وهنا تكلمت فاطمة عليها السلام وقالت : ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ان يصنع ... ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم .
تقول الدكتورة بنت الشاطئ : وأخذ الجمع يتذاكرون بلاء علي في نصرة الإسلام ، ومكانه من رسول الله : لقد شهد علي مع الرسول مشاهده كلها :
كان يحمل لواء المهاجرين يوم أحد ، ولواء الرسول يوم غزوة بني قريظة ، وحمراء الاسد ، ويوم حنين .
وحمل يوم خيبر ، اول راية في الإسلام ... وكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قد اتخذها من برد لزوجه ( عائشة ) ام المؤمنين وقال : ( لأدفعنَّ الراية الى رجل يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ويفتح عليه ... ).
فتطاول عمر بن الخطاب لها واستشرف ، رجاء أن يدفعها الرسول اليه ، فلما كان الغد ، دعا الرسول ( علياً ) ودفعها له .
ويوم الفتح كانت الراية مع ( سعد بن عبادة ) فقال الرسول لـ (علي) (ادركه فخذ الراية منه ، فكن انت الذي تدخل بها ) .
وقاد سرايا الرسول الى ( فدك ) في شعبان من السنة السادسة للهجرة . والى ( الفلس : صنم طئ ) في السنة التاسعة .
والى اليمن في السنة العاشرة ... وعاد منه جميعاً مظفراً منصوراً ...
وعلى ( القصواء ) ناقة الرسول المباركة ، خرج ( علي ) الى الحج بعد الفتح بعام ...
ويوم آخى بين المهاجرين والانصار ، اصطفى ( علياً ) اخاً له ...
ويوم خرج الى ( بدر ) غازياً ، ومعه أصحابه ، كل ثلاثة على جمل ، اختار
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 211 ـ
علياً وأبا لبابة زميلين ، وقد عرضا عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يمشيا ليستريح في مركبه ، فأبى وقال :
( ما أنتما أقوى على المشي مني ، وما أنا أغنى عن الأجر منكما ) .
وتذاكر القوم أحاديث الرسول لعلي وفي علي :
( أنت مني بمنزلة هرون من موسى ) .
( أنت مني وأنا منك ) .
( أنت ولي كل مؤمن بعدي ) .
( من كنت مولاه ، فعلي مولاه ) .
( لا يحبه إِلا مؤمن ، ولا يبغضه إِلا منافق ) .
أهناك من هو أحق بالخلافة من ( علي ) ربيب النبي ، وابن عمه أبي طالب ، وزوج ابنته الزهراء وأبي الحسنين ريحانتي الرسول ، وأول الناس إِسلاماً ، وأطولهم في الجهاد باعاً ، وفتى قريش شجاعة ... وعلماً ...؟؟
وأمسكت الزهراء صامتة لا تعقب ، ومضت أيام وهي في عزلة عن الناس ، لا تنشط للنضال عن ميراثها الذي أباه عليها ابو بكر ... وهل أبقى لها الحزن من قوة تسعفها على نضال ...؟
وكانت بحيث تظل منطوية على جراحها وحزنها ، لو لم يدعها الواجب ، أن تؤدي حق زوجها وولديها عليها ، فتسعى في رد الأمر الى أهل بيت الرسول ...
(1) .
*********************************************************************************************************************************************************
(1) نقلت الدكتورة بنت الشاطئ عن طبقات ابن سعد والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن حنبل هذا الحديث .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 212 ـ
كلام الزهراء لنساء المهاجرين والأنصار :
مرضت الزهراء ( عليه السلام ) ، ولم يتحمل جسمها النحيل الكوارث التي المَّت بها بعد وفاة ابيها .
وما أن فشا الخبر بالوعكة التي اصابتها ، حتى سارع حشد من نساء المهاجرين والأنصار لعيادتها ، وتوافدن للاطمئنان عن صحتها .
التفتت عليها السلام وقالت لهن معاتبة ، وذلك عندما قلن لها : كيف اصبحت من علتك يابنت رسول الله ؟
ذكر الاستاذ عمر رضا كحالة كلام الزهراء ( عليها السلام ) لمن اتين لعيادتها من النساء قالت :
(1)
( اصبحت والله عائفة لدنياكم ، قالية لرجالكم ، لفظتهم بعد ان عجمتهم ، وشنأتهم بعد أن سبرتهم ، فقبحاً لفلول الحد ، وخور القنا أو كسره ، وخطل الرأي ، وبئسما قدمت لهم انفسهم أن سخط الله عليهم ، ... إلى أن تقول :
لا جرم لقد قلدتهم ربقتها ، وشنت عليهم عارها ، فجدعاً وعقراً وبعداً للقوم الظالمين .
ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الروح الأمين ... الطبن
(2) بامور الدنيا والدين .
ألا ذلك هو الخسران المبين .
*******************************************************************
(1) اعلام النساء للاستاذ عمر رضا كحالة .
(2) ألطبن : لغة الفطين والطبنة : الفطنة جمع طِبن .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 213 ـ
وما الذي نقموه من أبي الحسن ، نقموا والله منه نكير سيفه ، وشدة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمره في ذات الله .
وبالله لو تكافؤا على زمام نبذه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لسار بهم سيراً سجحاً ، لا يكلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه .
ولأوردهم منهلاً روياً فضفاضاً تطفح ضفتاه ولأصدرهم بطاناً قد تحرى بهم الري غير منحل منهم بطائل بعمله الباهر ، وردعه سورة الساغب ولفتحت عليهم بركات من السماء ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون .
ألا هلممن ... فاسمعن ... وما عشتن أراك الدهر عجباً ... الى أي لجأ لجأوا ! واسندوا ، وبأي عروة تمسكوا ، ولبئس المولى ، ولبئس العشير ... الخ الى أن تقول :
والحمد لله رب العالمين ، وصلاته على خاتم النبيين وسيد المرسلين ) .
إن الزهراء عليها السلام لم تكن تطالب ببقعة من أرض ... أو بأرث مادي وهي الزاهدة العابدة ، المنصرفة عن ملذات الدنيا وطيبات الحياة .
بل كانت تطالب ( بالحق ) وإرجاعه الى أهله الشرعيين ، فقد جعل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الخلافة في علي بن ابي طالب ( زوجها ) .
لقد عرفنا ما كانت عليه الزهراء ( عليها السلام ) من خشونة الحياة وشظف العيش ، وكانت الدنيا في عينيها أحقر من ذبابة طفيلية تنظر اليها باشمئزاز ، ولهذا كانت أكبر من أن تنازع ، أو تخاصم أحداً لأجل الأرث المادي وغيره من متاع الدنيا ، فهي تعلم علم اليقين بأن حياتها قصيرة لا تبقى بعد أبيها إِلا أياماً معدودات ، كما أخبرها النبي بذلك .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 214 ـ
أمضت الزهراء ( عليها السلام ) حياتها القصيرة ، المشحونة بالشجن والآلام ، وشظف العيش ، وخشونة الحياة ، المقرونة بالزهد والتقشف .
فكانت في ظل أب لم يشبع مرة واحدة من طعامه ... ثم انتقلت الى بيت زوج كان أكثر أدامه الملح ... والخل ... والزيت ، والدنيا في عينيه لا تساوي شسع نعل .
ومما لا شك فيه ، ولا يتمكن المؤرخون من إنكاره ، وإن وضع بعضهم غشاوة على بعض النواحي لكن لا بد من القول ( الواقع يفرض نفسه ) .
فقد أثبت جميع المؤرخين ، وأهل السير ، أن الزهراء سلام الله عليها لم تكن تهمها ( فدكا ) ولا غيرها مما تركه والدها الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ...
بل المقصود من تصرفاتها ، ومطالبتها ( إثبات الخلافة لأصحابها الشرعيين ) وإحقاق الحق ، والحفاظ على الإسلام .
فالزهراء وزوجها عليّ بن أبي طالب ( عليها السلام ) كانت الدنيا في حسابهما أوهي من بيت العنكبوت ، وأهون من عفصة قعرة ( أي مرة ) .
ولنسمع علياً يقول عندما كانت خيرات الدولة الإسلامية على سعتها ، تحت تصرفه ... لا بل تحت قدميه : ( فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً ولا اذخرت من غنائمها وفراً ، وما أعددت لبالي ثوبي طمراً ولا حزت من ارضها شبراً ... الخ .
خطبة الزهراء ( عليها السلام ) في المسجد النبوي الشريف :
إن الزهراء ( عليها السلام ) كانت من طينة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أحاطها الله سبحانه بهالة من
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 215 ـ
الجلال ... والمهابة ... وعصمها من شطط القول والفعل ... وجموح الخيال .
نراها في محنتها ، ومصابها بموت أبيها ، والضوضاء والفوضى التي أعقبت الوفاة ، تستنكر ما حدث من المفاجآت ، والنبي لا يزال جثة هامدة مسجى في بيته لم يوارى الثرى .
فسيدة النساءالعاقلة الحكيمة ، التي هي باعتراف الجميع ذات العلم والعقل والفصاحة والبلاغة ، لم يوجد مثلها في النساء .
قالت السيدة عائشة : ( ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من فاطمة ، وقالت أيضاً ما رأيت قط أحداً أفضل من فاطمة غير ابيها )
(1) .
لقد كانت الزهراء ( عليها السلام ) حريصة على تضامن المسلمين ، وإعلاء كلمة الدين ، لهذا نراها ( عليها السلام ) تقف ذلك الموقف المتصلب ، وتبين للناس حق علي بالخلافة ، وتزيل الغشاوة عن اعين بعض المسلمين السابحين في لجج الضوضاء .
انها ترى خلافة علي التي نص عليها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هي امتداداً لرسالة أبيها المقدسة وتقول بعض الروايات أن انتزاع ( فدك ... والعوالي ) وسهم ذوي القربى من يد الزهراء ، وحرمانها من ميراث أبيها لم يكن داخلاً في حساب القوم لولا موقفها الحازم المتشدد من الخلافة .
اولاً : انما حرموها فدكا وغيرها ، حتى لا توفر على عليّ قسطاً من المال يعينه على المضي في موقفه المناوئ لهم .
ثانياً : إذا اعترف القوم للزهراء بالأرث وسلموا أمره لها ، يؤدي بهم الى
*****************************************************
(1) اعلام النساء للاستاذ عمر رضا كحالة .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 216 ـ
الاعتراف بأمر الخلافة لزوجها ( علي بن أبي طالب ) صاحب الحق الشرعي علاوة على حجتها البالغة عليهم .
جاء في بلاغات النساء لابن طيفور قال : لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليها ( فدك )و بلغ ذلك فاطمة ( عليها السلام ) لاثت خمارها على رأسها ، وأقبلت في لمة من حفدتها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم من مشية ابيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شيئاً ، حتى دخلت على ابي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار ، فنيطت دونها ملاءة ، ثم أنَّت أنة ، أجهش القوم لها بالبكاء ، وارتج المجلس فأمهلت حتى سكن نشيج القوم ، وهدأت فورتهم ، فافتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه ، والصلاة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فعاد القوم في بكائهم ، فلما أمسكوا عادت في كلامها ، فقالت :
لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ما عنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم . فإن تعرفوه تجدوه ابي دون آبائكم ، وأخا ابن عمي دون رجالكم ، فبلغ النذارة صادعاً بالرسالة ، مائلاً على مدرجة المشركين ضارباً لثبجهم ، آخذاً بكظمهم ، يهشم الأصنام ، وينكث الهام ، حتى هزم الجمع ، وولوا الدبر ، وتفرى الليل عن صبحه ، وأسفر الحق عن محضه ، ونطق زعيم الدين وخرست شقاشق الشياطين .
وكنتم عل حفرة من النار ، مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرق ، وتقاتون الورق ، أذلة خاشعين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله برسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد اللتيا والتي ، وبعدما مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ـ ومردة أهل الكتاب .
كلما حشوا ناراً للحرب أطفأها ، ونجم قرن للضلال وفغرت فاغرة من المشركين قذف بأخيه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخصمه ، ويخمد
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 217 ـ
لهبها بحده ، مكدوداً في ذات الله ، قريباً من رسول الله ، سيداً في أولياء الله ، وأنتم في بلهنية وادعون ... آمنون .
حتى اختار الله لنبيه دار انبيائه ، وظهرت خلة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الآفلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مفرزه صارخاً بكم ، فوجدكم لدعائه مستجيبين ، وللغرة فيه ملاحظين فاستنهضكم فوجدكم خفافاً ، وأجمشكم فألفاكم غضاباً ، فوسمتم غير ابلكم ، وأوردتموها غير شربكم .
هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل بدار زعمتم خوف الفتنة ، ألا في الفتنة سقطوا ...
فهيهات منكم ، وأنى بكم ، وأنى تؤفكون ، وهذا كتاب الله بين اظهركم ، وزواجره بينة ، وشواهده لائحة وأوامره واضحة .
أرغبة عنه تدبرون ، أم بغيره تحكمون ، بئس للظالمين بدلاً ، ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين .
ثم لم تتريثوا إلا ريث ان تسكن نفرتها ، تشربون حسواً ، وتسرون في إرتقاء ، ونصبر منكم على مثل حز المدى .
وأنتم الآن تزعمون أن لا أرث لنا ، أفحكم الجاهلية تبغون !؟ ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون .
ويا معشر المهاجرين ، أأبتز إرث ابي ، أفي الكتاب أن ترث أباك ؟ ولا أرث ابي ؟ لقد جئت شيئاً فرياً .
فدونها مخطومة مرحولة ، تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 218 ـ
محمد ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولكل نبأ مستقر ، وسوف تعلمون ، ثم انحرفت إلى قبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي تقول :
قـد كـان بعدك أنباء iiوهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر iiالخطب إنـا فقدناك فقد الأرض iiوابلها واختل قومك فاشهدهم ولا تغب |
قال : فما رأينا يوماً أكثر باكياً ، ولا باكية منا ذلك اليوم )
(1) .
إن خطبة الزهراء عليها السلام ، وما تحتويه من جميل المعاني ، وعظيم الحكم ، وما تتضمنه من حسن البيان وبلاغة الكلام ، جديرة بأن تستجيب لها القلوب ، وتتفهمها الأفئدة قبل الألسن .
فلا غرابة في هذا ، فهي صادرة عن سيدة النساء ، ابنة سيد البشر ، وزوجة سيد البلغاء بعد محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وهنا نقف نتساءل ... لماذا وقف القوم من الزهراء وزوجها هذا الموقف !؟ مع علمهم بأنها بضعة الرسول ، يغضبه ما يغضبها ، ويرضيه ما يرضيها .
واحسب أنهم لو حاولوا معالجة الامور بالتعقل والروية ، لمواجهة موضوع الميراث وغيره لاستطاعوا الوصول إلى نتائج أعمق ، وأبعد من الحالة التي وصلوا اليها ارتجالاً من أقرب الطرق ، وربما اتيح لهم الربط بين أطراف المسلمين ، وَلم أشتات الفوضى العارمة .
ولكن شاء القدر ، وحكمت الأيام ، أن يلتوي تاريخ الإسلام ، في أيديهم ، ويأخذ شكلاً آخر ، ويصطبغ بصبغة ثانية .
لا نلومهم عليها ، وهم غير معصومين ... بشر لا يبرأون ... ونحن ايضاً
***********************************************************************************************
(1) خطبة الزهراء عليها السلام ذكرها ابن طيفور كذلك ذكرها اكثر المؤرخين .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 219 ـ
بشر لا نبرَّأ ... من ضعف وميول ، وهوى ، وإن كنا في الوقت نفسه ، نأسف لما ضاع على المسلمين من جهود وأتعاب ، وفرص لا تعوض ، وما يضيع على العلماء ، من صبر على البحث ، ودأب على الدرس وثبات على التحقيق ، كانت هذه الاتعاب جديرة بأن تؤتي أحسن الثمر ، لو برئ الإنسان من شوائب الضعف البشري ... وهيهات ...
ومما لا شك فيه ، أن حرص الزهراء على مصلحة المسلمين ، واجتماع كلمتهم ، وتفانيها في خدمة الرسالة المقدسة . مما جعلها تذهب الى المهاجرين ، تخاطبهم بمنطقها البليغ ، الذي يشبه منطق الرسول ( وذكر ان نفعت الذكرى ... ) .
ثم تتوجه عليها السلام ، نحو الأنصار ... وتؤنبهم ، وقد اجتمعوا في المسجد الشريف حيث قالت :
يا معشر البقية ، وأعضاد الملة ، وحضنة الإسلام ، ما هذه الفترة عن نصرتي ؟ والونية عن معونتي ، والغمزة في حقي ، والسنة عن ظلامتي ، أما كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول :
( المرء يحفظ في ولده ) سرعان ما أحدثتم ، وعجلان ما أتيتم ، الآن مات رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أمتم ... دينه ... !!
ها ان موته لعمري خطب جليل ، استوسع وهنه ، واستبهم فتقه ، وفقد راتقه ، وبعد وقته ، وأظلمت الأرض له ، وخشعت الجبال ، وأكدت الآمال ، وأضيع بعده الحريم ، وهتكت الحرمة ، وتلك نازلة أعلن عنها كتاب الله قبل موته ، وأنبأكم بها قبل وفاته فقال :
( و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 220 ـ
أيها بني قيلة ...؟ اهتضم تراث ابي وأنتم بمرأى ومسمع ، تبلغكم الدعوة ويشملكم الصوت ، وفيكم العدة ... والعدد ... والأداة ... والقوة وأنتم نخبة الله التي انتخب وخيرته التي اختار .
باديتم العرب ، وبادهتم الأمور ، وكافحتم البهم حتى دارت بكم رحى الإسلام ، ودر حلبه ، وخبت نيران الحرب ، وسكنت قوة الشرك ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوثق نظام الدين ، فتأخرتم بعد الإقدام ونكصتم بعد الشدة وجبنتم بعد الشجاعة ، عن قوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم
(1) الى أن قالت : ألا وقد قلت ما قلت لكم على معرفة منِّي بالخذلة ، التي خامرتكم وخور القناة وضعف اليقين .
فدونكموها ، فاحتووها ، مدبرة الظهر ، ناقبة الخف ، باقية العار ، موسومة الشعار ، موصولة بنار الله الموقدة التي تتطلع على الأفئدة ، فبعين الله ما تعملون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) .
إن سيدة النساء فاطمة الزهراء ، كانت لا تهمها الجهة المادية ( وهي الزاهدة العابدة ) من الأرث ، بقدر ما كان يهمها من سير الدعوة الاسلامية ، ووصول الحق الى أهله . وهي ترى أن مصلحة الاسلام العليا تقتضي خلافة ( علي ) التي هي امتداد لصالح الاسلام ... والمسلمين .
ومما يدل على أن مصلحة الاسلام ، ونشر الرسالة المقدسة ، وتركيز دعائم الدين ، كل هذه الأشياء كانت في نظر الزهراء فوق كل شيء .
ذلك ما جاء في كثير من الروايات من سيرة علي وفاطمة عليهما السلام كشرح
**************************************************************************************************************
(1) إشارة الى ان النبي عليه الصلاة والسلام ، اخذ العهد من المسلمين بالبيعة والخلافة لعلي عليه السلام وذلك في حجة الوداع ـ في مكان يقال له غدير خم .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 221 ـ
النهج وغيره ، بما مضمونه ومعناه :
أن الزهراء عليها السلام عندما رجعت من المسجد الشريف الى منزلها ، مهضومة الحق ... كسيرة القلب ، حزينة ، وذلك بعدما خاطبت المهاجرين والأنصار ولم تجد تجاوباً منهم ، لم تتمالك من أن توجه اللوم الى زوجها ابي الحسن علي عليه السلام ، بكلام تبدو عليه ... القسوة ... والشدة ... والملامة .
وفيما هي تحدثه وتخاطبه لائمة إِياه على تقاعده وسكوته عن حقه الشرعي والمطالبة به وإِذا بصوت المؤذن يتعالى :
( الله أكبر ... أشهد أن لا إله إلا الله ... وأشهد أن محمداً رسول الله ) .
عندها قام علي الى السيف ... واستله من غمده ، والتفت الى الزهراء قائلاً : ما معناه ...
يا بنت رسول الله ؟ لو نازعت القوم في طلب حقي ... وحاربتهم عليه وطالبتهم بحقك من الأرث ، لثارت ثائرتهم ، وذهبوا أشتاتاً ، ولم يبق للإسلام إسم ... ولا رسم ، واختفى هذا الصوت الذي يتعالى في الأجواء مردداً :
( الله اكبر ... أشهد أن لا إله إلا الله ... أشهد أن محمداً رسول الله ) .
عندها هدأت ثورة الزهراء وسكنت ، وتعلًّقت بالإمام عليه السلام ، ودموعها تنساب على خديها وهي تقول : بل اصبر يا ابن عم ... حسبي ... وغايتي ... بقاء هذا الصوت والحفاظ على بقاء رسالة ابي ... وتركيز دعائم الاسلام ونشره .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 222 ـ
وفاة الزهراء ( عليها السلام )
يذكر المؤرخون ان الزهراء ( عليها السلام ) استسلمت للحزن فلم ترى قط منذ وفاة والدها النبي ( صلى الله عليه آله وسلم ) إلا باكية العين كسيرة الفؤآد .
الزهراء رافقت دعوة أبيها منذ بدايتها ، وتأصلت في نفسها أركان الرسالة حتى أصبحت وكأنها جزء من حياتها وقاعدة عظيمة من كيانها ، تمدها بالثبات على الحق ، والدفاع عن المظلومين والضعفاء والمحرومين والمعذبين .
تضحي بكل ما لديها لإسعاد البشر ، وإقامة العدل ولا تتواني مها كان الثمن غالياً .
وكانت عليها السلام تتمثل دائماً بابيات من الشعر تتذكر بها أيام أبيها فتقول :
صـبت علي مصائب لو أنها صبت على الأيام عدن iiلياليا قد كنت أرتع تحت ظل محمد لا اختشي ضيماً وكان جماليا واليوم اخضع للذليل iiواتقي ضيمي وادفع ظالمي iiبردائيا |
واخيراً مرضت الزهراء ( عليها السلام ) ، وساء حالها ، فبادرت نساء المسلمين لعيادتها ...
نظرت اليهن ثم أشاحت بوجهها عنهن قائلة :
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 223 ـ
اجدني كارهة لدنياكن مسرورة بفراقكم ، وسأشكوا إلى الله ورسوله ما لقيت من بعده ... فما حفظ لي حق ، فخرجن من عندها كسيرات ، يتلاومن ... وقد ادهشن ما سمعن ورأين .
وصية الزهراء ( عليها السلام )
ذكر أصحاب التاريخ وأهل السير وصية الزهراء ( عليها السلام ) على عدة أوجه ، ففي رواية : انها لما احست عليها السلام بدنو أجلها ، استدعت اليها زوجها ( عليا ) امير المؤمنين ( عليه السلام ) فاوصته وصيتها ، وطلبت منه ... وألحت عليه ان يواري جثمانها في غسق الليل ، حتى لا يحضر جنازتها أحد من الذين ظلموها ، وجحدوا حقها ، وان يعفى موضع قبرها .
واوصته أيضاً أن يتزوج ابنة اختها ( امامة ) لتقوم على رعاية ابنائها ، قالت له :
( يا ابن عم لا بد للرجال من النساء ، فإذا أنا مت ، فعليك بابنة اختي ( امامة ) فانها تكون لأولادي ... مثلي ...
يقول ابن سعد في طبقاته : ( ان فاطمة احبت ان يصنع لها نعشاً يواري جثمانها ، لأن الناس كانوا يومذاك يضعون الميت على سرير مكشوف لا يستر ، فكرهت ذلك ، واحبت ان لا ينظر جثمانها أحد وهي محمولة على أكتاف الرجال .
فاستدعت ( أسماء بنت عميس ) وشكت اليها نحول جسمها وقالت لها : اتستطيعين ان تواريني بشيء ؟
قالت اسماء اني رأيت الحبشة يعملون السرير للمرأة ، ويشدون النعش
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 224 ـ
بقوائم السرير ، فأمرتهم بذلك وعمل لها نعش قبل وفاتها ، ولما نظرت اليه قالت :
( سترتموني ستركم الله ) .
وفي رواية : لما نظرت اليه ابتسمت ، وكانت هذه أول ابتسامة لها بعد وفاة ابيها ) .
والذي وعاه التاريخ ، ان الزهراء ( عليها السلام ) ، كان يبدو عليها الارتياح في اليوم الاخير من حياتها ، فقامت من فراشها ونادت أولادها ، فعانقتهم طويلاً وقبلتهم ثم أمرتهم بالخروج إلى زيارة قبر جدهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وكانت أسماء بنت عميس تتولى خدمتها وتمريضها
(1) فطلبت منها بصوت واه ضعيف ، ان تهيء لها ماء لتغتسل .
وبكل ارتياح ، بادرت أسماء إلى احضار طلبها ، فاغتسلت ( عليها السلام ) ولبست أحسن ثيابها وبدا عليها الحبور ، فظنت أسماء انها تماثلت للشفاء .
ولكن تبددت ظنونها عندما طلبت منها ان تنقل لها الفراش إلى وسط البيت ، وقفت أسماء والدهشة بادية على وجهها ، وقد ساورها قلق شديد عندما رأت الزهراء قد اضطجعت على الفراش واستقبلت القبلة ، ثم التفتت اليها قائلة :
( اني مقبوضة الآن وراحلة عن هذه الدنيا ، إلى جوار رب رحيم ، لاحقة بأبي الرسول الكريم ... )
*************************************************************************************************************************************************
(1) وفي رواية ثانية أن أم رافع مولاة الرسول صلى الله عليه وسلم هي التي كانت تسهر عليها ، وتتولي تمريضها .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 225 ـ
وتسمرت أسماء في مكانها وقد عقدت الدهشة لسانها لما رأت وسمعت ...
لقد اذهلها الخطب العظيم ، واستبد بها القلق والجزع والخوف على الزهراء وما هي إلا دقائق معدودات حتى حم القضاء وعلت صفرة الموت وجه سيدة النساء .
صاحت أسماء وناحت ، و علا الصراخ، فاسرعت زينب والحسنان لاستفسار الخبر ، فوجدوا أمهم قد فارقت الحياة ...
واجتمع الناس على صوت البكاء والعويل ، واحاطوا بدار علي بن أبي طالب وهم بين باك وباكية ، ومتفجع ومتفجعة وقد اشتد بهم الحزن والاسى على بضعة الرسول فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) .
وعن ينابيع المودة عن أم سلمة ( رضي الله عنها ) قالت :
اشتكت فاطمة في وجعها ، فخرج ( علي ) لبعض حاجته فقالت لي فاطمة :
يا اماه اسكبي لي ماء ، فسكبت لها ماء ، فاغتسلت أحسن غسل ، ثم قالت : يا اماه ناوليني ثيابي الجدد ، فناولتها ثم قالت : قدمي فراشي وسط البيت ، فاضطجعت ووضعت يدها اليمنى تحت نحرها ، واستقبلت القبلة ثم قالت : يا اماه اني مقبوضة الآن ، فلا يكشفني أحد ، ولا يغسلني أحد .
قالت أم سلمة : فقبضت مكانها صلوات الله وسلامه عليها .
قالت: ودخل ( علي ) فاخبرته بالذي قالت ، فقال علي : والله لا يكشفها