  وباختصار شديد أخبرهم أن شريعة الرسالة الخاتمة هي حكم الله الذي

---------------------------
(1) رواه أبو داوود والحاكم بسندين صحيحين (التاج الجامع للأصول 343 / 5) (أبو داوود 107 / 4) (كنز العمال 264 / 14).
(2) قال في الفتح الرباني ، رواه الإمام أحمد وأبو داوود والترمذي بمعناه ونحوه وقال حديث حسن صحيح وأورده الحاكم وصححه (الفتح 49 / 24).
(3) رؤيا يوحنا 19 / 11.
(4) رواه الحاكم وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (المستدرك 557 / 4).

ابتلاءات الامم _ 153 _

  له ملك السماوات والأرض وإليه مصير الأمور ، فمن آمن بها وخضع لها استظل بأمن صاحب الملكوت سبحانه وتعالى.
  وإخبار المسيح عليه السلام بانتقال القيادة من أمة إلى أمة ، جاء في أكثر من موضع في الأناجيل الحاضرة ، ومن ذلك ، عندما سألته امرأة عن الاتجاه الحقيقي للقبلة بعد أن اختلف اليهود في تحديدها ، فبينما تصرح التوراة العبرانية أن القبلة في جبل (عيبال) تصرح التوراة السامرية أن القبلة في جبل (جرزيم) ، وكان لهذا الاختلاف أثرا عميقا في المنازعات التي دارت بين يهود السامرة وبين يهود أورشاليم ، على امتداد المسيرة الإسرائيلية ... جاء في كتاب سيرة المسيح (1) : أن المسيح مر بالسامرة ، فأرسل خبرا إلى قرية السامرة قصد أن يبيت فيها مع تلاميذه ، فهاج التعصب السامري لما سمعوا بقدومه ومعه جماعة من اليهود متجهين إلى أورشاليم ليؤدوا فيها فروض الدين ، لأن السامريين يتمسكون بوجوب تأديتها في جبلهم المقدس (2) ، وهياج التعصب سجله لوقا في إنجيله فقال ( وأرسل (المسيح) أمام وجهه رسلا ، فذهبوا ودخلوا قرية للسامريين حتى يعدوا له ، فلم يقبلوه لأن وجهه كان متجها نحو أورشاليم ) (3) ويقول يوحنا في إنجيله أن امرأة سامرية قالت يومئذ للمسيح يا سيدي ، أرى إنك نبي ، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل ، وأنتم تقولون إن في أورشاليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه ، فأجابها يسوع : صدقيني يا امرأة ، ستأتي الساعة التي فيها تعبدون الأب لا في

---------------------------
(1) سيرة المسيح ط كنيسة قصر الدوبارة القاهرة.
(2) المصدر السابق ص 327.
(3) لوقا 9 / 51.

ابتلاءات الامم _ 154 _

  هذا الجبل ولا في أورشاليم ) (1) ... إن الخطوط العريضة لهذا النص تفيد انتقال القبلة من مكان إلى مكان آخر ، فوق أرض جديدة ، وتحت سماء جديدة.
  تتحرك أعلامها لفتح الطريق أمام الفطرة ، فيشتري الناس بلا فضة وبلا ثمن ، ذهبا نقيا.
  وثياب بيضاء تستر العري المعيب ، وكحلا يشفي العين فيعود البصر من جديد.
  وبعد ذكر خبر انتقال القبلة بشرهم المسيح عليه السلام بشريعة الله الذي له ملكوت كل شئ ، وهي الشريعة التي كان يوحنا المعمدان يبشرهم بها من قبل ، كما بشرهم المسيح عليه السلام بالنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، جاء في إنجيل متي ، أن المسيح دخل هيكل أورشاليم ( وفيما هو يمشي في الهيكل ، أقبل إليه رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ وقالوا له : بأي سلطان تفعل ما تفعله ؟ ومن منحك هذه السلطة ؟ فأجابهم يسوع قائلا : وأنا أيضا أسألكم أمرا واحدا ، فإن أجبتموني أقول لكم أنا كذلك بأي سلطة أفعل ما أفعله ، من أين كانت معمودية يوحنا من السماء أم من الناس ؟ فتشاوروا فيما بينهم قائلين : إن قلنا له أنها من السماء ، يقول لنا فلماذا لم تصدقوه ، وإن قلنا من الناس نخشى أن يثور علينا جمهور الشعب لأنهم كانوا يعتبرون يوحنا نبيا فأجابوه : لا ندري ، فرد قائلا : ولا أنا أقول لكم بأي سلطة أفعل ما أفعل ) (2) يقول متي هنري في تفسيره : عندما عجزوا عن الاعتراف بالمعرفة ، اعترفوا بالجهل ، ثم يلاحظ أيضا أنهم كانوا كاذبين عندما قالوا : لا نعلم لأنهم كانوا يعرفون أن معمودية يوحنا (يحيى) كانت من الله ، لقد برهنوا على أنهم ليسوا جديرين بالتحدث معهم ، لأن أناسا هذه

---------------------------
(1) يوحنا 4 / 22.
(2) متي 21 / 23 ـ 28.

ابتلاءات الامم _ 155 _

  حالتهم لا يمكن اقتناعهم بالحق (1) ثم أخبرهم المسيح عليه السلام بنبوءة فيما بين أيديهم من الكتاب فقال لهم كما جاء في إنجيل متي ( ألم تقرؤا في الكتاب : الحجر الذي رفضه البناة هو نفسه صار حجر الزاوية الأساسي ، من الرب كان هذا وهو عجيب في أنظارنا ، لذلك أقول لكم : إن ملكوت الله سينزع من أيديكم ويسلم إلى شعب يؤدي ثمره ، فأي من يقع على هذا الحجر يتكسر ، ومن يقع الحجر عليه يسحقه سحقا ) (2).
  والمسيح عليه السلام كان يشير بموضع الحجر الذي رفضه البناة إلى النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، فلقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله ، فجعل الناس يطيفون به يقولون : ما رأينا بنيانا أحسن من هذا ألا هذه اللبنة ، فكنت أنا تلك اللبنة ) (3) وعنه أنه قال ( مثلي ومثل الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل ابتنى بيوتا فأحسنها وأجملها وأكملها ، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها ، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان فيقولون : ألا وضعت ههنا لبنة فيتم بنيانك ، فكنت أنا اللبنة ) (4) وفي رواية ( فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ) (5) وفي رواية ( فأنا موضع اللبنة ، جئت فختمت الأنبياء ) (6).
  وموضع الحجر الذي ورد على لسان المسيح ولسان محمد عليهما الصلاة والسلام وهما يضربان الأمثال للناس ، جاء ذكره أيضا على لسان

---------------------------
(1) متي هنري 221 / 2.
(2) متي 21 / 42 ـ 45.
(3) رواه مسلم (الصحيح 64 / 7).
(4) رواه مسلم (الصحيح 64 / 7).
(5) رواه مسلم (الصحيح 65 / 7).
(6) رواه مسلم (الصحيح 65 / 7).

ابتلاءات الامم _ 156 _

  داوود عليه السلام في تسبيحة من تسبيحاته ، جاء في العهد القديم أن داوود قال ( أحمدك لأنك استجبت لي وصرت لي خلاصا ، الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية ... آه يا رب خلص! آه يا رب انقذ ... مبارك الآتي باسم الرب ... الرب هو الله ، وقد أنار لنا ... إلهي أنت ، فأحمدك إلهي ... احمدوا الرب لأنه صالح ، لأن إلى الأبد رحمته ) (1).
  لقد علم القوم بما في بطون الأيام ، وذلك عندما بشرهم الأنبياء وهم يخبرون بالغيب عن ربهم جل وعلا ، عرفوا ذلك من داوود بعد أن أقام مملكته ، وعرفوه من أشعيا قبل سبي الأسباط العشرة (2).
  وعرفوه من دنيال وحزقيال أثناء سبي مملكة يهوذا (3) ، وعرفوه من زكريا (4) ويوحنا (يحيى) الذي ورث زكريا وورث آل يعقوب ، وعندما بعث فيهم المسيح آخر أبناء آل عمران وآخر وريث لآل يعقوب ، قال لهم كما أخبر الله في كتابه ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ... ) (5) فبين لهم ما اختلفوا فيه وأقام عليهم الحجة بالكتاب ، ثم بشرهم بخاتم الأنبياء والمرسلين فأقام عليهم الحجة بالبلاغ وبما هو مسطور عندهم في الكتاب وشهد به الله تعالى في قوله (الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) (6).
  وبعد أن أتم المسيح عليه السلام دعوته بشطريها ، شطر دعوة

---------------------------
(1) مزامير 118 / 22.
(2) أشعيا 28 / 16.
(3) دانيال 2 / 35.
(4) زكريا 4 / 7.
(5) سورة الصف آية 6.
(6) سورة الأعراف آية 157.

ابتلاءات الامم _ 157 _

  بني إسرائيل إلى التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى ، وتبيينه لهم بعض ما يختلفون فيه ، وشطر التبشير بالنبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم ، وإخبارهم بأن ملكوت الله سينزع من أيديهم ويسلم إلى شعب يؤدي ثمره ، ورد في إنجيل مرقس أن أحد التلاميذ قال للمسيح وهو يغادر الهيكل الأورشاليمي ( يا معلم أنظر ، ما أجمل هذه الحجارة وهذه المباني العظيمة ، فأجاب يسوع : لن يترك منها حجر فوق حجر إلا ويهدم ) (1) وتحققت نبوءة المسيح عليه السلام ، فلقد حاصر تيطسى الروماني أورشاليم سنة (70 م) حتى سقطت في يده وهدم الهيكل وأشعل فيه النار فلم يبق فيه حجر على حجر لم ينقض ، وفي عام (125 م) طرد الإمبراطور (هادريا) اليهود من أورشاليم ، وفي عام (435 ميلادية) ألغى الإمبراطور (تيودوسيوس) الحاخامية اليهودية ، وفي عام (614 م) تخلت فلسطين نهائيا عن زعامة اليهود ، وفتحت الابواب لشعب آخر ليقود المسيرة تحت سقف الامتحان والابتلاء لينظر الله كيف يعملون ، وسيأتي ذلك في موضعه.

---------------------------
(1) مرقس 13 / 2.