على الخلق أولا.
وعن القسم بن مسلم (1) عن أخيه عبد العزيز بن مسلم (2) قال :
كنا في أيام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) بمرو ، فاجتمعنا في جامعها في يوم جمعة في بدو قدومنا ، فأدار الناس أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها فدخلت على سيدي ومولاي الرضا ( عليه السلام ) فأعلمته ما خاض الناس فيه ، فتبسم ثم قال :
يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن أديانهم ، إن الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شئ ، بين فيه الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج إليه كملا .
فقال عز وجل : ( ما فرطنا في الكتاب من شئ ) (3) وأنزل في حجة الوداع وهو آخر عمره : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (4) فأمر الإمامة من تمام الدين ، ولم يمض ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى بين لأمته معالم دينه وأوضح لهم سبيله ، وتركهم على قصد الحق ، وأقام لهم عليا ( عليه السلام ) علما وإماما وما ترك شيئا يحتاج إليه الأمة إلا بينه ، فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله عز وجل ، ومن رد كتاب الله فهو كافر ، هل تعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم ، إن الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم ، أو ينالونها بآرائهم ، فيقيموها باختيارهم ، إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل بعد النبوة والخلة ، مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه الله بها ، فأشاد بها ذكره فقال عز وجل :
( إني جاعلك للناس إماما ) (5) فقال الخليل ـ سرورا بها ـ : ( ومن ذريتي ) (6) قال الله عز وجل : ( لا ينال عهدي الظالمين ) (7) فأبطلت هذه الآية إمامة كل
---------------------------
(1) القسم بن مسلم : مجهول .
(2) عبد العزيز بن مسلم : ذكره الشيخ في أصحابه الرضا ( عليه السلام ) ص 383 من رجاله .
(3) الأنعام ـ 38
(4) المائدة ـ 4 .
(5 ـ 6 ـ 7) البقرة 124 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 227 _
ظالم إلى يوم القيامة ، وصارت في الصفوة ، ثم أكرمه الله عز وجل بأن جعل في ذريته أهل الصفوة والطهارة ، فقال تعالى : ( ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ) (1) فلم : تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا ، حتى ورثها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال الله عز وجل : ( إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) (2) فكانت له خاصة ، فقلدها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليا ( عليه السلام ) بأمر الله على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله عز وجل : ( وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ) (3) فهي في ولد علي ( عليه السلام ) خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فمن أين يختار هؤلاء الجهال ؟
إن الإمامة منزلة الأنبياء وإرث الأوصياء .
إن الإمامة خلافة الله عز وجل، وخلافة الرسول ، ومقام أمير المؤمنين ، وميراث الحسن والحسين .
إن الإمامة زمام الدين ، ونظام المسلمين ، وصلاح الدنيا وعز المؤمنين.
إن الإمامة رأس الإسلام النامي ، وفرعه السامي .
بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام ، والحج والجهاد ، وتوفير الفئ والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ، ومنع الثغور والأطراف .
الإمام يحل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة .
الإمام كالشمس الطالعة للعالم وهي في الأفق ، بحيث لا تناله الأيدي والأبصار .
الإمام : البدر المنير ، والسراج الزاهر ، والنور الساطع ، والنجم الهادي في غياهب الدجى والبيداء القفار ولجج البحار .
---------------------------
(1) الأنبياء ـ 72 و 73
(2) آل عمران ـ 68 .
(3) الروم ـ 56 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 228 _
الإمام : الماء العذب على الظلماء، والدال على الهدى ، والمنجي من الردى .
الإمام : النار على البقاع الحارة لمن اصطلى ، والدليل على المسالك ، من فارقه فهالك .
الإمام : السحاب الماطر ، والغيث الهاطل ، والشمس المضيئة ، والأرض البسيطة والعين الغزيرة ، والغدير والروضة .
الإمام : الأمين الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشقيق، ومفزع العباد في الداهية.
الإمام : أمين الله في أرضه ، وحجته على عباده ، وخليفته في بلاده ، الداعي إلى الله، والذاب عن حريم الله.
الإمام : المطهر من الذنوب ، المبرأ من العيوب ، مخصوص بالعلم ، موسوم .
بالحلم ، نظام الدين ، وعز المسلمين ، وغيظ المارقين ، وبوار الكافرين .
الإمام : واحد دهره ، لا يدانيه أحد ، ولا يعادله عدل ، ولا يوجد له بديل ولا له مثيل ولا نظير ، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه ولا اكتساب ، بل اختصاص من المتفضل الوهاب فمن ذا يبلغ معرفة الإمام ويمكنه اختياره ؟ هيهات هيهات !
ضلت العقول ، وتاهت الحلوم ، وحارت الألباب ، وحسرت العيون ، وتصاغرت العظماء وتحيرت الحكماء ، وتقاصرت الحلماء ، وحصرت الخطباء ، وجهلت الألباب وكلت الشعراء ، وعجزت الأدباء ، وعيت البلغاء ، عن وصف شأن من شأنه ، أو فضيلة من فضائله فأقرت بالعجز والتقصير ، وكيف يوصف أو ينعت بكنهه ، أو يفهم شئ من أمره ، أو يوجد من يقوم مقامه ، ويغني غناه ، لا وكيف وأنى وهو بحيث النجم من أيدي المتناولين ، ووصف الواصفين ! فأين الاختيار من هذا ، وأين العقول عن هذا ، وأين يوجد مثل هذا ، ظنوا أن دخل يوجد في غير آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
كذبتهم والله أنفسهم ومنتهم الباطل ، فارتقوا مرتقا صعبا دحضا تزل عنه إلى الحضيض أقدامهم ، راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة ، وآراء مضلة ، فلم يزدادوا منه إلا بعدا .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 229 _
قاتلهم الله أنى يؤفكون! لقد راموا صعبا ، وقالوا إفكا ، وضلوا ضلالا بعيدا ووقعوا في الحيرة ، إذ تركوا الإمام من غير بصيرة ، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل ، وكانوا مستبصرين ، رغبوا عن اختيار الله واختيار رسوله ، إلى اختيارهم والقرآن يناديهم : ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ) (1) وقال عز وجل : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) (2) وقال عز وجل :
( وما لكم كيف تحكمون * أم لكم كتاب فيه تدرسون * أن لكم فيه لما تخيرون * أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة أن لكم لما تحكمون * سلهم أيهم بذلك زعيم * أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين ) (3) وقال عز وجل :
( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) (4) ( أم طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون (5) ( قالوا سمعنا وهم لا يسمعون * إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) (6) ( وقالوا سمعنا وعصينا بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ) (7) .
فكيف لهم باختيار الإمام ؟! والإمام عالم لا يجهل ، راع لا ينكل، معدن القدس والطهارة ، والنسك والزهادة ، والعلم والعبادة ، ومخصوص بدعوة الرسول وهم نسل مطهرة البتول ، لا مغمز فيه في نسب ، ولا يدانيه ذو حسب ، في البيت من قريش ، والذروة من هاشم ، والعترة من آل الرسول ، والرضا من الله، شرف الأشراف ، والفرع من عبد مناف ، نامي العلم ، كامل الحلم ، مضطلع بالإمامة عالم بالسياسة ، مفروض الطاعة ، قائم بأمر الله، ناصح لعباد الله، حافظ لدين الله.
إن الأنبياء والأئمة يوفقهم الله، ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما
---------------------------
(1) القصص ـ 68 .
(2) الأحزاب ـ 36 .
(3) القلم ـ 36 إلى 41 .
(4) محمد ـ 24 .
(5) التوبة ـ 87 .
(6) الأنفال ـ 21 و 22 و 23 .
(7) البقرة ـ 93 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 230 _
لا يؤتيه غيرهم ، فيكون علمهم فوق علم أهل زمانهم في قوله عز وجل : ( أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ) (1) وقوله عز وجل : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) (2) وقوله عز وجل ـ في طالوت ـ : ( إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) (3) وقال عز وجل لنبيه : ( وكان فضل الله عليك عظيما ) (4) وقال عز وجل ـ في الأئمة من أهل بيته وعترته ـ : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ) (5).
وأن العبد إذا اختاره الله لأمور عباده شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة ، وألهمه العلم إلهاما ، فلم يعي بعده الجواب ، ولا يحير فيه عن الصواب وهو معصوم مؤيد ، موفق مسدد ، قد أمن الخطايا والزلل والعثار ، فخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده ، وشاهده على خلقه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، فهل يقدرون على مثل هذا ، فيختاروه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدموه ، تعدوا وبيت الله الحق ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، وفي كتاب الله: ( فنبذوه وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم ) (6) فذمهم الله ومقتهم أنفسهم فقال عز وجل : ( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) (7) وقال عز وجل : ( فتعسا لهم وأضل أعمالهم ) (8) وقال عز وجل : ( كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ) (9) .
وروي عن الحسن بن علي بن فضال عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ):
---------------------------
(1) يونس ـ 35 .
(2) البقرة ـ 269 .
(3) البقرة ـ 247 .
(4) النساء ـ 102 .
(5) النساء ـ 54 .
(6) آل عمران ـ 187 .
(7) القصص ـ 50 .
(8) محمد ـ 8 .
(9) المؤمن ـ 35 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 231 _
أنه قال : للإمام علامات : يكون أعلم الناس ، وأحكم الناس ، وأتقى الناس ، وأشجع الناس ، وأسخى الناس، وأعبد الناس ، ويولد مختونا ، ويكون مطهرا ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه ، ولا يكون له ظل ، وإذا وقع إلى الأرض من بطن أمه وقع على راحتيه رافعا صوته بالشهادتين ، ولا يحتلم ، ولا ينام عينه ولا ينام قلبه ، ويكون محدثا ويستوي عليه درع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولا يرى له بول ولا غائط ، لأن الله قد وكل الأرض بابتلاع ما يخرج منه ، وتكون رائحته أطيب من رائحة المسك ، ويكون أولى الناس منهم بأنفسهم، وأشفق عليهم من آبائهم وأمهاتهم ، ويكون أشد الناس تواضعا لله عز وجل ، ويكون آخذ الناس بما يأمر به وأكف الناس عما ينهى عنه ، ويكون دعاؤه مستجابا ، حتى أنه لو دعى على صخرة لانشقت بنصفين ، أو يكون عنده سلاح رسول الله وسيفه ذو الفقار ، وتكون عنده صحيفة فيها أسماء شيعته إلى يوم القيامة ، وصحيفة فيها أسماء أعدائه إلى يوم القيامة ويكون عنده الجامعة ، وهي صحيفة فيها سبعون ذراعا ، فيها جميع ما يحتاج إليه ولد آدم ، ويكون عنده الجفر الأكبر والأصغر ، وهو إهاب كبش فيها جميع العلوم حتى أرش الخدش ، حتى الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة ، ويكون عنده مصحف فاطمة ( عليها السلام ) .
وروى خالد بن الهيثم الفارسي (1) قال : قلت لأبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) : إن الناس يزعمون : أن في الأرض أبدالا فمن هؤلاء الأبدال ؟
قال : صدقوا ، الأبدال هم : الأوصياء ، جعلهم الله في الأرض بدل الأنبياء إذا رفع الأنبياء وختم بمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وقد روي عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) : من ذم الغلاة والمفوضة وتكفيرهم وتضليلهم والبراءة منهم وممن والاهم ، وذكر علة ما دعاهم إلى ذلك الإعتقاد الفاسد الباطل ، ما قد تقدم ذكر طرف منه في هذا الكتاب .
وكذلك روي عن آبائه وأبنائه( عليهم السلام ) ، في حقهم والأمر بلعنهم ، والبراءة منهم ، وإشاعة
---------------------------
(1) مجهول .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 232 _
حالهم ، والكشف عن سوء اعتقادهم ، كي لا يغتر بمقالتهم ضعفاء الشيعة ، ولا يعتقد من خالف هذه الطائفة أن الشيعة الإمامية بأسرهم على ذلك ، نعوذ منه وممن اعتقده وذهب إليه ، فمما ذكره الرضا ( عليه السلام ) عن علة وجه خطأهم وضلالهم عن الدين القيم : ما رويناه بالإسناد الذي تقدم ذكره عن أبي محمد الحسن العسكري : أن الرضا ( عليه السلام ) والصلوات والتحيات قال :
إن هؤلاء الضلال الكفرة ما أتوا إلا من قبل جهلهم بمقدار أنفسهم ، حتى اشتد إعجابهم بها وكثرة تعظيمهم لما يكون منها ، فاستبدوا بآرائهم الفاسدة ، واقتصروا على عقولهم المسلوك بها غير سبيل الواجب ، حتى استصغروا قدر الله واحتقروا أمره ، وتهاونوا بعظيم شأنه ، إذ يعلموا أنه القادر بنفسه الغني بذاته ، الذي ليست قدرته مستعارة ولا غناه مستفادا ، والذي من شاء أفقره ومن شاء أغناه ، ومن شاء أعجزه بعد القدرة ، وأفقره بعد الغنى ، فنظروا إلى عبد قد اختصه الله بقدرة ليبين بها فضله عنده ، وآثر بكرامته ليوجب بها حجته على خلقه ، وليجعل ما أتاه من ذلك ثوابا على طاعته ، وباعثا على اتباع أمره ، ومؤمنا عباده المكلفين من غلظ من نصبه عليهم حجة ولهم قدوة ، فكانوا كطلاب ملك من ملوك الدنيا ينتجعون فضله ويؤملون نائله ، ويرجون التفيوء بظله والانتعاش بمعروفه ، والانقلاب إلى أهليهم بجزيل عطائه الذي يعينهم على طلب الدنيا ، وينقذهم من التعرض لدني المكاسب وخسيس المطالب ، فبيناهم يسألون عن طريق الملك ليترصدوه وقد وجهوا الراغبة نحوه ، وتعلقت قلوبهم برؤيته ، إذ قيل لهم : سيطلع عليكم في جيوشه ومواكبه وخيله ورجله ، فإذا رأيتموه فأعطوه من التعظيم حقه ، ومن الاقرار بالمملكة واجبه ، وإياكم أن تسموا باسمه غيره ، أو تعظموا سواه كتعظيمه ، فتكونوا قد بخستم الملك حقه وأزريتم عليه ، واستحققتم بذلك منه عظيم عقوبته فقالوا :
نحن كذلك فاعلون جهدنا وطاقتنا ، فما لبثوا أن طلع عليهم بعض عبيد الملك في خيل قد ضمها إليه سيده ، ورجل قد جعلهم في جملته ، وأموال قد حباه بها ، فنظر هؤلاء ـ وهم للملك طالبون ـ فاستكثروا ما رأوه بهذا العبد من نعم سيده ، ورفعوه
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 233 _
أن يكون هو من المنعم عليه بما وجدوا معه ، فأقبلوا يحيونه تحية الملك ويسمونه باسمه ويجحدون أن يكون فوقه ملك وله مالك ، فأقبل عليهم العبد المنعم عليه وسائر جنوده بالزجر والنهي عن ذلك ، والبراءة مما يسمونه به ، ويخبرونهم : بأن الملك هو الذي أنعم بهذا عليه واختصه به ، وأن قولكم ما تقولون يوجب عليكم سخط الملك وعذابه ، ويفوتكم كلما أملتموه من جهته ، وأقبل هؤلاء القوم يكذبونهم ويردون عليهم قولهم ، فما زالوا كذلك حتى غضب الملك لما وجد هؤلاء قد سووا به عبده ، وأزروا عليه في مملكته وبخسوه حق تعظيمه ، فحشرهم أجمعين إلى حبسه ، ووكل بهم من يسومهم سوء العذاب .
فكذلك هؤلاء لما وجدوا أمير المؤمنين عبدا أكرمه الله ليبين فضله ، ويقيم حجته، فصغروا عندهم خالقهم أن يكون جعل عليا له عبدا ، وأكبروا عليا عن أن يكون الله عز وجل له ربا ، فسموه بغير اسمه فنهاهم هو وأتباعه من أهل ملته وشيعته وقالوا لهم : يا هؤلاء أن عليا وولده عباد مكرمون مخلوقون ومدبرون لا يقدرون إلا على ما أقدرهم عليه لله رب العالمين ، ولا يملكون إلا ما ملكهم ، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولا قبضا ولا بسطا ، ولا حركة ولا سكونا إلا ما أقدرهم عليه وطوقهم ، وأن ربهم وخالقهم يجل عن صفات المحدثين ، ويتعالى عن نعت المحدودين ، وأن من اتخذهم أو واحدا منهم أربابا من دون الله فهو من الكافرين وقد ضل سواء السبيل .
فأبى القوم إلا جماحا وامتدوا في طغيانهم يعمهون ، فبطلت أمانيهم ، وخابت مطالبهم ، وبقوا في العذاب .
وروينا أيضا بالإسناد المقدم ذكره عن أبي محمد العسكري ( عليه السلام ) : أن أبا الحسن الرضا ( عليه السلام ) قال :
إن من تجاوز بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) العبودية فهو من المغضوب عليهم ومن الضالين .
وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : لا تتجاوزوا بنا العبودية ، ثم قولوا فينا ما شئتم ولن تبلغوا ، وإياكم والغلو كغلو النصارى فإني برئ من الغالين .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 234 _
فقام إليه رجل فقال : يا بن رسول الله صف لنا ربك ! فإن من قبلنا قد اختلفوا علينا .
فوصفه الرضا ( عليه السلام ) أحسن وصف ، ومجده ونزهه عما لا يليق به تعالى .
فقال الرجل : بأبي أنت وأمي يا بن رسول الله! فإن معي من ينتحل موالاتكم ويزعم أن هذه كلها من صفات علي ( عليه السلام ) ، وأنه هو الله رب العالمين .
( قال ) : فلما سمعها الرضا ( عليه السلام ) ، ارتعدت فرائصه وتصببب عرقا وقال :
سبحان الله عما يشركون، سبحانه عما يقول الكافرون علوا كبيرا ، أو ليس علي كان آكلا في الآكلين ، وشاربا في الشاربين ، وناكحا في الناكحين ، ومحدثا في المحدثين ، وكان مع ذلك مصليا خاضعا ، بين يدي الله ذليلا ، وإليه أواها منيبا أفمن هذه صفته يكون إلها ؟! فإن كان هذا إلها فليس منكم أحد إلا وهو إله لمشاركته له في هذه الصفات الدالات على حدث كل موصوف بها .
فقال الرجل : يا بن رسول الله إنهم يزعمون : أن عليا لما أظهر من نفسه المعجزات التي لا يقدر عليها غير الله، دل على أنه إله ، ولما ظهر لهم بصفات المحدثين العاجزين لبس ذلك عليهم ، وامتحنهم ليعرفوه ، وليكون إيمانهم اختيارا من أنفسهم .
فقال الرضا ( عليه السلام ) : أول ما هاهنا أنهم لا ينفصلون ممن قلب هذا عليهم فقال :
لما ظهر منه ( الفقر والغاقة ) دل على أن من هذه صفاته وشاركه فيها الضعفاء المحتاجون لا تكون المعجزات فعله ، فعلم بهذا أن الذي أظهره من المعجزات إنما كانت فعل القادر الذي لا يشبه المخلوقين ، لا فعل المحدث المشارك للضعفاء في صفات الضعف .
وروي : أن المأمون كان يحب في الباطن سقطات أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) وأن يغلبه المحتج ، ويظهره غيره ، فاجتمع يوما عنده الفقهاء والمتكلمون ، قدس إليهم أن ناظروه في الإمامة !
فقال لهم الرضا ( عليه السلام ) : اقتصروا على واحد منكم يلزمكم ما يلزمه .
فرضوا برجل يعرف بيحيى بن الضحاك السمرقندي ، ولم يكن بخراسان مثله .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 235 _
فقال له الرضا ( عليه السلام ) : يا يحيى أخبرني عمن صدق كاذبا على نفسه ، أو كذب صادقا على نفسه ، أيكون محقا مصيبا ، أم مبطلا مخطيا ؟
فسكت يحيى .
فقال له المأمون : أجبه !
فقال : يعفيني أمير المؤمنين عن جوابه .
فقال المأمون : يا أبا الحسن عرفنا الغرض في هذه المسألة !
فقال : لا بد ليحيى من أن يخبرني عن أئمته : أنهم كذبوا على أنفسهم أو صدقوا ، فإن زعم أنهم كذبوا فلا إمامة للكاذب ، وإن زعم أنهم صدقوا فقد قال أولهم : ( أقيلوني وليتكم ولست بخيركم ) وقال ثانيهم : ( بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها ، فمن عاد لمثلها فاقتلوه ) فوالله ما رضي لمن فعل مثل فعله إلا بالقتل ، فمن لم يكن بخير الناس والخيرية لا تقع إلا بنعوت ، منها : العلم.
ومنها : الجهاد ، ومنها : ساير الفضائل وليست فيه ، ومن كانت بيعته فلتة يجب القتل على من فعل مثلها ، كيف يقبل عهده إلى غيره ، وهذه صفته ؟! ثم يقول على المنبر : أن لي شيطانا يعتريني ، فإذا مال بي فقوموني ، وإذا أخطأت فأرشدوني فليسوا أئمة إن صدقوا وإن كذبوا فما عند يحيى شئ في هذا .
فعجب المأمون من كلامه ، وقال : يا أبا الحسن ما في الأرض من يحسن هذا سواك !
وروي عنه ( عليه السلام ) أنه قال : أفضل ما يقدمه العالم من محبينا وموالينا أمامه ليوم فقره وفاقته ، وذله ومسكنته ، أن يغيث في الدنيا مسكينا من محبينا من يد ناصب عدو لله ولرسوله ، فيقوم من قبره والملائكة صفوف ، من شفير قبره إلى موضع محله من جنان الله، فيحملوه على أجنحتهم ، ويقولون : طوبى لك طوباك طوباك يا دافع الكلاب عن الأبرار ، ويا أيها المتعصب للأئمة الأخيار .
وبالإسناد الذي تكرر عن أبي محمد الحسن العسكري ( عليه السلام ) قال : دخل على أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) رجل فقال : يا بن رسول الله لقد رأيت اليوم شيئا عجبت منه .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 236 _
قال : وما هو ؟
قال : رجل كان معنا يظهر لنا أنه : من الموالين لآل محمد المتبرين من أعدائهم فرأيته اليوم عليه ثياب قد خلعت عليه ، وهو ذا يطاف به ببغداد ، وينادي المنادي بين يديه : معاشر المسلمين اسمعوا توبة هذا الرجل الرافضي ثم يقول : قل !
فقال : ( خير الناس بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبا بكر ) فإذا قال ذلك ضجوا وقالوا :
قد تاب ، وفضل أبا بكر على علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
فقال الرضا ( عليه السلام ) إذا خلوت فأعد علي هذا الحديث !
فلما خلى أعاد عليه ، فقال له:
إنما لم أفسر لك معنى كلام الرجل بحضرة هذا الخلق المنكوس ، كراهة أن ينقل إليهم فيعرفوه ويؤذوه ، لم يقل الرجل خير الناس بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( أبو بكر ) فيكون قد فضل أبا بكر على علي ( عليه السلام ) ، ولكن قال : خير الناس بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( أبا بكر ) فجعله نداء لأبي بكر ليرضي من يمشي بين يديه من بعض هؤلاء ، الجهلة ، ليتوارى من شرورهم ، إن الله تعالى جعل هذه التورية مما رحم به شيعتنا .
وبهذا الإسناد عن أبي محمد العسكري ( عليه السلام ) أنه قال : لما جعل المأمون إلى علي ابن موسى الرضا ( عليه السلام ) ولاية العهد ، دخل عليه آذنه فقال :
إن قوما بالباب يستأذنون عليك ، يقولون : ( نحن من شيعة علي ( عليه السلام ) .
فقال : أنا مشغول فاصرفهم !
فصرفهم إلى أن جاءوا هكذا يقولون ويصرفهم شهرين ، ثم أيسوا من الوصول فقالوا : ( قل لمولانا إن شيعة أبيك علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قد شمت بنا أعداؤنا في حجابك لنا ، ونحن ننصرف عن هذه الكرة ، ونهرب من بلادنا خجلا وأنفة مما لحقنا ، وعجزا عن احتمال مضض ما يلحقنا من أعدائنا ) .
فقال علي بن موسى ( عليهما السلام ) : إئذن لهم ليدخلوا ، فدخلوا عليه فسلموا عليه فلم يرد عليهم ، ولم يأذن لهم بالجلوس ، فبقوا قياما.
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 237 _
فقالوا : يا بن رسول الله ما هذا الجفاء العظيم ، والاستخفاف بعد هذا الحجاب الصعب ، أي باقية تبقى منا بعد هذا ؟
فقال الرضا ( عليه السلام ) : اقرؤا : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) (1) والله ما اقتديت إلا بربي عز وجل وبرسوله وبأمير المؤمنين ومن بعده من آبائي الطاهرين ( عليهم السلام ) ، عتبوا عليكم فاقتديت بهم .
قالوا : لماذا يا بن رسول الله ؟
قال : لدعواكم أنكم شيعة أمير المؤمنين ! ويحكم إن شيعته : الحسن والحسين وسلمان ، وأبو ذر ، والمقداد ، وعمار ، ومحمد بن أبي بكر الذين لم يخالفوا شيئا من أوامره، وأنتم في أكثر أعمالكم له مخالفون ، وتقصرون في كثير من الفرائض وتتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في الله، وتتقون حيث لا تجب التقية ، وتتركون التقية حيث لا بد من التقية ، لو قلتم : إنكم مواليه ومحبوه ، والموالون لأوليائه والمعادون لأعدائه ، لم أنكره من قولكم ، ولكن هذه مرتبة شريفة ادعيتموها إن لم تصدقوا قولكم بفعلكم هلكتم ، إلا أن تتدارككم رحمة ربكم .
قالوا : يا بن رسول الله! فإذا نستغفر الله ونتوب إليه من قولنا بل نقول كما علمنا مولانا : نحن محبوكم ومحبوا أوليائكم ، ومعادوا أعدائكم .
قال الرضا ( عليه السلام ) : فمرحبا بكم إخواني ، وأهل ودي ، ارتفعوا ! فما زال يرفعهم حتى ألصقهم بنفسه ، ثم قال لحاجبه .
كم مرة حجبتهم ؟
قال : ستين مرة .
قال : فاختلف إليهم ستين مرة متوالية ، فسلم عليهم واقرأهم سلامي فقد محوا ما كان من ذنوبهم باستغفارهم وتوبتهم ، واستحقوا الكرامة لمحبتهم لنا وموالاتهم ، وتفقد أمورهم وأمور عيالاتهم ، فأوسعهم نفقات ومبرات وصلات ودفع معرات .
---------------------------
(1) الشورى ـ 30 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 238 _
روى أبو داود بن القسم الجعفري (1) قال : قلت لأبي جعفر الثاني ( عليه السلام ) :
قل هو الله أحد ، ما معنى الأحد ؟
قال : المجمع عليه بالوحدانية ، أما سمعته يقول : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله) (2) ثم يقولون بعد ذلك له شريك وصاحبة .
فقلت : قوله : ( لا تدركه الأبصار ) (3) ؟
قال : يا أبا هاشم ! أوهام القلوب أدق من أبصار العيون ، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند ، والبلدان التي لم تدخلها ، ولم تدرك ببصرك ذلك ، فأوهام القلوب لا تدركه ، فكيف تدركه الأبصار .
وسئل ( عليه السلام ) : أيجوز أن يقال لله : أنه شئ ؟
فقال : نعم ، تخرجه من الحدين : حد الإبطال ، وحد التشبيه .
وعن أبي هاشم الجعفري قال : كنت عند أبي جعفر الثاني ( عليه السلام ) فسأله رجل فقال :
---------------------------
(1) داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رحمه الله ذكره الشيخ في الفهرست ص 93 فقال : له كتاب ، وذكره في رجاله في أصحاب الرضا ( عليه السلام ) ص 375 وفي أصحاب الجواد ( عليه السلام ) ص 401 وقال : ثقة جليل القدر وفي أصحاب الهادي ( عليه السلام ) ص 414 وفي أصحاب العسكري ص 431 .
وذكره العلامة في الخلاصة فقال : يكنى أبا هاشم الجعفري رحمه الله من أهل بغداد ثقة جليل القدر، عظيم المنزلة عند الأئمة( عليهم السلام ) شاهد أبا جعفر وأبا الحسن وأبا محمد( عليهم السلام ) وكان شريفا عندهم ، له موقع جليل عندهم ، روى أبوه عن الصادق ( عليه السلام )
(2) العنكبوت ـ 61 .
(3) الأنعام ـ 103 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 239 _
أخبرني عن الرب تبارك وتعالى أله أسماء وصفات في كتابه، وهل أسماؤه وصفاته هي هو ؟
فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : أن لهذا الكلام وجهين : إن كنت تقول : ( هي هو ) أنه : ذو عدد وكثرة ، فتعالى الله عن ذلك ، وإن كنت تقول : هذه الأسماء والصفات لم تزل ، فإن ما لم تزل محتمل على معنيين : فإن قلت لم تزل عنده في علمه ، وهو يستحقها فنعم ، وإن كنت تقول : لم تزل صورها وهجاؤها وتقطيع حروفها فمعاذ الله أن يكون معه شئ غيره، بل كان الله تعالى ذكره ولا خلق ، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه ، يتضرعون بها إليه ويعبدون ، وهي : ( ذكره ) وكان الله سبحانه ولا ذكر، والمذكور بالذكر هو الله القديم الذي لم يزل ، والأسماء والصفات مخلوقات ، والمعني بها هو الله، لا يليق به الاختلاف ولا الايتلاف، وإنما يختلف ويتألف المتجزي ، ولا يقال له قليل ولا كثير ، ولكنه القديم في ذاته ، لأن ما سوى الواحد متجزي والله واحد ولا متجزي ، ولا متوهم بالقلة والكثرة وكل متجزي أو متوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دال على خالق له ، فقولك : ( إن الله قدير ) خبرت أنه لا يعجزه شئ ، فنفيت بالكلمة العجز ، وجعلت العجز لسواه ، وكذلك قولك : ( عالم ) إنما نفيت بالكلمة الجهل ، وجعلت الجهل لسواه ، فإذا أفنى الله الأشياء أفنى ( الصورة والهجاء والتقطيع ) فلا يزال من لم يزل عالما .
فقال الرجل : فكيف سمينا ربنا سميعا ؟
فقال : لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأسماع ، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس ، وكذلك سميناه ( بصيرا ) لأنه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من :
لون أو شخص أو غير ذلك ، ولم نصفه ببصر طرفة العين ، وكذلك سميناه ( لطيفا ) لعلمه بالشئ اللطيف مثل : ( البعوضة ) وما هو أخفى من ذلك ، وموضع المشي منها والشهوة والسفاد ، والحدب على أولادها ، وإقامة بعضها على بعض ، ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمغاور والأودية والقفار ، وعلمنا بذلك أن خالقها لطيف بلا كيف ، إذ الكيف للمخلوق المكيف ، وكذلك سمينا ربنا ( قويا ) بلا
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 240 _
قوة البطش المعروف من الخلق ، ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من الخلق لوقع التشبيه واحتمل الزيادة ، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان ، وما كان ناقصا كان غير قديم ، وما كان غير قديم كان عاجزا ، فربنا تبارك وتعالى لا شبه له ، ولا ضد ولا ند ، ولا كيفية ، ولا نهاية ، ولا تصاريف ، محرم على القلوب أن تحتمله ، وعلى الأوهام أن تحده ، وعلى الضمائر أن تصوره ، عز وجل عن أداة خلقه ، وسمات بريته ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
عن الريان بن شبيب (1) قال : لما أراد المأمون أن يزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر محمد بن علي ( عليه السلام ) بلغ ذلك العباسيين فغلظ عليهم ذلك ، واستنكروا منه وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا ( عليه السلام ) ، فخاضوا في ذلك واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه ، فقالوا : ننشدك الله يا أمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا ( عليه السلام ) فإنا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملكناه الله، وينتزع منا عزا قد ألبسناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديما وحديثا وما كان عليه خلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم ، وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت ، وكفانا الله المهم من ذلك ، فالله الله أن ترديا إلى غم قد انحسر عنا ، واصرف رأيك عن ابن الرضا ( عليه السلام ) وأعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره .
فقال لهم المأمون : أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ، ولو أنصفتم القوم لكان أولى بكم ، وأما ما كان يفعله من قبلي بهم ، فقد كان به قاطعا للرحم ، وأعوذ بالله من ذلك ، ووالله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى ، وكان أمر الله قدرا مقدورا .
وأما أبو جعفر محمد بن علي ، فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل ، مع صغر سنه والأعجوبة فيه بذلك ، وأنا أرجو أن يظهر للناس
---------------------------
(1) قال العلامة الحلي رحمه الله في القسم الأول من خلاصته ص 71 ( الريان أن شبيب ـ بالشين المعجمة وبعدها باء منقطة ـ خال المعتصم ، ثقة ).
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 241 _
ما قد عرفته منه ، فيعلموا أن الرأي ما رأيت .
فقالوا : إن هذا الفتى وإن راقك منه هديه فإنه صبي لا معرفة له ولا فقه ، فأمهله ليتأدب ثم اصنع ما ترا بعد ذلك .
فقال لهم : ويحكم أني أعرف بهذا الفتى منكم ، وأن هذا من أهل بيت علمهم من الله تعالى ومواده وإلهامه ، لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال ، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم به ما وصفت لكم من حاله .
قالوا : لقد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه ، فخل بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شئ من فقه الشريعة ، فإن أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في حقه ، وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين فيه وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه .
فقال لهم المأمون : شأنكم وذلك متى أردتم.
فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم ـ وهو يومئذ قاضي الزمان ـ على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها ، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك ، وعادوا إلى المأمون فسألوه أن يختار لهم يوما للاجتماع فأجابهم إلى ذلك ، واجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه ، وحضر معهم يحيى بن أكثم ، وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست ويجعل له فيه مسورتان ففعل ذلك ، وخرج أبو جعفر ( عليه السلام ) وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر ، فجلس بين المسورتين ، وجلس يحيى بن أكثم بين يديه ، فقام الناس في مراتبهم ، والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر ( عليه السلام ) .
فقال يحيى بن أكثم للمأمون : تأذن لي يا أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر عن مسألة ؟
فقال المأمون : استأذنه في ذلك .
فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال : أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 242 _
فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : سل إن شئت !
فقال يحيى : ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيدا ؟
فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : قتله في حل أو حرم ، عالما كان المحرم أو جاهلا قتله عمدا أو خطأ ، حرا كان المحرم أو عبدا ، صغيرا كان أو كبيرا ، مبتدئا بالقتل أو معيدا ، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ، من صغار الصيد أم من كباره مصرا على ما فعل أو نادما ، في الليل كان قتله للصيد أم بالنهار ، محرما كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما ؟
فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ، وتلجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس عجزه .
فقال المأمون : الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ، ثم نظر إلى أهل بيته فقال لهم : أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ؟ ثم أقبل إلى أبي جعفر فقال له :
أتخطب يا أبا جعفر ؟
قال : نعم ، يا أمير المؤمنين .
فقال له المأمون : اخطب لنفسك جعلت فداك! فقد رضيتك لنفسي وأنا مزوجك أم الفضل ابنتي وإن رغم أنوف قوم لذلك .
فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : الحمد لله إقرارا بنعمته ، ولا إله إلا الله إخلاصا لوحدانيته ، وصلى الله على سيد بريته ، والأصفياء من عترته .
أما بعد : فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام فقال سبحانه : ( وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله والله واسع عليم ) (1) ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد الله المأمون ، وقد بذل لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد ( عليهما السلام ) ، وهو : ( خمسمائة درهم ) جيادا فهل زوجته يا أمير المؤمنين بها
---------------------------
(1) النور ـ 32 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 243 _
على هذا الصداق المذكور ؟
فقال المأمون : نعم ، قد زوجتك يا أبا جعفر أم الفضل ابنتي على الصداق المذكور ، فهل قبلت النكاح ؟
قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : نعم ، قد قبلت ذلك ورضيت به .
فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم من الخاصة والعامة .
قال الريان : ولم نلبث أن سمعنا أصواتا تشبه الملاحين في محاوراتهم ، فإذا الخدم يجرون سفينة مصنوعة من فضة تشد بالحبال من الإبريسم، على عجلة مملوة من الغالية ، فأمر المأمون أن تخضب لحى الخاصة من تلك الغالية ففعلوا ذلك ، ثم مدت إلى دار العامة فتطيبوا بها ، ووضعت الموائد فأكل الناس ، وخرجت الجوائز إلى كل قوم على قدرهم .
فلما تفرق الناس وبقي من الخاصة من بقي قال المأمون لأبي جعفر ( عليه السلام ) :
جعلت فداك ! إن رأيت أن تذكر الفقه فيما فصلته من وجوه قتل المحرم لنعلمه ونستفيده .
فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : نعم إن المحرم إذا قتل صيدا في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة ، وإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا ، وإذا قتل فرخا في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن ، فإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ ، فإذا كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة وإن كان نعامة فعليه بدنة ، وإن كان ظبيا فعليه شاة ، فإن كان قتل شيئا من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا هديا بالغ الكعبة ، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه للحج نحره بمنى ، وإن كان إحرام بعمرة نحره بمكة وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء ، وفي العمد عليه المأثم ، وهو موضوع عنه في الخطأ ، والكفارة على الحر في نفسه ، وعلى السيد في عبده ، والصغير لا كفارة عليه ، وهي على الكبير واجبة ، والنادم يسقط ندمه عنه عقاب الآخرة ، والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 244 _
فقال المأمون : أحسنت يا أبا جعفر أحسن الله إليك ، فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك ؟
فقال أبو جعفر ليحيى : أسألك ؟
قال : ذلك إليك جعلت فداك ، فإن عرفت جواب ما تسألني عنه وإلا استفدته منك .
فقال أبو جعفر ( عليه السلام ): أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه ، فلما ارتفع النهار حلت له ، فلما زالت الشمس حرمت عليه ، فلما كان وقت العصر حلت له ، فلما كانت الشمس حرمت عليه ، فلما دخل وقت العشاء الآخرة حلت له ، فلما كان وقت انتصاف الليل حرمت عليه ، فلما طلع الفجر حلت له ، ما حال هذه المرأة ، وبماذا حلت له وحرمت عليه ؟
فقال له يحيى بن أكثم : لا والله لا اهتدي إلى جواب هذا السؤال، ولا أعرف الوجه فيه ، فإن رأيت أن تفيدنا .
فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : هذه أمة لرجل من الناس ، نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه ، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له، فلما كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه ، فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له ، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها (1) فحرمت عليه ، فلما كان وقت العشاء الآخرة كفر عن الظهار فحلت له ، فلما كان نصف الليل طلقها طلقة واحدة فحرمت عليه ، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له .
( قال ) : فأقبل المأمون على من حضر من أهل بيته وقال لهم : هل فيكم من يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب ، أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال ؟
قالوا : لا والله إن أمير المؤمنين أعلم بما رأى .
فقال : ويحكم إن أهل هذا البيت خصوا من الخلق بما ترون من الفضل ،
---------------------------
(1) الظهار هو : أن يقول الرجل لزوجته ( أنتي علي كظهر أمي ) فإذا قال لها ذلك : حرمت عليه ولا يرجع بها إلا بعد أن يعطي الكفارة .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 245 _
وإن صغر السن لا يمنعهم من الكمال ، أما علمتم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وهو ابن عشر سنين ، وقبل منه الإسلام وحكم له به ، ولم يدع أحدا في سنه غيره ، وبايع الحسن والحسين عليهما السلام وهما دون الست سنين ولم يبايع صبيا غيرهما ؟ أو لا تعلمون الآن ما اختص الله به هؤلاء القوم وأنهم ذرية بعضها من بعض ، يجري لآخرهم ما يجري لأولهم ؟
قالوا : صدقت يا أمير المؤمنين .
ثم نهض القوم ، فلما كان من الغد حضر الناس وحضر أبو جعفر ( عليه السلام ) ، وصار القواد والحجاب والخاصة والعمال لتهنئة المأمون وأبي جعفر ( عليه السلام ) فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة ، فيها بنادق مسك وزعفران معجون في أجواف تلك البنادق ورقاع مكتوبة بأموال جزيلة وعطايا سنية ، وإقطاعات ، فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصته ، فكان كل من وقع في يده بندقة أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فأطلق له ، ووضعت البدر فنثر ما فيها على القواد وغيرهم ، وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا ، وتقدم المأمون بالصدقة على كافة المساكين ، ولم يزل مكرما لأبي جعفر ( عليه السلام ) معظما لقدره مدة حياته ، يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته .
وروي : أن المأمون بعدما زوج ابنته أم الفضل أبا جعفر، كان في مجلس وعنده أبو جعفر ( عليه السلام ) ويحيى بن أكثم وجماعة كثيرة .
فقال له يحيى بن أكثم : ما تقول يا بن رسول الله في الخبر الذي روي :
أنه ( نزل جبرئيل ( عليه السلام ) على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال : يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك : سل أبا بكر هل هو عني راض فإني عنه راض) (1) .
---------------------------
(1) قال الحجة الأميني في الغدير في ج 6 بعد ذكر هذا الحديث الموضوع :
( أخرجه الخطيب البغدادي في تأريخه ج 2 ص 106 من طريق محمد بن بابشاذ صاحب الطامات ساكتا عن بطلانه جريا على عادته ، وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ج 2 ص 213 فقال : كذب ) .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 246 _
فقال أبو جعفر ( عليه السلام ) : لست بمنكر فضل أبي بكر ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حجة الوداع : ( قد كثرت علي الكذابة وستكثر بعدي فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار فإذا أتاكم الحديث عني فاعرضوه على كتاب الله وسنتي ، فما وافق كتاب الله وسنتي فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا تأخذوا به ) وليس يوافق هذا الخبر كتاب الله قال الله تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) (1) فالله عز وجل خفي عليه رضاء أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سره ، هذا مستحيل في العقول .
ثم قال يحيى بن أكثم : وقد روي : ( أن مثل أبي بكر وعمر في الأرض كمثل جبرئيل وميكائيل في السماء ) .
فقال : وهذا أيضا يجب أن ينظر فيه ، لأن جبرئيل وميكائيل ملكان لله مقربان يم يعصيا الله قط ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة ، وهما قد أشركا بالله عز وجل وإن أسلما بعد الشرك ، فكان أكثر أيامهما الشرك بالله فمحال أن يشبههما بهما .
قال يحيى : وقد روي أيضا : ( أنهما سيدا كهول أهل الجنة ) (2) فما تقول فيه ؟
---------------------------
(1) ق ـ 16 .
(2) ذكره الحجة الأميني في سلسلة الموضوعات ج 5 ص 276 من كتاب الغدير فقال :
(من موضوعات يحيى بن عنبسة وهو ذلك الدجال الوضاع ذكره الذهبي في الميزان ج 3 ص 126 وقال : قال يونس بن حبيب : ذكرت لعلي بن المدائني محمد بن كثير المصيصي وحديثه هذا فقال علي : كنت أشتهي أن أرى هذا الشيخ فالآن لا أحب أن أراه ، ورواه من طريق عبد الرحمن بن مالك بن مغول الكذاب الأفاك الوضاع .
وفي تلخيص الشافي ص 219 من الجزء الثاني :
(أما الخبر الذي يتضمن أنهما سيدا كهول أهل الجنة فمن تأمل أصل هذا الخبر
=>
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 247 _
فقال ( عليه السلام ) : وهذا الخبر محال أيضا ، لأن أهل الجنة كلهم يكونون شبابا ولا يكون فيهم كهل ، وهذا الخبر وضعه بنو أمية لمضادة الخبر الذي قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الحسن والحسن ( عليهما السلام ) : بأنهما ( سيدا شباب أهل الجنة ) .
فقال يحيى بن أكثم : وروي : ( أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة ) .
فقال ( عليه السلام ) : وهذا أيضا محال ، لأن في الجنة ملائكة الله المقربين ، وآدم ومحمد ، وجميع الأنبياء والمرسلين ، لا تضئ الجنة بأنوارهم حتى تضئ بنور عمر .
فقال يحيى : وقد روي : ( أن السكينة تنطق على لسان عمر ) (1) .
فقال ( عليه السلام ) : لست بمنكر فضل عمر ، ولكن أبا بكر أفضل من عمر : فقال ـ على رأس المنبر ـ : ( أن لي شيطانا يعتريني ، فإذا ملت فسددوني ) .
---------------------------
<=
بعين إنصاف علم أنه موضوع في أيام بني أمية معارضة لما روي من قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الحسن والحسين : ( أنهما سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما ).
وهذا الخبر الذي ادعوه يروونه عن عبيد الله بن عمر وحال عبيد الله في الانحراف من أهل البيت معروفة وهو أيضا كالجار إلى نفسه على أنه لا يخلو من أن يريد بقوله :
( سيدا كهول الجنة ) أنهما سيدا كهول من هو في الجنة، أو يراد أنهما سيدا من يدخل الجنة من كهول الدنيا ، فإن كان الأول، فذلك باطل ، لأن رسول الله قد وقفنا ـ وأجمعت الأمة ـ على أن جميع أهل الجنة جرد مرد ، وأنه لا يدخلها كهل وإن كان الثاني فذلك دافع ومناقض للحديث المجمع على روايته من قوله في الحسن والحسين أنهما سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما ... الخ) .
(1) بهذا المضمون وردت عدة روايات منها : أن الحق ينطق على لسان عمر وأن ملكا ينطق على لسانه وغير ذلك قال في تلخيص الشافي ج 2 ص 247 :
وأما ما روي من قوله : ( الحق ينطق على لسان عمر ) فإن كان صحيحا فإنه يقتضي عصمة عمر ، والقطع على أن أقواله كلها حجة وليس هذا مذهب أحد فيه لأنه لا خلاف في أنه ليس بمعصوم وأن خلافه سائغ .
وكيف يكون الحق ناطقا على لسان من يرجع في الأحكام من قول إلى قول ، وشهد لنفسه بالخطأ ، ويخالف بالشئ ثم يعود إلى قول من خالفه ويوافقه عليه ويقول :
=>
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 248 _
فقال يحيى : قد روي : أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: (لو لم أبعث لبعث عمر) (1) .
فقال ( عليه السلام ) : كتاب الله أصدق من هذا الحديث ، يقول الله في كتابه : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ) (2) فقد أخذ الله ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه ، وكل الأنبياء( عليهم السلام ) لم يشركوا بالله طرفة عين ، فكيف يبعث بالنبوة من أشرك وكان أكثر أيامه مع الشرك بالله ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
نبئت وآدم بين الروح والجسد ) .
فقال يحيى بن أكثم : وقد روي أيضا : أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( ما احتبس عني الوحي قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب ) (3).
---------------------------
<=
( لولا علي لهلك عمر ) و ( لولا معاذ لهلك عمر ) وكيف لا يحتج بهذا الخبر هو لنفسه في بعض المقامات التي احتاج إلى الإحتجاج فيها .
وكيف لم يقل أبو بكر لطلحة ـ حين أنكر نصه عليه ـ بأن الحق ينطق على لسانه ).
وأحصى الحجة الأميني في ج 6 من الغدير مائة مخالفة لعمر بن الخطاب ثم قال :
هذا قليل من كثير مما وقفنا عليه من ( نوادر الأثر في علم عمر ) وبوسعنا الآن أن نأتي بأضعاف ما سردناه لكنا نقتصر على هذا رعاية لمقتضى الحال.
(1) قال الأميني في الجزء الخامس من الغدير أخرجه ابن عدي بطريقين :
وقال : لا يصح زكريا (الوكار) كذاب يضع ، وابن واقد عبد الله متروك ، ومشرح ابن ( عاهان ) لا يحتج به .
(2) الأحزاب ـ 7 .
(3) قال الأميني في ج 6 ص 312 من الغدير : وأمثال هذه الأكاذيب فإن من يكون بتلك المثابة حتى يكاد أن يبعث نبيا لا يفقد علم واضحات المسائل عند ابتلائه أو ابتلاء من يرجع أمره إليه من أمته بها ، ولا يتعلم القرآن في اثنتي عشر سنة وأين كان الحق والملك والسكينة يوم كان لا يهتدي إلى أمهات المسائل سبيلا فلا تسدده ولا تفرغ الجواب على لسانه ، ولا تضع الحق في قلبه ، وكيف يسع المسدد بذلك كله أن يحسب كل الناس أفقه منه حتى ربات الحجال ؟ وكيف كان يأخذ علم الكتاب والسنة من نساء الأمة وغوغاء
=>
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 249 _
فقال ( عليه السلام ) : وهذا محال أيضا ، لأنه لا يجوز أن يشك النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في نبوته قال الله تعالى : ( الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ) (1) فكيف يمكن أن ينتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به .
قال يحيى : روي : أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( لو نزل العذاب لما نجى منه إلا عمر ) .
فقال ( عليه السلام ) : وهذا محال أيضا، لأن الله تعالى يقول : ( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) (2) فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحدا ما دام فيهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وما داموا يستغفرون .
وعن عبد العظيم الحسني رضي الله عنه قال : قلت لمحمد بن علي بن موسى ( عليهم السلام ) :
يا مولاي أني لأرجو أن تكون القائم من أهل بيت محمد الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا .
---------------------------
<=
الناس فضلا عن رجالها وأعلامها ؟ وكيف كان يرى عرفان لفظة في القرآن تكلفا ويقول : هذا لعمر الله هو التكلف ، ما عليك يا بن أم عمر أن لا تدري ما الأب ؟
وكيف كان يأخذ عن أولئك الجم الغفير من الصحابة ويستفتيهم في الأحكام ؟ وكيف كان يعتذر عن جهله أوضح ما يكون من السنة بقوله: ألهاني عنه الصفق بالأسواق ؟
وكيف كان لم يسعه أن يعلم الكلالة ويقيمها ولم يتمكن من تعلم صور ميراث الجد وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : ما أراه يعلمها ، وما أراه يقيمها ، ويقول : أني أظنك تموت قبل أن تعلم ذلك ! وكيف كان مثل أبي بن كعب يغلظ له في القول ويراه ملهى عن علم الكتاب بالصفق بالأسواق وبيع الخيط والقرظة ؟ وكيف كان أمير المؤمنين جاهلا بتأويل القرآن ؟ وكيف وكيف وكيف وكيف !!! نعم راق للقوم أن ينحتوا له فضائل ويغالوا فيها ولم يترووا في لوازمها وحسبوا أن المستقبل الكشاف يمضي كما مضت القرون خاليا عن باحث أو منقب ، أو أن بواعث الارهاب يلجم لسانه عن أن ينطق ، ويضرب على يده عن أن تكتب ، ولا تفسح حرية القلم والمذاهب والأفكار للعلماء أن يبوحوا بما عندهم .
(1) الحج ـ 75 .
(2) الأنفال ـ 38 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 250 _
فقال ( عليه السلام ) : ما منا إلا قائم بأمر الله، وهاد إلى دين الله، ولكن القائم الذي يطهر الله به الأرض من أهل الكفر والجحود ويملأ الأرض قسطا وعدلا هو :
الذي يخفى على الناس ولادته ، ويغيب عنهم شخصه ، ويحرم عليهم تسميته ، وهو سمي رسول الله وكنيه ، وهو الذي تطوى له الأرض، ويذل له كل صعب ، يجتمع إليه من أصحابه عدة أهل بدر : ( ثلاثمائة وثلاثة عشر) رجلا من أقاصي الأرض وذلك قول الله: ( أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شئ قدير ) (1) فإذا اجتمعت له هذه العدة من أهل الإخلاص ، أظهر الله أمره ، فإذا كمل له العقد وهو : ( عشرة آلاف) رجل خرج بإذن الله، فلا يزال يقتل أعداء الله حتى يرضى عز وجل .
قال عبد العظيم : فقلت له : يا سيدي فكيف يعلم أن الله قد رضي ؟
قال : يلقي في قلبه الرحمة ، فإذا دخل المدينة أخرج اللات والعزى فأحرقهما .
سئل أبو الحسن ( عليه السلام ) عن التوحيد فقيل له : لم يزل الله وحده لا شئ معه ثم خلق الأشياء بديعا واختار لنفسه الأسماء ، ولم تزل الأسماء والحروف له معه قديمة ؟
فكتب : لم يزل الله موجودا ثم كون ما أراد ، لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، تاهت أوهام المتوهمين ، وقصر طرف الطارفين ، وتلاشت أوصاف الواصفين واضمحلت أقاويل المبطلين عن الدرك لعجيب شأنه ، أو الوقوع بالبلوغ على علو مكانه ، فهو بالموضع الذي لا يتناهى ، وبالمكان الذي لم يقع عليه عيون بإشارة ولا عبارة ، هيهات هيهات !!