بقلم : العلامة الجليل السيد محمد بحر العلوم
بين يدي القراء الكرام كتاب جليل ، يعتبر من المصادر القيمة في موضوعه ومؤلف هذا الكتاب هو :
أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، أبو منصور ، وتكاد تجمع المصادر على هذا القدر من اسمه ونسبه ، إلا ابن شهرآشوب فقد ذكره على الوجه التالي ( أحمد بن أبي طالب ) (1).
وحذا حذوه الشيخ المجلسي عند ذكره كتاب الاحتجاج، واعتقد أن الشيخ يوسف البحراني حاول توجيه رأي ابن شهرآشوب بقوله : ( وقد يعبر عنه بابن أحمد بن أبي طالب الطبرسي، والظاهر أنه من باب الاختصار في النسب فلا يتوهم التعدد ) (2).
ولم تحدد لنا المصادر سنة ولادته ، كما لم تحدد لنا سنة وفاته ، غير أن الحجة الثبت شيخنا المحقق اغا بزرك الطهراني يستنتج سنة وفاته من معاصريه وتلامذته ويعده ممن أدركوا أوائل القرن السادس الهجري، بدليل أنه أستاذ رشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب الذي توفي سنة 588 هـ عن مائة سنة إلا عشر أشهر، فهو من أهل الخامسة الذين أدركوا أوائل السادسة أيضا (3).
ويتجه لغير هذا الرأي كل من عمر رضا كحاله (4)، وإسماعيل باشا (5)
---------------------------
(1) معالم العلماء: 25
(2) كشكول البحراني: 301 ـ 1
(3) الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 281 ـ 1
(4) معجم المؤلفين 10 ـ 2
(5) إيضاح المكنون ذيل كشف الظنون: 31 ـ 1
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 4 _
ويعتقدان بأنه توفي في حدود سنة 620 هـ .
ولقد روى مترجمنا عن جماعة ، منهم أبو جعفر مهدي بن الحسن بن أبي حرب الحسيني المرعشي (1).
وروى عنه رشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب ، الذي صرح بذلك في كتابه (2) بقوله : ( شيخي أحمد بن أبي طالب ) .
وكان موضع اعتماد الشهيد في شرح الإرشاد، فكثير ما نقل فتاواه وأقواله (3) وذكره أعلام المترجمين بكل ما يدل على مكانته العلمية، فقد أثنى عليه السيد ابن طاووس ، ووصفه الحر العاملي بأنه ( عالم فقيه فاضل ، محدث ، ثقة ( وتحدث عنه الشيخ يوسف البحراني بقوله : ( الفاضل، العالم ، المعروف، كان من أجل العلماء، ومشاهير الفضلاء ) (4) واعتبره الخونساري به : ( من أجلاء أصحابنا المتقدمين ) (5) وأورد ترجمته عمر رضا كحاله فوصفه بأنه : ( فقيه مؤرخ ) (6) ومن هذه الفقرات المعدودة نستطيع أن نعرف مكانة مترجمنا العلمية ومدى الثقة التي كان يتسم بها .
ودللت المصادر المترجمة له بأنه مؤلف قدير ، له عدة كتب ، فإلى جانب كتاب ( الاحتجاج ) الذي نحن بصدده خلف الكتب التالية، وهي:
1 ـ الكافي في الفقه، أو ( الكافي من فقه الشيعة ).
---------------------------
(1) مهدي بن الحسن بن أبي الحرب المرعشي، عده المحقق الوحيد من أجلاء الطائفة، ومن مشايخ الإجازة من مشايخ الطبرسي، وقد وصف بالعالم العابد العادل الموثق، يروي عن الشيخ الصدوق أبي عبد الله جعفر بن محمد بن أحمد الدوريستى عن أبيه عن الشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، راجع (رجال المامقاني: 261 ـ 3، وكشكول البحراني: 301 ـ 1)
(2) معالم العلماء: 25
(3) كشكول البحراني: 302 ـ 1، وأعيان الشيعة: 99 ـ 9
(4) كشكول البحراني: 301 ـ 302 ـ 1
(5) روضات الجنات: 19 ـ 1
(6) معجم المؤلفين: 10 ـ 2
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 5 _
2 ـ تاريخ الأئمة ( عليهم السلام ) .
3 ـ فضل الزهراء ( عليها السلام ) .
وهذه الكتب وإن لم نعثر عليها فقد أورد ذكرها كل من ابن شهرآشوب والشيخ عباس القمي، والسيد محسن الأمين العاملي، وعمر رضا كحاله ، وإسماعيل باشا (1).
4 ـ مفاخرة الطالبية.
وقد ذكر هذا الكتاب كل من ابن شهرآشوب ، والسيد الأمين العاملي (2).
5 ـ كتاب الصلاة.
وانفرد بذكر هذا الكتاب ابن شهرآشوب (3).
6 ـ تاج المواليد.
وانفرد بذكر هذا الكتاب السيد محسن الأمين العاملي (4) وقال : ( ينقل عنه السيد النسابة أحمد بن محمد بن المهنا بن علي بن المهنا العبيدلي المعاصر للعلامة الحلي في كتابه ( تذكرة النسب ) ولكن الشيخ أحمد بن أبي ظبية البحراني في كتابه ) عقد اللآل في مناقب النبي والآل ( نسبه إلى أمين الإسلام أبي علي فضل ابن الحسن الطبرسي صاحب التفسير، فقد وقع اشتباه في نسبة الكتاب المذكور أما من العبيدلي، أو البحراني، وكونه من العبيدلي القريب من زمن المؤلف بعيد ).
ولقد وقع نظير هذا الاشتباه الذي يشير إليه المرحوم السيد الأمين، اشتباه آخر في كتاب الاحتجاج نفسه .
فقد نسب بعض المؤلفين كتاب الاحتجاج إلى أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي، صاحب تفسير مجمع البيان.
---------------------------
(1) راجع: معالم العلماء 25 ، والكنى والألقاب: 404 ـ 2 ، وأعيان الشيعة 100 ـ 9 ، ومعجم المؤلفين 10 ـ 2 وإيضاح المكنون: 213 ـ 1 ، 166 و 259 ـ 2
(2) معالم العلماء: 25 ، وأعيان الشيعة: 100 ـ 9
(3) معالم العلماء: 25
(4) أعيان الشيعة: 100 ـ 9
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 6 _
وفي صدد إثبات هذا الكتاب لأبي منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي قال الشيخ يوسف البحراني: ( ويظهر من كتاب المجلى لابن أبي جمهور الأحسائي أن كتاب الاحتجاج للشيخ أبي الفضل الطبرسي ، قال في أول البحار بعد نسبة كتاب الاحتجاج لأحمد بن أبي طالب : وينسب هذا الكتاب إلى أبي علي الطبرسي وهو خطأ ، بل هو تأليف أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، كما صرح به السيد ابن طاووس في كتاب كشف المحجة ) (1).
وقال الخونساري: ( وقد غلط صاحب الغوالي، والمحدث الاسترآبادي غلطا فاحشا يبعد عن مثلهما غاية البعد في نسبة (كتاب الاحتجاج) إلى الشيخ أبي علي الطبرسي صاحب التفسير، مع أن بينهما بونا بعيدا، وتصريح جمهور الأصحاب وإسنادهم عنه وإليه على خلاف ذلك جدا ) (2).
وقطع السيد الأمين بالاشتباه ، وأضاف بأن صاحب رياض العلماء قال: قد توهم بعضهم بأن الاحتجاج لصاحب مجمع البيان أبي علي الفضل الطبرسي، وهو توهم فاسد (3).
وأكد البحراني على صحة نسبة هذا الكتاب لأبي منصور أحمد بن علي الطبرسي، ونقل عنه السيد الأمين عن اللؤلؤة قوله : ( غلط جملة من متأخري أصحابنا في نسبة كتاب الاحتجاج إلى أبي علي الطبرسي ) (4).
وأدرج كل من الحجة الشيخ اغا بزرك الطهراني، وإسماعيل باشا ، وعمر رضا كحاله اسم هذا الكتاب في قائمة مؤلفات أبي منصور الطبرسي (5).
ولعل الاشتباه الذي نشأ مرجعه إلى اشتراكهما في لقب واحد ، وعصر واحد كما صرح بذلك الشيخ البحراني بقوله : ( وإن كان عصرها متحدا ، وهما شيخ
---------------------------
(1) الكشكول: 301 ـ 1
(2) روضات الجنات: 19 ـ 1
(3) أعيان الشيعة: 100 ـ 9
(4) الكشكول: 301 ـ 1 وأعيان الشيعة: 100 ـ 9
(5) الذريعة: 281 ـ 1 ومقدمة تفسير التبيان هـ ـ 1 ومعجم المؤلفين: 10 ـ 2 وإيضاح المكنون: 31 ـ 1
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 7 _
ابن شهرآشوب وأستاداه ، وظني أن بينهما قرابة ) (1).
وإذا كنا ونحن في صدد التفريق بين هاتين الشخصيتين لاشتراكهما في لقب واحد فمن الجدير أن نذكر عددا من أعلام الشيعة يشتركون في هذه النسبة أيضا، وهم:
1 ـ أبو منصور ، أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، والمعروف بصاحب كتاب (الاحتجاج)، وهو الذي نحن بصدد الحديث عنه.
2 ـ أبو علي ، الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي ، صاحب (تفسير مجمع البيان)، المتوفى سنة 545 هـ.
3 ـ أبو نصر ، الحسن بن الفضل بن الحسن، رضي الدين ، صاحب كتاب (مكارم الأخلاق وقد وصفته المصادر بأنه : كان فاضلا فقيها ، محدثا جليلا .
4 ـ أبو الفضل، علي بن الحسن بن الفضل بن الحسن، صاحب كتاب (مشكاة الأنوار) الذي ألفه تتميما لكتاب والده مكارم الأخلاق (2).
5 ـ أبو علي ، محمد بن الفضل الطبرسي ، هكذا ذكر الحر العاملي، ووصفه بأنه ( كان عالما صالحا عابدا ، يروي ابن شهرآشوب عنه ، عن تلامذة الشيخ الطوسي ) (3).
6 ـ الشيخ حسن بن علي بن محمد علي بن الحسن الطبرسي، المعاصر للخواجة نصير الدين الطوسي (4).
7 ـ الحاج ميرزا حسين بن العلامة محمد تقي النوري الطبرسي صاحب كتاب (مستدرك الوسائل) المتوفى عام 1320.
وهناك عدد آخر ولكننا اخترنا المشهورين منهم.
والطبرسي : نسبة إلى طبرستان ، وهي التي تعرف بمازندران ، بل قد يقال :
طبرستان على جميع تلك البلاد ، حتى يشمل استراباد، وجرجان ، ونحوها ، وهي واقعة على طرف بحر الخزر، وتعرف ببحيرة طبرستان.
---------------------------
(1) الكشكول: 301 ـ 1 ، وأعيان الشيعة: 100 ـ 9
(2) راجع تراجم هؤلاء المذكورين في الكنى والألقاب 409 ـ 2
(3) أمل الآمل: مادة محمد
(4) أعيان الشيعة 98 ـ 9
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 8 _
وطبر: بالفارسية الفاس، وهي من كثرة اشتباك أشجارها لا يسلك فيها الجيش إلا بعد أن يقطع بالطبر الأشجار من بين أيديهم.
وأستان: الناحية بالفارسي ، فسميت طبرستان ، أي ناحية الطبر.
ونقل عن صاحب تاريخ قم المعاصر لابن العميد: أن طبر معرب ، وهي ناحية معروفة بحوالي قم ، وأن الطبرسي ( أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي ) وسائر العلماء المعروفين قد كانوا أهل هذه الناحية (1).
والكتاب الذي نحن بصدده ، يعتبر من المصادر المحترمة في بابه ، ولعلنا نستطيع من خلال الفقرات التي سنوردها ـ والتي تتضمن آراء الأعلام فيه ـ نلمس مدى أهميته، ووزنه العلمي.
قال البحراني: ( قال المجلسي في أول البحار إنه قال في الفصل الثاني: وكتاب الاحتجاج وإن كان أكثر أخباره مراسيل لكنه من الكتب المعروفة، وقد أثنى السيد ابن طاوس على الكتاب وقد أخذ عنه أكثر المتأخرين ) (2).
وقال الخونساري: و ( كتاب الاحتجاج معتبر معروف بين الطائفة، مشتمل على كل ما اطلع عليه من احتجاجات النبي والأئمة ، بل كثير من أصحابهم الأمجاد مع جملة من الأشقياء المخالفين ) (3).
وقال الشيخ اغا بزرك الطهراني: وفي الكتاب ( احتجاجات النبي صلى الله عليه وآله والأئمة ( عليهم السلام ) وبعض الصحابة، وبعض العلماء، وبعض الذرية الطاهرة، وأكثر أحاديثه مراسيل إلا ما رواه عن تفسير العسكري ( عليه السلام ) ، كما صرح به في أوله بعد الخطبة، فهو من الكتب المعتبرة التي اعتمد عليها العلماء الأعلام: كالعلامة المجلسي، والمحدث الحر، وأضرابهما ) (4).
ومن خلال هذه الفقرات نستفيد بأن الكتاب بمجموعه موضع اعتماد الأعلام والباحثين ، بالرغم من أن أكثر أحاديثه مراسيل ، إلا أن الثقة الكبيرة التي يتمتع
---------------------------
(1) كشكول البحراني 302 ـ 303 ـ 1 وأعيان الشيعة: 97 ـ 98 ـ 9
(2) الكشكول 301 ـ 1
(3) روضات الجنات: 19 ـ 1
(4) الذريعة: 281 ـ 1
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 9 _
بها مؤلف الكتاب، زرعت في نفوس المؤلفين الاعتماد عليه ، والنقل عنه دون تمحيص وتحقيق ، وتدقيق في أسناد الأخبار والأحاديث .
أما البواعث التي دعت المؤلف لتأليف هذا الكتاب، فقد حدثنا الطبرسي نفسه عنها ، فقال:
( ثم إن الذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب عدول جماعة من الأصحاب عن طريق الحجاج جدا ، وعن سبيل الجدال، وإن كان حقا وقولهم : ( إن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمة عليهم السلام لم يجادلوا قط ، ولا استعملوه، ولا للشيعة فيه إجازة، بل نهوهم عنه، وعابوه ) ، فرأيت عمل كتاب يحتوي على ذكر جمل من محاوراتهم في الفروع والأصول مع أهل الخلاف، وذوي الفضول، وقد جادلوا فيها بالحق من الكلام، وبلغوا غاية كل مرام ، وأنهم ( عليهم السلام ) إنما نهوا عن ذلك الضعفاء والمساكين من أهل القصور عن بيان الدين، دون المبرزين في الاحتجاج الغالبين لأهل اللجاج، فإنهم كانوا مأمورين من قبلهم بمقاومة الخصوم، ومداولة الكلوم، فعلت بذلك منازلهم وارتفعت درجاتهم وانتشرت فضائلهم ) (1).
إذا فالمؤلف اندفع إلى تأليف هذا الكتاب بدافع العقيدة لينير للمتخبطين بطريق الغواية، نور الهداية والخير ، ويبسط ما وسعه المجال عن جميع ما يتعلق بالنبي ( صلى الله عليه وآله وآل بيته عليهم السلام ) وأتباعهم ، وليكشف لذوي اللجاج مدى المكانة العالية، والمقام السامي، التي تتمتع بها هذه الصفوة.
أما منهج الطبرسي في تأليف كتابه الاحتجاج، فقد أوضحه لنا نفسه في مقدمة كتابة المذكور ) يقول:
( وأنا ابتدئ في صدر الكتاب بفصل ينطوي على ذكريات من القرآن التي أمر الله تعالى بذلك أنبياءه بمحاجة ذوي العدوان، ويشتمل أيضا على عدة أخبار في فضل الذابين عن دين الله القويم، وصراطه المستقيم بالحجج القاهرة، والبراهين الباهرة، ثم نشرع في ذكر طرف من مجالات النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، وربما
---------------------------
(1) الاحتجاج: 4
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 10 _
يأتي في أثناء كلامهم كلام جماعة من الشيعة ، حيث تقتضي الحال ذكره ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده إما لوجود الإجماع عليه أو موافقته لما دلت العقول إليه ، أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف ، إلا ما أوردته عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام قال ليس في الاشتهار على حد ما سواه ، وإن كان مشتملا على مثل الذي قدمناه ، فلأجل ذلك ذكرت إسناده في أول جزء من ذلك دون غيره لأن جميع ما رويت عنه عليه السلام إنما رويته بإسناد واحد من جملة الأخبار التي ذكرها ( عليه السلام ) في تفسيره ) (1).
ولقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات في إيران والنجف ، غير أن هذه الطبعة التي بين أيدينا ـ وهي من نتاج مطبعة النعمان الغراء ـ قد تميزت عن سابقاتها بمميزات هامة.
أولا ـ من حيث التعليق والفهرسة:
فقد تصدى الأخ الفاضل السيد محمد باقر الخرسان لتحقيقها والتعليق عليها ، وترجمة الأعلام الواردة فيها ، وشرح الكلمات اللغوية، ووضع فهارس لها بالإضافة إلى تقسيمها جزئين ، الأمر الذي دل على قابلية الأخ الخرسان في مضمار التحقيق والتعليق ، والجهد الذي صرفه في هذا الكتاب، والذي يبشر عن مستقبل زاهر يبعث بالأمل والتقدير وإني أرجوا مخلصا له ذلك.
ثانيا ـ من حيث الاخراج والطباعة:
وفي هذا المضمار أقدر للأخ الأديب حسن الشيخ إبراهيم صاحب مطبعة النعمان اهتمامه الكبير في إخراج هذا الكتاب بهذه الحلة القشيبة، والطباعة الأنيقة والتي يتجلى فيها كل مظاهر الخدمة الصادقة ، والاخلاص العميق في إبراز هذه الكتب بصورة تتناسب وهذا العصر الذي تقدمت فيه كل الأمور إلى الأحسن.
وفي الختام ادعوا الله عز وجل أن يوفق المعلق والناشر لخدمة الدين الإسلامي ويأخذ بيدهما إلى ما يصبوان إليه من الجزاء الأوفر من محمد ( صلى الله عليه وآله وعلي وأنجاله الغر الميامين الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا ) ، وهو المسدد للصواب .
محمد السيد علي بحر العلوم
النجف الأشرف في 18 / 12 / 1385
---------------------------
(1) الاحتجاج: 4
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 1 _
الإحتجاج
تأليف
أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 3 _
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المتعالي عن صفات المخلوقين، المنزه عن نعوت الناعتين، المبرأ مما لا يليق بوحدانيته ، المرتفع عن الزوال والفناء بوجوب إلهيته، الذي استعبد الخلائق بحمد ما تواتر عليهم من نعمائه ، وترادف لديهم من حسن بلائه ، وتتابع من أياديه وعواطفه ، وتفاقم من مواهبه وعوارفه ، جم عن الاحصاء عددها ، وفاق عن الإحاطة بها مددها ، وخرست ألسن الناطقين بالشكر عليها عن أداء ما وجب من حقها لديها .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة يثقل بها ميزان العارفين وتبيض بها وجوههم يوم الدين، وأشهد أن محمدا عبده المصطفى ورسوله المجتبى خاتم الرسل والأنبياء وسيد الخلائق كلهم والأصفياء ، وأن وصيه علي بن أبي طالب عليه السلام خير وصي وصي وخير إمام ولي، وأن عترته الطاهرة خير العترة الأئمة الهادية الاثنا عشر أمناء الله في بلاده وحججه على عباده ، بهم تمت علينا نعمته وعلت كلمته ، اختارهم للبرية إظهارا للطفه وحكمته وإنارة لأعلام عدله ورحمته فانزاحت بهم علة العبيد ، وزهق باطل كل مستكبر عنيد ، بأن عصمهم من الذنوب وبرأهم من العيوب حفظا منه للشرائع والأحكام ، وسياسة لهم وهيبة لأهل المعاصي والآثام ، وزجرا عن التغاشم والتكالب ، وردعا عن التظالم والتواثب ، وتأديبا بهم لأهل العتو والعدوان ، ودفعا لما تدعو إليه دواعي الشيطان ، ولم يهملهم سدى بلا حجة فيهم معصوم إما ظاهر مشهور أو غائب مكتوم ، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الحجة ، ولا يلتبس عليهم في دينه المحجة ، ولم يجعل إليهم اختياره لعلمه بأنهم لا يعلمون أسراره ، ولأنه عز وجل متعال عن فعل شئ لا يجوز عليه مثل تكليف ما لا يهتدي العباد إليه ، وقد نزه نفسه عن أن يشرك به أحدا في الاختيار
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 4 _
حيث قال : ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة ) سبحان الله تعالى عما يشركون.
ثم إن الذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب عدول جماعة من الأصحاب عن طريق الحجاج جدا وعن سبيل الجدال وإن كان حقا ، وقولهم : ( إن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام ) لم يجادلوا قط ولا استعملوه ولا للشيعة فيه إجازة بل نهوهم عنه وعابوه ) ، فرأيت عمل كتاب يحتوي على ذكر جمل من محاوراتهم في الفروع والأصول مع أهل الخلاف وذوي الفضول، قد جادلوا فيها بالحق من الكلام وبلغوا غاية كل مرام ، وأنهم ( عليهم السلام ) إنما نهوا عن ذلك الضعفاء والمساكين من أهل القصور عن بيان الدين دون المبرزين في الاحتجاج الغالبين لأهل اللجاج ، فإنهم كانوا مأمورين من قبلهم بمقاومة الخصوم ومداولة الكلوم، فعلت بذلك منازلهم وارتفعت درجاتهم وانتشرت فضائلهم ، وأنا ابتدئ في صدر الكتاب بفصل ينطوي على ذكر آيات من القرآن التي أمر الله تعالى بذلك أنبياءه بمحاجة ذوي العدوان ويشتمل أيضا على عدة أخبار في فضل الذابين عن دين الله القويم وصراطه المستقيم بالحجج القاهرة والبراهين الباهرة ، ثم نشرع في ذكر طرف من مجادلات النبي والأئمة عليه وعليهم السلام، وربما يأتي في أثناء كلامهم كلام جماعة من الشيعة حيث تقتضي الحال ذكره ، ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده إما لوجود الإجماع عليه أو موافقته لما دلت العقول إليه أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف ، إلا ما أوردته عن أبي محمد الحسن العسكري ( عليه السلام ) ، فإنه ليس في الاشتهار على حد ما سواه وإن كان مشتملا على مثل الذي قدمناه ، فلأجل ذلك ذكرت إسناده في أول جزء من ذلك دون غيره ، لأن جميع ما رويت عنه عليه السلام إنما رويته بإسناد واحد من جملة الأخبار التي ذكرها عليه السلام في تفسيره .
والله المستعان فيما قصدناه وهو حسبي ونعم الوكيل .
قال الله تبارك وتعالى في كتابه مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) (1).
وقال عز من قائل : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) (2) وقال الله تعالى : ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ) الآية (3).
وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام أيضا لما احتج علي على عبدة الكوكب المعروف بالزهرة وعبدة الشمس والقمر جميعا بزوالها وانتقالها وطلوعها وأفولها وعلى حدوثها وإثبات محدث لها وفاطر إياها: ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ) إلى قوله تعالى : ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) (4) وغير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالاحتجاج ، وسيأتي ذكر شرحها في مواضعها إنشاء الله تعالى .
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : ( نحن المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبيا ) .
وأما الأخبار في فضل العلماء فهي أكثر من أن تعد أو تحصى ، لكنا نذكر طرفا منها:
فمن ذلك ما حدثني به السيد العالم العابد أبو جعفر مهدي بن أبي حرب
الحسيني المرعشي (1) رضي الله عنه ، قال حدثني الشيخ الصادق أبو عبد الله جعفر بن محمد ابن أحمد الدوريستى (2) رحمه الله عليه ، قال حدثني أبي محمد بن أحمد (3) قال حدثني الشيخ السعيد أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (4) رحمه الله، قال حدثني أبو الحسن محمد بن القاسم المفسر الاسترآبادي (5) ، قال حدثني أبو يعقوب يوسف بن محمد بن زياد وأبو الحسن علي بن محمد بن سيار (6) ـ وكانا من الشيعة
---------------------------
(1) السيد أبو جعفر مهدي بن أبي حرب الحسيني المرعشي عالم عابد ، يروي عنه الطبرسي صاحب الاحتجاج بحق روايته عن أبيه عن الصدوق محمد بن علي بن بابويه ويروي هو عن جعفر بن محمد ... العيسى الدوريستى ، أعيان الشيعة 48 / 121.
(2) أبو عبد الله جعفر بن محمد بن أحمد بن العباس الدوريستى الرازي من أكابر علماء الإمامية، من بيت العلم والفضل ، كثير الرواية، كان مشهورا في جميع الفنون، معظما في الغاية عند نظام الملك الوزير ، والدوريستى نسبة إلى دوريست قرية من قرى الري يقال لها الآن (درشت) الكنى والألقاب 2 / 408.
(3) أبو جعفر محمد بن أحمد بن العباس العبسي الدوريستى من ولد حذيفة بن اليمان العبسي الصحابي، يروي عن الصدوق ويروي عنه ولده جعفر بن محمد ، أعيان الشيعة 43 / 266.
(4) أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، شيخ الحفظة رئيس المحدثين، ولد بدعاء مولانا صاحب الأمر ( عليه السلام ) ، له نحو من ثلاثمائة مصنف ورد بغداد سنة 355 وسمع منه شيوخ الطائفة وهو حدث السن، مات بالري سنة 381 الكنى والألقاب 1 / 212.
(5) محمد بن القاسم الاسترآبادي المفسر، الراوي لتفسير الإمام العسكري ( عليه السلام ) ، شيخ ابن بابويه ، روى عنه كثيرا في الفقيه والتوحيد وعيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) ، وترضى عنه وترحم عليه شرح مشيخة الفقيه ص 100.
(6) أبو يعقوب يوسف بن محمد بن زياد وأبو الحسن علي بن محمد بن سيار قال الإمام العسكري ( عليه السلام ) لوالديهما: ( خلفا على ولديكما لأفيدهما العلم الذي يشرفهما الله تعالى به ) ، ومن هذا الكلام يظهر عظيم منزلتهما وثقتهما بعكس ما رماهما
=>
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 7 _
الإمامية - قالا حدثنا أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام، قال حدثني أبي عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسلم أنه قال : أشد من يتم اليتيم الذي انقطع من أمه وأبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه ، ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا ، وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره ، ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى (1).
وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن العسكري ( عليه السلام ) قال : قال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : من كان من شيعتنا عالما بشريعتنا فأخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به (2) جاء يوم القيامة على رأسه تاج من نور يضئ لجميع أهل العرصات، وحلة لا تقوم لأقل سلك منها الدنيا بحذافيرها ، ثم ينادي مناد ( يا عباد الله هذا عالم من تلامذة بعض علماء آل محمد ، ألا فمن أخرجه في الدنيا من حيرة جهله فليتشبث بنوره ليخرجه من حيرة ظلمة هذه العرصات إلى نزهة الجنان ) فيخرج كل من كان علمه في الدنيا خيرا ، أو فتح عن قلبه من الجهل قفلا ، أو أوضح له عن شبهة .
وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري ( عليهما السلام ) قال: قال الحسين ابن علي (3) فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب (4) في رتبة الجهل يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه
---------------------------
<=
بعضهم بالضعف لأن من علمه الإمام علما يشرفه الله تعالى به لا يعقل كونه غير عدل.
تنقيح المقال 2 / 305 .
(1) الرفيق: جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين ، وفي بعض النسخ ( الرفيع الأعلى ) .
(2) حبوناه : أعطيناه بلا عوض.
(3) في بعض النسخ ( الحسن بن علي ) .
(4) الناشب: الواقع فيما لا مخلص منه.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 8 _
كفضل الشمس على السها.
وبهذا الإسناد عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري قال : قال الحسين بن علي ( عليهما السلام ) : من كفل لنا يتيما قطعته عنا محنتنا باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه قال الله عز وجل : أيها العبد الكريم المواسي لأخيه أنا أولى بالكرم منك ، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علمه ألف ألف قصر وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعيم.
وبهذا الإسناد عنه ( عليه السلام ) قال : قال محمد بن علي الباقر عليهما السلام: العالم كمن معه شمعة تضئ للناس ، فكل من أبصر بشمعته دعا بخير ، كذلك العالم معه شمعة تزيل ظلمة الجهل والحيرة ، فكل من أضاءت له فخرج بها من حيرة أو نجا بها من جهل فهو من عتقائه من النار، والله يعوضه عن ذلك لكل شعرة لمن اعتقه ما هو أفضل له من الصدقة بمائة ألف قنطار (1) على الوجه الذي أمر الله عز وجل به ، بل تلك الصدقة وبال على صاحبها لكن يعطيه الله ما هو أفضل من مائة ألف ركعة يصليها من بين يدي الكعبة.
وبهذا الإسناد عنه عليه السلام قال : قال جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام:
علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته ، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته والنواصب ، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة لأنه يدفع عن أديان محبينا وذلك يدفع عن أبدانهم.
وعنه عليه السلام بالإسناد المتقدم قال : قال موسى بن جعفر ( عليهما السلام ) : فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه
---------------------------
(1) القنطار: قيل هو ألف ومائتا أوقية، وقيل مائة وعشرون رطلا ، وقيل هو ملء مسك ثور ذهبا ، وقيل ليس له وزن عند العرب، وفسر القنطار من الحسنات في حديث مذكور في معاني الأخبار وغير بألف ومائتي أوقية، وأوقية أعظم من جبل أحد.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 9 _
أشد على إبليس من ألف (1) عابد لأن العابد همه ذات نفسه فقط وهذا همه مع ذات نفسه ذوات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته ، فلذلك هو أفضل عند الله من ألف عابد وألف ألف عابدة .
وعنه ( عليه السلام ) قال : قال علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) : يقال للعابد يوم القيامة: ( نعم الرجل كنت همتك ذات نفسك وكفيت مؤنتك فادخل الجنة ) .
ألا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره وأنقذهم من أعدائهم ووفر عليهم نعم جنان الله تعالى وحصل لهم رضوان الله تعالى ، ويقال للفقيه: ( يا أيها الكافل لأيتام آل محمد الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لكل من أخذ عنك أو تعلم منك ) ، فيقف فيدخل الجنة معه فئاما وفئاما وفئاما (2) ـ حتى قال عشرا ـ وهم الذين أخذوا عنه علومه وأخذوا عمن أخذ عنه وعمن أخذ عمن أخذ عنه إلى يوم القيامة، فانظروا كم صرف ما بين المنزلتين (3).
وعنه ( عليه السلام ) قال : قال محمد بن علي الجواد عليهما السلام: من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم الأسارى في أيدي شياطينهم وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم وأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين برد وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربهم ودلائل أئمتهم ليحفظوا عهد الله على العباد بأفضل الموانع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على العباد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء .
وعنه ( عليه السلام ) قال : قال علي بن محمد ( عليهما السلام ) : لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم ( عليه السلام ) من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته ومن فخاخ النواصب لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما
---------------------------
(1) في بعض النسخ ( ألف ألف عابد ) .
(2) الفئام: الجماعة الكثيرة من الناس ، وقد فسر في بعض الأحاديث بمائة ألف.
(3) الصرف: الفضل ، يقال ( لهذا صرف على هذا ) أي فضل.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 10 _
يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل.
وعنه ( عليه السلام ) قال : يأتي علماء شيعتنا القوامون بضعفاء محبينا وأهل ولايتنا يوم القيامة والأنوار تسطع من تيجانهم ، على رأس كل واحد منهم تاج بهاء قد انبثت تلك الأنوار في عرصات القيامة ودورها مسيرة ثلاثمائة ألف سنة ، فشعاع تيجانهم ينبث فيها كلها فلا يبقى هناك يتيم قد كفلوه ومن ظلمة الجهل علموه ومن حيرة التيه أخرجوه إلا تعلق بشعبة من أنوارهم، فرفعتهم إلى العلو حتى تحاذي بهم فوق الجنان، ثم ينزلهم على منازلهم المعدة في جوار أستاديهم ومعلميهم وبحضرة أئمتهم الذين كانوا إليهم يدعون ، ولا يبقى ناصب من النواصب يصيبه من شعاع تلك التيجان إلا عميت عينه وأصمت أذنه وأخرس لسانه وتحول عليه أشد من لهب النيران، فيحملهم حتى يدفعهم إلى الزبانية فيدعونهم (1) إلى سواء الجحيم.
وقال أيضا أبو محمد الحسن العسكري عليه السلام: إن محبي آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مساكين مواساتهم أفضل من مواساة مساكين الفقراء، وهم الذين سكنت جوارحهم وضعفت قواهم من مقاتلة أعداء الله الذين يعيرونهم بدينهم ويسفهون أحلامهم، ألا فمن قواهم بفقهه وعلمه حتى أزال مسكنتهم ثم يسلطهم على الأعداء الظاهرين النواصب وعلى الأعداء الباطنين إبليس ومردته حتى يهزموهم عن دين الله يذودوهم (2) عن أولياء آل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حول الله تعالى تلك المسكنة إلى شياطينهم فأعجزهم عن إضلالهم، قضى الله تعالى بذلك قضاءا حقا على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وقال أبو محمد الحسن بن علي العسكري ( عليهما السلام ) : قال علي بن أبي طالب عليه السلام من قوى مسكينا في دينه ضعيفا في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه (3)
لقنه الله تعالى يوم يدلى في قبره أن يقول : الله ربي ، ومحمد نبيي ، وعلي وليي ، والكعبة قبلتي ، والقرآن بهجتي وعدتي ، والمؤمنون إخواني ، فيقول الله: أدليت بالحجة (1) فوجبت لك أعالي درجات الجنة ، فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة.
وقال أبو محمد ( عليه السلام ) : قالت فاطمة ( عليها السلام ) وقد اختصم إليها امرأتان فتنازعتا في شئ من أمر الدين إحداهما معاندة والأخرى مؤمنة ففتحت على المؤمنة حجتها فاستظهرت على المعاندة ففرحت فرحا شديدا ، فقالت فاطمة: إن فرح الملائكة باستظهارك عليها أشد من فرحك ، وإن حزن الشيطان ومردته بحزنها عنك أشد من حزنها، وإن الله عز وجل قال للملائكة: أوجبوا لفاطمة بما فتحت على هذه المسكينة الأسيرة من الجنان ألف ألف ضعف مما كنت أعددت لها ، واجعلوا هذه سنة في كل من يفتح على أسير مسكين فيغلب معاندا مثل ألف ألف ما كان له معدا من الجنان.
وقال أبو محمد ( عليه السلام ) : قال الحسن بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وقد حمل إليه رجل هدية فقال له : أيما أحب إليك أن أرد عليك بدلها عشرين ضعفا ( عشرين ضعفا عشرين ضعفا ـ يعني ) (2) عشرين ألف درهم ـ أو أفتح لك بابا من العلم تقهر فلانا الناصبي في قريتك تنقذ به ضعفاء أهل قريتك ؟ أن أحسنت الاختيار جمعت لك الأمرين، وإن أسأت الاختيار خيرتك لتأخذ أيهما شئت ، فقال : يا بن رسول الله فثوابي في قهري ذلك الناصب واستنقاذي لأولئك الضعفاء من يده قدره عشرون ألف درهم ؟ قال : بل أكثر من الدنيا عشرين ألف ألف مرة ، قال:
يا بن رسول الله فكيف أختار الأدون بل أختار الأفضل، الكلمة التي أقهر بها عدو الله وأذوده عن أوليائه ، فقال الحسن بن علي ( عليهما السلام ) : قد أحسنت الاختيار، وعلمه الكلمة وأعطاه عشرين ألف درهم ، فذهب فأفحم الرجل، فاتصل
---------------------------
(1) أدلى بالحجة : أظهرها.
(2) هذه الزيادة ليست في بعض النسخ.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 12 _
خبره به فقال له حين حضر معه: يا عبد الله ما ربح أحد مثل ربحك ولا اكتسب أحد من الأوداء مثل ما اكتسبت مودة الله أولا ومودة محمد وعلي ثانيا ومودة الطيبين من آلهما ثالثا ومودة ملائكة الله تعالى المقربين رابعا ومودة إخوانك المؤمنين خامسا ، واكتسبت بعدد كل مؤمن وكافر ما هو أفضل من الدنيا ألف مرة ، فهنيئا لك هنيئا .
وقال أبو محمد ( عليه السلام ) : قال جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) : من كان همه في كسر النواصب عن المساكين من شيعتنا الموالين حمية لنا أهل البيت يكسرهم عنهم ويكشف عن مخازيهم ويبين عوارهم (1) ويفخم أمر محمد وآله جعل الله تعالى همة أملاك الجنان في بناء قصوره ودوره ، يستعمل بكل حرف من حروف حججه على أعداء الله أكثر من عدد أهل الدنيا أملاكا ، قوة كل واحد يفضل عن حمل السماوات والأرضين ، فكم من بناء وكم من نعمة وكم من قصور لا يعرف قدرها إلا رب العالمين.
وقال أبو محمد ( عليه السلام ) : قال علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) :
أفضل ما يقدمه العالم من محبينا وموالينا أمامه ليوم فقره وفاقته وذله ومسكنته أن يغيث في الدنيا مسكينا من محبينا من يد ناصب عدو لله ولرسوله ، يقوم من قبره والملائكة صفوف من شفير قبره إلى موضع محله من جنان الله، فيحملونه على أجنحتهم يقولون له : مرحبا طوباك طوباك (2) يا دافع الكلاب عن الأبرار ويا أيها المتعصب للأئمة الأخيار.
وقال أبو محمد لبعض تلامذته ـ لما اجتمع إليه قوم من مواليه والمحبين لآل محمد رسول الله بحضرته وقالوا : يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إن لنا جارا من النصاب يؤذينا ويحتج علينا في تفضيل الأول والثاني والثالث على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ويورد علينا حججا لا ندري كيف الجواب عنها والخروج منها : مر بهؤلاء إذا
---------------------------
(1) عوارهم: عيوبهم .
(2) طوباك: طوبى لك ، وطوبى اسم للجنة ، وقيل شجرة فيها .
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 13 _
كانوا مجتمعين يتكلمون فتستمع عليهم فسيستدعون منك الكلام فتكلم وافحم صاحبهم واكسر عربه (1) وفل حده (2) ولا تبق له باقية ، فذهب الرجل وحضر الموضع وحضروا وكلم الرجل فأفحمه وصيره لا يدري في السماء هو أو في الأرض.
قالوا : ووقع علينا من الفرح والسرور ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وعلى الرجل والمتعصبين له من الغم والحزن مثل ما لحقنا من السرور ، فلما رجعنا إلى الإمام قال لنا : إن الذين في السماوات لحقهم من الفرح والطرب بكسر هذا العدو لله كان أكثر مما كان بحضرتكم ، والذي كان بحضرة إبليس وعتاة مردته من الشياطين من الحزن والغم أشد مما كان بحضرتهم ، ولقد صلى على هذا العبد الكاسر له ملائكة السماء والحجب والعرش والكرسي ، وقابلهما الله تعالى بالإجابة فأكرم إيابه وعظم ثوابه ، ولقد لعنت تلك الأملاك عدو الله المكسور وقابلها الله بالإجابة فشدد حسابه وأطال عذابه.
---------------------------
(1) عربه: حدته ، وفي بعض النسخ ( عرنينه ) وهو أول الأنف تحت مجتمع الحاجبين.
(2) فل حده: مثل حد سيفه ، وهو كناية عن كسر الشوكة.
قال أبو محمد الحسن بن علي العسكري ( عليهما السلام ): ذكر عند الصادق ( عليه السلام ) الجدال في الدين وأن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمة ( عليهم السلام ) قد نهوا عنه ، فقال الصادق ( عليه السلام ) : لم ينه عنه مطلقا ، ولكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن، أما تسمعون الله يقول : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) (1) وقوله:
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) (2) فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين ، والجدال بغير التي هي أحسن محرم حرمه الله على شيعتنا ، وكيف يحرم الله الجدال جملة وهو يقول : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) وقال الله تعالى: ( تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) (3) فجعل الله علم الصدق والإيمان بالبرهان، وهل يؤتي ببرهان إلا بالجدال بالتي هي أحسن.
قيل: يا بن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن وبالتي ليست بأحسن ؟ قال : أما الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجادل به مبطلا فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة قد نصبها الله ولكن تجحد قوله أو تجحد حقا يريد بذلك المبطل أن يعين به باطله ، فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة لأنك لا تدري كيف المخلص منه ، فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين، أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف في يده حجة له
على باطله ، وأما الضعفاء منكم فتغم قلوبهم (1) لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل.
وأما الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى به نبيه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له ، فقال الله له حاكيا عنه: ( وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ) فقال الله تعالى في الرد عليه: ( قل ( يا محمد ) يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم ، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون ) (2) إلى آخر السورة، فأراد الله من نبيه أن يجادل المبطل الذي قال : كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم ؟
فقال الله تعالى : قل ( يحييها الذي أنشأها أول مرة ) أفيعجز من ابتدأ به لا من شئ أن يعيده بعد أن يبلى بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته، ثم قال ( الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ) أي إذا أكمن النار الحارة في الشجر الأخضر الرطب ثم يستخرجها فعرفكم أنه على إعادة ما بلى أقدر، ثم قال ( أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم ) (3) أي إذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم أن تقدروا عليه من إعادة البالي، فكيف جوزتم من الله خلق هذا الأعجب عندكم والأصعب لديكم ولم تجوزوا منه ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي.
قال الصادق ( عليه السلام ) : فهو الجدال بالتي هي أحسن، لأن فيها قطع عذر الكافرين وإزالة شبههم ، وأما الجدال بغير التي هي أحسن فإن تجحد حقا لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله ، وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق، فهذا هو المحرم لأنك مثله جحد هو حقا وجحدت أنت حقا آخر.
وقال أبو محمد الحسن العسكري ( عليه السلام ) : فقام إليه رجل آخر وقال: يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أفجادل رسول الله ؟ فقال الصادق ( عليه السلام ) : مهما ظننت برسول الله من شئ فلا تظنن به مخالفة الله، أليس الله قد قال : ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) و ( قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ) لمن ضرب الله مثلا ، أفتظن أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خالف ما أمر
الله به فلم يجادل بما أمره الله به ولم يخبر عن أمر الله بما أمره أن يخبر به ، ولقد حدثني أبي الباقر عن جدي علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي سيد الشهداء عن أبيه أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أنه اجتمع يوما عند رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أهل خمسة أديان: اليهود ، والنصارى، والدهرية ، والثنوية ، ومشركو العرب (1).
فقالت اليهود: نحن نقول عزير ابن الله، وقد جئناك يا محمد لننظر ما تقول فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك .
وقالت النصارى: نحن نقول إن المسيح ابن الله اتحد به ، وقد جئناك لننظر ما تقول ، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك .
وقالت الدهرية: نحن نقول إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة ، وقد جئناك لننظر فيما تقول ، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك.
وقالت الثنوية: نحن نقول إن النور والظلمة هما المدبران ، وقد جئناك لننظر فيما تقول ، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك ، وإن خالفتنا خصمناك .
وقال مشركو العرب: نحن نقول إن أوثاننا آلهة، وقد جئناك لننظر فيما تقول ، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : آمنت بالله وحده لا شريك له وكفرت [ بالجبت
---------------------------
(1) اليهود هم أتباع النبي موسى بن عمران ( عليه السلام ) وكتابهم المقدس هو التوراة، والنصارى هم أتباع النبي عيسى بن مريم ( عليه السلام ) وكتابهم المقدس هو الإنجيل، والدهرية هم الذين ينفون الرب والجنة والنار ويقولون وما يهلكنا إلا الدهر وهو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت ، والثنوية هم الذين يثبتون مع القديم قديما غيره، قيل هم المجوس الذين يثبتون مبدأين مبدأ للخير ومبدأ للشر وهما النور والظلمة ويقولون بنبوة إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) ، وقيل هم طائفة يقولون إن كل مخلوق للخلق الأول، ومشركو العرب هم الذين كانوا يعكفون على أصنام لهم ويعبدونها من دون الله تعالى ويعتقدون فيها أنها منشأ الخير والشر وواسطة بين العبد والرب .
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 17 _
والطاغوت و ] (1) بكل معبود سواه .
ثم قال لهم : إن الله تعالى قد بعثني كافة للناس بشيرا ونذيرا وحجة على العالمين، وسيرد كيد من يكيد دينه في نحره .
ثم قال لليهود : أجئتموني لأقبل قولكم بغير حجة ؟ قالوا : لا ، قال : فما الذي دعاكم إلى القول بأن عزيرا ابن الله ؟ قالوا : لأنه أحيى لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت ولم يفعل بها هذا إلا لأنه ابنه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فكيف صار عزير ابن الله دون موسى وهو الذي جاء لهم بالتوراة ورؤي منه من المعجزات ما قد علمتم ، ولئن كان عزير بن الله لما ظهر من إكرامه بإحياء التوراة فلقد كان موسى بالبنوة أولى وأحق ، ولئن كان هذا المقدار من إكرامه لعزير يوجب له أنه ابنه فأضعاف هذه الكرامة لموسى توجب له منزلة أجل من البنوة، لأنكم إن كنتم إنما تريدون بالبنوة الدلالة على سبيل ما تشاهدونه في دنياكم من ولادة الأمهات الأولاد بوطئ آبائهم لهن فقد كفرتم بالله وشبهتموه بخلقه وأوجبتم فيه صفات المحدثين، فوجب عندكم أن يكون محدثا مخلوقا وأن يكون له خالق صنعه وابتدعه .
قالوا : لسنا نعني هذا ، فإن هذا كفر كما دللت لكنا نعني أنه ابنه على معنى الكرامة وإن لم يكن هناك ولادة، كما قد يقول بعض علمائنا لمن يريد إكرامه وإبانته بالمنزلة من غيره ( يا بني ) و ( أنه ابني ) لا على إثبات ولادته منه لأنه قد يقول ذلك لمن هو أجنبي لا نسب له بينه وبينه ، وكذلك لما فعل الله تعالى بعزير ما فعل كان قد اتخذه ابنا على الكرامة لا على الولادة.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فهذا ما قلته لكم إنه إن وجب على هذا الوجه أن يكون عزير ابنه فإن هذه المنزلة بموسى أولى، وأن الله يفضح كل مبطل بإقراره ويقلب عليه حجته ، إن ما احتججتم به يؤديكم إلى ما هو أكثر مما ذكرته لكم ، لأنكم قلتم إن عظيما من عظمائكم قد يقول لأجنبي لا نسب بينه وبينه ( يا بني ) و ( هذا
---------------------------
(1) الزيادة في بعض النسخ .
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 18 _
ابني ( لا على طريق الولادة، فقد تجدون أيضا هذا العظيم لأجنبي آخر ( هذا أخي ) ولآخر ( هذا شيخي ) و ( أبي ) ولآخر ( هذا سيدي ) و ( يا سيدي ) على سبيل الإكرام، وإن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول، فإذا يجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا له أو أبا أو سيدا لأنه قد زاده في الإكرام مما لعزير، كما أن من زاد رجلا في الإكرام فقال له يا سيدي ويا شيخي ويا عمي ويا رئيسي على طريق الإكرام، وأن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول، أفيجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا أو عما أو رئيسا أو سيدا أو أميرا لأنه قد زاده في الإكرام على من قال له يا شيخي أو يا سيدي أو يا عمي أو يا رئيسي أو يا أميري ؟
قال : فبهت القوم وتحيروا وقالوا : يا محمد أجلنا نتفكر فيما قد قلته لنا ، فقال:
انظروا فيه بقلوب معتقدة للإنصاف يهدكم الله.
ثم أقبل على النصارى فقال لهم : وأنتم قلتم إن القديم عز وجل اتحد بالمسيح ابنه ، فما الذي أردتموه بهذا القول، أردتم أن القديم صار محدثا لوجود هذا المحدث الذي هو عيسى ، أو المحدث الذي هو عيسى صار قديما كوجود القديم الذي هو الله أو معنى قولكم إنه اتحد به أنه اختصه بكرامة لم يكرم بها أحدا سواه ، فإن أردتم أن القديم صار محدثا فقد أبطلتم ، لأن القديم محال أن ينقلب فيصير محدثا ، وإن أردتم أن المحدث صار قديما فقد أحلتم لأن المحدث أيضا محال أن يصير قديما ، وإن أردتم أنه اتحد به بأنه اختصه واصطفاه على سائر عباده فقد أقررتم بحدوث عيسى وبحدوث المعنى الذي اتحد به من أجله، لأنه إذا كان عيسى محدثا وكان الله اتحد به ـ بأن أحدث به معنى صار به أكرم الخلق عنده ـ فقد صار عيسى وذلك المعنى محدثين ، وهذا خلاف ما بدأتم تقولونه .
فقالت النصارى: يا محمد إن الله لما أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة ما أظهر فقد اتخذه ولدا على جهة الكرامة.
فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فقد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الذي
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 19 _
ذكرتموه ، ثم أعاد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذلك كله ، فسكتوا إلا رجلا واحدا منهم فقال له : يا محمد أو لستم تقولون إن إبراهيم خليل الله ؟ قال : قلنا ذلك ، قال : فإذا قلتم ذلك فلم منعتمونا من أن نقول إن عيسى ابن الله ؟ قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنهما لن يشتبها ، لأن قولنا إبراهيم خليل الله فإنما هو مشتق من الخلة والخلة إنما معناها الفقر والفاقة ، فقد كان خليلا إلى ربه فقيرا وإليه منقطعا وعن غيره متعففا معرضا مستغنيا ، وذلك لما أريد قذفه في النار فرمي به في المنجنيق فبعث الله جبرئيل فقال له:
أدرك عبدي، فجاء فلقيه في الهواء فقال له : كلفني ما بدا لك فقد بعثني الله لنصرتك .
فقال إبراهيم: حسبي الله ونعم الوكيل إني لا أسأل غيره ولا حاجة لي إلا إليه ، فسماه خليله أي فقيره ومحتاجه والمنقطع إليه عمن سواه ، وإذا جعل معنى ذلك من الخلة وهو أنه قد تخلل معانيه ووقف على أسرار لم يقف عليها غيره كان الخليل معناه العالم به وبأموره ، ولا يوجب ذلك تشبيه الله بخلقه ، ألا ترون أنه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله، وأن من يلده الرجل وإن أهانه وأقصاه لم يخرج عن أن يكون ولده ، لأن معنى الولادة قائم به .
ثم إن وجب لأنه قال لإبراهيم خليلي أن تقيسوا أنتم فتقولوا بأن عيسى ابنه وجب أيضا كذلك أن تقولوا لموسى إنه ابنه، فإن الذي معه من المعجزات لم يكن بدون ما كان مع عيسى، فقولوا إن موسى أيضا ابنه، وإن يجوز أن تقولوا على هذا المعنى إنه شيخه وسيده وعمه ورئيسه وأميره كما قد ذكرته لليهود .
فقال بعضهم لبعض وفي الكتب المنزلة إن عيسى قال ( أذهب إلى أبي وأبيكم ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فإن كنتم بذلك الكتاب تعملون فإن فيه ( أذهب إلى أبي وأبيكم ) فقولوا إن جميع الذين خاطبهم عيسى كانوا أبناء الله كما كان عيسى ابنه من الوجه الذي كان عيسى ابنه، ثم إن ما في هذا الكتاب مبطل عليكم هذا الذي زعمتم أن عيسى من وجهة الاختصاص كان ابنا له ، لأنكم قلتم إنما قلنا إنه ابنه لأنه اختصه بما لم يختص به غيره، وأنتم تعلمون أن الذي خص به عيسى لم يخص به هؤلاء القوم الذين قال لهم عيسى ( أذهب إلى أبي وأبيكم ) ، فبطل أن يكون الاختصاص
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 20 _
لعيسى ، لأنه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى، وأنتم إنما حكيتم لفظة عيسى وتأولتموها على غير وجهها ، لأنه إذا قال ( أذهب إلى أبي وأبيكم ) فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه ، وما يدريكم لعله عنى أذهب إلى آدم أو إلى نوح وأن الله يرفعني إليهم ويجمعني معهم وآدم أبي وأبيكم وكذلك نوح، بل ما أراد غير هذا.
قال: فسكت النصارى وقالوا: ما رأينا كاليوم مجادلا ولا مخاصما مثلك وسننظر في أمورنا.
ثم أقبل رسول الله على الدهرية فقال: وأنتم فما الذي دعاكم إلى القول بأن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة لم تزل ولا تزال ؟ فقالوا : لأنا لا نحكم إلا بما نشاهد ولم نجد للأشياء حدثا فحكمنا بأنها لم تزل ، ولم نجد لها انقضاء وفناء فحكمنا بأنها لا تزال.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أفوجدتم لها قدما أم وجدتم لها بقاءا أبد الآبد.
فإن قلتم أنكم وجدتم ذلك أنهضتم لأنفسكم أنكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ولا تزالون كذلك ، ولئن قلتم هذا دفعتم العيان وكذبكم العالمون والذين يشاهدونكم .
قالوا : بل لم نشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الآبد، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فلم صرتم بأن تحكموا بالقدم والبقاء دائما لأنكم لم تشاهدوا حدوثها ، وانقضاؤها أولى من تارك التميز لها مثلكم ، فيحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع لأنه لم يشاهد لها قدما ولا بقاءا أبد الآبد، أو لستم تشاهدون الليل والنهار واحدهما بعد الآخر؟ فقالوا : نعم ، فقال : أترونهما لم يزالا ولا يزالان ؟ فقالوا : نعم .
فقال : أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار ؟ فقالوا : لا ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فإذا منقطع أحدهما عن الآخر فيسبق أحدهما ويكون الثاني جاريا بعده ، قالوا : كذلك هو ، فقال : قد حكمتم بحدوث ما تقدم من ليل ونهار لم تشاهدوهما فلا تنكروا لله قدرته .
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 21 _
ثم قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أتقولون ما قبلكم من الليل والنهار متناه أم غير متناه ، فإن قلتم إنه غير متناه فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوله ، وإن قلتم متناه فقد كان ولا شئ منهما ، قالوا نعم ، قال لهم : أقلتم إن العالم قديم غير محدث وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به وبمعنى ما جحدتموه ؟ قالوا : نعم ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فهذا الذي تشاهدونه من الأشياء بعضها إلى بعض يفتقر لأنه لا قوام للبعض إلا بما يتصل به ، كما نرى البناء محتاجا بعض أجزائه إلى بعض وإلا لم يتسق ولم يستحكم وكذلك سائر ما نرى .
وقال أيضا: فإذا كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوته وتمامه هو القديم فأخبروني أن لو كان محدثا كيف كان يكون وماذا كانت تكون صفته ؟ قال :
فبهتوا وعلموا أنهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلا وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنه قديم ، فوجموا وقالوا : سننظر في أمرنا.
ثم أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الثنوية الذين قالوا النور والظلمة هما المدبران فقال : وأنتم فما الذي دعاكم إلى ما قلتموه من هذا؟ فقالوا : لأنا وجدنا العالم صنفين خيرا وشرا ، ووجدنا الخير ضدا للشر ، فأنكرنا أن يكون فاعل واحد يفعل الشئ وضده بل لكل واحد منهما فاعل ، ألا ترى أن الثلج محال أن يسخن كما أن النار محال أن تبرد، فأثبتنا لذلك صانعين قديمين ظلمة ونورا ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أفلستم قد وجدتم سوادا وبياضا وحمرة وصفرة وخضرة وزرقة ، وكل واحدة ضد لسائرها لاستحالة اجتماع مثلين منها في محل واحد كما كان الحر والبرد ضدين لاستحالة اجتماعهما في محل واحد ؟ قالوا : نعم قال فهلا أثبتم بعدد كل لون صانعا قديما ليكون فاعل كل ضد من هذه الألوان غير فاعل الضد الآخر ؟ قال : فسكتوا .
ثم قال : فكيف اختلط النور والظلمة ، وهذا من طبعه الصعود وهذه من طبعها النزول، أرأيتم لو أن رجلا أخذ شرقا يمشي إليه والآخر غربا أكان يجوز عندكم أن يلتقيا ما داما سائرين على وجههما ؟ قالوا : لا ، قال : فوجب
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 22 _
أن لا يختلط النور والظلمة لذهاب كل واحد منهما في غير جهة الآخر، فكيف وجدتم حدث هذا العالم من امتزاج ما هو محال أن يمتزج بل هما مدبران جميعا مخلوقان ، فقالوا : سننظر في أمورنا .
ثم أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على مشركي العرب فقال : وأنتم فلم عبدتم الأصنام من دون الله ؟ فقالوا : نتقرب بذلك إلى الله تعالى ، فقال لهم : أو هي سامعة مطيعة لربها عابدة له حتى تتقربوا بتعظيمها إلى الله ؟ قالوا : لا ، قال :
فأنتم الذين نحتموها بأيديكم ؟ قالوا : نعم ، قال : فلأن تعبدكم هي لو كان يجوز منها العبادة أحرى من أن تعبدوها ، إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما يكلفكم .
قال : فلما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذا القول اختلفوا فقال بعضهم : إن الله قد حل في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا تلك الصور التي حل فيها ربنا ، وقال آخرون منهم : إن هذه صور أقوام سلفوا كانوا مطيعين لله قبلنا فمثلنا صورهم وعبدناها تعظيما لله ، وقال آخرون منهم:
إن الله لما خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له [ فسجدوه تقربا بالله ] كنا نحن أحق بالسجود لآدم ( إلى الله ) من الملائكة، ففاتنا ذلك فصورنا صورته فسجدنا لها تقربا إلى الله كما تقربت الملائكة بالسجود لآدم إلى الله تعالى ، وكما أمرتم بالسجود بزعمكم إلى جهة مكة ففعلتم ثم نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم محاريب (1) سجدتم إليها وقصدتم الكعبة لا محاريبكم وقصدتم بالكعبة إلى الله عز وجل لا إليها.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أخطأتم الطريق وضللتم ، أما أنتم ـ وهو ( صلى الله عليه وآله وسلم )
---------------------------
(1) محاريب جمع محراب ، ومحراب المسجد قيل سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى ، وقيل بل المحراب أصله في المسجد، وهو اسم خص به صدر المجلس فسمي صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد ، وكان هذا أصح قال تعالى : ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ) .
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 23 _
يخاطب الذين قالوا إن الله يحل في هياكل رجال كانوا على هذه الصورة التي صورناها فصورنا هذه الصور نعظمها لتعظيمنا لتلك الصور التي حل فيها ربنا ـ فقد وصفتم ربكم بصفة المخلوقات، أو يحل ربكم في شئ حتى يحيط به ذاك الشئ، فأي فرق بينه إذا وبين سائر ما يحل فيه من لونه وطعمه ورائحته ولينه وخشونته وثقله وخفته ، ولم صار هذا المحلول فيه محدثا قديما دون أن يكون ذلك محدثا وهذا قديما ، وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال وهو عز وجل كان لم يزل ، وإذا وصفتموه بصفة المحدثات في الحلول فقد لزمكم أن تصفوه بالزوال ، وما وصفتموه بالزوال والحدوث فصفوه بالفناء ، لأن ذلك أجمع من صفات الحال والمحلول فيه ، وجميع ذلك متغير الذات، فإن كان لم يتغير ذات الباري تعالى بحلوله في شئ جاز أن لا يتغير بأن يتحرك ويسكن ويسود ويبيض ويحمر ويصفر وتحله الصفات التي تتعاقب على الموصوف بها حتى يكون فيه جميع صفات المحدثين ويكون محدثا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فإذا بطل ما ظننتموه من أن الله يحل في شئ فقد فسد ما بنيتم عليه قولكم ، قال : فسكت القوم وقالوا : سننظر في أمورنا.
ثم أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الفريق الثاني فقال : أخبرونا عنكم إذا عبدتم صور من كان يعبد الله فسجدتم لها وصليتم فوضعتم الوجوه الكريمة على التراب بالسجود لها فما الذي أبقيتم لرب العالمين، أما علمتم أن من حق من يلزم تعظيمه وعبادته أن لا يساوي به عبده ، أرأيتم ملكا أو عظيما إذا سويتموه بعبده في التعظيم والخضوع والخشوع أيكون في ذلك وضع من الكبير كما يكون زيادة في تعظيم الصغير ؟ فقالوا : نعم ، قال : أفلا تعلمون أنكم من حيث تعظمون الله بتعظيم صور عباده المطيعين له تزرون (1) على رب العالمين ، قال : فسكت القوم بعد أن قالوا : سننظر في أمرنا.
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للفريق الثالث: لقد ضربتم لنا مثلا وشبهتمونا
بأنفسكم ولسنا سواء ، وذلك إنا عباد الله مخلوقون مربوبون نأتمر له فيها أمرنا وننزجر عما زجرنا ونعبده من حيث يريده منا ، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعد إلى غيره مما لم يأمرنا ولم يأذن لنا ، لأنا لا ندري لعله إن أراد منا الأول فهو يكره الثاني ، وقد نهانا أن نتقدم بين يديه ، فلما أمرنا أن نعبده بالتوجه إلى الكعبة أطعناه ، ثم أمرنا بعبادته بالتوجه نحوها في سائر البلدان التي تكون بها فأطعناه ، ولم نخرج في شئ من ذلك من اتباع أمره، والله حيث أمر بالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته التي هي غيره ، فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه لأنكم لا تدرون لعله يكره ما تفعلون إذ لم يأمركم به.
ثم قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أرأيتم لو أذن لكم رجل دخول داره يوما بعينه ألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره، أو لكم أن تدخلوا دارا له أخرى مثلها بغير أمره، أو وهب لكم رجل ثوبا من ثيابه أو عبدا من عبيده أو دابة من دوابه ألكم أن تأخذوا ذلك ؟ قالوا : نعم ، قال : فإن لم تأخذوه ألكم أخذ آخر مثله ؟
قالوا : لا لأنه لم يأذن لنا في الثاني كما أذن في الأول، قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فأخبروني الله أولى بأن لا يتقدم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين ؟ قالوا : بل الله أولى بأن لا يتصرف في ملكه بغير إذنه ، قال : فلم فعلتم ومتى أمركم بالسجود أن تسجدوا لهذه الصور؟ قال فقال القوم: سننظر في أمورنا وسكتوا.
وقال الصادق عليه السلام: فوالذي بعثه بالحق نبيا ما أتت على جماعتهم إلا ثلاثة أيام حتى أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأسلموا ، وكانوا خمسة وعشرين رجلا من كل فرقة خمسة وقالوا : ما رأينا مثل حجتك يا محمد نشهد أنك رسول الله.
وقال الصادق (عليه السلام ) : قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أنزل الله ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 25 _
يعدلون ) (1) الآية ، وكان في هذه الآية رد على ثلاثة أصناف منهم لما قال ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) فكان ردا على الدهرية الذين قالوا :
إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة ، ثم قال ( وجعل الظلمات والنور ) فكان ردا على الثنوية الذين قالوا : إن النور والظلمة هما مدبران ، ثم قال : ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) فكان ردا على مشركي العرب الذين قالوا : إن أوثاننا آلهة.
ثم نزل الله ( قل هو الله أحد ) إلى آخرها، فكان ردا على من ادعى من دون الله ضدا أو ندا .
قال : فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأصحابه : قولوا ( إياك نعبد ) أي نعبد واحدا لا نقول كما قالت الدهرية إن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة ، ولا كما قالت الثنوية إن النور والظلمة هما المدبران، ولا كما قال مشركو العرب إن أوثاننا آلهة فلا نشرك بك شيئا ولا ندعو من دونك إلها كما يقول هؤلاء الكفار ولا نقول كما قالت اليهود والنصارى إن لك ولدا تعاليت عن ذلك.
قال : فذلك قوله : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) وقالت طائفة غيرهم من هؤلاء الكفار ما قالوا ، قال الله تعالى يا محمد ( تلك أمانيهم ) التي يمنونها بلا حجة ( قل هاتوا برهانكم ) وحجتكم على دعواكم ( إن كنتم صادقين ) كما أتى محمد ببراهينه التي سمعتموها ، ثم قال ( بلى من أسلم وجهه لله ) تعالى يعني كما فعل هؤلاء الذين آمنوا برسول الله لما سمعوا براهينه وحجته ( وهو محسن ) في علمه ( فله أجره ) وثوابه ( عند ربه ) يوم فصل القضاء ( ولا ولا خوف عليهم ) حين يخاف الكافرون مما يشاهدون من العقاب ( ولا هم يحزنون ) (2) عند الموت لأن البشارة بالجنات تأتيهم.