تتابعه بعينها وهو ينمو إلى الشباب الزاهر ، ثمّّ يكتمل شبابه ويغدو رجلاً ملء السمع والبصر .
كانت ترى فيه حصناً ورصيداً لها في مستقبل أيامها وكانت تستمد من وجوده العزيمة والمضاء ، ولشد ما كانت تعتز بأن تراه وهو يحتضن وليدها الغالي علي فهي فخورة بهذا الاحتضان الروحي ومتفائلة به خيراً .
فمحمد هو أول شخص أبتسم له ابنها علي بعد اذ خرجت به من الكعبة ، وهي تحمله بين ساعديها الحنونين ، فهي لا تنسى أبداً أن علياً ولد في الكعبة وفي أشرف بقعة فيها ، وها هو عليُّها العزيز ، وقد أخذ ينمو ويترعرع تحت رعاية وتوجيهات ابن عمه الصادق الأمين محمد بن عبد الله ومحمد رسول الله أيضاً بعد إذ غدا شابا .
وفي أوج شبابه لم يكن لينسى لفاطمة بنت أسد حبها ولم يكن ليتنكر لحنانها مطلقاً ، فهو لها كولدها في كل أدوار حياته وفي كل أحواله ، وقد استخلص لنفسه ولدها علي بعد إذ عمت المجاعة في مكة .
وكان عمه أبو طالب كثير العيال مرهقاً بتكاليف
المرأة مع النبي ( ص ) في حياته وشريعته
ـ 20 ـ
العيش ، وكان رسول الله قد استقل في ذلك الحين ببيته ومع زوجه خديجة ومنذ أن فتح لابن عمه بيته وقلبه لم يفترق عنه يوماً واحداً في كل الظروف والملابسات .
وكانت فاطمة بنت أسد ترى هذا الامتزاج العاطفي بين ابنها وابن عمه فتسر له ، وتفرح فيه فهي تُكْبر محمداً وتعجب فيه وتعتمد عليه ، وتركن إليه ، وكان الاثنان يحلانها محل الأم لا فرق بين ابنها وابن عمه .
فقد جاء في الروايات أن الإمام علي بن أبي طالب لما أخبر رسول الله بوفاة أمه قال : إن أمي قد توفيت يا رسول الله ، فيرد عليه رسول الله بل أمي أيضاً يا علي ... وناهيك عما تحمل هذه الكلمة من تسلية للإبن الفاقد أمه ، وما تعطي للأمة من دروسٍ في الوفاء والإخلاص ، وحفظ الجميل ، وقد أعطاها ثوبه المبارك لتلف به مع كفنها كي يكون لها ستراً ومعاذاً ، وجلس على قبرها بعد أن انفض الجمع ، وأخذ يدعو لها ويسأل الله أن يجزيها عنه خيراً ويستعيد في فكره أيامها معه ، إذ هو طفل صغير ، وحنانها عليه حينما كان يتيماً وحيداً ، ورعايتها له وهو شاب فتي ، وأخيراً قام عن قبرها وهو حزين كئيب .
المرأة مع النبي ( ص ) في حياته وشريعته
ـ 21 ـ
فقد كانت هي المرأة الثالثة التي دخلت في حياته صلوات الله عليه والتي نشأ في ظلال عواطفها إلى حين استقر به المطاف عند قرينته خديجة بنت خويلد .
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وقد كانت سيدة نساء عصرها كمالاً وجمالاً ومكانة ، وكرامة ، فهي سليلة دوحُة ثابتة الفروع ، وفرع شجرة عميقة الجذور ، وقد عرفت بين قومها بسمو الروح وعلو الهمة وقوة الشخصية ، وثبات الفكرة وصواب الرأي ، وقد كانت مع كل هذه الثروات المعنوية والأدبية ثرية في مالها أيضاً ، وقد كانت تفتش عمن تستودعه المال ليتاجر لها به على أن يكون أميناً صادقاً مخلصاً ، فهي جادة في طلب ضالتها من بين شباب قريش وشيوخها ، وبما أنها امرأة لا تتاح لها المراقبة الدقيقة كانت تحتاج إلى صاحب ثقة تتمكن أن تودعه مطمئنة مرتاحة .
ومحمد بن عبد الله كان يفتش بدوره أيضاً عمن يدفع له مالاً يتاجر له به. فهو وإن كان فتى قريش الأول ومحط أنظارهم جميعاً ، ولكنه لم يكن ليستغني عما
المرأة مع النبي ( ص ) في حياته وشريعته
ـ 22 ـ
يحتاج إليه غيره من رجال قريش. ويسمع كما يسمع غيره أن خديجة بنت خويلد تفتش عمن يتاجر لها بمالها فيتقدم إليها عارضاً عليها استعداده للقيام بهذه المهمة .
وخديجة بنت خويلد تلاقي عرضه بالقبول بل بالرضاء ، والاطمئنان فهي تعرف محمد بن عبد الله وتعرف عنه الكثير أيضاً ، ولم يكن في مكة من لا يعرف محمداً الصادق الأمين .
فخديجة راضية لهذه الشركة ومتفائلة بها خيراً وتدفع له أموالها ، وهي واثقة من أنها قد سلمتها ليد أمينة حريصة على أداء الأمانة ، ولذلك فقد أخلدت إلى راحة نفسية عميقة وظلت تنتظر رجوع محمد بن عبد الله وغلامها ميسرة الذي أرسلته مع محمد ، ورجع محمد ورجع معه ميسرة .
وكان صلوات الله عليه يحمل لها معه الربح الزاكي الوفير وتخلد خديجة بنت خويلد إلى غلامها ميسرة تسأله عمن رافق في السفر وتحلف عليه أن يشرح لها كل ما وجده منه وما رآه عليه ، وهي على شبه يقين من أن غلامها سيقص عليها من أمر رفيقه عجباً ، وغلامها مندفع يعدد لها مناقب محمد ، ويصف لها حركاته وسكناته والإعجاز في
المرأة مع النبي ( ص ) في حياته وشريعته
ـ 23 ـ
سلوكه ، وأسلوبه وكل شيء فيه ، وهي منصتة له بقلبها وفكرها وبكل جارحة فيها تستزيده ولا تنكر من حديثه شيئاً ، ولا تستغرب منه خبراً ، فهي قد عرفت أن محمداً بن عبد الله رجل لا كالرجال وقد سمعت عنه ما جعلها على يقين من أن له في مستقبله شأناً سماوياً .
وخديجة في ذلك الحين امرأة في نهاية العقد الرابع من عمرها ، وكانت قد تزوجت ومات عنها زوجها ، وهي في ريعان الشباب.
خديجة بنت خويلد ـ وقد أثرت عليها شخصية محمد بن عبد الله ، واستولت على أفكارها وأمانيها روحه السامية بكل ما فيها من معاني الكمال ـ تود من صميم قلبها أن تقرن به حياتها الثمينة ، وأن تكون له كأروع ما تكون الزوجة الوفية المخلصة.
نعم خديجة بنت خويلد الغنية بمالها وجمالها وعزها ، ومجدها تبعث الى محمد بن عبد الله الصادق الأمين وتطلب اليه الزواج حباً في شخصه ، وتفانياً في روحه ونفسه .
وقد كان صلوات الله عليه في ذلك الحين شاباً في
المرأة مع النبي ( ص ) في حياته وشريعته
ـ 24 ـ
أواسّط العقد الثالث من عمره المبارك وهو يتمتع بكل معاني الكمال من الجمال والعزة والكرامة وسمو المكانة وعلو الرتبة وقوة الشخصية وقد كان يتمكن بسهولة أن يخطب له أي فتاة من فتيات قريش مهما علت بشأنها وجمالها .
فهو منار شباب قريش والمقدم عليهم في كل مضمار ، ولكنه بدافع خفي وجد نفسه يندفع الى خديجة بنت خويلد السيدة التي تكبره بخمسة عشر سنة متجرداً عن العواطف الشهوانية ، والأهواء المادية مترفعاً عن كل ما يصبو إليه غيره من متعة جسدية ، وغايات رخيصة .
فهو كان يرى في الزواج شركة روحية مقدسة لا تطغو عليها المادة ولا تتحكم فيها النزعات الحيوانية .
فالزواج في نظر الرسول الأعظم امتزاج روحين ، ووحدة هدف ، وغاية وتعانق قلبين طاهرين قبل أن يكون صلة جسدية .
ومن أجدر من خديجة بنت خويلد بأن تحتل في قلب محمد وفي حياته مكان الصدارة ، وفعلاً فقد دخلت خديجة في حياة رجلها الخالد كإمرأة رابعة ، ولكنها لم
المرأة مع النبي ( ص ) في حياته وشريعته
ـ 25 ـ
تدخل في حياته وهو محمد بن عبد الله فحسب ، بل وهو رسول الله وخاتم أنبيائه أيضاً.
وهكذا كانا مفترقين ثمّ جمعهما القدر السماوي دون أن يشعرا ليضم ثروة خديجة إلى دعوة محمد، وما أحوج الدعوة إلى رصيد تسلك به الطريق ، وقد وجد كل منهما ضالته المنشودة في قرينه وصفيه ، فخديجة بنت خويلد ربيبة الترف والدلال والمتقلبة في أحضان النعمة والثراء ، تفنى في رجلها الحبيب الفقير وتتعرف في كل لحظة على معنى من معانيه ، يزيدها فناءً فيه ويحبّب إليها ذلك الفناء.
ومحمد بن عبد الله أحسن رجال قريش شكلاً وأعرقهم أصلاً وأصدقهم لساناً وأقواهم جناناً وأذيعهم صيتاً وأعلاهم درجةً وهو في الخامسة والعشرين من عمره الشريف يخلص لزوجته الوفية خديجة وهي في الأربعين من عمرها المبارك ، يخلص لها خلوص الزوج الواثق ويركن الى حنانها وعطفها ركون الإبن إلى أمه.
وخديجة هي رابعة امرأة دخلت في حياته صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن أتراه كان نسي النساء الثلاث اللاتي تقدمنها ...