فقال : صدقت .
  فقال : فكم ضوء القمر يزيد على ضوء المشتري درجة ؟
  قال : اليماني : لا أدري!
  فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : صدقت!
  قال : فكم يزيد ضوء المشتري على ضوء العطارد درجة ؟
  قال اليماني : لا أدري!
  فقال أبو عبد الله: صدقت !
  قال : فكم ضوء عطارد يزيد درجة على ضوء الزهرة ؟
  قال اليماني : لا أدري !
  قال أبو عبد الله: صدقت !
  قال : فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الإبل ؟
  فقال اليماني : لا أدري !
  فقال له أبو عبد الله ( عليه السلام ) : صدقت !
  قال : فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت البقر ؟
  فقال اليماني : لا أدري !
  فقال له أبو عبد الله: صدقت !
  قال : فما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الكلاب ؟
  فقال اليماني : لا أدري !
  فقال له أبو عبد الله: صدقت في قولك لا أدري! فما زحل عندكم في النجوم ؟
  فقال اليماني : نجم نحس .
  فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : لا تقل هذا فإنه نجم أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو نجم الأوصياء ( عليهم السلام )، وهو النجم الثاقب الذي قال الله تعالى في كتابه .
  فقال اليماني : فما معنى الثاقب ؟
  فقال : إن مطلعه في السماء السابعة، فإنه ثقب بضوئه حتى أضاء في السماء

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 102 _

  الدنيا ، فمن ثم سماه الله النجم الثاقب.
  ثم قال : يا أخا العرب أعندكم عالم ؟
  فقال اليماني : جعلت فداك إن باليمن قوما ليسوا كأحد من الناس في علمهم.
  فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : وما يبلغ من علم عالمهم ؟
  فقال اليماني : إن عالمهم ليزجر الطير ، ويقفو الأثر في ساعة واحدة مسيرة شهر للراكب المحث .
  فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : فإن عالم المدينة أعلم من عالم اليمن .
  قال اليماني : وما يبلغ علم عالم المدينة ؟
  قال : إن علم عالم المدينة ينتهي إلى أن لا يقفو الأثر ، ولا يزجر الطير ، ويعلم ما في اللحظة الواحدة مسيرة الشمس، تقطع اثني عشر برجا ، واثني عشر برا ، واثني عشر بحرا ، واثني عشر عالما .
  فقال له اليماني: ما ظننت أن أحدا يعلم هذا ، وما يدري ما كنهه !
  قال : ثم قام اليماني وخرج .
  وعن سعيد بن أبي الخضيب (1) قال : دخلت أنا وابن أبي ليلى المدينة ، فبينما نحن في مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذ دخل جعفر بن محمد ( عليه السلام ) ، فقمنا إليه فسألني عن نفسي وأهلي ثم قال :
  من هذا معك ؟
  فقلت : ابن أبي ليلى قاضي المسلمين!
  فقال : نعم ، ثم قال له :
  أتأخذ مال هذا فتعطيه هذا، وتفرق بين المرء وزوجه، ولا تخاف في هذا أحدا ؟
  قال : نعم .
  قال : فبأي شئ تقضي ؟

---------------------------
(1) سعيد ابن أبي الخضيب البجلي : عده الشيخ في رجاله ص 205 من أصحاب الصادق ( عليه السلام ) .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 103 _

  قال : بما بلغني عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وعن أبي بكر ، وعمر .
  قال : فبلغك أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( أقضاكم علي بعدي ) ؟
  قال : نعم .
  قال : فكيف تقضي بغير قضاء علي ( عليه السلام ) ، وقد بلغك هذا ؟
  قال : فاصفر وجه ابن أبي ليلى ثم قال : التمس مثلا لنفسك ، فوالله لا أكلمك من رأسي كلمة أبدا .
  وعن الحسين بن زيد (1) عن جعفر الصادق ( عليه السلام ) أن رسول الله قال لفاطمة :
  يا فاطمة إن الله عز وجل يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك ، ( قال ) فقال المحدثون بها ( قال ) : فأتاه ابن جريج فقال :
  يا أبا عبد الله حدثنا اليوم حديثا استهزأه الناس.
  قال : وما هو ؟
  قال : حديث أن رسول الله قال لفاطمة : ( إن الله ليغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك ) .
  ( قال ) : فقال ( عليه السلام ): إن الله ليغضب فيما تروون لعبده المؤمن ، ويرضى لرضاه .
  فقال : نعم .
  قال ( عليه السلام ) : فما تنكر أن تكون ابنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مؤمنة ، يرضى الله لرضاها ، ويغضب لغضبها .
  قال : صدقت ! الله أعلم حيث يجعل رسالاته .

---------------------------
(1) ذكره العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 51 فقال : الحسين بن زيد ابن علي بن الحسين( عليهم السلام ) ، أبو عبد الله، يلقب ذا الدمعة كان أبو عبد الله تبناه ورباه ، وزوجه بنت الأرقط ، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن ( عليهما السلام ) ، وكتابه مختلف الرواية .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 104 _

  وعن حفص بن غياث (1) قال : شهدت المسجد الحرام وابن أبي العوجاء (2) يسأل أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن قوله تعالى : ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ) ما ذنب الغير ؟
  قال : ويحك هي هي وهي غيرها !
  قال : فمثل لي ذلك شيئا من أمر الدنيا !
  قال : نعم أرأيت لو أن رجلا أخذ لبنة فكسرها ، ثم ردها في ملبنها ، فهي هي وهي غيرها .
  وروي أنه سأل الصادق ( عليه السلام ) عن قول الله عز وجل في قصة إبراهيم ( عليه السلام ) ( قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) قال : ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم ( عليه السلام ).
  قيل : وكيف ذلك ؟
  فقال : إنما قال إبراهيم : فاسألوهم إن كانوا ينطقون ، فإن نطقوا فكبيرهم فعل، وإن لم ينطقوا فكبيرهم لم يفعل شيئا ، فما نطقوا ، وما كذب إبراهيم ( عليه السلام )

---------------------------
(1) حفص بن غياث : عده الشيخ في رجاله ص 118 من أصحاب الباقر ( عليه السلام ) وذكره في أصحاب الصادق ( عليه السلام ) أيضا ص 175 فقال : حفص بن غياث بن طلق ابن معاوية . أبو عمر النخعي القاضي الكوفي أسند عنه ، وذكره في باب من لم يرو عن الأئمة ( عليهم السلام ) ص 471 والعلامة في القسم الثاني من خلاصته ص 218 وقال : ولي القضاء لهارون وروى عن الصادق ( عليه السلام ) وكان عاميا وله كتاب معتمد .
(2) عبد الكريم بن أبي العوجاء هذا من تلامذة الحسن البصري وقد انحرف عن التوحيد وحبسه محمد بن سليمان عامل الكوفة من جهة المنصور وهو خال معن بن زائدة فكثر شفعاءه بمدينة السلام وألحوا على المنصور حتى كتب إلى محمد بالكف عنه وقبل أن يجئ الكتاب إلى محمد بن سليمان بعث عليه وأمر بضرب عنقه فلما أيقن أنه مقتول قال أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحل بها الحرام ولقد فطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم ثم ضربت عنقه .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 105 _

  فسئل عن قوله في سورة يوسف : ( أيتها العير أنكم لسارقون ) ؟
  قال : إنهم سرقوا يوسف من أبيه، ألا ترى إنه قال لهم حين قالوا : (ماذا تفقدون قالوا نفقد صواع الملك) ولم يقل سرقتم صواع الملك ، إنما سرقوا يوسف من أبيه ، فسئل عن قول إبراهيم : ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ).
  قال : ما كان إبراهيم سقيما ، وما كذب إنما عنى سقيما في دينه أي مرتادا.
  وعن عبد المؤمن الأنصاري (1) قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : أن قوما رووا : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : (اختلاف أمتي رحمة) ؟
  فقال : صدقوا .
  قلت : إن كان اختلافهم رحمة ، فاجتماعهم عذاب ؟
  قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنما أراد قول الله عز وجل : ( فلو لا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) أمرهم أن ينفروا إلى رسول الله، ويختلفوا إليه، ويتعلموا ، ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم ، إنما أراد اختلافهم في البلدان ، لا اختلافا في الدين، إنما الدين واحد .
  وروي عنه صلوات الله عليه : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ما وجدتم في كتاب الله عز وجل فالعمل لكم به ، ولا عذر لكم في تركه ، وما لم يكن في كتاب الله عز وجل وكانت في سنة مني فلا عذر لكم في ترك سنتي ، وما لم يكن فيه سنة مني فما قال أصحابي فقولوا ، إنما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم ، بأيها أخذ اهتدي ، وبأي أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم ، واختلاف أصحابي لكم رحمة .

---------------------------
(1) ذكره الشيخ في أصحاب علي بن الحسين ( عليه السلام ) ص 99 من رجاله وفي أصحاب الباقر ( عليه السلام ) ص 131 وعده في أصحاب الصادق ( عليه السلام ) ص 236 وذكره العلامة في القسم أول من خلاصته ص 131 فقال : (عبد المؤمن بن القاسم بن قيس ابن قهد ـ بفتح القاف وإسكان الهاء ـ الأنصاري روى عن أبي عبد الله وأبي جعفر ( عليهما السلام ) ثقة وهو أخو أبي مريم عبد الغفار بن القاسم ، وقيس بن فهد صحابي ) .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 106 _

  قيل : يا رسول الله من أصحابك ؟ قال : أهل بيتي .
  قال محمد بن الحسين بن بابويه القمي رضي الله عنه : إن أهل البيت لا يختلفون ولكن يفتون الشيعة بمر الحق ، وربما أفتوهم بالتقية ، فما يختلف من قولهم فهو للتقية، والتقية رحمة للشيعة ، ويؤيد ، تأويله رضي الله عنه ، أخبار كثيرة.
  منها : ما رواه محمد بن سنان ، عن نصر الخثعمي (1) قال : سمعت أبا عبد الله يقول : من عرف من أمرنا أن لا نقول إلا حقا فليكتف بما يعلم منا ، فإن سمع منا خلاف ما يعلم فليعلم أن ذلك منا دفاع واختيار له .
  وعن عمر بن حنظلة : (2) قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ): عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحا كما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك ؟
  قال ( عليه السلام ) : من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الجبت والطاغوت المنهي عنه ، وما حكم له به فإنما يأخذ سحتا وإن كان حقه ثابتا له لأنه أخذه بحكم الطاغوت ، ومن أمر الله عز وجل أن يكفر به ، قال الله عز وجل :
  ( يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ).
  قلت : فكيف يصنعان وقد اختلفا ؟
  قال : ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا، فليرضيا به حكما ، فإني قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكم ولم يقبله منه فإنما بحكم الله استخف ، وعلينا رد ، والراد علينا كافر وراد على الله، وهو على حد من الشرك بالله .

---------------------------
(1) نصر الخثعمي : لم أعثر فيما بين يدي من كتب الرجال على ترجمة لصاحب هذا الاسم. ولعله نصير الخثعمي الذي ذكره الأردبيلي في جامع الرواة ج 2 ص 292 فقال : نصير أبو الحكم الخثعمي ، محمد بن سنان عنه عن أبي عبد الله في محاسن البرقي في باب أن المؤمن صنفان .
(2) عمر بن حنظلة العجلي البكري الكوفي : عده الشيخ في رجاله ص 251 من أصحاب الصادق ( عليه السلام ) .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 107 _

  قلت ، فإن كان كل واحد منهما اختار رجلا من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما فيما حكما ، فإن الحكمين اختلفا في حديثكم ؟
  قال : إن الحكم ما حكم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث ، وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر.
  قلت : فإنهما عدلان مرضيان ، عرفا بذلك لا يفضل أحدهما صاحبه ؟
  قال : ينظر الآن إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما ، المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنما الأمور ثلاث : أمر بين رشده فيتبع ، وأمر بين غيه فيجتنب ، وأمر مشكل يرد حكمه إلى الله عز وجل وإلى رسوله ، حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات تتردد بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات ، وهلك من حيث لا يعلم .
  قلت : فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ؟
  قال ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة.
  قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ، ثم وجدنا أحد الخبرين يوافق العامة ، والآخر يخالف بأيهما تأخذ من الخبرين ؟
  قال : ينظر إلى ما هم إليه يميلون ، فإن ما خالف العامة ففيه الرشاد.
  قلت جعلت فداك فإن وافقهم الخبران جميعا ؟
  قال : انظروا إلى ما تميل إليه حكامهم وقضاتهم ، فاتركوا جانبا وخذوا بغيره .
  قلت : فإن وافق حكامهم الخبرين جميعا ؟
  قال : إذا كان كذلك فارجه وقف عنده ، حتى تلقي إمامك ، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ، والله هو المرشد .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 108 _

  جاء هذا الخبر على سبيل التقدير ، لأنه قل ما يتفق في الأثر أن يرد خبران مختلفان في حكم من الأحكام ، موافقين للكتاب والسنة ، وذلك مثل غسل الوجه واليدين في الوضوء لأن الأخبار جاءت بغسلهما مرة مرة وغسلهما مرتين مرتين ، فظاهر القرآن لا يقتضي خلاف ذلك ، بل يحتمل كلتا الروايتين ، ومثل ذلك يؤخذ في أحكام الشرع .
  وأما قوله ( عليه السلام ) للسائل ارجه وقف عنده حتى تلقي إمامك، أمره بذلك عند تمكنه من الوصول إلى الإمام ، فأما إذا كان غائبا ولا يتمكن من الوصول إليه، والأصحاب كلهم مجمعون على الخبرين ، ولم يكن هناك رجحان لروايات أحدهما على الآخر بالكثرة والعدالة ، كان الحكم بهما من باب التخيير .
  يدل على ما قلنا : ما روي عن الحسن بن الجهم (1) عن الرضا ( عليه السلام ) : قال : قلت للرضا ( عليه السلام ) : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة ؟
  قال : ما جاءك عنا فقسه على كتاب الله عز وجل وأحاديثنا ، فإن كان يشبهما فهو منا وإن لم يشبهما فليس منا .
  قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة ، بحديثين مختلفين ، فلا نعلم أيهما الحق .
  فقال : إذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت .
  وما رواه الحرث بن المغيرة (2) عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : إذا سمعت

---------------------------
(1) الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين : أبو محمد الشيباني ثقة روى عن أبي الحسن موسى والرضا عليهما السلام ذكره العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 43 والنجاشي في رجاله ص 40 والشيخ في أصحاب الكاظم ص 347 من رجاله .
(2) قال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 55 : الحرث بن المغيرة النصري ـ بالنون والصاد غير المعجمة ـ روى الكشي عن محمد بن قولويه قال : حدثنا سعد بن عبد الله عن أحمد بن محمد بن عيسى عن عبد الله بن محمد الحجال عن يونس ابن يعقوب قال : كنا عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) فقال : ما لكم من مفزع أما لكم من مستراح تستريحون إليه ما يمنعكم من الحرث بن المغيرة النصري وروى حديثا في
=>

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 109 _

  من أصحابك الحديث وكلهم ثقة ، فموسع عليك حتى ترى القائم فترده عليه .
  وروى سماعة بن مهران (1) قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) قلت : يرد علينا حديثان ، واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر به ينهانا عنه ؟
  قال : لا تعمل بواحد منهما حتى تلقي صاحبك فتسأله عنه .
  قال : قلت : لا بد من أن نعمل بأحدهما .
  قال : خذ بما فيه خلاف العامة ، فقد أمر ( عليه السلام ) بترك ما وافق العامة ، لأنه يحتمل أن يكون قد ورد مورد التقية ، وما خالفهم لا يحتمل ذلك .
  وروي عنهم( عليهم السلام ) أيضا أنهم قالوا : إذا اختلف أحاديثنا عليكم فخذوا بما اجتمعت عليه شيعتنا ، فإنه لا ريب فيه ، وأمثال هذه الأخبار كثيرة لا يحتمل ذكرها هنا ، وما أردناه عارض ليس هنا موضعه .

---------------------------
<=
طريقه سجادة : أنه من أهل الجنة .
وقال النجاشي : حارث بن المغيرة النصري من بني نصر بن معاوية بصري عربي روى عن أبي جعفر الباقر والصادق والكاظم ( عليه السلام ) وعن زيد بن علي ( عليه السلام ) ثقة ثقة .
(1) قال النجاشي ص 146 من رجاله : (سماعة بن مهران بن عبد الرحمن الحضرمي مولى عبد بن وايل بن حجر الحضرمي يكنى : أبا ناشرة وقيل : أبا محمد كان يتجر في القز ويخرج به إلى حران ونزل من الكوفة كندة روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن ( عليه السلام ) ومات بالمدينة ثقة ثقة ، وله بالكوفة مسجد بحضر موت وهو مسجد زرعة ابن محمد الحضرمي بعده وذكره أحمد بن الحسين رحمه الله وأنه وجد في بعض الكتب أنه مات سنة خمس وأربعين وماءة في حياة أبي عبد الله، وذلك أن أبا عبد الله ( عليه السلام ) قال : إن رجعت لم ترجع إلينا فأقام عنده فمات في تلك السنة وكان عمره نحوا من ستين سنة وليس أعلم كيف هذه الحكاية لأن سماعة روى عن أبي الحسن وهذه الحكاية يتضمن أنه مات في حياة أبي عبد الله ( عليه السلام ) والله أعلم ، له كتاب يرويه عنه جماعة كثيرة ( الخ) وذكره الشيخ في أصحاب الصادق ص 24 وفي أصحاب الكاظم ص 315.

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 110 _

  وعن بشير بن يحيى العامري (1) عن ابن أبي ليلى (2) قال : دخلت أنا

---------------------------
(1) بشير بن يحيى العامري : لم أعثر له على ترجمة فيما بين يدي من كتب الرجال.
(2) في سفينة البحار ج 2 ص 520 أقول (ابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن القاضي الكوفي عده الشيخ من أصحاب الصادق ( عليه السلام ) ، كان بينه وبين أبي حنيفة منافرات توفي سنة 148 وكان أبوه من أكابر تابعي الكوفة ، وجده أبو ليلى من الصحابة قال ابن النديم : واسم أبي ليلى يسار من ولد أحيحة بن الجلاح وقال : ولي ابن أبي ليلى القضاء لبني أمية وولد العباس وكان يفتي بالرأي قبل أبي حنيفة ، وذكره في الخلاصة القسم الأول ونقل عن أبي عقدة أنه روى عن ابن نمير أنه كان صدوقا مأمونا ولكنه سئ الحفظ جدا ، وقال ابن داود : أنه ممدوح وقال المولى محمد صالح :
أنه ممدوح مشكور صدوق مأمون ، وفي التعليقة روى ابن أبي عمير عنه عن أبيه وقد أغرب أبو علي في رجاله وقال : إن نصب الرجل أشهر من كفر إبليس ، وهو من مشاهير المنحرفين وتولى القضاء لبني أمية ثم لبني العباس برهة من السنين كما ذكره غير واحد من المؤرخين ورده شهادة جملة من أجلاء أصحاب الصادق ( عليه السلام ) لأنهم رافضة مشهور وفي كتب الحديث مذكور من ذلك ما ذكره الكشي في ترجمة محمد بن مسلم فلاحظ ومن ذلك في ترجمة عمار الدهني ويجب ذكره في الضعفاء كما فعله الفاضل ، قال شيخنا في المستدرك بعد نقل هذا الكلام من أبي علي : قلت : المدعى صدقه وأمانته ووثاقته في الحديث ومجرد القضاء والعامية لا ينافي ذلك ، وقال صدر المحققين العاملي في حواشيه على رجاله وفي تضاعيف الأخبار ما يدل على أن ابن أبي ليلى لم يكن على ما ذكره المؤلف من النصب بل يظهر من الروايات ميله لآل محمد ( عليهم السلام ) ، وروايات رد الشهادة تشهد بذلك لأنه قبل شهادتهم بعد ردها ، وفي صدر الوقوف من الكافي أن ابن أبي ليلى حكم في قضية بحكم فقال له محمد بن مسلم : أن عليا ( عليه السلام ) قضى بخلاف ذلك وروى ذلك له عن الباقر ( عليه السلام ) فقال ابن أبي ليلى : هذا عندك ؟ قال : نعم ، قال : فارسل وأتني بهلا ، قال له محمد بن مسلم : على أن لا تنظر في الكتاب إلا في ذلك الحديث ثم أراه الحديث عن الباقر ( عليه السلام ) فرد قضيته ، ونقضه للقضاء بعد الحكم دليل على عدم التعصب
=>

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 111 _

  والنعمان أبو حنيفة (1) على جعفر بن محمد ، فرحب بنا فقال .

---------------------------
<=
فضلا عن النصب... وبالجملة فمن تتبع الأخبار وجد أن ابن أبي ليلى كان يقضي بما يبلغه عن الصادقين عليهما السلام ويحكم بذلك بعد التوقف بل ينقض ما كان قد حكم به إذا بلغه عنهم ( عليه السلام ) خلافه فكيف يكون من حاله ذلك من النواصب ).
(1) أبو حنيفة : واسمه النعمان بن ثابت بن زوطي ، وكان زوطي مملوكا لبني تيم الله بن ثعلبة ، وأصله من كابل ، وقيل مولى لبني قفل كما في الفهرست لابن النديم ص 284 وقال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج 13 ص 324 : ( ولد أبو حنيفة وأبوه نصراني ) ... إلى أن قال : ( وكان زوطي مملوكا لبني تيم الله بن ثعلبة فأعتق ، فولاؤه لبني عبد الله بن ثعلبة ثم لبني قفل ) .
وروى مسندا عن الزيادي يقول : سمعت أبا جعفر يقول : كان أبو حنيفة اسمه عتيك بن زوطرة فسمى نفسه النعمان وأباه ثابتا ، وقيل كان والد أبي حنيفة من ( نسا ) وقيل أصله من ( ترمذ ) وقيل ثابت والد أبي حنيفة من أهل ( الأنبار ).
وأورد الخطيب البغدادي في تاريخه عدة روايات بأسانيد مختلفة تقول : أن أبا حنيفة استتيب من الكفر مرتين وفي بعضها ثلاثا وفي رواية سفيان الثوري استتيب من الكفر مرارا ، وفي رواية أبي عيينة استتيب من الدهر ثلاث مرات راجع تاريخ بغداد ج 13 ص 380 ـ 383 رفيه ص 372 مسندا أن أبا حنيفة قال : لو أن رجلا عبد هذه النعل يتقرب بها إلى الله لم أر بذلك بأسا ، وكان شريك يقول : كفر أبو حنيفة بآيتين من كتاب الله قال الله تعالى : ( ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ) وقال تعالى : ( يزدادوا إيمانا مع إيمانهم ) وزعم أبو حنيفة أن الإيمان لا يزداد ولا ينقص وأن الصلاة ليست من دين الله.
وفي ص 386 منه عن الجوهري روى مسندا قال: سمعت أبا مطيع يقول : قال أبو حنيفة : إن كانت الجنة والنار مخلوقتين فإنهما يفنيان وفيه عن ابن أسباط قال أبو حنيفة لو أدركني رسول الله وأدركته لأخذ بكثير من قولي وقال سمعت أبا إسحاق يقول كان أبو حنيفة يجيئه الشئ عن النبي فيخالفه إلى غيره وفي ص 370 من نفس المصدر سئل أبو حنيفة عن رجل قال : أشهد أن الكعبة حق ، ولكن لا أدري هي هذه التي بمكة أم لا فقال
=>

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 112 _


---------------------------
<=
مؤمن حقا ، وسئل عن رجل قال : أشهد أن محمد بن عبد الله نبي ولكن لا أدري هو الذي قبره بالمدينة أم لا فقال : مؤمن حقا .
وهو أحد المذاهب الأربعة السنية، صاحب الرأي والقياس والفتاوى المعروفة في الفقه ، ذكر ابن خلكان في ج 2 ص 86 من الوفيات في ترجمة محمد بن سبكتكين عن إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني في كتابه الذي سماه : ( مغيث الخلق في اختيار الأحق ) قال : إن السلطان محمود المذكور كان على مذهب أبي حنيفة وكان مولعا بعلم الحديث ، وكانوا يسمعون الحديث من الشيوخ بين يديه وهو يسمع وكان يستفسر الأحاديث فوجدها أكثرها موافقا لمذهب الشافعي فوقع في خلده حكمه ، فجمع العلماء من الفريقين في مرو والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر فوقع الاتفاق على أن يصلوا بين يديه ركعتين على مذهب الشافعي وعلى مذهب أبي حنيفة ... فصلى القفال المروزي ... إلى أن قال : ثم صلى ركعتين على ما يجوز أبو حنيفة فلبس جلد كلب مدبوغا ثم لطخ ربعه بالنجاسة وتوضأ بنبيذ التمر وكان في صميم الصيف في المفازة واجتمع عليه الذباب والبعوض وكان وضوءه منكسا منعكسا ، ثم استقبل القبلة وأحرم بالصلاة من غير نية في الوضوء ، وكبر بالفارسية ، ثم قرأ آية بالفارسية ( دو بركك سبن ) ثم نقر نقرتين كنقرات الديك من غير فصل ومن غير ركوع وتشهد ، وضرط في آخره من غير نية السلام وقال : أيها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة فقال السلطان :
لو لم تكن هذه الصلاة صلاة أبي حنيفة لقتلتك فأنكرت الحنفية أن تكون هذه صلاة أبي حنيفة فأمر القفال بإحضار كتب أبي حنيفة ! وأمر السلطان نصرانيا كاتبا يقرأ المذهبين فوجدت الصلاة على مذهب أبي حنيفة على ما حكاه القفال ، فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة ، وفي ج 13 من تاريخ بغداد ص 370 قال الحارث بن عمير :
وسمعته يقول : لو أن شاهدين شهدا عند قاض : أن فلان بن فلان طلق امرأته ، وعلما جميعا أنهما شهدا بالزور ففرق القاضي بينهما ، ثم لقيها أحد الشاهدين فله أن يتزوج بها .
=>

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 113 _


---------------------------
<=
وفي ص 362 منه قال : قال مساور الوراق:

كـنا  من الدين قبل اليوم في iiسعة      حـتى ابـتلينا بأصحاب iiالمقاييس
قـاموا من السوق إذ قلت iiمكاسبهم      فاستعملوا الرأي عند الفقر والبؤس
أمـا  العريب فأمسوا لا عطاء لهم      وفـي الـمولى علامات iiالمفاليس

فلقيه أبو حنيفة فقال هجوتنا نحن نرضيك ، فبعث إليه بدراهم فقال :
إذا  مـا أهل مصر iiبادهونا      بـداهية  مـن الفتيا iiلطيفة
أتـيناهم  بـمقياس iiصحيح      صليب من طراز أبي حنيفة
إذا  سـمع الـفقيه به iiحواه      وأثـبته بـحبر في iiصحيفة

فأجابه بعضهم يقول:
إذا ذو الرأي خاصم عن iiقياس      وجـاء  بـبدعة هـنة سخيفة
أتـيـناه  بـقـول الله iiفـيها      وآيــات مـحـبرة iiشـريفة
فـكم  مـن فـرج iiمـحصنة      عفيف أحل حرامها بأبي حنيفة

وروي أيضا أنه اجتمع الثوري وشريك والحسن بن صالح وابن أبي ليلى فبعثوا إلى أبي حنيفة فأتاهم فقالوا له : ما تقول في رجل قتل أباه ، ونكح أمه ، وشرب الخمر في رأس أبيه ؟ فقال : مؤمن ، فقال له ابن أبي ليلى : لا قبلت لك شهادة أبدا وقال الثوري لا كلمتك أبدا، وقال شريك : لو كان لي من الأمر شئ لضربت عنقك وقال له الحسن وجهي من وجهك حرام أن أنظر إلى وجهك أبدا وروي أيضا عن الإمام مالك قال : ما ولد في الإسلام مولود أضر على أهل الإسلام من أبي حنيفة وقال : كانت فتنة أبي حنيفة أضر على هذه الأمة من فتنة إبليس وأخرج عن الأوزاعي قال : عمد أبو حنيفة إلى عرى الإسلام فنقضه عروة عروة وعن عبد الرحمن ابن مهدي قال : ما علم في الإسلام فتنة بعد فتنة الدجال أعظم من رأي أبي حنيفة وأخرج عن أبي صالح الفراء قال : سمعت يوسف بن أسباط يقول : رد أبو حنيفة على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أربعمائة حديث أو أكثر وأنه سئل عن مسألة فأجاب فيها ثم قيل له : يروى عن النبي (ص) فيها كذا وكذا قال : دعنا من هذا وفي رواية قال :
حك هذا بدنب خنزيرة.
=>

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 114 _

  يا بن أبي ليلى من هذا الرجل ؟
  فقلت : جعلت فداك من أهل الكوفة له رأي وبصيرة ونفاذ.
  قال : فلعله الذي يقيس الأشياء برأيه ؟
  ثم قال : يا نعمان ! هل تحسن أن تقيس رأسك ؟
  قال : لا .
  قال : ما أراك تحسن أن تقيس شيئا فهل عرفت الملوحة في العينين ، والمرارة في الأذنين والبرودة في المنخرين ، والعذوبة في الفم ؟ قال : لا .
  قال : فهل عرفت كلمة أولها كفر وآخرها إيمان ؟
  قال : لا ، قال ابن أبي ليلى : قلت : جعلت فداك لا تدعنا في عمياء مما وصفت .
  قال : نعم حدثني أبي عن آبائه ( عليهم السلام ) أن رسول الله قال : إن الله خلق عيني ابن آدم شحمتين ، فجعل فيها الملوحة ، فلولا ذلك لذابتا ، ولم يقع فيهما شئ من القذى إلا أذابه ، والملوحة تلفظ ما يقع في العين من القذى ، وجعل المرارة في الأذنين حجابا للدماغ ، وليس من دابة تقع في الأذن إلا التمست الخروج ، ولو لا ذلك لوصلت إلى الدماغ فأفسدته وجعل الله البرودة في المنخرين حجابا للدماغ ، ولولا ذلك لسال الدماغ وجعل العذوبة في الفم منا من الله تعالى على ابن آدم ليجد لذة الطعام والشراب ، وأما كلمة أولها كفر وآخرها إيمان فقول لا إله إلا الله ثم قال : يا نعمان إياك والقياس : فإن أبي حدثني عن آبائه ( عليهم السلام ) أن رسول الله قال : من قاس شيئا من الدين برأيه قرنه الله تبارك وتعالى مع إبليس ، فإنه أول

---------------------------
<=
قال ابن خلكان ص 165 ج 2 من الوفيات ولم يكن يعاب بشئ سوى قلة العربية فمن ذلك ما روى : أن أبا عمرو بن العلاء المقري النحوي سأله عن القتل بالمثقل هل يوجب القود أم لا ؟ فقال لا فقال له أبو عمرو ولو قتله بحجر المنجنيق فقال ولو قتله ( بابا قبيس ) .
وتوفي سنة ماءة وخمسين وقبره ببغداد في مقبرة خيزران .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 115 _

  من قاس حيث قال : خلقتني من نار وخلقته من طين ، فدعوا الرأي والقياس فإن دين الله لم يوضع على القياس.
  وفي رواية أخرى أن الصادق ( عليه السلام ) قال لأبي حنيفة لما دخل عليه :
  من أنت ؟
  قال أبو حنيفة :
  قال ( عليه السلام ) : مفتي أهل العراق ؟
  قال : نعم .
  قال : بما تفتيهم ؟
  قال : بكتاب الله.
  قال : ( عليه السلام ) : وأنك لعالم بكتاب الله، ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه و متشابهه ؟
  قال : نعم .
  قال : فأخبرني عن قول الله عز وجل : ( وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين أي (1) موضع هو ؟
  قال أبو حنيفة : هو ما بين مكة والمدينة ، فالتفت أبو عبد الله إلى جلسائه ، وقال :
  نشدتكم بالله هل تسيرون بين مكة والمدينة ولا تأمنون على دمائكم من القتل ، وعلى أموالكم من السرق ؟
  فقالوا : اللهم نعم .
  فقال أبو عبد الله : ويحك يا أبا حنيفة ! إن الله لا يقول إلا حقا أخبرني عن قول الله عز وجل : (ومن دخله كان آمنا ) أي (2) موضع هو ؟ قال : ذلك

---------------------------
(1) سبأ ـ 17
(2) آل عمران ـ 97

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 116 _

  بيت الله الحرام ، فالتفت أبو عبد الله إلى جلسائه وقال : نشدتكم بالله هل تعلمون :
  إن عبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل ؟
  قالوا : اللهم نعم .
  فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ): ويحك يا أبا حنيفة! إن الله لا يقول إلا حقا .
  فقال أبو حنيفة : ليس لي علم بكتاب الله، إنما أنا صاحب قياس .
  قال أبو عبد الله: فانظر في قياسك إن كنت مقيسا أيما أعظم عند الله القتل أو الزنا ؟
  قال : بل القتل .
  قال : فكيف رضى في القتل بشاهدين، ولم يرض في الزنا إلا بأربعة؟ ثم قال له: الصلاة أفضل أم الصيام؟ قال : بل الصلاة أفضل.
  قال ( عليه السلام ) : فيجب على قياس قولك على الحايض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام ، وقد أوجب الله تعالى عليها قضاء الصوم دون الصلاة .
  قال له : البول أقذر أم المني ؟
  قال البول أقذر.
  قال ( عليه السلام ) : يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني ، وقد وجب الله تعالى الغسل من المني دون البول .
  قال : إنما أنا صاحب رأي .
  قال ( عليه السلام ) : فما ترى في رجل كان له عبد فتزوج وزوج عبده في ليلة واحدة ، فدخلا بامرأتيهما في ليلة واحدة ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد وولدتا غلامين فسقط البيت عليهم ، فقتل المرأتين وبقي الغلامان أيهما في رأيك المالك وأيهما المملوك وأيهما الوارث وأيهما الموروث ؟
  قال : إنما أنا صاحب حدود .
  قال : فما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح وأقطع قطع يد رجل ، كيف يقام عليهما الحد.

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 117 _

  قال : إنما أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء.
  قال : فأخبرني عن قول الله لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون : ( لعله يتذكر أو يخشى ) (1) ولعل منك شك ؟
  قال : نعم .
  قال : وكذلك من الله شك إذ قال: ( لعله ) ؟
  قال أبو حنيفة : لا علم لي .
  قال ( عليه السلام ) : تزعم أنك تفتي بكتاب الله ولست ممن ورثه ، وتزعم أنك صاحب قياس وأول من قاس إبليس لعنه الله ولم يبن دين الإسلام على القياس ، وتزعم أنك صاحب رأي وكان الرأي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صوابا ، ومن دونه خطأ ، لأن الله تعالى قال :
  (فاحكم بينهم بما أراك الله) (2) ولم يقل ذلك لغيره ، وتزعم أنك صاحب حدود، ومن أنزلت عليه أولى بعلمها منك ، وتزعم أنك عالم بمباعث الأنبياء ، ولخاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم منك ، لولا أن يقال : دخل على ابن رسول الله فلم يسأله عن شئ ما سألتك عن شئ، فقس إن كنت مقيسا .
  قال أبو حنيفة : لا أتكلم بالرأي والقياس في دين الله بعد هذا المجلس.
  قال : كلا إن حب الرياسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك تمام الخبر.
  وعن عيسى بن عبد الله القرشي (3) قال . دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله ( عليه السلام ) فقال : يا أبا حنيفة قد بلغني أنك تقيس !
  فقال : نعم .
  فقال : لا تقس فإن أول من قاس إبليس لعنه الله حين قال : خلقتني من نار وخلقته من طين ، فقاس بين النار والطين ، ولو قاس نورية آدم بنورية النار وعرف

---------------------------
(1) طه ـ 44
(2) المائدة ـ 57
(3) عيسى بن عبد الله القرشي لم أعثر له على ترجمة فيما بين يدي من كتب الرجال

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 118 _

  ما بين النورين ، وصفاء أحدهما على الآخر.
  وعن الحسن بن محبوب (1) عن سماعة قال : قال أبو حنيفة لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : كم بين المشرق والمغرب ؟
  قال : مسيرة يوم للشمس بل أقل من ذلك ، قال : فاستعظمه .
  قال : يا عاجز لم تنكر هذا أن الشمس تطلع من المشرق ، وتغرب في المغرب في أقل من يوم ، تمام الخبر .
  عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي (2) قال : كنت عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) بمكة ، إذ دخل عليه أناس من المعتزلة ، فيهم عمرو بن عبيد، وواصل بن عطا وحفص بن سالم ، وأناس من رؤسائهم ، وذلك أنه حين قتل الوليد ، واختلف أهل الشام بينهم ، فتكلموا فأكثروا وخطبوا فأطالوا .
  فقال لهم أبو عبد الله جعفر بن محمد ( عليه السلام ) : إنكم قد أكثرتم علي فأطلتم ، فاسندوا أمركم إلى رجل منكم ، فليتكلم بحجتكم وليوجز .
  فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد ، فأبلغ وأطال ، فكان فيما قال أن قال:
  قتل أهل الشام خليفتهم ، وضرب الله بعضهم ببعض ، وتشتت أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروة ، ومعدن للخلافة ، وهو محمد بن عبد الله بن الحسن فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه ، ثم نظهر أمرنا معه ، وندعو الناس إليه ، فمن بايعه كنا معه وكان منا ، ومن اعتزلنا كففنا عنه ، ومن نصب لنا جاهدناه ونصبنا له على بغية ونرده إلى الحق وأهله ، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك ، فإنه لا غنا بنا

---------------------------
(1) الحسن بن محبوب قال العلامة في القسم الأول من خلاصته الحسن بن محبوب السراد ويقال الزراد ، يكنى أبا على مولى بجيلة كوفي ثقة عين روى عن الرضا ( عليه السلام ) وكان جليل القدر يعد في الأركان الأربعة في عصره
(2) عبد الكريم بن عتبة قال العلامة في القسم الأول من الخلاصة ـ بضم العين المهملة والتاء المنقطة فوقها نقطتين ، والباء المنقطة تحتها نقطة ـ الهاشمي من أصحاب أبي الحسن الكاظم ( عليه السلام ) ثقة .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 119 _

  عن مثلك ، لفضلك ولكثرة شيعتك ، فلما فرغ قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : أكلكم على مثل ما قال عمرو ؟
  قالوا : نعم ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبي ثم قال :
   ;إنما نسخط إذا عصي الله فإذا أطيع الله رضينا أخبرني يا عمرو لو أن الأمة قلدتك أمرها فملكته بغير قتال ولا مؤنة ، فقيل لك : ( ولها من شئت ) من كنت تولي ؟
  قال : كنت أجعلها شورى بين المسلمين.
  قال : بين كلهم ؟
  قال : نعم .
  فقال : بين فقهائهم وخيارهم ؟
  قال : نعم .
  قال : قريش وغيرهم ؟
  قال : العرب والعجم .
  قال : فأخبرني يا عمرو أتتولى أبا بكر وعمر أو تتبرأ منهما ؟
  قال : أتولاهما .
  قال : يا عمرو إن كنت رجلا تتبرأ منهما فإنه يجوز لك الخلاف عليهما ، وإن كنت تتولاهما فقد خالفتها ، قد عهد عمر إلى أبي بكر فبايعه ولم يشاور أحدا ، ثم ردها أبو بكر عليه ولم يشاور أحدا ، ثم جعلها عمر شورى بين ستة ، فأخرج منها الأنصار غير أولئك الستة من قريش ، ثم أوصى الناس فيهم بشئ ما أراك ترضى أنت ولا أصحابك .
  قال : وما صنع ؟
  قال : أمر صهيبا أن يصلي بالناس ثلاثة أيام، وأن يتشاور أولئك الستة ليس فيهم أحد سواهم إلا ابن عمر ويشاورونه وليس له من الأمر شئ ، وأوصى من كان بحضرة من المهاجرين والأنصار إن مضت ثلاثة أيام ولم يفرغوا ويبايعوه أن يضرب أعناق الستة جميعا

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 120 _

  وإن اجتمع أربعة قبل أن يمضي ثلاثة أيام وخالف اثنان أن يضرب أعناق الاثنين ، افترضون بذا فيما تجعلون من الشورى في المسلمين ؟
  قالوا : لا .
  قال : يا عمرو دع ذا أرأيت لو بايعت صاحبك هذا الذي تدعو إليه ، ثم اجتمعت لكم الأمة ولم يختلف عليكم منها رجلان ، فأفضيتم إلى المشركين الذين لم يسلموا ولم يؤدوا الجزية ، كان عندكم وعند صاحبكم من العلم ما تسيرون فيهم بسيرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المشركين في الجزية ؟
  قالوا : نعم .
  قال : فتصنعون ماذا ؟
  قالوا : ندعوهم إلى الإسلام فإن أبوا دعوناهم إلى الجزية.
  قال : فإن كانوا مجوسا ، وأهل كتاب ، وعبدة النيران والبهائم وليسوا بأهل كتاب ؟
  قالوا : سواء .
  قال : فأخبرني عن القرآن أتقرأونه ؟
  قال : نعم .
  قال : اقرأ ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) قال : فاستثنى الله عز وجل واشترط من الذين أوتوا الكتاب فهم والذين لم يؤتوا الكتاب سواء .
  قال : نعم .
  قال ( عليه السلام ) : عمن أخذت هذا ؟
  قال سمعت الناس يقولونه .
  قال : فدع ذا فإنهم إن أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة ؟
  قال : اخرج الخمس واقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليها .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 121 _

  قال : تقسمه بين جميع من قاتل عليها ؟
  قال : نعم .
  قال : فقد خالفت رسول الله في فعله وفي سيرته ، وبيني وبينك فقهاء أهل المدينة ومشيختهم ، فسلهم فإنهم لا يختلفون ولا يتنازعون في أن رسول الله إنما صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم ، وأن لا يهاجروا ، على أنه إن دهمه من عدوه دهم فيستفزهم فيقاتل بهم، وليس لهم من الغنيمة نصيب ، وأنت تقول بين جميعهم، فقد خالفت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في سيرته في المشركين ، دع ذا ما تقول في الصدقة ؟
  قال : فقرأ عليه هذه الآية : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ) إلى آخرها .
  قال : نعم فكيف تقسم بينهم ؟
  قال : اقسمها على ثمانية أجزاء ، فاعطي كل جزء من الثمانية جزء.
  فقال ( عليه السلام ) إن كان صنف منهم عشرة آلاف وصنف رجلا واحدا أو رجلين أو ثلاثة ، جعلت لهذا الواحد مثل ما جعلت للعشرة آلاف.
  قال : نعم .
  قال : وما تصنع بين صدقات أهل الحضر وأهل البوادي فتجعلهم فيها سواء ؟
  قال : نعم .
  قال : فخالفت رسول الله في كل ما أتى به ، كان رسول الله يقسم صدقة البوادي في أهل البوادي ، وصدقة الحضر في أهل الحضر ، ولا يقسم بينهم بالسوية إنما يقسمه قدر ما يحضره منهم ، وعلى قدر ما يحضره فإن كان في نفسك شئ مما قلت لك فإن فقهاء أهل المدينة ، ومشيختهم كلهم لا يختلفون في أن رسول الله كذا كان يصنع، ثم أقبل على عمرو وقال :
  اتق الله يا عمرو وأنتم أيها الرهط ! فاتقوا الله، فإن أبي حدثني وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( من

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 122 _

  ضرب الناس بسيفه ، ودعاهم إلى نفسه ، وفي المسلمين من هو أعلم منه ، فهو ضال متكلف ).
  وروي عن يونس بن يعقوب (1) قال : كنت عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) فورد عليه رجل من أهل الشام فقال : أني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض ، وقد جئت لمناظرة أصحابك .
  فقال له أبو عبد الله: كلامك هذا من كلام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو من عندك ؟
  فقال : من كلام رسول الله بعضه ، ومن عندي بعضه.
  فقال أبو عبد الله: فأنت إذا شريك رسول الله! ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : لا .
  قال : فسمعت الوحي من الله تعالى ؟
  قال : لا .
  قال : فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله ؟
  قال : لا .
  قال : فالتفت إلي أبو عبد الله فقال : يا يونس هذا خصم نفسه قبل أن يتكلم ، ثم قال : يا يونس لو كنت تحسن الكلام كلمته ، قال يونس : فيا لها

---------------------------
(1) قال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 185 .
يونس بن يعقوب بن قيس أبو علي الجلاب البجلي الدهني اختلف علماءنا فيه .
فقال الشيخ الطوسي رحمه الله: أنه ثقة مولى شهد له وعد له في عدة مواضع .
وقال النجاشي : أنه اختص بأبي عبد الله ( عليه السلام ) وأبي الحسن ( عليه السلام ) وكان يتوكل لأبي الحسن ( عليه السلام ) ومات في المدينة قريبا من الرضا ( عليه السلام ) فتولى أمره وكان حظيا عندهم موثقا وكان قد قال بعبد الله ثم رجع ، وقال أبو جعفر ابن بابويه أنه فطحي هو وأخوه يوسف .
قال الكشي : حدثني حمدويه عن بعض أصحابنا أن يونس بن يعقوب فطحي كوفي مات بالمدينة وكفنه الرضا ( عليه السلام ) .
وروى الكشي أحاديث حسنة تدل على صحة عقيدة هذا الرجل والذي أعتمد عليه قبول روايته .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 123 _

  من حسرة ، فقلت : جعلت فداك سمعتك تنهى عن الكلام ، وتقول : ويل لأصحاب الكلام ، يقولون : هذا ينقاد ، وهذا ينساق ، وهذا لا ينساق ، وهذا نعقله ، وهذا لا نعقله !
  فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : إنما قلت : ويل لقوم تركوا قولي بالكلام ، وذهبوا إلى ما يريدون ثم قال : اخرج إلى الباب فمن ترى من المتكلمين فادخله !
  قال : فخرجت فوجدت حمران بن أعين ، وكان يحسن الكلام ، ومحمد بن نعمان الأحول، وكان متكلما ، وهشام بن سالم ، وقيس الماصر ، وكانا متكلمين وكان قيس عندي أحسنهم كلاما ، وكان قد تعلم الكلام من علي بن الحسين ، فأدخلتهم ، فلما استقربنا المجلس وكنا في خيمة لأبي عبد الله ( عليه السلام ) ، في طرف جبل في طريق الحرم، وذلك قبل الحج بأيام ، فأخرج أبو عبد الله رأسه من الخيمة فإذا هو ببعير يخب قال : هشام ورب الكعبة ، قال : وكنا ظننا أن هشاما رجل من ولد عقيل ، وكان شديد المحبة لأبي عبد الله، فإذا هشام بن الحكم ، وهو أول ما اختطت لحيته ، وليس فينا إلا من هو أكبر منه سنا ، فوسع له أبو عبد الله ( عليه السلام ) وقال : ( ناصرنا بقلبه ولسانه ويده ) ثم قال لحمران:
  كلم الرجل يعني : الشامي ، فكلمه حمران وظهر عليه ثم قال : يا طاقي كلمه! فكلمه فظهر عليه محمد بن نعمان ، ثم قال لهشام بن سالم : كلمه ! فتعارفا ثم قال لقيس الماصر : كلمه! وأقبل أبو عبد الله ( عليه السلام ) يتبسم من كلامهما وقد استخذل الشامي في يده ، ثم قال للشامي : كلم هذا الغلام ! يعني : هشام بن الحكم فقال : نعم ثم قال الشامي لهشام : يا غلام سلني في إمامة هذا يعني : أبا عبد الله ( عليه السلام )؟
  فغضب هشام حتى ارتعد ثم قال له : أخبرني يا هذا أربك أنظر لخلقه ، أم خلقه لأنفسهم ؟
  فقال الشامي : بل ربي أنظر لخلقه !
  قال : ففعل بنظره لهم في دينهم ماذا ؟
  قال : كلفهم ، وأقام لهم حجة ودليلا على ما كلفهم به ، وأزاح في ذلك عللهم .

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 124 _

  فقال له هشام : فما هذا الدليل الذي نصبه لهم ؟
  قال الشامي : هو رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  قال هشام : فبعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من ؟ قال : الكتاب والسنة .
  فقال هشام : فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة فيما اختلفنا فيه ، حتى رفع عنا الاختلاف ، ومكننا من الاتفاق ؟
  فقال الشامي: نعم .
  قال هشام : فلم اختلفنا نحن وأنت ، جئتنا من الشام تخالفنا ، وتزعم أن الرأي طريق الدين ، وأنت مقر بأن الرأي لا يجمع على القول الواحد المختلفين ؟
  فسكت الشامي كالمفكر ، فقال أبو عبد الله ( عليه السلام )!
  ما لك لا تتكلم ؟
  قال : إن قلت : أنا ما اختلفنا كابرت ، وإن قلت أن الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف ، أبطلت ، لأنهما يحتملان الوجوه ، ولكن لي عليه مثل ذلك .
  فقال له أبو عبد الله: سله تجده مليا !
  فقال الشامي لهشام : من أنظر للخلق ربهم أم أنفسهم ؟
  فقال : بل ربهم أنظر لهم .
  فقال الشامي : فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم ، ويرفع اختلافهم ، ويبين لهم حقهم من باطلهم ؟
  فقال هشام : نعم .
  قال الشامي : من هو ؟
  قال هشام : أما في ابتداء الشريعة فرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأما بعد النبي فعترته .
  قال الشامي : من هو عترة النبي القائم مقامه في حجته ؟
  قال هشام : في وقتنا هذا أم قبله ؟
  قال الشامي : بل في وقتنا هذا .
  قال هشام : هذا الجالس يعني : أبا عبد الله ( عليه السلام ) ، الذي تشد إليه الرحال

الإحتجاج (الجزء الثاني) _ 125 _

  ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن جده .
  قال الشامي : وكيف لي بعلم ذلك ؟
  فقال هشام : سله عما بدا لك .
  قال الشامي : قطعت عذري ، فعلي السؤال .
  فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : أنا أكفيك المسألة يا شامي : أخبرك عن مسيرك وسفرك ، خرجت يوم كذا ، وكان طريقك كذا ، ومررت على كذا ، ومر بك كذا ، فأقبل الشامي كلما وصف له شيئا من أمره يقول : (صدقت والله) فقال الشامي : أسلمت لله الساعة !
  فقال له أبو عبد الله ( عليه السلام ) : بل آمنت بالله الساعة، أن الإسلام قبل الإيمان وعليه يتوارثون ، ويتناكحون ، والإيمان عليه يثابون .
  قال : صدقت ، فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنك وصي الأنبياء.
  قال : فأقبل أبو عبد الله ( عليه السلام ) على حمران فقال : يا حمران تجري الكلام على الأثر فتصيب فالتفت إلى هشام بن سالم فقال : تريد الأثر ولا تعرف! ثم التفت إلى الأحول فقال : قياس رواع ، تكسر باطلا بباطل ، ألا إن باطلك أظهر ثم التفت إلى قيس الماصر فقال : تكلم وأقرب ما يكون من الخبر عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبعد ما تكون منه ، تمزج الحق بالباطل ، وقليل الحق يكفي من كثير الباطل أنت والأحول قفازان حاذقان .
  قال يونس بن يعقوب : فظننت والله أنه يقول لهشام ، قريبا مما قال لهما .
  فقال : يا هشام لا تكاد تقع تلوي رجليك إذ هممت بالأرض طرت ، مثلك فليكلم الناس إتق الزلة ، والشفاعة من ورائك .
  وعن يونس بن يعقوب قال : كان عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) جماعة من أصحابه فيهم حمران بن أعين ، ومؤمن الطاق ، وهشام بن سالم ، والطيار ، وجماعة من أصحابه ، فيهم هشام بن الحكم ، وهو شاب فقال أبو عبد الله: