ويزعم الحقوقيون الرأسماليون ان السبب في ليونة العقوبة الصادرة بحق الجناة من افراد الطبقة الرأسمالية يعود الى ان الجاني الرأسمالي يعاني خلال فترة محاكمته من تأثير العقوبة المعنوية بحقه والمتمثلة بالأساءة الى منزلته الاجتماعية ، وهي بحد ذاتها عقوبة رادعة ، اما الفقير المنحرف فهو يستحق عقوبة جسدية اشد ، لانه لم يخسر موقعه الاجتماعي المفقود اصلاً خلال ادوار المحاكمة ، وهدا الرأي بعيد عن العدالة القضائية ، كما ترى ، لان العقوبة في الجنايات ينبغي ان تتناسب مع حجم الجناية التي نزلت بالمجني عليه ، بغض النظر عن كون الجاني ثرياً او قوياً في الحكم والسياسة والمنزلة الاجتماعية .
  اما درجة الانحراف فهي لا شك تلعب دوراً مهماً في شدة العقوبة الصادرة بحق الجاني فعقوبة سرقة مادة غذائية من حانوت مثلاً ، تختلف عن عقوبة سرقة مجوهرات من مصرف من المصارف التجارية ، وعقوبة القاتل تختلف عن عقوبة المعتدي ضرباً ، ومع ان هذا التمييز واضح في انشاء العقوبة الا ان هناك هفوات في النظام القضائي الرأسمالي ، فقد يتفق ان يقتل المعتدي فردا ، فيعاقب ذلك الجاني بالسجن في بعض الحالات ، وبالقتل قصاصا في حالات اخرى ، بدون وجود مبرر واضح يبرر منشأ الاختلاف في الاحكام الجنائية ، فاين العدالة في تطبيق احكام هدا النظام الجنائي ؟ وقد يعاقب مجرم لقتل فرد واحد بعقوبة السجن ، ويعاقب مجرم آخر لسرقة وتعذيب وقتل فرد آخر لنفس الفترة من السجن مع ان الجريمتين تختلفان في طبيعة ونوع الانحراف ، فاين العدالة القضائية في هذا النظام ؟

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 31 ـ

نظام العقوبات في المؤسسة الراسمالية :
  ولا شك ان اسلوب العقوبات في اي نظام قضائي يهدف بالدرجة الاولى اصلاح المنحرفين ، وارجاعهم الى الابحار والانسياب في حركة المجرى الاجتماعي العام ، وتعليمهم احترام القانون الذي وضعه لهم العقلاء في النظام الاجتماعي لحماية الافراد كلياً من آثار الانحراف .
  وعلى ضوء ذلك فان للنظام الاجتماعي ومؤسساته ، الحق في اتخاذ مختلف التدابير لمعاقبة المنحرفين وردعهم ، ولكي تعالج الانحراف ، فان الدولة ونظامها القضائي والقانوني ينبغي ان تلاحظ اموراً في تعاملها مع مشكلة الجريمة منها ، اولاً : فرض القيود على حرية المنحرف عن طريق السجن ، او العلاج الطبي ، او خدمة مؤسسات الادارة المحلية ، ثانياً : تعويض الضحية او من يتعلق بها مالياً ، ثالثاً : التأهيل الاجتماعي للمنحرف وارجاعه الى المجرى الاجتماعي العام عن طريق التربية والتعليم والتدريب المهني ، بأمل ابعاده في النهاية عن الانحراف ، رابعاً : ردع الاخرين عن الانحراف ، عن طريق تأديب المنحرفين وجعلهم عبرة لمن يعتبر .
  ولا ريب ان العقوبات التي يفرضها النظام الرأسمالي اليوم ، حسب ادعاء النظرية الرأسمالية ، تعتبر اكثر تحضراً من تلك التي فرضها النظام الاجتماعي قبل ظهور الثورة الصناعية ، فقد كان المنحرف يتعرض علنا للاعدام او التعذيب او النفي ، اما اليوم ، فان النظام القضائي الرأسمالي يمنح المنحرفين فرصة حقيقية للرجوع الى المنحى العقلائي الذي يقره الافراد في المجتمع الكبير ، ولكن هذا الزعم تدحضه التجربة العملية التي تعيشها

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 32 ـ

  الراسمالية ، فبعد مائتي سنة من التجربة القضائية الرأسمالية يواجه المجتمع الرأسمالي اسوأ مشاكله الاجتماعية المتعلقة بنظام العقوبات ، فثلاثة ارباع المنحرفين الذين يطلق سراحهم من السجون بعد قضاء مدد عقوباتهم يعتقلون مرة اخرى لارتكابهم جرائم جديدة مشابهة لجرائمهم الاولى ، ويحتمل ان الربع الاخير من هؤلاء يرتكب جرائم جديدة ولكنه يفلت من العقوبة لسبب من الاسباب .
  وهذا يبين لنا فشل نظام العقوبات الرأسمالي وفشل نظام السجون بالخصوص ، فلو كانت السجون مدارس لتهذيب المنحرفين كما يزعم المقننون للنظام القضائي الرأسمالي لما عاد ثلاثة ارباع المنحرفين الى سابق عهدهم من الاجرام ، فاين موقع السجون في عملية اصلاح وتغيير وتأديب شخصية المنحرف ؟ واين موقع العدالة الاجتماعية في نظام العقوبات ؟ اليس الاولى للنظام دراسة منشأ الانحراف لمعالجة اصل المشكلة الاجرامية ؟ اوليس الاجدى بالنظام الرأسمالي سد حاجات الافراد الفقراء واشباعها ، خصوصاً اذا كان الانحراف ناشئاً من عدم اشباع تلك الحاجات ؟
  ونضيف ملاحظة اخرى الى فشل نظام السجون في تهذيب الانحراف ، فالسجن في نظام العقوبات الرأسمالي جهاز تخدير وليس جهاز تأديب ، حيث يواجه السجين خلال قضائه مدة العقوبة نظاماً تنفيذياً يصهر بموجبه المنحرف مع بقية المنحرفين ، ويقطعه عن الاختلاط بافراد المجتمع من ذوي السلوك السليم ، وهذا بدوره يشجع المنحرف على الانحراف اكثر مما يشجعه على سلوك منهج الاصلاح والتأهيل .
  ولما كانت فكرة السجون ، هدفاً ووسيلة ، قد اثبتت فشلها في نظام

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 33 ـ

  العقوبات الامريكي ، فقد مال رأي القضاة واعضاء جهاز المحاكم في العقود الاخيرة ، الى استحسان فكرة تعليق العقوبة الصادرة بحق الجاني ، شرط ان يجد له عملاً يرتزق منه ، وان لا يرتكب جريمة جديدة خلال فترة تعليق الحكم ، وقد قوبلت هذه الفكرة بالتأييد من قبل السلطة القضائية الى درجة ان المنحرفين المعاقبين بتعليق الحكم اليوم ، يشكلون خمسة اضعاف عدد المنحرفين المعاقبين بالسجن ، وعقوبة التعليق فاشلة ايضاً ، لان الجاني المدان بتعليق العقوبة ، اذا ارتكب جريمة جديدة ، عوقب مرة أخرى بالسجن ، الذي لاحظنا فشله في تأديب المنحرف وتهذيبه .

( الجريمة ) في نظرية الصراع الاجتماعي :
  ولا شك ان نظرية الصراع الاجتماعي تؤمن بان الانحراف نتيجة منطقية لصراع المصالح الاجتماعية ، فالطرف المنتصر في عملية الصراع الاجتماعي يفرض قوانينه وانظمته على الطرف الخاسر ، ويضفي عليها صبغة الزامية فتصبح عندئذ عرفاً قانونياً للنظام الاجتماعي ، وكل ما يخالف ذلك العرف يصبح انحرافاً ، بمعنى ان النظام السياسي الحاكم يساعد الاقوياء على حساب الضعفاء ، والحكام على المحكومين ، والاغنياء على الفقراء ، ولذلك فان الانحراف في رأي النظرية الماركسية ، سلوك طبيعي هدفه تهديد النظام السياسي القائم ضمن اطار الصراع الاجتماعي ، ومثال ذلك ان القانون الذي شرعه الحقوقيون والسياسيون في بداية نشوء الولايات المتحدة الامريكية كدولة ، كان يحرم مواطني البلاد الاصليين من الهنود حق امتلاك الاراضي ، فكان تملك الارض من قبل الهنود الاصليين يعتبر ، رسمياً ، انحرافا وجريمة يعاقب عليها القانون ، لان الطرف المنتصر في عملية الصراع الاجتماعي في

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 34 ـ

  ذلك الوقت كان يمثل المستوطنين البيض ، ومثل آخر ان النظام الراسمالي الارونبي والامريكي اقر نظام الرق في القرن الثامن عشر ، وقانون الرق يقر استعباد الاقوياء للافراد المستضعفين على اساس الجنس واللون ، فيحقق ضمن ذلك القانون استعباد الجنس الاسود من قبل الجنس الابيض ، فكانت حرية العبيد انحرافاً واجراماً بحق النظام الاجتماعي الرأسمالي السائد في القرن التاسع عشر ، وفي العشرينات والثلاثينات من هذا القرن كان تشكيل اتحادات العمال المهنية في النظام الرأسمالي الامريكي جريمة يعاقب عليها القانون ، لان النظام كان لا يسمح باجازة التنظيمات العمالية والاضرابات النقابية .
  وعلى ضوء ذلك ، ترى نظرية الصراع الاجتماعي ان نشوء الجريمة في المجتمع امر حتمي ، لان القوانين القضائية والسياسية تعكس مصالح الطبقة الغنية القوية المتحكمة بالفقراء والمستضعفين ، فسرقة مصرف من المصارف التجارية تتربت عليه عقوبة شديدة بحق السارقين ، لان الاموال التي تسرق تعتبر جزءاً من اموال الطبقة الغنية .
  ولكن سرقة حقوق العمال عن طريق حرمانهم من الضمان الصحي مثلاً يعتبر في نظر النظام الرأسمالي انحرافاً جزئياً يستحق مرتكبوه عقوبات مخففة لانه انحراف لا يمس امتيازات الطبقة المتحكمة ، ولتوضيح ذلك ، يعرض مناصروا نظرية الصراع المعاصرون ، احصائية نشرت في منتصف الثمانينات تشير الى ان جرائم التحايل على دفع الضريبة من قبل الافراد الراسماليين في الولايات المتحدة شملت مبلغاً قدره مائتي بليون دولار سنوياً ، ولكن لم يعتقل من هؤلاء المجرمين الـ 1800 فرد فقط ، بينما وصل عدد الافراد الذين اعتقلوا خلال نفس الفترة ،

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 35 ـ

  لارتكابهم جرائم اقل درجة وقيمة ( تقدر بعشرة بلايين دولار ) ، حوالي مليون وربع مليون فرد ، فاين العدالة بين الافراد في معاقبة الانحرافات والجرائم المالية ؟ فسرقة مائتي بليون دولار تستدعي اعتقال 1800 فرد ، وسرقة عشرة بلايين دولار تستدعي اعتقال مليون وربع المليون فردا والنسبة بين المعتقلين من الطبقتين كما ترى ، والمبالغ المسروقة لا تتناسب تناسباً عقلائياً مع ابسط قواعد العدالة الاجتماعية ، والخلاصة ان الاغنياء المتحكمين بعنق النظام يسرقون نسبة هائلة من المال المتداول اجتماعياً ولا يعاقبون عليها لان سلوكهم هذا لا يعد انحرافاً ، اما السرقات التي يقوم بها الفقراء فهي جرائم يستحق مرتكبوها اقصى العقوبات ! والسبب في كل ذلك ان الطبقة القوية هي التي تصمم النظام القضائي وتضع القوانين السياسية ، وهي التي تضع التعريف الاجتماعي لفكرة الانحراف .
  ولذلك فان الجرائم السياسية التي يرتكبها الافراد ، حسب ادعاء نظرية الصراع ، كالتخريب ، والتجسس لصالح العدو ، والثورة على النظام القائم ، نتائج حتمية لصراع المصالح الاجتماعية ، وامثلة حية على صدق مقولتها بان القوانين الاجتماعية مصممة لخدمة الطبقة الرأسمالية ، ولكن طبيعة الصراع يغير الموازين السياسية ، فانحراف اليوم ربما يصبح عرف الغد ، والمتمرد على النظام في الزمن الحاضر قد يصبح قائداً لنظام جديد ، مستقبلاً ، والمخرب اليوم قد يصبح بطلاً قومياً عندما تنتصر قضيته التي ناضل من اجلها .

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 36 ـ

نقد مفهوم ( الجريمة ) في نظرية الصراع :
  ان زعم نظرية الصراع الاجتماعي بان الجريمة نتيجة حتمية لصراع المصالح الاجتماعية لا يمثل الفهم الشامل لمفهوم ( الجريمة ) في نظام الاجتماعي ، فليست جرائم المجتمع الانساني بكافة الوانها واشكالها ناتجة من صراع المصالح الاجتماعية ، وليست الجرائم التي يشهدها المجتمع الرأسمالي ، كلياً ناتجة من تحكم الطبقة الرأسمالية ، نعم ان مصدر العديد من الجنايات في نظام الرأسمالي الغربي عموماً ، والامريكي خصوصا ، هو ظلم الطبقة الرأسمالية وجشعها ، كما ذكرنا ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب ، ولكن الواقع يشهد بان هناك العديد من الجنايات والجرائم التي يرجع ببها الى دوافع ومناشيء اخرى ، غير الصراع الاجتماعي ، ومنها :
  الاختلافات العائلية ، والاختلالات العقلية ، والدوافع الشهوية المحضة ، ومع اننا لا نقلل من قوة حجة نظرية الصراع الاجتماعي في تحليل اسباب نشوء الجريمة ، الا ان مفهومها عن الانحراف لا ينهض الى مستوى الشمول في فهم نشوء الجريمة في المجتمع الانساني ، ولو كانت نظرية الصراع الاجتماعي دقيقة في تحليلها لتمثل لنا اختفاء الجريمة والانحراف من المجتمع الشيوعي اختفاءا تاماً ، ولكن هذا التحليل يكذبه الواقع العملي ، فمناهضة النظام السياسي في المجتمع الماركسي يعتبر انحرافاً يستحق مرتكبه اقصى العقوبات ، والغصب يعتبر انحرافا يعاقب عليه القانون ، فكيف تفسر نظرية الصراع الاجتماعي وجود هذه الانحرافات في مجتع يفرض ان يكون نظيفاً من العناصر الرأسمالية ؟

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 37 ـ

( عقوبة الموت ) في النظام الرأسمالي :
  وتنفرد الولايات المتحدة من بين الدول الرأسمالية بتطبيق القصاص او عقوبة الموت ضد المنحرفين الذين ادينوا عن طريق المحاكم الجنائية ، بارتكاب جرائم قتل ، وفكرة ( عقوبة الموت ) تتناقض مع فكرة الحرية الشخصية التي نادت بها النظرية الرأسمالية ، لان الجناية مهما عظمت ، حسب زعمها ، لا تستحق الغاء حياة الجاني من الوجود ، وعلى ضوء ذلك ، فان ( عقوبة الموت ) عقوبة انتقامية وليست ردعية ، ويدل على ذلك ، ان تلك العقوبة النازلة بالمنحرفين لم تردعهم بالكف عن انحرافهم !
  ولكن هنا يبرز سؤال مهم ، وهو اذا كانت عقوبة الموت انتقامية ، فلماذا يأخذ بها النظام القضائي الامريكي خلافا لفكرة الحرية الشخصية والمذهب الفردي ؟ يجيب النظام ، بان عقوبة الموت ضرورية ، لان فكرة الحرية الشخصية يجب ان ترسم لها الحدود وتوضع لها الضوابط ، اذا تعلق الامر بالانحراف الاجتماعي ، ويرد على هذا الرأي ، بان تحديد الحرية في جريمة معينة ، يستلزم تحديدها في بقية الجرائم ايضاً ، كالجرائم الاخلاقية مثلاً .
  هنا تتوقف النظرية الرأسمالية عن الرد باعتبار ان منهج الفرد الاخلاقي يندرج تحت عنوان الحريات الشخصية ! ويبقى سؤال آخر مطروح دون جواب ايضاً وهو من الذي يحدد ضوابط الانحراف وما يترتب عليه من عقوبة تصل حد الموت ؟ ومن الذي يضع الحدود بين الردع والانتقام ؟
  وبالاجمال ، فان اقرار النظام القضائي الرأسمالي بشرعيه ( عقوبة الموت ) يناقض ادعاءاته القائلة ، بتخلف عقوبة القصاص في الاسلام عن

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 38 ـ

  المنهج الحضاري ، فاذا كانت ( عقوبة الموت ) لا تتماشى مع المنهج الحضاري ، فلماذا ينفذها النظام بحق المنحرفين على ارضه ؟ واذا كانت ( عقوبة الموت ) افضل واقصر الطرق ، بنظره ، لبتر الجريمة الاحترافية ، فلماذا لا يقر باسبقيه الاسلام في تشريعها وتنفيذها ؟

الاضطراب العقلي :
  ولابد في ادراك ابعاد الانحراف ، من فهم الاضطراب العقلي باعتباره عجزاً في قابلية الفرد على التمييز بين الحقيقة والخيال ، فالمضطرب عقلياً ينتهك العرف الاجتماعي من خلال تصرفاته التي يختلط فيها الوهم بالحقيقة ، والسراب بالواقع ، والخوف بالامان ، والافكار المجزئة التي لا يجمعها رابط بالافكار الطبيعية المتصل بعضها بالاخر .
  ولذلك فان اكثر الاضطرابات العقلية انتشاراً هي الاضطرابات الناشئة عن انفصام شخصية الفرد مع الحقيقة والواقع الخارجي ، ويربط علماء الطب هذ الاضطرابات باختلال الهرمونات في الجسم الانساني وما يصاحبه من اضطرابات نفسية وتفاعلات عاطفية تنتهي بالانسان الى فهم الواقع فهماً مغايراً لفهم بقية الافراد ، ومنهم من يعتبر الاضطراب العقلي او الجنون وسيلة ناقصة لدى الفرد للتعامل مع العالم الخارجي ، فالمضطربون عقلياً يفشلون في التعامل مع اجواء المجتمع المحيطة بهم ، فيلجأون في النهاية الى التعامل مع انفسم وندبها على عدم فهم الواقع ، فتراهم يتحدثون معها على مرآى من الملأ ويضحكون ويتبسمون لطرائف لم يلتفت اليها الآخرون ، وهم بذلك يحيدون عن العرف الاجتماعي فيوصمون بالجنون .
  وقد شجع هذا التحليل ، السلطات السياسية في النظام الماركسي في

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 39 ـ

  منتصف القرن العشرين على وصم معارضي النظام بالاضطراب العقلي ، حيث يتم ادخالهم المستشفيات بدل السجون ، لان عقوبة السجن تعني اعتراف النظام بجريمة سياسية ارتكبها المتهم وليست اضطراباً عقلياً ، فالذي يلتزم بالافكار الدينية مثلاً يعتبر ، حسب الفكرة الماركسية ، فرداً مضطرباً من الناحية العقلية لان الدين يهدد النظام السياسي .
  والذي ينتقد فلسفة النظام يعتبر فرداً مضطرباً لانه لم يصل الى درجة هضم الآراء الفلسفية الخاصة التي صممها فلاسفة النظام ، والذي يدعو الى حرية التعبير يعتبر فرداً مضطربا من الناحية العقلية لان حرية التعبير ليست الا شكلاً من اشكال السراب السياسي الخادع ! ولكن الواقع الموضوعي ، يدعو دعاة النظام الماركسي للاعتراف بان كل هذه الحالات الفردية ليست اضطرابا عقليا ، انما وضع الفاظها وصفاتها واعراضها النظام الحاكم ، فحرية التعبير في مجتمع آخر غير المجتمع الماركسي مثلاً قضية يدعو لها العقل ، وكذلك الالتزام بالعقائد الدينية ، فهي قضية شخصية واجتماعية يحترمها النظام والقانون ، ولذلك ، فان ربط الاضطراب العقلي بالجرائم السياسية محاولة ذكية لخدمة النظام السياسي ، بسحق المعارضة واخماد صوتها .
  ولا يمنا في هذه الدراسة ، ارتباط الجنون بالانحراف ، فهذا امر متفق عليه بين علماء الطب والاجرام ، وانما الذي يهمنا هو منشأ الجنون والاضطراب العقلي في النظام الاجتماعي ، ولا شك ان الفقر والحاجة الانسانية من اهم عوامل نشوء الاضطراب العقلي ، خصوصا في النظام الرأسمالي ، فالفقر ليس حاجة مادية فحسب ، بل حاجة نفسية ايضاً لانه يمس كرامة الانسان ، ويحط من قدره ، ويشعره

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 40 ـ

  بظلم النظام الاجتماعي ، وهذه العوامل ، مجتمعة ، تساهم في رسم شكل الانحراف وتحدد مسيرته .
  ولا شك ان من مصلحة النظام الرأسمالي ، وصم الفقراء بالاضطرابات العقلية ، لان في ذلك عزل لهم عن الساحة السياسية ، وبالتالي حرمانهم من الخيرات الاقتصادية التي ينبغي ان ينعم بها افراد المجتمع كليا بغض النظر ن انتماءاتهم الطبقية ، فالمضطرب عقليا ، لا يستطيع المساهمة في قيادة المجتمع السياسية والاجتماعية ، وهذا الابعاد المقصود للفقراء عن الساحة السياسية ، يعطي الطبقة الرأسمالية فرصة عظيمة في السيطرة على شؤون النظام الاجتماعي وكسر المعارضة السياسية الحقيقية .

القسم الثاني
الانحراف الاجتماعي ومعالجته على ضوء
النظرية الاسلامية

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 41 ـ

  النظرية الاسلامية لتفسير ومعالجة ظاهرة الانحراف * ( السجن ) في النظرية الاسلامية * الانحراف ومعالجته على ضوء الاسلام :
  1 ـ جرائم الاعتداء على النفس وما دونها * القصاص :
  أ ـ قصاص النفس ، اولاً : شروط قصاص النفس ، ثانياً : الاثبات .
  ب ـ قصاص ما دون النفس * الديات :
  أ ـ ديات النفس ، موجبات ضمان دية النفس .
  ب : ديات الاعظاء .
  ج ـ ديات المنافع .
  د ـ ديات الشجاج .
  هـ ـ دية اسقاط الجنين * العاقلة * كفارة القتل * الدفاع عن النفس * الاستنتاج *
  2 ـ جرائم ضد الملكية : احكام اليد * الغصب * موجبات ضمان الغصب * مسؤولية الغاصب * المقاصة * السرة وشروط الحد :
  أ ـ الشروط .
  ب ـ طرق الاثبات
  ج ـ طريقة القطع * الجناية على الحيوان * الاستنتاج *
  3 ـ الجرائم الخلقية * الزنا وشروط الحد :
  أ ـ شروط الحد .
  ب ـ طرق الاثبات
  ج ـ صورة الرجم والجلد .
  د ـ في بعض موارد الزنا * اللواط والسحق والقيادة :
  أ ـ اللواط ، اولاً : حد اللواط . ثانياً : طرق الاثبات .
  ب ـ السحق ، اولاً : حد السحق . ثانياً : طرق الاثبات .
  ج ـ القيادة * القذف :
  أ ـ حد القذف .
  ب ـ طرق الاثبات .
  ج ـ مسقطات الحد * المسكر :
  أ ـ حد المسكر .
  ب ـ طرق الاثبات * الاستنتاج *
  4 ـ جرائم ضد النظام الاجتماعي :
  أ ـ المحاربة .
  ب ـ الاحتكار .
  ج ـ ظلم الحاكم * الاستنتاج * الاسلام والتأثيرات الاجتماعية للانحراف .

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 43 ـ

النظرية الاسلامية لتفسير ظاهرة الانحراف :
  لا تقتصر النظرية الاسلامية على تحليل اسباب ودوافع الاجرام فحسب ، بل تقدم علاجاً لمشكلة الانحراف في المجتمع الانساني ، يختلف اختلافاً جوهرياً عن العلاجات التي قدمتها النظريات الغربية الاربع التي ذكرناها سابقاً ، فنظرية ( الانتقال الانحرافي ) تفشل في معالجة الانحراف بسبب ايمانها بان الانحراف ليس الا ظاهرة اجتماعية طبيعية يصعب ضبطها والسيطرة عليها ، ونظرية ( القهر الاجتماعي ) تفشل هي الاخرى في معالجة اسباب الانحراف لانها تعزيه الى انعدام العدالة الاجتماعي دون ان تقدم علاجاً واضحاً يضمن من خلاله انشاء مجتمع نظيف ، قائم على اساس احترام الانسان ، واستثمار العلاقات الانسانية بشكل ايجابي في منع الانحراف ، ولا شك ان تجاهل هذه النظريات لانحرافات الطبقة الغنية في النظام الاجتماعي يجعهلها أكثر بعداً عن تحليل الواقع الاجتماعي العملي ، حتى ان علاقة الرحم والقرابة والمعتقد والانغماس الاجتماعي التي نادت بها نظرية ( البضبط الاحتماعي ) من اجل ردع الانحراف وضبط المنحرفين لم يؤد ثماره المرجوة ، لقصور النظام الجنائي الرأسمالي وعدم احاطته بدقائق النفس الانسانية .
  واخيراً فشلت نظرية ( الالصاق الاجتماعي ) في تفسير ظاهرة الانحراف المستور الذي يتحقق دون الصاق تهمة معينة بالمنحرف .
  وربما يعزى نجاح النظرية الاسلامية في تحليلها ومعالجتها لظاهرة الانحراف الاجتماعي الى اربعة اسباب رئيسية ، لم تلتفت اليها النظريات الغربية الأربع ، وهي ، الاول :
  العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي جاء بها

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 44 ـ

  الاسلام وحاول نشرها بين الافراد ، الثاني : العقوبة الصارمة ضد المنحرفين كالقصاص والدية والتعزير ، الثالث : المساواة التامة بين جميع الافراد امام القضاء والشريعة في قضايا العقوبة والتأديب والتعويض .
  الرابع : المشاركة الجماعية في دفع ثمن الجريمة والانحراف ، كالزام عاقلة المنحرف دفع دية القتيل عن طريق الخطأ ، ودفع دية القتيل الذي لا يعرف قاتله من بيت المال .
  فعلى الصعيد الاول : نادى الاسلام بالعدالة الاجتماعية واعتبرها الاساس في بناء المجتمع السليم من الانحرافات الشخصية ، القائمة على الاساس الاقتصادي او السياسي ، كالغصب والسرقة والاعتداء على حقوق الآخرين ، ووضع طرقاً عديدة ، ذكرت سابقاً ، لتضييق التفاوت الحاصل بين الطبقات الاجتماعية ، منها : تقرير ان للفقراء حقاً في اموال الاغنياء ، ومنها : ان على فائض الثروة النقدية والحيوانية والزراعية والمعدنية ضريبة ثابتة تذهب لمنفعة الفقراء وسد حاجاتهم الاساسية ، غير ذلك من المنافع والاسباب التي تمنع الطبقية في المجتمع ولكنها تساعد على انشاء درجات متفاوتة ضمن طبقة واحدة تسودها العدالة الاجتماعية .
  وعلى الصعيد الثاني شرع الاسلام اقصى العقوبات بحق المنحرفين فاوجب القصاص في جرائم القتل والجراح والشجاج ، حيث انزل عقوبة الموت في قتل العمد ، واوجب قصاص ما دون النفس وهو انزال ضرر مماثل تماماً للضرر الذي الحقه الجاني بالمجنى عليه ، واوجب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد ، وقدرها بالف دينار ذهب او نحوها مما قدر من الابل والانعام والبقر والحلل ، وبين الشارع موارد ومقادير ديات الاعضاء والمنافع

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 45 ـ

  والشجاج والجراح واسقاط الجنين عند تواجد الشروط ، واوجب الكفارة في قتل المؤمن عمداً ، وفي قتل الخطأ المحض ، وقتل شبه العمد توبة خالصة لله مع توفر الشروط ، واوجب الدفاع عن النفس حتى لو انجر الى قتل المهاجم ، ولكنه في نفس الوقت ، حرم التعدي مع امكان الدفع ، وفي الغصب اوجب رد المغصوب الى مالكه واوجب ضمان اليد بمعنى ان المغصوب اذا تلف ، فعلى الغاصب دفع بدله ، واجاز التسلط على مال الغاصب لرد قيمته المغصوبة وسماها بالمقاصة ، واوجب قطع اليد في السرقة اذا بلغ النصاب وهو ربع دينار ذهب ، وكان السارق هاتكاً للحرز ومرتكباً سرقته سراً ، واوجب الحدود في الزنا برجم المحصن والمحصنة ، وقتل الزاني بذات محرم والزاني بأمرأة مكرهاً لها ، والجلد والرجم معاً بالشيخ والشيخة الزانين ، واوجب الحد في اللواط وفيه القتل ، وفي السحق مائة جلدة ، وفي القيادة خمس وسبعون جلدة ، وفي القذف ثمانون جلدة ، وفي شرب المسكر ثمانون جلدة .
  وبكلمة ، فقد صنف الاسلام الانحراف الى اربعة اصناف ، وهي .
  اولاً : جرائم الاعتداء على النفس وما دونها وفيها القصاص او الدية مع الشروط .
  ثانياً : جرائم ضد الملكية وفيها القطع ، والمقاصة ، ووجوب رد المغصوب .
  ثالثاً : الجرائم الخلقية ، وفيها الرجم والقتل والجلد .
  رابعاً : جرائم ضد النظام الاجتماعي ، كالمحاربة والاحتكار ونحوها وفيها التعزير او الغرامة ، واوجب في الديات غير المقدرة شرعاً الارش او الحكومة .
  وهذه الاحكام الشرعية هدفها الردع اكثر من الانتقام ، حتى ان القصاص الذي يبدو ظاهراً ، قضية انتقامية يؤدي في الواقع دوراً اساسياً في

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 46 ـ

  ردع الانحراف وتأديب المنحرفين ، فانزال الاذى المماثل بالجاني امضى تأثيراً من عقوبة السجن ، التي يؤمن بها النظام القضائي الرأسمالي ، والسارق الذي تؤدبه الشريعة الاسلامية بقطع يده يعتبر اكثر انتاجاً من السارق الذي يقبع في سجون النظام الرأسمالي سنوات عديدة معطلاً طاقته الانتاجية ومستهلكاً موارد النظام الاجتماعي ، وما ان يخرج الى اجواء الحرية مرة أخرى حتى يرتكب انحرافاً مماثلاً لذلك الذي ادخله السجن اول مرة .
  وعلى الصعيد الثالث ، فان الاسلام نادى بالمساواة بين الافراد في العقوبة والتعويض ، فالسارق مع توفر الشروط يقطع حتى لو كان يشغل اعلى وظيفة سياسية في الدولة ، والزاني مع توفر الشروط يقام عليه الحد كائنا من كان ، ولا يستثنى احد لسبب طبقي او وراثي من اقامة الحدود الشرعية ، وهنا يكمن الفرق بين النظامين التشريعي الاسلامي والقضائي الرأسمالي ، ففي حين يفلت مجرمو الطبقة الرأسمالية من قبضة القضاء باستئجار اقوى المحامين المتمرسين بلوي عنق القانون ، يصون التشريع الاسلامي النظام القاضاي من عبث الاصابع البشرية التي يدفعها الهوى والطموح الشخصي ، وبعد اربعة عشر قرناً من الزمان ، لم يستطع مقنن واحد ، اياً كان مذهبه ، من تغيير حكم الله في قطع السارق او قتل القاتل المتعمد او جلد الزانية والزاني ، ولا شك ان الاسلام لا يقر تشكيل هيئة برلمانية لمحاكمة السراق الاغنياء ، كما يفعل النظام التشريعي الرأسمالي في الولايات المتحدة ، بل ان الحاكم الشرعي ، هو الذي ينفذ حكم الله بجميع المنحرفين ، اغنياء كانوا ام فقراء ، وفي غير الاحكام المقدرة يعاقب القاضي في النظام الاسلامي بالتعزير او الارش ، حيث ان له صلاحية تقدير

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 47 ـ

  العقوبات التي لم تحدد في النصوص الشرعية ، اما الشركات التجارية المدانة من قبل الحاكم الشرعي لاسباب جرمية ، فان اصحابها ، حسب النظام القضائي الاسلامي ، هم المسؤولون عنها شرعاً وهم الذين يتحملون العقوبة كاملة ، على نقيض النظام الرأسمالي الذي يحمل الشركة المدانة بصفتها المؤسسية كل المسؤولية القضائية ، فيفتح الباب لاصحاب الشركات بالافلات من قبضة القانون والعقاب .
  ولا شك ان الافراد جميعاً بمختلف الوانهم وهيئاتهم متساوون امام الشارع الاسلامي ، فالاسود والابيض والاصفر سواسية كالمشط في مثولهم امام الحاكم الشرعي وانزال العقاب بهم ، او تبرئتهم ، بل ان الشارع يعاقب من يميز على اساس اللون ، او يتعدى حدود القصاص ، ويلزمهم بدفع مقدار التعدي ، وعقوبة السرقة مهما كان حجمها بعد بلوغ النصاب وتوفر الشروط ، هي القطع ، على نقيض قانون النظام الرأسمالي الذي يحدد عقوبة سجن اشد في السرقات الكبيرة ، ولكن السجن بمساوئه التي ذكرناها لا يردع المنحرفين ، ولا يضمن السارق في القانون الرأسمالي ما تلف بالسرقة بينما عليه الضمان والرد في التشريع الاسلامي .
  ولابد ان نذكر هنا ، ان النظرية الاسلامية قد ميزت الانحراف بانواعه وطرقه المتعددة ، واعتبرت فيه الاسباب الموجبة ، فاخذت الاضطراب العقلي ، وعدم البلوغ مثلاً بعين الاعتبار في انشاء الحكم على القاتل ، وميزت بين قتل العمد ، وقتل الخطأ ، والقتل الشبيه بالخطأ وافردت لكل واحد منها حكماً خاصاً ، واعطت الشريعة للاحداث والصبيان فرصة لعلاج انحرافهم بدل انزال العقاب بهم ، وهذا نقيض ما يقوم به النظام

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 48 ـ

  القضائي الرأسمالي ، فهو يجرم الاحداث وينزل بهم عقوبة الموت ، ويلصق تهمة الاضطراب بالمنحرفين الاغنياء حتى يفلتوا من قبضة القانون ، وفي الوقت نفسه ، يلصق تهمة الاضطراب العقلي بعقلاء الفقراء حتى يبعدهم عن الساحة السياسية ويبقي افراد الطبقة الرأسمالية في مواقعهم المسيطرة على اطراف النظام الاجتماعي .
  وعلى الصعيد الرابع ، فان الاسلام شجع المشاركة الجماعية في دفع الانحراف بطرق عديدة منها ، اولاً : ان ولي الامر مسؤول شرعاً عن دفع الدية اذا ارتكب من يتولاه انحرافاً يستوجب دفع تلك الغرامة ، ثانياً : ان العلاقة الاسرية التي اكد عليه الاسلام تساهم من خلال التعاون والتآزر على اصلاح الفرد المنحرف في الاسرة .
  ثالثاً : العاقلة ، وهم العصبة من قرابة الاب كالاخوة والاعمام واولادهم ، التي تتحمل دية القتل الخطأ ، ودية الجناية على الاطراف ونحوها ، وقيل في العاقلة ، ان على الغني منهم عشرة قراريط ، اي نصف دينار ، والمدار في كل ذلك من الفرد في المجتمع الاسلامي لا يعيش منعزلاً عن الرابطة الاجتماعية ، فالافراد ملزمون بالتعاون فيما بينهم لدرء الانحراف الاجتماعي ، لان ذلك الانحراف اذا لم يكلفهم نفساً بشرية او اذى يعتد به فانه يكلفهم اموالاً تفرض عليهم في باب العاقلة ، وهم بذلك ملزمون اخلاقياً ، بارشاد واصلاح ذويهم اصلاحاً ينتفع به مجتمعهم الانساني بكافة اطرافه وحدوده المترامية .

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 49 ـ

( السجن ) في النظرية الاسلامية :
  ولا يحمل السجن عقوبة رادعة في النظرية الاسلامية فيما يتعلق بجرائم القتل ولجراح والشجاج والسرقة والزنا واللواط والسحق والقيادة والقذف وشرب المسكر والمحاربة وغيرها ، بل تتعين عقوبة القصاص بالقتل والجروح ، والدية مع تواجد الشروط ، والقطع والتعزير والارش والنفي والجز والكفارة والمقاصة والجلد في غير ذلك ، ومع انه لا يشكل الاساس في نظام العقوبات ، الا ان ( السجن ) في النظام الاسلامي له دور في معالجة بعض انواع الانحرافات الاجتماعية .
  ومنها ان المرأة ( لا تقتل بالردة ، انما تحبس دائماً على تقدير امتناعها من التوبة ، فلو تابت قبل منها ، وان كان ارتدادها عن فطرة عند الاصحاب ) (1) .
  والسارق للمرة الثالثة يحبس مؤبداً بعد أن تقطع يده اليمنى في المرة الاولى ، ورجله اليسرى في المرة الثانية ، وفي حالة اعانة شخص لآخر على قتل ثالث ، يقتل المباشر ويحبس المعين على القتال مؤبداً ، كما ورد في قول الامام جعفر بن محمد (ع) : ( لا يخلد في السجن الا ثلاثة : الذي يمسك على الموت يحفظه حتى يقتل والمرأة المرتدة عن الاسلام ، والسارق بعد قطع اليد والرجل ) (2) .
  وقوله ايضاً (ع) عندما سئل عن رجل امر رجلاً بقتل آخر فقتله ؟ : ( يقتل به الذي قتله ، ويحبس الآمر بقتله في الحبس حتى

**************************************************************
(1) المسالك ج 4 ص 450 .
(2) من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 20 .

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 50 ـ

  يموت ) (1) ، وقد اخذ هذه الروايات الكثير من الفقهاء .
  وعلى صعيد آخر ، وردت روايات اخرى في وجوب حبس الفساق من العلماء ، والجهال من الاطباء ، والمفاليس من الاكرياء وهم المتكاسلون عن العمل ، (2) وكذلك ورد سجن الغاصب ، ومن اكل مال اليتيم ظلماً ، ومن اؤتمن على امانة فذهب بها ، ولو صحت هذه الروايات ، فان هذا اللون من العقوبات يعتبر حبس تعزير وليس حداً من الحدود .
  وكان ( النبي (ص) يحبس في تهمة الدم ستة ايام ، فان جاء اولياء المقتول بثبت والا خلى سبيله ) (3) .
  وورد ايضاً ان علياً (ع) كان يحبس في الدين ، فاذا تبين له حاجة وافلاس خلى سبيله حتى يستفيد مالاً ) (4) .
  ويحبس الكفيل حتى يحضر المكفول ، بمعنى انه اذا تكلف شخص باحضار آخر ، ولم يحضره في الوقت المعين فللمكفول له ان يحبس الكفيل عند الحاكم ، حتى يحضر المكفول ، لان ( الامام الصادق (ع) قال : جيء برجل الى امير المؤمنين علي (ع) قد كفل بنفس رجل فحبسه ، وقال له : اطلب صاحبك ) (5) .
  والظاهرة من مجمل الروايات المذكورة ، ان حد السجن مؤبد في الموارد التي تناولتها الروايات ، ومؤقت في موارد أخرى ، وان التعزير والارش محدد بحكم الحاكم الشرعي ، فالمدار اذن في نظام العقوبات

**************************************************************
(1) الكافي ج 7 ص 285 .
(2) التهذيب ج 6 ص 319 .
(3) التهذيب ج 10 ص 174 .
(4) من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 19 .
(5) الكافي ج 1 ص 357 .

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 51 ـ

  الاسلامي ، ان السجن ليس عقوبة اساسية لردع الافراد عن الانحراف الاجتماعي ، بل انه عقوبة مساندة للعقوبات الاساسية الفورية كالقصاص والحدود والديات والارش على اختلاف انواعها ، وازمان دفعها ، على عكس نظام العقوبات الرأسمالي ، الذي جعل السجن ، المصدر الرئيسي والساحة الحقيقية لمعالجة الانحراف ، ولابد ان يعترف دعاة النظام القضائي الرأسمالي اليوم ، بفشلهم في جعل السجون ساحة العقوبات الاساسية لمعالجة الانحراف وتقويم المنحرفين ، لان ثلاثة ارباع المنحرفين الذين يطلق سراحهم من السجون الرأسمالية بعد اتمام مدد عقوباتهم ، يرتكبون جرائم جديدة ، مساهمين بذلك في هدر الاموال التي صرفت عليهم لتأديبهم في تلك المؤسسات الردعية .
  اما فكرة تعليق العقوبة في نظام العقوبات الرأسمالي ، وهو أن يكون للمنحرف عمل معين يرتزق منه ، شرط ان يتعهد بعدم ارتكابه جريمة أخرى ، فانه يمثل ظلماً للضحية ، وانتصاراً للظالم على المظلوم ، لأن هذا النوع من العقوبات لا يتناسب مع حجم الجناية المرتكبة اولاً ، ولا يمثل ردعاً يعتد به ضد الانحراف ثانياً ، في حين ان الاسلام بنظامه الجنائي لا يقتلع جذور الانحراف والجريمة والفساد فحسب بل يلزم الجاني او عاقلته بتحمل المسؤولية كاملة اذا لم ينفذ القصاص ، واضعاً المجتمع وجهاً لوجه امام مسؤولياته التاريخية في حفظ النظام الاجتماعي وعلاقات افراده الانسانية .

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 52 ـ

الانحراف ومعالجته على ضوء الاسلام :
  ولا شك ان ديناً متكاملاً كالاسلام لابد وان يطرح للانسانية المعذبة نظاماً يعالج فيه مختلف زوايا الانحراف ويحلل من خلاله ، بكل دقة دوافع الجريمة في المجتمع الانساني ، ويشرع على ضوء ذلك احكاماً صارمة لقلع منشأ الانحراف من جذوره الغائرة في عمق النفس البشرية ، وهو بذلك يتميز عن كل الانظمة الموجودة على الساحة الاجتماعية بشموليته ودقته وعدالته وتكامله في معالجة الجريمة معالجة حقيقية ، فمن أجل مكافحة الجريمة فقد قسم النظام الاسلامي العقوبات الى قسمين هما العقوبات الادبية والعقوبات المادية ، فالعقوبات الادبية تشمل جانبين .
  الاول : الحدود ، وهي العقوبات المقدرة في الكتاب والسنة ، بمعنى ان الشارع لم يسمح للقاضي الشرعي التصرف في امر تقديرها ، كالقصاص في جرائم القتل ، والقطع والجرح ، وعقوبات الزنا ، واللواط ، والسحاق ، والقيادة ، والقذف ، والسرقة ، والسكر ، والارتداد ، وقطع الطريق .
  والثاني : التعزيرات وهي العقوبات التي فوض امر تقديرها وتحديدها لنظر الحاكم الشرعي ، فيعاقب عليها بما يراه مناسباً كعقوبة الكبائر غير المقدرة ، كتجارة المخدرات مثلاً ، وعقوبات التزوير والغيبة ونحوها .
  والعقوبات المادية ، وهي الديات ، او المال الواجب دفعه بسبب الجناية على النفس او دونها ، وتشمل جانبين ايضاً وهما ، اولاً : الديات المقدرة على لسان الشارع ، كدية النفس والاعظاء ، ثانياً : الديات التي فوض امر تقديرها الى الحكومة ، او الخبراء الموثوق بهم .

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 53 ـ

  وبطبيعة الحال ، فان الانحرافات التي فصلتها الشريعة واوجبت فيها العقوبات الادبية والمادية ، تأخذ مجريين شرعيين ، الاول : ما يستدعي ارتكابها التعدي على حقوق الله سبحانه وتعالى ، وهي الزنا واللواط وشرب المسكر ، لانها تعد مخالفة لامر الله ، ولا يجوز العفو فيها بعد قيام البينة وثبوت الحد ، والثاني : ما يستدعي ارتكابها التعدي على حقوق الله وحقوق الفرد معاً ، كالقذف والسرقة والقتل ، لأن فيها جهة شخصية متضررة ، فيتوقف اقامة الحد على المطالبة من المتضرر او من يرثه ، ويجوز للحاكم الشرعي اقامة الحد فيما يتعلق بحقوق الله ، بمجرد علمه ، ولكنه لا يستطيع القيام بذلك فيما يتعلق بحقوق الناس كالسرقة والقذف .
  ويمكننا تصنيف الانحرافات التي يتعامل معها الاسلام ويقدم لها علاجه الشرعي الناجع ، باربعة اصناف :
  1 ـ جرائم الاعتداء على النفس وما دونها .
  2 ـ جرائم ضد الملكية .
  3 ـ الجرائم الخلقية .
  4 ـ جرائم ضد النظام الاجتماعي العام .

1 ـ جرائم الاعتداء على النفس وما دونها
  وهي جرائم القتل والجراح والشجاج واسقاط الجنين ، وقد اوجب فيها الاسلام القصاص ، او دفع الدية ، واوجب كفارة القتل في مواضع معينة ، واباح للمعتدى عليه الدفاع عن نفسه في كل الاحوال .

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 54 ـ

القصاص :
  وهو من العقوبات المنصوص عليها في الكتاب والسنة بحق الجاني ، واصل الكلمة ، اقتفاء الاثر كما ورد في قوله تعالى : ( وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ... ) (1) ، فـ ( القص اتباع الاثر ومنه القصص في الحديث لانه يتبع فيه الثاني الاول ، والقصاص اتباع الجاني في الاخذ بمثل جنايته في النفس ) (2) .
  بمعنى ان ( القصاص الشرعي ) اسم لاستفياء الانسان ممن اعتدى عليه بمثل ما اعتدى من قطع او جرح او قتل ، ويسمى ايضاً بالقود ، فيقال : اقاد القتيل بالقتيل ، اي قتله به .
  ووردت في القصاص آيات قرآنية شريفة عديدة ، منها قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ) (3) ، وقوله تعالى : ( وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (4) ، وقوله تعالى : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا واصلح فاجره على الله ) (5) ، وقوله : ( وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ

**************************************************************
(1) القصص : 11 .
(2) مجمع البيان ج 20 ص 270 .
(3) البقرة : 178 .
(4) المائدة : 45 .
(5) الشورى : 40 .

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 55 ـ

كان منصوراً ) (1) ، وقوله : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ) (2) ، وقوله : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (3) .
  وقول الرسول (ص) : ( لو اجتمعت ربيعة ومضر على قتل رجل مسلم قيدوا به ) (4) .

أ ـ قصاص النفس :
  ويختص القصاص بقتل العمد ، اما قتل الخطأ وشبه العمد ، فانهما يوجبان الدية دون القصاص ، وقد اتفق الفقهاء فيما يخص قصاص النفس على عدة امور منها ، اولاً :
  ان قتل العمد يتحقق بانشاء تصميم مسبق ونية مبيتة لارتكاب الجناية باي وسيلة كانت كالضرب باداة قاتلة ، او الاطعام بالسم ، او الخنق ، او الالقاء من شاهق ، بمعنى ان قتل العمد يتحقق من العاقل البالغ اذا قصد القتل من فعل يستدعي القتل غالباً ، ثانياً : اذا لم يقصد القتل ، ولكن اوقع عملاً قتل به الآخر ، فهو عمد ايضاً .
  والضابط ( ان العمد يتحقق بقصد البالغ العاقل الى القتل ظلماً بما يقتل غالباً ، بل وبقصده الضرب بما يقتل غالباً عالماً به وان لم يقصد القتل ، لان القصد الى الفعل المزبور كالقصد الى القتل ، بل قيل يفهم من الغنية الاجماع عليه ولعله كذلك ، بل يعضده النصوص المعتبرة المستفيضة ، كالصحيح عن ابي عبدالله (ع) ( سألناه عن رجل ضرب رجلا بعصا فلم

**************************************************************
(1) الاسراء : 33 .
(2) البقرة : 179 .
(3) البقرة : 194 .
(4) العوالي اللئالي لابن ابي جمهور ج 2 ص 158 .

الإنحِرافُ الإجتِماعِيُ وأساليب العلاج   ـ 56 ـ

  يرفع عنه الضرب حتى مات أيدفع الى اولياء المقتول ؟ قال : نعم ، ولكن لا يترك يعبث به ، ولكن يجهز عليه بالسيف ) ونحوه ، بل يكفي قصد ما سببيته معلومة عادة وان ادعى الفاعل الجهل به ، اذ لو سمعت دعواه بطلت اكثر الدماء ،كما هو واضح ) (1) .
  اما لو ضرب رجلاً خطأ فمات ، فلا تعتبر تلك الجناية قتلاً متعمداً ، لقوله (ع) : ( إنما الخطأ ان تريد شيئاً فتصيب غيره ، فاما كل شيء قصدت اليه فاصبته فهو العمد ) (2) .
  وقد ترددت على ألسن الفقهاء عبارات المباشرة والتسبيب في القتل العمد ، ومعناها ان القتل المباشر وهو ما يتم على يد القاتل مباشرة كالذبح والخنق ونحوها ، والتسبيب أن يأتي المسبب بفعل يؤدي الى فعل آخر يترتب عليه الموت ، كمن رماه بسهم فقتله (3) .
  فيكون الموت مستنداً الى السهم ، والسهم مستنداً الى الرامي ، فيكون الرامي عندئذ قاتلاً ، ولكن النصوص الشرعية لم تتناول ذلك ، وانما تناولت لفظي العمد ، والخطأ فقط ، فـ ( ليس في شيء من الادلة عنوان الحكم بلفظ المباشر والسبب ، وانما الموجود ( لقتل متعمداً ) ونحوه ، فالمدار في القصاص على صدقة ) (4) .
  وعليه ، فان المصداق الشرعي في القتل هو العمد أو الخطأ ، مباشرة كان أو تسبيباً .
  ومثال ذلك ( اذا ضربه بعصا ، مكرراً ما لا يحتمله مثله بالنسبة الى بدنه وزمانه ، فمات فهو عمد ، ولو ضربه دون ذلك ، فاعقبه مرضاً ومات ،

**************************************************************
(1) الجواهر ج 42 ص 12 .
(2) تفسير العياشي ج 1 ص 264 .
(3) شرائع الاسلام ج 4 ص 196 .
(4) الجواهر ج 42 ص 19 .