وعنصر مضر (1) وجعلنا حضنة بيته المتكفلين بشأنه ، وسوَّاس حرمه ، القائمين بخدمته ، وجعله لنا بيتاً محجوباً ، وحرماً آمناً ، وجعلنا أحكام أحكام الناس .
  ثم ابن أخي هذا محمد بن عبد الله ، لا يوزن به رجل إلا رجح به شرفاً ونبلاً وفضلاً وعقلاً ، وإن كان في المال قلّ فإن المال ظل زائل وأمر حائل وعارية مسترجعة .
  وهو والله بعد هذا ، له نبأ عظيم ، وخطر جليل ، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة ، وقد بذل لها من الصداق ما عاجله وآجله اثني عشر اوقية ونشاً (2) .
  وعند ذلك قال عمها عمرو بن أسد : ( هو الفحل لا يقدع أنفه ) .
  وبعد أن انتهى أبوطالب من خطبته (3) ، تكلم ورقة بن نوفل ، فقال :
  ( الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت ، وفضلنا على ما عددت فنحن سادة العرب

********************************************************************************************************
(1) العنصر ـ الاصل ـ يقال : إنه لكريم العنصر ـ أي ـ الحسب ـ والهمة ـ المنجد في اللغة .
(2) قال المحب الطبري : النش عشرون درهماً ـ والاوقية أربعون درهماً ـ وكانت الاواني والنش من الذهب ، فيكون جملة الصداق خمسمائة درهم شرعي ـ وقيل أصدقها عشرين بكرة .
(3) إن البلاغة التي تجلت في خطبة أبي طالب وما ظهر فيها من عطف وحنان أبوي ، لهي أصدق برهان ودليل قاطع على تفانيه في حب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ورعايته ونصرته في دعوته .
  على أن أبا طالب لم يزل حتى توفي يدافع عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الدفاع المستميت ولم يدع أحداً يصل إليه بسوء طيلة حياته ، وكما قيل في حقه وحق علي ( عليه السلام ) :
فـهذا بـمكة آوى iiوحامى      وذاك بيثرب خاض الحماما
  وحينما أرادت قريش قتله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جاءت الى أبي طالب وقالت له : أنت سيدنا ورأيت من أمر

المرأة في ظلّ الإسلام   ـ 127 ـ
  وقادتها ، وأنتم أهل ذلك كله ، لا ينكر العرب فضلكم . ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم فاشهدوا عليَّ معاشر قريش ، إني قد زوجت خديجة بنت خويلد ، من محمد بن عبد الله ، وذكر المهر .
  وأولم عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونحر جزوراً ، وقيل نحر جزورين ، وأطعم الناس وفرح أبو طالب فرحاً شديداً ، وقال : ( الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب ، ودفع الغموم ) وهي أول وليمة يولمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الشاعر في ذلك :

ورأتـه  خـديجة iiوالـتقى      والـزهد فيه سجية والحياء
وأتـاها  أن الغمامة iiوالسر      ح أظـلـته مـنهما أفـياء
وأحاديث أن وعد رسول الله      بـالبعث  حـان منه iiالوفاء
************************************************************************************************
=
ابن أخيك ما كان ، وهذا عمارة بن المغيرة أحسن فتى في قريش جمالاً ونسباً ونهادة وشعراً ، ندفعه اليك فيكون لك نصره وميراثه ، وتدفع الينا ابن اخيك نقتله ، فإن ذلك أجمع للعشيرة وأفضل في عواقب الامور ، قال أبوطالب : والله ما انصفتموني ، تعطوني إبنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابن أخي تقتلونه ؟! ما هذا بالنصف ! لا كان ذلك أبداً .
  وحينما فقده مرة ولم يجده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمر فتيان بني هاشم وقال لهم : ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارمة ، حتى اذا ما وجدنا محمداً فليقتل كل واحد منكم واحداً من زعماء قريش ، وكانت قريش مجتمعة في الكعبة ، ولما وجد محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أخبر زعماء قريش عما كان أراد من قتلهم اذا لم يجد محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحينما طلبت قريش أن يترك محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الدعوة الى الاسلام ويسوِّ دونه عليهم أجاب عليه الصلاة والسلام : ( يا عم والله لو وضعوا الشمس بيمني والقمر بيساري على أن أترك هذا الأمر لما تركته ) فأجابه عمه بقوله :
والله لن يصلوا اليك بجمعهم      حتى  اوسد في التراب دفينا
ولـقد علمت بأن دين iiمحمد      مـن خير أديان البرية iiدينا
  وكل من يقول بعدم اسلام أبي طالب يكون قد افترى وأخطأ لأن دفاعه أكبر شاهد على اسلامه ...
المرأة في ظلّ الإسلام   ـ 128 ـ
فـدعته إلـى الـزواج iiوما      أحسن ما يبلغ المنى الأذكياء
  إن خديجة ( عليها السلام ) عندما رأت محمداً وما يتحلى به من الأمانة والتقى والورع والحياء والزهد والوفاء ، لم تتأخر بانتهاز الفرصة ، ودعوة محمد الى الزواج فعرضت نفسها عليه ، وهي ذات الشرف الظاهر ، والمال الوافر ، والخلق الكريم ، والحسب ، والنسب .
  وذكر ابن هشام : ( أن خديجة ام المؤمنين كانت قد تزوجت من أبي هالة بن زرارة التميمي ، ومات أبو هالة في الجاهلية ، وقد ولدت له خديجة هندا الصحابي ، راوي حديث صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد شهد بدراً وقيل أحداً ، وقد روى عنه الحسن بن علي فقال : حدثني خالي لأنه اخو فاطمة لامها ، وكان هند هذا فصيحاً ، بليغاً ، وصّافاً ، وكان يقول : أنا أكرم الناس أبّاً ـ وأماً وأخاً واختاً ـ أبي رسول الله ( صلى الله وعليه آله و سلم ) (1) .
  وأخي القاسم ، وأختي فاطمة ، وأمي خديجة . رضي الله عنهم جميعاً .
  وقتل هنداً هذا مع علي رضي الله عنه يوم الجمل (2) .

************************************************************************************************************
(1) إشارة إلى أن الرسول الكريم بمثابة أبيه ، فهو عمه زوج امه خديجة ( عليه السلام )
(2) السيرة النبوية لابن هشام ـ ج ـ 1 ص ـ 198 .
المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 129 ـ
نبذة من حياة السيدة خديجة مع الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم )
  لنلقي نظرة سريعة على حياة السيدة خديجة رضي الله عنها ، بعد زواجها من الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم نرى ما لاقته من ظلم قريش وقطعيتها ، لأنها وقفت من محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلك الوقفة الجبارة التي سجلها التاريخ على صفحاته .
  لقد كانت رضوان الله عليها أكبر مساعد للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأعظم عون على نشر دعوته ، حتى قال عليه وآله الصلاة والسلام : ( قام الدين بسيف علي ومال خديجة ) لأنها صرفت مالها الكثير في سبيل نصرة الإسلام .
  لقد كانت خديجة رضي الله عنها ، في العز والجاه والثروة ، وهي سيدة قريش ـ كما أسلفنا ـ ولكن بعد زواجها من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، انفضوا من حولها ، ورجعوا باللائمة عليها وأخيراً تنكر لها الجميع كأنها أتت شيئاً نكراً .
  ولما بُعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقه فيما جاء به عن ربه ، وآزره على أمره ، فكان عليه وآله الصلاة والسلام ، لا يسمع من المشركين شيئاً يكرهه ـ من ردٍ عليه أو تكذيب له أو استهزاء به ـ إلا فرج الله عنه بخديجة ، التي كانت تثبته على دعوته ، وتخفف عنه وتهون عليه ما يلقى من قومه من المعارضة والأذى (1) .

*************************************
(1) طبقات إبن سعد الكبرى .
المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 130 ـ
نزول الوحي ـ ومبعث الرسول :
  استقرت الحياة هادئة ناعمة ، فقد لاقى محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بيت الزوجية العطف والحنان ، الذي افتقده منذ طفولته ، وهذه خديجة الزوجة الوفية ، قد أضفت على البيت الراحة والاستقرار والأمان ، وولدت البنات والصبيان .
  نعمت أسرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، سنوات بحياة هادئة ، وادعة ، بالألفة والمودة ، يرشف الزوجان على مهل ، رحيق ودٍ عميق ، وحلاوة سعادة صافية .
  لقد كان في الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ميل إلى التفكير والاستغراق ، ونزوع إلى الخلاء والتأمل منذ صباه ، فكان يذهب إلى غار حراء ،
  (1) يقضي فيه الساعات ، بل يتعداها إلى الليالي يمارس هناك ، بعيداً عن الناس ما طاب له من التعبد والتهجد وما يسمونه الآن في العصر الحاضر : ( الرياضة الروحية ) .
  وهنا تتجلى شخصية السيدة خديجة ، وما كان لها من تأثير بالغ على حياة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فنراها في وقارها ، وجلال سنها ونضوجها ، لا تتأفف أو تضيق بهذه الخلوات ، التي كانت تبعد عنها زوجها الحبيب ، وعن

**************************************************************************************************************************************
(1) غار حراء ، هو كهف في جبل حراء بجوار مكة المكرمة ـ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعبد فيه .
المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 131 ـ
  أولادها ، وبيتها ، وما خطر لها أن تعاتبه ، أو تتذمر من هجره لها الليالي الطوال ، و ما حاولت رضي الله عنها ، أن تعكر عليه صفاءه كما نعهد ، من فضول النساء ، التي تستأثر بالرجل وتغار عليه .
  ولكن السيدة خديجة رضوان الله عليها ، كانت على عكس ذلك ، فقد حاولت ما وسعها الجهد ، أن توفر له الهدوء والاستقرار ، وأحاطته بالرعاية التامة ، مدة إقامته في البيت ، وعندما يذهب إلى غار حراء ، كانت ترسل من يحرسه ويرعاه ولا يعكر عليه صفو خلوته .
  وهناك في غار حراء ، ( بعث الله رسوله وأكرمه بما اختصه به من نبوته ، بعد أن استكمل أربعين سنة وذلك بعد بنيان الكعبة بخمس سنين ) . (1)   وكان مبعثه صلى الله عليه وآله وسلم ، في شهر ربيع الأول ـ وقيل في السابع والعشرين من شهر رجب ، وقيل في رمضان ـ وأشار لذلك قول الشاعر :
وأتـت عليه أربعون فأشرقت      شمس النبوة منه في رمضان

  ( وكان جبريل يظهر له ، فيكلمه ، وربما ناداه من السماء ، ومن الشجرة ، ومن الجبل ، فيذعر من ذلك الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (2)
  عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل (3) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لخديجة : إني إذا خلوت وحدي ، سمعت نداءً ، فقالت : ما يفعل بك الله إلا خيراً ، فوالله

********************************************************
(1) مروج الذهب ـ للمسعودي .
(2) تاريخ اليعقوبي .
(3) مجمع البيان في تفسير القرآن ـ للطبرسي .
المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 132 ـ
  إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، قالت خديجة : فانطلقنا إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ، وهو ابن عم خديجة فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما رأى فقال له ورقة أذا أتاك فاثبت له حتى تسمع ما يقول ، ثم ائتني فأخبرني ، فلما خلا ناداه يا محمد ، قل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حتى بلغ ولا الضالين قل لا إله إلا الله ، فأتى ورقة فذكر له ذلك ، فقال له : أبشر ثم أبشر ، فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى وأنك نبي مرسل ، وأنك سوف تؤمر بالجهاد ، بعد يومك هذا ، ولئن أدركني ذلك لأجاهدَّن معك ، فلما توفي ورقة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقد رأيت القس في الجنة ، عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدقني ـ يعني ورقة ـ وروي أن ورقة قال في ذلك :
فـإن يـك حقاً يا خديجة فاعلمي      حـديثك إيـانا فـأحمد iiمـرسل
وجـبريل  يـأتيه وميكال iiمعهما      من الله وحي يشرح الصدر iiمنزل
يـفوز  بـه مـن فاز عزاً iiلدينه      ويشقى به الغاوي الشقي المضلل
فـريقان مـنه فـرقة في iiجنانه      واخـرى  بـأغلال الجحيم تغلغل

  عن عائشة أم المؤمنين انها قالت : (1) أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي ، الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح .
  ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه ، وهو التعبد ، الليالي ذوات العدد ، قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى

********************************************************
(1) الميزان في تفسير القرآن ـ للطباطبائي .
المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 133 ـ
  خديجة ، فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق ، وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ ، قال ما أنا بقارئ . قال فأخذني فغطني (1) حتي بلغ مني الجهد، ثم أرسلني.
  فقال : اقرأ، فقلت ما أنا بقاريء ، قال : فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) (2) .
  فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : زملوني ـ زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الرعب فقال لخديجة : وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة : كلا ما يخزيك الله ابداً ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق !
  وفي سيرة ابن هشام عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : فخرجت حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل ، قال : فوقفت أنظر اليه ، ما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء ، قال فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك ، فما زلت واقفاً ما أتقدم

************************************************************************************************************
(1) وفي سيرة ابن هشام (فغتني) والفت ـ حبس النفس ـ وفي السيرة الحلبية يقول : فغتني حتى حسبت أنه الموت ، إشارة أن ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يحصل له شدائد ثلاث ثم يحصل له الفرح بعد ذلك ، فكانت الاولى ادخال قريش له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الشعب مع أهله ـ والتضييق عليه ـ والثانية اتفاقهم على قتله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والثالثة ـ خروجه من أحب البلاد اليه ، مسقط رأسه مكة ـ المكرمة ـ وبعده عن الكعبة المقدسة .
(2) سورة العلق ـ آية ـ 1 ـ 2 ـ 3 ـ 4 ـ .
المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 134 ـ
  أمامي ، ولا أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، فبلغوا أعلى مكة ، ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرف عني .
  وانصرفت راجعاً إلى أهلي ، حتى أتيت خديجة ، فجلست إليها مضيفاً ، (1) فقالت يا أبا القاسم : أين كنت ! فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ، ورجعوا إلي فحدثتها بالذي رأيت ، فقالت أبشر ، واثبت فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة (2) .
  وآمنت خديجة ، وصدقت بما جاءه من الله عز وجل ، وآزرته على أمره فكانت أول من آمن بالله ورسوله .
  أجل لقد كانت ساعده الأقوى ، مشجعة إياه على القيام بأعباء النبوة العظيمة ، فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان لا يسمع شيئاً يكرهه من المشركين ، من ردٍ عليه وتكذيب له ، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها ، إذا رجع إليها وجدها العطوف الحنون .

********************************************************************************************************************************************************
(1) مضيفاً معناه ملتصقاً : يقال اضفت الى الرجل ، اذا ملت نحوه ولصقت به ـ ومنه سمي الضيف ضيفاً .
(2) طبقات ابن سعد الكبرى ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير والسيرة النبوية لابن هشام ـ أعلام النساء ـ عمر رضا كحالة .
المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 135 ـ
صلاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخديجة وعلي ( عليه السلام )
  إن الصلاة حين افترضت على الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أتاه جبريل وهو بأعلى مكة ، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي ، فانفجرت منه عين ، فتوضأ جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر اليه ليريه كيف الطهور للصلاة ، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما رأى جبريل توضأ ، ثم قام به جبريل فصلى به وصلى رسول الله بصلاته ، ثم انصرف جبريل عليه السلام فجاء رسول الله خديجة فتوضأ لها ليريها كيف الطهور ، كما أراه جبريل ، فتوضأت كما توضأ لها رسول الله عليه الصلاة والسلام ، ثم صلى بها الرسول كما صلى به جبريل فصلت بصلاته .
  ومكث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخديجة ، وعلي بن ابي طالب ( عليه السلام ) يقيمون الصلاة سراً ما شاء الله ، ثم أخذوا بالذهاب الى الكعبة غير مبالين باستهزاء قريش وسخريتهم ، والأذى الذي كانوا يلاقونه .
وأقـام  الـرسول أول iiفرض      فـاقتدت فـيه أحسن iiالاقتداء
وهـي كـانت لـكل ما يتجلى      من  رسول الهدى من iiالرقباء
فـترى  بـالعيان مـا لا iiتراه      من عظيم الآيات مقلة راء  (1)

  وفي رواية عن عفيف الكندي ، قال (2) :

********************************************************************************************
(1) ملحمة أهل البيت للشيخ عبد المنعم الفرطوسي .
(2) السيرة الحلبية ج ـ 1 ـ ص ـ 296 واعلام النساء عمر رضا كحاله .
المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 136 ـ
  ( جئت في الجاهلية الى مكة ، وأنا أريد ان ابتاع لأهلي من ثيابها وعطرها ، فنزلت على العباس بن عبد المطلب .
  قال : فأنا عنده ، وأنا أنظر الى الكعبة وقد حلّقت الشمس فارتفعت إذ أقبل شاب حتى دنا من الكعبة ، فرفع رأسه الى السماء ، فنظر ملياً ، ثم استقبل الكعبة قائماً مستقبلها وما هي إلا ان جاء غلام حتى قام عن يمينه ثم لم يلبث إلا يسيراً ، حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما . ثم ركع الشاب فركع الغلام ، وركعت المرأة ، ثم رفع الشاب رأسه ، ورفع الغلام رأسه ، ورفعت المرأة رأسها ثم خرَّ الشاب ساجداً ، وخر الغلام ساجداً ، وخرت المرأة ساجدة .
  قال : فقلت : يا عباس اني أرى امرأ عظيماً فقال العباس أمر عظيم !! هل تدري من هذا الشاب ؟ قلت : لا ما أدري قال : هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن اخي ... هل تدري من هذه ؟ قلت : لا أدري ، قال : هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن اخي هذا ، ان ابن أخي هذا الذي ترى حدثنا أن ربه رب السموات والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه والله ما علمت على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة ) انتهى .
وإذا  حـلَّت الـهداية iiقلباً      نشطت في العبادة الأعضاء
  لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم . جعل يدعو الناس سراً ، واتبعه ناس جلهم من الضعفاء ، من الرجال والنساء والى هذا المعنى يشير الحديث الشريف بقوله : ( ان هذا الدين بدأ غريباً ـ وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) .
  ولا يخفى ان أهل التاريخ وعلماء السير قد اجمعوا على أن أول الناس إيماناً

المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 137 ـ
  بالنبي عليه الصلاة والسلام خديجة رضي الله عنها ـ ثم علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) .
  ففي المرفوع عن سلمان ان النبي قال : أول هذه الأمة وروداً على الحوض أولها إسلاماً علي بن ابي طالب ، ولما زوجه فاطمة قال لها : زوجتك سيداً في الدنيا والآخرة ، وانه لاول اصحابي إسلاماً ... وأكثرهم علماً ... وأعظمهم حلماً (1) .
  لقد كانت خديجة ( عليها السلام ) مثال الإخلاص والوفاء ، فلم تبال عندما تنكرت لها قريش ، ولم تكترث لجفاء نساء مكة لها ، وهي السيدة الجليلة ذات المقام الرفيع كما قيل :
وجـفتها نـساء مـكة iiلـما      زوجـت  فيه في أشد iiالجفاء
وهي لا تنثني عن الحق صبرا      ودفـاعاً عـن خـاتم الأنبياء

  وقفت خديجة بجانب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، تؤازره وتواسيه ، تتحمل المشاق ، وتستسيغ الهوان في سبيل الإسلام ، صابرة على شظف العيش وعلى الحصار والحرمان .

*************************************************
(1) ينابيع المودة ـ القندوزي الحنفي .
المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 138 ـ
حصار قريش للمسلمين
  لما رأت قريش الاسلام يتسع ويزيد ، واموال خديجة بين يدي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتصرف بها كيف يشاء في سبيل الاسلام ويشتري الارقاء من الذين اسلموا ، ووقعوا تحت التعذيب في ايدي قريش ويحررهم ، وهم المستضعفون .
  اجتمع كفار قريش على قتل محمد وقالوا : قد أفسد علينا ابناءنا ونساءنا الذين اتبعوه ، وقالوا لقومه خذوا منّا دية مضاعفة ويقتله رجل من قريش وتريحون انفسكم ، فأبى قومه ، فعند ذلك اجتمع رأيهم على منابذة بني هاشم والتضييق عليهم بمنعهم حضور الاسواق فلا يبيعوهم ـ ولا يبتاعوا منهم شيئاً ، ولا يقبلوا لهم صلحاً ، ولا تأخذهم بهم رأفة ، حتى يسلموا محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ للقتل ـ وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها بالكعبة .
  فدخل بنو هاشم وبنو المطلب في الشعب إلا ابو لهب فانه ضاهر عليهم قريشاً (1) .

**************************************************************************************************************
(1) ان ابا لهب ضاهر قريشاً على المسلمين ، روى انه لقى هنداً بنت عتبة بن ربيعة فقال لها : يا بنت عتبة هل نصرت اللات العزى ؟ وفارقت من فارقها ، وضاهر عليهما ؟ قالت نعم : فجزاك الله خيراً يا ابا عتبة .
  وفي رواية ... كان يقول : يعدني محمد اشياء لا اراها ، يزعم انها كائنة بعد الموت ، فما وضع في يدي بعد ذلك ، ثم ينفخ في يديه ويقول : تبا لكما ـ ما ارى فيكما شيئاً مما يقول محمد ، فانزل الله تعالى فيه ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ... ) الآية ، ودخل بنو هاشم وبنو المطلب ليلة هلال المحرم سنة سبع من حين بعثة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكانت مدة اقامته بالشعب ثلاث سنوات ، والله العالم .
المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 139 ـ
  وكان كاتب الصحيفة ، منصور بن عكرمة ، فدعى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشلت أصابعه ، وكانت الصحيفة عند أم الجلاس الحنظلية خالة أبي جهل .
  وروي ان بني هاشم ـ وبني المطلب لاقوا شتى المصاعب وهم محاصرون في الشعب ، فقد جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط ( ورق الشجر ) وكانوا إذا قدمت العير مكة ، يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئاً من الطعام يقتاته ، فيقوم أبو لهب فيقول :
  يا معشر التجار غالوا محمداً ... وأصحاب محمد ... حتى لا يدركوا شيئاً معكم ، فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي . فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً حتى يرجع المسلم إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع ، وليس في يده شيء يعللهم به .
  وبقي المسلمون في شعب أبي طالب ثلاث سنوات متتالية حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعاً وعرياً .
  وان ثباتهم على هذه الشدة جعل لهم المقام الرفيع في الآخرة وملكهم الأرض في الدنيا ، فكانوا ساداتها . وكما قيل :
وجزاهم  في جنة الخلد فيما      صبروا وهي منه خير جزاء

المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 140 ـ
قصة حكيم بن حزام مع ابي جهل
  ذكر المؤرخون ان أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد ومعه غلام يحمل قمحاً يريد به عمته خديجة بنت خويلد ، وهي عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محاصرة معه في شعب أبي طالب تعاني مع المسلمين الجوع ... والحرمان ... والحبس ... والاضطهاد فتعلق به أبو جهل وقال : اتذهب بالطعام إلى بني هاشم ؟
  والله لا تبرح أنت وطعامك حتى افضحك بمكة ...
  فجاءه أبو البختري بن هاشم بن الحارث بن أسد فقال : مالك ... وله ؟ فقال : يحمل الطعام إلى بني هاشم !
  فقال له أبو البختري : طعام كان لعمته عنده ، بعثت إليه فيه افتمنعه أن يأتيها بطعامها ؟ خل سبيل الرجل ، فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه ... فأخذ له أبو بختري لحي بعير فضربه به فشجه ، ووطئه وطئاً شديداً ، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك ، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأصحابه ، فيشمتون بهم ...
  ورسول الله على ذلك يدعو قومه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً ... مبادياً بأمر الله لا يتقي فيه أحداً من الناس .

المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 141 ـ
ثـم قام النبي يدعو إلى iiالله      وفـي الـكفر شـدة iiواباء
امما شربت في قلوبهم الكفر      فـداء  الـضلال فيهم عياء

شخصية أم المؤمنين خديجة :
  ستظل خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها رمزاً حياً في سجل المرأة المسلمة الصالحة ، وستبقى على مر العصور القدوة الحسنة التي يجب على كل امرأة أن تتبع خطاها .
  لقد وقفت السيدة خديجة ( عليها السلام ) حياتها للعطاء الكامل ، الذي وهبته للرسول الكريم ، بكل ايمان ، وخطت بعقيدتها الثابتة طريق الصواب ، لبنات جنسها ، في وقت كانت البشرية لا تعي حقيقة وجود المرأة ، وقبل أن يتفتح العقل الإنساني ، ويتفهم معنى السعادة الحقيقة .
  صحيح ان هناك أناساً يقيسون السعادة واللذة بمقدار ما يغرقون بها من متع جنسية ... أو بقدر ما يلتهمون من أطعمة شهية ... أو بضخامة ما يمتلكون من ثروة مالية .. الخ ... غير ان الواقع لا يؤيد ذلك أبداً ...
  ان اللذة والسعادة لا تعني المتعة الحسية المادية فقط ، بل هي الشعور الذاتي بالرضا ... والإسترضاء وهي كل ما يدخل الاطمئنان إلى قلب الإنسان .
  ومما لا ريب فيه أن السعادة الحقيقة يفوز بلذتها كل من يتمسك بايمانه وعقيدته ومبادئ الأخلاق الفاضلة .
  ان السعادة لمن يفضل الإخلاص على الخيانة ... وهي لمن يؤثر الضنك
المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 142 ـ
والدخل المحدود ، على الكسب الحرام والربا والاحتكار ، وهي لمن يجد اللذة في تحمل المشاق والمتاعب للمحافظة على دينه وعرضه وشرفه .
  وهذه سيدتنا خديجة أم المؤمنين (رض) لقد اكتنفت السعادة حياتها على رغم المصاعب والعقبات التي لاقتها . فكانت تذللها بقلب مطمئن بالايمان ، حتى سجلها التاريخ باحرف من نور ، بعد أن لامس الإسلام قلبها وهداها الباري إلى طريق السعادة الأبدية .

وفاة خديجة أم المؤمنين ( عليها السلام ) :
  دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة ، وهي تجود بنفسها ، فوقف ينظر اليها ، والألم يعصر قلبه الشريف ثم قال لها : ـ بالكره مني ما أرى ـ .
  ولما توفيت خديجة ( عليها السلام ) جعلت فاطمة ابنتها تتعلق بابيها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي تبكي وتقول : أين امي ... ؟ أين امي ... ؟ فنزل جبريل فقال للرسول صلى الله عليه وآله وسلم : قل لفاطمة ان الله بنى لامك بيتاً في الجنة من قصب لا نصب فيه ولا صخب .
  وبعد خروج بني هاشم من الشعب بثمانية أعوام ، ماتت خديجة ( عليها السلام ) وكانت وفاتها ووفاة أبو طالب في عام واحد فحزن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليهما حزناً عظيماً .
  وقد سمى النبي ذلك العام ـ عام الأحزان ـ وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين .

المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 143 ـ
  عظمت المصيبة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفقد عمه الكفيل أبي طالب ( عليها السلام ) وزوجته الوفية المخلصة المساعدة ، وقال عليه الصلاة السلام ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب .
  ودفنت خديجة رضوان الله عليها بالحجون ، ونزل صلى الله عليه وآله وسلم في حفرتها ، وكان لها من العمر خمس وستون سنة .
  لزم الرسول صلوات الله عليه بيته حزناً عليها ، وكانت مدة إقامتها معه خمساً وعشرين سنة قضتها في كفاح وجهاد مستمر .
  وفي ختام المطاف لا باس من ذكر قول الرسول الأعظم في حقها ، دلالة على عظمتها : قال عليه الصلاة والسلام :
  ( كمل من الرجال كثير ـ وكمل من النساء أربع ـ آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم ) .

المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 144 ـ
عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم
  هبت قريش عندما صرح النبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالرسالة ، وراح فراعنتها يتفننون في تعذيب الذين اسلموا وآمنوا ، باشد أنواع العذاب .
  لقد تجاوز طغاة قريش الحدود في الظلم والاستبداد خصوصاً على المستضعفين الذين سبقوا إلى الإسلام ، ولا عشائر لهم تمنعهم ، ولا قوة ترد عنهم ظلم المعتدين من رؤساء قريش المشركين .
  وثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين الضعفاء ، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر .
  كانوا يخرجونهم إذا حميت الظهيرة ، ويطرحونهم على الرمال ، ويأتون بالصخر يضعونه على صدورهم ، ويعذبونهم باشد العذاب ، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ومنهم من يزداد تصلباً وإيماناً بالإسلام ونبيه .
  كانت المرأة في طليعة المؤمنين الصادقين ، ومن السابقين للإسلام الذين قال الله سبحانه وتعالى في حقهم : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي

المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 145 ـ
تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1) .
  و قد كانت المرأة في طليعة المؤمنين ومن الذين استعذبوا العذاب في سبيل العقيدة الإسلامية ولنا في قصة سمية أم عمار بن ياسر أكبر دليل على ما نقول .

سمية أم عمار بن ياسر :
  هي بنت خباط ، كانت امة لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي وكان ياسر حليفاً لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي ، فزوجه سمية ، فولدت له عماراً فاعتقه .
  هذه المرأة التي سجلها التاريخ ، وسجل لها جهادها وشجاعتها وثباتها على عقيدتها ، لقد صبرت سمية على العذاب والهوان ، وظلت متمسكة بعقيدتها وإيمانها حتى أصبحت في مصاف المجاهدين الذين قال الله تعالى فيهم : ( الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ ) (2) .
  وذكر ابن هشام في سيرته : كانت سمية سابع سبعة في الإسلام ، وكانت ممن يعذب في الله عز وجل أشد العذاب ، وهي أول شهيدة في الإسلام ، قال مجاهد :

******************************************************************************************************************
(1) سورة التوبة ـ آية ـ 100 ـ وقد ذكر صاحب مجمع البيان في تفسير القرآن ما نصه : وفي هذه الآية ، دلالة على فضل السابقين ومزيتهم على غيرهم لما لحقهم من أنواع المشقة في نصرة الدين ، فمنهما مفارقة العشائر والأقربين ـ ومنها مباينة المالوف من الدين ـ ومنها نصرة الإسلام مع قلة العدد وكثرة العدو ـ ومنها السبق الى الإيمان والدعاء اليه .
(2) سورة الحج ـ آية : 35
المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 146 ـ
  أول من أظهر الإسلام بمكة ـ ما عدا بني هاشم ـ سبعة أشخاص ، أبو بكر ـ وبلال ـ وخباب ـ وصهيب ـ وياسر ـ وعمار وسمية .
  فأما أبو بكر منعه قومه وعشيرته ، وأما الآخرون فألبسوا أدراع الحديد ، ثم صهروا في الشمس .
  وفي رواية ابن عبد البر : أن عماراً جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله بلغ منّا ـ أو بلغ منها العذاب ( أي سمية ) كل مبلغ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
  صبراً أبا اليقظان ، الَّلهم لا تعذب أحداً من آل ياسر بالنار ...
  ثم مرَّ أبو جهل يوماً بسمية وهي في العذاب ، فأغلظت له القول ، فطعنها بحربة في قلبها فماتت . وذلك قبل الهجرة .
  وروي أنه لما قتل أبو جهل يوم بدر قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لعمار : ( قتل الله قاتل أمك ) .
  كانت سمية أم عمار رضي الله عنها ذات إيمان قوي بالله ، أسلمت وحسن إسلامها ، فكانت من السابقين الذين موعدهم الجنة .
  تحملت العذاب وصبرت على الأذى صبر الكريم ، فلم تصبأ ، او تهن عزيمتها ، او يضعف إيمانها الذي رفعها الى مستوى الأبطال الخالدين .
  وهناك سيدة أخرى هي ( زنيرة ) التي أصيب بصرها وهي في العذاب ، فقالت قريش : ما أذهب بصرها إلا اللات ... والعزى . فقالت : كذبوا وبيت الله ، ما تضر اللات ... والعزى وما تنفعان ، ولكن هذا أمر من السماء ، وربي قادر على رد بصري ... فأصبحت من الغد وقد ردَّ الله تعالى بصرها .

المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 147 ـ
  ونحن عندما نذكر بعض اللواتي تحملن الأذى من سادات قريش وجبابرتها ، وصبرن على العذاب لا ننسى النهدية ... وابنتها ، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار ، فكانت تعذبهما وتقول : والله لا أدعكما إلا أن تكفرا بمحمد .
  وام عبيس : وهي أمة لبني زهرة ، فكان الأسود ابن عبد يغوث يعذبها (1) وغيرهن كثيرات ، مما يضيق المجال عن الإحاطة بهن .

موقف المرأة المسلمة في بدء الدعوة :
  الواقع أن الانقلاب الذي أحدثه محمد صلى عليه وآله وسلم بإبلاغ التعاليم السماوية والنظم الإسلامية لبني البشر ، والانتقال فجأة من طور ... إلى طور ... كان شبه المستحيل .
  ورغم أن التقاليد التي صاغتها العصور والعادات التي فرضتها الأجيال ، والتي يتوارثها الأبناء عن الآباء ، لا يمكن أن تزول دفعة واحدة ، ولا تندثر أو تتبدل إلا بمدة طويلة من الزمن .
  لكن التعاليم الإسلامية الجديدة ، قلبت نظام المجتمع العربي ، وأسرعت إلى قلوب المسلمين ، واحتلت الصدارة في نفوس المؤمنين ، فإذا بأولئك الرجال الذين كانوا بالأمس القريب ، يعتبرون المرأة مخلوقاً وضيعاً لا تصلح إلا للخدمة أو للمتعة ، نجدهم ينقلبون فجأة وبسرعة مدهشة ، إلى اعتبار النساء وإكرامهن حسب التعاليم النبوية وتوجيه الرسول الكريم .

******************************************************************************************************************
(1) سيرة ابن هشام ج ـ 1 ـ ص 340 ـ والكامل في التاريخ لابن الاثير ج ـ 2 ص 46 .
المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 148 ـ
  وكذلك نجدهم يعاملوهن بالمودة والرحمة أسوة بالنبي العظيم الذي كان يعامل المملوكة الرقيقة المؤمنة ، معاملة الحرة الرفيقة الكريمة .
  ونتج عن هذا التبدل ـ التطور ـ ان المرأة شعرت بمنزلتها ، وحفظ كرامتها فقمن النسوة بواجباتهن منتعشات الأرواح نشيطات الأجسام .
  والفين في امتثال الرجال لأوامر الدين ونواهيه طريقاً واسعاً للانطلاق من مجال القول الى مجال العمل .
  نرى بذور الخير ، وقفزات واسعة ، ونشاطاً ظاهراً للمرأة المسلمة ، التي وقفت جنباً إلى جنب تشارك الرجل في جميع المراحل ... والميادين .
  فقد ابتليت بما ابتلى به المسلمون من التعذيب والاضطهاد والأذى من قريش وطواغيتها .
  أجل لقد جاهدت وضحت بكل غالٍ ورخيص في سبيل عقيدتها ثابتة على إيمانها .
  هاجرت إلى الحبشة فراراً بدينها مع من هاجر من المسلمين .
  نعم هاجرت المرأة الهجرتين . وصلت إلى القبلتين ، وثبتت على إيمانها حين دعا داعي الحق .

المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 149 ـ
  إشارة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على اصحابه بالهجرة :
  لما كثر المسلمون وظهر الإيمان ، ثار ناس كثيرون من كفار قريش على من آمن من قبائلهم ، فعذبوهم وسجنوهم وأرادوا فتنتهم عن دينهم ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تفرقوا في الأرض .
  قالوا : أين نذهب يا رسول الله ؟
  قال : ها هنا وأشار إلى أرض الحبشة ، وكانت أحب الارض إليه ، فهاجر ناس ذوو عدد من المسلمين ، منهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه ، فخرجوا متسللين سراً وكانوا أحد عشر رجلاً وأربع نسوة ، حتى انتهوا الى الشعيبة ، منهم الراكب والماشي .
  ووفق الله للمسلمين ساعة جاؤوا سفينتين للتجار ، حملوهم الى ارض الحبشة بنصف دينار . وكان مخرجهم في رجب من السنة الخامسة للنبوة .
  وخرجت قريش في آثارهم ، حتى جاؤوا البحر حيث ركب المسلمون فلم يدركوا منهم أحداً (1) .
  ويقول ابن الأثير في تاريخه : ( وكان عليهم عثمان بن مظعون فهو رئيس المهاجرين في الهجرة الاولى ، ليشرف على شؤونهم ويراقب أعمالهم ، كي لا تتفرق كلمتهم ، ومن هنا نعلم أن المسلمين يجب أن لا يخرجوا عن النظام الإسلامي الذي

******************************************************************************
(1) طبقات ابن سعد الكبرى ـ مجلد ـ 1 ـ 2 ـ صفحة 136 .
المرأة في ظلّ الإسلام    ـ 150 ـ
  وضعه لهم النبي صلى الله عليه وسلم وأن يكون لهم قائد يدير أمورهم ، وإن كانوا قليلين ، وإنَّ ترك المسلمين القيادة وانصراف كل حسب رأيه ، وميله ، وهواه ، لجعلهم كالغنم الشاردة فصاروا طعمة للمستعمرين ) .
  ولو أنهم اتبعوا دينهم العظيم ، وجعلوا لهم من وسطهم غيوراً على مصالحهم يكافح عنهم ، حسب التعاليم الإسلامية ( لا تأخذه في الله لومة لائم ) فيناضل الأعداء ، لتلافي النقصان ، وإصلاح الخلل ...
  عندها تنهض الأمة الى السعادة والشرف .

الهجرة الثانية :
  وبعد نقض الصحيفة ، وتضييق المشركين على المسلمين ... في حديث يطول شرحه لا مجال لذكره ... خرج المسلمون فراراً بدينهم الى أرض الحبشة ، فكانت الهجرة الثانية .
  كان أمير القوم هذه المرة جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه ومعه امرأته أسماء بنت عميس .
  تتابع المسلمون الى أرض الحبشة منهم من هاجر بأهله ، ومنهم من هاجر بنفسه كما ذكرنا في الهجرة الاولى .
  فكان جميع من هاجر من المسلمين ، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغاراً ـ أو ولدوا في ارض الحبشة ـ كانوا ثمانين رجلاً وسبع عشرة امرأة أو ما يزيد والله أعلم .