بسم الله الرحمن الرحيم
الأهداء
إلى التي من ذكر بنيها استعبر قلبه ، و همِلت دمعته
ومن أصابته حيرة قرأ لروحها الفاتحة ، و دعا الله بجاهها فاستجاب
زوجة الكرّار
حبيبة الزهراء
اُمّ قمر بني هاشم
اُمّ الشهداء الأربعة
اُمّ البنين ، فاطمة بنت حِزام
نسألها الدعاء
ومنه القبول و الاستجابة
أبوذر
التنبيه بالمعلوم
_ 9 _
مقدّمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصّلاة و السلام على خير الأنام محمّد وآله الطّيبين الطّاهرين ، وأصحابه المنتجبين ، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين .
لقد كانت العصمة ولا تزال معركة لآراء الباحثين و العلماء منذ العصر الاسلامي الأول ، بل منذ الأيام الاولى لبعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله حيث بدأت عمليّة التّشكيك بعصمة الرّسول صلّى الله عليه وآله ، و التي أخذت طرقا و أساليب مختلفة وعلى شكل اشاعات مغرضة مخطط لها مسبقاً ، وبلغت قمة التشكيك بالعصمة في ذلك اليوم المشؤوم الذي حال فيه الفاروق بين الرسول و الكتاب الذي أراد كتابته للامّة حتى لا تضلّ بعده ، فقال عمر: أن الرسول ليهجر ، فنسب الهجر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله الذي لا ينطق عن الهوى .
وقبل أن نعرج إلى بعض هذه الشائعات و معرفة السبب الحقيقي الذي دفع القوم للتشكيك بعصمة الرسول ، بل والصاق بعض الأعمال به لا تليق بأبسط الناس .
لنتحدث قليلاً عن المعنى اللغوي و الاصطلاحي للعصمة .
يقول ابن منظور : العصمة في كلام العرب المنع ... وهذا طعام يعصم :
التنبيه بالمعلوم
_ 10 _
اي يمنع من الجوع ... والعاصم : المانع الحامي ، و الإعتصام ، الإمتساك بالشئ .
(1)
وفي المصباح المنير قال : عصمهُ الله من المكروه ، يعصمه : من باب ضرب ، حفظه ووقاه .
(2)
و في مجمع البحرين قال حول قوله تعالى : ( لا عاصم اليوم من امر الله ) : أي لا مانع اُعصم به .
وعصمة الله للعبد : منعه من المعصية ... وقال المعصوم : هو الممتنع من جميع محارم الله .
(3)
وقال الرازي : العصمة : المنع .
(4)
هذا لغة ـ أمّا اصطلاحا :
فالمراد من المعصية : هي تنزيه النبيّ صلّى الله عليه وآله عن أفعال معيّنة تخلّ بجلالة مقام النبوّة والهدف منها .
وهذا التنزيه هو نعمة و لطف من الله تعالى لأنبيائه عليهم السلام .
قال الشيخ المفيد : العصمة : لطف يفعله الله بالمكلّف ، بحيث يمنع منه وقوع المعصية ، وترك الطاعة ، مع قدرته عليهما .
(5)
وقال الطوسي : العصمة : هي كون المكلف بحيث لا يمكن أن يصدر عنه
---------------------------
(1) لسان العرب 403:12 .
(2) المصباح المنير: 414 .
(3) مجمع البحرين : ج 6 باب عصم .
(4) مختار الصحاح 437 .
(5) النكت الاعتقادية: 33 .
التنبيه بالمعلوم
_ 11 _
المعاصي من غير إجبار له على ذلك .
(1)
وقال السيّد عبدالله شبّر : العصمة : عبارة عن قوة العقل من حيث لا يغلب ، مع كونه قادراً على المعاصي كلها ، كجائز الخطأ ، وليس معنى العصمة أن الله يجبره على ترك المعصية بل يفعل به الطافاً ، يترك معها المعصية باختياره مع قدرته عليها .
(2)
وعلى ضوء هذه الاقوال تكون العصمة :
أ ـ لطف ربّاني بالنبيّ صلى الله عليه وآله و بدونه لا تحصل له .
ب ـ لا تعني جبرالمعصوم على الفعل ، أو الترك .
ج ـ تحصل باسبابها الطبيعية التي يجعلها الله ، ككمال العقل ، والفطنة ، و قوّة الإستعداد ...
د ـ ثابتة عن الذنب ، والقبيح و الخطأ والنسيان والسهو ...
أما أقسام العصمة فيمكن إجمالها في خمسة أقسام هي :
1 ـ العصمة عن الذنب والقبيح .
2 ـ العصمة عن السهو أو النسيان .
3 ـ العصمة عن الإخلال بالمروءات كالأكل في الطرقات .
4 ـ العصمة عن الخطأ .
5 ـ العصمة عن المرجوحات كفعل المكروهات و ترك الأولويات .
ونعود الآن لذكر أهم الشائعات التي أثارها القوم للتشكيك بعصمة الرسول صلّى الله عليه وآله :
---------------------------
(1) قواعد العقائد: 93 .
(2) حقّ اليقين 1: 91 .
التنبيه بالمعلوم
_ 12 _
الشائعة الاُولى : و نصّها كما يلي : فقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص بقوله : ( كنت أكتب كلّ شئء أسمعه من رسول الله اُريد حفظه ، فنهتني قريش و قالوا : تكتب كل شئء سمعته من رسول الله ، ورسول الله بشر يتكلّم في الغضب و الرضى ؟! فأمسكت عن الكتابه ، فذكرت ذلك لرسول الله ، فأومأ بإصبعه إلى فمه ، وقال : اكتب : فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلّا حقّاً) .
(1)
و لهذا نهى أبوبكر و من بعده عمر عن كتابه أحاديث الرسول صلّى الله عليه وآله ، بل إنّ الثاني إتّخذ سياسة صارمة ضد كلّ من يحاول نشر أحاديث رسول الله صلّى الله عليه و آله .
الشائعة الثانية : و نصّها : ( أن رسول الله كان يغضب فيلعن و يسبّ و يؤذي من لا يستحقّها ، و دعا الله أن تكون لمن بدرت منه زكاة وطهوراً) .
(2)
فرسول الله الذي وصفه سبحانه وتعالى قوله ( و إنّك لَعَلَى خُلق عَظيم )
(3) ، يسبّ و يلعن ، و إنّ الّذين لعنهم رسول الله أمثال أبي سفيان و معاوية و يزيد ، والحكم إبن العاص مزكّون مطهّرون بنص دعاء النبي لهم !
الشائعة الثالثة : ونصّها : ( أنّ بعض اليهود سحروا رسول الله حتى ليخيّل إليه أنّه يفعل الشيء وما فعله) .
(4)
---------------------------
(1) سنن أبي داود 3: 318ح2646 ، سنن الدرامي1 : 125 ، مسند أحمد 2 : 162 ، مستدرك الحاكم 1: 105 .
(2) صحيح البخاري 4: 96 ، صحيح مسلم 4: 2007 .
(3) سورة القلم: 4.
(4) صحيح البخاري4: 148 وج 7: 176 وج 8: 22 ، صحيح مسلم4 : 1719ح43 .
التنبيه بالمعلوم
_ 13 _
الشائعة الرابعة :
انّ الرسول يهجر .
و ملخّص قصّة الهجر هذه : إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال للمجتمعين حوله في مرضه الّذي توفّي فيه : قربوا أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً .
فقال عمر على الفور : حسبنا كتات الله ، إنّ رسول الله قد هجر ـ أي يهذي ـ و لهذا فأنّ إبن عباس أطلق على هذا اليوم الذي حال فيه عمر بين رسول الله وكتابة وصيّته ب (يوم الرزية) .
(1)
وقد صرّح عمر بعد بأن رسول الله ( أراد أن يصرّح باسم علي بن أبي طالب ، فمنعته ) .
(2)
الشائعة الخامسة :
النبي مجتهد .
والقصد منها إقناع المسلمين بإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله ليس أكثر من مجتهد يقول برأيه ، فأن أصاب فله أجر، وإن أخطأ فله أجران !
ولهذا اتّبعوا سياسة التبرير في تصرفاتهم المخالفة للقرآن و السنّة ، فهم اجتهدوا كما اجتهد الرسول ، فعمر اجتهد بمنع رسول الله من كتابة وصيتّه و إتّهامه بالهذيان ، وأبوبكر اجتهد بتخلّفه عن سرية اًسامة
(3)، التي لعن رسول الله المتخلّفين عنها ، وخالد بن الوليد اجتهد عندما قتل مالك بن نويرة و تزوّج
---------------------------
(1) راجع :صحيح البخاري 6: 11 وج9: 137 ، صحيح مسلم2 : 16 وج 5 : 75 ، مسند أحمد1: 222 و 355 ، تاريخ الطبري 3 : 193 ، الكامل في التاريخ: 2 : 320 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12 : 87.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12 : 79 .
(3) برّر إبن أبي الحديد تخلّف أبوبكر و عمر عن جيش اُسامة بقوله : ( إنّ الرسول كان يبعث السرايا عن اجتهاد لا عن وحي يحرم مخالفته) .
انظر: شرح نهج البلاغة 17 : 188 .
التنبيه بالمعلوم
_ 14 _
زوجته في نفس الليلة ، و اجتهد عثمان بإعادة طريد الرسول الحكم بن العاص الى المدينة معزّزا مكرّماً و أعطاه صدقات المسلمين .
(1)
و روى الحاكم عن عبد الرحمن بن عوف : ( كان لا يولد لأحد مولود إلا أتى به النبي فدعا له ، فاُدخل عليه مروان بن الحكم ، فقال الرسول : هذا الوزغ بن الوزغ ، الملعون بن الملعون ).
(2)
و مع هذا أصبح هذا الوزغ بالاجتهاد خليفة للمسلمين و أميراً للمؤمنين ، بل و اُعطي فدكاً بعد أن سُلبت من فاطمة الزهراء عليها السلام بضعة النبي صلّى الله عليه و آله .
(3)
الشائعة السادسة:
ونصّها : ( أنّ النبي سمع رجلاً يقرأ في المسجد،فقال الرسول:رحمة الله أذكرني كذاوكذا آية اسقطتها من سورة كذا ).
(4)
و القصد من هذه الشائعة كما هو واضح التشكيك بذاكرة النبي صلى الله عليه و آله ، و انه يسقط بعض آيات القرآن .
إذن فالرسول ـ وفق هذه الشائعات وغيرها ـ يسهو و ينسى و يغضب و يرضى و يهذي و يجتهد ، فهو كسائر البشر ، لا يختلف عنهم في شيء .
و بما أن كتابنا هذا يتحدث عن السهو و النسيان عند النبي صلّى الله عليه و آله فسوف يقتصر حديثنا حول هذه الشبهه تاركين ـ للقارىء العزيز ـ حرية إختيار الكتب الكثيرة التي تحدّثت عن موضع العصمة .
و المسلمون لهم آراء متضاربة في هذه المسألة ، فعلماء الشيعة مجمعون على عصمة الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام عن الذنب والسهو و النسيان
---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي 2 : 168 .
(2) مستدرك الحاكم4: 479 .
(3) المعارف لابي قتيبة : 112 .
(4) صحيح البخاري 3 : 225 وج 6 : 238ـ239 ، صحيح مسلم1 : 543 ح 224 .
التنبيه بالمعلوم
_ 15 _
و الخطأ و فعل القبائح و ما ينفر الناس منهم قبل البعثة و بعدها . فهو ( مذهب أصحابنا ) .
(1)
و لم يعلم من خالف أقطاب الشيعة في ذلك إلّا الشيخ الصدوق و شيخه محمد بن الحسن بن الوليد اللذين التزما بجواز السهو على النبي صلّى الله عليه وآله ، و ذلك بإسهاء الله له ، وهو يخالف سهو الناس لأنّه من الشيطان .
(2)
و الروايه التي اعتمد عليها الشيخ الصدوق ـ و التي ستطّلع على تفاصيلها ـ نقلت بطريق الخاصّة والعامّة
(3) ، مع تضارب شديد في مضامينها ، ففي رواية إنه صلوات الله عليه نسى ركعتين فذكّره ذو الشمالين !
(4)
وفي رواية اخرى تعلل هذا السهو : إنما أراد الله أن يفقّههم .
(5)
و في اخرى : إنّ الله عزّوجل هو الّذي أنساه رحمة للاُمّة .
(6)
و هذه القصّة نقلت كما ذكرنا عند العامّة بألسنة مختلفة ، فتارة ذكروا أنّ الصلاة كانت عصراً ، و تارة أنها ظهراً ، و تارة أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله دخل الحجرة ، ثم خرج ليكمل الصلاة .
ولا سبيل لنا لاثبات عصمة الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام عن السهو و النسيان إلّا بأحد هذين الطريقين :
---------------------------
(1) بحار الأنوار 11: 90 .
(2) سيأتي الحديث عن هذا الرأي و الآراء المعارضة له خلال الصفحات القادمة .
(3) راجع الكافي 3: 355 ح1 ، مسند أحمد2: 271 ، صحيح البخاري1 : 153 .
(4) الكافي3: 355 ح1 .
(5) الكافي3: 356 ح3 .
(6) من لا يحضره الفقيه 1: ح 1031 .
التنبيه بالمعلوم
_ 16 _
الأوّل : إثبات محذور عقلي لو قيل بخلافها .
الثاني : ثبوت روايات لا معارض لها في المقام ، بشرط عدم تطرّق احتمال السهو لنفس الروايات المستدلّ بها .
أمّا الأوّل : فقد يقال إنّ عدم اللياقة في المقام ، يختلف عنه في غيره ، فإنّ فاعل القبح والذنب لا يليق بأن يأمر غيره بما يفعله ... لكون الذنب مذموماً و قبيحاً في نفسه ... و نبوًته بالتالي غير لائقة ، بينما لا ينطبق ذلك على السهو و النسيان لعدم قبحمها في نفسهما ، فما المانع من إرسال نبي ، أو رسول يسهو ، أو ينسى ، ما دام ذلك ليس قبيحاً ؟
و أيضاً فإنّ السهو والنسيان حالتان طبيعيّتان في الإنسان ، بخلاف الذنب و القبح ، فإنّ التلبّس بهما لا يعتبر عقلائياً حالة طبيعية يعذرون فاعلهما ، و إن كان غالباً ممّا لابدّ من صدوره من بني النوع ، وهذا فرق جوهري بين السهو ، و بين الذنب .
و لعلّك تقول ، و كما ذكر جمع غفير من الأصحاب : إن تجويز السهو عليهم يسري عليهم الى جوازه في موارد التشريع ، ممّا يسقط تصديقه من النفوس بالكلية ، و هو خلاف الغرض .
و يجاب : بأنّ هذا يندفع بالتأكد مرّة بعد اُخرى بعد طُرُوّ السهو في موارد التبليغ و التشريع ، إلّا أنّ الصحيح ، و كما عليه الطائفة ، عصمة النبي صلّى الله عليه وآله عن السهو و عن النسيان و ذلك :
أولا : إنّ الإلتزام بسهو النبي ، ما خلا مورد التبليغ ، أو مطلقاً ، بشرط توضيحه لموارد السهو ، و التأكيد عليها ، يلازم ضياع الدين و الشريعه بالكليّة ، بسبب ضعف الوثوق بصحيح الشرع .
التنبيه بالمعلوم
_ 17 _
و ذلك لأنّه إن اُريد من التبليغ ، الأحكام الشرعيّة التكليفية و الوضعية ، خرج الكثير من اُمورالدين كالإرشادات العامّة ، و المواعظ الدينية ، و الإرشاد إلى فوائد الأغذية ، و قوانين الطب ، و قصص الماضين ، و التي لها جميعاً مدخل جوهري في الأديان و حقائقها .
فيكون إحتمال السهو فيها بقوة إلقائها .
إن قلت : إنَّ تعطيلها غير وارد لعدم الإلتزام بكثرة موارد السهو .
قلنا : إذا صحّ السهو القليل ، مع وجود محاذير معينة ، و لو بسيطة ، مضافة إلى ألطاف العصمة
(1) ، فعدمه يكون أفضل و أقرب إلى سلامة الشريعة ، كما أنّ الخلاف لا يزال و إلى الآن في تشخيص الأحكام و أقسامها ، فربّ حكم وضعي لا يراه الآخر كذلك و بالعكس ... هذا حال أهل العلم ، فكيف بالعوام من الناس .
فالقول بالعصمة في موارد التبليغ على التفسير المذكور ، يعني تضييع الدين ، و جعل العلماء يفحصون كل مورد يردهم ، هل هو حكم أم لا ؟ وما هو دليله ؟ وما هي وجوه الخلاف فيه ؟ و أذا قلنا إن المراد بالتبليغ جميع شؤون الدين ... فربّ سائل يسأل بأنه لا يوجد أمر يفعله النبي صلّى الله عليه و آله و الأئمة عليهم السلام إلا و له ربط بالدين ... حتى طريقة أكله ، و ملبسه وما شاكلها من هذه الاُمور البسيطة .
ثانياً : إنّ هذا الرأي يودي إلى إضعاف هيبة الأنبياء ، خصوصاً عند اُلئك الّذين يتربّصون بهم شرّاً ، و يحاولون بشتى الوسائل إثارة الشبهات حولهم
---------------------------
(1) ألطاف العصمة : هي المقدّمات و الأسباب التي يحصل بها هذا اللطف المسمّى بالعصمة لدى الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام .
التنبيه بالمعلوم
_ 18 _
والتشكيك بهم ، و هذا خلاف هدف الله و غرض الله جلّ شأنه ، من إرادة توقير الأنبياء ، و تعظيمهم ، و رفع شأنهم .
ثالثاً : إنّ المقتضيات
(1) تؤثر أثرها إن لم يمنع ذلك مانع .. و الأنبياء ، من دون شك ، مؤهّلون للألطاف ، و قدرة الله لا شبهة فيها ، والمانع مفقود ، و الحاجة لعصمتهم عن مثيل الشك و النسيان ليست بقليلة ، و معه يحسن على الحكيم أن يلطف بهم بعصمتهم عما نحن بصدده ، بعمنى عدم اللياقة في حقّه تعالى ترك ذلك ، فيكون الدليل المذكور عقلياً على عصمة الأنبياء من السهو و النسيان .
رابعاً : الروايات الخاصّة : و الإستدلال بها مبنيّ على مقدّمتين :
(2)
أ ـ أنّه لا يوجد محذور عقلى في ثبوت العصمة عن السهو والنسيان ، فيكون ثبوتها من الممكنات ، مع عدم إجماع على وقوع السهو والنسيان .
ب ـ إنّ الأنبياء و الأئمة عليهم السلام ، مصدّقون فيما ينقلون ، بل إنّ الذين جوّزوا الكبائر على الأنبياء استثنو الكذب ، إلّا شواذ منه .
(3)
فإذا تمّت تلك المقدمتين نقول :
إنّ الروايات واردة في كمالهم و عصمتهم و عدم سهوهم ، بل ما هو أعظم من ذلك .
---------------------------
(1) أنّ المقتضيات وإن كانت ذاتية ، ولكن لا يمنع أن تكون مقدّماتها ملطوفاً بها من نوع الغذاء ، و طبيعة السكن ، و العمل ، وشرف الأبوين و غيرها .
(2) انظر: عصمة الأنبياء للسيّد علي حسين مكّي ص 60 .
(3) فقد نقل عن الخوارج ـ فرقة منهم تسمى الفضيلية ـ تجويز الكفر على الأنبياء ، لأنّ كلّّّّّّّّّ ذنب يصدر عنهم كفر ، ونقل عن الأشاعرة و الحشوية تجويز الصغائر و الكبائر على الأنبياء ما خلا الكفر والكذب ، و نقل أيضاً ان المعتزلة يجوّزون الصغائر أو غير المنفر منها على الأنبياء كما هو مذهب البعض ، أو على سبيل التأويل ، كما هو مذهب بعض آخر ، (انظر: اليواقيت و الجواهر في بيان عقائد الأكابر) .
التنبيه بالمعلوم
_ 19 _
فقد روي عن الإمام الرضا عليه السلام إنّه قال : ( ...ويحك يا علي ! و لا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش )
(1) ، و هذه تنفي صدور الفواحش سهواً ، أو عمداً .
و عن الصادق عليه السلام : ( ... و هم الأنبياء ، وصفوته من خلقه ، حكماء ، مؤدّبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين للناس في أحوالهم ... ) و هي شاملة السهو و النسيان .
كما أنّ الروايات الواردة في حقّ كلّ نبي يستشف منها القول بعصمته عن هذا السهو و النسيان .
خامساً : و هناك دليل خاصّ بنبيّنا صلوات الله عليه وآله ، و هو قوله تعالى :( وَ لَكُم في رَسُولِ اللهِ اُسوَة حسنة ) ، حيث تدلّ هذه الآية المباركة علي حسن التأسّي به ، و هي مطلقة شاملة لكل فعاله و أقواله .
و ختاماً نرجو أن نكون قد وفّقنا في تحقيق هذا السفر القيّم ، و نعتذر عن أي نقص فيه ، فالكمال له وحده ، و العذر عند كرام الناس مقبول .
محمود البدري
10 / ربيع الثاني / 1417 ه.ق
---------------------------
(1) بحار الأنوار 11: 72 .
التنبيه بالمعلوم
_ 20 _
ترجمة المؤلّف (1)
إسمه و نسبه :
هو المحدّث الكبير و الفقيه النحرير ، صاحب التأليفات القيّمة و الآثار الخالدة ، شيخ الإسلام و زعيم الشيعة في عصره ، محمد بن الحسين ، المعروف بالحر العاملي ، حيث يرجع نسبه إلى الحر الرياحي ، المستشهد مع الإمام السبط في كربلاء ، سلام عليه و على آله و أصحابه المستشهدين بين يديه .
ولادته :
ولد في قرية مشقرة ـ إحدى قرى جبل عامل
(2) ـ ليلة الجمعة ثامن عشر من شهر رجب عام ثلاث و ثلاثين بعد الألف من الهجرة النبويّة على مهاجرها التحية و السلام .
---------------------------
(1) راجع ترجمة المؤلّف في: سلافة العصر للسيّد علي خان:359 ، الغدير للعلّامة الأميني 11: 336 ، رياض العلماء للأفندي 5 : 67 ، جامع الرواة للأردبيلي2: 90 ، مستدرك الوسائل للنوري 3: 39 ، هدية العارفين للبغدادي 6 : 304 ، الأعلام للزركلي 6: 90 ، معجم المؤلّفين لكحالة 204 : 9 ، لؤلؤة البحرين: 76 .
(2) جبل عامل وفي الأصل يقال : جبال عاملة ، ثم لكثرة الاستعمال قيل : جبل عامل : نسبة إلى عاملة ابن سبأ ، وسبأ هو الذي تفرق أولاده بعد سيل العرم حتى ضرب بهم المثل ، و مشغرة : قرية من قرى دمشق من ناحية البقاع ، ( انظر: معجم البلدان 5 : 134 ) .
التنبيه بالمعلوم
_ 21 _
اُسرته :
نشأ الحر و ترعرع في أحضان العلم و المعرفة ، فبيت الحر من البيوت الكبيرة و المعروفة ، و التي غذّت الطائفة الشيعيّة بثلّة من أعاظم العلماء و المجتهدين .
فقد كان والده عالماً ، فاضلاً ، أديباً ، فقيهاً حافظاً .
و منهم عمّه الفاضل الشيخ محمد بن علي بن محمد الحر العاملي ، ابن بنت الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني .
و منهم جدّه الشيخ علي بن محمد الحر العاملي ، الذي وصفه في ( الأمل ) بالعلم و الفضل و العبادة و حسن الأخلاق ، وهناك الكثير غير هؤلاء .
أساتذته و تلاميذته :
قرأ الشيخ الحر العاملي عند أساتذة كبار كان لهم أثر كبير في نشأته و نموه إلى أن وصل إلى المستوى الذي وصله ، و من هؤلاء :
1 ـ الشيخ الحسن بن علي بن محمد ـ أبوه ـ ( المتوفي 1062 ه )
2 ـ الشيخ محمد بن علي الحر .
3 ـ الشيخ عبد السلام بن محمد الحر .
4 ـ الشيخ زين الدين بن محمد بن الحسن صاحب المعالم ابن زين الدين الشهيد الثاني .
5 ـ الشيخ حسين الظهيري .
التنبيه بالمعلوم
_ 22 _
و يروي الشيخ الحرالعاملي بالاجازة عن أبي عبدالله الحسين بن الحسين بن يونس العاملي ،وعن العلّامة المجلسي ،و الإجازة بينهما مدبجة .
(1)
و قال رحمة الله : وهو آخر من أجاز لي وأجزت له ، و ذكر المجلسي نظير ذلك في مجلد الإجازات من البحار .
أما المجازين منه ـ إضافة إلى العلّامة المجلسي ـ الشيخ محمد فاضل بن محمد المشهدي ، و السيّد نور الدين بن السيد نعمة الله الجزائري ، و الشيخ محمود بن عبد السلام البحراني .
أسفاره :
أقام الشيخ في بلده جبل عامل أربعين سنة ، ثم سافر إلى العراق لزيارة المراقد المقدّسة ، و من ثم إلى ايران لزيارة مرقد ثامن الحجج الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام و ذلك عام 1073 هـ حيث استقر به المقام هناك .
وقد حج الحر العاملي إلى بيت الله الحرام مرّتين عامي 1087 و 1088 هـ .
أمّا تلامذته ، فكان مجلسه عامراً بالعشرات من الطلبة المجدّين في طلب العلم و المخلصين لعلوم أهل البيت عليهم السلام .
أقوال العلماء في حقّه :
نظراً لما يمتاز به الشيخ الحر العاملي من المكانة العلمية المرموقة ، فقد
---------------------------
(1) الإجازة المدبجة: هي أن يجيز كل من العاملين للآخر مروياته ، و تقع غالباً بين أكابر العلماء .
التنبيه بالمعلوم
_ 23 _
حظي بثناء الكثير من العلماء المعروفين الذين يعتبر ثناؤهم شهادة علمية راقية لم ينالها إلّا القليل .
فممّن أثنى عليه معاصره السيّد علي خان شارح الصحيفة السجادية حيث قال :
الشيخ محمد بن الحسن بن على بن محمد الحر الشامي العاملي ، عَلَم عِلم لا تباريه الأعلام ، و هضبة فضل لا يفصح عن وصفها الكلام ، أرَّجت أنفاس فوائده أرجاء الأقطار ، و أحيت كلّ أرض نزلت بها فكأنّها لبقاع الأرض أمطار .
تصانيفه في جبهات الأيّام غرر ، و كلماته في عقود السطور درر .
(1)
و قال عنه العلّامة الأميني في كتابه الغدير :
فشيخنا المترجم له درّة على تاج الزمن ، وغرّة على جبهة الفضيلة ، متي استكنهته تجد له في كل قدر مغرفة ،وبكل فن معرفة ، و لفد تقاصرت عنه جمل المدح وزمر الثناء فكأنَّه عاد جثمان العلم و هيكل الأدب و شخصية الكمال البارزة .
(2)
و كذلك أثني عليه العديد من العلماء الآخرين أمثال : الافندي في رياض العلماء
(3) ، و الأردبيلي في جامع الرواة
(4) ، و النوري في خاتمة مستدرك الوسائل
(5) ، و البغدادي في هدية العارفين
(6) ، و الزركلي في الأعلام
(7) ، وكحالة
---------------------------
(1) سلافة العصر: 359 .
(2) الغدير 11 : 336 .
(3) رياض العلماء 5 : 67 .
(4) جامع الرواة 2 : 90 .
(5) مستدرك الوسائل 3 : 39 .
(6) هدية العارفين 6 : 304 .
(7) الأعلام 6 : 90 .
التنبيه بالمعلوم
_ 24 _
في معجم المؤلّفين
(1) ، و غيرهم .
شعره :
و كما أنّ شيخنا الحر العالي فقيهاً ، و عالماً ، ومحدثاً ، فهو كذلك شاعر يمتاز شعره بطول النفس في النظم ، و له قصائد كثيرة في مدح أو رثاء النبي و أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين .
وقد تجمع لديه ما يقارب عشرين ألف بيت ضمّها ديوانه ، ومن قصائده الرائعة همزيّته التي نيفت على الأربعمائة بيت ، و التي حوت على معاجز جمّة من معاجز النبيّ صلى الله عليه و آله ، و فضائل أهل البيت عليهم السلام ، و من أبيات القصيدة قوله : كيف تحظى بمجدك الأوصياء ما لخلق سوى النبيّ و سبطه فبكم آدم استغاث و قد مسـّ يوم أمس في الأرض فرداً غريباً و بكى نادماً على ما بدا منـ فتلقى من ربه كلمات و به قد توسّل الأنبياء السعيدين هذه العلياء ـته بعد المسّرة الضراء و نأت عنه عرسه حواء ـه و جهد الصب الكئيب البكاء شرفتها من ذكركم أسماء
و من شعره اللطيف كذلك هذه الأبيات التي يمزج فيها المدح بالغزل فيقول :
---------------------------
(1) أمل الآمل 1 : 145 .
التنبيه بالمعلوم
_ 25 _
لئن طاب لي ذكر الحبائب إنّني فهن سلبن العلم و الحلم في الصبا هواهن لي داء هواهم دواؤه لئن كان ذاك الحسن يعجب ناظراً أرى مدح أهل البيت أحلى و أطيبا وهم وهبونا العلم و الحلم في الصبا ومن يك ذا داء يرد متطيبا فانّا رأينا ذلك الفضل أعجبا
مؤلفاته :
كان الشيخ الحرّ قدّس سرّه عالماً فاضلاً أفنى عمره الشريف في خدمة الشريعة المقدّسة و المذهب الحقّ مذهب أهل البيت عليهم السلام ، و قد أثرى المكتبة الاسلامية بالكثير من الكتب المهمّة ، يكفينا أن أحدها هو كتاب وسائل الشيعة و الذي جمع فيه أحاديث أهل البيت عليهم السلام في مختلف العلوم .
و لنترك الشيخ رحمه الله يحدثنا عن كتبه بنفسه كما ذكرها هو في أمل الآمل :
1 ـ تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة : و هو كتاب جامع للأحاديث الفقهية التي يعتمد عليها الفقهاء في استنباط الأحكام الشرعيّة .
2 ـ فهرست وسائل الشيعة : و يشتمل على عناوين الأبواب ، و عدد أحاديث كلّ باب ، و مضمون الأحاديث ، و قد أطلق عليه كتاب من لا يحضره الإمام ، لاشتماله على جميع ما روي من فتاواهم عليهم السلام .
3 ـ هداية الاُمّة إلى أحكام الأئمّة عليهم السلام : و هو منتخب من و سائل الشيعة مع حذف الأسانيد و المكرّرات .
4 ـ الفوائد الطوسية : مجموع فوائد الطوسية بلغت المائة فائدة في مطالب متفرقة .
التنبيه بالمعلوم
_ 26 _
5 ـ إثبات الهداة بالنصوص و المعجزات : و يبحث في الدلائل على النبوّة الخاصّة و الإمامة لكلّ إمام إمام حتى الإمام الثاني عشرعجّل الله فرجه .
6 ـ أمل الآمل في علماء جبل عامل : و قد قسّمه إلى قسمين : الأول خاصّ بعلماء جبل عامل ، و الثاني عام لعلماء الشيعة في بقية الأقطار .
7 ـ الفصول المهمّة في اُصول الأئمّة عليهم السلام : و يشتمل على القواعد الكليّة المنصوصة في اُصول الدين واُصول الفقه وفروع الفقه .
8 ـ العربية العلوية و اللغة المرويّة .
9 ـ الايقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة : و يحتوى على أكثر من ستمائة حديث و أربع و ستين آية .
10 ـ رسالة الاثنى عشرية في الردّ على الصوفيّة : و فيها نحو ألف حديث في الردّ عليهم عموماً و خصوصاً في كلّ ما اختصّ بهم .
11 ـ رسالة في خلق الكافر و ما يناسبه .
12 ـ كشف التعمية في حكم التسمية : و هي رسالة في تسمية المهدي عجّل الله فرجه الشريف .
13 ـ رسالة الجمعة : وهي جواب من ردّ أدلة الشهيد الثاني في رسالته في الجمعة .
14 ـ رسالة نزهة الأسماع في حكم الاجماع .
15 ـ رسالة تواتر القرآن .
16 ـ رسالة الرجال .
17 ـ رسالة أحوال الصحابة .
18 ـ تنزية المعصوم عن السهو و النسيان : ـ و هو هذا الكتاب الّذي بين
التنبيه بالمعلوم
_ 27 _
يديك ـ و سيأتيك تفصيل الحديث عنه .
19 ـ رسالة بداية الهداية في الواجبات و المحرّمات المنصوصة من أوّل الفقه الى آخره : و هي في غاية الاختصار ، انتهى فيها إلى أن الواجبات ( 1535 ) و المحرّمات ( 1448 ) .
20 ـ الجواعر السنيّة في الأحاديث القدسيّة : و هو أول من جمع هذه الأحاديث كما يقو صاحب الأعيان
(1) .
21 ـ الصحيفة السجادية الثانية : حيث جمع فيها الأدعية المنسوبة إلى الإمام السجاد عليه السلام ، و التي لا توجد في الصحيفة الكاملة .
22 ـ ديوان شعر يقارب عشرين ألف بيت ، أكثره في مدح و رثاء النبي صلّى الله عليه وآله و الأئمّة المعصومين عليهم السلام ، و يتضمّن كذلك بالاضافة إلى الشعر النظم التعليمي ، ففيه :
منظومة في المواريث ،
منظومة في الزكاة .
منظونة في الهندسة .
منظومة في تواريخ النبي صلّى الله عليه و آله و الأئمّة عليهم السلام .
23 ـ أجازات كثيرة لتلامذته .
24 ـ كان عازماً على أن يشرح وسائل الشيعة بكتاب اسمه تحرير وسائل الشيعة و تحبير مسائل الشريعة
(2) ، و لكن الأجل لم يمهله لتنفيذ ما عزم
---------------------------
(1) أعيان الشيعة 9 : 168 .
(2) أمل الآمل 1 : 145 .
التنبيه بالمعلوم
_ 28 _
عليه ، فلم يصدر منه إلّا جزء واحد .
وفاته :
قال أخوه الشيخ أحمد الحر في كتابه الدرّ المسلوك :
في اليوم الحادي و العشرين ، من شهر رمضان ، سنة 1104 هـ كان مغرب شمس الفضيلة و الاضافة و الافادة ، و محاق بدر العلم و العمل و العبادة ، شيخ الاسلام و المسلمين ، و بقية الفقهاء و المحدثين ، الناطق بهداية الاُمّة و بدايه الشريعة ، الصادق في النصوص و المعجزات ووسائل الشيعة ، الإمام الخطيب الشاعر الأديب ، عبد ربه العظيم العلي ، الشيخ أبو جعفر بن الحسن الحر العاملي ، المنتل إلى رحمته باريه عند ثامن مواليه :
في ليلة الوسطى و كان بها يامن له جنة المأوى غدت نزلا طويت عنا بساط العلم معتلياً تاريخ رحلته عاماً فجعت به وفاة حيدر الكرار ذي الغيرِ ارقد هناك فقلبي منك في سعرِ فاهنأ بمقعدِ صدق عند مقتدرِ أسرى لنعمة باريه علة قدرِ وهو أخي الأكبر ، صليت عليه في المسجد تحت القبة جنب المنبر ، و دفن في إيوان حجة في صحن الروضة الملاصق لمدرسة ميرزا جعفر ، وكان فد بلغ عمره اثنين و سبعين ، و هو أكبر مني بثلاث سنين إلا ثلاثة أشهر
(1) .
---------------------------
(1) الفوائد الرضوية : 476 .