( المدرسة ) في النظام الرأسمالي :
عرض للفكرة الامريكية ونقدها
ويتميز النظام التعليمي في الرأسمالية الامريكية عن غيره من الانظمة الرأسمالية الغربية ، بعدة عناصر مهمة ، منها : اجبارية التعليم في المرحلتين الابتدائية والاعدادية ، ومساهمة المؤسسة التعليمية في حل المشاكل الاجتماعية على قاعدة ( ان التعليم شفاء لكل داء ) ، وادارة المدرسة من قبل الادارة المحلية لا الحكومية المركزية .
فعلى صعيد التعليم الاجباري ، تعتقد الفكرة الرأسمالية بان لكل فرد حق مشروع في التعليم ، وعلى اساس ذلك ، فقد الزمت الحكومة المحلية والفيدرالية بتصميم نظام تعليمي مجاني للجميع ابتداءاً من المرحلة الابتدائية وانتهاءاً بالمرحلة الاعدادية الثانوية ، وهذه الفكرة الرأسمالية العظيمة التي نادت بمنح حق التعليم لكل فرد ، لم تكن في الواقع الا خدعة كبيرة من قبل اصحاب الرأسمال ، لان الاصل فيها كان تعليم افراد الطبقة العليا والمتوسطة فقط ، وحرمان الطبقة الفقيرة .
والدليل على ذلك ان الزنوج حرموا من نعمة التعليم في المدارس العامة في اوروبا وامريكا ، خلال انتشار الرق في القرن الثامن عشر ولحد منتصف القرن العشرين ، بل ان الحكومة الرأسمالية لم تبذل دولاراً واحداً في تلك الفترة على تعليم هؤلاء الفقراء المستضعفين ، مع انهم كانوا يشكلون عصب الطبقة العاملة المنتجة في النظام الاجتماعي ، ومع ان النظام التعليمي اليوم قد تبدل عما كان عليه بالامس ، الا ان الاصل في التمييز العنصري والطبقي لا زال موجودا ، لان التمييز في التعليم هو
النظام التعليمي
ـ 18 ـ
الاساس في تثبيت سيطرة الطبقة الرأسمالية على النظام الاجتماعي .
ولا شك ان برنامج التعليم الامريكي ، المتمثل في التعليم الاجباري العام دون النظر الى قابليات الطلبة في استيعاب المناهج التعليمية ، ادى الى سلبيات تعليمية خطيرة ، منها اولا : حرمان الطلبة من الدخول في المدرس المهنية مبكراً ، وثانياً : انحدار المستوى العلمي للمدارس الثانوية العامة عموماً ، وهذا الفشل في تكامل النظام التعليمي في الولايات المتحدة ، يعكس توجه النظام السياسي نحو المحافظة على الفجوة التعليمية الكائنة بين الفقراء والاغنياء ، وليس النظام التعليمي الامريكي يتيما في هذا التوجه الطبقي ، فالنظام البريطاني يشجع الطلبة الاقل فهما للمواد العلمية بالدخول الى المدارس الاعدادية المهنية ، والتلاميذ ذوي القابليات العلمية بالدخول الى المدارس الاعدادية النظرية وابناء الطبقة الثرية بالدخول الى مدارس اعدادية راقية معدودة اسماها بمدارس ( القواعد النحوية ) التي تهيء الطالب الدخول في الجامعات ذات المستوى العلمي المشهود ، وبالنتيجة ، اصبح التعليم وسيلة مهمة من وسائل المحافظة على النظام الطبقي الرأسمالي .
وعلى صعيد الاعتقاد بان التعليم يساهم في حل المشاكل الاجتماعية على قاعدة انه شفاء لكل داء ، فان رواد النظام الرأسمالي يزعمون بان التعليم يجب ان يخدم النظام السياسي الرأسمالي على اكمل وجه ، فهذا ( توماس جفرسون ) احد منقّحي لائحة الاستقلال الامريكي سنة 1776 م يقول : ( ان مدارسنا يجب ان تضمن نجاح النظام الديمقراطي ، فاذا عم الجهل بين الناخبين ، فان تجربتنا السياسية ستكون محكومة
النظام التعليمي
ـ 19 ـ
بالفشل )
(1) ، ومنذ القرن التاسع عشر سعى الرأسماليون الى ربط المدرسة بعجلة النظام السياسي والاجتماعي لحل المشاكل الاجتماعية التي يواجهها الافراد في القارة الجديدة ، فسعت المدرسة الى صهر الجاليات المهاجرة عن طريق تركيز اسس ومفاهيم القومية الجديدة للعالم الجديد ، وهي اللغة والتاريخ ، وتركت تعليم الدين للكنيسة ، وسعت ايضاً الى تعليم ابناء الهنود الحمر اللغة الانكليزية ولكنها تركت تنصيرهم للكنيسة ايضاً اما العبيد فقد تولت الكنيسة تنصيرهم لاحقاً ، ولكن المدرسة لم تبذل جهداً في تعليمهم لان النظام الرأسمالي كان يستشعر خطرا كامناً في تعليم الزنوج باعتبار ان العلم قد يحرر الانسان من قيود العبودية .
وفي منتصف القرن العشرين بدأ النظام السياسي حملته ضد الفقر عن طريق المدارس ، مدعياً ان تبديل نظرة الفقراء السلبية تجاه الدولة والمجتمع والثقافة ستحل مشكلة الفقر في النظام الرأسمالي ، ولكن بعد اقل من نصف قرن من الزمان ، اقر النظام بفشل الحملة المدرسية لمكافحة الفقر ، ملمّحاً الى ان قضية الفقر تتعلق بالعدالة الاجتماعية في النظام الرأسمالي اكثر من تعلقها بالنظام التعليمي .
وفي محاولة منها لربط المدرسة بالمشاكل الاجتماعية ، قامت المؤسسة التعليمية الرأسمالية ايضاً بتغيير المناهج المدرسية بشكل مستمر ، بهدف المساهمة في حل المشاكل الاجتماعية ، فعندما واجه المجتمع الرأسمالي ثورة الشباب للتعبير الصريح عن الشهوة الحيوانية بين الجنسين في العقد السادس
**************************************************************
(1) المذاكرات الشخصية ص 150 .
النظام التعليمي
ـ 20 ـ
من القرن العشرين ، اضطر النظام التعليمي الى تغيير مناهجه التعليمية وذلك بوضع دروس جديدة سميت بثقافة التغشي بين الذكور والاناث ، كان هدفها التقليل من الآثار الاجتماعية الخطيرة التي سببها النظام الاباحي بين الطلبة ، وبعدها بعقدين اضطر النظام ادخال دروس جديدة اخرى حول الادمان على المخدرات والكحول وضررها على المجتمع .
وقد فشلت هذه الحملات الاصلاحية المتوالية ، لتلك الفترة الطويلة ، لاسباب مختلفة منها : ان هذه الاجراءات لم يرد منها اصلا حل المشكلة الاجتماعية بل انما فرضت لاسباب انتخابية وسياسية بحتة ، لان مجالس ادارات المدارس الحكومية ، وهي الهيئات المسؤلة عن المناهج الدراسية ، يتم تشكيلها عن طريق الانتخابات ، ومنها : ان مشكلة التعليم مرتبطة بمشكلة انعدام العدالة الاجتماعية ، فلو افترضنا جدلا صدق القائمين على حل مشكلة التعليم ، أليس من الواضح لكل ذي بصيرة ان هذه الحلول الجزئية المفترضة ، تعجز عن معالجة المشكلة الاساسية ، فكيف ينفع الاصلاح اليسير لجدار متصدع ما لم يهدم وينشأ بدله جدار جديد قوي ؟ ومنها : ان استقلال النظام التعليمي عن النظام الاخلاقي الديني ، جعل المدرسة مسرحا لمختلف الاتجاهات الفكرية البعيدة عن الاعراف الخلقية المتفق عليها اجتماعيا .
وعلى صعيد سيطرة الادارة المحلية على توجيه شؤون المدرسة فان النظام الرأسمالي الامريكي تميز عن غيره من الانظمة التعليمية بهذه الخصلة ، باعتبار ان المدرسة ومشاكلها تهمّ المحلة وابنائها بشكل اساسي مباشر ، وان المدرسة انما اسست لخدمة افراد المحلة وادارتها ، وعلى هذا
النظام التعليمي
ـ 21 ـ
الاساس ، فان مجلس ادارة المدرسة يجب ان ينتخب من ابناء المحلة بالتصويت المباشر ، وعند اكتمال تشكيل مجلس الادارة ، يقوم عندئذ بكل امور التوجيه والاشراف على الحياة المدرسية والنشاط التعليمي ، ابتداءاً من تعيين المعلمين وانتهاءاً بانتقاء وشراء الكتب التي توضع في مكتبة المدرسة ، وتختلف المناهج الدراسية من مدرسة الى اُخرى حسب رأي وقرار مجلس الادارة، ففي المناطق المحافظة ، المتمسكة بالدين ، يمنع مجلس ادارة المدرسة تدريس الثقافة الجنسية ونظرية التطور ، بينما يسمح بتدريس هذه المواد الدراسية في مناطق اخرى ، ويرجع تحديد كل ذلك الى مجلس ادارة المدرسة ، وعلى المستوى المالي ، فان المدارس مرتبطة بالادارة المحلية وحكومة الولاية ، فتدفع حكومة الولاية نصف مصاريف المدرسة وتدفع الادارة المحلية النصف الآخر ، مع نسبة ضئيلة تدفعها الحكومة الفيدرالية .
واقحام المحلة ومؤسستها المالية والسياسية في ادارة المدرسة ليس وليد صدفة ، بل انه ينبع من صميم الفكرة الرأسمالية، فبدلا من قيام الحكومة الفيدرالية بالصرف المالي على المدارس المنتشرة في مختلف المناطق بشكل عادل ، تقوم المحلة الغنية بدفع نسبة اعلى من الضرائب المخصصة للمدارس المتواجدة ضمن حدودها ، وعندها تتمتع المدارس في المناطق الغنية باكمل الخدمات ، ويستفيد الطلبة الاغنياء من النظام التعليمي بافضل وجه ، اما المدارس في المناطق الفقيرة فان مجالس اداراتها لا تستطيع النهوض بمهام النظام التعليمي كما يحصل في المناطق الغنية لقلة المخصصات المالية الواردة من ضرائب الفقراء ، وبذلك يتضرر الطلبة من العوائل الفقيرة ، وهذا ، كما ترى ، ظلم واضح بحق الفقراء من الطلبة الذين يعيشون
النظام التعليمي
ـ 22 ـ
على نفس الارض ويدافعون عن نفس الدولة ويحتمون بنفس النظام ، وكما ان الاقتصاد الرأسمالي يشجع الافراد على المنافسة الاقتصادية باعتبار ان مردودها ينفع الفرد والمجتمع على حد سواء ، كذلك يشجع على المنافسة في النظام التعليمي الرأسمالي، فاستخدام نظام الدرجات يشجع الطلبة على التنافس من اجل الحصول على اعلى المستويات الاكاديمية، حيث يفوز المنتصر في عملية التنافس بجائزته النهائية ، وهي موقع متميز في النظام الاجتماعي ، بينما ينحرف الخاسر تدريجيا عن سير النظام التعليمي ، ليلتحق باقرانه من الخاسرين من افراد الطبقة العاملة الفقيرة !
واذا كانت المنافسة تساعد الطالب على نيل اعلى الدرجات في النظام التعليمي الرأسمالي ، فان التعاون بين الطلبة لحل المسائل المعقدة يعتبر نوعاً من الغش ، لان الطالب ، حسب النظرة الرأسمالية ، يجب ان يتحمل المسؤولية الفردية في التعليم والتحصيل وحل المشاكل وفهم مستعصيات العلوم ، ومسؤولية المدرس تبيين وتوضيح وتحديد الخط الذي ينبغي ان يسير عليه الطالب ، وما وراء ذلك فهو مسؤولية التلميذ الشخصية .
وهذا التركيز على المنافسة في النظام التعليمي الرأسمالي لم يأت اعتباطا ، بل ان رواد الفكرة الرأسمالية يرون ان تعليم الاطفال وتدريبهم على المنافسة في المجال التعليمي سيؤهلهم لاحقاً للمنافسة الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي ، ولكن هذه المنافسة من اجل الحصول على درجات جيدة تدل على خلل اساسي في النظام التعليمي الرأسمالي ، ذلك ان المدرسة هدفها غرس العلم في اذهان التلاميذ ، وليس الحصول على الدرجات ، لان الدرجات لا تمثل الا رمزاً متعارفاً لكمية فهم الموضوع ، ولو كان الاصل من
النظام التعليمي
ـ 23 ـ
التعليم الحصول على درجات جيدة لانتفت موجبات التحصيل من الاصل ، لان دوافع الحصول على مجرد الدرجات يؤدي بالطلبة الى ارتكاب عملية الغش ، وحفظ المواد الدراسية دون فهم ، وقراءة المواد المحتمل ورودها في الامتحان فقط دون غيرها ، ونسيان المواد الدراسية بعد انتهاء الامتحان ، والبحث عن الجامعات الاقل من ناحية المستوى العلمي ولكنها ايسر من ناحية الحصول على الدرجات ، وتفضيل الدراسة عند استاذ ضعيف من الناحية العلمية ولكنه مبسوط اليد في الدرجات على استاذ عالم متشدد في منح الدرجات، وهذا كله يؤدي الى انخفاض المستوى العلمي للطلبة ، ناهيك عن التأثير النفسي الذي يتركه صراع من هذا النوع على نفسيات الخاسرين في عملية التنافس للحصول على أعلى الدرجات .
وتصبح نتيجة المنافسة المدرسية ، فشلاً كانت او نجاحاً ، جزءاً من الشهادة العلمية للفرد ، وعلى اساسها يُقيّم في المجتمع ، وعلى ضوئها يحدد معاشه وراتبه واسلوب حياته ، فاذا كانت درجاته المدرسية المسجلة في الشهادة الجامعية مثلاً عالية ، اصبح مؤهلا للدخول بقوة الى مجال العمل الاجتماعي او البحث العلمي ، حتى لو كانت هذه الدرجات الرمزية لا تمثل فهمه الواقعي للعلم الذي درسه ، وبالاجمال ، فان تصنيف الطلبة تحت سقف وجود الذكاء او عدمه استناداً على نسبة الدرجات في الشهادة المدرسية لا يساعد الطلبة بالمرة على التحصيل العلمي الجاد .
ولما كان النظام التعليمي الرأسمالي يشجع الاغنياء على ارسال ابنائهم الى المدارس الخاصة التي لا يدخلها الا الخواص ، فان الكثرة الغالبة من الطلبة تشعر بان المردودات الاجتماعية والاقتصادية المستقبلية سوف
النظام التعليمي
ـ 24 ـ
تذهب حتما الى القلة من الافراد ، وهذه القلة هي التي ستحوز على قصب السبق ، وستقتطف النصيب الاكبر من الجوائز الاجتماعية ، وبالتحديد : السلطة والثروة والمن زلة الاجتماعية ، اما الجد ، والجهد ، والاجتهاد ، والذكاء ، فهي لا تضمن للطلبة الفقراء او من الطبقة المتوسطة مقعدا في الطبقة الرأسمالية ، اضف الى ذلك ان الاستسلام لهذا الواقع من قبل الفقراء والطبقة المتوسطة يخلق جوا يساعد الطبقة الرأسمالية على البقاء في مواقعها ، والاحتفاظ بمصالحها الاجتماعية والاقتصادية المتميزة .
واهم مساعدة يقدمها النظام التعليمي الرأسمالي للطبقة الرأسمالية العليا هو القاء مسؤولية الفشل الاكاديمي على الطالب وحده وليس على النظام الاجتماعي الذي وضع الغني في موقع متميز منذ نعومة اظفاره ، وهيأ له اسباب النجاح والتفوق دون الطالب الفقير ، وهكذا تصبح الفكرة الرأسمالية القائلة بـ ( ان لكل فرد فرصة متساوية مع بقية الافراد في النظام الاجتماعي ) نظرية خادعة ، لا تحمل معها اي معنى تطبيقي في مفهوم العدالة الاجتماعية .
النظام التعليمي
ـ 25 ـ
المدرسة وانعدام العدالة الاجتماعية
وكما ذكرنا سابقاً ، فان الافراد في المجتمع الرأسمالي لا يملكون فرصاً متساوية للتحصيل ، على خلاف ما يدعيه انصار النظام الرأسمالي ، بل ان الطبقة الاجتماعية التي يولد فيها الفرد تحدد نوعية التعليم الذي سيحصل عليه لاحقاً ، وكما ان الثروة تتراكم بايدي القلة من افراد الطبقة العليا ، كذلك التعليم ، فان درجته الاكاديمية ومستواه الفكري مرتبط بالثروة ، والقوة ، والمنزلة الاجتماعية.
فابناء الطبقة الرأسمالية يحصلون في مجال التعليم على ميزتين اساسيتين ، الاولى : ان اغلبهم يقضي سنوات اكثر في التحصيل مقارنة باقرانهم من ابناء الطبقة الفقيرة ، وثانياً : انهم يحجزون المقاعد الدراسية في الجامعات العريقة ذات المستوى الرفيع امثال جامعة هارفرد واكسفورد وكامبرج وبرنستون وييل وكولومبيا وغيرها من الجامعات الراقية ، علماً بان شهادات هذه الجامعات تترجم مستقبلاً الى منافع اقتصادية واجتماعية عظيمة لهؤلاء الافراد .
وعلى عكس ما تدعيه النظرية الرأسمالية ، من ان لكل فرد الحق في التحصيل والتعليم ودخول ارقى الجامعات ، فان الذكاء لا يلعب دوراً حاسماً في قبول الطلبة في هذه الجامعات ، بل ان الاجور الدراسية وقابلية الفرد على دفعها هي المقياس ، حيث ينصرف الكثير من اذكياء الطبقة المتوسطة والفقيرة الى الدخول في الجامعات المتواضعة او الانخراط في الاعمال التجارية او الاشغال الحرة ، لانهم لا يستطيعون دخول الجامعات العريقة