الفصل التاسع
في بيان اضطراب حديث السهو و ضعفه و عدم جواز التعويل
عليه و حمله على ظاهره ، مضافاً إلى ما تقدّم
من الأدلّة العقليّة و إن كان بعضها منضمّاً
و هذا الفصل كلّه من كلام الشيخ المفيد في الرسالة التي نقلنا صدرها سابقاً ، و ننقل ما فيها بتمامه هنا ، و هي مشتملة على فصول كما هي عادته في كثير من رسائله .
قال الشيخ الأجل المفيد رحمه الله بعدما نقلناه سابقاً ما هذا لفظه :
فصل (1) .
على انّهم [ قد ] (2) اختلفوا في الصلاة التي زعموا انّه عليه السلام سها فيها ، فقال بعضهم : هي (3) الظهر . و قال بعضهم : هي العصر ، و قال بعضهم :
---------------------------
(1) سقط هذا الفصل من ( ب ) ، و أثبتناه من ( ج ، د ) .
(2) ليس في ج .
(3) في د : في ، و كذا في المورد الآتي .
التنبيه بالمعلوم _ 142 _
هي عشاء الآخرة .
و هذا الاختلاف دليل على وهن الحديث ، و حجّة في سقوطه ، ووجوب ترك العمل به و إطراحه . فصل
على إنّ في الخبر ما يدّل على اختلافه (1) ، و هو ما رووه من انّ ذا اليدين قال للنبي صلّى الله عليه و آله لما سلّم في الركعتين و الأوّليّتين من الصلاة الرباعية : أقصرت للصلاة يا رسول الله ، أم نسيت ؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله ـ كما زعم ـ : كلّ ذلك لم يكن (2) .
فنفى صلّى الله عليه و آله ان تكون الصلاة قد قصرت ، و نفى أن يكون قد سها فيها .
فليس يجوز عليه عندنا و عند الحشوية المجيزين عليه السهو ، أن يكون (3) النبي صلّى الله عليه و آله متعمّداً (4) و لا ساهياً ، و إذا كان قد أخبر انّه لم يسه ـ و كان صادقاً في خبره ـ فقد ثبت كذب ذي اليدين و من أضاف إليه السهو ، و كذا وضح بطلان دعواه في ذلك بلا ارتياب .
---------------------------
(1) في ج : خلافه .
(2) راجغ الخلاف للشيخ الطوسي 1 : 402 ـ 407 ، المسألة 154 من كتاب الصلاة ، و قد ناقش فيه وطعن على من قال في السهو .
(3) كذا في النسخ ، و في المصدر و البحار : يكذب .
(4) في ج : معتمداً .
التنبيه بالمعلوم _ 143 _
فصل
و قد تأوّل بعضهم ما حكوه من قوله : ( كلّ ذلك لم يكن ) على ما يخرجه عن الكذب مع سهوه في الصلاة ، بأن قالوا : إنّه صلّى الله عليه و آله نفى أن يكون وقع الأمران معاً ، يريد أنّه لم يكن يجتمع قصر الصلاة و السهو ، فكان قد حصل أحدهما و وقع .
و هذا باطل من وجهين :
الأوّل : انّه لو كان أراد ذلك ، لم يكن جواباً عن السؤال ، و الجواب عن غير السؤال ، و الجواب عن غير السؤال لغوٌ لا يجوز و قوعه من النبي صلّى الله عليه و آله .
و الثاني : انّه لو كان كما ادّعوه ، لكان صلّى الله عليه و آله ذاكراً به من غير اشتباه في معناه ، لأنّه قد أحاط علماً بأنّ أحد الشيئين كان دون صاحبه ، و لو كان كذلك لارتفع السهو الّذي ادّعوه ، و كانت دعواهم له باطلة بلا ارتياب ، و لم يكن أيضاً لجمع كلية وجود أحد الأمرين (1) معنى لمسألته حين (2) سأل عن قول ذي اليدين ، هل هو على ما قال ، أو على غير ما قال ؟ لأن هذا السؤال يدلّ على اشتباه الأمر عليه فيما ادّعاه ذو اليدين ، و لا يصحّ وقوع مثله من متيقّن لما كان في الحال .
---------------------------
(1) كذا في النسخ ، و في المصدر : مع تحقيقه وجود أحد الأمرين ، و في البحار : و لم يكن أيضاً معنى لمسألته .
(2) في ( ج ، د ) : لمسألة من .
التنبيه بالمعلوم _ 144 _
فصل
و ممّا يدلّ على بطلان الحديث أيضاً اختلافهم في الخبر أنّ (1) الصلاة الّتي ادعوا فيها ، و البناء على ما مضى منها ، أو الإعادة لها .
فأهل العراق يقولون : انّه أعاد الصلاة ، لأنّه تكلّم فيها ، و الكلام في الصلاة يوجب الإعادة عندهم .
و أهل الحجاز و من مال إلى قولهم يزعمون : انّه بنى على ما مضى ، و لم يعد شيئاً ، و لم يقض ، سجد لسهوه سجدتين .
و من تعلّق بهذا الحديث من الشيعة يذهب فيه إلى مذهب أهل العراق ، لانّه تضمّن كلام النبيّ صلّى الله عليه و آله في الصلاة عمداً ، و التفاته عن القبلة إلى من خلفه ، و سؤاله عن حقيقة ما جرى ، و لا يختلف الفقهاء و هم في ذلك يوجبون الإعادة (2) .
و الحديث متضمّن (3) انّ النبي صلّى الله عليه و آله بنى على ما مضى و لم يعد ، و هذا الاختلاف الّذي ذكرناه في هذا الحديث أدلّ دليل على بطلانه ، و أوضح حجّة في وضعه و اختلاقه (4) .
---------------------------
(1) كذا في النسخ ، و في المصدر و البحار : جبران .
(2) كذا في النسخ ، و في المصدر و البحار : فقهاؤهم في أنّ ذلك يوجب الإعادة .
(3) في د : يتضمّن .
(4) كذا في النسخ ، و في المصدر و البحار : و اختلافه .
التنبيه بالمعلوم _ 145 _
فصل
على إنّ الرواية له من طريق الخاصّة و العامّة كالرواية من الطريقين معاً أنّ النبي صلّى الله عليه و آله سها في صلاة الفجر (1) ، و كان قد قرأ في الاُولى منهما سورة النجم حتى انتهى إلى قوله :( أفَرَأيتَمَ اللّاتَ وَ العُزَّى وَ مَنَاةَ الثَّالِثَةَ الاُخرَى ) (2) ، فألقى الشيطان على لسانه ( تلك الغرانيق العلى ، و ان شفاعتهم لترتجى ) ثمّ نبّه على سهوه ، فخرّ ساجداً ، فسجد المسلمون ، و كان سجودهم اقتداء به ، و أمّا المشركون فكان سجودهم سروراً بدخوله معهم في دينهم (3) .
قالوا : و في ذلك أنزل الله تعالى : ( وَ مَا أرسَلنَا مِن قَبلِكَ مِن رَسُولٍ وَ لَا نَبي إلّا إذا تَمَنى ألقَى الشَيطَان فِي اُمنِيَتِه ) (4) يعنون في قراءته .
و استشهدوا على ذلك ببيت من الشعر و هو :
---------------------------
(1) انظر الكافي 3 : 294 ح 9 و 357 ح 6 ، التهذيب 2 : 345 ح 1433 ، من لا يحضره الفقيه 1 : 233 ح 1031 .
(2) سورة النجم : 19 و 20 .
(3) ذكر الخبر الجصاص في أحكام القرآن 3 : 246 ـ 247 ، و أسقطه من عين الاعتبار ، و ذكر ذلك أيضاً القرطبي في تفسيره 12 : 81 ـ 85 .
(4) سورة الحج : 52 .
حكى الشيخ الطبرسي في مجمع البيان ( 4 : 9 ) في تفسير الآية الكريمة قول الشريف المرتضى قدّس سرّه حيث قال : لايخلوا التمنّي في الآية من أن يكون معناه التلاوة ، كما قال حسّان بن ثابت :
تمنّى كتاب الله أوّل ليله و آخره لاقى حمام المقادر و لم يسنبه ابن منظور في لسان العرب ( 15 : 294 ـ منى ـ ) إلى حسّان ، بل ذكره باللفظ المتقدّم و باللفظ التالي : تمنى كتاب الله آخر ليله تمنى داود الزبور على رسل
التنبيه بالمعلوم _ 146 _
تمنّى كتاب الله يتلوه قائماً و أصبح ظمآناً و مسّد (1) قارياً فصل
و ليس حديث سهو النبي صلّى الله عليه و آله في الصلاة أشهر في الفريقين من روايتهم : إنّ يونس عليه السلام ظنّ أنّ الله يعجز على الظفر به ، و لا يقدر على التضييق عليه ، و تأوّلوا قوله تعالى : ( فظنّ أن لن نقدر عليه ) (2) على ما رووه و اعتقدوا فيه (3) .
و في أكثر رواياتهم : انّ داود عشق امرأة اُوريا بن صبنان (4) فاحتال في قتله ، ثم نقلها إليه (5) .
و روايتهم : انّ يوسف بن يعقوب عليه السلام همّ بالزنا و عزم عليه (6) ، و غير ذلك من إمثاله .
و من رواياتهم : التشبيه لله بخلقه ، و التجوير له في حكمه (7) .
فيجب على الشيخ الّذي حكينا ـ أيّها الأخ ـ عنه أن يدين الله بكلّ ما تضمّنته هذه الأخبار (8) ليخرج بذلك عن الغلو على ما ادّعاه ، فان دان بها ،
---------------------------
(1) كذا في ( ب ، ج ) ، و في ( د ) و المصدر : وسّد ، و في بعض نسخ المصدر : ( و قد فاز ) بد ل ( وسّد ) .
(2) سورة الأنبياء : 87 .
(3) انظر تفسير القرطبي 11 : 331 .
(4) كذا في ب ، و في ج : صبثان ، و في د : صبان ، و في المصدر :حنان .
(5) تفسير القرطبي 15 : 181 .
(6) أحكام القرآن لابن العربي 4 : 1626 .
(7) تفسير القرطبي 9 : 166 .
(8) روي الشيخ الصدوق في أماليه : 92 المجلس 22 ضمن الحديث رقم (3) جملة من هذه الأخبار =
التنبيه بالمعلوم _ 147 _
خرج عن التوحيد و الشرع ، و ان ردّها ناقض في اعتلاله (1) ، و إن كان ممّا لا يحسن فالمناقضة لضعف بصيرته ، و نسأل الله التوفيق . فصل
و الخبر المروي (2) أيضاً في النبي صلّى الله عليه و آله عن صلاة الصبح (3)
---------------------------
= التي رويت عن رواة جمهور المسلمين ، و ما جاء في الردّ على تلك الأخبار من قبل الإمام الصادق عليه السلام .
(1) في هامش ج : اعتداله .
(2) في ب : و ليس سهو النبي و الخبر المروي ... و الظاهر انّه اشتباه من الناسخ .
(3) أخرج الكليني في الكافي ( 3 : 294 ح 9 ) و الصدوق في الفقيه ( 1 : 233 ح 1031 ) عن سعيد الأعرج قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : إنّ الله تبارك و تعالى أنام رسول الله صلّى الله عليه و آله عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس ... الحديث .
و أخرج الشيخان بالأسناد إلى أبي هريرة و اللفظ لمسلم ( ج 1 : 254 باب قضاء الصلاة الفائتة ) قال : عرسنا مع نبي الله فلم نستيقظ حتى طلعت الشمس ، فقال النبي صلّى الله عليه و آله : ليأخذ كل رجل منكم راحلته فإنّ هذا منزل حضره الشيطان ، قال أبو هريرة : ففعلنا ، ثمّ دعا بالماء فتوضأ ثمّ سجد سجدتين ، ثمّ اُقيمت الصلاة فصلّى صلاة الغداة .
و قد ذكر السيد شرف الدين ملاحظات قيّمة حول هذا الحديث ، نورد هنا بعضها إتماماً للفائدة : أحّدها : أنهم ذكروا في خصائص النبي صلّى الله عليه و آله أنه كان لا ينام قلبه إذا نامت عيناه ، و صحاحهم صريحة بذلك ، وهذا من أعلام النبوّة ، و آيات الاسلام ، فلا يمكن و الحال هذه أن تفوته صلاة الصبح بنومه عنها ، إذ لو نامت عيناه فقلبه في مأمن من الغفلة و لا سيّما عن ربّه لا تأخذه عن واجباته سنةٌ و لا نوم ، و قد صلّى مرّة صلاة الليل فنام قبل أن يوتر ، فقالت له إحدى زوجاته : يا رسول الله ، تنام قبل أن توتر ؟ فقال لها : تنام عيني و لا ينام قلبي .
أراد صلّى الله عليه و آله أنّه في مأمن من فوات الوتر بسبب ولوعه فيها ، و يقظة قلبه تجاهها فهو هاجع في عينه ، يقظان في قلبه ، منتبه الى وتره ، و إذا كانت هذه حالة في نومه قبل صلاة الوتر فما ظنّك به إذا نام قبل صلاة الصبح .
ثانيها : إنّ أبا هريرة صرّح ـ كما في صحيح مسلم ـ بأنّ هذه الواقعة قد اتّفقت لرسول الله صلّى الله عليه و آله و هو قافل من غزوة خيبر ، فكيف يدّعي أبو هريرة حضوره فيها ؟ و أين كان أبو هريرة من غزوة خيبر .
و انّما أسلم بعد خروج النبي صلّى الله عليه و آله إليها باتفاق أهل العلم ، و إجماع =
التنبيه بالمعلوم _ 148 _
من جنس الخبر عن سهوه في الصلاة , فإنّه من أخبارالآحاد التي لا توجب علماً و لا عملاً ، و من عمل عليه فعلى الظن يعتمد في ذلك دون اليقين ، و قد سلف قولنا في نظير ذلك بما يغني عن إعادته في هذا الباب ، مع أنه يتضمّن خلاف ما عليه عصابة الحقّ فإنّهم لا يختلفون في أنّ من فاتته صلاة فريضة فعليه أن يقضيها أي (1) وقت ذكرها من ليل أو نهار ، ما لم يكن الوقت مضيّقاً لصلاة فريضة حاضرة .
و إذا حرم [ على الإنسان ] (2) أن يؤدّي فريضة قد دخل وقتها ليقضي فرضاً قد فاته ، كان حظر النوافل عليه قبل قضاء ما فاته من الفرض أولى .
هذا مع الراوية عن النبي صلّى الله عليه و آله إنّه قال : ( لا صلاة لمن عليه صلاة ) (3)، يريد أنّه لا نافلة لمن عليه فريضة .
---------------------------
= أهل الأخبار .
ثالثها : انّ أبا هريرة يقول في هذا الحديث : ليأخذ كلّ رجل منكم برأس راحلته ، فانّ هذا منزل حضره الشيطان قال : ففعلنا .
و قد علمت ممّا أسلفناه انّ الشيطان لا يدنو من النبي أبداً ، و علم الناس كافة انّ أبا هريرة كان في تلك الأوقات لا يملك شبع بطنه ، فمن أين له الراحلة ليأخذ برأسها كما زعم إذ قال : ففعلنا ؟
رابعها : أنّه قال في هذا الحديث : ثم دعا بالماء فتوضّأ ، ثمّ سجد سجدتين ثم صلّى صلاة الغداة ، أمّا صلاة الغداة فانّها قضاء عمّا فات ، لكن السجدتين لم نعرف لهما وجهاً و لا محلاً من الاعراب !
خامسها : إنّ النبي صلّى الله عليه و آله كان يومئذ في جيش مؤلف من ألف و ستمائة رجل فيهم مائتا فارس ، فالعادة تأبى أن يناموا بأجمعهم فلا ينتبه أحد منهم أصلاً ، و على فرض عدم انتباههم من انفسهم فلابدّ بحكم العادة المألوفة أن ينتبهوا بصهيل مائتي فرس و ضربها الأرض بحوافرها في طلب علفها عند حضور وقته من الصبح فما هذا السبات العميق الشامل لجميع من كان ثمة من انسان و حيوان ؟ و لعل هذا من خوارق أبي هريرة !! ( انظر : أبو هريرة : 108 ـ 114 ) .
(1) كذا في النسخ ، و في المصدر : في كلّ .
(2) من المصدر .
(3) نصب الراية 2 : 166 .
التنبيه بالمعلوم _ 149 _
و لسنا ننكر ان يغلب النوم على الأنبياء عليهم السلام في أوقات الصلاة حتّى تخرج ، فيقضوها بعد ذلك ، و ليس عليهم في ذلك عيب و لا نقص ، لأنّه ليس ينفك بشر من غلبة النوم ، و لأنّ النائم لا عيب عليه .
و ليس كذلك السهو ، لأنّه نقص عن الكمال في الانسان ، و هو عيب يختصّ به من اعتراه ، و قد يكون من فعل الساهي تارة ، كما يكون من فعل غيره و النوم لا يكون إلّا من فعل الله تعالى ، فليس من مقدور العباد على حال ، و لو كان مقدورهم لم يتعلّق به نقص و عيب لصاحبه لعمومه جميع البشر ، و ليس كذلك السهو ، لأنّه يمكن التحريز منه .
و لأنّا و جدنا الحكماء يجتنبون أن يودعوا أموالهم و أسرارهم ذوي السهو و النسيان ، و لا يمتنعون من إيداع ذلك من يغلبهم من النوم أحياناً ، كما لا يمتنعون من إيداعه من تعتريه الأمراض و الأسقام .
ووجدنا الفقهاء [ يطرحون ] (1) ما يرويه ذوو السهو من الحديث إلّا أن يشركهم فيه غيرهم من ذوي اليقظة ، و الفطنة ، و الذكاء ، و الحذاقة .
فعلم فرق ما بين السهو و النوم بما ذكرناه .
و لو جاز أن يسهو النبيّ صلّى الله عليه و آله في صلاته و هو قدوة (2) فيها حتى يسلّم قبل تمامها و ينصرف عنها قبل اكمالها ، و يشهد الناس ذلك فيه
---------------------------
(1) من المصدر .
(2) في د : قدرة .
التنبيه بالمعلوم _ 150 _
و يحيطوا به علماً من جهته ، لجاز أن يسهو في الصيام حتى يأكل و يشرب نهاراً في شهر رمضان بين أصحابه و هم يشاهدونه و يستدركون عليه الغلط ، و ينبّهونه عليه ، بالتوقيف على ما بيناه (1) .
و لجاز أن يجامع النساء في شهر رمضان نهاراً و لم يؤمن عليه السهو في مثل ذلك حتى يطأ المحرمات عليه من النساء و هو ساه في ذلك ، ظانّ أنّهنّ أزواجه ، و يتعدّى من ذلك إلى وطيء ذوات المحارم ساهياً .
و يسهو في الزكاة فيؤخّرها عن وقتها ، و يؤدّيها إلى غير أهلها ساهياً ، و يخرج منها بعض المستحقين ناسياً .
و يسهو في الحجّ حتى يجامع في الاحرام ، و يسعى قبل الطواف ، و لا يحيط علماً بكيفية رمي الحجار (2) ، و يتعدّى من ذلك إلى السهو في كلّ اعمال الشريعة حتى ينقلها (3) عن حدودها ، و يضعها في غير أوقاتها ، و يأتي بها إلى غير حقائقها .
و لم ينكر أن السهو عن تحريم الخمر ، فيشربها ناسياً أو يظنها شراباً حلالاً ، ثمّ يتيقظّ بعد ذلك لما هي عليه من صفتها .
و لم ينكر أن يسهو فيما يخبر به عن نفسه و عن غيره ممّن ليس بربه بعد أن يكون منصوباً في الاداء ، ويكون مخصوصاً بالاداء .
و تكون العلّة في جواز ذلك كلّه أنّها عبادة مشتركة بينه و بين اُمّته كما
---------------------------
(1) في بعض نسخ المصدر و البحار : على ما جناه .
(2) كذا في ب ، و في ج : الحجارة ، و في ( د ) و المصدر و البحار : الجمار .
(3) كذا في النسخ ، و في المصدر و البحار : يقلبها .
التنبيه بالمعلوم _ 151 _
فصل
كانت الصلاة عبادة مشتركة بينهم و بينه حسب اعلال (1) الرجل الذي ذكرت عنه ـ أيّها الأخ ـ ما ذكرت من إعتلاله ، و يكون ذلك أيضاً لاعلام الخلق أنّه مخلوق ليس بقديم معبود ، و ليكون حجّة على الغلاوة الّذين اتّحذوه ربّاً ، و ليكون أيضاً سبباً لتعليم الخلق أحكام السهو في جميع ما ذكرناه من أحكام الشريعة ، كما كان سبباً في تعليم الخلق حكم السهو في الصلاة ، و هذا ما لا يذهب إليه مسلم و لا غال و لا موحّد ، و لايجزيه على التقرير (2) في النبوّة ملحد ، و هو لازم لمن حكيت عنه ما حكيت ، فيما أفتى به من سهو النبي صلّى الله عليه و آله ، و اعتلّ به ، و دلّ على ضعف عقله ، وسوء اختياره ، و فساد تخيّّله .
و ينبغي أن يكون كلّ من منع السهو عن النبي صلّى الله عليه و آله غالياً و خارجاً عن حدّ الاقتصاد ، و كفى بمن صار إلى هذا المقام خزياً . فصل
ثمّ العجب حكمه بأنّ سهو النبي صلّى الله عليه و آله من الله ، و سهو من سواه من الله و سائر البشر من غيرها (3) من الشيطان (4) بغير علم فيما ادّعاه ، و لا حجّة و لا شبهة يتعلّق بها أحد من العقلاء ، اللّهمّ إلّا أن يدّعي الوحي في يذلك ، و يتبيّن به عن ضعف عقله لكافة الألبّاء .
ثمّ العجب من قوله : إنّ سهو النبيّ صلّى الله عليه و آله من الله دون
---------------------------
(1) كذا في النسخ ، و في المصدر و البحار : اعتلال .
(2) في هامش ( ج ) و البحار : التقدير .
(3) كذا في النسخ ، و في المصدر و البحار : غيرهم .
(4) في ب : من غير الشيطان .
التنبيه بالمعلوم _ 152 _
الشيطان ، لأنّه ليس للشيطان على النبي صلّى الله عليه و آله سلطان ، و( إنّمَا سُلطَانَهُ عَلَى الّذِينَ يَتَولّونَهُ وَ الّّذِينَ هُم بِهِ مُشرِكُون ) (1) ، و على من اتّبعه من الغاوين .
ثمّ هو يقول : إنّ هذا السهو الّذي من الشيطان [ يعمّ جميع البشر سوى الأنبياء و الأئمّة ، فكلّهم من أولياء الشيطان ] (2) ، و انّهم غاوون مشركون (3) ، إذ كان للشيطان عليهم سبيل و سلطان ، و كان سهوهم منه دون الرحمن ، و من لم يتيقّظ لجهله في هذا الباب ، كان في عداد الأموات . فصل
فأمّا قول الرجل المذكور : إنّ ذااليدين معروف ، و انّه يقال له : أبو محمد ابن عبد عمرو (4) ، و قد روى الناس عنه .
فليس الأمر كما ذكر ، و قد عرّفه بما مرّ من (5) معرفته من تكنيته و تسميته بغير معروف بذلك ، و لو انّه يعرفه بذي اليدين لكان أولى من تعريفه و تسميته (6) بعمرو (7) ، فإنّ المنكر له يقول : من ذو اليدين ؟ و من هو عمرو (8) ؟ و من هو ابن
---------------------------
(1) سورة النحل : 100 .
(2) ليس في ب .
(3) في ب : مشتركون ، و في د : و مشركون .
(4) في ج : أبو عمرو محمد بن عبد عمرو ، و في المصدر و البحار : أبو محمد عمير بن عبد عمرو .
(5) كذا في ( ب ، ج ) ، و في ( د ) و المصدر و البحار : يرفع .
(6) في ( ب ، د ) و المصدر بتسميته .
(7) في المصدر و البحار : بعمير .
(8) كذا في النسخ ، و في المصدر : عمير .
التنبيه بالمعلوم _ 153 _
عبد عمرو ؟ و هذا كلّه مجهول غير معروف .
و دعواه انّه قد روى الناس عنه ، دعوى لا برهان عليها ، و ما وجدناه في اُصول الفقهاء و لا الرواة حديثاً عن هذا الرجل ، و لا ذكراً له .
و لو كان معروفاً كمعاذ بن جبل ، و عبد الله بن مسعود ، و أبي هريرة و أمثالهم ، لكان ما تفرّد به غير معمول عليه ، لما ذكرنا من سقوط العمل بأخبار الآحاد ، فكيف و قد بيّنّا أنّ الرجل مجهول غير معروف ؟ فهو متناقض باطل بما لا شبهة فيه عند العقلاء .
و من العجب بعد هذا كلّه انّ خبر ذي اليدين يتضمّن أنّ النبي صلّى الله عليه و آله سها فلم يشعر بسهوه أحد من المصلّين معه من بني هاشم و المهاجرين و الأنصار و وجوه الصحابة ، و سادات (1) الناس ، و لا نظر إلى ذلك و عرفه إلّا ذو اليدين المجهول ، الّذي لا يعرفه أحد ، و لعلّه من بعض الأعراب أو شعر (2) القوم به فلم ينبّهه أحد منهم على غلطه ، و لا أرى صلاح الدين و الدنيا بذكر ذلك له صلّى الله عليه و آله إلّا المجهول من الناس .
ثمّ لم يكن يستشهد على صحّة قول ذي اليدين فيما خبّر به من سهوه إلًا أبا بكر و عمر ، فإنّه سألهما عمّا ذكره ذو اليدين ليعتمد (3) قولهما فيه ، و لم يثق بغيرهما في ذلك ، و لا سكن إلى أحد سواهما في معناه .
[ و انّ ] (4) شيعيّاً يعتمد على هذا الحديث في الحكم على النبي صلّى الله
---------------------------
(1) كذا في النسخ ، و في المصدر : و سراة .
(2) كذا في النسخ ، و في المصدر : أشعر .
(3) في ب : ليعقد .
(4) ليس في ب .
التنبيه بالمعلوم _ 154 _
عليه و آله بالغلط و النقص و ارتفاع العصمة عنه من العباد لناقص العقل ، ضعيف الرأي ، قريب إلى ذوي الآفات المسقطة عنهم التكليف .
و الله المستعان و هو حسبنا و نعم الوكيل .
تمّ جواب أهل الحائر فيما سألوا عنه من سهو النبي صلّى الله عليه و آله ، انتهى كلام الشيخ المفيد في الرسالة المشار إليها سابقاً و ربّما نسبت (1) إلى السيد المرتضى . (2)
و لعل ما ذكره من سقوط العمل بأخبار الآحاد قرينة ذلك .
و فيه نظر ، لأنّ الشيخ المفيد لا يعمل في مثل ذلك بأخبار الآحاد أيضاً ، بل قد نسب المحقّقون و إلى أكثر علمائنا نفي العمل بخبر الواحد الخالي عن القرينة .
---------------------------
(1) كذا في النسخ ، و في المصدر و البحار : نسبته .
(2) أخرجها العلّامة المجلسي رحمه الله بتمامها في بحار الأنوار ( 17 : 122 ـ 129 ) .
و قال في أوّلها : و لنختم هذا الباب بإيراد رسالة وصلت إلينا تنسب إلى الشيخ السديد المفيد ، أو السيّد النقيب و الجليل المرتضى قدّس سرّه روحمها ، و إلى المفيد أنسب .
وقال في آخرها : هذا آخر ما وجدنا من تلك الرسالة ، و كان المنتسخ سقيماً ، و فيما أورده رحمه الله مع متانته اعتراضات يظهر بعضها ممّا أسلفنا ، و لا يخفى على من أمعن النظر فيها ، هو الموفّق للصواب .
قد عرفت أنّها ضعيفة بالنسبة إلى معارضاتها ، فتعيّن صرفها عن ظاهرها لتوافق الحقّ الصحيح ، و النصّ الصريح ، فإنّ في الأحاديث محكماً و متشابهاً ، و لا شكّ في وجوب ردّ المتشابه إلى المحكم ، و انّما وقعت الفته الدينيّة و الاختلافات في المسائل الشرعيّة غالباً بسبب الغفلة عن المعارض ، أو بسبب اشتباه المحكم بالمتشابه .
و قد روى رئيس المحدّثين في عيون الأخبار في باب الأخبار المتفرّقة عقيب باب هاروت و ماروت عن أبيه ، عن علي بن إبراهيم ، [ عن أبيه ، ] (1) عن أبي حيون مولى الرضا عليه السلام عن الرضا عليه السلام قال : من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم .
ثمّ قال : إنّ في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ، و محكماً كمحكم القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، و لا تتبعوا متشابهها دون محكمها
---------------------------
(1) ليس في ( ب ، ج ) .
التنبيه بالمعلوم _ 156 _
فتضلّوا (1) .
إذا عرفت هذا فنقول تأويل أحاديث السهو و الجمع بينها و بين ما دلّ على نفي السهو من الكتاب و السنّة و الاجماع و الأدلّة العقليّة ممكن من وجوه اثني عشر :
الأوّل: الحمل على وقوع الرواية على وجه التقيّة ، فأنّك قد عرفت إجماع المخالفين للإماميّة على نفي العصمة ، و روايتهم لحديث السهو ، و لعلّه لا أصل له ، و يكون من مخترعاتهم و موضوعاتهم ، و قد كان الأئمّة عليهم السلام يفتون بالتقيّة تارة ، و يوافقون العامّة في الرواية تارة بحسب مقتضى الحال ، لدفع المفسدة ، و إتّقاء الضرر عن الأئمة و الشيعة ، و يأتي له نظائر إن شاء الله تعالى .
و هذا وجه قريب متّجه منصوص عنهم عليهم السلام وجوب الترجيح عند الاختلاف لما هو معلوم من سببه ، و قد تقدّمت اشارة إليه ، و من القرائن عليه رواية جماعة من العامّة له كما عرفت سابقاً ، و قد اشار الشيخ في التهذيب إلى حمل أحاديث السهو على التقيّة ، كما تقدّم في أول الرسالة (2) .
الثاني : الحمل على انّ النبيّ صلّى الله عليه و آله قد كان صلّى في الواقع أربع ركعات ، فلمّا ادّعوا عليه السهو و اتّهموه به ، أو ظنّوا ذلك و اتّفقوا عليه ، قام فصلّى ركعتين مع علمه بإنّ صلاته كانت تامّة ، لكن
---------------------------
(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 290 .
(2) في ص : 84 .
التنبيه بالمعلوم _ 157 _
لعدم اقتضاء المصلحة لم يبيّن حقيقة الحال ، لأنّه كان يترتّب على ذلك مفسدة اُخرى ، و أقلّها أنّهم كانوا منافقين لا يصدقونه في دعوى استحالة السهو عليه ، و من المعلوم انّ أكثر المظهرين للإسلام في أوّل الأمر كانوا كذلك ، و إنّ الرسول صلّى الله عليه و آله كان مأموراً بمداراتهم كما تضمّنه باب المداراة في اُصول الكليني و غيره ، و كان يقرّر الشريعة في قلوبهم بالتدريج بحسب ما يقبلون ، كما هو موجود أيضاً في أحاديث كثيرة في اُصول الكافي و غيره .
و قد روى الكليني في كتاب العقل عن أبي عبدالله عليه السلام قال : ما كلّم رسول الله صلّى الله عليه و آله العباد بكنه عقله قط . (1)
و قال : إنّا معاشر الأنبياء اُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم . (2)
و لا يخفى انّه لم يقع التصريح بأنّه صلّى الله عليه و آله صلّى بهم ركعتين اُخريتين إلّا في حديث واحد ، والظاهر انّ كلّ واحد منهم أتمّ صلاته وحده و على تقدير الجماعة لا يبعد أن يكون مأموراً بذلك ، و يكون مخصوصاً به عليه السلام ، و قيل اختصاي مشروعية صلاة الجماعة بالفرائض ، فقد كانوا يصلّون جماعة قبل الصلاة كما هو مروي في أحاديث كثيرة .
الثالث : أن يكون صلّى في الواقع أربع ركعات ، فلمّا ظنّوا سهوه و اتّفقوا على ذلك أمره الله بأن لا يظهر لهم الحال ، و أن يتمّ بهم الصلاة و يسجد سجدتين
ليعلموا أحكام السهو و لئلّا يعيّر أحد أحداً بالسهو ، و الفرق بين هذا و الأوّل انّ المعروف هنا أمر خاص و هناك عام ، و يكون من فوائد ذلك أنّه لو أظهر حقيقة الحال واستحالة السهو لخرج كثير منهم إلى الغلو لضعف الإيمان جداً في ذلك الوقت .
الرابع : أن يكون صلّى في الواقع ركعتين عمداً قبل أن تفرض الصلاة أربع ركعات ، فقد روى انّ الصلاة كانت قد فرضت ركعتين ركعتين ، فكانت الخمس صلوات عشر ركعات ، ثمّ زاد رسول الله صلّى الله عليه وآله سبع ركعات ، ثمّ أوجبها الله على الناس (1) ، و قد كان الكلام أيضاً غير محرّم في الصلاة ثمّ صار محرّم .
و ممّن صرّح بذلك السيّد المرتضى في تنزيه الانبياء (2) و غيره فلعلّه صلّى ركعتين قبل أن تفرض الأخيرتان ، و كان قد أمر الناس بها على وجه الستحباب ، فظنّوا الوجوب ، فتعمّد الترك و اظهار صورة (3) السهو لدفع المفسدة السابقة ، و تحصيل المصالح المتقدّمة و غيرها .
الخامس : أن يكون صلّى في الواقع ركعتين بعد فرض الأخيرتين ، و كان مأموراً أمراً خاصّاً به ، بأن يفعل ذلك إظهاراً لصورة سهو ، و هي في الواقع عمد لأجل المصالح السابقة ، و الحكم المشار إليها ، فيصدّق انّ ذلك كان من الله كما وقع التصريح به سابقاً ، و كما فهمه ابن بابويه .
---------------------------
(1) الكافي 8 : 340 ح 536 ، عنه الوسائل 3 : 34 باب عدد الفرائض ح 12 .
(2) تنزيه الأنبياء : 108 .
(3) في ج : سورة .
التنبيه بالمعلوم _ 159 _
يعني انّ هذه الصورة (1) سهو كان مأموراً بها من الله ، و هي في الواقع عمد , فإنّ صدور السهو الحقيقي من الله لا يمكن تصوّره ، و إنّما يمكن فرض أن يكون الله قد أمر بذلك لحكمة ظاهرة أو خفيّة .
السادس : أن يكون مجبوراً على ترك الأخيرتين في ذلك الرقت ، [ أو بسلب قدرته عنهما ، أو بمحوهما من خاطره بالكليّة ، ](2) و يصير غير مكلّف بهما ، و يكون ذلك أيضاً خاصّاً به في الواقعة معينة للحكم السابقة ، و للردّ على الغلاوة و المفوّضة معاً .
و معلوم أنّ من جملته الغلو في التفويض ، قول جماعة زعموا إنّ للعبد قدرة تامّة لا يقدر أحد على سلبها حتى لو أراد الله منعه ، من فعله لما قدر على منعه ، و قد ذكرت ذلك في رسالة خلق الكافر .
و ظاهر كون سهوه من الله يقتضي أن يكون أمره به أو جبره عليه ، و على كلّ حال لا يكون وقع منه سهو حقيقي ، بل هو مجاز ، و باب المجاز واسع ، و المشابهة هنا ظاهرة لكن الجبر باطل ، ويمكن أن يقال : إنّ هذه الصورة نادرة و الجبر باطل مع بقاء التكليف ، فلو سلب الله قدرة عبد عن واجب و اسقطه عنه ، لم يكن فيه مفسدة .
السابع : أن يكون السهو و النسيان بمعنى الترك ، فإنّه أحد معانيه اللغوية و قد استعمل فيه كثيراً كما أشرنا إليه سابقاً .
و قد قال صاحب القاموس و غيره (3) : سها في الأمر سهواً نسيه .
---------------------------
(1) في ( ج ، د ) : صورة .
(2) من المصدر و البحار .
(3) القاموس المحيط للفيروزآبادي 4 : 346 .
التنبيه بالمعلوم _ 160 _
و قال أيضاً النسيان و النسوة : الترك .
و إذا كان هذا من معاينة اللغوية ، و هو المناسب لحال النبيّ صلّى الله عليه و آله وجب حمله عليه ، و يكون ذلك حكماً مختصّاً به عليه السلام للحكم السابقة ، و قد عرفت إنّ الأئمّة عليهم السلام فسّروا النسيان المنسوب الى آدم عليه السلام و غيره من أهل العصمة عليهم السلام في القرآن بالترك ، و هو معنى صحيح ، و يحتاج إلى ضميمته وجه من الوجوه السابقة أو نحوها .
الثامن: أن يكون النبيّ صلّى الله عليه و آله صلّى في الواقع ركعتين عمداً قبل وجوب الصلاة و فرضها ، و كانوا يصلّون في وقت استحباب الصلاة ، و ذلك قبل ليلة المعراج مدّة طويلة ، و كانوا يصلّون جماعة ، فلعلّهم كانوا يصلّون تلك الصلاة الخاصّة أربع ركعات دائماً ، و لا يستلزم ذلك الوجوب ، و أن توهّمه ذو الشمالين و بعض المنافين لجهلهم ، فيكون ترك ركعتين لأجل المصالح السابقة ، لا لوقوع السهو و النسيان ، بل لنفي الغلو و إبطال التفويض ، و تعليم أحكام السهو و النهي على التعبير بالسهو ، أو عن الإفراط في التعبير ، أو المبالغة في إثبات البشرية ، أو نحو ذلك من الحكم الظاهرة أو الخفيّة .
و لم ينقل في أحاديث السهو إنّ أميرالمؤمنين و الحسن و الحسين عليهم السلام أو أحداً من المؤمنين المخلصين أو العلماء المعتبرين كان حاضراً ، وعلى هذا الوجه و بعض الوجوه السابقة ، يكون نقل القصّة على وجه الإجمال ، و عدم بيان حقيقة الحال ، و إطلاق لفظ السهو كلّه لملاحظة التقيّة ، و عدم الخروج عن رعاية تلك الحكم و المصالح للمكلّفين بحسب الإمكان ،
التنبيه بالمعلوم _ 161 _
مع انّهم عليهم السلام قد بيّنوا ذلك في أحاديث كثيرة عامّة و خاصّة صريحة في المعارضة ، و قد تقدّم بعضها .
التاسع : أن يكون صلّى الله عليه و آله صلّى في الواقع ركعتين نافلة فظنّوها فريضة ، فاقتدوا به ، فلمّا فرغ قالوا ما قالوا ، و ظنّوا ما ظنّوا ، فلم يرخص له في إظهار الحال .
ثمّ قام فصلّى ركعتين اُخرى نافلة , و كان ذلك من نافلة الظهر أو غيرها ، فلم يتكلّم بكنه عقله ، لأنّه مأمور بأن يكلّم الناس على قدر عقولهم كما مضى ، ولدفع المفسدة فعل ما فعل ، و سجد سجدتين شكراً فظنّوا انّه سها ، و أتمّ صلاته و سجد للسهو .
و نقلها العامّة بناء على اعتقاد أهل النفاق ، ورواها الأئمّة عليهم السلام لملاحظة التقيّة ، و لا ينكر من المنافقين مثل هذا الجهل بل العمد فيها يقتضي سوء الظن بالنبيّ صلّى الله عليه و آله ووجوب بيان الحقّ عليه صلّى الله عليه و آله لا ينافي ما قلناه ، لأنّه قد يستلزم مفسدة ، و قد يعلم عدم قبوله ، و ليس ذلك من باب التقيّة ، بل يكون مأموراً بما قال و ما فعل في أقواله و أفعاله عليه السلام من هذا القبيل ما لا يعدّ و لا يحصى .
و قد روى الكليني في باب الروضة بسنده عن رسول الله صلّى الله عليه و آله انّه قال : و الله لو لا أن يقول الناس إنّ محمداً استعان بقوم فلمّا ظفر بعدوّه قتلهم ، لقدّمت كثيراً من أصحابي فضربت أعناقهم . (1)
و قد روى العامّة و الخاصّة عنه صلّى الله عليه و آله انّه قال لعلي عليه
السلام : يا علي ، و الله لو لا انّي أخاف أن تقول فيك طوائف من اُمّتي ما قالت النصارى في المسيح ، لقلت فيك اليوم قولاً لا تمرّ بملأ إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك يتبرّكون به (1) و مثل ذلك كثير جداً .
العاشر : أن تكون الركعتان الأخيرتان لم تكن واجبة على النبيّ صلّى الله عليه و آله أصلاً ، فإنّه هو الّذي زادها و أوجبها على الاُمّة ، فأجاز الله له ذلك كما مرّ ، و يحتمل كونها غير واجبة عليه ، و يكون ذلك من خواصّه ، و إن لم ينقل إلينا تصريح بذلك ، فليس كلّ خواصّه قد نقلت .
و إذا لم تكن الأخيرتان واجبة عليه ، فلا يبعد في تركهما عمداً ، ثمّ الإتيان بهما لأجل الحكمة و المصلحة السابقة و غيرها .
الحادي عشر : أن يكون حديث ذي الشمالين لا أصل له ، و يكون من مخترعات العامّة و ممّّا نسبوه إلى الرسول صلّّى الله عليه و آله بغير أصل ، و تكون رواية الأئمّة عليهم السلام له ، و نقلهم ايّاه لأجل تعليم الشيعة الاحتجاج به على العامّة فيما تضمّنه من الأحكام الشريعة الّتي خالف فيها كثير منهم ، و الاحتجاج على العامّة بما يعتقدونه حجّة من أحاديثهم الموضوعة ، و أكاذيبهم المخترعة ، قد وقع من الأئمة عليهم السلام و من خواصّ أصحابهم على وجه الألتزام (2) و المعارضة في أحاديث كثيرة جداً ، و لا يأبي هذا الوجه من أحاديث السهو شيء ، فقد أشاروا عليهم السلام لأصحابهم إشارات بمثل ذلك ، بل صرّحوا في بعض الروايات ،
---------------------------
(1) الكافي 8 : 57 ح 18 ، تفسير البرهان للبحراني 4 : 150 ـ 151 ، نور الثقلين 4 : 609 .
(2) في ج : الإلزام .
التنبيه بالمعلوم _ 163 _
فإن كان ذلك بعيداً في بعض أحاديث السهو فلعلّه من باب الرواية بالمعنى .
و اعلم انّي كنت أنكر على بعض علمائنا في كتب الاستدلال أنّهم يستدلّون على ما يختارونه أوّلاً ببعض الاستنباطات الظنّيّة حتى بالقياس ، ثمّ يقولون و يؤيّده صحيحة زرارة مثلاً ، و ربّما يستدلّون أوّلاً بما رواه العامّة عن عائشة و عمر و أبي هريرة و أمثالهم ، ثمّ بأحاديث الخاصّة و يوردونها على وجه التأييد ، و معلوم انّه ينبغي أن يكون الأمر بالعكس ، ثمّ تفطّنت انّ فعلهم هذا لأجل الاحتجاج على العامّة لأنّهم يقولون أقوالهم و أقوال الشيعة ، ثمّ يختارون قولاً و يحتجّون عليه .
ثمّ وجدت للسيّد المرتضى رضي الله عنه تصريحاً بمثل ذلك في بعض رسائله ، فقال ما ملخّصه : إنّا نستدلّ في الظاهر بطريقة العامّة ، و ربّما نستدل بأحاديثهم ، و إنّما دليلنا في الواقع ، و نفس الأمر هو إجماع الطائفة المحقّة .
أقول : و مراده كما يفهم من مواضع من كلامه بالإجماع هنا أعمّ من الاجماع على الفتوى بحيث لا يخالف أحد منهم ، و الإجماع على النقل بأن يرووا الحديث في بعض الاُصول الأربعة الّتي أجمعوا على صحّتها و ثبوتها عنهم عليهم السلام ، و قد سرى الوهم من هنا إلى بعض المتأخّرين فظنّوا إنّ استدلالهم بتلك الاستنباطات الظنّيّة واقعي تحقيقي ، مع أنّ الشيخ في كتاب العدّة (1) و السيّد المرتضى في مواضع من كلامه و غيرهما من المحقّقين
يصرّحون بخلافه .
الثاني عشر : أن يكون حديث ذي الشمالين و أحاديث السهو من المتشابهات التي تعارضها المحكمات ، و يكون لها معنى آخر لم نطّلع عليه و لم يخطر لنا ببال ، فإنّ كثيراً من المتشابهات بهذه الصورة ، و يجب علينا التوقّف فيها و ردّ أمرها إلى الله و إليهم عليهم السلام ، و إنّما نذكر ما نذكر على وجه الاحتمال و بذل الجهد في ردّ المتشابه إلى المحكم بحسب الإمكان كما أمرنا به الأئمّة عليهم السلام .
و من المعلوم أنّه مع وجود المعارضات الكثيرة الّتي تقدّم بعضها ، و أشرنا إلى باقيها ، و ترتّب المفاسد الكثيرة كما مرّ لاسبيل إلى حمل أحاديث السهو على ظاهرها ، و الجزم بإمكان السهو من المعصوم ووقوعه منه ، و التطرّق إلى سوء الظنّ بأقواله و أفعاله ، معاذالله من أن نشكّ في ذلك .
و قد صار ذلك واضحاً ، لكنّا نزيده توضيحاً فنقول : أمّا الخبر الّذي أورده عن سعيد الأعرج فلا يفهم وقوع سهو حقيقي واقعي من الرسول صلّى الله عليه و آله ، بل يظهر منه إنّ تلك الواقعة لم تكن من قسم السهو الواقع منه ، بل هي من الله ، و حينئذٍ فهو دالّ على مطلبنا ، لا على مطلبكم ، لأنّ فيه تنزيهاً للرسول عن السهو ، و نسبته إلى الله ، و معلوم انّ وقوع هذا الفعل من الله ، أمّا أن يكون بطريق الأمر به ، أو الجبر عليه ( وَ مَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ) (1) .
و على كلّ حال لا سهو ، و كذلك النوم ، بل ذكر لفظ أنام رسوله أوّلاً ، ثم لفظ أسهاه ثانياً يدلّ على إنّ الحكم في المقامين واحد ، و انّه لا اختيار له في
---------------------------
(1) سورة مريم : 64 .
التنبيه بالمعلوم _ 166 _
شيء منهما ، و لا فعل فعلاً حقيقيّاً ، و هذه قرينة قويّة جداً .
و أمّا نسبة إنكار السهو المذكور إلى الغلاة و المفوّضة ، فلا يدلّ على بطلانه ، فقد عرفت أنّه لا يختصّ بهم لذهاب عظماء علماء الإماميّة إليه ، و لعلّ الغلاوة و المفوّضة يذكرون وقوع هذه الصورة بالكليّة .
أمّا الغلاوة فلاعتقادهم أنّه لا يقدر أحد على منع الرسول صلّى الله عليه و آله و الأئمّة عليهم السلام من شيء ، و لا يأمرهم أحد بشيء .
و أمّا المفوّضة فبعضهم يقولون : إنّ الله فوض أمر الخلق و الرزق إلى النبيّ و الأئمّة عليهم السلام ، و بعضهم يقولون : إنّ للعبد قدرة لا يقدر الله أن يسلبه إيّاها ، و لا يمنعه من شيء من أفعاله و حينئذٍ يستقيم الردّ عليهم بهذه الواقعة ، لأنّها على تقدير تسليمها ، أمّا امر من الله، أو جبر منه ، و هو ينافي اعتقاد الفريقين ، و إذا حمل على السهو المجازي الظاهري استقام كلام ابن بابويه أيضاً ، و صار النزاع لفظياً في مجرّد التسمية بالسهو ، فإنه لا يظهر من كلامه تجويز سهو حقيقي أصلاً ، و هذا توجيه غير بعيد .
و أمّا الفرق بين العبادة المشتركة و التبليغ الّذي هو عبادة مختصّة ، فممّا لا يوافقه عليه أحد ، و اكثر الناس لا يفهمون الفرق ، بل كلّ من ثبت عنده سهوه عليه السلام يتطرّق إلى تجويزه في التبليغ .
و أمّا على التفسير الّذي فسّرنا به كلامه ، فيستقيم في ذلك ، لأنّ (1) فرض الجبر على تبليغ الباطل ، و الأمر به محال قطعاً ظاهر البطلان ، مناف للكحمة ، ناقض الغرض .
---------------------------
(1) في ب : إلى أنّ .
التنبيه بالمعلوم _ 167 _
و أمّا قوله : إنّ سهوه من الله ، و سهو غيره من الشيطان ، فهو يقرّب ما قلناه لأن نسبة السهو هنا إلى الله و الى الرسول لابدّ فيها من ارتكاب تجويز ، بأن يكون أحدهما فاعلاً حقيقياً ، و الآخر مجازياً ، فإن كان الفاعل الحقيقي هو الرسول صلّى الله عليه و آله من غير أمر من الله ، فلا فرق بين سهونا و سهوه ، إلّا بأنّ سهوه من نفسه من غير مدخلية الشيطان ، و تبطل النسبة إلى الله حينئذٍ لأنّ معناها على هذا التقدير التخلية و التمكين و عدم المنع ، و ذلك حاصل في سهونا أيضاً ، فانتفت المزيّة بالكليّة ، و بطل الفرق كما لا يخفى ، لأنّ ما ذكر غير صالح للفرق ، و لا موجب لنسبة الفعل إلى الله حقيقة ، بل يوجب أن يكون النبيّ أسوء حالاً منّا في السهو ، لأنّ لنا عذرين ، و له عذر واحد .
و إن كان الفاعل الحقيقي هو الله ، أمّا بالخبر الخاص على تقدير تسليمه ، أو بالأمر له بما فعله ، ففيه تصريح بنفي السهو عن المعصوم ، وهو عين المدّعي ، و إنّما نفينا عنه السهو الحقيقي ، و لا حرج في إطلاق المجازي ، مع انّ الأولى ترك إطلاقه أيضاً في غير الضرورة ، كرواية هذه الأخبار و تأويلها .
هذا و لا يخفى إنّ الحمل على وقوع الأمر يستلزم الإسناد المجازي أيضاً ، و لا تصوّر فيه ، و قرينة قول ابن بابويه : إنّ سهوه من الله و سهونا من الشيطان .
و معلوم إنّ الشيطان لا يجبر الإنسان على السهو و لا على غيره ، بل يأمره بما يريد و يوسوس إليه به ، لكن النسبة إلى الله مع أمره به أقرب من النسبة إليه مع التخلية بمراتب ، و إلّا جاز إسناد جميع أفعال المعصوم و غيره إلى الله تعالى .
و أمّا ما نقله عن محمد بن الحسن بن الوليد ، فقبوله للتوجيه الّذي قلناه ،
التنبيه بالمعلوم _ 168 _
و المحمل الصحيح الّذي ذكرناه أوضح ، و كذلك دليلهما ، فتزول المخافة .
و أمّا الكتاب الّذي وعد بتأليفه فلم يصل إلينا ، فإن كان صرّح فيه بتجويز السهو الحقيقي أو وقوعه ، بطل حمل كلامه على المحمل الصحيح ، و لم يبطل حمل الأخبار عليه لوجود معارضاتها ، و كثرة اجمالاتها (1) .
و أمّا حديث (2) أبي بكر الحضرمي ففيه مع الإغماض عن سنده أنّه نسب السهو إلى الرسول صلّى الله عليه و آله ، فينا في إجماع الفريقين ، لأنّ من جوّز السهو عليه قال : انّه من الله ، فلابد له من تأويله بالحمل على المجاز ، أو الاعتراف ببطلان الفرق الّذي ذكره ، و القول بالمساواة بين سهونا و سهوه .
و أمّا حديث الحارث فليس فيه تصريح بالسهو أصلاً ، بل ظاهره العمد لإطلاق اسناد الفعل ، و هو يتمّ على جملة من الوجوه السابقة .
و أمّا حديث الحسن بن صدقة ففيه مع ضعف سنده جداً أنّه تضمّن منه الفعل إلى الرسول صلّى الله عليه و آله من غير تصريح [ بالسهو ، ثمّ نسب الفعل الى إرادة الله من غير تصريح به أيضاً ] (3) ، و ظاهر الحال كون الإسنادين على وجه الحقيقة ، و هو لا يتمّ كما مرّ فالأقرب أن يكون الفعل من الرسول صلّى الله عليه و آله عمداً ، و الأمر بذلك من الله كما تقدّم .
و حديث سعيد الأعرج قد عرفت حاله ، و هذه الرواية أخفّ إشكالاً من السابقة ، و لفظ إسهاه يمكن حمله على الترك من غير بعد بأن يكون أمره به .
---------------------------
(1) في ب : اجمالاتنا .
(2) في د : و أحاديث .
(3) ليس في ب .
التنبيه بالمعلوم _ 169 _
و أما حديث جميل فلا تصريح فيه بشيء ، و انّما قال : فذكر حديث ذي الشمالين ، و وجهه ما تقدّم في مثله ، بل أقرب الوجوه ممّا مضى ، و يأتي ممكن فيه .
و أمّأ حديث ابي بصير ففيه مع (1) الاغماض عن سنده ، و فساد مذهب راويه ، و مذهب غيره من الرواة انّه لم يصرّح بالسهو و لا فيه إشعار به .
و أمّا حديث سماعة فسنده كذلك ، و يستقيم في متنه أكثر ما مرّ من الوجوه إن لم يكن كلّها ، مع أنّ قوله : من حفظ سهوه فأتمّه ، ثمّ إيراده حديث ذي الشمالين يدلّ على انّ رسول الله صلّى الله عليه و آله كان حافظاً لعدد صلاته و أتمّها ، فليس عليه سجدتا السهو و حينئذٍ لم يكن منه سهو حقيقي ، بل هو مجازي بقرينة قوله : حفظ ، و قرينة ما تقدّم من المعارضات العقليّة و النقلية على انّه ينافي كثيراً من أحاديث السهو الّتي تضمّنت انّه صلّى الله عليه و آله سجد للسهو ، و هذا التناقض يضعف الاحتجاج بها ، بل أوّله يناقض آخره .
و التعليل الّذي تضمّنه قوله : فإنّ ... الخ ، لا يخفى ما فيه من المنافرة لأوّله ، و الإجمال و الاشكال من امارات التقيّة ، و قد تقدّم حديث عبدالله بن بكير المتضمّن لنفي سجود السهو عنه عليه السلام ، و انّه ما سجدهما قط ، و لا يسجدهما فقيه ، أي حافظ لعدد صلاته ، متيقّظ من الفقه ـ أي الفهم ـ او فقيه كامل الفقه و العلم ـ أعني المعصوم كما حمله عليه بعض المحقّقين ـ .
و أمّا حديث زيد بن علي فهو أضعف سنداً و دلالة لمخالفته للإجماع
---------------------------
(1) في ب : من .
التنبيه بالمعلوم _ 170 _
و شذوذه ، و عدم عمل أحد بمضمونه ، و عدم موافقته لاعتقاد علي عليه السلام و أكثر شيعته بل كلّهم ، و لاختصاص رواة (1)الزيدية بنقله ، و لاشتماله على لفظ المرغمتين ، و انّما سمّيت سجدتا السهو بهما لأنّهما ترغمان أنف الشيطان .
و إذا كان سهوه عليه السلام على تقدير تسليمه من الله لا من الشيطان لا يجوز إطلاق هذا اللفظ سلّمنا ، لكن ، من أين ثبت إنّ بعض القوم أصاب و إنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله أخطأ ؟ بل يجب الجزم بالعكس ، و إلّا لكان أمير المؤمنين عليه السلام أحقّ باستدراك ذلك من كلّ أحد ، فتكون صلاتهم في الواقع تامّة ، و السجود المذكور محمولاً على بعض الوجوه السابقة ، و المرغمتان إرغاماً للمنافقين الّذين أرادوا إبطال صلاته و إعادتها .
و أمّا حديث زيد الشحّام فوجهه ما تقدّم مع ضعف سنده جداً .
و أمّا حديث العزرمي فقد عرفت عبارة الشيخ فيه ، و فيها كفاية .
و يزيده و ضوحاً : الأوجه السابقة من التقيّة وغيرها ، و أقوى من جميع ذلك ، الحمل على كذب المنادي و غلطه ، فهو أحقّ بالسهو و الغلط ، بل الافتراء و تعمّد الكذب ، فلعلّه كان من بعض الأعداء و المنافقين الّذين يريدون تغطية قبائح المتقدّمين (2) ، فقد نقلوا ذلك عن الثاني .
و أمّا حديث أبي بصير فليس فيه تصريح بوقوع سهو أصلاً ، بل نقله لذلك بلفظ قيل ، يدلّ على عدم صحّته ، و إلّا لحكم به أوّلاً .
و أوضح من ذلك قوله : ما كان عليك لو سكت و لو كان صادقاً لما قال له
---------------------------
(1) في ب : برواية .
(2) في هامش ب : الخلفاء الثلاثة الغاصبة للخلافة لعنهم الله . ( منه رحمه الله ) .
التنبيه بالمعلوم _ 171 _
ذلك ، لأنّه كان عليه استحقاق العقاب لو كان القول واجباً ، و فوت الثواب إن كان راجحاً ، و لا يكاد يتصوّر المساواة و المرجوحية ، لأنّه من المعاونة على البرّ و التقوى ، و نصيحة المؤمن للمؤمن .
و أمّا حديث سماعة ، فلا إشكال فيه ، فليس ذلك بفعل اختياري ، و لو لم يرد (1) التصريح بذلك لمنعناه ، أو حملناه على ما قلناه لما تقدّم من انّه تنام عينيه و لا ينام قلبه ، و لكن النادر لا ينافي ذلك النص لما يأتي .
و أمّا حديث سعيد الأعرج فلا اشكال فيه أيضاً ، لأنّه صريح في أنّ الله جبره على ذلك ، و الزمه به ، و جعل نومه غالباً ، و لم يقع منه صلّى الله عليه و آله تقصير و لا شيء ، و لا ينافي العصمة ، و فيه ردّ على الغلاوة و المفوّضة معاً كما مرّ ، و فيه أيضاً اشارة إلى أنّ السهو على تقدير وقوعه كان كذلك ، لكن الأقرب هناك الحمل على الأمر دون الجبر .
امّا حديث عبد السلام بن صالح ففيه مع ضعف سنده جداً أنّه لا ينافي ما قلنا ، بل يؤيّده لانّه لم يقل يقع منه سهو ، بل قال يقع عليه السهو ، فدلّ على أنّه مجبور أو مأمور .
و الظاهر أنّهم كانوا ينكرون وقوع هذه القضيّة بالكلّيّة ، و يعدونها محالاً لاعتقادهم الغلو و التفويض ، فلا يجوّزون ذلك على وجه الحقيقة و لا المجاز و لا الأمر و المنع و الإكراه ، فورد الردّ عليهم و تكذيبهم ، و لا أقل من الاحتمال المانع من الستدلال .
---------------------------
(1) في ج : يروي .
التنبيه بالمعلوم _ 172 _
و قد ورد في الخصال عن أبي جعفر عليه السلام إنّ أمير المؤمنين عليه السلام علّم أصحابه في مجلس واحد أربعمائة كلمة ممّا يصلح للمسلم في دينه و دنياه .
فمن ذلك أنّه قال : إيّاكم و الغلو فينا ، قولوا إنّا عبيد مربوبون ، [ و كذا قوله : ] (1) و قولوا (2) في فضلنا ما شئتم . (3)
و يفهم من هذا الحديث : إنّ نفي السهو عن المعصوم ليس من الغلو ، و أنّما الغلو نفي الحقيقي و المجازي معاً لمنافاته للعبودية .
و روى الطبرسي في الاحتجاج في احتجاج الرضا عليه السلام على الغلاوة و المفوّضة قال : لا تتجاوزوا بنا العبوديّة ، ثمّ قولوا فينا ما شئتم ، و لن تبلغوا . (4)
و أمّا الحديثان الأخيران فقد عرفت الوجه فيهما ، و الله تعالى أعلم .
---------------------------
(1) ليس في ج .
(2) في د : و قوله .
(3) الخصال : 611 ح 10 ، عنه بحار الأنوار 10 : 89 ـ 116 ح 1 ، و ج 25 : 270 ح 15 ، و ج 70 : 36 ح 30 ، و ج 75 : 395 ح 11 .
(4) و الاحتجاج 2 : 438 ، عنه بحار الأنوار 25 : 273 ح 20 .
و قال العلّامة المجلسي في البحار ما نصّه : اعلم أن أصل هذا الخبر في غاية الوثاقة و الاعتبار على طريقة القدماء ، و إن لم يكن صحيحاً بزعم المتأخّرين ، و اعتمد عليه الكليني و ذكر أكثر أجزائه متفرقة في أبواب الكافي ، و كذا في غيره من أكابر المحدثين .