الفهرس العام

الفصل الأول: الفتنة على ظهر الجمل


عائشة تبغض عليا ( عليه السلام ) وتحسده وقد سرت بقتله ( عليه السلام )
عائشة فيما بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )
موقف عائشة ضد علي ( عليه السلام )
الله ورسوله أمرا نساء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلزوم البيت
القائدة هي أم المؤمنين
الفصل الثاني :أشلاء أخيرة من سيرتها
أم المؤمنين تجتهد وتغير سنة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )


عائشة تبغض عليا ( عليه السلام ) وتحسده وقد سرت بقتله ( عليه السلام )

  في مسند الإمام أحمد بن حنبل (ج 6 / ص 36)، روى بسنده عن عبيد الله بن عبد الله بن عائشة قالت : لما مرض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في بيت ميمونة فاستأذن نساءه أن يمرض في بيتي فأذن له، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معتمدا على العباس وعلى رجل آخر، ورجلاه تخطان في الأرض، قال عبيد الله فقال ابن عباس أتدري من ذلك الرجل ؟ هو علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ولكن عائشة لا تطيب لها نفسا .
  ورواه في ( ص 228 ) أيضا وقال فيه : فحدثت به ابن عباس فقال :
  أتدرون من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة هو علي ( عليه السلام ) ولكن عائشة لا تطيب له نفسا .
  ورواه في ( ص 38 ) باختلاف في اللفظ، وفي (ص 251) وفي (ج 2 / ص 52)، ورواه البخاري أيضا في كتاب الوضوء باب الغسل والوضوء في المخضب وفي كتاب الصلاة في باب حد المريض أن يشهد الجماعة، وفي باب إنما جعل الإمام ليؤتم به ، وفي كتاب الهبة باب هبة

أخيراً أشرقت الروح _ 104 _

  الرجل لامرأته، وفي كتاب بدأ الخلق في باب مرض النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، وفي كتاب الطب في باب حدثنا بشر بن محمد ، ورواه مسلم أيضا في صحيحه في كتاب الصلاة باب استخلاف الإمام بطرق عديدة.
  ورواه النسائي أيضا في صحيحه ( ج 1 / ص 134 ).
  ورواه ابن سعد أيضا في طبقاته (ج 2 القسم 2 ص 19 و 28 و 29)، وقال فيه: قال ابن عباس هو علي ( عليه السلام ) ، إن عائشة لا تطيب له نفسا بخير.
  وكذلك رواه ابن ماجة ، الحاكم، الدارمي، البيهقي.
  وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل (ج 4 / ص 275) روى بسنده عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فسمع صوت عائشة عاليا وهي تقول: والله لقد عرفت أن عليا أحب إليك من أبي ومني ، مرتين أو ثلاثا ، فاستأذن أبو بكر فدخل فأهوى إليها، فقال:
  يا بنت فلانة ألا أسمعك ترفعين صوتك على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  ورواه النسائي أيضا صاحب الصحيح المعروف في خصائصه (ص 28) وقال: فأهوى لها ليلطمها وقال لها: يا بنت فلانة أراك ترفعين صوتك على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )، فأمسكه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخرج أبو بكر مغضبا .
  وفي طبقات ابن سعد ( ج 3 القسم 1 ص 27 )، قال: قالوا وذهب بقتل علي ( عليه السلام ) إلى الحجاز سفيان بن أمية بن أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس، فبلغ ذلك عائشة فقالت:
  فألقت عصاها واستقرت بها النوى.
  كما قر عينا بالإياب المسافر.
  وهذا البيت مما يضرب به المثل إذا حصلت الراحة بعد الشدة

أخيراً أشرقت الروح _ 105 _

  والفرج بعد الكرب والمشقة ، فتمثلت عائشة به مما ينبئ ، بل هو صريح في سرورها بقتل علي ( عليه السلام ) .
  ومن مجموع أخبار هذا الفصل من الكتاب قد تحصل لديك أيها القارئ اللبيب أن عائشة ممن يبغض عليا ( عليه السلام ) ويكرهه.
  وأما حكم من أبغض عليا ( عليه السلام ) وكرهه فيظهر لك تفصيله من الصحاح الستة، قال ( صلى الله عليه وآله وسلم )، من أحب عليا فقد أحب الله ومن أبغض عليا ( عليه السلام ) فقد أبغضه الله.
  وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ): إن حب علي ( عليه السلام ) إيمان وبغضه نفاق.
  وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ): إن حب علي حسنة ويأكل الذنب وجواز النار وبراءة منها ويثبت القدم، وبغضه سيئة لا تنفع معها حسنة.
  وبلغ من أمر عائشة وبغضها لعلي ( عليه السلام ) ، أنها كانت تحاول دائما إبعاده عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما استطاعت لذلك سبيلا.
  قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) استدنى عليا فجاء حتى قعد بينه وبينها وهما متلاصقان، فقالت له: أما وجدت مقعدا لاستك إلا فخذي.
  وروي أيضا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ساير يوما الإمام علي وأطال مناجاته فجاءت عائشة وهي سائرة خلفهما حتى دخلت بينهما، وقالت لهما: فيم أنتما فقد أطلتما، فغضب لذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  ويروى أيضا أنها دخلت مرة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يناجي عليا فصرخت : ما لي وما لك يا بن أبي طالب ؟ إن لي نوبة واحدة من رسول الله، فغضب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، وكم من مرة أغضبت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتصرفاتها الناتجة عن الغيرة الشديدة وعن حدة طبعها وكلامها اللاذع،

أخيراً أشرقت الروح _ 106 _

  وهل يرضى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على مؤمن أو مؤمنة ملأ قلبه كرها وبغضا لابن عمه وسيد عترته، الذي قال فيه : ( يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ).
  وقال فيه : ( من أحب عليا فقد أحبني ومن أبغض عليا فقد أبغضني ) (1).

عائشة فيما بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )

  أما إذا درسنا حياة أم المؤمنين عائشة ابنة أبي بكر بعد لحوق زوجها بالرفيق الأعلى ( روحي له الفداء )، وبعد ما خلا لها الجو وأصبح أبوها هو الخليفة والرئيس على الأمة الإسلامية، وأصبحت هي حينذاك المرأة الأولى في الدولة الإسلامية لأن زوجها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأبوها هو خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  ولأنها كما تعتقد هي أو توهم نفسها بأنها أفضل أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، لا لشئ إلا لأنه تزوجها بكرا وما تزوج بكرا غيرها ـ لكن بعض الأقوال تعارض هذا القول وتقول بأن خديجة الصديقة الكبرى كانت قبلها بكرا.
  وعائشة لم تعاشر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سوى ست أو ثمان سنوات على اختلاف الرواة.
  قضت السنوات الأولى منها تلعب ألعاب الأطفال وهي زوجة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي كما وصفتها بريرة جارية رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عندما قالت

---------------------------
(1) المستدرك للحاكم: ج 3 / ص 130 صححه على شرط الشيخين: بخاري ومسلم ـ وعشرات المصادر.

أخيراً أشرقت الروح _ 107 _

  في عائشة: ( إنها جارية حديثة السن تنام على العجين فتأتي الداجن فتأكله ) (1).
  لقد بلغت عائشة سن المراهقة كما يقال اليوم وقطعت نصف عمرها مع صاحب الرسالة، بين ضرات يبلغ عددهن عشر أو تسع زوجات، وهناك امرأة أخرى أغفلنا ذكرها في حياة عائشة وكانت أشد عليها من كل ضرة لأن حب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لها فاق التصور، وهذه المرأة هي فاطمة الزهراء عليها السلام ربيبة عائشة ابنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من خديجة ، وما أدراك ما خديجة الصديقة الكبرى التي سلم عليها جبرئيل وبشرها ببيت لها في الجنة لا صخب فيه ولا نصب (2).
  لقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يدع مناسبة تفوته إلا ويذكر خديجة ، فيتفطر كبد عائشة ويحترق قلبها غيرة وتثور ثائرتها وتخرج عن طورها فتشتم بما يحلو لها ، ولا تبال بعواطف زوجها ومشاعره.
  ولنستمع إليها تحدث عن نفسها بخصوص خديجة ، كما روى البخاري وأحمد والترمذي وابن ماجة ، قالت : ما غرت على امرأة لرسول الله كما غرت على خديجة (3) لكثرة ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إياها وثنائه عليها، فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش ، حمراء الشدقين هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرا منها ، قالت : فتغير وجه

---------------------------
(1) صحيح البخاري: ج 3 / ص 156 باب تعديل النساء بعضهن بعضا .
(2) صحيح البخاري: ج 4 / ص 231، صحيح مسلم باب فضائل أم المؤمنين خديجة: ج 7 / ص 133 .
(3) قد مر سابقا قولها : ما غرت على امرأة كما غرت على صفية ، وقولها : ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية ، لك الله يا عائشة فهل سلمت واحدة من أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من غيرتك .

أخيراً أشرقت الروح _ 108 _

  رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تغيرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي، وقال: لا والله ما أبدلني الله خيرا منها ، فقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء.
  وليس هناك شك أن رد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يبطل دعوى من يقول بأن عائشة هي أحب وأفضل أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، وأكيد أيضا أن عائشة ازدادت غيرة وكرها لخديجة عندما قرعها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذا التوبيخ وأعلمها بأن ربه لم يبدله خيرا من خديجة ، ومرة أخرى يعلمنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنه لا يميل مع الهوى ولا يحب الجمال والبكارة، لأن خديجة ( عليها السلام ) ـ ونقول ذلك مسايرة لأقوال القوم ـ تزوجت قبله مرتين وكانت تكبره بخمسة عشرة عاما، ومع ذلك فهو يحبها ولا ينثني عن ذكرها، وهذا لعمري هو خلق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي يحب في الله ويبغض في الله.
  وهناك فرق كبير بين هذه الرواية الحقيقية وتلك المزيفة التي تدعي بأن الرسول يميل إلى عائشة حتى بعثن نساؤه إليه ينشدنه العدل في ابنة أبي قحافة.
  وهل لنا أن نسأل أم المؤمنين عائشة التي ما رأت يوما في حياتها السيدة خديجة ولا التقت بها كيف تقول عنها عجوز حمراء الشدقين ؟
  وهل هذه هي أخلاق المؤمنة التي يحرم عليها أن تغتاب غيرها إذا كان حيا؟ فما بالك بالميت الذي أفضى إلى ربه ، فما بالك إذا كانت ضحية الغيبة زوج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والتي ينزل جبرئيل في بيتها وبشرها ببيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب ؟.

أخيراً أشرقت الروح _ 109 _

  وبالتأكيد إن ذلك البغض وتلك الغيرة التي تأججت في قلب عائشة من أجل خديجة لا بد لها من فورة ومتنفس وإلا انفجرت، فلم تجد عائشة أمامها إلا فاطمة ابنة خديجة ربيبتها والتي هي في سنها أو تكبرها قليلا على اختلاف الرواة.
  وبالتأكيد أيضا إن ذاك الحب العميق من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لخديجة تجسد وقوي في ابنته ووحيدته فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، فهي الوحيدة التي عاشت مع أبيها تحمل في جنباتها أجمل الذكريات التي كان يحبها رسول الله في خديجة فكان يسميها أم أبيها.
  وزاد في غيرة عائشة أن ترى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يمجد ابنته فاطمة ويسميها سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة (1)، ثم يرزقه الله منها سيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ، فترى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يذهب ويبات عند فاطمة ساهرا على تربية أحفاده، ويقول: ولداي هذان ريحانتي من هذه الأمة، ويحملهما على كتفيه فتزداد بذلك عائشة غيرة لأنها عقيم.
  ثم ازدادت الغيرة أكثر عندما شملت زوج فاطمة أبا الحسنين، لا لشئ إلا لحب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إياه وتقديمه على أبيها في كل المواقف، فلا شك أنها كانت تعيش الأحداث، وترى ابن أبي طالب يفوز في كل مرة على أبيها ويمضي بحب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) له وتفضيله وتقديمه على من سواه ، فقد عرفت أن أباها رجع مهزوما في غزوة خيبر ومن معه من الجيوش وأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تألم لذلك وقال: لأعطين غدا الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا ليس فرارا .

---------------------------
(1) صحيح البخاري: ج 4 / ص 209 و ج 7 / ص 142 .

أخيراً أشرقت الروح _ 110 _

  وكان ذلك الرجل هو علي بن أبي طالب زوج فاطمة عليها السلام، ثم رجع علي بعدما فتح خيبر بصفية بنت حيي التي تزوجها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونزلت على قلب عائشة كالصاعقة.
  وعرفت أيضا أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعث أباها بسورة براءة ليبلغها إلى الحجيج، ولكنه لم يلبث أن أرسل خلفه علي بن أبي طالب فأخذها منه ، ورجع أبوها يبكي ويسأل عن السبب، فيجيبه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( إن الله أمرني أن لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي ).
  وقد عرفت أيضا بأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصب ابن عمه علي خليفة على المسلمين من بعده ، وأمر أصحابه وزوجاته بتهنئته بإمرة المؤمنين، فجاءه أبوها في مقدمة الناس يقول: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة (1).
  وقد عرفت بأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمر على أبيها شابا صغيرا لا نبات بعارضيه، عمره سبعة عشر عاما، وأمره بالسير تحت قيادته والصلاة خلفه.
  ولا شك بأن أم المؤمنين كانت تتفاعل مع هذه الأحداث فكانت تحمل في جنباتها هم أبيها والمنافسة على الخلافة والمؤامرة التي تدور عند رؤساء القبائل في قريش ، فكانت تزداد بغضا وحنقا على علي وفاطمة ( عليهما السلام ) ، وتحاول بكل جهودها أن تتدخل لتغيير الموقف لصالح أبيها بشتى الوسائل كلفها ذلك ما كلفها.

---------------------------
(1) أحمد بن حنبل في مسنده: ج 4 / ص 281 ـ والطبري في تفسيره ـ والرازي في تفسيره الكبير: ج 3 ـ وابن حجر في صواعقه ـ والدارقطني والبيهقي والخطيب البغدادي ـ والشهرستاني ... وغيرهم .

أخيراً أشرقت الروح _ 111 _

  وقد أرسلت إلى أبيها على لسان زوجها تأمره ليصلي بالناس عندما علمت بأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أرسل خلف علي ليكلفه بتلك المهمة، ولما علم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتلك المؤامرة اضطر للخروج فأزاح أبا بكر عن موضعه وصلى بالناس جالسا، وغضب على عائشة وقال لها: إنكن أنتن صويحبات يوسف (1)، (يقصد أن كيدها عظيم ).
  والباحث في هذه القضية التي روتها عائشة بروايات مختلفة ومتضاربة يجد التناقض واضحا ، وإلا فإن أباها عبأه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في جيش ، وأمره بالخروج تحت قيادة أسامة بن زيد قبل تلك الصلاة بثلاثة أيام، ومن المعلوم بالضرورة بأن قائد الجيش هو إمام الصلاة، فأسامة هو إمام أبي بكر في تلك السرية، فلما أحست عائشة بتلك الإهانة فهمت مقصود النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منها ، خصوصا وأنها تفطنت بأن علي بن أبي طالب لم يعينه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ذلك الجيش الذي عبأ فيه وجوه المهاجرين والأنصار والذين لهم في قريش زعامة ومكانة، وقد علمت من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )، كما علم أكثر الصحابة، بأن أيامه معدودة، ولعلها كانت على رأي عمر بن الخطاب في أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أصبح يهجر ولا يدري ما يفعل (2)، فدفعتها غيرتها القاتلة أن تتصرف بما تراه يرفع من شأن أبيها قدرة مقابل منافسة علي، ولكل ذلك أنكرت أن يكون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أوصى لعلي، وحاولت إقناع البسطاء من الناس بأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مات في حجرها بين سحرها ونحرها ، وحدثت بأن

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 9 / ص 197 وينقل ذلك عن الإمام علي ( عليه السلام ) .
(2) أخرجه البخاري: ج 4 / ص 5 في باب قول المريض قوموا عني من كتاب المرضى ـ وأخرجه مسلم في آخر الوصايا من صحيحه: ج 2 / ص 14 ـ رواه أحمد في مسنده: ج 1 / ص 325.

أخيراً أشرقت الروح _ 112 _

  النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لها ، وهو مريض: ادع لي أباك وأخاك لأكتب لهما كتابا عسى أن يدع مدع ويأبى ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر ، فهل من سائل يسألها: ما الذي منعها من دعوته ؟

موقف عائشة ضد علي ( عليه السلام )

  والباحث في موقفها اتجاه أبي الحسن ( عليه السلام ) يجد أمرا غريبا عجيبا ، ولا يجد له تفسيرا إلا الغيرة والعداء لأهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، وقد سجل لها التاريخ كرها وبغضا للإمام علي لم يعرف له مثيل وصل بها إلى حد أنها لا تطيق ذكر اسمه (1)، ولا تطيق رؤيته ، وعندما تسمع بأن الناس قد بايعوه بالخلافة بعد قتل عثمان، تقول : وددت لو أن السماء انطبقت على الأرض قبل أن يليها ابن أبي طالب ، وتعمل كل جهودها للإطاحة به وتقود ضده عسكرا جرارا لمحاربته، وعندما يأتيها خبر موته تسجد شكرا لله .
  عجبا، مع أنه قد روي في الصحاح بأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ) (2)، ثم يروى في الصحاح والمسانيد والتواريخ بأن عائشة تبغض الإمام علي ولا تطيق ذكر اسمه، أليس ذلك شهادة منهم على ماهية هذه المرأة ؟
  كما يروي البخاري في صحيحه أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: ( فاطمة بضعة مني ، من أغضبها أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله) (3).

---------------------------
(1) صحيح بخاري: ج 1 / ص 162 ، ج 3 / ص 135 ، ج 5 / ص 140.
(2) مستدرك الحاكم، صحيح الترمذي: ج 5 / ص 306 ، سنن النسائي: ج 8 / ص 116.
(3) البخاري: ج 4 / ص 210.

أخيراً أشرقت الروح _ 113 _

  ثم يروي البخاري نفسه بأن فاطمة ماتت وهي غاضبة على أبي بكر فلم تكلمه حتى ماتت (1)، إن الحق لا بد أن يظهر مهما ستره المبطلون ومهما حاول أنصار الباطل التمويه والتلفيق، فإن حجة الله قائمة على عباده من يوم نزول القرآن إلى قيام الساعة.

وقرن في بيوتكن ولا تبرجن
  أمر الله سبحانه نساء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالاستقرار في بيوتهن وأن لا يخرجن متبرجات، وأمرهن بقراءة القرآن وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  وعملت نساء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، فكلهن امتثلن أمر الله وأمر رسوله ـ الذي نهاهن هو الآخر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبل وفاته وحذرهن بقوله : أيتكن تركب الجمل وتنبحها كلاب الحوأب، ـ ما عدا عائشة، فقد اخترقت كل الأوامر وسخرت من كل التحذيرات.
  ويذكر المؤرخون أن حفصة بنت عمر أرادت الخروج معها، ولكن أخاها عبد الله حذرها وقرأ عليها الآية فرجعت عن عزمها، أما عائشة فقد ركبت الجمل ونبحتها كلاب الحوأب.
  يقول طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى: مرت عائشة في طريقها بماء فنبحتها كلابه ، وسألت عن هذا الماء فقيل لها أنه الحوأب، فجزعت جزعا شديدا ، وقالت : ردوني ردوني ، قد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول وعنده نساؤه : أيتكن تنبحها كلاب الحوأب ؟
  فجاء عبد الله بن الزبير فتكلف تهدئتها ، وجاءها بخمسين رجلا

---------------------------
(1) صحيح البخاري: ج 5 / ص 82 و ج 8 / ص 3.

أخيراً أشرقت الروح _ 114 _

  من بني عامر يحلفون لها كذبا أن هذا الماء ليس بماء الحوأب.
  اعتقد بأن هذه الرواية وضعت في زمن بني أمية ليخففوا بها عن أم المؤمنين ثقل معصيتها ظنا منهم بأن أم المؤمنين أصبحت معذورة بعد أن خدعها ابن أختها عبد الله بن الزبير وجاءها بخمسين رجلا يحلفون بالله ويشهدون شهادة زورا بأن الماء ليس هو ماء الحوأب.
  إنها سخافة هزيلة يريدون أن يموهوا بمثل هذه الروايات على بسطاء العقول ويقنعوهم بأن عائشة خدعت لأنها عندما مرت بالماء وسمعت نباح الكلاب فسألت عن هذا الماء فقيل لها أنه الحوأب جزعت وقالت: ردوني ردوني.
  فهل لهؤلاء الحمقى الذين وضعوا الرواية أن يلتمسوا لعائشة عذرا في معصيتها لأمر الله وما نزل من القرآن بوجوب الاستقرار في بيتها ، أو يلتمسوا لها عذرا في معصيتها لأمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بوجوب لزوم الحصير وعدم ركوب الجمل، قبل الوصول إلى نباح الكلاب في ماء الحوأب، وهل يجدون لأم المؤمنين عذرا بعدما رفضت نصيحة أم المؤمنين أم سلمة التي ذكرها المؤرخون إذ قالت لها : أتذكرين يوم أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونحن معه حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال فخلا بعلي يناجيه فأطال ، فأردت أن تهجمين عليهما فنهيتك فعصيتيني وهجمت عليهما، فما لبثت أن رجعت باكية فقلت: ما شأنك، فقلت :
  أتيتهما وهما يتناجيان ، فقلت لعلي : ليس لي من رسول الله إلا يوم من تسعة أيام، أفما تدعني يا ابن أبي طالب ويومي ، فأقبل رسول الله علي وهو محمر الوجه غضبا فقال : ارجعي وراءك والله لا يبغضه أحد من الناس إلا وهو خارج من الإيمان، فرجعت نادمة ساخطة، فقالت

أخيراً أشرقت الروح _ 115 _

  عائشة: نعم أذكر ذلك.
  قالت وأذكر أيضا كنت أنا وأنت مع رسول الله، فقال لنا: أيتكن صاحبة الجمل الأدب، تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط ؟
  فقلنا نعوذ بالله وبرسوله من ذلك ، فضرب على ظهرك وقال : إياك أن تكونيها يا حميراء ، قالت عائشة : أذكر ذلك ، فقالت أم سلمة : أتذكرين يوم جاء أبوك ومعه عمر ، وقمنا إلى الحجاب، ودخلا يحدثان فيما أرادا إلى أن قالا : يا رسول الله إنا لا ندري أمد ما تصحبنا ، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعا ، فقال لهما : (أما أني قد أرى مكانه ، ولو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرق بنو إسرائيل عن هارون).
  فسكتا ثم خرجا ، فلما خرجا خرجنا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقلت له أنت ، وكنت أجرئ عليه منا: يا رسول الله من كنت مستخلفا عليهم ؟ فقال:
  خاصف النعل، فنزلنا فرأيناه عليا ، فقلت : يا رسول الله ما أرى إلا عليا، فقال: هو ذاك .
  قالت عائشة: نعم أذكر ذلك ، فقالت لها أم سلمة : فأي خروج تخرجين بعد هذا يا عائشة، فقالت: إنما أخرج للإصلاح بين الناس (1).
  فنهتها أم سلمة عن الخروج بكلام شديد ، وقالت لها : إن عمود الإسلام لا يثأب بالنساء إن مال ، ولا يرأب بهن إن صدع ، حماديات النساء غض الأطراف، وخقر الأعراض، ما كنت قائلة لو أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عارضك في بعض هذه الفلوات، ناصة قلوصا من منهل إلى آخر ؟ والله لو سرت سيرك هذا ثم قيل لي ادخلني الفردوس،

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2 / ص 77.

أخيراً أشرقت الروح _ 116 _

  لاستحيت أن ألقى محمدا هاتكة حجابا ضربه علي ... (1) كما لم تقبل أم المؤمنين عائشة نصائح كثيرة من الصحابة المخلصين.
  روى الطبري في تاريخه أن جارية بن قدامة السعدي قال لها: يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروج من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح ، إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك ، إنه من يرى قتالك فإنه يرى قتلك ، إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي إلى منزلك وإن كنت أتيتينا مستكرهة فاستعيني بالناس (2).

الله ورسوله أمرا نساء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلزوم البيت

  أما أمر الله تبارك وتعالى نساء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلزوم البيت فذلك قوله تعالى في سورة الأحزاب: ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن ) إلى أن قال: ( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى).
  وأما أمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نساءه بلزوم البيت فالأخبار في ذلك كثيرة وهذه جملة مما ظفرت به على العجالة:
  ابن سعد في طبقاته (ج 8 / ص 150): عن عطاء بن يسار أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لأزواجه أيتكن اتقت الله ولم تأت بفاحشة بينة ولزمت ظهر حصيرها فهي زوجتي في الآخرة.
  أيضا ابن سعد في طبقاته ( ج 8 / ص 150 ) عن أبي هريرة قال: قال

---------------------------
(1) ابن قتيبة في كتابه: المصنف في غريب الحديث، كذلك الإمامة والسياسة.
(2) تاريخ الطبري: ج 6 / ص 482.

أخيراً أشرقت الروح _ 117 _

  رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لنسائه في حجة الوداع: هذه ثم ظهور الحصر، قال:
  وكن يحجبن كلهن إلا سودة بنت زمعة وزينب بنت جحش ، قالتا : لا تحركنا دابة بعد إذ سمعنا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  ورواه ابن الأثير أيضا في أسد الغابة: (ج 5 / ص 464) في ترجمة زينب بنت جحش.
  ـ ابن سعد أيضا في طبقاته (ج 8 / ص 150)، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لنسائه في حجة الوداع هذه الحجة ثم ظهور الحصر.
  ـ وروى الخطيب في تاريخ بغداد (ج 7 / ص 110) عن واقد بن أبي واقد عن أبيه عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لنسائه في حجته: هذه ثم ظهور الحصر.
  وقيل في الشرح: أي أنكن لا تعدن تخرجن من بيوتكن، وتلزمن الحصر ( جمع حصير الذي يبسط في البيوت ).
  ثم إن الحديث هذا قد ذكره العسقلاني أيضا في تهذيب التهذيب (ج 11 / ص 107)، وكذلك الهيثمي في مجمعه ( ج 3 / ص 214 ).
  في نهي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عائشة عن قتال علي وقد أخبرها أنها تنبحها كلاب الحوأب:
  في مستدرك الصحيحين: ( ج 3 / ص 119 ) روى بسنده عن أم سلمة قالت: ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خروج بعض أمهات المؤمنين، فضحكت عائشة، فقال: انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت.
  وفي كنز العمال ( ج 6 / ص 84 ) قال : عن طاووس أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لنسائه أيتكن تنبحها كلاب كذا وكذا، إياك يا حميراء.
  (قال) أخرجه نعيم بن حماد في الفتن، ( وقال ): وسنده صحيح.

أخيراً أشرقت الروح _ 118 _

  وفي تاريخ الطبري لابن جرير (ج 3 / ص 485) روى بسنده عن الزهري قال: بلغني أنه لما بلغ طلحة والزبير منزل علي ( عليه السلام ) بذي قار انصرفوا إلى البصرة، فأخذوا على المنكدر فسمعت عائشة نباح الكلاب فقالت أي ماء هذا، فقالوا: الحوأب، فقالت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، إنها لهي ، قد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول وعنده نساءه : ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب.
  فأرادت الرجوع، فأتاها عبد الله بن الزبير فزعم أنه قال: كذب من قال أن هذه الحوأب، ولم يزل حتى مضت فقدموا البصرة.
  وفي الإمامة والسياسة لابن قتيبة في توجه عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة (ص 55) قال : فلما انتهوا إلى ماء الحوأب في بعض الطريق ومعهم عائشة نبحتها كلاب الحوأب، فقالت لمحمد بن طلحة: أي ماء هذا؟ قال: هذا ماء الحوأب، فقالت: ما أراني إلا راجعة، قال : ولم ؟
  قالت: سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول لنسائه: كأني بإحداكن قد نبحتها كلاب الحوأب وإياك أن تكوني أنت يا حميراء ، فقال لها محمد بن طلحة: تقدمي رحمك الله ودعي هذا القول، وأتى عبد الله بن الزبير فحلف لها بالله لقد خلفتيه أول الليل، فأتاها ببينة زور من الأعراب فشهدوا بذلك ، فزعموا أنها أول شهادة زور بالإسلام .
  وفي نور الأبصار لمؤلفه الشبلنجي (ص 81) في قصة أهل الجمل قال: ونقل غير واحد أنهم مروا بمكان اسمه الحوأب فنبحتهم كلابه ، فقالت عائشة: أي ماء هذا ؟ قيل لها: هذا ماء الحوأب، فصرخت وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول وعنده نساءه: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب.

أخيراً أشرقت الروح _ 119 _

  وفي رواية الإستيعاب لابن عبد البر (ج 2 / ص 745) أيتكن صاحبة الجمل الأدب، يقتل حولها قتلى كثير وتنجو ما كادت، قال ابن عبد البر: وهذا الحديث من أعلام نبوته ( صلى الله عليه وآله وسلم )، ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت: ردوني، فأناخوا يوما وليلة وقال لها عبد الله بن الزبير أنه كذب - يعني ليس هذا ماء الحوأب ـ ولم يزل بها وهي تمتنع فقال النجا النجا، فقد أدرككم علي بن أبي طالب، فارتحلوا ونزلوا على البصرة.

القائدة هي أم المؤمنين

  مع العلم بأن عائشة كانت عقيما فلم تحمل ولم تخلف، وكانت من أكبر الشخصيات التي عرفها تاريخ المسلمين، إذ لعبت أكبر الأدوار في تقريب البعض من الخلافة وإبعاد البعض عنها، وعملت على تزكية قوم وإقصاء آخرين.
  وشاركت في الحروب وقادت المعارك والرجال، وكانت تبعث بالرسائل لرؤساء القبائل وتأمر وتنهى وتعزل أمراء الجيوش وتؤمر آخرين، وكانت قطب الرحى في معركة الجمل وعمل طلحة والزبير تحت قيادتها.
  ذكر المؤرخون بأنها كانت هي القائدة العامة، وهي التي تولي وتعزل وتصدر الأوامر، حتى أن طلحة والزبير اختلفا في إمامة الصلاة وأراد كل منهما أن يصلي بالناس ، فتدخلت عائشة وعزلتهما معا وأمرت عبد الله بن الزبير ابن أختها أن يصلي هو بالناس ، وهي التي كانت ترسل الرسل بكتبها التي بعثتها في كثير من البلدان، تستنصرهم.

أخيراً أشرقت الروح _ 120 _

  على علي بن أبي طالب وتثير فيهم حمية الجاهلية.
  حتى عبأت عشرين ألفا أو أكثر من أوباش العرب وأهل الأطماع لقتال أمير المؤمنين والإطاحة به ، وأثارتها فتنة عمياء قتل فيها خلق كثير باسم الدفاع عن أم المؤمنين ونصرتها.
  ويقول المؤرخون بأن أصحاب عائشة لما غدروا بعثمان بن حنيف والي البصرة وأسروه هو وسبعين من أصحابه الذين كانوا يحرسون بيت المال جاؤوا بهم إلى عائشة فأمرت بقتلهم ، فذبحوهم كما يذبح الغنم ، وقيل كانوا أربعمائة رجل ، يقال أنهم أول قوم من المسلمين ضربت أعناقهم صبرا (1).
  روى الشعبي عن مسلم بن أبي بكر عن أبيه قال : لما قدم طلحة والزبير البصرة، تقلدت سيفي وأنا أريد نصرهما ، فدخلت على عائشة فإذا هي تأمر وتنهى وإذا الأمر أمرها، فتذكرت حديثا عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كنت سمعته يقول : (لن يفلح قوم تدبر أمرهم امرأة) فانصرفت عنهم واعتزلتهم .
  كما أخرج البخاري عن أبي بكرة قوله : لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل، لما بلغ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن فارسا ملكوا ابنة كسرى قال: (لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة ) (2).
  ومن المواقف المضحكة المبكية في آن واحد أن عائشة أم المؤمنين، تخرج من بيتها عاصية لله ورسوله ثم تأمر الصحابة بالاستقرار في

---------------------------
(1) الطبري في تاريخه: ج 5 / ص 178 وشرح النهج: ج 2 / ص 501 وغيرهم كثير.
(2) صحيح البخاري: ج 8 / ص 97 باب الفتن ، والنسائي: ج 4 / ص 305 ، والمستدرك: ج 4 / ص 525.

أخيراً أشرقت الروح _ 121 _

  بيوتهم ، إنه حقا أمر عجيب ! فكيف يا ترى وقع ذلك ؟
  روى ابن الحديد المعتزلي في شرح النهج وغيره من المؤرخين أن عائشة كتبت ـ وهي في البصرة ـ إلى زيد بن صوحان العبدي رسالة تقول له فيها:
  من أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق، زوجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان ، أما بعد فأقم في بيتك وخذل الناس عن ابن أبي طالب ، وليبلغني عنك ما أحب فإنك أوثق أهلي عندي والسلام.
  فأجابها هذا الرجل الصالح بما يلي:
  من زيد بن صوحان إلى عائشة بنت أبي بكر ، أما بعد ... فإن الله أمرك بأمر وأمرنا بأمر ، أمرك أن تقري في بيتك وأمرنا أن نجاهد ، وقد أتاني كتابك تأمريني أن أصنع خلاف ما أمرني الله به فأكون قد صنعت ما أمرك الله به، وصنعت أنت ما به أمرني، فأمرك عندي غير مطاع ، وكتابك لا جواب له .
  وبهذا يتبين لنا بأن عائشة لم تكتف بقيادة جيش الجمل فقط ، وإنما طمحت في إمرة المؤمنين كافة في كل بقاع الأرض، ولكل ذلك أباحت لنفسها أن تراسل رؤساء القبائل والولاة وتطمعهم وتستنصرهم .
  ولكل ذلك بلغت تلك المرتبة وتلك الشهرة عند بني أمية فأصبحت هي المنظور إليها والمهابة لديهم جميعا والتي يخشى سطوتها ومعارضتها .
  فإذا كان الأبطال والمشاهير من الشجعان يتخاذلون ويهربون من الصف إزاء علي بن أبي طالب ولا يقفون أمامه فإنها وقفت وألبست

أخيراً أشرقت الروح _ 122 _

  واستصرخت واستفزت .
  ومن أجل هذا حيرت العقول وأدهشت المؤرخين اللذين عرفوا مواقفها في حرب الجمل الصغرى قبل قدوم الإمام علي، وفي حرب الجمل الكبرى بعد مجئ الإمام، وقد دعاها ( عليه السلام ) لكتاب الله فأبت وأصرت على الحرب في عناد لا يمكن تفسيره إلا إذا عرفنا عمق وشد الغيرة والبغضاء التي تحملها أم المؤمنين لأبنائها المخلصين لله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).

أخيراً أشرقت الروح _ 123 _

الفصل الثاني :أشلاء أخيرة من سيرتها
أم المؤمنين تجتهد وتغير سنة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )

  في هذا البحث الذي يهمنا هو اجتهادها وتغييرها لسنة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )، ولا بد من إبراز بعض الأمثلة لكي نفهم من خلالها سلسلة عظماء أهل السنة الذين هم مفخرتهم والذين يقتدون بهم ويقدمونهم على الأئمة الطاهرين من عترة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  وليس ذلك في الحقيقة إلا نزعة قبلية عملت على محق السنة النبوية وطمس معالمها وإطفاء نورها ، ولولا قيام علي ( عليه السلام ) والأئمة من ولده بإحياء السنن لما وجدنا اليوم من سنة النبي شيئا يذكر .
  وكما عرفنا بأن عائشة لم تمتثل لسنة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )، ولم تقم لها وزنا ، وقد سمعت من زوجها أحاديث كثيرة في حق علي إلا أنها أنكرتها وعملت بعكسها .
وعصت أمر الله وأمر رسوله لها بالذات، وخرجت فقادت حرب الجمل المشؤومة التي انتهكت   فيها المحارم، وقتلت الأبرياء، وخانت العهد في الكتاب الذي كتبته مع عثمان بن حنيف عندما جاؤوها

أخيراً أشرقت الروح _ 124 _

  بالرجال مكتفين أمرت بضرب أعناقهم صبرا، وكأنها لم تسمع قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ): ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ).
  ودعنا من الحروب والفتن التي أشعلت نارها أم المؤمنين وأهلكت بها الحرث والنسل ، وهيا بنا إلى تأولها هي الأخرى والقول برأيها في دين الله، وإذا كان مجرد الصحابي له رأي وقوله حجة فكيف بمن يؤخذ نصف الدين عنها ؟
  أخرج البخاري في صحيحه من أبواب التقصير عن الزهري عن عروة عن عائشة ( رض ) قالت: الصلاة أول ما فرضت ركعتان فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر، قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم ؟ قال: تأولت ما تأول عثمان (1).
  أفلا تعجب كيف تترك أم المؤمنين زوجة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التي روتها بنفسها وصححتها، ثم تتبع بدعة عثمان بن عفان والتي كانت تحرض على قتله بدعوى أنه غير سنة النبي وأبلاها قبل أن يبلى قميصه ؟
  نعم ، ذلك ما وقع في عهد عثمان ، ولكنها غيرت رأيها في عهد معاوية بن أبي سفيان ، وما أسرع أن تغير أم المؤمنين رأيها ، لقد حرضت على قتل عثمان ولكنها لما عرفت بأنهم قتلوه وبايعوا عليا غيرت رأيها وبكت على عثمان بكاء شديدا وخرجت للطلب بدمه هي أيضا.
  والمفهوم من الرواية أنها أتمت صلاة السفر وجعلتها أربع ركعات بدلا من ركعتين في زمن معاوية الذي كان حريصا على إحياء بدع ابن

---------------------------
(1) صحيح البخاري: ج 8 / ص 91 ، وصحيح مسلم في كتاب الإيمان.

أخيراً أشرقت الروح _ 125 _

  عمه وولي نعمته عثمان بن عفان.
  والناس على دين ملوكهم ، وكانت عائشة من أولئك الناس الذين صالحوا معاوية بعد العداء، فهو الذي قتل أخاها محمد بن أبي بكر ومثل به أبشع مثلة.
  ومع ذلك فإن المصالح الدنيوية المشتركة تجمع الأعداء وتوحد الأضداد، لذلك تقرب إليها معاوية وتقربت إليه وأصبح يبعث لها بالهدايا والعطايا والأموال الطائلة.
  يقول المؤرخون: إن معاوية لما قدم المدينة دخل على عائشة لزيارتها، فلما قعد قالت له: يا معاوية أأمنت أن أخبئ لك من يقتلك بأخي محمد بن أبي بكر ؟   فقال معاوية: إنما دخلت بيت الأمان.
  فقالت: أما خشيت الله في قتل حجر بن عدي وأصحابه ؟
  فقال: إنما قتلهم من شهد عليهم (1).
  وروي أيضا أن معاوية كان يبعث لها بالهدايا والثياب، والأموال وإذا بحثنا عن هذا التقارب بين عائشة ومعاوية قلنا:
  متى كان البعد والعداء حتى نقول بالتقارب ، فأبو بكر هو الذي شارك معاوية في الحكم وولاه على الشام بعد موت أخيه، ومعاوية يشعر دائما بفضل أبي بكر عليه ، فلولاه لم يكن معاوية يحلم يوما بالوصول إلى الخلافة.
  ثم إن معاوية يلتقي مع الجماعة في مؤامرتهم الكبرى لمحق السنة والقضاء على العترة، وقد تقاسموا تلك المهمة فأحرقوا السنة وتركوا له

---------------------------
(1) تاريخ ابن كثير وابن عبد البر في الإستيعاب ترجمة حجر بن عدي.