وحدثنا أحمد بن إسحاق (1) قال كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد العسكري أسأله عن الرؤية وما فيه الخلق فكتب :
لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر ، فمتى انقطع الهواء وعدم الضياء لم تصح الرؤية ، وفي جواب اتصال الضيائين الرائي والمرئي وجوب الاشتباه ، والله تعالى منزه عن الاشتباه ، فنثبت أنه لا يجوز عليه سبحانه الرؤية بالأبصار ، لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات .
وعن العباس بن هلال(2) قال : سألت أبا الحسن علي بن محمد ( عليه السلام ) عن قول الله عز وجل : ( الله نور السماوات والأرض) (3) ، فقال ( عليه السلام ) : يعني هادي من في السماوات ومن في الأرض.
ومما أجاب به أبو الحسن علي بن محمد العسكري ( عليه السلام ) في رسالته إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض أن قال : اجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك : أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها ، فهم في حالة الاجماع عليه مصيبون ، وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون ، ولقول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( لا تجتمع أمتي على ضلالة ) فأخبر ( عليه السلام ) أن ما اجتمعت عليه الأمة ولم يخالف بعضها بعضا هو الحق ، فهذا معنى الحديث لا ما تأوله الجاهلون (4) ، ولا ما قاله المعاندون
---------------------------
(1) ذكره الشيخ في أصحاب الجواد ص 398 من رجاله وقال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 15 : أحمد بن إسحاق بن سعد بن عبد الله بن سعد بن مالك الأحوص الأشعري ، أبو علي القمي ، كان وافد القميين ، روى عن أبي جعفر الثاني ( عليه السلام ) وأبي الحسن ( عليه السلام ) وكان خاصة أبي محمد ( عليه السلام ) وهو شيخ القميين رأي صاحب الزمان ( عليه السلام ) .
(2) العباس بن هلال الشامي : ذكره الشيخ في رجاله في عداد أصحاب الرضا ( عليه السلام ) ص 382 والنجاشي ص 217 وقال : روى عن الرضا ( عليه السلام ) .
(3) النور ـ 35 .
(4) أي : ما تأولوه من قولهم بالإجماع في اختيار الإمام الذي لم يجعل لهم الله الخيرة فيه .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 252 _
ومن إبطال حكم الكتاب واتباع حكم الأحاديث المزورة والروايات المزخرفة ، اتباع الأهواء المردية المهلكة التي تخالف نص الكتاب ، وتحقيق الآيات الواضحات النيرات ، ونحن نسأل الله أن يوفقنا للصواب ، ويهدينا إلى الرشاد.
ثم قال ( عليه السلام ) : فإذا شهد الكتاب بتصديق خبر وتحقيقه فأنكرته طائفة من الأمة، وعارضته بحديث من هذه الأحاديث المزورة ، فصارت بإنكارها ودفعها الكتاب كفارا ضلالا، وأصح خبر ما عرف تحقيقه من الكتاب مثل الخبر المجمع عليه من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث قال : ( إني مستخلف فيكم خليفتين : كتاب الله وعترتي ، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ، وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ) (1) واللفظة الأخرى عنه في هذا المعنى بعينه قوله ( عليه السلام ) : ( إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وأنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا) فلما وجدنا شواهد هذا الحديث نصا في كتاب الله مثل قوله : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (2) ثم اتفقت روايات العلماء في ذلك لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
أنه تصدق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له وأنزل الآية فيه ، (3) ثم وجدنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أبانه من أصحابه بهذه اللفظة : ( من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ) (4) وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : (علي يقضي ديني وينجز موعدي وهو خليفتي عليكم بعدي ) وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث استخلفه على المدينة فقال :
يا رسول الله أتخلفني على النساء والصبيان ؟
فقال : ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) (5)
---------------------------
(1) راجع حديث الثقلين في هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 216 .
(2) المائدة ـ 58 .
(3) راجع هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 167 .
(4) راجع هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 161 و 196 .
(5) راجع هامش الجزء الأول من هذا الكتاب ص 262 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 253 _
فعلمنا إن الكتاب شهد بتصديق هذه الأخبار ، وتحقيق هذه الشواهد ، فلزم الأمة الاقرار بها إذا كانت هذه الأخبار وافقت القرآن ، ووافق القرآن هذه الأخبار فلما وجدنا ذلك موافقا لكتاب الله، ووجدنا كتاب الله لهذه الأخبار موافقا ، وعليها دليلا ، كان الاقتداء بهذه الأخبار فرضا لا يتعداه إلا أهل العناد والفساد .
ثم قال ( عليه السلام ) : ومرادنا وقصدنا الكلام في الجبر والتفويض وشرحهما وبيانهما وإنما قدمنا ما قدمنا ليكون اتفاق الكتاب والخبر إذا اتفقا دليلا لما أردناه ، وقوة لما نحن مبينوه من ذلك إن شاء الله.
( فقال ) : الجبر والتفويض يقول الصادق جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) ، عند ما سئل عن ذلك فقال : لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين الأمرين .
قيل : فماذا يا بن رسول الله ؟
فقال : صحة العقل ، وتخلية السرب ، والمهلة في الوقت ، والزاد قبل الراحلة والسبب المهيج للفاعل على فعله ، فهذه خمسة أشياء فإذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنه مطرحا بحسبه ، وأنا أضرب لكل باب من هذه الأبواب الثلاثة وهي : الجبر ، والتفويض ، والمنزلة بين المنزلتين، مثلا يقرب المعنى للطالب ، ويسهل له البحث من شرحه ، ويشهد به القرآن بمحكم آياته ، ويحقق تصديقه عند ذوي الألباب ، وبالله العصمة والتوفيق .
ثم قال ( عليه السلام ): فأما الجبر ، فهو : قول من زعم أن الله عز وجل جبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله وكذبه ، ورد عليه قوله: ( ولا يظلم ربك أحدا ) (1) وقوله جل ذكره : ( ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ) (2) مع آي كثيرة في مثل هذا ، فمن زعم أنه مجبور على المعاصي فقد أحال بذنبه على الله وظلمه في عقوبته له ، ومن ظلم ربه فقد كذب كتابه ، ومن كذب كتابه لزمه ( الكفر ) بإجماع الأمة ، فالمثل المضروب في ذلك :
---------------------------
(1) الكهف ـ 50
(2) الحج ـ 10 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 254 _
مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك إلا نفسه ، ولا يملك عرضا من عروض الدنيا ويعلم مولاه ذلك منه ، فأمره ـ على علم منه بالمصير ـ إلى السوق لحاجة يأتيه بها ولم يملكه ثمن ما يأتيه به ، وعلم المالك أن على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن ، وقد وصف به مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة وإظهار الحكمة ونفي الجور ، فأوعد عبده إن لم يأته بالحاجة يعاقبه، فلما صار العبد إلى السوق ، وحاول أخذ الحاجة التي بعثه بها ، وجد عليها مانعا يمنعه منها إلا بالثمن ولا يملك العبد ثمنها ، فانصرف إلى مولاه خائبا بغير قضاء حاجة ، فاغتاظ مولاه لذلك وعاقبه على ذلك ، فإنه كان ظالما متعديا مبطلا لما وصف من عدله وحكمته ونصفته ، وإن لم يعاقبه كذب نفسه ، أليس يجب أن لا يعاقبه والكذب والظلم ينفيان العدل والحكمة ، تعالى الله عما يقول المجبرة علوا كبيرا .
ثم قال العالم ( عليه السلام ) : ـ بعد كلام طويل ـ : فأما التفويض الذي أبطله الصادق ( عليه السلام ) وخطأ من دان به ، فهو : قول القائل : ( إن الله عز وجل فوض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم ) .
وهذا الكلام دقيق لم يذهب إلى غوره ودقته إلا الأئمة المهدية ( عليهم السلام ) من عترة آل الرسول صلوات الله عليهم فإنهم قالوا : ( لو فوض الله أمره إليهم على جهة الاهمال لكان لازما له رضا ما اختاروه واستوجبوا به الثواب ، ولم يكن عليهم فيما اجترموا العقاب إذ كان الاهمال واقعا ، وتنصرف هذه المقالة على معنيين : أما أن تكون العباد تظاهروا عليه فالزموه اختيارهم بآرائهم ـ ضرورة ـ كره ذلك أم أحب فقد لزمه الوهن ، أو يكون جل وتقدس عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي عن إرادته ففوض أمره ونهيه إليهم ، وأجراهما على محبتهم إذ عجز عن تعبدهم بالأمر والنهي على إرادته فجعل الاختيار إليهم في الكفر والإيمان ، ومثل ذلك : مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل ولايته ، ويقف عند أمره ونهيه وادعى مالك العبد : أنه قاهر قادر عزيز حكيم ، فأمر عبده ونهاه ، ووعده على اتباع أمره عظيم الثواب وأوعده على معصيته أليم العقاب ، فخالف العبد إرادة مالكه ، ولم يقف عند أمره
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 255 _
ونهيه ، فأي أمر أمره به أو نهاه عنه لم يأتمر على إرادة المولى ، بل كان العبد يتبع إرادة نفسه ، وبعثه في بعض حوائجه وفيما الحاجة له فصار العبد بغير تلك الحاجة خلافا على مولاه وقصد إرادة نفسه واتبع هواه ، فلما رجع إلى مولاه نظر إلى ما أتاه فإذا هو خلاف أمره فقال العبد : اتكلت على تفويضك الأمر إلي فاتبعت هواي وإرادتي لأن المفوض إليه غير محظور عليه لاستحالة اجتماع التفويض والتحظير .
ثم قال ( عليه السلام ) : فمن زعم أن الله فوض قبول أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز ، وأوجب عليه قبول كلما عملوا من خير أو شر ، وأبطل أمر الله ونهيه .
ثم قال : إن الله خلق الخلق بقدرته وملكهم استطاعة ما تعبدهم به من الأمر والنهي، وقبل منهم اتباع أمره ونهيه ورضي بذلك لهم ، ونهاهم عن معصيته وذم من عصاه وعاقبه عليها ، ولله الخيرة في الأمر والنهي يختار ما يريده ويأمر به ، وينهى عما يكره ويثبت ويعاقب بالاستطاعة التي ملكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه لأنه العدل ومنه النصفة والحكومة ، بالغ الحجة بالإعذار والإنذار ، وإليه الصفوة يصطفي من يشاء من عباده ، اصطفى محمدا صلوات الله عليه وآله وبعثه بالرسالة إلى خلقه ولو فوض اختيار أموره إلى عباده لأجاز لقريش اختيار أمية بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي إذ كانا عندهم أفضل من محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما قالوا : ( لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) (1) يعنونهما بذلك فهذا هو : ( القول بين القولين ) ليس بجبر ولا تفويض ، بذلك أخبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حين سأله عتابة بن ربعي الأسدي عن الاستطاعة .
فقال أمير المؤمنين : تملكها من دون الله أو مع الله ؟
فسكت عتابة بن ربعي .
فقال له : قل يا عتابة !
قال : وما أقول ؟
قال : إن قلت تملكها مع الله قتلتك ، وإن قلت تملكها من دون الله قتلتك .
---------------------------
(1) الزخرف ـ 21 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 256 _
قال : وما أقول يا أمير المؤمنين ؟
قال : تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك ، فإن ملككها كان ذلك من عطائه ، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه ، وهو المالك لما ملكك ، والمالك لما عليه أقدرك ، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حيث يقولون : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) .
فقال الرجل : وما تأويلها يا أمير المؤمنين ؟
قال : لا حول لنا عن معاصي الله إلا بعصمة الله، ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله.
قال : فوثب الرجل وقبل يديه ورجليه .
ثم قال ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ) (1) وفي قوله : ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) (2) وفي قوله : ( أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) (3) وقوله : ( ولقد فتنا سليمان (4) وقوله : ( فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ) (5) وقول موسى ( عليه السلام ) :
( إن هي إلا فتنتك ) (6) وقوله : ( ليبلوكم فيما آتاكم ) (7) وقوله : ( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ) (8) وقوله : ( إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ) (9) وقوله : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) (10) وقوله : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ) (11) وقوله : ( ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ) (12) أن جميعها جاءت في القرآن بمعنى الاختيار .
---------------------------
(1) محمد ـ 31 .
(2) الأعراف ـ 181 .
(3) العنكبوت ـ 2 .
(4) سورة ص ـ 34 .
(5) طه ـ 85 .
(6) الأعراف ـ 154 .
(7) المائدة ـ 51 .
(8) آل عمران ـ 152 .
(9) القلم ـ 17 .
(10) هود ـ 7 .
(11) البقرة ـ 142 .
(12) محمد ـ 4 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 257 _
ثم قال ( عليه السلام ) : فإن قالوا ما الحجة في قول الله تعالى : ( يهدي من يشاء ويضل من يشاء ) (1) وما أشبه ذلك ؟
قلنا : فعلى مجاز هذه الآية يقتضي معنيين : أحدهما عن كونه تعالى قادرا على هداية من يشاء وضلالة من يشاء ، ولو أجبرهم على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب ، على ما شرحناه ، والمعنى الآخر : أن الهداية منه ( التعريف ) كقوله تعالى : ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) (2) وليس كل آية مشتبهة في القرآن كانت الآية حجة على حكم الآيات اللاتي أمر بالأخذ بها وتقليدها ، وهي قوله : ( هو الذي أنزل عليكم الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، الآية ) (3) وقال : ( فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ) (4) وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى ، ويقرب لنا ولكم الكرامة والزلفى ، وهدانا لما هو لنا ولكم خير وأبقى ، إنه الفعال لما يريد ، الحكيم المجيد.
عن أبي عبد الله الزيادي (5) قال : لما سم المتوكل ، نذر لله إن رزقه الله العافية أن يتصدق بمال كثير ، فلما سلم وعوفي سأل الفقهاء، عن حد ( المال الكثير ) كم يكون؟ فاختلفوا ، فقال بعضهم : ( ألف درهم ) وقال بعضهم : ( عشرة آلاف) وقال بعضهم : ( مائة ألف ) فاشتبه عليه هذا .
فقال له الحسن حاجبه : إن أتيتك يا أمير المؤمنين من هذا خبرك بالحق والصواب فما لي عندك ؟
فقال المتوكل : إن أتيت بالحق فلك عشرة آلاف درهم ، وإلا أضربك مائة مقرعة .
---------------------------
(1) إبراهيم ـ 4 .
(2) حم ـ السجدة ـ 17 .
(3) آل عمران ـ 7 .
(4) الزمر ـ 18 .
(5) أبو عبد الله الزيادي : لم أعثر له على ترجمة .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 258 _
فقال : قد رضيت ، فأتى أبا الحسن العسكري ( عليه السلام ) فسأله عن ذلك .
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : قل له : يتصدق بثمانين درهما ، فرجع إلى المتوكل فأخبره ، فقال : سله ما العلة في ذلك ؟
فسأله فقال : إن الله عز وجل قال لنبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) (1) فعددنا مواطن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فبلغت ثمانين موطنا .
فرجع إليه فأخبره ففرح ، وأعطاه عشرة آلاف درهم .
وعن جعفر بن رزق الله (2) قال : قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحد فأسلم .
فقال يحيى بن أكثم : قد هدم إيمانه شركه وفعله ، وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، وقال بعضهم : يفعل به كذا وكذا .
فأمر المتوكل بالكتاب إلى أبي الحسن العسكري وسؤاله عن ذلك .
فلما قرأ الكتاب كتب ( عليه السلام ) : يضرب حتى يموت ، فأنكر يحيى وأنكر فقهاء العسكر ذلك ، فقالوا : يا أمير المؤمنين سله عن ذلك فإنه شئ لم ينطق به كتاب ، ولم يجئ به سنة .
فكتب إليه : إن الفقهاء قد أنكروا هذا ، وقالوا : لم يجئ به سنة ولم ينطق به كتاب ، فبين لنا لم أوجبت علينا الضرب حتى يموت ؟
فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم : ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا الآية ) (3) فأمر به المتوكل فضرب حتى مات .
سأل يحيى بن أكثم أبا الحسن العالم ( عليه السلام ) عن قوله تعالى : ( سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) (4) ما هي ؟
---------------------------
(1) التوبة ـ 26 .
(2) روى عنه في التهذيب والكافي ولم أعثر له على ترجمة .
(3) المؤمن ـ 84 و 85 .
(4) لقمان ـ 27 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 259 _
فقال : هي : ( عين الكبريت ) و ( عين اليمن ) و ( عين البرهوت ) و ( عين الطبرية ) و ( جمة ماسيدان ) وجمة ( أفريقا ) و ( عين ما جروان ) ونحن الكلمات التي لا تدرك فضائلنا ولا تستقصى .
وروي عن الحسن العسكري ( عليه السلام ) : أنه اتصل بأبي الحسن علي بن محمد العسكري ( عليه السلام ) : أن رجلا من فقهاء شيعته كلم بعض النصاب فافهمه بحجته حتى أبان عن فضيحته ، فدخل إلى علي بن محمد ( عليه السلام ) وفي صدر مجلسه دست عظيم منصوب وهو قاعد خارج الدست ، وبحضرته خلق من العلويين وبني هاشم ، فما زال يرفعه حتى أجلسه في ذلك الدست، وأقبل عليه فاشتد ذلك على أولئك الأشراف ، فأما العلوية فأجلوه عن العتاب ، وأما الهاشميون فقال له شيخهم : يا بن رسول الله هكذا تؤثر عاميا على سادات بني هاشم من الطالبيين والعباسيين ؟!
فقال ( عليه السلام ) إياكم وإن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ) (1) أترضون بكتاب الله حكما ؟
قالوا : بلى .
قال : أليس الله يقول : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم إلى قوله يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) (2) فلم يرض للعالم المؤمن إلا أن يرفع على المؤمن غير العالم ، كما لم يرض للمؤمن إلا أن يرفع على من ليس بمؤمن ، أخبروني عنه قال :
( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم در جات) ؟ أو قال : ( يرفع الذين أوتوا شرف النسب درجات ) ؟ أو ليس قال الله: ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (3) فكيف تنكرون رفعي لهذا لما رفعه الله ؟! إن كسر هذا ( لفلان ) الناصب بحجج الله التي علمه إياها ، لأفضل له من كل شرف في النسب .
---------------------------
(1) النساء ـ 6 .
(2) المجادلة ـ 11 .
(3) الزمر ـ 9 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 260 _
فقال العباسي : يا بن رسول الله قد أشرفت علينا هو ذا تقصير بنا عمن ليس له نسب كنسبنا ، وما زال منذ أول الإسلام يقدم الأفضل في الشرف على من دونه فيه .
فقال ( عليه السلام ) : سبحان الله أليس عباس بايع أبا بكر وهو ( تيمي ) والعباس ( هاشمي ) ؟ أو ليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطاب وهو (هاشمي) أبو الخلفاء وعمر ( عدوي ) ؟! وما بال عمر أدخل البعداء من قريش في الشورى ولم يدخل العباس ؟ فإن كان رفعنا لمن ليس بهاشمي على هاشمي منكرا فأنكروا على عباس بيعته لأبي بكر ، وعلى عبد الله بن عباس خدمته لعمر بعد بيعته، فإن كان ذلك جائزا فهذا جائز ، فكأنما ألقم الهاشمي حجرا .
وروي عن علي بن محمد الهادي ( عليه السلام ) أنه قال : لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم ( عليه السلام ) من العلماء الداعين إليه ، والدالين عليه ، والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ، ومن فخاخ النواصب ، لما بقي أحد إلا ارتد عن عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها ، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل .
احتجاج أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام في أنواع شتى من علوم الدين.
وبالإسناد المقدم ذكره : أن أبا محمد العسكري ( عليه السلام ) قال ـ في قوله تعالى ـ :
( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ) (1) أي : وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته إذا نظروا إليها بأنهم الذين لا يؤمنون وعلى سمعهم كذلك بسمات ، وعلى أبصارهم غشاوة ، وذلك : أنهم لما أعرضوا عن النظر فيما كلفوه ، وقصروا فيما أريد منهم ، وجهلوا ما لزمهم الإيمان به ، فصاروا
---------------------------
(1) البقرة ـ 7 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 261 _
كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه ، فإن الله عز وجل يتعالى عن العبث والفساد وعن مطالبة العباد بما منعهم بالقهر منه ، فلا يأمرهم بمغالبته ، ولا بالمصير إلى ما قد صدهم بالقسر عنه ، ثم قال : ولهم عذاب عظيم يعني : في الآخرة العذاب المعد للكافرين ، وفي الدنيا أيضا لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح لينبهه لطاعته ، أو من عذاب الاصلاح ليصيره إلى عدله وحكمته .
وروى أبو محمد العسكري ( عليه السلام ) مثل ما قال هو في تأويل هذه الآية من المراد بالختم على قلوب الكفار عن الصادق ( عليه السلام ) بزيادة شرح لم نذكره مخافة التطويل لهذا الكتاب .
وبالإسناد المتكرر من أبي محمد ( عليه السلام ) أنه قال ـ في تفسير قوله تعالى ـ :
( الذي جعل لكم الأرض فراشا ... الآية ) (1) جعلها ملائمة لطبايعكم ، موافقة لأجسادكم ، لم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم ، ولا شديدة البرودة فتجمدكم ، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم ، ولا شديدة النتن فتعطبكم، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم ، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في حرثكم وأبنيتكم ودفن موتاكم ، ولكنه جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به ، وتتماسكون وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم ، وجعل فيها من اللين ما تنقاد به لحرثكم وقبوركم وكثير من منافعكم ، فلذلك جعل الأرض فراشا لكم .
ثم قال : ( والسماء بناء ) يعني : سقفا من فوقكم محفوظا ، يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم .
ثم قال : ( وأنزل من السماء ماء ) يعني : المطر ينزله من علو ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم وأوهادكم ، ثم فرقه رذاذا ووابلا وهطلا وطلا ، لينشقه أرضوكم ، ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة ، ليفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم .
ثم قال : ( وأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) يعني : مما يخرجه من الأرض
---------------------------
(1) البقرة ـ 22 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 262 _
رزقا لكم ، ( فلا تجعلوا لله أندادا ) أشباها وأمثالا من الأصنام التي لا تعقل ، ولا تسمع ، ولا تبصر ، ولا تقدر على شئ ، ( وأنتم تعلمون ) أنها لا تقدر على شئ من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم .
وبالإسناد الذي مضى ذكره عن أبي محمد العسكري ( عليه السلام ) في قوله تعالى :
( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) (1) إن الأمي منسوب إلى ( أمه ) أي : هو كما خرج من بطن أمه ، لا يقرأ ولا يكتب ، ( لا يعلمون الكتاب ) المنزل من السماء ولا المتكذب به ، ولا يميزون بينهما ( إلا أماني ) أي : إلا أن يقرأ عليهم ويقال لهم : إن هذا كتاب الله وكلامه ، لا يعرفون إن قرأ من الكتاب خلاف ما فيه ، ( وإن هم إلا يظنون ) أي ما يقرأ عليهم رؤساؤهم من تكذيب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في نبوته وإمامة علي سيد عترته ، وهم يقلدونهم مع أنه ( محرم عليهم ) تقليدهم ، ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله تعالى ... الخ) (2) هذا : القوم اليهود، كتبوا صفة زعموا أنها صفة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهي خلاف صفته ، وقالوا للمستضعفين منهم : هذه صفة النبي المبعوث في آخر الزمان أنه : طويل عظيم البدن والبطن ، أهدف ، (3) أصهب الشعر، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بخلافه ، وهو يجئ بعد هذا الزمان بخمسمائة سنة ، وإنما أرادوا بذلك أن تبقى لهم على ضعفائهم رياستهم ، وتدوم لهم إصاباتهم ، ويكفوا أنفسهم مؤنة خدمة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وخدمة علي ( عليه السلام ) وأهل بيته وخاصته ، فقال الله عز وجل : ( فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ) من هذه الصفات المحرفات والمخالفات لصفة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلي ( عليه السلام ) : الشدة لهم من العذاب في أسوء بقاع جهنم ، وويل لهم : الشدة في العذاب ثانية مضافة إلى الأولى، بما يكسبونه من الأموال التي يأخذونها إذا ثبتوا عوامهم على الكفر بمحمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والحجة لوصيه وأخيه علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ولي الله.
---------------------------
(1) البقرة ـ 78 .
(2) البقرة 79 .
(3) الهدف : الجسيم .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 263 _
ثم قال ( عليه السلام ) : قال رجل للصادق ( عليه السلام ) : فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره ، فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم ، وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلدون علماءهم ؟
فقال ( عليه السلام ) : بين عوامنا وعلمائنا وعوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة .
أما من حيث استووا : فإن الله قد ذم عوامنا بتقليدهم علمائهم كما ذم عوامهم .
وأما من حيث افترقوا فلا .
قال : بين لي يا بن رسول الله!
قال ( عليه السلام ) : إن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح ، وبأكل الحرام والرشاء ، وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات ، وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم ، وأنهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم ، وظلموهم من أجلهم ، وعرفوهم يقارفون المحرمات ، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى أن من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمهم لما قلدوا من قد عرفوه ومن قد علموا أنه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في حكايته ، ولا العمل بما يؤديه إليهم عمن لم يشاهدوه ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى ، وأشهر من أن لا تظهر لهم .
وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر ، والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها ، وإهلاك من يتعصبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقا ، وبالترفرف بالبر والإحسان على من تعصبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقا ، فمن قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله بالتقليد لفسقة فقهائهم ، فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلدوه ، وذلك لا يكون
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 264 _
إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ، فإنه من ركب من القبايح والفواحش مراكب فسقة العامة فلا تقبلوا منا عنه شيئا ، ولا كرامة ، وإنما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك لأن الفسقة يتحملون عنا فيحرفونه بأسره بجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلة معرفتهم ، وآخرون يتعمدون الكذب علينا ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم ، ومنهم قوم ( نصاب ) لا يقدرون على القدح فينا ، يتعلمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجهون به عند شيعتنا ، وينتقصون بنا عند نصابنا ، ثم يضيفون إليه أضعاف وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا التي نحن براء منها ، فيتقبله المستسلمون من شيعتنا ، على أنه من علومنا ، فضلوا وأضلوا وهم أضر على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد على الحسين بن علي ( عليه السلام ) وأصحابه ، فإنهم يسلبونهم الأرواح والأموال ، وهؤلاء علماء السوء الناصبون المتشبهون بأنهم لنا موالون ، ولأعدائنا معادون ، ويدخلون الشك والشبهة على ضعفاء شيعتنا فيضلونهم ويمنعونهم عن قصد الحق المصيب ، لا جرم أن من علم الله من قلبه من هؤلاء القوم أنه لا يريد إلا صيانة دينه وتعظيم وليه لم يتركه في يد هذا المتلبس الكافر ، ولكنه يقيض له مؤمنا يقف به على الصواب ، ثم يوفقه الله للقبول منه ، فيجمع الله له بذلك خير الدنيا والآخرة ، ويجمع على من أضله لعنا في الدنيا وعذاب الآخرة .
ثم قال : قال رسول الله: ( أشرار علماء أمتنا : المضلون عنا ، القاطعون للطرق إلينا ، المسمون أضدادنا بأسمائنا ، الملقبون أضدادنا بألقابنا ، يصلون عليهم وهم للعن مستحقون ، ويلعنونا ونحن بكرامات الله مغمورون ، وبصلوات الله وصلوات ملائكته المقربين علينا عن صلواتهم علينا مستغنون ) .
ثم قال : قيل لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) : من خير خلق الله بعد أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى ؟
قال : العلماء إذا صلحوا .
قيل : فمن شرار خلق الله بعد إبليس ، وفرعون ، ونمرود ، وبعد المتسمين
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 265 _
بأسمائكم ، والمتلقبين بألقابكم ، والآخذين لأمكنتكم ، والمتأمرين في ممالككم ؟
قال : العلماء إذا فسدوا ، هم المظهرون للأباطيل ، الكاتمون للحقايق، وفيهم قال الله عز وجل : ( أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا ... الآية ) (1) .
وبالإسناد المقدم ذكره عن أبي يعقوب يوسف بن محمد بن زياد ، وأبي الحسن علي بن محمد بن سيار ، أنهما قالا : قلنا للحسن أبي القائم ( عليهما السلام ) : إن قوما عندنا يزعمون : أن هاروت وماروت ملكان اختارتهما الملائكة لما كثر عصيان بني آدم وأنزلهما الله مع ثالث لهما إلى الدنيا ، وأنهما افتتنا بالزهرة وأراد الزنا بها ، وشربا الخمر ، وقتلا النفس المحرمة ، وأن الله يعذبهما ببابل ، وأن السحرة منهما يتعلمون السحر ، وأن الله مسخ هذا الكوكب الذي هو ( الزهرة ) .
فقال الإمام ( عليه السلام ) : معاذ الله من ذلك ، إن ملائكة الله معصومون محفوظون من الكفر والقبايح، بألطاف الله فقال عز وجل فيهم : ( لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) (2) وقال : ( ولله من في السماوات والأرض ومن عنده ـ يعني : الملائكة ـ لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) (3) وقال في الملائكة : ( بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) إلى قوله (مشفقون) (4) كان الله قد جعل هؤلاء الملائكة خلفائه في الأرض، وكانوا كالأنبياء في الدنيا، وكالأئمة ، أفيكون من الأنبياء والأئمة قتل النفس والزنا وشرب الخمر ؟!!
ثم قال : أو لست تعلم أن الله لم يخل الدنيا من نبي أو إمام من البشر ؟
أو ليس يقول : ( وما أرسلنا قبلك من رسلنا ـ يعني إلى الخلق ـ إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى) (5) فأخبر أنه لم يبعث الملائكة إلى الأرض ليكونوا أئمة
---------------------------
(1) البقرة ـ 159 .
(2) التحريم ـ 6 .
(3) الأنبياء ـ 19 و 20
(4) الأنبياء ـ 27 و 28 .
(5) يوسف ـ 109 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 266 _
وحكاما ، وإنما أرسلوا إلى أنبياء الله.
قالا ، قلنا له : فعلى هذا لم يكن إبليس ملكا !
فقال : لا ، بل كان من الجن ! أما تسمعان الله تعالى يقول : ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ) (1) فأخبر أنه كان من الجن ، وهو الذي قال : ( والجان خلقناه من قبل من نار السموم ) (2) .
وقال الإمام ( عليه السلام ) : حدثني أبي ، عن جدي ، عن الرضا ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي( عليهم السلام ) عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن الله اختارنا معاشر آل محمد ، واختار النبيين ، واختار الملائكة المقربين ، وما اختارهم إلا على علم منه بهم : أنهم لا يواقعون ما يخرجون به عن ولايته ، وينقطعون به من عصمته ، وينضمون به إلى المستحقين لعذابه ونقمته .
قالا : فقلنا : فقد روي لنا : أن عليا صلوات الله عليه لما نص عليه رسول الله بالإمامة ، عرض الله ولايته على فيام وفيام (3) من الملائكة فأبوها ، فمسخهم الله ضفادع .
فقال: معاذ الله! هؤلاء المتكذبون علينا ، الملائكة هم : رسل الله كساير أنبياء الله إلى الخلق، أفيكون منهم الكفر بالله ؟
قلنا: لا .
قال: فكذلك الملائكة ! إن شأن الملائكة عظيم وإن خطبهم لجليل .
وبالإسناد الذي تكرر عن أبي يعقوب وأبي الحسن أيضا أنهما قالا : حضرنا عند الحسن بن علي أبي القائم عليهما السلام فقال له بعض أصحابه : جاءني رجل من إخواننا الشيعة قد امتحن بجهال العامة ، يمتحنونه في الإمامة ويحلفونه ، فكيف يصنع حتى يتخلص منهم ؟
فقلت له : كيف يقولون ؟
---------------------------
(1) الكهف ـ 51 .
(2) الحجر ـ 27 .
(3) الفيام : ـ بفتح الفاء وكسرها ـ الجماعة من الناس وغيرهم .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 267 _
قال : يقولون : ( أتقول أن فلانا هو الإمام بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ فلا بد لي أن أقول نعم وإلا أثخنوني ضربا، فإذا قلت : ( نعم ) قالوا لي : قل : (والله) فقلت لهم : ( نعم ) وأريد به ( نعما ) من الأنعام : ( الإبل والبقر والغنم ).
قلت : فإذا قالوا: والله فقل ولي أي ولي تريد عن أمر كذا، فإنهم لا يميزون وقد سلمت .
فقال لي : فإن حققوا علي فقالوا قل : ( والله) وبين الهاء .
فقلت : قل والله برفع الهاء ، فإنه لا يكون يمينا إذا لم يخفض .
فذهب ثم رجع إلي فقال : عرضوا علي وحلفوني ، فقلت كما لقنتني .
فقال له الحسن ( عليه السلام ) : أنت كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( الدال على الخير كفاعله ) لقد كتب الله لصاحبك بتقيته بعدد كل من استعمل التقية من شيعتنا وموالينا ومحبينا حسنة ، وبعدد من ترك التقية منهم حسنة ، أدناها حسنة لو قوبل بها ذنوب مائة سنة لغفرت ، ولك بإرشادك إياه مثل ما له .
وبالإسناد المتكرر ذكره عن الحسن العسكري ( عليه السلام ) أنه قال : أعرف الناس بحقوق إخوانه وأشدهم قضاء لها أعظمهم عند الله شأنا ، ومن تواضع في الدنيا لإخوانه فهو عند الله من الصديقين ومن شيعة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) حقا ، ولقد ورد على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أخوان له مؤمنان أب وابن، فقام إليهما ، وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه ، وجلس بين أيديهما ، ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه ثم جاء قنبر بطست وإبريق خشب ومنديل لييس وجاء ليصب على يد الرجل ماءا فوثب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فأخذ الإبريق ليصب على يد الرجل فتمرغ الرجل في التراب وقال :
يا أمير المؤمنين الله يراني وأنت تصب على يدي ؟!
قال : اقعد واغسل يدك فإن الله عز وجل وأخوك الذي لا يتميز منك ولا يتفضل عليك يخدمك ، يريد بذلك في خدمه في الجنة مثل عشرة أضعاف عدد أهل الدنيا وعلى حسب ذلك في ممالكه فيها .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 268 _
فقعد الرجل فقال له علي ( عليه السلام ) : أقسمت عليك بعظيم حقي الذي عرفته وبجلته وتواضعك لله بأن ندبني لما شرفك به من خدمتي لك ، لما غسلت مطمئنا كما كنت تغسل لو كان الصاب عليك قنبرا ، ففعل الرجل .
فلما فرغ ناول الإبريق محمد بن الحنفية وقال : يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده ، ولكن الله يأبى أن يسوي بين ابن وأبيه إذا جمعهما مكان ، لكن قد صب الأب على الأب، فليصب الابن على الابن، فصب محمد ابن الحنفية على الابن .
ثم قال الحسن العسكري ( عليه السلام ) : فمن اتبع عليا ( عليه السلام ) على ذلك فهو الشيعي حقا .
سعد بن عبد الله القمي الأشعري (1) قال : بليت بأشد النواصب منازعة فقال لي يوما ـ بعد ما ناظرته ـ : تبا لك ولأصحابك! أنتم معاشر الروافض تقصدون المهاجرين والأنصار بالطعن عليهم ، وبالجحود لمحبة النبي لهم ، فالصديق هو فوق الصحابة بسبب سبق الإسلام ، ألا تعلمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنما ذهب به
---------------------------
(1) سعد بن عبد الله بن أبي خلف الأشعري القمي قال الشيخ في باب أصحاب العسكري ( عليه السلام ) ص 438 : (عاصره ( عليه السلام ) ولم أعلم أنه روى عنه) وقال العلامة في القسم الأول من الخلاصة ص 78 : ( يكنى أبا القاسم، جليل القدر واسع الأخبار، كثير التصانيف، ثقة ، شيخ هذه الطائفة وفقيهها ووجيهها ولقي مولانا أبا محمد العسكري ( عليه السلام ).
قال النجاشي : ورأيت بعض أصحابنا يضعفون لقاءه لأبي محمد ويقولون :
هذه حكاية موضوعة عليه ، والله أعلم .
توفي سعد رحمه الله سنة إحدى وثلاثمائة ، وقيل : سنة تسع وتسعين ومائتين .
وقيل : مات رحمه الله يوم الأربعاء لسبع وعشرين من شوال سنة ثلاثمائة ، في ولاية رستم )
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 269 _
ليلة الغار لأنه خاف عليه كما خاف على نفسه ، ولما علم أنه يكون الخليفة في أمته وأراد أن يصون نفسه كما يصون ( عليه السلام ) خاصة نفسه ، كي لا يختل حال الدين من بعده ، ويكون الإسلام منتظما ؟ وقد أقام عليا على فراشه لما كان في علمه أنه لو قتل لا يختل الإسلام بقتله ، لأنه يكون من الصحابة من يقوم مقامه لا جرم لم يبال من قتله ؟!
قال سعد : إني قلت على ذلك أجوبة لكنها غير مسكتة .
ثم قال : معاشر الروافض تقولون : أن ( الأول والثاني ) كانا ينافقان ، وتستدلون على ذلك بليلة العقبة .
ثم قال لي : أخبرني عن إسلامهما كان من طوع ورغبة أو كان عن إكراه وإجبار ؟
فاحترزت عن جواب ذلك وقلت مع نفسي إن كنت أجبته بأنه كان عن إكراه وإجبار لم يكن في ذلك الوقت للإسلام قوة حتى يكون إسلامهما بإكراه وقهر ، فرجعت عن هذا الخصم على حال ينقطع كبدي ، فأخذت طومارا وكتبت بضعا وأربعين مسألة من المسائل الغامضة التي لم يكن عندي جوابها ، فقلت : أدفعها إلى صاحب مولاي أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام الذي كان في قم أحمد بن إسحاق (1) فلما طلبته كان هو قد ذهب فمشيت على أثره فأدركته وقلت الحال معه .
فقال لي : جئ معي إلى سر من رأى حتى نسأل عن هذه المسائل مولانا الحسن بن علي ( عليهما السلام ) .
فذهبت معه إلى سر من رأى ثم جئنا إلى باب دار مولانا ( عليه السلام ) فاستأذنا عليه فأذن لنا ، فدخلنا الدار وكان مع أحمد بن إسحاق جراب قد ستره بكساء طبري ، وكان فيه مائة وستون صرة من الذهب والورق ، على كل واحدة منها خاتم
---------------------------
(1) قال العلامة في القسم الأول من خلاصته ص 14 : ( أحمد بن إسحاق الرازي من أصحاب أبي الحسن الثالث علي بن محمد الهادي ( عليهما السلام ) ، أورد الكشي ما يدل على اختصاصه بالجهة المقدسة ، وقد ذكرته في الكتاب الكبير).
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 270 _
صاحبها الذي دفعها إليه ، ولما دخلنا ووقع أعيننا على أبي محمد الحسن العسكري ( عليهما السلام ) كان وجهه كالقمر ليلة البدر وقد رأينا على فخذه غلاما يشبه المشتري في الحسن والجمال ، وكان على رأسه ذؤابتان ، وكان بين يديه رمان من الذهب قد حلي بالفصوص والجواهر الثمينة قد أهداه واحد من رؤساء البصرة ، وكان في يده قلم يكتب به شيئا على قرطاس ، فكلما أراد أن يكتب شيئا أخذ الغلام يده فألقى الرمان حتى يذهب الغلام إليه ويجئ به فلما ترك يده يكتب ما شاء .
ثم فتح أحمد بن إسحاق الكساء ووضع الجراب بين يدي العسكري ( عليه السلام ) ، فنظر العسكري إلى الغلام فقال : فض الخاتم عن هدايا شيعتك ومواليك !
فقال : يا مولاي أيجوز أن أمد يدا طاهرة إلى هدايا نخسة وأموال رجسة ؟!
ثم قال : يا بن إسحاق أخرج ما في الجراب ليميز بين الحلال والحرام !
ثم أخرج ( صرة ) فقال الغلام : هذا ( لفلان بن فلان ) من محلة ( كذا ) بقم ، مشتمل على اثنين وسبعين دينارا ، فيها من ثمن حجرة باعها وكانت إرثا عن أبيه خمسة وأربعون دينارا ، ومن أثمان سبعة أثواب أربعة عشر دينارا ، وفيه من أجرة الحوانيت ثلاثة دنانير .
فقال مولانا ( عليه السلام ) صدقت يا بني ! دل الرجل على الحرام منها .
فقال الغلام : في هذه العين دينار بسكة الري تاريخه في سنة ( كذا ) قد ذهب نصف نقشه عنه ، وثلاثة اقطاع قراضة بالوزن ( دانق ونصف ) في هذه الصرة الحرام هذا القدر. فإن صاحب هذه الصرة في سنة كذا في شهر كذا كان له عند نساج ـ وهو من جملة جيرانه ـ من وربع ، فأتى على ذلك زمان كثير فسرقه سارق من عنده فأخبره النساج بذلك فما صدقه وأخذ الغرامة بغزل أدق منه مبلغ من ونصف ، ثم أمر حتى نسج منه ثوب وهذا الدينار والقراضة من ثمنه ، ثم حل عقدها فوجد الدينار والقراضة كما أخبر ، ثم أخرجت ( صرة ) أخرى .
فقال الغلام : هذا ( لفلان بن فلان ) من المحلة ( الفلانية ) بقم والعين فيها ( خمسون دينارا ) ولا ينبغي لنا أن ندني أيدينا إليها.
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 271 _
قال : لم ؟
فقال : من أجل أن هذه الدنانير ثمن الحنطة ، وكانت هذه الحنطة بينه وبين حراث له ، فأخذ نصيبه بكيل كامل وأعطى نصيبه بكيل ناقص .
فقال مولانا الحسن بن علي ( عليهما السلام ) : صدقت يا بني !
قال : يا بن إسحاق إحمل هذه الصرور وبلغ أصحابها وأوص بتبليغها إلى أصحابها ، فإنه لا حاجة بنا إليها .
ثم قال : جئ إلي بثوب تلك العجوز.
فقال أحمد بن إسحاق : كان ذلك في حقيبة فنسيته ، ثم مشى أحمد بن إسحاق ليجئ بذلك فنظر إلي مولانا أبو محمد العسكري ( عليه السلام ) وقال :
ما جاء بك يا سعد ؟
فقلت : شوقني أحمد بن إسحاق إلى لقاء مولانا .
قال : المسائل التي أردت أن تسأل عنها ؟
قلت : على حالها يا مولاي .
قال : فاسأل قرة عيني ـ وأومى إلى الغلام ـ عما بدا لك !
فقلت : يا مولانا وابن مولانا روي لنا : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جعل طلاق نسائه إلى أمير المؤمنين، حتى أنه بعث يوم الجمل رسولا إلى عائشة وقال : إنك أدخلت الهلاك على الإسلام وأهله بالغش الذي حصل منك ، وأوردت أولادك في موضع الهلاك بالجهالة ، فإن امتنعت وإلا طلقتك ، فأخبرنا يا مولاي عن معنى الطلاق الذي فوض حكمه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ؟
فقال : إن الله تقدس اسمه عظم شأن نساء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فخصهن لشرف الأمهات فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا أبا الحسن إن هذا شرف باق مادمن لله على طاعة ، فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك فطلقها من الأزواج، وأسقطها من شرف أمية المؤمنين .
ثم قلت : أخبرني عن الفاحشة المبينة التي إذا فعلت المرأة ذلك يجوز لبعلها أن يخرجها من بيته في أيام عدتها ؟
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 272 _
فقال ( عليه السلام ): تلك الفاحشة السحق (1) وليست بالزنا لأنها إذا زنت يقام عليها الحد ، وليس لمن أراد تزويجها أن يمتنع من العقد عليها لأجل الحد الذي أقيم عليها ، وأما إذا ساحقت فيجب عليها الرجم ، والرجم هو الخزي ، ومن أمر الله تعالى برجمها فقد أخزاها ليس لأحد أن يقربها.
ثم قلت : أخبرني يا بن رسول الله عن قول الله تعالى لنبيه موسى : ( فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ) (2) فإن فقهاء الفريقين يزعمون : أنها كانت من إهاب الميتة ؟
فقال ( عليه السلام ): من قال ذلك فقد افترى على موسى واستجهله في نبوته، لأنه ما خلا الأمر فيها من خطبين : أما أن كانت صلاة موسى فيها جائزة أو غير جائزة ، فإن كانت صلاة موسى جائزة فيها ، فجاز لموسى أن يكون لابسها في تلك البقعة وإن كانت مقدسة مطهرة ، وإن كانت صلاته غير جائزة فيها فقد أوجب أن موسى لم يعرف الحلال والحرام ، ولم يعلم ما جازت الصلاة فيه مما لم يجز وهذا ( كفر ) .
قلت : فأخبرني يا مولاي عن التأويل فيها ؟
قال : إن موسى ( عليه السلام ) كان بالوادي المقدس فقال : يا رب إني أخلصت لك المحبة مني وغسلت قلبي عمن سواك ، وكان شديد الحب لأهله فقال الله تبارك وتعالى : فاخلع نعليك أي : انزع حب أهلك من قلبك إن كانت محبتك لي خالصة وقلبك من الميل إلى من سواي مغسولا .
فقلت : أخبرني عن تأويل كهيعص .
قال : هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع الله عليها عبده زكريا ثم قصها على محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وذلك : أن زكريا ( عليه السلام ) سأل ربه : أن يعلمه الأسماء الخمسة ، فأهبط عليه جبرئيل فعلمه إياها ، فكان زكريا إذا ذكر محمدا وعليا وفاطمة والحسن
---------------------------
(1) المساحقة عند النساء كاللواط عند الرجال
(2) طه ـ 12 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 273 _
سرى عنه همه ، وانجلى كربه ، وإذا ذكر اسم الحسين ( عليه السلام ) خنقته العبرة ، ووقعت عليه البهرة .
فقال ـ ذات يوم ـ : إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسليت بأسمائهم من همومي ، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي ، فأنبأه الله تبارك وتعالى عن قصته فقال : ( كهيعص ) فالكاف اسم (كربلاء) والهاء ( هلاك العترة ) والياء ( يزيد ) وهو ظالم الحسين والعين ( عطشه ) والصاد ( صبره ) فلما سمع بذلك زكريا ( عليه السلام ) لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ومنع فيهن الناس من الدخول عليه ، وأقبل على البكاء والنحيب ، وكان يرثيه :
إلهي أتفجع خير جميع خلقك بولده ؟
إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه ؟
إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثوب هذه المصيبة ؟
إلهي تحل كربة هذه المصيبة بساحتهما ؟
ثم كان يقول : إلهي ارزقني ولدا تقر به عيني على الكبر، فإذا رزقتنيه فافتني بحبه ، ثم افجعني به كما تفجع محمدا حبيبك بولده .
فرزقه الله يحيى وفجعه به ، وكان حمل يحيى ستة أشهر وحمل الحسين كذلك .
فقلت : أخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار الإمام لأنفسهم ؟
قال : مصلح أو مفسد ؟
فقلت : مصلح .
قال : هل يجوز أن يقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد .
قلت : بلى .
قال : فهي ( العلة ) أيدتها لك ببرهان يقبل ذلك عقلك .
قلت : نعم .
قال : أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله، وأنزل عليهم الكتب ، وأيدهم
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 274 _
بالوحي والعصمة ، إذ هم أعلام الأمم ، فأهدى إلى ثبت الاختيار ومنهم موسى وعيسى هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذ هما على المنافق بالاختيار أن يقع خيرتهما ، وهما يظنان أنه مؤمن ؟
قلت : لا .
قال : فهذا موسى كليم الله مع وفور عقله ، وكمال علمه ، ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلا ممن لم يشك في إيمانهم وإخلاصهم ، فوقع خيرته على المنافقين ، قال الله عز وجل : ( واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا . الآية ) (1) فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله للنبوة واقعا على الأفسد دون الأصلح وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد ، علمنا أن لا اختيار لمن لا يعلم ما تخفي الصدور وما تكن الضمائر، وينصرف عنه السرائر ، وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما أرادوا أهل الصلاح .
ثم قال مولانا ( عليه السلام ) : يا سعد من ادعى : أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ وهو خصمك ـ ذهب بمختار هذه الأمة مع نفسه إلى الغار فإنه خاف عليه كما خاف على نفسه لما علم أنه الخليفة من بعده على أمته ، لأنه لم يكن من حكم الاختفاء أن يذهب بغيره معه وإنما أقام عليا على مبيته لأنه علم أنه إن قتل لا يكون من الخلل بقتله ما يكون بقتل أبي بكر ، لأنه يكون لعلي من يقوم مقامه في الأمور ، لم لا تنقض عليه بقولك :
أو لستم تقولون : أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( إن الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ) وصيرها موقوفة على أعمار هؤلاء الأربعة : ( أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ) فإنهم كانوا على مذهبكم خلفاء رسول الله ؟ فإن خصمك لم يجد بدا من قوله : بلى .
قلت له : فإذا كان الأمر كذلك فكما أبو بكر الخليفة من بعده كان هذه الثلاثة خلفاء أمته من بعده ، فلم ذهب بخليفة واحد وهو ( أبو بكر ) إلى الغار ولم يذهب بهذه الثلاثة ؟ فعلى هذا الأساس يكون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مستخفا بهم دون
---------------------------
(1) الأعراف ـ 154 .
الإحتجاج
(الجزء الثاني) _ 275 _
أبي بكر فإنه يجب عليه أن يفعل بهم ما فعل بأبي بكر ، فلما لم يفعل ذلك بهم يكون متهاونا بحقوقهم وتاركا للشفقة عليهم بعد أن كان يجب أن يفعل بهم جميعا على ترتيب خلافتهم ما فعل بأبي بكر .
وأما ما قال لك الخصم : بأنهما أسلما طوعا أو كرها ، لم لم تقل بل أنهما أسلما طمعا ، وذلك أنهما يخالطان مع اليهود ويخبران بخروج محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واستيلائه على العرب من التوراة والكتب المقدسة وملاحم قصة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويقولون لهما :
يكون استيلاؤه على العرب كاستيلاء ( بخت نصر ) على بني إسرائيل إلا أنه يدعي النبوة ولا يكون من النبوة في شئ ، فلما ظهر أمر رسول الله فساعدا معه على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله طمعا أن يجدا من جهة ولاية رسول الله ولاية بلد إذا انتظم أمره ، وحسن باله ، واستقامت ولايته ، فلما أيسا من ذلك وافقا مع أمثالهما ليلة العقبة وتلثما مثل من تلثم منهم ، فنفروا بدابة رسول الله لتسقطه ويصير هالكا بسقوطه بعد أن صعد العقبة فيمن صعد ، فحفظ الله تعالى نبيه من كيدهم ولم يقدروا أن يفعلوا شيئا ، وكان حالهما كحال طلحة والزبير إذ جاءا عليا ( عليه السلام ) وبايعاه طمعا أن تكون لكل واحد منهما ولاية ، فلما لم يكن ذلك وأيسا من الولاية نكثا بيعته وخرجا عليه حتى آل أمر كل واحد منهما إلى ما يؤل أمر من ينكث العهود والمواثيق .
ثم قام مولانا الحسن بن علي ( عليهما السلام ) لصلاته وقام القائم معه ، فرجعت من عندهما وطلبت أحمد بن إسحاق فاستقبلني باكيا فقلت :
ما أبطأك وما أبكاك ؟
قال : قد فقدت الثوب الذي سألني مولاي إحضاره.
قلت : لا بأس عليك فأخبره !
فدخل عليه وانصرف من عنده متبسما وهو يصلي على محمد وأهل بيته .
فقلت : ما الخبر ؟
فقال : وجدت الثوب مبسوطا تحت قدمي مولانا ( عليه السلام ) يصلي عليه .