قالت : فلما رأيت ذلك شخص بي وهي داري ... ووطني .
فقلت : يا رسول الله إنه لم يسلك السوية من الأمر ، هذه الدهناء عندك مقيد الجمل ، ومرعى الغنم ، ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك .
قال : صدقتِ ... امسك ياغلام ... المسلم أخو المسلم يسعهم الماء والشجر يتعاونان على الفتان كذا ...
قالت : فلما رأى حريث وقد حيل دون كتابه ، صفق بإحدى يديه على الاخرى ثم قال :
كنت أنا وأنتِ كما قال الأول : ( حتفها حملت ضان بأظلافها ) .
قالت : فقلت أما والله لقد كنت دليلاً في الليلة الظلماء ، جواداً لدى الرحل ، عفيفاً عن الرفيقة ، صاحب صدق ، حتى قدمنا على رسول الله( صلى الله عليه وسلم ) ، عليَّ أسأل حظي ... إذا سألت حظك .
قال : وما حظك من الدهناء لا أباً لك ؟ قالت : قلت مقيد جملي ... سله لجمل امرأتك .
قالت : فقال : اما اني اشهد رسول الله( صلى الله عليه وسلم ) ، اني لكِ أخ ما حييت إذ أثنيت هذا عليَّ عنده ) .
هذه قيلة بنت مخرمة وغيرها كثيرات من النساء ، ذوات الفهم والتعقل ، قد أمدها الإسلام بالجرأة والإقدام .
وقفت في بادئ الأمر ترتعد خوفاً ... ورهبة من هيبة الرسول حتى طمأنها عليه الصلاة والسلام بقوله ( يا مسكينة ... عليك السكينة ) .
سكنت ... واطمأنت عندما شاهدت النبي العظيم بتواضعه وأخلاقه
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 258 ـ
السامية وحلمه وسعة صدره وشريعته السمحاء .
أقدمت على المطالبة بحقها وحق قومها ، غير هيابة ولا وجلة ، فلا مداهنة ولا تدجيل ، ولا رياء ... أليس حرية الرأي والصدق والصراحة والديمقراطية من بنود شريعة محمد ؟
ثم نراها تثني على صاحبها ودليلها ( حريث بن حسان وافد بكر بن وائل ) مع وقوفها قبل برهة أمامه موقف الخصم ( ولكن الحق يعلو ولا يعلو عليه شيء ) .
ومما لا شك فيه من أن المرأة المسلمة عندما استنشقت روح الحرية ، وتذوقت معنى الكرامة وسمعت قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وهو يوصي بالنساء خيراً ، سارعت الى مساعدة الرجل المسلم الصحيح ، وأخذت بعضده ، وسارت معه بكل إخلاص وإيمان لسلوك الصراط المستقيم .
فيا ليت فتيات العصر الحاضر ... يلتفتن قليلاً الى الماضي حيث جداتهن القدامي المجاهدات اللواتي لا يزال أريج ذكرهن عابقاً يعطر اجواء التاريخ على مرِّ الليالي والعصور .
ويا ليت فتيات العصر الحاضر ينصفن انفسهن وينظرن بمنظار الحق والعدل ، لتتضح لهن الحقائق ، ويرجعن إلى رشدهن ، ويتركن كل ما أزرى بهن من عادات مخلة بالأدب ، وتقاليد مشينة بالأخلاق .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 259 ـ
عقيلة الهاشميين زينب بنت علي ( عليها السلام ) :
من المنبت الزاكي والشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء .
في بيت تجمعت فيه صفات الإنسانية ، وخصال الرحمة والوفاء .
في المنزل الذي تتهادي في جنباته شمائل الشرف والبطولة والكرم والحياء .
في السنة الخامسة للهجرة ولدت لسيدة النساء فاطمة الزهراء ابنتها عقيلة الهاشميين ( زينب ) .
في هذا الجو العابق بالتقى والورع والإيمان ، تفتحت هذه الوردة الزكية المنبت ، الكريمة المحتد ، فرأت النور مشرقاً في وجه جدها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وتفتحت عيناها على بسمة أبيها علي ( عليها السلام ) وحنان امها فاطمة سيدة نساء الأنام .
استقبل بيت الرسول الوليدة المباركة ، يفوح عبيرها في المهد ، عبير المنبت الطيب ، سلالة الأشراف ، ويرتسم في قسمات وجهها المضيء ملامح الأجداد الكرام ، والآباء العظام ، وتلوح في طلعتها المشرقة هيبة امها الزهراء ، التي حباها الباري سبحانه بمنزلة عالية ... فكانت أحب الناس الى قلب أبيها الرسول ، وأشبههن به خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً ، ( فاطمة منى ) وميزها سبحانه فكانت الوعاء الطاهر للسلالة الطاهرة ، الأئمة الأطهار .
وقد ذكر المؤرخون وأهل الأخبار : أن ظلالاً حزينة ارتسمت على مهد
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 260 ـ
الوليدة تشير الى ما ستلاقيه من المصائب والويلات في حياتها المشحونة بالأحداث .
وتنقل المرويات : عن جدها الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وكيف انحنى على الوليدة ، حفيدته الغالية ، يقبلها بقلب حزين وعينين دامعتين ، لأنه كان عالماً بتلك الأيام السوداء التي تنتظر الطفلة في المستقبل القريب .
ويقول أحد الكتاب :
(1) ( ترى إلى أي مدى كان حزنه صلى الله عليه وآله وسلم حين رأى بظهر الغيب ، تلك المذبحة الشنعاء التي تنتظر سبطه الغالي !
وكم اهتز قلبه الرقيق الحاني وهو يطالع في وجه الوليدة الحلوة ، صورة المصير الفاجع ؟
ويذكر المؤرخون أيضاً : أن سلمان الفارسي أقبل على ( علي بن أبي طالب ) يهنئه بمولد الطفلة الجديدة ، فوجده واجماً قد ارتسم الحزن على جبينه ، ثم أخذ يتحدث بكل مرارة عما سوف تلقى ابنته من الفواجع في كربلاء .
لقد أخبره الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فبكى ولم يتمالك ... أجل لقد بكى ( علي ) الفارس الشجاع ، والمقدام الهمام ، وخائض غمرات الحروب ، والملقب بأسد الإسلام الهصور .
وتمر الأيام تطوي الليالي ... بالنهار ، والطفلة المباركة تنمو كالزنبقة العطرة ، مغمورة بالحنان والعطف والدلال تدب في رحاب البيت العلوي الشريف متنقلة كالفراشة من حضن جدها العظيم الى ذراعي أبيها الكريم لترجع وتلوذ بصدر والدتها الحنون .
وتنتقل الحوراء زينب في مدارج صباها ، تحوطها رعاية الإم والسيدات
********************************************************************************
(1) الكاتب الهندي ( محمد الحاج سالمين ) في كتابه سيدة زينب Sayydah Zeinab .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 261 ـ
الجليلات من البيت الرفيع ، بيت النبوة والوحي والإلهام .
نشأت ( زينب ) ترافق أخويها ( الحسن ـ والحسين ) ريحانتي رسول الله ، فنمت أفضل نمو ... وأورقت أيما إيراق .
رضعت من ثدي الإيمان ... وتغذت بعصارة الدين واقتبست المعرفة عن جدها الرسول صاحب الرسالة المقدسة .
انتهلت العلم والفهم من أبيها ( علي ) البحر الزاخر الذي تتلاطم أمواجه ، سيد البلغاء ... وأمير البيان .
وجدت أمامها أعظم من أنجبتهم الجزيرة ، من المسلمين والعلماء ، وصفوة الفقهاء ، والأبطال الكرام .
ترعرعت ( عليها السلام ) ... طاهرة السريرة ، عريقة الإيمان ، كريمة الخلق ، ذات عقل راجح وعقيدة ثابتة مع علم وأدب ، وفطنة وذكاء ... وصبر على البلاء وكما قيل :
حاكيت شمس الضحى والبدر مكتملاً أبـاً وأمـاً وكـان الفضل iiللحاكي أبــوك حـيـدرة والأم فـاطـمة والـجد أحـمد والـسبطان iiصنواكِ |
المصاب الأليم ... والنبأ العظيم :
استيقظت عقيلة بني هاشم على النبأ المروّع الذي اهتزت له أرجاء الجزيرة من أقصاها الى أقصاها ، ألا وهو موت جدها العظيم والرسول الكريم ( محمد ) صاحب الرسالة .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 262 ـ
ارتاعت الطفلة عندما سمعت صراخ المفجوعين ، واستقيظت على عويل الباكيات ، والباكين .
ثم هي ترى جدها الأعظم ، صامتاً لا يتكلم ، ساكناً لا يتحرك ، والدنيا من حوله في ضجيج وصخب وهياج ، وكأنما زلزلت الأرض أو اجتاحها إعصار رهيب .
ارتاعت الحوراء زينب الطفلة الذكية وهي ترى هذه المشاهد المؤلمة وترى جدها العزيز الجليل يحمل على آلة حدباء ويرحل الرحلة المحتومة على كل إنسان من بني البشر .
كم روع قلبها الخلي هذا الموقف وهي تسمع لحن الموت الحزين وترى موكب الرحيل الأليم .
وتعود الطفلة لتجد امها الزهراء عليها السلام حزينة القلب ، باكية العين ، فاقدة الصبر ، مصدعة الكيان ، كسيرة الفؤاد .
وتتوالى الأحداث والهموم والكوارث على البيت العلوي الشريف .
وتدور الأيام ثقيلة حزينة والحوادث تتلو بعضها بعضاً ... والحوراء ( زينب ) وإن كانت صغيرة السن ولكنها سلام الله عليها كبيرة العقل ، راجحة الإدراك .
تفهم وتعي جميع ما يدور حولها من أحداث ... ومفاجآت ومؤامرات نفثت سمومها وكادت نيرانها تحرق البيت الذي طهَّره الله من الرجس ورفعه عالي الأركان بالدين مبجَّلاً بالعالمين .
تأخذني الأفكار لأتمثل الحوراء ( زينب ) وهي طفلة لم تودّع عامها السادس ، لتشهد موت جدها الرسول وتعي مشاهد الذهول والحزن والجزع ، من هذه المصيبة التي ألمت بالمسلمين ، تجرُّ وراءها قافلة الهموم والأحداث والوقائع .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 263 ـ
فمن سقيفة بني ساعدة وكيف مثَّلت أدوارها إلى احداث الخلافة وشحناءها ، الى الميراث و ( فدك ) ثم تلا هذا كله الوقائع ... والحروب الى جميع الأمور التي يتفطر القلب لها حزناً وتمزقِّ الأفكار جزعاً وتودع النفوس رعباً وتترك الحسرات والألم الدفين .
أجل أتمثل ( زينب ) في خضم المأساة المروعة تلوذ بأمها الزهراء فتجدها ذاهلة حزينة يغشى عليها من حين لآخر ، فتنعطف مذعورة لتحتمي بأبيها الإمام فتراه حزيناً كئيباً .
أي طائف من الحزن اجتاح قلب الطفلة المدللة ؟ .
وأي خوف غامض غزا قلبها الخلي وروع روحها السَّاذجة البريئة ؟
عادت مع أخويها السِّبطين إلى البيت بيت أبيها أمير المؤمنين الذي تراكمت عليه الأحداث المفجعة ، وتوالت عليه المصائب المؤلمة فأحالت زهوه وضياءه الى ليل موحش مظلم .
لزمت ( زينب ) فراش امها الثكلى ، التي اعتلت بعد وفاة أبيها النبي ... تنظر اليها بإشفاق ، بادية اللهفة والخوف على حياة والدتها بضعة الرسول .
يحق للحوراء ( زينب ) إن فقد الام جدير بأن يجرع الطفلة مرارة الكأس .
لم يمض على وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثلاثة أشهر او ستة أشهر على أبعد الرّوايات ، حتى رحلت الزهراء عن هذه الدنيا الفانية .
وتمضي الى جوار ربِّها راضية مرضية ... وتترك تلك الصبية التي روِّعت بماساة الموت مرتين ، وفي أعز الناس لديها وأحبهما إليها جدها ووالدتها .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 264 ـ
دور الزهراء تمثله زينب ( عليها السلام )ما أروع الشبه بين الأم والبنت إذا أردنا المقارنة وخصوصاً في الصمود أمام الكوارث في المواقف الحرجة والظروف الصعبة حيث يتحكم العقل ، تأمر الإرادة ، ويملي الدين .
بالأمس وقفت الزهراء عليها السلام تنظر الى موكب الموت وهو يحدو بعمها ( أبي طالب ) كفيل رسول الله ، وتلحقه امها ( خديجة ) الكبرى أم المؤمنين زوجة الرسول وساعده القوي .
ويبقى رسول الله يعاني مرارة الوحشة والفراق واضطهاد قريش ينوء تحت أعباء الرسالة المقدسة .
وتتوالي الأيام وتكر الأعوام ويعيد الماضي نفسه ، فتقف زينب بنت أمير المؤمنين كأنها الزهراء .
تمثل نفس الدور على مسرح الحياة ، وهي تعيش المأساة بكل مرارتها عندما فقدت جدها وأمها في عام واحد .
أجل وقفت زينب تنظر بلوعة وأسى الى أبيها أمير المؤمنين عليه السلام وهو يرزح تحت كابوس من الحزن والألم ، بعد أن فقد عزيزين غاليين عليه محمد وفاطمة .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 265 ـ
كانا له الملجأ والمفزع ، كما يكون المطر للزرع غيثاً وعطاءً ، افتقد ( علي ) صاحب الرسالة الذي كان له الأخ والعم والمعلم ، وبعدها تتبعه ابنته ( الزهراء ) الزوجة الوفية المخلصة ، ويبقى وحيداً حزيناً قد تنكر له الجميع .
وليس بمستغرب أن تتحمل زينب مسؤولية الأم في بيت أبيها وتحتل مكانة عالية فقد انضجتها الأحداث ، وهيأتها لأن تشغل مكان الراحلة الكريمة فتكون للحسن والحسين وباقي إخوتها اماً حنوناً ، لا تعوزها عاطفة الامومة بكل ما تحتويه من إيثار وإن كانت صغيرة السن يعوزها الاختبار .
لقد حفظت وصية امها ، وهي على فراش الموت ( بأن تصحب أخويها ، وترعاهما وتكون أماً لهما ) .
تحملت السيدة زينب مسؤولية عظيمة وقامت بها خير قيام ، ولا عجب فهي ليس كباقي الفتيات ، تسرح مع لداتها ، وتقضي وقتها باللعب والسمر الذي يتطلبه عمرها الصغير .
كانت تربية ( زينب ) عالية فهي فرع من تلك الدوحة المقدسة ، وكلما تقدم بها الزمن ، انضجتها الأحداث ، وعلمتها النوائب كيف تستقبلها بقلب ثابت ملؤه البطولة والإيمان .
تقول الدكتورة بنت الشاطئ : ( ولم تظفر صبية من لداتها فيما نحسب ، بمثل ما ظفرت به في تلك البيئة الرفيعة ، من تربية عالية .
وكان هذا كله بحيث يرضي ( زينب ) في صباها ، ويتيح لنا أن نراها مرحة مزهوة ، ولكنها لا تكاد تشب عن الطوق حتى يقال انها عرفت النبوءة الأليمة .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 266 ـ
وقيل انها كانت تتلو شيئاً من القرآن الكريم ، يمسمع من ابيها ، فبدا لها ان تسأله ، عن تفسير الآيات ففعل ، ثم استطرد ، متأثراً بذكائها اللامع يلمح الى ما ينتظرها في مستقبل أيامها ، من دور ذي خطر .
ولشد ما كانت دهشته حين قالت له ( زينب ) في جد رصين : ( اعرف ذلك يا ابي ... أخبرتني به امي ... كيما تهيئني لغدي ) .
ولم يجد الأب ما يقول ، فأطرق صامتاً وقلبه يخفق رحمة وحناناً .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 267 ـ
الزواج المبارك
تفتحت زهرة آل البيت ، وبلغت ( زينب ) سن الزواج ، وذاع صيتها في المجتمعات ، فتوافد الطلاب من كل حدب وصوب ... من ذوي الشرف والجاه والمال .
لكن الامام علي ( عليه السلام ) : لا يخدعه المال او متاع الدنيا أليس هو قائل : ( يا صفراء ويا بيضاء غرِّي غيري ) .
ولا بحاجة الى ذوي الجاه ، فهو ذو الشرف الرفيع الذي لا يجارى ،وإنما يريد الكفؤ الكريم .
تقدم إليه ابن أخيه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وعبد الله هو الفتى الهاشمي الكفؤ ... والزوج المختار .
أليس هو ابن جعفر الطيار ؟ ذو الجناحين ... وأبو المساكين وحبيب رسول الله ، وأمير المهاجرين الى الحبشة ؟
تقول المرويات : انه صادف وصول جعفر من الحبشة الى المدينة يوم فتح خيبر ، فاعتنق رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) جعفراً وأخذ يقبله بين عينيه وهو يقول : ( لا أدري بأيهما أنا أشد فرحاً ، بقدوم جعفر أم فتح خيبر ؟ )
(1) .
********************************************************************************
(1) تاريخ الطبري ـ طبقات ابن سعد الكبرى .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 268 ـ
وفي موقعة ( مؤتة ) كان أمير القوم ، وقطعت يداه في تلك المعركة ، وأخيراً احتضن الراية وظل يقاتل حتى استشهد
(1) .
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لآل جعفر راعياً ، وأباً ، يرعاهم بعطفه ، ويفيض عليهم بحنانه .
وفي رواية : ان رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال في عبد الله بن جعفر : ( وأما عبد الله فيشبه خلقي وخلقي ) ثم أخذ بيمينه فقال :
( اللهم اخلف جعفراً في أهله ، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه ـ قالها ثلاثاً ـ وأنا وليهم في الدنيا والآخرة ) .
كان عبد الله فتى في مقتبل شبابه ، قد لاحت شمائل سؤدده ، وتميزت مخايل شخصيته التي لفتت أنظار المؤرخين ، وتغنت بها الشعراء ...
قال عبد الله بن قيس الرقيات :
ومـا كنت إلا كالأغرّ ابن iiجعفر رأى المال لا يبقى فأبقى له ذكرا |
وقال الشماخ معقل بن ضرار :
إنـك يـا ابن جعفر نعم iiالفتى ونـعم مـأوى طارق إذا iiأتى ورُبّ ضيفٍ طرق الحي سُري صادف زاداً وحديثاً ما iiاشتهى |
وام عبد الله بن جعفر هي ( أسماء بنت عميس ) من المهاجرات الى الحبشة ،
********************************************************************************
(1) الكامل في التاريخ لابن الاثير .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 269 ـ
واحدى الأخوات المؤمنات اللواتي سماهن الرسول عندما قال : الأخوات المؤمنات هن : أسماء بنت عميس وميمونة ام المؤمنين ، وسلمى زوج حمزة بن عبد المطلب ، ولبابة زوج العباس بن عبد المطلب .
اقترن سليل دوحة الشرف عبد الله بن جعفر ، بحفيدة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عقيلة الهاشميين ( زينب ) .
ضم عش الزوجية تحت جناحيه أنبل شخصين هما ...
عبد الله بن جعفر بمروئته ... ونبله ... وكرمه ... وسماحة خلقه ... وسخائه ، حتى لقب ( ببحر الجود ـ أو قطب السخاء ) .
و ( زينب ) ابنة علي التي كانت تشبه امها الزهراء لطفاً ورقة ، وانوثة ، وتشبه أباها ( علياً ) علماً ، وتقى ، وفصاحة ، وبلاغة .
انتقلت ( زينب ) إلى بيت ابن عمها لتضيء فيه شموعاً تنير الدنيا من حولها ... وتنجب البنين والبنات .
وتقول أكثر المرويات : أن السيدة ( زينب ) مكثت في خدرها محجبة تقية ، عالمة ورعة ، كان لها مجلس حافل تقصده جماعة من النساء اللواتي يردن التفقه في الدين .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 270 ـ
بداية الاحداث
انتقلت الحوراء ( زينب ) الى بيت ابن عمها عبد الله بن جعفر ولكنها عليها السلام لم تتخل عن تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقها من إدارة بيت أبيها والاهتمام بشؤون أخويها ، اولاً ... وآخراً ... ( وصية امها الزهراء ) .
وشاءت الأقدار أن تعيش ( زينب ) فصول الأحداث والمصاعب ، فما كانت تطبق جفنها على مأساة أو حادثة تلّم بالبيت العلوي الطاهر ، حتى تلوح لها حادثة جديدة ، ومأساة اخرى ، فتقف بكل شجاعة صامدة بقلبها الكبير وصبر وإيمان على تقلبات الزمان رغم انها امرأة .
وألف رجل لا يعادل امرأة مثل ( زينب ) حملت البطولة على كتفها تجسدها بأجلى مظاهرها ، وتتحمل الكوارث ، وتصمد للنوائب بأفضل ما يصمد له الأبطال ، في معامع الحروب وساحات الوغى .
نراها واقفة تراقب ما رافق خلافة أبيها أمير المؤمنين بعد أن خذله الناس فيما مضى ، رغم النص على خلافته من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وكان ما كان ... من الأحداث .
وبعد مقتل ( عثمان بن عفان ) ألقت الخلافة بمقاليدها اليه رغم انه كان يحاول تجنب المشاكل ، التي يعلم حق العلم انها ستحدث حتماً .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 271 ـ
فالإمام علي سيسير بالناس على غير ما يشتهون وسيحملهم على جادة الحق ( والحق مرّ ) لا يرضاه القوم .
قبض عليه السلام على بيت المال ، والناس عنده سواء لا محل للعواطف ... ولا مجال للأهواء ، أو الجاه ، أو القربى ... ولا لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى .
وكانت البداية المؤلمة ، إن أبا الحسن لا يعطي من دينه لدنياه ، ولا تأخذه في الله لومة لائم .
لم يوافق هذا العمل الكثير من الناس ، أمثال طلحة والزبير وهما اللذان نكثا بيعة ( علي ) على أنهما على معرفة تامة بالإمام وسيرته ... وبلائه .
وكانت الفتنة الكبرى ، والنكسة العظمى التي ابتلي الإسلام بها إنها وقعة ( الجمل ) تلك التي جرت وراءها الأحداث والويلات ، ورمت المسلمين ببلاء عظيم .
وترتفع راية الحق ( وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا )
(1) .
ويرجع المسلمون بالندامة والملامة ، وقلوبهم دامية على اقتتال المسلمين وتمزيق شملهم .
ولست بصدد إعادة حوادث التاريخ المؤلمة ، فالحديث شجون ... فهناك الكثير من الناس ممن اتخذ الإسلام له ذريعة للوصول إلى السلطة أمثال معاوية بن
********************************************************************************
(1) سورة الاسراء آية 81 .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 272 ـ
أبي سفيان الذي لم تعجبه نتيجة وقعة ( الجمل ) بل آلمه انتصار ( علي ) ،
أليس معاوية بن أبي سفيان سليل البيت الاموي المعروف بعدائه للبيت الهاشمي من قديم الزمان .
أليست العداوة والبغضاء متأصلة يتوارثها الأبناء عن الآباء ؟ ولقد صدق من قال :
عبد شمس قد أضمرت لبني هاشم حـربـاً يـشيب مـنها iiالـوليد فابن حرب للمصطفى ، وابن iiهند لـعـلي ، ولـلـحسين iiيـزيـد |
أجل لم يتمكن ( معاوية ) من كبح جماح أطماعه التوسعية ورأى بدهائه أن الفرصة مؤاتية لمحاربة ( علي ) إذن ليتخذ من مقتل الخليفة ( عثمان ) ذريعة للوقوف بوجه ( الإمام الحق ) .
لم يتواني عميد بني أمية عن اغتنام الفرصة ، فقام بالاتفاق مع عمرو بن العاص ( الداهية الماكر ) الذي باع دينه بدنياه كما هو معروف عند أكثر أهل التاريخ والسير .
جاء في كتاب ظلال الوحي
(1) ، قال : إن الكثير من سلاطين المسلمين ساروا على جادة الانصاف ، بخلاف معاوية الذي أفرغ وسعه وعمل جهده في صنع الخديعة حتى يسلب الحق من أهله ، وهذا يعرف من إرساله خلف عمرو بن العاص ، وقد كان عمرو انحرف عن عثمان ، لانحرافه عنه وتوليته مصر غيره ،
********************************************************************************
(1) في ظلال الوحي : السيد علي فضل الله الحسني .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 273 ـ
فلما اتصل به أمر عثمان وما كان من بيعة علي ، كتب الى معاوية يهزه ويشير عليه بالمطالبة بدم عثمان .
وكان فيما كتب به إليه :
( ما كنت صانعاً إذا قشرت من كل شيء تملكه ؟ فاصنع ما أنت صانع ) .
فبعث إليه معاوية : فسار إليه .
فقال له معاوية : بايعني ... قال : لا والله ، لا اعطيك من ديني حتى أنال من دنياك .
قال : سل ؟ قال : مصر طعمة .
فأجابه الى ذلك ، وكتب له به كتاباً .
وقال عمرو بن العاص في ذلك : كما رواه المسعودي في ( مروج الذهب ) .
معاوية لا اعطيك ديني ، ولم iiأنل به منك دنيا ، فانظرن كيف تصنع فإن تعطني مصراً ، فاربح iiبصفقة أخـذت بـها شـيخاً يضر iiوينفع |
أجل لقد استغل معاوية وعمرو بن العاص ( سذاجة الشاميين ) فقد انطلت الحيلة على أهل الشام ، الحيلة والمكر والخديعة وهي ( المطالبة بدم عثمان .
ولو سأل أهل الشام أنفسهم : ترى لو لم يتبوأ ( علي ) منصب الخلافة ، أكان معاوية سيحمله على دم عثمان ؟
كلا ... إنها خديعة ... وغايته محاربة علي فقط .
المرأة في ظل الإسلام (18)
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 274 ـ
وكانت وقفة ( صفين ) التي شتتت أمر المسلمين ، وفتكت بهم ، ولم تزل نيرانها تكوي جباههم .
دارت رحى الحرب في ( صفين ) وأبطال المسلمين يجندل بعضهم بعضاً ؛ وكان ممن قتل يوم ذاك الصحابي الجليل ( عمار بن ياسر ) الذي قال الرسول له : يا عمار تقتلك الفئة الباغية .
وعندما مني معاوية بالهزيمة . لجأ إلى الخديعة والمكر مرة ثانية ، فاحتال ( برفع المصاحف ) حتى اضطر الإمام عليه السلام قبول التحكيم ، رغم أنه يعلم أنها خدعة ، كما صرَّح بذلك .
وانتهت المأساة ، وقتل ما ينوف على مئة وعشرين ألفاً من المسلمين ، وأدرك زعيم بني أمية بعض ثأره من الهاشميين .
تمر الأيام بـ ( زينب ) وهي بالكوفة ( مقر الخلافة ) تراقب بعين ساهرة أبيها الإمام وأخويها السبطين عليهم السلام فلا يغمض لها جفن ، ولا يهدأ لها بال ، حتى تراهم .
وعلى توالي خمسة أعوام و ( عقيلة الهاشميين ) تتألم وهي ترى الإمام عليه السلام يخوض المعارك ، وقد ذرف على الستين ، وهو الذي حمل سيف الجهاد ، ولما يبلغ الحلم كما ورد في خطبة الجهاد وعند قوله عليه السلام مخاطباً أصحابه :
( لله أبوهم ؛ وهل أحد منهم أشد مراساً ، وأقدم فيها مقاماً مني ؟ لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، وها أنا قد ذرَّفت على الستين ، ولكن لا رأي لمن لا يطاع )
(1) .
********************************************************************************
(1) نهج البلاغة ـ شرح ابن ابي الحديد .
المرأة في ظلّ الإسلام
ـ 275 ـ
العاصفة الهوجاء والاحداث المؤلمة
لا أريد أن القي بنفسي في غمار الأحداث التأريخية ، والتحدث عن الوقائع التي خاضها المسلمون ، لو أن السيدة ( زينب ) كانت بعيدة قابعة في مدينة جدها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، شأن غيرها من النساء لا تهتم إلا بشؤونها الخاصة .
ولكن عقيلة بني هاشم تختلف عن غيرها ، فهي دائماً في صميم الدوامة التي تلف الدولة الإسلامية بالعاصفة الهوجاء .
نراها عليها السلام قد رحلت إلى الكوفة ( مقر خلافة علي ( عليها السلام ) مع زوجها عبد الله بن جعفر ، الذي كان أميراً من أمراء جيش صفين . ثم تعود إلى المدينة بعد مقتل الإمام علي ـ وصلح الحسن لترافق أخيها الحسين ( عليه السلام ) إلى العراق فتساهم في موقعة الطف وتكون ( بطلة كربلاء ) .
صحيح ان السيدة ( زينب ) لم تكن من حملة السيوف ، ولا نراها في ساحة الوغى حيث الضجة والدوي الذي يصم الآذان .
لكن نجدها هناك ... في ميدان السياسة وقد ظهرت على مسرح الأحداث . بطلة من الأبطال .
ان صلتها بالقادة والأبطال وثيقة ، ومكانتها من البيت الهاشمي رفيعة ، ومواقفها شهيرة علاوة عن اصالة الرأي وسلامة التفكير .