هذا القول في حدّ ذاته شنيع لا يتحمّله مسلم آمن برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، سواء كان شيعياً أم سنياً .
لأّن القرآن الكريم تكفّل ربّ العزّة والجلالة بحفظه فقال عزّ من قائل إنا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون فلا يمكن لأحد أن يُنقّص منه أو يزيد فيه حرفاً واحداً وهو معجزة نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم الخالدة ، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه تنزيل من حكيم حميد .
والواقع العملي للمسلمين يرفض تحريف القرآن لأن كثيراً من الصحابة كانوا يحفظونه عن ظهر قلب ، وكانوا يتسابقون في حفظه وتحفيظه إلى أولادهم على مرّ الأزمنة حتّى يومنا الحاضر ، فلا يمكن لإنسان ولا لجماعة ولا لدولة أن يُحرّفوه أو يبدّلوه ـ ولو جُبناً بلاد المسلمين شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً وفي كل بقاع الدنيا فسوف نجد نفس القرآن بدون زيادة ولا نقصان ، وإن إختلف المسلمون إلى مذاهب وفرق ، وملل ونحل فالقرآن هو الحافز الوحيد الذي يجمعهم ولا يختلف فيه من الأمّة إثنان ، إلا ماكان من التفسير أو التأويل فكل حزب بما لديهم
لاكون مع الصادقين _ 200 _
فرحُون.
وما يُنْسبُ الى الشيعة إلى القول بالتحريف هو مجرّد تشنيع وتهويل وليس له في معتقدات الشيعة وجود .
وإذا ما قرأنا عقيدة الشيعة في القرآن الكريم ، فسوف نجد إجماعهم على تنزيه كتاب الله من كل تحريف .
يقول صاحب كتاب عقائد الإمامية الشيخ المظفّر : ( نعتقد إنّ القرآن هو الوحي الإلهي المنزّل من الله تعالى على لسان نبيه الأكرم في تبيان كل شي ، وهو معجزته الخالدة التي أعجزتْ البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة وفيما إحتوى من حقائق ومعارف عالية ، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف ، وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزّل على النبي ومن إدعي فيه غير ذلك فهو مخترف أو مغالط أو مشتبه ، وكلهم على غير هدى فإنه كلام الله الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ ( إنتهى كلامه ) .
وبعد هذا فكلّ بلاد الشيعة معروفة وأحكامهم في الفقه معلومة لدى الجميع ، فلو كان عندهم قرآن غير الذي عندنا لعلمه الناس ، وأتذكر أني عندما زرتُ بلاد الشيعة للمرة الأولى كان في ذهني بعض هذه الإشاعات ، فكنت كلما رأيت مجلّداً ضخما تناولته علّني أعثر على هذا القرآن المزعوم ، ولكن سرعان تبخر هذا الوهم ، وعرفتُ فيما بعد إنها إحدى التشنيعات المكذوبة لينفروا الناس من الشيعة ولكن يبقى هناك دائماً من يُشنّع ويحتج على الشيعة بكتاب إسمه ( فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب ربُ الأرباب ) ومؤلفه محمد تقي النوري الطبرسي المتوفي سنة 1329 هجري وهو شيعي ويريد هؤلاء المتحاملون أن يحمّلُوا الشيعة مسؤلية هذا الكتاب ! وهذا مخالف للإنصاف .
فكم من كُتبٍ كتبت وهي لاتُعبّر في الحقيقة إلا عن رأي كاتبها ومؤلفها ، ويكون فيها الغث والسمين وفيها الحق والباطل وتحمل في طياتها الخطأ والصواب ونجد ذلك عند كل الفرق الإسلامية ولا يختصّ بالشيعة دون سواها أفيجوز لنا
لاكون مع الصادقين _ 201 _
أن نُحمّل أهل السنّة والجماعة مسؤولية ماكتبه وزير الثقافة المصري وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بخصوص القرآن والشعر الجاهلي ؟
أو مارواه البخاري وهو صحيح عندهم ، من نقص في القرآن وزيادة ، وكذلك صحيح مسلم وغيره (1) .
ولكن لنضرب عن ذلك صفحاً ونقابل السيئة بالحسنة ولتعم ماقاله في هذا الموضوع الأستاذ محمد المديني عميد كلية الشريعة بالجامعة الأزهرية إذ كتب يقول : ( وأمّا إن الإمامية يعتقدون نقص القرآن فمعاذ الله وإنما هي روايات رُويْة في كتبهم ، كما رُوي مثلها في كتُبنا ، وأهل التحقيق من الفريقين قد زيفوها ، وبيّنوا بطلانها وليست في الشيعة الإمامية أو الزيدية من يعتقد ذلك ، كما إنه ليس في السنّة من يعتقده .
ويستطيع من شاء أن يرجع الى مثل كتاب الإتقان للسيوطي ليرى فيه أمثال هذه الروايات التي نضرب عنها صفحا .
وقد ألّف أحد المصريين في سنة 1948م كتاباً أسمه ( الفرقان ) حشاه بكثير من أمثال هذه الروايات السّقيمة المدخولة المرفوضة ، ناقلا لها عن الكتب والمصادر عند أهل السنّة ، وقد طلب الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب بعد أن بينّ بالدليل والبحث العلمي أوجه البطلان والفساد فيه . فإستجابت الحكومة لهذا الطلب وصادرتْ الكتاب ، ورفع صاحبه دعوى يطلب فيها تعويضاّ ، فحكم القضاء الإداري في مجلس الدولة برفضها .
أفيقال إنّ أهل السنّة ينكرون قداسة القرآن ؟ أو يعتقدون نقص القرآن لرواية رواها فلان ؟ أو لكتاب ألفه فلان ؟
---------------------------
(1) إذ إن كتاب ( فصل الخطاب ) لا يعدّ شيئاً عند الشيعة ، بينما روايات نقص القرآن والزيادة فيه أخرجها صحاح أهل السنّة والجماعة أمثال البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد .
لاكون مع الصادقين _ 202 _
فكذلك الشيعة الإمامية إنما هي روايات في بعض كتبهم كالروايات في بعض كتبنا ، وفي ذلك يقول الإمام العلاّمة السعيد أبو الفضل بن الحسن الطبرسي من كبارعلماء الإمامية في القرن السادس الهجري في كتاب ( مجمع البيان لعلوم القرآن ) .
( فأمّا الزياده فيه فمجمع على بطلانها ، وأما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية أهل السنة أنّ في القرآن تغييرا ونقصانا ، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه ، وهو الذي نصره المرتضى قدّس الله روحه ، وإستوفى الكلام فيه غاية الإستيفاء في جواب ( مسائل الطرابلسيات ) وذكر في مواضع : أنّ العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام ، والكتب المشهورة ، وأشعار العرب فإنّ العناية إشتدّت والدّواعي توفّرت على نقله وحراسته ، وبلغتْ إلى حدّ لم تبلغهُ فيما ذكرناه لأنّ القرآن معجزة النبوّة ، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية التي عرفوا كل شيء أختلفَ فيه من إعرابه .
وقراءاته ، وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد ) (1) .
وحتّى يتبينّ لك أيها القاريء إنّ هذه التّهمة ، ( نقص القرآن والزياده فيه ) هي أقرب لأهل السنّة منها لأهل الشيعة ، وذلك من الدّواعي التي دعتني الى أن أراجعُ كل معتقداتي لأنّي كلما حاولتُ أنتقاد الشيعة في شيء والإستنكار عليهم إلا وأثبتوا براءتهم منه وإلصاقه بي ، عرفتُ أنهم يقولون صدْقاً وعلى مرّ الأيام ومن خلال البحث إقتنعتُ والحمد لله ، وها أنا مقدم لك مايثبت ذلك في هذا الموضوع:
---------------------------
(1) مقال الأستاذ محمد المديني عميد كلية الشريعة في الجامع الأزهر مجلة رسالة الإسلام العدد الرابع من السنة الحادية عشر ص 382 و383 .
لاكون مع الصادقين _ 203 _
أخرج الطبراني والبيهقي أن من القرآن سورتين ـ إحداهما هي : بسم الله الرحمن الرحيم إنّا نستعينك ونستغفرك ونُثني عليك الخير كلّه ولا نكفُركَ ونَخلعُ ونتركُ من يفجرك .
والسورة الثانية هي : بسم الله الرحمن الرحيم ـ اللّهم إياك نعبدُ ولك نُصلّي ونسجد إليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجدّ إن عذابك بالكافرين ملحقُ .
وهاتان السّورتان سماهما الراغب في المحاضرات سورتي القنوت وهما مّما كان يقنتُ بهما سيدنا عمر بن الخطّاب وهما موجودتان في مصحف إبن عبّاس ومصحف زيد بن ثابت (1) .
أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده .
عن أبي بن كعب قال : كم تقرأون سورة الأحزاب ؟ قال : بضعاً وسبعين آية ، قال : لقد قرأتها مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مثل البقرة أو أكثر منها وإن فيها آية الرّجم (2) .
وأنت ترى أيها القاريء اللّبيب ، أن السّورتينّ المذكورتين في كتابي الإتقان والدر المنثور للسيوطي واللتين أخرجهما الطبراني والبيهقي واللتين تسميان بسورتي القُنوت لا وجود لهما في كتاب الله تعالى .
وهذا يعني أن القرآن الذي بين أيدينا ينقص هاتين السّورتين الثابتتين في مصحف إبن عباس ومصحف زيد بن ثابت كما يدّل أيضاً بأنّ هناك مصاحف أخرى غير التي عندنا ، وهو يذكّرني أيضاً بالتشنيع على أنّ للشيعة مصحف فاطمة ، فأفهم !
---------------------------
(1) جلال الدين السيوطي في الإتقان وكذلك في الدر المنثور .
(2) مسند الإمام أحمد إبن حنبل 5 / 132 .
لاكون مع الصادقين _ 204 _
وأنّ أهل السنّة والجماعة يقرؤون هاتين السورتين في دعاء القنوت كل صباح وكنتُ شخصياً أحفضهما وأقرأ بهما في قنوت الفجر .
أمّا الرواية الثانية التي أخرجها الإمام أحمد في مسنده والتي تقول بأن سورة الأحزاب ناقصة ثلاثة أرباع ، لأن سورة البقرة فيها 286 آية بينما لا تتعدّى سورة الأحزاب 73 آية ، وإذا إعتبرنا عدّ القرآن بالحزب فإن سورة البقرة فيها أكثر من خمسة أحزاب بينما لا تعد سورة الأحزاب إلا حزباً واحداً .
وقول أبي بن كعب : ( كنتُ أقرأها مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مثل البقرة أو أكثر ) وهو من أشهر القرّاء الذين كانوا يحفظون القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي إختاره عُمر (1) ليُصلّي بالنّاس صلاة التراويح ، فقوله هذا يبعث الشكّ والحيرة كما لا يخفى .
ـ وأخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (2) عن أبي بن كعب قال : إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : ( إنّ الله تبارك وتعالى أمرني أن أقرأ عليك القرآن فقال فقرأ : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ، فقرأ فيها : ( ولو أن إبن آدم سأل وادياً من مال فأعطيه لسأل ثانياً فلو سأل ثانياً فأعطيه لسأل ثالثاً ، ولا يملأ جوف إبن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تابَ ، وأن ذلك الدّين القيّمُ عند الله الحنفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل خيراً فلن يكفره ) .
ـ وأخرج الحافظ بن عساكر في ترجمة أبي بن كعب إن أبا الدّرداء ركب الى المدينة في نفر من أهل دمشق فقرأ فيها على عمر بن الخطاب هذه الآية : إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ولو حميتم كما حَمُو لفسدَ المسجد الحرام فقال عمر بن الخطاب من أقرأكم هذه القراءة ؟ فقالوا :
---------------------------
(1) البخاري 2 /252 .
(2) مسند الإمام أحمد بن حنبل 5 /131
لاكون مع الصادقين _ 205 _
أبي بن كعب ، فدعاه فقال لهم عمر إقرأوا ، فرأوا : ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام فقال أبي بن كعب لعمر بن الخطاب ، نعم أنا قرأتهم فقال عمر لزيد بن ثابت أقرأ يازيد ، فقرأ زيد قراءة العامة فقال عمر : اللّهم لا أعرف إلا هذا ! فقال أبي بن كعب : والله ياعمر إنّك لتعلمُ إنّي كنتُ أحْضر ويغيبون وأدنوا ويحجبون ، وولله لئنْ أحْبْبتَ لألزمنّ بيتي فلا أحدث أحداً ولا أُقرأ أحداً حتّى أموت ، فقال عمر اللّهم غفراً ، إنّك لتعلم إن الله قد جعل عندك علماً فعلّم الناس مَاعلمتَ .
قال ومرّ عمر بغلام وهو يقرأ في المصحب : النّبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أبٌ لهم فقال : ياغلام حكها ، فقال هذا مصحف أبي بن كعب فذهب إليه فسأله فقال له : إنّه كان يُلهيني القرآنُ ويُلهيكَ الصّفقُ بالأسواق (1) .
وروى مثل هذا إبن الأثير في جامع الأصول وأبو داود في سننه ، والحاكم في مستدركه .
وأترك لك أخي القاريء أنْ تُعلّقَ في هذه المرّة بنفسك على أمثال هذه الروايا التي ملأتْ كتب أهل السنّة والجماعة ، وهم غافلون عنها ويشنّعون على الشيعة الذين لايجوجد عندهم عشر هذا .
ولكن لعلّ بعض المعاندين من أهل السنّة والجماعة ينفرُ من هذه الروايات فيرفضها كعادته وينكر على الإمام أحمد تخريجه مثل هذه الخرافات فيضعّف أسانيدها ويعتبر إن مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود ليسا عند أهل السنة بمستوى صحيحي البخاري ومسلم ، ولكن مثل هذه الروايات موجودة في صحيح البخاري وصحيح مسلم أيضا .
---------------------------
(1) تاريخ دمشق للحافظ بن عساكر 2 /228 .
لاكون مع الصادقين _ 206 _
فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه (1) في باب مناقب عمّار وحذيفة رضي الله عنهما عن علقمة قال : قدمتُ الشام فصلّيتُ ركعتين ثم قلتُ : اللّهم يسّر لي جليساً صالحاً ، فأتيت قوماً فجلستُ اليهم فإذا شيخٌ قد جاء حتّى جلس الى جنبي قلتُ من هذا ؟ قالوا : أبو الدرداء ، قلتُ إنّي دعوتُ الله أن ييسرّ لي جليساً صالحاً فيسّرك لي ، قال مّمنْ أنت ، فقلتُ من أهل الكوفة ، قال : أو ليس عندكم إبن أمّ عبدٍ صاحبُ النّعلين والوساد والمطهرة ، وفيكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلم ، أوليس فيكم صاحبُ سرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الذي لايعلمُ أحد غيرهُ ، ثم قال كيف يقرأ عبدالله والليل إذا يغشى فرأت عليه والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلّى والذكر والأنثى قال والله لقد أقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فيه الى فيَّ .
ثم زاد في روايى أخرى قال مازال بي هؤلاء حتّى كادوا يستنزلوني عن شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (2) .
وفي رواية قال : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلّى والذكر والأنثى قال : أقرئنيها النُّبي صلى الله عليه وآله وسلم من فاهُ الى فيَّ فما زال هؤلاء حتّى كادوا يردّوني (3)
فهذه الروايات كلّها تفيد بأن القرآن الذي عندنا زيد فيه كلمة ( وما خلق ) .
ـ وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبن عباس إن عمر بن الخطاب قال : أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، فلذا رجم رسول الله
---------------------------
(1) صحيح البخاري 4 /215 .
(2) صحيح البخاري 4 /216 .
(3) صحيح البخاري 4 /218 ( باب مناقب عبدالله بن مسعود ) .
لاكون مع الصادقين _ 207 _
صلّى الله علية وآله وسلّم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالنّاس زمانٌ أين يقول قائلٌ : والله مانجدُ آية الرّجم في كتاب الله فيضلّ بترك فضيلة أنزلها الله ، والرّجمُ في كتاب الله حقٌ على من زنى إذا أُحْصِنَ من الرّجال والنّساء إذا قامتْ البيّنة أو كان الحبل والإعتراف ، ثم إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله إلا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفرٌ بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو إن كفْراً بكم أنْ ترغبوا عن آبائكم (1) .
ـ وأخرج الإمام مسلم في صحيحه (2) ( في باب لو أن لإبن آدم واديين لأبتغى ثالثاً ) .
قال : بعث أبو موسى الأشعري الى قرّاء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن ، فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراءهم فأتلوه ولا يطولنّ عليكم الأمل فتقسوا قلوبكم كما قستْ قلوب من كان قبلكم ، وإنّا كنّا نقرأ سورةً كنا نشبّهُها في الطّول والشدّة ببراءة فأنسيتها غير إني قد حفظت منها لو كان لأبن آدم واديان من مال لإبتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف إبن آدم إلاّ التّراب .
وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بحإدى المسبحات فأنسيتها غير إني حفظت منها يا أيها الذين آمنوا لما تقولون مالا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة (3) .
وهاتان السورتان المزعومتان اللتان نسيهما أبو موسى الأشعري إحداهما تشبه براءة يعني 129 آية والثانية تشبه إحدى المسبحات يعني عشرون آية ، لاوجود لهما إلا في خيال أبي موسى ، فإقرأ وأعجب فإني أترك لك الخيار ـ أيها الباحث المنصف .
فإذا كانت أهل السنةوالجماعة مسانيدهم وصحاحهم مشحونة بمثل
---------------------------
(1) صحيح البخاري 8 /26 ( باب رجم الحبلى من الزنى إذا أحصنت ) .
(2 و 3) صحيح مسلم 3 /100 ( باب لو إن لإبن آدم واديان لإبتغى ثالثاً.
لاكون مع الصادقين _ 208 _
هذه الروايات التي تدعي بأن القرآن ناقص مرّة ، وزائد أخرى فلماذا هذا التشنيع على الشيعة الذين أجمعوا على بطلان هذا الإدعاء .
وإذا كان الشيعي صاحب كتاب ( فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب ) وهو المتوفي سنة 1320 هجرية كتب كتابه منذ مايقرب مائة عام ، فقد سبقه السني في مصر صاحب كتاب (الفرقان) بما يقارب أربعة قرون كما أشار الى ذلك الشيخ محمد المدني عميد كلية الشريعة بالأزهر (1) .
والمهم في كل هذا إن علماء السنّة وعلماء الشيعة من المحققين قد أبطلوا مثل هذه الروايات وأعتبروها شاذة وأثبتوا بالأدلة المقنعة بأن القرآن الذي بين أيدينا هو نفس القرآن الذي أنزل على نبيّنا محمّد صلّى الله عليه ؤاله وسلّم وليس فيه زيادة ولا نقصان ولا تبديل ولا تغيير .
فكيف شنع أهل السنة والجماعة على الشيعة من أجل روايات ساقطة عندهم ، ويبرؤون أنفسهم ، بينما صحاحهم تثبت صحة تلك الروايات ؟
وإني إذ أذكر مثل هذه الروايات بمرارة كبيرة وأسف شديد ، فما أغنانا اليوم عن السكوت عنها وطيها في سلّة المهملات ، لولا الحملة الشعواء التي شنها بعض الكتاب والمؤلفين ممن يدّعون التمسك بالسنة النبوية ومن ورائهم دوائر معروفة تمولهم وتشجعهم على الطعن وتكفير الشيعة خصوصا بعهد إنتصار الثورة الإسلامية في إيران ، فإلى هؤلاء أقول : إتقوا الله بإخوانكم ، وإعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وإذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً .
---------------------------
(1) رسالة الإسلام العدد الرابع من السنة الحادية عشر ص 382 و 382 .
ومما يشنع به على الشيعة أيضاً جمعهم بين صلاة الظهر والعصر وبين صلاة المغرب والعشاء .
وأهل السنة والجماعة إذا يشنعون على الشيعة فإنهم يؤكدون في المقابل بأنهم يحافظون على الصلاة لأن الله سبحانه وتعالى يقول : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً .
وقبل أن نحكم لهم أو عليهم يجب علينا أن بحث في الموضوع من جميع جوانبه ونرى أقوال الطرفين : أما أهل السنة والجماعة فهم متفقون على جواز الجمع بعرفه بين الظهر والعصر ويسمى جمع تقديم ، وجواز الجمع بالمزدلفة وقت العشاء بينها وبين فريضة المغرب ويسمى جمع تأخير ، وهذا مايتفق عليه كل المسلمون شيعة وسنة بل كل الفرق الإسلامية بدون إستثناء .
والخلاف بين الشيعة وأهل السنة هو في جواز الجمع بين الفريضتين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء في كل أيام السنة بدون عذر السفر .
أما الحنفية فيقولون بعدم الجواز حتى في السفر وذلك مع وجود النصوص
لاكون مع الصادقين _ 210 _
الصريحة بجوازه لا سيما في السفر وخالفوا بذلك أجماع الأمّة سنة وشيعة .
وأما المالكية والشافعية والحنبلية فيقولون بجواز الجمع بين الفريضتين في السفر ، ويختلفون بينهم في جوازه لعذر الخوف والمرض والمطر والطين .
وأما الشيعة الإمامية فمتفقون على جوازه مطلقا في غير سفر ولا مطر ولا مرض ولا خوف ، وذلك إقتداء بما رووه عن أئمة أهل البيت من العترة الطاهرة ( عليهم السلام ) .
وهنا يجب علينا أن نقف منهم موقف الإتهام والتشكيك ، لأنه كلما أحتج أهل السنّة والجماعة عليهم بحجة ، إلا ويردونها بأن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام علموهم وبينوا لهم كل ما أشكل عليهم ويفتخرون بأنهم يقتدون بإئمة معصومين يعلمون القرآن والسنة !
وأنا أتذكر في أول صلاة جمعت فيها بين الظهر والعصر كانت بإمامة الشهيد محمد باقر الصدر عليه رضوان الله إذ كنت وأنا في النجف أفرق بين الظهر والعصر حتى كان ذلك اليوم السعيد الذي خرجت فيه مع السيد محمد باقر الصدر من بيته إلى المسجد الذي يؤم فيه مقلديه الذين إحترموني وتركوا لي مكانا خلفه بالضبط ولما أنتهت صلاة الظهر وأقيمت صلاة العصر ، حدثتني نفسي بالإنسحاب ولكن بقيت لسببين أولهما هيبة السيد الصدر وخشوعه في الصلاة حتى تمنيت أن تطول ـ وثانيهما وجودي في ذلك المكان وأنا أقرب المصلين إليه وأحسست بقوة قاهرة تشدني إليه ولما فرغنا من أداء فريضة العصر وإنهال عليه الناس يسألونه بقيت خلفه أسمع الأسئلة والإجابة عليها إلا ما كان خفيا ، ثم أخذني معه الى بيته للغذاء وهناك وجدت نفسي ضيف الشرف ، وإغتمنت فرصة ذلك المسجد فسألته عن الجمع بين الصلاتين .
ـ سيدي ! أيمكن للمسلم أن يجمع بين الفريضتين في حالة الضرورة ؟
قال : يمكن له أن يجمع بين الفريضتين في جميع الحالات وبدون ضرورة .
قلت : وما هي حجتكم ؟
لاكون مع الصادقين _ 211 _
قال : لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين الفريضتين في المدينة في غير سفر ولا خوف ولا مطر ولا ضرورة ، وإنها فقط لدفع الحرج عنا ، وهذا بحمد الله ثابت عندنا من طريق الأئمة الأطهار وثابت أيضا عندكم .
ـ أستغربت كيف يكون ثابتا عندنا ولم أسمع به قبل ذلك اليوم ولا رأيت أحدا من أهل السنة والجماعة يعمل به بل بالعكس يقولون ببطلان الصلة إذا وقعت حتى دقيقة قبل الآذان فكيف بمن يصليهما قبل ساعات مع الظهر ، أو يصلي صلاة العشا مع المغرب فهذا يبدو عندنا منكرا وباطلا .
وفهم السيد محمد باقر الصدر حيرتي وإستغرابي وهمس إلى بعض الحاضرين فقام مسرعا وجاءه بكتتابين عرفت بأنهما صحيح البخاري وصحيح مسلم ، وكلف السيد ذلك الطالب بأن يطلعني على الأحاديث التي تتعلق بالجمع بين الفريضتين ، وقرأت بنفسي في صحيح البخاري كيف جمع النبي صلى الله عليه ؤاله وسلم فريضة الظهر والعصر وكذلك فريضة المغرب والعشاء كما قرأت في صحيح مسلم باباً كاملاً في الجمع بين الصلاتين في الحضر في غير خوف ولا مطر ولا سفر .
ولم أخف تعجبي ودهشتي وإن كان الشك داخلني بأن البخاري ومسلم اللذين عندهم قد يكونان محرفين وأخفي في نفسي أن أراجع هذين الكتابين في تونس .
وسألني السيد محمد باقر الصدر عن رأيي بعد هذا الدليل .
ـ قلت : أنتم على حق ، وأنتم صادقون فيما تقولون ، وبودي أن أسألكم سؤالاً آخر .
قال : تفضل .
قلت : هل يجوز الجمع بين الصلوات الأربع كما يفعل كثيرٌ من الناس عندنا لما يرجعوا في الليل يصلون الظهر والعصر والمغرب والعشاء قضاء .
قال هذا لا يجوز .
لاكون مع الصادقين _ 212 _
قلت : أنك قلت لي فيما سبق بأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فرق وجمع وبذلك فهمنا مواقيت الصلاة التي إرتضاها الله سبحانه .
ـ قال : أن لفريضتي الظهر والعصر وقت مشترك ويبتديء من زوال الشمس الى الغروب ، ولفريضتي المغرب والعشاء أيضا وقت مشترك ويبتديء من غروب الشمس الى منتصف الليل ولفريضة الصبح وقت واحد يبتديء من طلوع الفجر الى شروق الشمس فمن خالف هذه المواقيت يكون خالف الآية الكريمة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً فلا يمكن لنا مثلا أن نصلي الصبح قبل الفجر ولا بعد شروق الشمس كما لا يمكن لنا أن نصلي فريضتي الظهر والعصر قبل الزوال أو بعد الغروب كما لا يجوز لنا أن نصلي فريضتي الظهر والعصر قبل الزوال أو بعد الغروب كما لا يجوز لنا أن نصلي فريضتي المغرب والعشاء قبل الغروب ولا بعد منتصف الليل .
وشكرت السيد محمد باقر الصدر ، وإن كنت إقتنعت بكل أقواله غير إني لم أجمع بين الفريضتين بعد مغادرته إلا عندما رجعت الى تونس وإنهمكت بالبحث وإستبصرت .
هذه قصتي مع الشهيد الصدر رحمة الله عليه في خصوص الجمع بين الفريضتين أرويها ليتبّين أخواني من أهل السنة والجماعة أولا ، كيف تكون أخلاق العلماء اللذين تواضعوا حتى كانوا بحق ورثة الأنبياء في العلم والأخلاق .
وثانيا : كيف نجهل ما في صحاحنا ونشنع على غيرنا نعتقد نحن بصحتها ، وقد وردت في صحاحنا .
فقد أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (1) عن إبن عباس قال : صلّى رسول الله صلّى الله عليه وآليه وسلم في المدينة مقيما غير مسافر سبعاً وثمانياً .
وأخرج الإمام مالك في الموطأ (2) عن إبن عباس قال : صلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف
---------------------------
(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل 1 /221 .
(2) موطأ الإمام مالك ( شرح الحوالك ) 1 /161
لاكون مع الصادقين _ 213 _
ولا سفرٍ.
وأخرج الإمام مسلم في صحيح (1) في باب الجمع بين الصلاتين في الحضر قال : عن إبن عبّاس قال : صلّى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر جميعاً ، والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا سفر .
كما أخرج عن إبن عباس أيضاً قال : جمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين الظُهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوفٍ ولا مطرٍ ـ قال قلتُ لإبن عباس لِم فعل ذلك قال : كي لا يحرج أُمّتَهُ (2) .
ومّما يدّلك أخي القاريء أن هذه السنّة النبّوية كانتْ مشهورة لدى الصحابة ويعملون بها ، مارواه مسلم أيضاً في صحيحه في نفس الباب قال : خطبنا إبن عباس يوما بعد العصر حتى غَرُبت الشمسُ وبدت النجوم وجعل النّاس يقولون الصّلاة الصلاّة ، قال فجاءه رجل من بني تميم لايفتر ولا ينثني الصلاّة الصلاة فقال إبن عباس : أتعلمني بالسنّة لا أمٌ لك ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم جمع الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وفي رواية أخرى قال إبن عباس للرجل : لا أم لك أتعلّمنا بالصلاة وكّنا نجمعُ بين الصّلاتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3) .
وأخرج الإمام البخاري في صحيحه (4) في باب وقت المغرب قال : حدّثنا آدم قال حدّثنا شعبة قال حدثنا عمرو إبن دينار قال سمعتُ جابر بن يزيد عن إبن عباس قال : صلّى النبي صلى الله عليه ؤآله وسلم سبعا جميعاً وثمانية جميعاً .
كما أخرج البخاري في صحيحه (5) في باب وقت العصر قال سمعتُ أبا
---------------------------
(1) صحيح مسلم 2 / 151 ( باب الجمع بين الصلاتين في الحضر)
(2) صحيح مسلم 2 /152 .
(3) صحيح مسلم 2 / 153 ( باب الجمع بين الصلاتين في الحضر ) .
(4) صحيح البخاري 1 /140 ( باب وقت المغرب ) .
(5) صحيح البخاري 1 / 138 ( باب وقت العصر ) .
لاكون مع الصادقين _ 214 _
إمامة يقول : صلينا مع عمر بن عبدالعزيز الظهر ثم خرجنَا حتّى دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصرَ فقلتُ ياعمّ ماهذه الصّلاة التي صلّيت قال العصْرُ وهذه صلاة رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم التي كنْا نصلّي معه .
ومع وضوح هذه الأحاديث فإنك لا تزال تجد من يشنع بذلك على الشيعة ، وقد حدث ذلك مرة في تونس ، فقد قام الإمام عندنا في مدينة قفصة ليشنّع علينا ويُشهّر بنا وسط المصلّين قائلاً : أرأيتم هذا الدّين الذي جاؤوا به إنهم بعد صلاة الظهر يقومون ويصلّون العصر ، إنه دين جديد ليس هو دين محمد رسول الله ، هؤلاء يخالفون القرآن الذي يقول إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً وما ترك شيئاً إلا وشتم به المستبصرين .
وجاءني أحد المستبصرين وهو شاب على درجة كبيرة من الثقافة وحكي لي ماقاله الإمام بألم ومرارة ، فأعطيته صحيح البخاري وصحيح مسلم وطلبت منه أن يطلعه على صحة الجمع وهو من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنني لا أريد الجدال معه فقد سبق لي أن جادلته بالتي هي أحسن فقابلني بالشتم والسب والتهم الباطلة ـ والمهم إن صديقي لم ينقطع من الصلاة خلفه فبعد إنتهاء الصلاة جلس ألإمام كعادته للدرس فتقدم إليه صديقي بالسؤال عن الجمع بين الفريضتين فقال : إنها من بدع الشيعة ، فقال له صديقي : ولكنها ثابتة في صحيح البخاري ومسلم فقال له : غير صحيح فأخرج له صحيح البخاري وصحيح مسلم وأعطاه فقرأ باب الجمع بين الصلاتين ـ يقول صديقي فلما صدمته الحقيقة أمام المصلين الذين يستمعون لدروسه ، أغلق الكتب وأرجعها إلي قائلا : هذه خاصة برسول الله وحتى تصبح أنت رسول الله فبإمكانك أن تصليها ، يقول هذا الصديق فعرفت إنه جاهل متعصب وأقسمت من يومها أن لا أصلي خلفه (1) .
---------------------------
(1) يحكى أن رجلين خرجا للصيد ولقيا سواداً ، بعيدا فقال الأول إنه غراب وعانده الثاني بأنه عنزة وتعاندا وأصر كل منهما على رأيه ولكنهما عندما إقتربا من السواد فإذا به غراب إنزعج وطار هاربا فقال الأول : ألم أقل لك بأنه غراب هل إقتنعت الآن ولكن صديقه أصر على رأيه وقال : سبحانه الله عنزة تطير ؟
لاكون مع الصادقين _ 215 _
بعد ذلك طلبت من صديقي بأن يرجع اليه ليطلعه على أن إبن عباس كان يصلي تلك الصلاة وكذلك أنس بن مالك وكثير من الصحابة فلماذا يريد هو تخصيصها برسول الله ، أو لم يكن لنا في رسول الله إسوة حسنة ؟ ولكن صديقي إعتذر لي قائلا : لا داعي لذلك وإنه لا يقتنع ولو جاءه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وإنه والحمد لله وبعد أن عرف كثير من الشباب هذه الحقيقة وهي الجمع بين الصلاتين رجع أغلبهم الى الصلاة بعد تركها لأنهم كانوا يعانون من فوات الصلاة في وقتها ويجمعون الأوقات الأربعة في الليل فتمل قلوبهم ، وأدركوا الحكمة في الجمع بين الفريضتين لأن كل الموظفين والطلبة وعامة الناس يقدرون على إداء الصلوات في أوقاتها وهم مطمئنون ، وفهموا قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كي لا أحرج أمتي .
أجمع علماء الشيعة على القول بأفضلية السجود على الأرض لما يروونه عن أئمة أهل البيت عليهم السلام قول جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( أفضل السجود على الأرض ) .
وفي رواية أخرى : ( لا يجوز السجود إلا على الأرض أو ما أنبتت الأرض غير مأكول ولا ملبوس ) .
وقد روى صاحب وسائل الشيعة عن محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن هشام بن الحكم عن أبي عبدالله عليه السلام قال : السجود على الأرض أفضل لأنه أبلغ في التواضع ، والخضوع لله عز وجل ـ وفي رواية أخرى عن محمد بن الحسن بإسناده عن إسحاق بن الفضل : إنه سأل أبا عبدالله ( عليه السلام ) عن السجود على الحصر والبواري المنسوجة من القصب فقال : لا بأس ، وأن يسجد على الأرض أحب إلى ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب ذلك ، أن يمكن جبهته من الأرض ، فأنا أحب لك ما كان يحبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
لاكون مع الصادقين _ 218 _
أما علماء أهل السنة والجماعة فلا يرون بأساً في السجود على الزرابي والفرش وإن كان عندهم أفضلية في الحصر .
وهناك بعض الروايات التي يخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما تؤكد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت له خمرة مصنوعة من سعف يسجد عليها فقد أخرج مسلم في صحيحه في كتاب الحيض عن يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة عن أبي معاوية عن الأعمش عن ثابت بن عبيد عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناوليني الخمرة من المسجد قالت فقلت أني حائض فقال : إن حيضتك ليست في يدك (1) ( يقول مسلم : والخمرة هي السجادة الصغيرة مقدار ما يسجد عليها ) .
ومما يدلنا على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب السجود على الأرض ، ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعتكف في العشر الأواسط من رمضان فإعتكف عاما حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج صبيحتها من إعتكافه قال : من كان إعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر وقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أمجد في ماء وطين من صبيحتها فلتسوها في العشر الأواخر والتمسوها بكل وتر فمطرت السماء في تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين (2) .
ومما يدلنا أيضا على إن الصحابة يفضلون السجود على الأرض ، وذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أخرجه الإمام النسائي في سننه في باب تبريد الحصى للسجود عليه ـ قال : أخبرنا قتيبة قال حدثنا عباد عن
---------------------------
(1) صحيح مسلم 1 /168 ( باب جواز غسل الحائض رأس زوجها ).
سنن أبي داود 1 /68 ( باب الحائض تناول من المسجد ) .
(2) صحيح البخاري 2 /256 ( باب الإعتكاف في العشر الأواخر ) .
لاكون مع الصادقين _ 219 _
محمد بن عمرو عن سعيد بن الحرث عن جابر بن عبدالله قال : كنا نصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الظهر فأخذ قبضة من حصى في كفي أبرده ثم حوله في كفه الآخر فإذا سجدت وضعته لجبهتي (1) .
أضف الى كل ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) (2) .
وقال أيضاً : ( جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا ) (3) .
فكيف يتعصب المسلمون ضد الشيعة لأنهم يسجدون على الأرض بدلا من السجود على الزرابي .
وكيف يصل بهم الأمر إلى تكفيرهم والتشنيع عليهم وقذفهم زورا وبهتانا بأنهم عباد الأصنام .
وكيف يضربونهم في السعودية لمجرد وجود التربة في جيوبهم أو في حقائبهم .
أهذا هو الإسلام الذي يأمرنا بإحترام بعضنا وعدم إهانة المسلم الموحد الذي يشهد أن لا إله إلا الله وإن محمدا رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويحج البيت وهل يعقل عاقل بأن الشيعي يتكبد تلك الأتعاب ويخسر تلك الخسائر ويأتي لحج بيت الله الحرام وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعبد الحجارة كما يحلو للبعض أن يصوروه ؟
أفلا يعتقد أهل السنة والجماعة بقول الشهيد محمد باقر الصدر الذي نقلته في كتابي الأول ( ثم إهتديت ) عندما سألته عن التربة فقال : نحن نسجد لله على
---------------------------
(1) سنن الإمام النسائي 2 /204 ( باب تبريد الحصى للسجود عليه ) .
(2) صحيح البخاري 1 /86 ( كتاب التيمم ) .
(3) صحيح مسلم 2 /64 ( كتاب المساجد ومواضع الصلاة ).
لاكون مع الصادقين _ 220 _
الأرض ، فهناك فرق بين السجود على التراب . والسجود للتراب !
وإذا كان الشيعي يحتاط ليكون سجوده طاهرا ومقبولا عند الله قيمتثل أوامر رسول الله والأئمة الأطهار من أهل البيت وخصوصا في زماننا هذا الذي أصبحت فيه كل المساجد مفروشة بالزرابي الوفيرة وفي البعض بما يسمى (moquette) ، وهي مادة مجهولة الصنع لدى عامة المسلمين ولن تصنع في بلاد إسلامية ولعل البعض منها فيها ما لا يجوز السجود عليه أفيحق لنا أن ننبذ هذا الشيعي الذي يهتم بصحة صلاته ، ونتهمه بالكفر والشرك بمجرد شبهة زائفة ؟
والشيعي الذي يهتم بأمور دينه وبخصوصا بصلاته التي هي عمود الدين فتراه ينزع حزامه وينزع ساعته لأن فيها حزاما من الجلد الذي لا يعلم منشأه وفي بعض الأوقات ينزع سرواله الإفرنجي ليصلي في سروال فضاض كل ذلك إحتياطا وإهتماما بتلك الوقفة العظيمة بين يدي الله لكي لا يقابل ربه بشيء يكرهه ، أيستحق هذا منا الإستهزاء والنفور ، أم يستحق الإحترام والإكبار ؟ لأنه عظم شعائر الله ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب .
ياعباد الله إتقوا الله وقولوا قولا سديداً .
ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم ، إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لك به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم (1) .
---------------------------
(1) سورة النور آية 15 .
هذه المسألة مما أختصت الشيعة بالقول بها ، وأنا بحثت في كتب السنة فلم أجد لها أثر يذكر .
وهم يعتمدون في ذلك على أخبار وروايات رووها عن الأئمة الأطهار سلام الله عليهم في أن الله سبحانه وتعالى سيحيي بعض المؤمنين وبعض المجرمين المفسدين لينتقم المؤمنون من أعدائهم أعداء الله في الدنيا قبل الآخرة .
ولو صحت هذه الروايات وهي صحيحة ومتواترة عند الشيعة فلا تلزم أهل السنة والجماعة إذا لم يثقوا بصحتها ، ومن ثم فإنهم غير ملزمين بوجوب الإعتقاد بها ، لأن أئمة أهل البيت حدثوا بها عن جدهم صلى الله عليه وآله وسلم ! كلا لأنا ألزمنا أنفسنا بالإنصاف بالبحث وعدم التعصب ، فلا نكلفهم إلا ما ألزموا به أنفسهم وأخرجوه في صحاحهم ، ولأن روايات الرجعة لم ترد عندهم ، فهم أحرارا في عدم الأخذ بها ، ورفضها هذا في صورة ما إذا أراد أحد الشيعة أن يفرض عليهم تلك الروايات .
أما وأن الشيعة لم يفرضوا على أحد أن يقول بالرجعة ولا إنهم يقولون بكفر من يكذبها ، فلا داعي لكل هذا التشنيع والتهويل على الشيعة سيما وأنهم
لاكون مع الصادقين _ 222 _
يفسرون بعض الآيات بنحو يوافق ذلك ، وذلك كما في قوله تعالى : ويوم نحشر من كل إمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون (1) .
فقد جاء في تفسير القمي عن إبن أبي عمير عن حماد عن أبي عبدالله جعفر الصادق عليه السلام قال : ما يقول الناس في هذه الأية ويوم نحشر من كل إمة فوجا ؟ قلت : يقولون إنه في يوم القيامة : قال : ليس كما يقولون إنها في الرجعة ، أيحشر الله في القيامة من كل أمة فوجا ويدع الباقين ؟ إنما آية القيامة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا (2) .
كما جاء بكتاب عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر قوله : أن الذي تذهب اليه الإمامية أخذاً بما جاء عن آل البيت عليهم السلام إن الله تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدينا في صورهم التي كانوا عليها ، فيعز فريقا ويذل فريقا آخر ويديل المحقّين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين ، وذلك عند قيام مهدي آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام .
ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان أو من بلغ الغاية من الفساد ، ثم يصيرون من بعد ذلك إلى الموت ، ومن بعده الى النشور وما يستحقونه من الثواب أو العقاب ، كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم تمني هؤلاء المرتجعين الذين لم يصلحوا بالإرتجاع فنالوا مقت الله ، أن يخرجو ثالثا لعلهم يصلحون : قالوا ربنا أمتنا إثنتين وأحييتنا إثنتين وإعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ( سورة المؤمن آية 11 ) (3) .
أقول إذا كان أهل السنة والجماعة لا يؤمنون بالرجعة فلهم كامل الحق : ولكن ليس من حقهم أن يشنعوا على من يقول بها ، لثبوت النصوص عنده ، فليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم ولا حجة للجاهل على العالم وليس عدم
---------------------------
(1) سورة النمل آية 83 .
(2) سورة الكهف آية 47 .
(3) كتاب عقائد الإمامية للمظفر ص 80 ( العقيدة الثانية والثلاثون ) .
لاكون مع الصادقين _ 223 _
الإيمان بالشيء دليل على بطلانه فكم من حجة دامغة عند المسلمين لا يؤمن بها أهل الكتاب من يهود ونصارى .
وكم من إعتقادات وروايات عند أهل السنة والجماعة بخصوص الأولياء والصالحين وأصحاب الطرق الصوفية تبدوا مستحيلة ومنكرة ولكن لا تستدعي التشنيع والتهويل على عقيدة أهل السنة والجماعة .
وإذا كانت الرجعة لها سند في القرآن والسنة النبوية وهي ليست مستحيلة على الله الذي ضرب لنا أمثلة منها في القرآن الكريم كقوله تعالى : أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ، قال : أنى يحى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه (1) .
أو كقوله سبحانه وتعالى : ألم تر إلى الذين خرجو من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم (2) .
وقد أمات الله قوما من بني إسرائيل ثم أحياهم قال تعالى .
وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ، ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون (3) .
وقال في أصحاب الكهف الذين لبثوا في كهفهم موتى أكثر من ثلاثمائة عام ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً (4) .
فهذا كتاب الله يحكي أن الرجعة وقعت في الأمم السابقة فلا يستحيل وقوعها في أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخصوصا إذا روى ذلك أئمة أهل
---------------------------
(1) سورة البقرة آية 259 .
(2) سورة البقرة آية 243 .
(3) سورة البقرة آية 56 .
(4) سورة الكهف آية 12 .
لاكون مع الصادقين _ 224 _
البيت سلام الله عليهم ، فهم الصادقون ، العالمون .
أما قول بعض المتطفلين بأن القول بالرجعة هو القول بالتناسخ الذي يقول به بعض الملحدين .
فهو قول ظاهر الفساد والبطلان ، ويقصدون من ورائه التشنيع والتهويل على الشيعة .
إذ إن القائلين بالتناسخ لا يقولون بأن الإنسان يرجع الى الدنيا بجسمه وروحه وصورته وكنهه .
إنما يقولون بأن الروح تنتقل من إنسان مات إلى جسد إنسان آخر يولد من جديد أو حتى إلى حيوان .
وهذا كما نعلم بعبد كل البعد عن عقيدة المسلمين القائلين بأن الله يبعث من في القبور بأجسامهم وأرواحهم .
فليست الرجعة من التناسخ في شيء وهو قول الجهلة الذين لا يفقهون أو المغرضين غير الورعين .