الفهرس العام

حسرة وأسى



شواهد اخرى على ولاية علي
تعليق على الشورى
الإختلاف في الثقلين
1 ـ الخلاف بين الصّحابة في صحة الحديث أو كذبه
2 ـ إختلاف المذاهب في السنّة النبوية
3 ـ اختلاف السنّة والشيعة في السنّة النبوية

  كيف لا أتحسّر ؟ بل كيف لا يتحسّر كل مسلم عند قراءة مثل هذه الحقائق ـ على ماخسره المسلمون بإقصاء الإمام علي عن الخلافة التي نصّبه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيها ، وحرمان الأمّة من قيادته الحكيمة ، وعلومه الكثيرة .
  وإذا مانظر المسلم بغير تعصّب ولا عاطفة ، لوجده أعلم الناس بعد الرسول ، فالتاريخ يشهد أن علماء الصحابة إستفتوه في كل ما أشكل عليهم وقول عمر بن الخطاب أكثر من سبعين مرّة ( لولا علي لعلك عمر ) (1) في حين إنّه ( عليه السلام ) لم يسأل أحداً منهم أبداً .
  كما أنّ التاريخ يعترف بأنّ علي بن أبي طالب أشجع الصحابة واقواهم ، وقد فرّ الشجعان من الصحابة في مواقف عديدة من الزّحف في حين ثبتَ هو ( عليه السلام ) في المواقف كلّها ، ويكفيه دليلاً الوسام الذي وسّمه به رسول الله

---------------------------
(1) مناقب الخوارزمي ص 48 ـ الإستيعاب 3 /39 تذكرة السبط 87 مطالب السؤول ص 13 تفسير النيسابوري في سورة الأقحاف فيض القدير 4 /357 .

لاكون مع الصادقين _ 100 _

  صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما قال : ( لأعطين غداً رايتي الى رجل يحبّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسولُه كرَّارٌ ليس فرّاراً إمتحن الله قلبه للإيمان ) (1) .
  فتطاول اليها الصحابة فدفعها الى علي بن أبي طالب .
  وبإختصار فان موضوع العلم والقوة والشجاعة التي يَختصّ بها الإمام علي ـ موضوع معروف لدى الخاص والعام ولا يختلف فيه إثنان ـ وبقطع النظر عن النصوص الدالة على إمامته بالتصريح والتلميح فإن القرآن الكريم لا يعترف بالقيادة والإمامة إلاّ للعالِم الشجاع القوي قال الله سبحانه وتعالى في وجوب إتّباع العلماء .
  أفمن يهدي الى الحقّ أحقْ أن يتّبع أمّن لا يهدي إّلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون (2) .
  وقال تعالى في وجوب قيادة العالم الشجاع ألقوي قالوا أنّى يكون له الملك علينا ونحنُ أحقُّ بالملك منه ولم يؤتَ سعةًِ من المال ، قال : أنّ الله إصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ، والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم (3) .
  ولقد زاد الله سبحانه ألإمام علي بالنسبة الى كل الصحابة زاده بسطة في العلم فكان بحق ( باب مدينة العلم ) وكان هو المرجع الوحيد للصحابة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم وكان الصحابه كلّما عجزوا عن حلّ يقولون ( معضلة وليس لها إّلا أبو الحسن ) (4) .

---------------------------
(1) صحيح البخاري 4 / 5 و ص 12 / 5 / 76 و 77 .
صحيح مسلم 7 / 121 باب فضائل علي بن أبي طالب .
(2) سورة يونس آية 35 .
(3) سورة البقرة آية 247
(4) مناقب الخوارزمي ص 58 تذكرة السبط 87 إبن المغازلي ترجمة علي ص 79 .

لاكون مع الصادقين _ 101 _

  وزاده بسطة في الجسم فكان بحق أسد الله الغالب وأصبحت قوّته وشجاعته مضرب الأمثال عبر الأجيال حتّى روى المؤرخون فيها قصصاً تقارب المعجزات كإقتلاع باب خيبر وقد عجز عن تحريكه فيما بعد عشرون صحابياً (1) وإقتلاع الصنم الأكبر هبل (2) من فوق سطح الكعبة ، وتحويل الصخرة العظيمة التي عجز الجيش كله عن تحريكها (3) وغير ذلك من الروايات المشهورة .
  وقد أشاد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بإبن عمّه علي وأبان فضله وفضائله في كل مناسبة وعرف بخصائصه ومزاياه فمرة يقول : ( إن هذا أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي فاسمعوا له واطيعوا ) (4) ومرّة يقول له : ( أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى إّلا إنه لا نَبيٌ بعدي ) (5) .
  وأخرى يقول : ( من أراد أن يحيا حياتي ، ويموت موتي ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي فليتولّ علي بن أبي طالب فإنّه لم يخرجكم من هدى ولم يدخلكم في ظلالة ) (6) .
  والمتتّبع لسيرة الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم يجده لم يكتف بالأقوال والأحاديث فيه فحسب بل أن أقواله تجسدت في أعماله فلم يأمَّر في حياته على علي أحداً من الصحابة بالرغم من تأميرهم على بعضهم البعض فقد أمرّ على

---------------------------
(1 ، 2 ، 3 ) شرح النهج لإبن أبي الحديد في المقدمة .
(4) تاريخ الطبري 2 / 319 تاريخ إبن الأثير 2 /62 .
(5) صحيح مسلم 7 / 120 صحيح البخاري في فضائل علي .
(6) مستدرك الحاكم 3 / 128 والطبراني في الكبير .

لاكون مع الصادقين _ 102 _

  أبي بكر وعمر في غزوة ذات السلاسل عمرو بن العاص (1) .
  كما أمّر عليهم جميعاً شاباً صغيراً أسامة بن زيد وذلك في سرية أسامة قبل موته صلّى الله عليه واله وسلّم .
  أمّا علي بن أبي طالب فلم يكن في بعث إلا وهو الأمير حتّى إنه صلّى الله عليه وآله وسلّم بعث في مرّة بعثين وأمّر علياً على بعثٍ وخالد بن الوليد على بعثٍ وقال له : إذا إفترقتُم فكل واحد على جيشه وإذا التقيتُم فعليٌ على الجيش كلّه .
  ونستنتجُ من كلّ ماتقدّم بأنّ عليَّاً هو وليّ المؤمنين بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا ينبغي لأحدٍ أن يتقدّم عليه .
  ولكن مع الأسف الشديد فقد خسر المسلمون خسارة فادحة ، وهم يعانون حتّى اليوم ويجنون ثمار ماغرسوه ، وقد عرف التالون غبَّ ما أسّسه الأولون .
  وهل يمكن لأحد أن يتصوُر خلافة راشدة كخلافة علي بن أبي طالب لو إتبعتْ هذه الأمة ما إختاره الله ورسوله فعليٌ كان بإمكانه ان يقود الأمة طول ثلاثين عاماً على نسق واحد كما قادها رسول الله صلى اله عليه واله وسلم وبدون أي تغيير ، ذلك بأن أبا بكر وعمرا غيّرا وإجتهدا بأدائهما مقابل النصوص وأصبح فعلهما سنّة متّبعة ، ولّما جاء عثمان للخلافة غيرَ أكثر حتى قيل إنه خالف كتاب الله وسنّة رسوله وسنّة أبي بكر وعمر وأنكر عليه الصحابة ذلك وقامت عليه ثورة شعبية عارمة أودت بحياته وسببتْ فتنة كبرى في الأمة لم يندمل جرحها حتى الآن .
  أمّا علي بن أبي طالب فكان يتقيد بكتاب الله وسنة رسوله لا يحيد عنهما قيد أنملةٍ وأكبر شاهد على ذلك إنّه رفض الخلافة عندما إشترطوا عليه أن يحكمْ مع كتاب الله وسنة رسوله ، سنة الخليفتين .

---------------------------
(1) السيرة الحلبية غزوة ذات السلاسل وطبقات إبن سعد وكل من ذكر غزوة ذات السلاسل .

لاكون مع الصادقين _ 103 _

  ولسائل أن يسأل : لماذا يتقيد علي بكتاب الله وسنة رسوله بينما إضطر أبو بكر وعمر وعثمان للإجتهاد والتّغير ؟
  والجواب هو إنّ علياً عنده من العلم ماليس عندهم وإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خصّه بألف باب من العلم يفتح لكل باب ألف باب (1) وقال له :
  ( أنتَ ياعلي تبينّ لأمّتي ما إختلفوا فيه بعدي ) (2) .
  أمّا الخلفاء فكانوا لا يعلمون كثيراً من أحكام القرآن الظاهريه فضلاً عن تأويله فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما في باب التيمّم بأن رجلاً سأل عمر بن الخطاب أيام خلافته فقال : يا أمير المؤمنين إني أجنبتُ ولم أجد الماء فماذا أصنع ؟ قال له عمر لا تُصلّ !! وكذلك لم يعرف حكم الكلالة حتى مات وهو يقول وددتُ لو سألتُ رسول الله عن الكلالة بينما حكمها مذكور في القرآن الكريم ، ولذا كان عمر الذي يقول عنه أهل السنّة والجماعة بأنه من الملهمين على هذا المستوى العلمي ، فلا تسأل عن الآخرين الذين أدخلوا البدع في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير سوى إجتهادات شخصية .
  ولقائل أن يقول : إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يُبينّ الأمام علي للإمّة ما إختلفوا فيه بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم .
  والجواب هو : إنّ الإمام علياً لم يألُ جهداً في تبيين ما أشكل على الأمة وكان مرجح الصحابة في كل ما أشكل عليهم فكان يأتي ويوضّح وينصح فكانوا يأخذون منه مايُعجبهم وما لا يتعارض مع سياستهم ويدعون ماسوى ذلك والتاريخ أكبر شاهد على ما نقول .

---------------------------
(1) كنز العمال 6 /392 رقم الحديث 6006 وكذلك في حلية الأولياء ينابيع المودة ص 73 و 77 تاريخ دمشق لإبن عساكر 2 /483 .
(2) مستدرك الحاكم 3 /122 تاريخ دمشق لإبن عساكر 2 /488 .

لاكون مع الصادقين _ 104 _

  والحقيقة هي : لولا علي بن أبي طالب والأئمة من ولده لما عرف النّاس معالم دينهم ، ولكنّ النّاس كما أعلمنا القرآن لا يحبّون الحقّ فاتبعوا أهواءهم وإخترعوا مذاهب في مقابل الأئمة من أهل البيت الذين كانت الحكومات تحسبُ عليهم انفاسهم ولا تترك لهم حرّية التحرّك والإتصال المباشر .
  فكان علي يصعد على المنبر ويقول للناس : سلوني قبل ان تفقدوني ويكفي علياً أن ترك نهج البلاغة ، والأئمة من أهل البيت سلام الله عليهم تركوا من العلم ما ملأ الخافقين وشهد لهم بذلك أئمّة المسلمين سنّة وشيعة .
  ـ وأعود للموضوع فأقول على هذا الأساس : لو قُدّر لعلي أن يقود الأمّة ثلاثين عاماً على سيرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لعّم الإسلام ولتغلغلت العقيدة في قلوب الناس أكثر وأعمق ولَما كانتْ فتنة صغرى ولا فتنة كبرى ولا كربلاء ولا عاشوراء ، ولو تصوّرنا قيادة الأئمة ألأحد عشر بعد علي والذي نصّ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم والذين إمتدتْ حياتهم عبر ثلاث قرون لما بَقِي في الأرض ديار لغير المسلمين ولا كانت الأرض اليوم على غير مانشاهده اليوم ولكانت حياتنا إنسانية بمعناها الحقيقي .
  ولكن قال الله تعالى : ( أَلَم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون ) (1) وقد فشلت الأمّة الإسلامية في الإمتحان كما فشلتْ الأممُ السّابقة كما نصّ على ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (2) في العديد من المناسبات ، كما أكد عليه القرآن الكريم في العديد من الآيات (3) .
---------------------------
(1) سورة العنكبوت آية 2 .
(2) كحديث إتباع سنّة اليهود والنصارى شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ، أخرجه البخاري ومسلم وسبقت الإشارة اليه وكحديث الحوض الذي يقول فيه رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم لا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم .
(3) كقوله تعالى : أفإن مات أو قتل إنقلبتُم على أعقابكم آل عمران : آية 144 ، وكقوله سبحانه وتعالى : وقال الرسول ياربّ إنّ قومي إتخذوا هذا القرآن مهجوراً ... الفرقان آية 30 .

لاكون مع الصادقين _ 105 _

شواهد اخرى على ولاية علي

  وكأن الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون ولاية علي هي الإختبار للمسلمين فكل إختلاف وقع فبسببها ولأنّه سبحانه لطيفٌ بعباده فلا يؤاخذ التالين بما فعل الأولون فجلّتْ حكمته وحفَّ تلك الحادثة بأحداث أخرى جليلة تشبه المعجزاتْ حتّى تكون حافزاً للإمّة فينقلها الحاضرون ويعتبر بها اللاّحقون عسى أن يهتدوا للحقّ من طريق البحث .
  الشاهد الأول : يتعلّق بعقوبة من كذّب بولاية علي وذلك إنه بعد شيوع خبر غدير خم وتنصيب الإمام علي خليفة على المسلمين ، وقول الرسول لهم : فليبلغ الشاهد الغائب .
  وصل الخبر الى الحارث بن النعمان الفهري ولم يُعجبْهُ ذلك (1) فأقبل على رسول الله ، وأناخ راحلته امام باب المسجد ودخل على النبي صلّى الله عليه وآله

---------------------------
(1) يدلّنا على أن هناك من الأعراب الذين يسكنون خارج المدينة يبغضوا علي بن أبي طالب ولا يحبّوه ، كما إنهم لايحبّون محمّد ولذا ترى هذا الجلف يدخل على النبي فلا يسلم ويناديه يا محمد : وصدق الله أن يقول : الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله .

لاكون مع الصادقين _ 106 _

  وسلّم فقال : يا محمّد إنك أمرتنا أن نشهد أن لا اله إلاّ الله وإنك رسول الله فقبلنا منك ذلك ، وأمرتنا أن نصلّي خمس صلوات في اليوم والليلة ونصوم رمضان ، ونحجّ البيت ، ونزكّي أموالنا فقبلنا منك ذلك ، ثم لم ترض بهذا حتّى رفعتَ بضبعي إبن عمّك وفضّلته على النّاس وقُلتَ ( من كنتُ مولاه فعلي مولاه ) فهذا شيء منك أو من الله ؟
  فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد أحمرّتْ عيناه : والله الذي لا إله إلاّ هو إنّه من الله وليس منّي قالها ثلاثاً .
  فقام الحارث وهو يقول : ( اللّهم إن كان ما يقول محمد حقَّاً فإرسل علينا حجارة من السّماء أو آئتنا بعذاب أليم )
  قال : فوالله مابلغ ناقته حتّى رماه الله من السماء بحجر فوقع على هامته فخرج من دبره ومات ، وأنزل الله تعالى : سأل سائل بعذابٍ واقع للكافرين ليس له دافعٌ .
  وهذه الحادثة نقلها جمع غفير من علماء أهل السنّة غير الذين ذكرناهم (1) فمن أراد مزيداً من المصادر فعليه بكتاب الغدير للعلامة الأميني .

---------------------------
(1) شواهد التنزيل للحسكاني 2 /286.
تفسير الثعلبي في سورة سئل سائل بعذاب واقع .
تفسير القرطبي 18 /278 .
تفسير المنار رشيد رضا 6 /464 .
ينابيع المودّة للقندوزي الحنفي ص 328 .
الحاكم في ما إستدركه على الصحيحين 2 /502 .
السيرة الحلبية 3 /275 .
تذكرة الخواص بن الجوزي ص 37 .

لاكون مع الصادقين _ 107 _

  الشاهد الثاني : يتعلّق بعقوبة من كَتم الشهادة بحادثة الغدير وإصابته دعوة الإمام علي .
  وذلك عندما قام الإمام علي أيام خلافته ، في يوم مشهود إذ جمع النّاس في الرحبة ونادى من فوق المنبر قائلاً : ( أنشد الله كل إمرىء مسلم سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول يوم غدير خم ( من كنتُ مولاه فعلي مولاه ) ألاّ قام فشهد بما سمع ، ولا يقم إلاّ من رآه بعينيه وسمعه بأذنيه ) .
  فقام ثلاثون صحابياً منهم ستة عشر بدْريَّا ، فشهدوا إنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذ بيده ، فقال للناس : ( أتعلمون إني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : نعم ، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : من كنتُ مولاه فهدا مولاه ، اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه … ) الحديث .
  ولكنّ بعض الصّحابة ممّن حضروا واقعة الغدير أقعدهم الحسدُ أو البُغْض للإمام ، فلم يقوموا للشهادة ومن هؤلاء أنس بن مالك ، حيث نزل اليه الإمام علي من المنبر وقال له : مالك يا أنس لا تقوم مع أصحاب رسول الله فتشهد بما سَمعتَهُ منه يومئذ كما شهدوا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، كبُرتْ سنّي ونسيتُ ، فقال الإمام علي : إن كنتَ كاذباً فضربك الله ببيضاء لاتوَاريها العمامة ، فما قام حتّى إبيضّ وجهه برصاً ، فكان بعد ذلك يبكي ويقول : أصابتني دعوة العبد الصالح لأنّي كتمتُ شهادته .
  وهذه القصّة مشهورة ذكرها إبن قتيبة في كتاب المعارف (1) حيث عدّ أنساً من أصحاب العاهات في باب البرص وكذلك الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (2) .

---------------------------
(1) كتاب المعارف لإبن قتيبة الدينوري ص 251 .
(2) مسند الإمام احمد بن حنبل 1 /119 .

لاكون مع الصادقين _ 108 _

  حيث قال : فقاموا إلا ثلاثة لم يقوموا فأصابتهم دعوته .
  وتجدر الإشاره هنا بأن نذكر هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم الإمام أحمد برواية البلاذري (1) قال بعدها أورد مناشدة الأمام علي للشهادة ، وكان تحت المنبر أنس بن مالك والبراء بن عازب ، وجوير بن عبدالله البجلي ، فأعادها فلم يجبه منهم أحد فقال : اللّهم من كتم هذه الشهادة وهو يعرفها فلا تخرجه من الدنيا حتّى تجعل به آية يُعرف بها ، قال : فبرصَ أنس بن مالك ، وعَميَ البراء بن عازب ، ورجع جرير أعرابياً بعد هجرته فأتى الشراة فمات في بيت إمّه .
  وهذه القصّة مشهورة تناقلها جمع كبير من المؤرخين (2) .
  فأعتبروا يا أولي الألباب والمتتّبع يعرف من خلال هده الحادثة (3) التي أحياها الإمام علي بعد مرور ربع قرن عليها وبعدما كادتْ تُنسىَ يعرف ما هي قيمة الإمام علي وعظمته ومدى علّو همّته وصفاء نفسه ، وهو في حين أعطى للصّبر أكثر من حقّه ، ونصح لأبي بكر وعمر وعثمان ما علم إن في نُصحهم مصلحة الإسلام والمسلمين ، كان مع ذلك يحمِلُ في جنباته حادثة الغدير بكلّ معانيها وهي حاضرة في ضميره في كل لحظات حياته فما أن وجد فرصة سانحة لبعثها وإحيائها من جديد حتّى حمل غيره

---------------------------
(1) أنساب الأشراف للبلاذري في جزئه الأول و 2 /152
(2) تاريخ إبن عساكر المسمّى بتاريخ دمشق 2 /7 و 3 /150 .
ـ شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد تحقيق محمد أبو الفضل 19 / 217.
ـ عبقات الأنوار 2 /309
ـ مناقب علي بن أبي طالب لإبن المغازلي ص 23 .
ـ السيرة الحلبية 3 /337 .
(3) وهو مناشدة الإمام علي يوم الرحبة الصحابة ليشهدوا بحديث الغدير وقد روي هذه الحادثة جمع غفير من المحدّثين والمؤرخين سبق الإشارة اليهم أمثال : أحمد بن حنبل وإبن عساكر .
وإبن أبي الحديد وغيرهم .

لاكون مع الصادقين _ 109 _

  للشّهادة بها على مسمع ومرأى من النّاس .
  وإنظر كيف كانت طريقة إحياء هذه الذكرى المباركة وما فيها من الحكمة البالغة لإقامة الحجة على المسلمين من حَضر منهم الواقعة ومن لم يحضر ، فلو قال الإمام : أيها الناس لقد أوصى بي رسول الله في غدير خم على الخلافة لما كان لذلك وقعاً في نفوس الحاضرين ولأحتجوا عليه عن سكوته طوال تلك المدّة .
  ولكنّه لما قال : أنشدُ الله كل إمريء مسلم سمع رسول الله يقول ماقال يوم غدير خم ، ألاّ قام فشهد ، فكانت الحادثة منقولة بحديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على لسان ثلاثين صحابياً منهم ستّة عشر بدريّاً وبذلك قطع الإمام الطريق على المكذّبين والمشكّكين وعلى المحتجّين عن سكوته طوال تلك المدّة لأنّ في سكوت هؤلاء الثلاثين معه وهو من عظماء الصحابة لدليل كبير على خطورة الموقف وعلى أنّ السكوت فيه مصلحة الإسلام كما لا يخفى .

لاكون مع الصادقين _ 111 _

تعليق على الشورى

  رأينا فيما سبق بأنّ الخلافة على قول الشيعة هي بإختيار الله سبحانه وتعيين رسول الله صلّى الله عليه وآله سلّم بعد وحي يوحى به إليه .
  وهذا القول يتماشى تماماً مع فلسفة الإسلام في كلّ أحكامه وتشريعاته إذ أنّ الله سبحاته هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ، ما كان لهم الخيرة (1) .
  وبما أن الله سبحانه أراد أنّ تكون أمّة محمد خير أمّة أُخرجت للنّاس ، ولا بدّ لها من قيادة حكيمة ، رشيدة ، عالمة ، قويّة ، شجاعة ، تقية ، زاهدة ، في أعلى درجات الإيمان ، وهذا لا يتأتّي إلاّ لمن إصطفاه الله سبحانه وتعالى ، وكيّفه بميزات خاصّة تؤهله للقيادة والزعامة : قال الله تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن النّاس إنّ الله سميع بصير (2) .
  وكما أن الأنبياء إصطفاهم الله سبحانه فكذلك الأوصياء ، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم :

---------------------------
(1) سورة القصص آية 68 .
(2) سورة الحج آية 75 .

لاكون مع الصادقين _ 112 _

  ( لكل نبي وصي ، وأنا وصيّي علي بن أبي طالب ) (1) .
  وفي حديث آخر قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( أنا خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء ) (2) .
  وعلى هذا الأساس فإن الشيعة سلّموا أمرهم لله ورسوله ، ولم يبق منهم من يدّعِ الخلافة لنفسه أو يطمع فيها ، لا بالنصّ ولا بالأختيار ، اولاً لأن النصّ ينفي الأختيار والشورى وثانياً لأن النصّ قد وقع من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على أشخاص معدودين ومعيّنين (3) بأسمائهم ، فلا يتطاول إليها منهم متطاول وإن فعل فهو فاسقٌ خارج عن الدّين .
  أمّا الخلافة عند أهل السنّة والجماعة فهي بالأختيار والشورى وبذلك فتحوا الباب الذي لا يمكن غلقه على أي واحد من الأمّة وأطمعوا فيها كل قاص ودان ، وكل غثٍ وسمين ، وحتّى تحوّلت من قريش الى الموالي والعبيد وإلى الفرس والمماليك والى الأتراك والمغول .
  وتبخّرتْ تلك القيم والشروط التي إشترطوها في الخليفة لأنّ غير المعصوم بشر مليء بالعاطفة والغرائز ، وبمجّرد وصوله الى الحكم لا يؤمن أن ينقلب ويكون أسوأ ممّا كان والتاريخ الإسلامي خير شاهد على مانقول .
  وأخشى أن يتصور بعض القرّاء بأنّني أبالغ ، فما عليهم إلاّ ان يتصفّحوا تاريخ الأمويين والعباسيين وغيرهم حتّى يعرفوا بأن من تَسَمّى أمير المؤمنين كان يتجاهر بشرب الخمر ويلاعب القرود ويلبسهم الذهب وأن ( أمير المؤمنين ) يُلبس جاريتهُ لباسَه لتصلّي بالمسلمين ، وإنّ ( أمير المؤمنين تموت جاريته حبّابَة فيسلبُ

---------------------------
(1) تاريخ إبن عساكر الشافعي 3 /5 مناقب الخوارزمي ص 42 ينابيع المودة ص 79 .
(2) ينابيع المودّة 2 /3 نقلاً عن الديلمي ـ المناقب للخوارزمي ـ ذخائر العقبى .
(3) روى العدد البخاري ومسلم وروى العدد والأسماء صاحب ينابيع المودّة 3 /99 .

لاكون مع الصادقين _ 113 _

  عقلهُ وإن ( أمير المؤمنين ) يطربُ لشاعر فيقبّل ذكرّه ، ولماذا نستغرق في هؤلاء الذين حكموا المسلمين بأنهم لا يمثلون إلاّ الملك العضوض ولا يمثلون الخلافة وذلك للحديث الذي يروونه وهو قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم
  ( الخلافة من بعدي ثلاثون عاماً ثم تكون ملكاً عضوضاً ) .
  وليس هذا موضوع بحثنا فمن أراد الإطلاع على ذلك فعليه مراجعة تاريخ الطبري وتاريخ إبن الأثير وأبي الفداء وإبن قتيبة وغيرهم .
  وإنّما أردتُ بيان مساوىء الإختيار وعقم النظرية من أساسها لأنّ من نختاره اليوم قد ننقم عليه غداً ويتبيّن لنا بأنّنا أخطأنا ولم نُحسن الإختيار ـ كما وقع ذلك لعبدالرحمن بن عوف نفسه عندما إختبار للخلافة عثمان بن عفّان وندم بعد ذلك ، ولكن ندمه لم يُفد الأمة شيئاً بعد توريطها ، وإذا كان صحابي جليل من الرّعيل الأول وهو عثمان لايفي بالعهد الذي أعطاه لعبدالرحمن بن عوف ، وإذا كان صحابي جليل من الرّعيل الأول وهو عبدالرحمن بن عوف لا يُحسن الإختيار ، فلا يمكنُ لعاقل بعد ذلك أن يرتاح لهذه النظرية العقيمة والتي ماتولّد عنها إلاّ الإضطراب وعدم الأستقرار وإرقة الدّماء ، فإذا كانت بيعة أبي بكر فلتةً كما وصفها عمر بن الخطاب وقد وقى الله المسلمين شرّها ، وقد خالف وتخلّف عنها جمع غفير من الصحابة ، وإذا كانت بيعة علي بن أبي طالب بعد ذلك على رؤوس الملأ ولكنّ بعض الصحابة نكث البيعة ، وإنجّر عن ذلك حرب الجمل ، وحرب صفين ، وحرب النهروان ، وزهقت فيها أرواح بريئة ، فكيف يرتاح العُقلاء بعد ذلك لهذه القاعدة التي جُرّبتْ وفشلتْ فشلاً ذريعاً من بدايتها وكانتْ وبالاً على المسلمين ، وبالخصوص إذا عرفنا أنّ هؤلاء الذين يقولون بالشورى يختارون الخليفة ولا يقدرون بعد على ذلك تبديله أو عزله ، وقد حاول المسلمين جهدهم عزل عثمان فأبى قائلاً : لا أنزع قميصا قمّصنيه الله .
  ومّما يزيدنا نفوراً من هذه النظرية ، ما نراه اليوم في دول الغرب المتحضّرة والتي تزعم الديمقراطية في إختيار رئيس الدولة ، وترى الأحزاب المتعدّدة وتتصارع وتتساوم وتتسابق للوصول الى منصّة الحكم بأي ثمن ، وتصرف من أجل ذلك

لاكون مع الصادقين _ 114 _

  البلايين من الأموال التي تخصّص للدّعاية بكلّ وسائلها وتُهدر طاقات كبيرة على حساب المستضعفين من الشعب المسكين الذي قد يكون في أشد الحاجة إليها ، وما أن يصل أحدُهم الى الرئاسة حتى تاخذه العاطفة فُيولّي أنصاره وأعضاء حزبه واصدقاءه وأقاربه في مناصب الوزراء والمسؤوليات العظمى والمراكز المهمّة في الإدارة ويبقى الآخرون يعملون في المعارضة مدّة رئاسته المتفق عليها أيضاً فيخلقون له المشاكل والعراقيل ويحاولون جهدهم فضحهُ والإطاحة به ، وفي كل ذلك خسارة فادحة للشعب المغلوب على أمره ، فكم من قيم انسانية سقطتْ ، وكم من رذائل شيطانيه رُفِعتْ بإسم الحرية والديمقراطية وتحت شعارات برّاقة ، فأصبح اللواط قانوناً مشروعاً والزنا بدلا من الزواج تقدّماً ورُقياً وحدّث في ذلك ولا حرج .
  فما أعظم عقيدة الشيعة في القول بأن الخلافة أصل من أصول الدّين وما أعظم قولهم بأن هذا المنصب هو بإختيار الله سبحانه ، فهو قولٌ سديدٌ ورأيٌ رشيد يقبله العقل ويرتاح إليه الضمير ، وتأيده النصوص من القرآن والسنّة ويُرغم أنوف الجبابرة والمتسلّطين ، والملوك والسلاطين ، ويفيض على المجتمع السكينة والإستقرار .

لاكون مع الصادقين _ 115 _

الإختلاف في الثقلين

  عرفنا فيما سبق ومن خلال الأبحاث المتقدمة رأي الشيعة وأهل السنّة في الخلافة وما فعله الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم إتجاه الأمّة على قول الفريقين .
  فهل ترك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمّته شيئاً ؟ تعتمد عليه وترجع اليه فيما قد يقع فيه الخلاف الذي لابدّ منه والذي سجّله كتاب الله بقوله تعالى :   ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسولَ وأولي الأمر منكم ، فإن تنازعتم في شيء فردّوه الى الله والرّسول إن كنتُم تُؤمنُون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً (1) .
  نعم ، لا بدّ للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يترك للأمة قاعدة ترتكز عليها ، فهو إنّما بُعث رحمة للعالمين ، وهو حريصٌ على أن تكون أمّته خير الأمم ولا تختلف بعده ولهذا روى عنه أصحابه والمحدّثون بأنه قال : ( تركتُ فيكم الثقلين ، ما ان تمسكتم بهما ، لن تضلو بعدي أبداّ ، كتاب

---------------------------
(1) سورة النساء آية 59 .

لاكون مع الصادقين _ 116 _

  الله وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) (1) .
  وهذا الحديث ثابت أخرجه المحدثون من الفريقين السنّة والشيعة ، ورووه في مسانيدهم وفي صحاحهم عن طريق مايزيد على ثلاثين صحابياً .
  وبما إنني وكالعادة لا أحتج بكتب الشيعة ولا باقوال علمائهم فكان لزامًا علي أن أذكر فقط علماء السنّة الذين أخرجوا حديث الثقلين معترفين بصحته حتى يكون البحث دائما موضوعيا يتصف بالعدل والإنصاف ( وإن كان العدل والإنصاف يقتضي ذكر قول الشيعة أيضاً ) .
  وهذه قائمة وجيزة عن رواة هذا الحديث من علماء السنّة :
  1 ـ صحيح مسلم كتاب فضائل علي بن أبي طالب 7 /122
  2 ـ صحيح الترمذي 5 /328 .
  3 ـ الإمام النسائي في خصائصه ص 21 .
  4 ـ الإمام احمد بن حنبل 3 /17 .
  5 ـ مستدرك الحاكم 3 /109 .
  6 ـ كنز العمال 1 /154 .
  7 ـ الطبقات الكبرى لإبن سعد 2 /194.
  8 ـ جامع الأصول لإبن الأثير 1 /187 .
  9 ـ الجامع الصغير للسيوطي 1 /353 .
  10 ـ مجمع الزوائد للهيثمي 9 /163 .
  11 ـ الفتح الكبير للنبهاني 1 /451 .
  12 ـ أسد الغابة في معرفة الصحابة لإبن الأثير 2 /12 .
  13 ـ تاريخ إبن عساكر 5 /436

---------------------------
(1) مستدرك الحاكم 3 /148 .

لاكون مع الصادقين _ 117 _

  14 ـ تفسير إبن كثير 4 /113 .
  15 ـ التاج الجامع للأصول 3 /308 .
  أضف الى هؤلاء إبن حجر الذي ذكره في كتابه الصواعق المحرقة معترفا بصحته ـ والذهبي في تلخيصه معترفا بصحته على شرط الشيخين ـ والخوارزمي الحنفي ـ وإبن المغازلي الشافعي والطبراني في معجمه ، وكذلك صاحب السيرة النبوية في هامش السيرة الحلبية صاحب ينابيع المودة وغيرهم فهل يجوز بعد هذا أن يدعي أحد أن حديث الثقلين ( كتاب الله وعترتي ) لا يعرفه أهل السنّة وإنما هو من موضوعات الشيعة ؟؟ قاتل الله التعصب والجمود الفكري والحمية الجاهلية .
  إذن ، فحديث الثقلين الذي أوصى فيه صلّى الله عليه وآله وسلم بالتمسك بكتاب الله وعترته الطاهرة ، هو حديث صحيح عند أهل السنة كما مر علينا وعند الشيعة هو أكثر تواتراً وسندا عن الأئمة الطاهرين .
  فلماذا يشكك البعض في هذا الحديث ويحولون جهدهم أن يبدلوه ( بكتاب الله وسنتي ) ورغم أن صاحب كتاب ( مفتاح كنوز السنّة ) يخرج في صفحة 478 بعنوان ( وصيته (ص) بكتاب الله وسنة رسوله ) نقلا عن البخاري ومسلم والترمذي وإبن ماجة غير أنك إذا بحثت في هذه الكتب الأربعة المذكورة فسوف لن تجد اشارة من قريب أو من بعيد الى هذا الحد ـ نعم قد تجد في البخاري ( كتاب الإعتصام في الكتاب والسنة ) (1) ولكنك لاتجد لهذا الحديث وجوداً .
  وغاية مايوجد في صحيح البخاري وفي الكتب المذكورة حديث يقول : ( حدثنا طلحة بن مصرف قال : سألت عبدالله بن أبي أوفى رضي الله عنهما هل كان النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أوصى ؟ فقال : لا ، فقلت : كيف كتب على

---------------------------
(1) صحيح البخاري 8 /137 .

لاكون مع الصادقين _ 118 _

  النّاس الوصية او أمُروا بالوصيّةِ ؟ قال : أوصَى بكتاب الله ) (1) .
  ولا وجود لحديث لرسول الله يقول فيه ( تركتُ فيكم الثقلين كتاب الله وسنّتي ) وحتّى على فرض وجود هذا الحديث في بعض الكتب فلا عبرة به ، لأن الإجماع على خلافه كما تقدم ثم لو بحثنا في حديث ( كتاب الله وسنتي ) لوجدناه لايستقيمُ مع الواقع لاَ نقلاً ولا َ عقلا ، ولنا في رده بعض الوجوه .
  الوجه الأول : إتفق المؤرخون والمحدّثون بأن رسول الله صلّى الله علي وآله وسلّم منع من كتابة أحاديثه ، ولم يدّع أحد أنه كان يكتب السنّة النّبوية في عهده صلّى الله عليه وسلم ، فقول الرّسول صلى الله عليه واله وسلم تركتُ فيكم ( كتاب الله وسنّتي ) لا يستقيم ـ أمّا بالنّسبة لكتاب الله فهو مكتبوب ، محفوظ في صدور الرجال وبإمكان أي صحابي الرجوع الى المصحف ولو لم يكن من الحفاظ .
  أمّا بالنسبة للسنّة النّبوية فليس هناك شيء مكتوب أو مجموعٌ في عهده صلّى الله عليه وآله وسلم فالسنّة النبوية كما هو معلوم ومتفق عليه ، كل ماقاله الرسول أو فعله أو أقرّهُ ، ومن المعلوم أيضاً أنّ الرسول لم يكن يجمع أصحابه ليعلمهم السنّة النبوية بل كان يتحدث في كل مناسبة وقد يحضر بعضهم وقد لا يكون معه إلا واحداً من أصحابه فكيف يمكن للرّسول والحال هذه ، أن يقول لهم تركتُ فيكم سنتي ؟؟
  الوجه الثاني : لمّا إشتدّ برسول الله وجعه وذلك قبل وفاته بثلاثة أيام طلب منهم أن ياتوه بالكتف والدّواة ليكتُب لهم كتاباً لا يضلّوا بعده أبداً ، فقال عمر بن

---------------------------
(1) صحيح البخاري 3 /186 .
صحيح الترمذي كتاب الوصايا .
صحيح مسلم كتاب الوصايا .
صحيح إبن ماجة كتاب الوصايا .

لاكون مع الصادقين _ 119 _

  الخطاب أن رسول الله ليهجر وحسبُنا كتاب الله ! (1) فلو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال لهم من قبل تركتُ فيكم ( كتاب الله وسنّتي ) لما جاز لعمر بن الخطاب أن يقول : حسبُنا كتاب الله ! لأنّه بذلك يكون والصحابة الذين قالوا بمقالته َرادّين على رسول الله ولا أظنّ أنّ أهل السنّة والجماعة يرضون بهذا .
  ولذلك فهمنا أن الحديث وضعه بعض المتأخرين الذين يعادون أهل البيت وخصوصاً بعد إقصائهم عن الخلافة وكأن الذي وضع الحديث ( كتاب الله وسنّتي ) إستغرب أن يكون النّاس تمسّكوا بكتاب الله وتركوا العترة وإقتدوا بغيرهم ، فظنّ إنّه بإختلاق الحديث سيصححّ مسيرتهم ويُبعدُ النقد والتجريح عن الصحابة الذين خالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
  الوجه الثالث : من المعروف إنّ أول حادثة إعترضت أبا بكر في أوائل خلافته هي قراره محاربة مانعي الزكاة ، رغم معارضة عمر بن الخطاب له وإستشهاده بحديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : ( من قال لا إله إلا الله محمّد رسول الله عصم منّي حاله ودمه إلا بحقها وحسابه على الله ) .
  فلو كانت سنّة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم معلومة ما كان أبو بكر يجهلها وهو أولى النّاس بمعرفتها .
  ولكنّ عمر بعد ذلك إقتنع بتأويل أبي بكر للحديث الذي رواه وقول أبي بكر بأن الزكاة هي حق المال ، ولكنهم غفلوا أو تغافلوا عن سنّة الرسول الفعلية التي لا تقبل التأويل وهي قصّة ثعلبة الذي إمتنع عن دفع الزكاة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ونزل فيه قرآن ولم يقاتله رسول الله ولا أجبره على دفعها واين

---------------------------
(1) صحيح البخاري باب مرض النبي ووفاته 5 /138 .
صحيح مسلم كتاب الوصية 2 /16 .

لاكون مع الصادقين _ 120 _

  أبو بكر وعمر عن قصة أسامة بن زيد الذي بعثه رسول الله في سرية ، ولّما غشيَ القوم وهزمهم لحق رجلاً منهم فلما ادركه قال : لا إله إلا الله ! فقتله أسامة ، ولما بلغ النبي ذلك قال : يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله ؟ قال : كان متعوّذاً ، فما زال يكررها حتى تمنيتُ إني لم أكن أسلمتُ قبل ذلك اليوم (1) .
  ولكن هذا لايمكن أن نصدّق بحديث ( كتاب الله وسنّتي ) لأن الصحابة أوّل من جهل السنّة النبوية فكيف بمن جاء بعدهم وكيف بمن َبعُدَ مسكنه عن المدينة ؟
  الوجه الرابع : من المعروف أيضاً أن كثيراً من أعمال الصحابة بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم كانت مخالفة لسنّته .
  فأمّا أن يكون هؤلاء الصحابة يعرفون سنّته صلّى الله عليه وآله وسلّم وخالفوها عمداً ، إجتهاداً منهم في مقابل نصُوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهؤلاء ينطبق عليهم قول الله سبحانه وتعالى : ماكان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً (2) .
  وأمّا إنهم كانوا يجهلون سنّته صلّى الله عليه واله وسلّم فلا يحق لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحال هذه أن يقول لهم تركتُ فيكم سنتي وهو يعلم أن أصحابه وأقرب النّاس اليه لم يحيطوا بها علما فكيف بمن يأتي بعدهم ولم يعرفوا ولم يشاهدوا النّبي .
  الوجه الخامس : من المعلوم أيضاً إنّه لم تدوّن السنّة إلا في عهد الدّولة العبّاسية وإنّ أوّل كتاب كُتبَ في الحديث هو موطيء الإمام مالك ، وذلك بعد الفتنة الكبرى ، وبعد واقعة الحرّة وإستباحة المدينة المنوّرة ، وقتل الصحابة فيها صبراً ،

---------------------------
(1) صحيح البخاري 8 /36 وكتاب الديات .
وصحيح مسلم ايضا 1 /67 .
(2) سورة الأحزاب آية 36 .

لاكون مع الصادقين _ 121 _

  فكيف يطمئنّ الإنسان بعد ذلك الى روّاة تقرّبوا للسلطان لنيل الدنيا ـ ولذلك إضطربتْ الأحاديث وتناقضت وإنقسمت الأمّة الى مذاهب ، فما ثبت عند هذا المذهب لم يثبتْ عند غيرهم وما صحّحه هذا يكذّبه ذاك .
  فكيف نُصدّق بأنّ رسول الله قالَ تركتُ ( كتاب الله وسنّتي ) وهو الذي كان يعلمُ بأنّ المنافقين والمنحرفين سوف يكذبون عليه ، وقد قال : ( كثرتْ عليّ الكذّابة فمن كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النّار (1) .
  فإذا كانت الكذّابة قد كثرت في حياته فكيف يُكلّف أمّتهُ بإتّباع سنّته ، وليس لهم معرفة بصحيحها من سقيمها وغثها من سمينها .
  الوجه السادس : يروي أهل السنّة والجماعة في صحاحهم بأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ترك ثقلين ، أو خليفتين ، أو شيئين ، فمرة يروون كتاب الله وسنة رسوله ، ومرّة يروون عليكم بسنّتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ومعلوم بالضروة أن الحديث التّالي يضيف الى كتاب الله وسنّة رسوله ، سنة الخلفاء فتصبح مصادر التشريع ثلاثة بدلاً من إثنين وكل هذا يتنافى مع حديث الثقلين الصحيح والمتفقّ عليه من السنّة والشيعة ، ألا وهو ( كتاب الله وعترتي ) والذي قدّمناه في ذكره أكثر من عشرين مصدراً من مصادر أهل السنّة الموثوقة فضْلاً عن مصادر الشيعة التي لم نذكرها .
  الوجه السابع : اذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلَمُ علم اليقين بأن أصحابه الذين نزل القرآنُ بلغتهم ولهجاتهم ( كما يقولون ) ـ لم يعرفوا كثيراً من تفسيره ولا تأويله ، فكيف بمن يأتي بعدهم وكيف بمن يعتنق الإسلام من الروم والفرس والحبش وكل الأعاجم الذين لا يفهمون العربية ولا يتكلّمونها ، وقد ثبت في الأثر إن أبا بكر سُئِل عن قوله تعالى : وفاكهة وأبَّا

لاكون مع الصادقين _ 122 _

  فقال : أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني أن اقول في كتاب الله لما لا أعْلم (1) كما أن عمر بن الخطاب أيضاً لم يعرف هذا المعنى فعن أنس بن مالك قال : أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر : ( فأنبتنا فيها حبّاً وعنباً وقضبا وزيتوناً ونخلاً وحدائق غُلباً وفاكهة وأبّا ).
  قال : كل هذا عرفناه فما الأب ؟ ثم قال هذا لعمر الله هو التكلّف ، فما عليك أن لا تدري ما الأب ، إتّبعوا مابُينّ لكم هداه من الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه الى ربّه ) (2) .
  وما يُقالُ هنا في تفسير كتاب الله يقالُ هناك في تفسير السنّة النّبوية الشريفة فكم من حديث نبوي بقي موضوع خلاف بين الصّحابة وبين المذاهب وبين السنة والشيعة سواء كان الخلاف ناتجاً عن تصحيح الحديث أو تضعيفه ، أم عن تفسير الحديث وفهمه ، وللتوضيح أقدّم للقاريء الكريم بعض الأمثلة عن ذلك .

1 ـ الخلاف بين الصّحابة في صحة الحديث أو كذبه :

  هذا ماوقع لأبي بكر في أول أيامه عندما جاءته فاطمة الزهراء تطالبه بتسليم فدك التي أخذها منها بعد وفاة أبيها فكذّبها فيما إدّعته من أن أباها رسول الله أنحلها إياها في حياته كما إنها لما طالبته بميراث أبيها ، قال لها بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( نحن معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ) .
  فكذّبته هي الأخرى في نسبة هذا الحديث لأبيها وعارضت بكتاب الله وإشتدّ

---------------------------
(1) القسطلاني في إرشاد الساري 10 /298 ـ وإبن حجر في فتح الباري 13 /230 .
(2) تفسير إبن جرير 3 /38 وكنز العمال 1 /287 .
الحاكم في المستدرك 2 /14 والذهبي في تلخيصه والخطيب في تاريخه 11/ 468 .
الزمخشري في تفسيره الكشاف 3 /253 والخازن في تفسيره 4 /374 .
إبن تيمية في مقدمة أصول التفسير ص 30 تفسير إبن كثير 4 / 473 .

لاكون مع الصادقين _ 123 _

  النزاع والخلاف حتّى ماتت وهي غاضبة عليه مهاجرة له لا تكلمه ـ كما ورد ذلك في صحيحي البخاري ومسلم .
  كذلك إختلاف عائشة أمّ المؤمنين مع أبي هريرة في الذي يصبحُ جنباً في رمضان فكانت ترى صحة ذلك بينما يرى أبو هريرة إنما من أصبح جنباً أفطر ، وإليك القصّة بالتفصيل .
  أخرح الإمام مالك في الموطأ والبخاري في صحيح عن عائشه وأم سلمه زوجي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنهما قالتا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصبح جنبا من جماع غير إحتلام في رمضان ثم يصوم ، وعن أبي بكر بن عبدالرحمن قال كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم وهو أمير المدينة فذكر له أن أبا هريرة يقول من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم فقال مروان : أقسمت عليك يا عبدالرحمن لتذهبن الى أمًّي المؤمنين عائشه وأم سلمة فلتسألنهما عن ذلك فدهب عبدالرحمن وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة فسلما عليها ثم قال : ياأم المؤمنين إنا كنا عند مروان بن الحكم فذكر له أن أبا هريرة يقول من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم قالت عائشه : ليس كما قال أبو هريرة يا عبدالرحمن أترغب عما كان رسول الله يصنع ، فقال عبدالرحمن لا والله ، قالت عائشه فأشهد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه كان يصبح جنبا من جماع غير إحتلام ثم يصوم ذلك اليوم ، قال ثم خرجنا على أم سلمة فسألها عن ذلك فقالت مثلما قالت عائشة ، قال فخرجنا حتى جئنا مروان بن الحكم فذكر له عبدالرحمن ما قالتا ، فقال مروان : أقسمت عليك يا أبا محمد لتركبن دابتي فإنها بالباب فلتذهبن الى أبي هريرة فإنه بأرضه بالعقيق فالتخبرنه ذلك ، فركب عبدالرحمن وركبت معه حتى أتينا أبا هريرة فتحدث معه عبدالرحمن ساعة ثُمَ ذكر له ذلك فقالَ له أبو هريرة : لا علم لي بذاك إنما أخبرنيه مخبر (1) .
  إنظر أخي القاريء ألى صحابي مثل أبي هريرة الذي هو عند أهل السنة

---------------------------
(1) صحيح البخاري 2 /232 باب الصائم يصبح جُنباً .
موطأ مالك تنوير الحوالك 1 /272 ( ماجاء في الذي يصبح جُنباً في رَمضانْ ) .

لاكون مع الصادقين _ 124 _

  رواية الإسلام كيف يفتي بأحكام دينية على الظنّ ينسبها الى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وهو لايعلمُ حتّى من أخبره بها .
  قصّة أخرى لأبي هريرة يتناقضُ فيها مع نفسه روى عبدالله بن محمد حدثنا هشام بن يوسف أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي مسلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلّى الله عليه واله وسلّم لا عدوى ولا صفر ولا هامة ، فقال إعرابيّ يارسول الله فما بالُ الإبلِ تكونُ في الرّمْلِ كأنها الضّباء فيخالطها البعير الأجربُ فيُجربها فقال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فمنْ أعدى الأوّلَ .
  وعن أبي سلمة سمع أبا هريرة بعدُ يقولُ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لايورِدنّ ممرضُّ على مُصِحّ ، وأنكر أبو هريرة حديثه الأوّل قلنا : ألم تحدّثْ إنه لا عدْوَى فَرطَنَ بالحبشيِّة قال أبو سلمة فمار رأيته نسي حديثاً غيره … (1) .
  فهذه أيها القاريء اللبيب سنّة الرسول ، أو قلما يُنسبُ للرسول فمرة يقول أبو هريرة إنه لا علم له بحديثه الأول وإنّما أخبره مُخْبرٌ ومرّة أخرى عندما يجابهوه بتناقضه لا يجيبهم بشيء وإنّما يَرطنُ بالحبشية حتّى لا يفهمه أحد .
  خلاف عائشة وإبن عمر روى إبن جريج قال سمعتُ عطاء يُخبرُ قال أخبرني عروةٌ بن الزبير قال كنتُ أنا وإبن عُمرَ مستندين الى حجرة عائشة وإنا لنمع ضربها بالسوّاك تستنّ قال فقلت يا أبا عبدالرحمن إعتمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في رجب قال نعم ، فقلتُ لعائشة أي أمّتاه الأ تسمعين مايقولُ أبو عبدالرحمن قالتْ وما يقولُ ؟ قلت يقول إعتمر النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في رجب ، فقالت : ( يغفر الله لأبي عبدالرحمن لعمري ما إعتمر في رجب وما إعتمر من عمرة إلا وإنه

---------------------------
(1) صحيح البخاري 7 /31 ( باب لا هامة ) .
صحيح مسلم 7 /32 ( باب لاعدوى ولا طيرة ) .

لاكون مع الصادقين _ 125 _

  لَمَعهُ ) قال وإبن عمر يَسْمَعُ فما قال لا ولا نعمْ سكتَ (1)

2 ـ إختلاف المذاهب في السنّة النبوية

  فإذا كان عمر وأبو بكر يختلفان في سنّة النبي (2) صلى الله عليه وآله وسلم وإذا كان أبو بكر يخْتلف مع فاطمة في السنّة النبوية (3) وإذا كان أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يختلفن في سنّة النبي (4) صلى الله عليه وآله وسلم ، وإذا كان أبو هريرة يتناقض ويختلف مع عائشة في السنة النبوية (5) إذا كان أبو عمر يختلف مع عائشة في سنة النبي (6) وإذا كان عبدالله بن عباس وإبن الزبير يختلفان في السنّة النبوية (7) وإذا كان علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان يختلفان في السنة النبوية (8) وإذا كان الصحابة يختلفون في فيما بينهم في السنة النبوية (9) حتى كان للتابعين من بعدهم أكثر من سبعين مذهبا فكان إبن مسعود صاحب مذهب وكذلك إبن عمر ـ وإبن عباس ـ وإبن الزبير ـ وإبن عيينة ـ وإبن جريج والحسن البصري وسفيان الثوري ، ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم كثير ، ولكن المتغيرات السياسية قضت على الجميع ولم تبقى إلا المذاهب الأربعة المعروفة عند أهل السنة والجماعة .

---------------------------
(1) صحيح مسلم 3 /61 صحيح البخاري 5 /86 .
(2) إشارة الى إختلافهما في محاربة مانعي الزكاة وقد أشرنا الى المصادر فأرجع اليها .
(3) إشارة الى قصّة فدك وحديث نحن معشر الأنبياء لا نورث ، أشرنا الى المصادر .
(4) اشارة الى قصّة رضاعة الكبير التي روتها عائشة وخالف عنها ازواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(5) إشارة الى رواية يصبح النبي جنبا ويصوم والذي كذبته عائشة .
(6) اشارة الى رواية اعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم اربعا إحداهن في رجب وكذبته عائشة .
(7) إشاراة الى اختلافهما في حلّية المتعة وتحريمها ( إنظر البخاري 6 /129 )
(8) اشارة إلى اختلافهما في متعة الحج ( إنظر البخاري 2 /153 ).
(9) في البسملة وفي الوضوء وفي صلاة المسافر وفي الكثير من المسائل الفقهية التي لايمكن حصرها .

لاكون مع الصادقين _ 126 _

  ورغم قلّة عدد المذاهب إلا إنهم يختلفون في أغلب المسائل الفقهية وذلك من أجل اختلافهم في السنّة النبوّية فقد يبني أحدهم حكمه في مسألةٍ طبق ما صحّحه من حديث الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بينما يجتهد غيره برأيه أو يقيس على مسألةٍ أخرى لفقدان النص والحديث .

3 ـ اختلاف السنّة والشيعة في السنّة النبوية

  أمّا إختلاف السنة والشيعة في هذه المسألة فقد يكون لسببين رئيّسين ، أحدهما عدم صحة الحديث عند الشيعة إذا كان أحد الرّواة من المطعون في عدالته ولو كان من الصحّابة ، إذ إن الشيعة لا يقولون بعدالة الصحابة أجمعين كما هو الحال عند أهل السنة والجماعة .
  أضف الى ذلك إنهم يرفضون الحديث أذا تعارض مع رواية الأئمة من أهل البيت ، فهم يقدّمون رواية هؤلاء على غيرهم مهما عَلتْ مرتبتهم ـ ولهم في ذلك أدلّة من القرآن والسنة ثابتة حتى عند خصومهم ، وقد سبق الإشارة الى بعضها .
  أمّا السبب الثاني في الإختلاف بينهما فهو ناتجٌ عن مفهوم الحديث نفسه إذ قد يفسّره أهل السنة والجماعة على غير تفسير الشيعة ـ كالحديث الذي سبق أن أشرنا إليه وهو قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( إختلاف إمتي رحمة ).
  إذ يفسره أهل السنة والجماعة بأن في إختلاف المذاهب الأربعة في الأمور الفقهية رحمة للمسلمين .
  بينما يفسره الشيعة بالسفر الى بعضهم البعض والإعتناء بأخذ العلم ونحوه من الفوائد .
  أو قد يكون الإختلاف بين أهل الشيعة وأهل السنة ، ليس في مفهوم الحديث النّبوي ، وإنّما في الشخص أو الأشخاص المعنيين بهذا الحديث وذلك كقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
  ( عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي ) .

لاكون مع الصادقين _ 127 _

  فأهل السنّة يعنون به الخلفاء الأربعة ، أما الشيعة فيعنون به الأئمة الإثني عشر إبتداء من علي بن أبي طالب وإنتهاء بالمهدي محمد بن الحسن العسكري ( عليه السلام).
   أو كقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( الخلفاء من بعدي إثنى عشر كلهم من قريش ) .
  فالشيعة يعنون به الأئمة الإثني عشر من أهل البيت ( عليهم السلام ) بينما لا يحد أهل السنة والجماعة تفسيراً شافياً لهذا الحديث وقد إختلفوا حتى في الأحداث التاريخيه التي تتعلّقُ بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم كما هو الحال في يوم مولده الشريف إذ يحتفل أهل السنة بالمولد النبوي الشريف يوم الثاني عشر من ربيع الأول في حين يحتفل الشيعة في السابع عشر من نفس الشهر .
  ولعمري أن هذا الإختلاف في السنة النَبوّية أمر طبيعي لا ُمفّر منه إذا لم يكن هناك مرجعٌ يرجعُ اليه الجميع ويكون حكمه نافذاً ، ورأيه مقبولاً لدى الجميع كما كان الرسول صلّى الله عليه واله وسلّم ، حيث كان يقطع دابر الإختلاف ويحسمُ النزاع ويحكم بما أراه الله فيسلّمون ولو كان في أنفسهم حرج ، وإن جود مثل هذا الشخص ضروريّ في حياة الأمّة وعلى طول مداها ! هكذا يحكم العقل ولا يمكن أن يغفل رسول الله صلّى الله عليه والله وسلم عن ذلك فهو يعلم بأن أمته ستتأول كلام الله من بعده ، فكان لزاماً عليه أن يُحضرّ لها معلّماً قادراً ليقودها إلى الجادّة إذا ما حاولتْ الإنحراف عن الصراط المستقيم ، وقد هيّأ بالفعل لأمّته قائداً عظيماً بذل كل جهوده في تربيته وتعليمه منذ وُلدَ الى أنْ بلغ الكمال وصار منه بمنزلة هارون من موسى ، فأوكل اليه هذه المهمّة النّبيلة بقوله : ( أنا أقاتلُهم على تنزيل القرآن وأنتَ تقاتلهم على تأويله ) (1) .

---------------------------
(1) الخوارزمي في المناقب ص 44 ، ينابيع المودّة ص 233 .
الإصابة لإبن حجر العسقلاني 1 /25 كفاية الطالب 334
منتخب كنز العمال 5 /36 إحقاق الحق 6 /37 .

لاكون مع الصادقين _ 128 _

  وقوله : ( أنت ياعلي تبينّ لأمّتي ما إختلفوا فيه من بعدي ) (1) .
  فإذا كان القرآن وهو كتاب الله العزيز يتطلّب من يقاتل في سبيل تفسيره وتوضيحه ، لأنه كتاب صامتٌ لا ينطق ، وهو حمّال أوجهٍ متعدّدة وفيه الظاهر والباطن فكيف بالأحاديث النّبوية ؟!
  وإذا كان الأمر كذلك في الكتاب والسنّة ، فلا يمكنُ للرّسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يترك لأمّته ثقلين صامتين أبْكمين لا يتورّع الذين في قلوبهم زيغٌ أن يتأوّلوهما لغرض ويتّبعوا ما تشابه منهما إبتغاء الفتنة وإبتغاء الدينا ويكون سبباً لضلالة من يأتي بعدهم ، لأنهم أحسنوا الظن بهم وإعتقدوا بعد التهم ويوم القيامة يندمون فيصدق فيهم قوله تعالى : يومَ تُقلَّبُ وجوههم في النّار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ، وقالوا ربّنا إنّا أطعنا سَادتنا وكُبرآءنَا فأضلّونَا السبيلا ، ربّنا أءتهم ضعفين من العذاب وألعنهم لعناً كبيراً (2) كلّما دخلتْ أمّة لعنتْ أختها حتّى إذا إدّاركوا فيها جميعاً قالتْ آخراهم لأوُلاهم ، ربّنا هؤلاءِ أضلّونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النّار ، قالَ لكلّ ضعفٌ ولكن لا تعلمون (3) .
  وهلْ كانت الضّلالة الا من ذلك ؟ فليس هناك أمّة لم يبعث الله فيهم رسولاً أو ضح لهم السبيل وأنار لهم الطريق ولكنّهم بعد نبيّهم راحوا يحرّفون ويتأولون ويبدّلون كلام الله ! فهل يتصوّر عاقل أن رسول الله عيسى ( عليه السلام ) قال للنّصارى بأنّه إله ؟ حاشا وكلا ( ماقلتُ لهم إلا ما أمرتني به ) ولكن الأهواء والأطماع وحب الدنيا هو الذي جرّ النصارى لذلك ألم يبشرهم .

---------------------------
(1) مستدرك الحاكم 3 /122 تاريخ دمشق لإبن عساكر 2 /488.
المناقب للخوارزمي ص 236 كنوز الحقائق للمناوي ص 203
منتخب كنز العمال 5 /33 ينابيع المودة ص 182 .
(2) سورة الأحزاب آية 66 ـ 68 .
(3) سورة الأعراف آية 38 .

لاكون مع الصادقين _ 129 _

  عيسى بمحمّد ؟ ومن قبله موسى كذلك ، ولكنّهم تأولوا إسم محمد وأحمد ( بالمنقذ ) وهم حتّى الأن ينتظرونه .
  وهل كانت أمّة محمد على مذاهب وفرق متعدّدة الى ( ثلاث وسبعين كلّها في النار إلا فرقة واحدة ) إلا بسبب التأويل : وها نحنُ نعيس اليوم بين هذه الفرق هل هناك فرقة واحدة تنسبُ لنفْسها الضلاله ؟ أو بتعبير آخر : هل هناك فرقة واحدة تدّعي إنها خالفتْ كتاب الله وسنة رسوله ؟ بالعكس كل فرقة تقول بأنها هي المستمسكة بالكتاب والسنة ، فما هو الحلّ إذاً ؟؟
  أكانَ يغيبُ الحلّ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو بالأحرى عن الله ؟ أستغفر الله إنّه لطيف بعباده ويحبُ لهم الخير فلا بدَّ أن يضع لهم حلاَّ ، ليهلك من هلك على بيّنة ، وليس في شأنه سبحانه إهمال مخلوقاته وتركهم بدون هداية ، اللَّهم إلا إذا إعتقدنا بأنه هو الذي أراد لهم الإختلاف والفرقة والضلالة ليزجّ بهم في ناره ، وهو إعتقاد باطل فاسدٌ ، أستغفره وأتوب إليه من هذا القول الذي لا يليق بجلال الله وحكمته وعدالته .
  فقول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بانّه ترك كتاب الله وسنّته ليس هو الحلّ المعقول لقصيّتنا ، بل يزيدنا تعقيداً وتأويلاً ولا يقطع دابر المشاغبين والمنحرفين إلا تراهم عندما خرجوا على إمامهم َرفعُوا شعار : ليس الحكم لك ياعلي وإنما الحكم لله ! إنه شعار برّاقٌ يأخذُ بلبّ السّامع فيخالُ القائلُ به حريصاً على تطبيق أحكام الله ، ورافضاً لأحكام غيره من البشر ، ولكن الحقيقة ليستْ كذلك .
  قال تعالى : ومن النّاس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهدُ الله على ما في قلبه ، وهو ألدّ الخصام (1) .
  نعم كثيراً ما نغتَرُّ بالشعارات البرّاقة ولا نعرف ماذا تُخفي وراءهَا ، ولكن

---------------------------
(1) سورة البقرة آية 204 .

لاكون مع الصادقين _ 130 _

  الإمام علياً يعرف ذلك لأنه باب مدينة العلم ، فأجابهم ( إنها كلمة حَق يُراد بها باطل ) .
  نعم كثيرةٌ هي كلماتُ الحقّ التي يُراد بها الباطل ، كيف ذلك ؟ عندما يقول الخوارج للإمام علي الحكم لله ليس لك ياعلي ، فهل سيظهر الله على الأرض ويفصل بينهم فيما إختلفوا فيه ؟ أم إنّهم يعلمون إنّ حكم الله في القرآن ، ولكنّ علياّ تأوّله حسب رأيه ؟
  فما هي حجّتهم ومن يقول بأنهم هم الذين تأوّلوا حكم الله ، ولاحال إنّه أعلم منهم وأصدق وأسبق للإسلام وهل للإسلام غيره ؟
  إذن هو شعار برّاقٌ ليموّهوا به على بسطاء العقول فيكسبوا تأييدهم ليستعينوا بهم على حربه وكسب المعركة لصالحهم كما يقع اليوم فالزمان زمان والرجال رجال والدّهاء والمكر لاينقطع بل يزداد وينموا لأن دهات هذا العصر يستفيدون من تجارب الأولين ، فكم من كلمة حق يراد بها باطل في يومنا هذا ؟
  شعارات برّاقة كالذي يرفعها الوهابيون في وجه المسلمين وهو ( التوحيد وعدم الشرك ) فمن من المسلمين لا يوافق عليه وكتسمية فرقة من المسلمين أنفسهم ( بأهل السنة والجماعة فَمَنْ من المسلمين لا يوافق أن يكون مع الجماعة التي تتبع سنّة النبي ؟ وكشعار البعثيين ( أمّةً عربيةٌ واحدة ذات رسالة خالدة ) فمن من المسلمين لا يغتّر بهذا الشعار ، قبل أنّ يعرف خفايا حزب البعث ومؤسسه النصراني ميشال عفلق ؟
  لك الله ياعلي بن أبي طالب أن حكمتك بَقِيتْ وستبقى مدوّيةً على مسمع الدّهر فكم من كلمة حق يرادُ بها الباطل ، صَعد أحد العلماء الى منصّة الخطابة وصاح بأعلى صوته : من قالَ بأنني شيعي نقول له : أنتَ كافر ، ومن قال بأنّني سنّي نقول له : أنت كافر ، نحْنُ لا نريد شيعة ولا سنّة وإنما نريد إسلاماً فقط ـ إنها كلمة حقّ يراد بها باطل ـ فأيّ إسلام يريده هذا العالم ؟ وفي عالمنا اليوم إسلام متعدّد ، بل وحتّى في القرن الأول كان الإسلام متعدداً ، فهناك إسلام علي وأسلام معاوية وكلاهما له أتباع ومؤيدون حتّى وصل الأمر الى القتال وهناك إسلام

لاكون مع الصادقين _ 131 _

  الحسين وإسلام يزيد الذي قتل أهل البيت بإسم الإسلام وإدّعى أن الحسين خرج عن الإسلام بخروجه عليه وهناك إسلام أئمة أهل البيت وشيعتهم ، وإسلام الحكام وشعوبهم ، وعلى مرّ التاريخ نجد إختلافاً بين المسلمين وهناك إسلام متسامح كما يسمّيه الغرب لأن أتباعه ألقوا بالمودّة لليهود والنصارى وأصبحوا يركعون للقوّتين العظيمتين وهناك إسلام متشدّد يُسمّيه الغرْب إسلام التعصّب والتحجّر أو مجانين الله .
  وبعد كل هذا لم يبق معنا مجالٌ للتصديق بحديث ( كتاب الله وسنّتي ) للأسباب التي ذُكرتُ .
  تبقى الحقيقة ناصعة جليّة في الحديث الثاني الذي أجمع عليه المسلمون وهو ( كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) لأن هذا الحديث يُحلّ كلّ المشكلات فلا يبقى إختلاف في تأويل أية آية من القرآن أو في تصحيح وتفسير أي حديث نبوي شريف إذا مارجعنا الى أهل البيت الذين أُمرنا بالرجوع اليهم وخصوصا إذا علمنا بأنّ هؤلاء الذين عيّنهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هم أهلٌ لذلك ، ولا يشكّ أحدٌ من المسلمين في غزارة علمهم وفي زهدهم وتقواهم ، وقد أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم وأورثهم علم الكتاب فلا يخالفونه ولا يختلفون فيه بل لايفارقونه حتّى قيام السّاعة قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : ( إني تارك فيكم خليفتين ، كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض وعترتي أهل بيتي ، فإنهما لم يفترقا حتّى يردَا عليّ الحوض ) (1) .
  ( ولأكون مع الصادقين يجبُ عليَّ قول الحقّ لا تأخذني في ذلك لومة لائم وهدفي رضا الله سبحانه وإرضاء ضميري قبل رضا الناس عني ) .

---------------------------
(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل 5 /122 ، الدر المنثور للسيوطي 2 /60 كنز العمال 1 /154 ، مجمع الزوائد 9 /162 ينابيع المودة ص 38 و183 .
عبقات الأنوار 1 /16 ـ الحاكم في المستدرك 3 /148 .

لاكون مع الصادقين _ 132 _

  والحقيقة في هذا البحث هي في جانب الشيعة الذين إتّبعوا وصّية رسول الله في عترته وقدموهم على أنفسهم وجعلوهم أئمتهم يتقرّبونَ الى الله بحبهم والإقتداء بهم فهنيئاً لهم بالفوز في الدنيا وفي الآخرة حيث يُحشر المرء من أحبّ فكيف بمن أحبّهم وإقتدى بهديهم .
  قال الزمخشري في هذا الصدد : كثُر الشك والإختلاف وكلّ يدّعي إنّه السراط السّوي فتمسّكتُ بلا إله إلا اللهُ وحبّي لأحمد وعلـــي فازَ كلبٌ بحبّ أصحاب كهف فكيفَ أشقى بحبّ آل النّبي اللّهم إجعلنا من المتسمكين بحبل ولائهم والسائرين على منهاجهم والراكبين سفينتهم والقائلين بإمامتهم والمحشورين في زمرتهم إنّك تهدي من تشاء الى سراط مستقيم .