احتجاج أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على أبي بكر وعمر لما منعا فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) فدك بالكتاب والسنة .
واختلفت ، فساويتموهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ، وعما قليل تذوقون وبال أمركم وتجزون بما قدمت أيديكم، وما الله بظلام للعبيد .
ثم قام المقداد بن الأسود فقال : يا أبا بكر ارجع عن ظلمك ، وتب إلى ربك والزم بيتك ، وابك على خطيئتك ، وسلم الأمر لصاحبه الذي هو أولى به منك ، فقد علمت ما عقده رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في عنقك من بيعته ، وألزمك من النفوذ تحت راية أسامة بن زيد وهو مولاه ، ونبه على بطلان وجوب هذا الأمر لك ولمن عضدك عليه بضمه لكما إلى علم النفاق ومعدن الشنان والشقاق عمرو بن العاص الذي أنزل الله فيه على نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( إن شانئك هو الأبتر ) (1) فلا اختلاف بين أهل العلم أنها نزلت في عمرو ، وهو كان أميرا عليكما وعلى سائر المنافقين في الوقت الذي أنفذه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في غزاة ذات السلاسل، وأن عمرا قلد كما حرس عسكره، فأين الحرس إلى الخلافة، اتق الله وبادر بالاستقالة قبل فوتها ، فإن ذلك أسلم لك في حياتك وبعد وفاتك ، ولا تركن إلى دنياك ولا تغرنك قريش وغيرها ، فعن قليل تضمحل عنك دنياك ثم تصير إلى ربك فيجزيك بعملك ، وقد علمت وتيقنت أن علي ابن أبي طالب عليه السلام هو صاحب الأمر بعد رسول الله، فسلمه إليه بما جعله الله له فإنه أتم لسترك واخف لوزرك ، فقد والله نصحت لك إن قبلت نصحي وإلى الله ترجع الأمور.
ثم قام إليه بريدة الأسلمي فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ، ماذا لقي الحق من الباطل، يا أبا بكر أنسيت أم تناسيت وخدعت أم خدعتك نفسك أم سولت لك الأباطيل، أو لم تذكر ما أمرنا به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من تسمية علي ( عليه السلام ) بإمرة المؤمنين والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بين أظهرنا، وقوله له في عدة أوقات ( هذا علي أمير المؤمنين وقاتل القاسطين ) ، اتق الله وتدارك نفسك قبل أن لا تدركها وانقذها مما يهلكها واردد الأمر إلى من هو أحق به منك ، ولا تتماد في اغتصابه، وراجع وأنت
---------------------------
(1) الكوثر: 3
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 102 _
تستطيع أن تراجع ، فقد محضتك النصح ودللتك على طريق النجاة، فلا تكونن ظهيرا للمجرين .
ثم قام عمار بن ياسر فقال : يا معاشر قريش ويا معاشر المسلمين إن كنتم علمتم وإلا فاعلموا أن أهل بيت نبيكم أولى به وأحق بإرثه وأقوم بأمور الدين وآمن على المؤمنين وأحفظ لملته وأنصح لأمته ، فمروا صاحبكم فليرد الحق إلى أهله قبل أن يضطرب حبلكم ويضعف أمركم ويظهر شتاتكم وتعظم الفتنة بكم وتختلفون فيما بينكم ويطمع فيكم عدوكم ، فقد علمتم أن بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم ، وعلي [ أقرب منكم إلى نبيكم وهو ] من بينهم وليكم بعهد الله ورسوله وفرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عند سد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبوابكم التي كانت إلى المسجد كلها غير بابه ، وإيثاره إياه بكريمته فاطمة دون سائر من خطبها إليه منكم ، وقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها ) وإنكم جميعا مضطرون فيما أشكل عليكم من أمور دينكم إليه وهو مستغن عن كل أحد منكم إلى ما له من السوابق التي ليست لأفضلكم عند نفسه ، فما بالكم تحيدون عنه وتبتزون عليا حقه وتؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة بئس للظالمين بدلا ، أعطوه ما جعله الله له ولا تتولوا عنه مدبرين ، ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين .
ثم قام أبي بن كعب فقال : يا أبا بكر لا تجحد حقا جعله الله لغيرك ، ولا تكن أول من عصى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في وصيه وصفيه وصدف عن أمره، أردد الحق إلى أهله تسلم ، ولا تتماد في غيك فتندم ، وبادر الإنابة يخف وزرك ، ولا تخصص بهذا الأمر الذي لم يجعله الله لك نفسك فتلقى وبال عملك ، فعن قليل تفارق ما أنت فيه وتصير إلى ربك ، فيسألك عما جنيت وما ربك بظلام للعبيد.
ثم قام خزيمة بن ثابت فقال : أيها الناس ألستم تعلمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبل شهادتي وحدي ولم يرد معي غيري ؟ قالوا: بلى ، قال : فأشهد أني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول ( أهل بيتي يفرقون بين الحق والباطل وهم الأئمة الذين
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 103 _
يقتدى بهم ) وقد قلت ما علمت ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
ثم قام أبو الهشيم بن التيهان فقال : وأنا أشهد على نبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه أقام عليا ـ يعني في يوم غدير خم ـ فقالت الأنصار: ما أقامه للخلافة، وقال بعضهم : ما أقامه إلا ليعلم الناس أنه مولى من كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مولاه ، وكثر الخوض في ذلك فبعثنا رجالا منا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فسألوه عن ذلك فقال: قولوا لهم علي ولي المؤمنين بعدي وأنصح الناس لأمتي ، وقد شهدت بما حضرني فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، إن يوم الفصل كان ميقاتا.
ثم قام سهل بن حنيف فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي محمد وآله ثم قال:
يا معاشر قريش إشهدوا علي أني أشهد على رسول الله وقد رأيته في هذا المكان ـ يعني الروضة ـ وقد أخذ بيد علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يقول : أيها الناس هذا على إمامكم من بعدي ووصيي في حياتي وبعد وفاتي وقاضي ديني ومنجز وعدي وأول من يصافحني على حوضي ، فطوبى لمن اتبعه ونصره ، والويل لمن تخلف عنه وخذله .
وقام معه أخوه عثمان بن حنيف وقال : سمعنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : أهل بيتي نجوم الأرض فلا تتقدموهم وقدموهم فهم الولاة من بعدي ، فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله وأي أهل بيتك؟ فقال ، علي والطاهرون من ولده ، وقد بين ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلا تكن يا أبا بكر أول كافر به ، ولا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون .
ثم قام أبو أيوب الأنصاري فقال ، اتقوا الله عباد الله في أهل بيت نبيكم ، وارددوا إليهم حقهم الذي جعله الله لهم ، فقد سمعتم مثل ما سمع إخواننا في مقام بعد مقام لنبينا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومجلس بعد مجلس يقول : ( أهل بيتي أئمتكم بعدي ) ويؤمى إلى علي ويقول ( هذا أمير البررة وقاتل الكفرة مخذول من خذله منصور من نصره ) فتوبوا إلى الله من ظلمكم إياه إن الله تواب رحيم ، ولا تتولوا عنه مدبرين ولا تتولوا عنه معرضين .
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 104 _
قال الصادق عليه السلام: فأفحم أبو بكر على المنبر حتى لم يحر جوابا، ثم قال: وليتكم ولست بخيركم أقيلوني أقيلوني ، فقال له عمر بن الخطاب: انزل عنها يا لكع (1) إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لم أقمت نفسك هذا المقام ؟ والله لقد هممت أن أخلعك واجعلها في سالم مولي أبي حذيفة .
قال : فنزل ثم أخذ بيده وانطلق إلى منزله وبقوا ثلاثة أيام لا يدخلون مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلما كان في اليوم الرابع جاءهم خالد بن الوليد ومعه ألف رجل فقال لهم : ما جلوسكم فقد طمع فيها والله بنو هاشم؟ وجاءهم سالم مولى أبي حذيفة ومعه ألف رجل ، وجاءهم معاذ بن جبل ومعه ألف رجل ، فما زال يجتمع إليهم رجل رجل حتى اجتمع أربعة آلاف رجل ، فخرجوا شاهرين بأسيافهم يقدمهم عمر بن الخطاب حتى وقفوا بمسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال عمر: والله يا أصحاب علي لئن ذهب منكم رجل يتكلم بالذي تكلم بالأمس لنأخذن الذي فيه عيناه.
فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص وقال ، يا بن صهاك الحبشية أبأسيافكم تهددوننا أم بجمعكم تفزعوننا، والله إن أسيافنا أحد من أسيافكم وأنا لأكثر منكم وإن كنا قليلين لأن حجة الله فينا، والله لولا أني أعلم أن طاعة الله ورسوله وطاعة إمامي أولى بي لشهرت سيفي وجاهدتكم في الله إلى أن أبلي عذري.
فقام أمير المؤمنين: اجلس يا خالد فقد عرف الله لك مقامك وشكر لك سعيك ، فجلس وقام إليه سلمان الفارسي فقال ، الله أكبر الله أكبر سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهاتين الأذنين وإلا صمتا يقول ( بينا أخي وابن عمي جالس في مسجدي مع نفر من أصحابه إذ تكبسه جماعة من كلاب أصحاب النار يريدون قتله وقتل من معه ، فلست أشك إلا وأنكم هم ) فهم به عمر بن الخطاب فوثب إليه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وأخذ بمجامع ثوبه ثم جلد به الأرض ثم قال : يا بن صهاك الحبشية لولا كتاب من الله سبق وعهد من رسول الله تقدم لأريتك أينا أضعف ناصرا وأقل عددا.
ثم التفت إلى أصحابه فقال : انصرفوا رحمكم الله، فوالله لا دخلت المسجد إلا
كما دخل أخواي موسى وهارون ، إذ قال له أصحابه ( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هيهنا قاعدون ) (1) والله لا دخلته إلا لزيارة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو لقضية أقضيها فإنه لا يجوز بحجة أقامها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يترك الناس في حيرة.
وعن عبد الله بن عبد الرحمن قال: ثم إن عمر احتزم بأزاره وجعل يطوف بالمدينة وينادي: ألا إن أبا بكر قد بويع له فهلموا إلى البيعة ، فينثال (2) الناس يبايعون ، فعرف أن جماعة في بيوت مستترون ، فكان يقصدهم في جمع كثير ويكبسهم ويحضرهم المسجد فيبايعون حتى إذا مضت أيام أقبل في جمع كثير إلى منزل علي عليه السلام فطالبه بالخروج فأبى ، فدعا عمر بحطب ونار وقال : والذي نفس عمر بيده ليخرجن أو لأحرقنه على ما فيه ، فقيل له : إن فاطمة بنت رسول الله وولد رسول الله وآثار رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيه ، وأنكر الناس ذلك من قوله ، فلما عرف إنكارهم قال : ما بالكم أتروني فعلت ذلك إنما أردت التهويل، فراسلهم على أن ليس إلى خروجي حيلة لأني في جمع كتاب الله الذي قد نبذتموه وألهتكم الدنيا عنه ، وقد حلفت أن لا أخرج من بيتي ولا أدع ردائي على عاتقي حتى أجمع القرآن.
قال وخرجت فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إليهم فوقفت خلف الباب ثم قالت :
لا عهد لي بقوم أسوء محضرا منكم ، تركتم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم فيما بينكم ولم تؤمرونا ولم تروا لنا حقا ، كأنكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم ، والله لقد عقد له يومئذ الولاء ليقطع منكم بذلك منها الرجاء ، ولكنكم قطعتم الأسباب بينكم وبين نبيكم ، والله حسيب بيننا وبينكم في الدنيا والآخرة.
وفي رواية سليم بن قيس الهلالي (3) عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه
---------------------------
(1) المائدة: 24.
(2) انثال الناس: انصبوا واجتمعوا.
(3) أبو صادق سليم بن قيس الهلالي ، كان من أصحاب علي ( عليه السلام ) ، وكان هاربا من الحجاج لأنه طلبه ليقتله فجلا إلى أبان بن عياش ، فآواه فلما حضرته الوفاة قال لأبان ( إن لك علي حقا وقد حضرتني الوفاة يا بن أخي إنه كان من أمر رسول الله كيت وكيت ) وأعطاه كتابا وهو كتاب سليم بن قيس الهلالي المشهور ورواه عنه
=>
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 106 _
قال: أتيت عليا عليه السلام وهو يغسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد كان أوصى أن لا يغسله غير علي ( عليه السلام ) ، وأخبر أنه لا يريد أن يقلب منه عضوا إلا قلب له ، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : من يعينني على غسلك يا رسول الله ؟ قال جبرئيل .
فلما غسله وكفنه أدخلني وأدخل أبا ذر والمقداد وفاطمة وحسنا وحسينا عليهم السلام فتقدم وصففنا خلفه فصلى عليه وعائشة في الحجرة لا تعلم قد أخذ جبرئيل ببصرها ثم أدخل عشرة من المهاجرين وعشرة من الأنصار فيصلون ويخرجون ، حتى لم يبق من المهاجرين والأنصار إلا صلى عليه ، وقلت لعلي ( عليه السلام ) حين يغسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن القوم فعلوا كذا وكذا وإن أبا بكر الساعة لعلى منبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وما يرضى الناس أن يبايعوا له بيد واحدة إنهم ليبايعون بيديه جميعا يمينا وشمالا.
فقال علي ( عليه السلام ) : يا سلمان فهل تدري من أول من يبايعه على منبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ فقلت : لا إلا أني قد رأيته في ظلة بني ساعدة حين خصمت الأنصار، وكان أول من بايعه بشير بن سعد ثم أبو عبيدة بن الجراح ثم عمر بن الخطاب ثم سالم مولى أبي حذيفة [ ومعاذ بن جبل ].
قال : لست أسألك عن هذا ، ولكن تدري من أول من بايعه حين صعد منبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ قلت : لا ولكني رأيت شيخا كبيرا متوكئا على عصاه بين عينيه سجادة شديد التشمير وهو يبكي ويقول : الحمد لله الذي لم يمتني ولم يخرجني من الدنيا حتى رأيتك في هذا المكان أبسط يدك أبايعك، فبسط يده فبايعه ثم نزل فخرج من المسجد.
فقال لي علي عليه السلام: يا سلمان وهل تدري من هو ؟ قلت : لا ولكني ساءتني مقالته كأنه شامت بموت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قال علي إن ذلك إبليس لعنه الله، أخبرني رسول الله أن إبليس ورؤساء أصحابه شهدوا نصب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إياي بغدير خم بأمر الله تعالى ، فأخبرهم أن يبلغ الشاهد الغائب، فأتاه أبالسة ومردة أصحابه فقالوا : إن هذه أمة مرحومة معصومة وما لنا ولا لك عليهم من سبيل ، قد
---------------------------
<=
أبان بن عياش: الفهرست للطوسي 81.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 107 _
علموا إمامهم ومفزعهم بعد نبيهم ، فانطلق إبليس كئيبا حزينا ، فاخبرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن لو قد قبض إن الناس سيبايعون أبا بكر في ظلة بني ساعدة بعد أن تخاصمهم بحقك وحجتك ، ثم يأتون المسجد فيكون أول من يبايعه على منبري إبليس في صورة شيخ كبير مستبشر يقول كذا وكذا ، ثم تجتمع شياطينه وأبالسته فيخر ويكسع (1) ثم يقول كذا زعمتم أن ليس لي عليهم سبيل فكيف رأيتموني صنعت بهم حين تركوا أمر من أمرهم الله بطاعته وأمرهم رسوله .
فقال سلمان : فلما كان الليل حمل علي فاطمة على حمار وأخذ بيد ابنيه الحسن والحسين ، فلم يدع أحدا من أهل بدر من المهاجرين ولا من الأنصار إلا أتى منزله وذكر حقه ودعاه إلى نصرته ، فما استجاب له من جميعهم إلا أربعة وأربعون رجلا ، فأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقين رؤوسهم معهم سلاحهم وقد بايعوه على الموت ، فأصبح ولم يوافه منهم أحد غير أربعة ، قلت لسلمان : من الأربعة ؟
قال : أنا وأبو ذر والمقداد والزبير بن العوام ، ثم أتاهم من الليلة الثانية فناشدهم الله فقالوا : نصحبك بكرة ، فما منهم أحد وفى غيرنا ، ثم الليلة الثالثة فما وفى أحد غيرنا ، فلما رأى علي عليه السلام عذرهم وقلة وفائهم لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه ، فلم يخرج حتى جمعه كله فكتبه على تنزيله والناسخ والمنسوخ ، فبعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع ، فبعث إليه أني مشغول فقد آليت بيمين أن لا أرتدي برداء إلا للصلوات حتى أؤلف القرآن وأجمعه ، فجمعه في ثوب وختمه ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فنادى عليه السلام بأعلى صوته:
أيها الناس إني لم أزل منذ قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مشغولا بغسله ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب، فلم ينزل الله على نبيه آية من القرآن إلا وقد جمعتها كلها في هذا الثواب، وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله صلى عليه وآله وعلمني تأويلها.
فقالوا : لا حاجة لنا به عندنا مثله ، ثم دخل بيته فقال عمر لأبي بكر : أرسل
إلى علي فليبايع فإنا لسنا في شئ حتى يبايع ولو قد بايع أمناه وغائلته ، فأرسل أبو بكر رسولا أن أجب خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأتاه الرسول فأخبره بذلك ، فقال علي ( عليه السلام ) : ما أسرع ما كذبتم على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، إنه ليعلم ويعلم الذين حوله أن الله ورسوله لم يستخلفا غيري ، فذهب الرسول فأخبره بما قاله فقال : اذهب فقل أجب أمير المؤمنين أبا بكر ، فأتاه فأخبره بذلك فقال علي ( عليه السلام ) : سبحان الله والله ما طال العهد بالنبي مني وإنه ليعلم أن هذا الاسم لا يصلح إلا لي ، وقد أمره رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سابع سبعة فسلموا علي بإمرة المؤمنين، فاستفهمه هو وصاحبه عمر من بين السبعة فقالا : أمر من الله ورسوله ؟ فقال لهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : نعم حقا من الله ورسوله إنه أمير المؤمنين وسيد المسلمين وصاحب لواء الغر المحجلين، يقعده الله يوم القيامة على الصراط فيدخل أولياءه الجنة وأعداءه النار.
قال : فانطلق الرسول إلى أبي بكر فأخبره بما قال ، فكفوا عنه يومئذ ، فلما كان الليل حمل فاطمة ( عليها السلام ) على حمار ثم دعاها إلى نصرته فما استجاب له رجل غيرنا أربعة، فإنا حلقنا رؤسنا وبذلنا نفوسنا ونصرتنا وكان علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) لما رأى خذلان الناس له وتركهم نصرته واجتماع كلمة الناس مع أبي بكر وطاعتهم له وتعظيمهم له جلس في بيته ، فقال عمر لأبي بكر :
ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع ، فإنه لم يبق أحد إلا وقد بايع غيره وغير هؤلاء الأربعة معه ، وكان أبو بكر أرق الرجلين وأرفقهما وأدهاهما وأبعدهما غورا ، والآخر أفظهما وأغلظهما وأخشنهما وأجفاهما ، فقال : من نرسل إليه ؟ فقال عمر:
أرسل إليه قنفذا ـ وكان رجلا فظا غليظا جافيا من الطلقاء أحد بني تيم ـ فأرسله وأرسل معه أعوانا، فانطلق فاستأذن فأبي علي ( عليه السلام ) أن يأذن له ، فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر وهما في المسجد والناس حولهما فقالوا : لم يأذن لنا ، فقال عمر : هو إن أذن لكم وإلا فادخلوا عليه بغير إذنه، فانطلقوا فاستأذنوا فقالت فاطمة ( عليها السلام ) أحرج عليكم (1) أن تدخلوا بيتي بغير إذن، فرجعوا وثبت قنفذ فقالوا : إن فاطمة
---------------------------
(1) التحرج: التضيق وعدم الإذن والالجاء .
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 109 _
قالت كذا وكذا فحرجتنا أن ندخل عليها البيت بغير إذن منها ، فغضب عمر وقال:
ما لنا وللنساء ، ثم أمر أناسا حوله فحملوا حطبا وحمل معهم فجعلوه حول منزله وفيه علي وفاطمة وابناهما ( عليهم السلام ) ، ثم نادى عمر حتى أسمع عليا ( عليه السلام ) : والله لتخرجن ولتبايعن خليفة رسول الله أو لأضرمن عليك بيتك نارا ، ثم رجع فقعد إلى أبي بكر وهو يخاف أن يخرج علي بسيفه لما قد عرف من بأسه وشدته ، ثم قال لقنفذ: أن خرج وإلا فاقتحم عليه، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم نارا .
فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن ، وبادر علي إلى سيفه ليأخذه فسبقوه إليه فتناول بعض سيوفهم فكثروا عليه فظبطوه وألقوا في عنقه حبلا أسود، وحالت فاطمة عليها السلام بين زوجها وبينهم عند باب البيت فضربها قنقذ بالسوط على عضدها، فبقي أثره في عضدها من ذلك مثل الدملوج (1) من ضرب قنفذ إياها، فأرسل أبو بكر إلى قنفذ اضربها فالجأها إلى عضادة باب بيتها ، فدفعها فكسر ضلعا من جنبها وألقت جنينا من بطنها ، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة صلوات الله عليها.
ثم انطلقوا بعلي ( عليه السلام ) ملببا بحبل حتى انتهوا به إلى أبي بكر وعمر قائم بالسيف على رأسه وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح وسالم والمغيرة بن شعبة وأسيد بن حصين وبشير بن سعد وسائر الناس قعود حول أبي بكر عليهم السلاح وهو يقول : أما والله لو وقع سيفي بيدي لعلمتم أنكم لن تصلوا إلي، هذا جزاء مني وبالله لا ألوم نفسي في جهد ولو كنت في أربعين رجلا لفرقت جماعتكم ، فلعن الله قوما بايعوني ثم خذلوني ، فانتهره عمر فقال : بايع ، فقال : وإن لم أفعل ؟
قال: إذا نقتلك ذلا وضعارا ، قال : إذن تقتلون عبد الله وأخا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
فقال أبو بكر : أما عبد الله فنعم [ كلنا عبيد الله ] وأما أخو رسوله فلا نقر لك به.
قال ( عليه السلام ) : أتجحدون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) آخى بين نفسه وبيني ، فأعادوا عليه ذلك ثلاث مرات ثم أقبل علي ( عليه السلام ) فقال :
---------------------------
(1) الدملوج: حلي يلبس في المعصم.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 110 _
يا معاشر المهاجرين والأنصار أنشدكم بالله أسمعتم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول يوم غدير خم كذا وكذا ، وفي غزاة تبوك كذا وكذا ، فلم يدع شيئا قاله فيه ( عليه السلام ) علانية للعامة إلا ذكره ؟ فقالوا : اللهم نعم ، فلما خاف أبو بكر أن ينصروه ويمنعوه بادرهم فقال: كل ما قتله قد سمعناه بآذاننا ووعته قلوبنا ، ولكن سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول بعد هذا : إنا أهل بيت اصطفانا الله وأكرمنا واختار لنا الآخرة على الدنيا، وإن الله لم يكن لجيمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة.
فقال علي ( عليه السلام ) : أما أحد من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شهد هذا معك ؟ قال عمر : صدق خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد سمعنا منه هذا كما قال ، وقال أبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة ومعاذ بن جبل: صدق قد سمعنا ذلك من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
فقال لهم : لشد ما وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاقدتم عليها في الكعبة:
إن قتل الله محمدا أو أماته أن تزووا هذا الأمر عنا أهل البيت ، فقال أبو بكر: وما علمك بذلك اطلعناك عليها ؟ قال علي يا زبير ويا سلمان وأنت يا مقداد أذكركم بالله وبالاسلام أسمعتم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول ذلك إن فلانا وفلانا حتى عد هؤلاء الخمسة قد كتبوا بينهم كتابا وتعاهدوا وتعاقدوا على ما صنعوا ؟ قالوا: اللهم نعم قد سمعناه يقول ذلك لك ، فقلت له بأبي أنت وأمي يا نبي الله فما تأمرني أن أفعل إذا كان ذلك ؟ فقال لك : إن وجدت عليهم أعوانا فجاهدهم ونابذهم ، وإن لم تجد أعوانا فبايعهم واحقن دمك.
فقال علي ( عليه السلام ) : أما والله لو أن أولئك الأربعين رجلا الذين بايعوني ووفوا لجاهدتكم في الله ولله، لا أما والله لا ينالها أحد من عقبكم إلى يوم القيامة.
ثم نادى قبل أن يبايع : ( يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ) (1) ثم تناول يد أبي بكر فبايعه ، فقيل للزبير بايع الآن، فأبى فوثب عليه عمر وخالد ابن الوليد والمغيرة بن شعبة في أناس فانتزعوا سيفه من يده فضربوا به الأرض حتى كسر ، فقال الزبير وعمر على صدوه : يا بن صهاك أما والله لو أن سيفي في
---------------------------
(1) الأعراف: 15.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 111 _
يدي لحدت عني ، ثم بايع .
قال : سلمان : ثم أخذوني فوجأوا عنقي حتى تركوها مثل السلعة (1) ثم فتلوا يدي ، فبايعت مكرها ، ثم بايع أبو ذر والمقداد مكرهين ، وما من الأمة أحد بايع مكرها غير علي وأربعتنا .
ولم يكن أحد منا أشد قولا من الزبير ، فلما بايع قال : يا بن صهاك أما والله لولا هؤلاء الطلقاء الذين أعانوك ما كنت لتقدم علي ومعي السيف لما قد علمت من جبنك ولؤمك ، ولكنك وجدت من تقوى بهم وتصول بهم ، فغضب عمر فقال ، أتذكر صهاك ؟ فقال الزبير : ومن صهاك وما يمنعني من ذلك ، وإنما كانت صهاك أمة حبشية لجدي عبد المطلب فزنا بها نفيل فولدت أباك الخطاب فوهبها عبد المطلب له بعد ما ولدته ، فإنه لعبد جدي فولد زنى، فأصلح بينهما أبو بكر وكف كل منهما عن صاحبه .
فقال سليم : فقلت يا سلمان بايعت أبا بكر ولم تقل شيئا ؟ قال : قد قلت بعد ما بايعت : تبا لكم سائر الدهر ، أو تدرون ماذا صنعتم بأناسكم ، أصبتم وأخطأتم :
أصبتم سنة الأولين ، وأخطأتم سنة نبيكم حتى أخرجتموها من معدنها وأهلها ، فقال لي عمر : أما إذا بايع صاحبك وبايعت فقل ما بدا لك وليقل ما بدا له .
قال : قلت فإني أشهد أني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : إن عليك وعلى صاحبك الذي بايعته مثل ذنوب أمته إلى يوم القيامة ومثل عذابهم ، وقال : قل ما شئت أليس قد بايع ولم يقر الله عينك بأن يليها صاحبك ، قال ، قلت فإني أشهد أني قرأت في بعض كتب الله المنزلة آية باسمك ونسبك وصفتك باب من أبواب جهنم .
قال : قل ما شئت أليس قد عزلها الله عن أهل البيت الذين قد اتخذتموهم أربابا.
قال : قلت فأشهد أني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول وقد سألته عن هذه الآية ( فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد ) (2) فقال : إنك أنت هو .
فقال عمر اسكت: قال : قلت أسكت الله نأمتك (1) أيها العبد يا بن اللخناء (2).
فقال لي علي ( عليه السلام ) اسكت يا سلمان ، فسكت فوالله لولا أنه أمرني بالسكوت لأخبرته بكل شئ نزل فيه وفي صاحبه ، فلما رأى ذلك عمر أنه قد سكت قال: إنك له مطيع مسلم وإذا لم يقل أبو ذر والمقداد شيئا كما قال سلمان .
قال عمر: يا سلمان ألا تكف عنا كما كف صاحباك ، فوالله ما أنت بأشد حبا لأهل هذا البيت منهما ولا أشد تعظيما لهم ولحقهم ، فقد كفا كما ترق وبايعا .
فقال أبو ذر أفتعيرنا يا عمر بحب آل محمد وتعظيمهم ، لعن الله من أبغضهم وابتز عليهم وظلمهم حقهم وحمل الناس على رقابهم ورد الناس على أدبارهم القهقري وقد فعل ذلك بهم .
فقال عمر آمين فلعن الله من ظلمهم حقهم ، لا والله ما لهم فيها حق وما هم وعرض الناس في هذا الأمر إلا سواء ، قال أبو ذر : فلم خاصمتم بحقهم وحجتهم ؟
فقال علي ( عليه السلام ) : يا بن صهاك فليس لنا حق وهو لك ولابن آكلة الذباب.
فقال عمر: كف الآن يا أبا الحسن إذا بايعت ، فإن العامة رضوا بصحابتي ولم يرضوا بك فما ذنبي ، قال علي ( عليه السلام ) لكن الله ورسوله لم يرضيا إلا بي فابشر أنت وصاحبك ومن اتبعكما وآزركما بسخط من الله وعذابه وخزيه ، ويلك يا بن الخطاب أو تدري مما خرجت وفيم دخلت وماذا جنيت على نفسك وعلى صاحبك ، فقال أبو بكر:
يا عمر أما إذا بايع وأمنا شره وفتكه وغائلته فدعه يقول ما شاء.
فقال علي ( عليه السلام ) : لست بقائل غير شئ واحد ، أذكركم بالله أيها الأربعة ـ يعنيني والزبير وأبا ذر والمقداد ـ أسمعتم رسول الله يقول إن تابوتا من نار فيه اثنا عشر رجلا ستة من الأولين وستة من الآخرين في جب في قعر جهنم في تابوت مقفل على ذلك الجب صخرة إذا أراد الله أن يسعر نار جهنم كشف تلك الصخرة عن ذلك الجب فاستعاذت جهنم من وهج ذلك الجب، فسألناه عنهم وأنتم شهود ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
---------------------------
(1) النأمة: الصوت، يقال ( أسكت الله نأمته ) أي نغمته وصوته.
(2) للخناء : المرأة المنتنة الفرج.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 113 _
أما الأولون فابن آدم الذي قتل أخاه، وفرعون الفراعنة نمرود ، والذي حاج إبراهيم في ربه ، ورجلان من بني إسرائيل بدلا كتابهم وغير أسنتهم ، أما أحدهما فهود اليهود والآخر نصر النصارى (1)، وإبليس سادسهم ، والدجال في الآخرين، وهؤلاء الخمسة أصحاب الصحيفة الذين تعاهدوا وتعاقدوا على عداوتك يا أخي والتظاهر عليك بعدي هذا وهذا وهذا حتى عدهم وسماهم .
قال سلمان : فقلنا صدقت نشهد أنا سمعنا ذلك من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال عثمان :
يا أبا الحسن أما عندك وعند أصحابك هؤلاء في حديث ؟ فقال : بلى قد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يلعنك ثم لم يستغفر الله لك مذ لعنك فغضب عثمان فقال ، ما لي ولك أما تدعني على حالي على عهد رسول الله ولا بعده ، فقال الزبير: نعم فأرغم الله أنفك ، فقال عثمان ، فوالله لقد سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : إن الزبير يقتل مرتدا عن الإسلام ، قال سلمان : فقال لي علي عليه السلام فيما بيني وبينه صدق عثمان ، وذلك أنه يبايعني بعد قتل عثمان ثم ينكث بيعتي فيقتل مرتدا عن الإسلام.
قال سليم: ثم أقبل علي سلمان فقال ، إن القوم ارتدوا بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلا من عصمه الله بآل محمد ، إن الناس بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمنزلة هارون من موسى ومن تبعه وبمنزلة العجل ومن تبعه ، فعلي في سنة هارون وعتيق في سنة السامري، وسمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول ( لتركبن أمتي سنة بني إسرائيل حذو القذة بالقذة وحذو النعل بالنعل شبرا بشبر وذراعا بذراع وباعا بباع ) .
وروي عن الصادق ( عليه السلام ) أنه قال ، لما استخرج أمير المؤمنين عليه السلام من منزله خرجت فاطمة صلوات الله عليها خلفه فما بقيت امرأة هاشمية إلا خرجت معها حتى انتهت قريبا من القبر فقالت لهم : خلوا عن ابن عمي فوالذي بعث محمدا أبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالحق إن لم تخلوا عنه لأنشرن شعري ولأضعن قميص رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على رأسي ولأصرخن إلى الله تبارك وتعالى ، فما صالح بأكرم على الله من أبي ولا الناقة بأكرم
---------------------------
(1) يعني أحدهما غير دين موسى وحرف كتابه بعده ، والآخر غير دين عيسى وحرف كتابه بعده .
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 114 _
مني ولا الفصيل بأكرم على الله من ولدي ، قال سلمان رضي الله عنه : كنت قريبا منها ، فرأيت والله أساس حيطان مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تقلعت من أسفلها حتى لو أراد رجل أن ينفذ من تحتها لنفذ ، فدنوت منها فقلت : يا سيدتي ومولاتي إن الله تبارك وتعالى بعث أباك رحمة فلا تكوني نقمة ، فرجعت ورجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من أسفلها فدخلت في خياشيمنا .
وروي عن الباقر ( عليه السلام )أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر : اكتب إلى أسامة ابن زيد يقدم عليك، فإن في قدومه قطع الشنيعة عنا ، فكتب أبو بكر إليه:
( من أبي بكر خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أسامة بن زيد ، ـ أما بعد فانظر إذا أتاك كتابي فاقبل إلي أنت ومن معك ، فإن المسلمين قد اجتمعوا علي وولوني أمرهم فلا تتخلفن فتعصي ويأتيك مني ما تكره والسلام ).
قال: فكتب أسامة إليه جواب كتابه ( من أسامة بن زيد عامل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على غزوة الشام ، أما بعد فقد أتاني منك كتاب ينقض أوله آخره، ذكرت في أوله أنك خليفة رسول الله، وذكرت في آخره أن المسلمين قد اجتمعوا عليك فولوك أمرهم ورضوك ، فاعلم أني ومن معي من جماعة المسلمين والمهاجرين فلا والله ما رضيناك ولا وليناك أمرنا، وانظر أن تدفع الحق إلى أهله وتخليهم وإياه فإنهم أحق به منك ، فقد علمت ما كان من قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في علي يوم الغدير، فما طال العهد فتنسى ، انظر مركزك ولا تخالف فتعصي الله ورسوله وتعصي من استخلفه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليك وعلى صاحبك ، ولم يعزلني حتى قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنك وصاحبك رجعتما وعصيتما فأقمتما في المدينة بغير إذن ).
فأراد أبو بكر أن يخلعها من عنقه قال : فقال له عمر لا تفعل قميص قمصك الله لا تخلعه فتندم ولكن ألح عليه بالكتب والرسائل ومر فلانا وفلانا أن يكتبوا إلى أسامة أن لا يفرق جماعة المسلمين وأن يدخل معهم فيما صنعوا .
قال : فكتب إليه أبو بكر وكتب إليه الناس من المنافقين ( أن ارض بما اجتمعنا عليه وإياك أن تشتمل المسلمين فتنة من قبلك فإنهم حديثو عهد بالكفر ) .
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 115 _
قال : فلما وردت الكتب على أسامة انصرف بمن معه حتى دخل المدينة، فلما رأى اجتماع الخلق على أبي بكر انطلق إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له : ما هذا ؟ قال له علي : هذا ما ترى ، قال له أسامة : فهل بايعته ؟ فقال : نعم يا أسامة ، فقال : طائعا أو كارها ؟ فقال : لا بل كارها ، قال : فانطلق أسامة فدخل على أبي بكر وقال له ، السلام عليك يا خليفة المسلمين ، قال ، فرد عليه أبو بكر وقال ، السلام عليك أيها الأمير.
وروي أن أبا قحافة كان بالطائف لما قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبويع لأبي بكر ، فكتب ابنه إليه كتابا عنوانه ( من خليفة رسول الله إلى أبي قحافة ، أما بعد فإن الناس قد تراضوا بي ، فإني اليوم خليفة الله، فلو قدمت علينا كان أقر لعينك ) قال : فلما قرأ أبو قحافة الكتاب قال للرسول: ما منعكم من علي ؟ قال :
هو حدث السن وقد أكثر القتل في قريش وغيرها وأبو بكر أسن منه ، قال أبو قحافة : إن كان الأمر في ذلك بالسن فأنا أحق من أبي بكر ، لقد ظلموا عليا حقه وقد بايع له النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأمرنا ببيعته .
ثم كتب إليه ( من أبي قحافة إلى ابنه أبي بكر ، أما بعد فقد أتاني كتابك فوجدته كتاب أحمق ينقض بعضه بعضا ، مرة تقول خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومرة تقول خليفة الله ومرة تقول تراضى بي الناس، وهو أمر ملتبس فلا تدخلن في أمر يصعب عليك الخروج منه غدا ويكون عقباك منه إلى النار والندامة وملامة النفس اللوامة لدى الحساب بيوم القيامة، فإن للأمور مداخل ومخارج وأنت تعرف من هو أولى بها منك ، فراقب الله كأنك تراه ولا تدعن صاحبها ، فإن تركها اليوم أخف عليك وأسلم لك ) .
وعن عامر الشعبي عن عروة بن الزبير بن العوام قال ، لما قال المنافقون إن أبا بكر تقدم عليا وهو يقول أنا أولى بالمكان منه قام أبو بكر خطيبا فقال : صبرا على من ليس يؤول إلى دين ولا يحتجب برعاية ولا يرعوي لولاية ، أظهر الإيمان ذلة وأسر النفاق غلة ، هؤلاء عصبة الشيطان وجمع الطغيان يزعمون أني أقول إني
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 116 _
أفضل من علي ، وكيف أقول ذلك وما لي سابقته ولا قرابته ولا خصوصيته ، وحد الله وأنا ملحده وعبده علي قبل أن أعبده ووالى الرسول وأنا عدوه ، وسبقني بساعات لو انقطعت لم ألحق شأوه ولم أقطع غباره ، وأن علي بن أبي طالب فاز والله من الله بمحبة ومن الرسول بقرابة ومن الإيمان برتبة ، لو جهد الأولون والآخرون إلا النبيين لم يبلغوا درجته ولم يسلكوا منهجه ، بذل في الله مهجته ولابن عمه مودته كاشف الكرب ودامغ الريب وقاطع السبب إلا سبب الرشاد وقامع الشرك ومظهر ما تحت سويداء حبة النفاق ، محنة لهذا العالم، لحق قبل أن يلاحق وبرز قبل أن يسابق ، جمع العلم والحلم والفهم فكان جميع الخيرات لقلبه كنوزا لا يدخر منها مثقال ذرة إلا أنفقه في بابه ، فمن ذا يؤمل أن ينال درجته وقد جعله الله ورسوله للمؤمنين وليا وللنبي وصيا وللخلافة راعيا وبالإمامة قائما ، أفيغتر الجاهل بمقام قمته إذ أقامني وأطعته إذ أمرني، سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول ( الحق مع علي وعلي مع الحق ، من أطاع عليا رشد ومن عصى عليا فسد ، ومن أحبه سعد ومن أبغضه شقي ) والله لو لم يحب ابن أبي طالب إلا لأجل أنه لم يواقع الله محرما ولا عبد من دونه صنما ولحاجة الناس إليه بعد نبيهم لكان في ذلك ما يجب ، فكيف لأسباب أقلها موجب وأهونها مرغب ، للرحم الماسة بالرسول والعلم بالدقيق والجليل والرضا بالصبر الجميل والمواساة في الكثير والقليل ، وخلال لا يبلغ عدها ولا يدرك مجدها ود المتمنون أن لو كانوا تراب أقدام ابن أبي طالب ، أليس هو صاحب لواء الحمد والساقي يوم الورود وجامع كل كرم وعالم كل علم والوسيلة إلى الله وإلى رسوله .
وعن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن أبي رافع قال ، إني لعند أبي بكر إذ طلع علي والعباس يتدافعان ويختصمان في ميراث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال أبو بكر : يكفيكم القصير الطويل ـ يعني بالقصير عليا وبالطويل العباس ـ فقال العباس: أنا عم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووارثه ، وقد حال علي بيني وبين تركته .
فقال أبو بكر : فأين كنت يا عباس حين جمع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بني عبد المطلب
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 117 _
وأنت أحدهم فقال ( أيكم يوازرني ويكون وصيي وخليفتي في أهلي ينجز عدتي ويقضي ديني ) فأحجمتم عنها إلا علي ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنت كذلك ؟
فقال العباس: فما أقعدك في مجلسك هذا تقدمته وتأمرت عليه ؟ قال أبو بكر : أعذروني يا بني عبد المطلب.
وروى رافع بن أبي رافع الطائي عن أبي بكر وقد صحبه في سفر قال ، قلت له : يا أبا بكر علمني شيئا ينفعني الله به ، قال : قد كنت فاعلا ولو لم يسألني لا تشرك بالله شيئا ، واقم الصلاة ، وآت الزكاة ، وصم شهر رمضان ، وحج البيت واعتمر ، ولا تأمرن على اثنين من المسلمين ، قال : قلت له أما ما أمرتني به من الإيمان والصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة فأنا أفعله، وأما الإمارة فإني رأيت الناس لا يصيبون هذا الشرف وهذا الغنى والعز والمنزلة عند رسول الله إلا بها ، قال : إنك استنصحتني فأجهدت نفسي لك.
فلما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واستخلف أبو بكر جئته وقلت له: يا أبا بكر ألم تنهني أن أتأمر على اثنين ؟ قال بلى ، قلت : فما بالك تأمرت على أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال اختلف الناس وخفت عليهم الضلالة ودعوني فلم أجد من ذلك بدا .
وروى أن أبا بكر وعمر بعثا إلى خالد بن الوليد فواعداه وفارقاه على قتل علي عليه السلام وضمن ذلك لهما ، فسمعت ذلك الخبر أسماء بنت عميس امرأة أبي بكر في خدرها ، فأرسلت خادمة لها ، وقالت ترددي في دار علي وقولي له ( الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ) (1) ففعلت الجارية وسمعها علي عليه السلام، فقال رحمها الله قولي لمولاتك فمن يقتل الناكثين والمارقين والقاسطين ؟
ووقعت المواعدة لصلاة الفجر إذ كان أخفى، واختيرت للسدفة (2) والشبهة [ فإنهم كانوا يغسلون (3) بالصلاة حتى لا تعرف المرأة من الرجل ] ولكن الله
---------------------------
(1) القصص: 20 .
(2) السدفة: ظلمة فيها ضوء من أول النهار وآخره .
(3) الغلس: ظلمة آخر الليل ، يغلسون بالصلاة : يصلون في الغلس
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 118 _
بالغ أمره، وكان أبو بكر قال لخالد بن الوليد : إذا انصرفت من صلاة الفجر فاضرب عنق علي ، فصلى إلى جنبه لأجل ذلك وأبو بكر في الصلاة يفكر في العواقب فندم فجلس في صلاته حتى كادت الشمس تطلع يتعقب الآراء ويخاف الفتنة ولا يأمن على نفسه ، فقال قبل أن يسلم في صلاته : يا خالد لا تفعل ما أمرتك به ـ ثلاثا ـ وفي رواية أخرى لا يفعلن خالد ما أمر به ، فالتفت علي عليه السلام فإذا خالد مشتمل على السيف إلى جانبه فقال : يا خالد ما الذي أمرك به ؟ قال : بقتلك يا أمير المؤمنين قال : أو كنت فاعلا ؟ فقال ، أي والله لولا أنه نهاني لوضعته في أكثرك (1) شعرا فقال له علي عليه السلام: كذبت لا أم لك من يفعله أضيق حلقة است منك ، أما والذي فلق الحبة وبرئ النسمة لولا ما سبق به القضاء لعلمت أي الفريقين شر مكانا واضعف جندا .
وفي رواية أخرى لأبي ذر رحمه الله أن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أخذ خالدا بأصبعيه السبابة والوسطى في ذلك الوقت ، فعصره عصرا فصاح خالد صيحة منكرة ، ففزع الناس وهمتهم أنفسهم وأحدث خالد في ثيابه وجعل يضرب برجليه الأرض ولا يتكلم ، فقال أبو بكر لعمر : هذه مشورتك المنكوسة ، كأني كنت أنظر إلى هذا وأحمد الله على سلامتنا ، وكلما دنى أحد ليخلصه من يده لحظة تنحى عنه رعبا فبعث أبو بكر وعمر إلى العباس فجاء وتشفع إليه وأقسم عليه فقال : بحق هذا القبر ومن فيه وبحق ولديه وأمهما إلا تركته ، ففعل ذلك وقبل العباس بين عينيه.
---------------------------
(1) يريد الرأس لأنه أكثر الأعضاء ، شعرا.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 119 _
عن حماد بن عثمان (1) عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : لما بويع أبو بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث إلى فدك (2) من أخرج وكيل
---------------------------
(1) قال العلامة الحلي في خلاصته : حماد بن عثمان بن عمرو بن خالد الفزاري مولاهم كوفي وكان يسكن عرزم فذهب إليها وأخوة عبد الله ثقتان رويا عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) وروي حماد عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) ومات حماد بالكوفة رحمه الله سنة تسعين ومائة ذكرهما أبو العباس في كتابه ، وسبقه بذكر حماد بن عثمان الناب مولى غني وعده من أصحاب الكاظم والرضا ( عليهما السلام ) .
وعده الشيخ في رجاله تارة من أصحاب الصادق ( عليه السلام ) وأخرى من أصحاب الكاظم ( عليه السلام ) وثالثة من أصحاب الرضا ( عليه السلام ) وسماه ذو الناب ولم يتعرض لذكر حماد الفزاري ، ولعله إنما لم يتعرض لذكره لاعتقاده باتحادهما فقد اعتقد ذلك بعض أصحاب الرجال واستدلوا على ما ذهبوا إليه باتحاد سنة الوفاة واتحاد عشيرتيهما ، ونقل المامقاني بتفصيل أقوال الرجاليين فيهما وقال في تنقيح المقال أقول : ( الأظهر اتحاد الرجلين فإن غنيا حي من غطفان، وفزارة أبو قبيلة من غطفان ) انتهى.
أقول: وهذا لا يكفي بل إن دليل التعدد ظاهر والاختلاف بينهما واضح بين لاختلاف اسم الجد والأخوة فحماد ذو الناب هو : حماد بن عثمان بن زياد، والفزاري هو : حماد بن عثمان بن عمرو بن خالد والأول أخواه حسين وجعفر ، والثاني أخوه عبد الله وعليه فيكون المراد هنا حمادا الفزاري لأنه يروي عن الصادق ( عليه السلام ) وذو الناب يروي عن الكاظم والرضا فقط كما في الخلاصة.
راجع رجال الطوسي، رجال الكشي، رجال المامقاني، الخلاصة للعلامة ، فهرست الشيخ الطوسي، أعيان الشيعة، قاموس الرجال.
(2) ( فدك ) : قرية في الحجاز، بينها وبين المدينة يومان ، وقيل ثلاثة وهي أرض يهودية ، كان يسكنها طائفة من اليهود حتى السنة السابعة حيث قذف الله بالرعب في قلوب أهليها فصالحوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على النصف من فدك ، وروى أنه صالحهم
=>
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 120 _
فاطمة ( عليها السلام ) بنت رسول الله منها، فجاءت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) إلى أبي بكر ثم قالت
---------------------------
<=
عليها كلها ، فصارت ملكا لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خاصة ، لأنها لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ثم قدمها لابنته الزهراء ( عليه السلام ) وكانت بيدها في عهد أبيها وبعد وفاته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكانت وضعت عليها وكيلا عنها فانتزعها الخليفة الأول وطرد وكيلها ولما تولى عمر الخلافة ردها إلى ورثة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلما ولي عثمان بن عفان أقطعها مروان بن الحكم فلما صار الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان ثلثها ، وعمر بن عثمان ثلثا ، ويزيد ابنه ثلثها الآخر، فلم يزالوا يتداولونها حتى خلصت لمروان بن الحكم أيام ملكه ثم صفت لعمر بن عبد العزيز بن مروان ، فلما ولي الأمر ردها لولد فاطمة ( عليه السلام )، ثم انتزعها يزيد ابن عبد الملك من أولاد فاطمة وظلت في أيدي بني مروان حتى انقرضت دولتهم .
فلما تقلد الخلافة أبو العباس السفاح ردها على عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي ( عليه السلام ) ثم قبضها أبو جعفر المنصور في خلافته من بني الحسن، وردها المهدي بن المنصور على الفاطميين ، ثم انتزعها موسى بن المهدي من أيديهم، ثم ردها المأمون عليهم سنة مائتين وعشرة ولما بويع المتوكل انتزعها منهم وأقطعها عبد الله بن عمر البازيار من أهل طبرستان ، وردها المعتضد ، وحازها المكتفي، وقيل إن المقتدر ردها عليهم وكان فيها بضعة عشر نخلة غرسها رسول الله بيده ، قال ابن أبي الحديد: ـ في شرح النهج ـ وقلت لمتكلم من متكلمي الإمامية يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل.
وهل كانت فدك إلا نخلا يسيرا وعقارا ليس بذلك الخطير ؟ فقال لي ليس الأمر كذلك بل كانت جليلة جدا وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل وما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلا أن لا يتقوى على بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة الخ وقال أيضا: وسألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له :
أكانت فاطمة صادقة ؟ قال نعم قلت : فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدكا وهي عنده صادقة فتبسم ثم قال : كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته قال لو أعطاها اليوم فدكا بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه ولم يكن يمكنه الاعتذار بشئ لأنه يكون قد سجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدعي راجع : معجم البلدان لياقوت الحموي، أعيان الشيعة للسيد الأمين، فدك في التاريخ للسيد الصدر، فتوح البلدان للبلاذري ، شرح النهج لابن أبي الحديد.
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 121 _
لم تمنعني ميراثي من أبي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأمر الله تعالى ؟
فقال : هاتي على ذلك بشهود ، فجاءت بأم أيمن، فقالت له أم أيمن: لا أشهد يا أبا بكر حتى احتج عليك بما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أنشدك بالله ألست تعلم أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال ( أم أيمن امرأة من أهل الجنة (1) ) فقال: بلى ، قالت ( فأشهد : أن الله عز وجل أوحى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( وآت ذا القربى حقه ) (2)
---------------------------
(1) أم أيمن: مولاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وحاضنته ... اسمها بركة بنت ثعلبة ابن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان، مهاجرة جليلة هاجرت الهجرتين إلى أرض الحبشة ، وإلى المدينة ، وشهدت حنينا واحدا وخيبرا وكانت في أحد تسقي الماء وتداوي الجرحى ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يخاطبها يا أمه ويقول : ( هي أمي بعد أمي ) وكان إذا نظر إليها يقول ( هذه بقية أهل بيتي ) .
قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: ( روت عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعنها أنس بن مالك وحنش بن عبد الله الصنعاني وأبو يزيد المدني ) .
وكنيت بابنها أيمن بن عبيد وهي أم أسامة بن زيد بن حارثة تزوجها زيد بعد عبيد الحبشي.
قيل كانت لعبد الله بن عبد المطلب ( عليه السلام ) فصارت للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ميراثا وقيل أنها كانت لأمه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وروي أنها كانت لأخت خديجة فوهبتها للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلما تزوج من خديجة ( عليها السلام ) أعتقها.
وفي الإصابة: أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن ) ... وتوفيت في أوائل عهد عثمان وروى البخاري أنها توفيت بعد النبي بخمسة أشهر .
راجع الإصابة، تهذيب التهذيب ، أعلام النساء ، طبقات ابن سعد ، البخاري قاموس الرجال، أعيان الشيعة .
(2) قال الطبرسي في مجمع البيان: ( وأخبرنا السيد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني قراءة قال حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن الحسكاني قال حدثنا الحاكم الوالد أبو محمد
=>
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 122 _
فجعل فدكا لها طعمة بأمر الله، فجاء علي ( عليه السلام ) فشهد: بمثل ذلك فكتب لها كتابا ودفعه إليها ، فدخل عمر فقال : ما هذا الكتاب ؟ فقال: إن فاطمة ( عليها السلام ) ادعت في فدك ، وشهدت لها أم أيمن وعلي ( عليه السلام ) ، فكتبته لها ، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فتفل فيه ومزقه فخرجت فاطمة ( عليها السلام ) تبكي ، فلما كان بعد ذلك جاء علي ( عليه السلام ) إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال : يا أبا بكر لم منعت فاطمة ميراثها من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ وقد ملكته في حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال أبو بكر : هذا فيئ للمسلمين ، فإن أقامت شهودا أن رسول الله جعله لها وإلا فلا حق لها فيه ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين ، قال : لا ، قال : فإن كان في يد المسلمين شئ يملكونه ، ثم ادعيت أنا فيه من تسأل البينة ؟ قال : إياك أسأل البينة، قال : فما بال فاطمة سئلتها البينة على ما في يديها ؟ وقد ملكته في حياة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعده ، ولم تسئل المسلمين بينة على ما ادعوها شهودا ، كما سألتني على ما ادعيت عليهم ؟ (1) فسكت أبو بكر فقال عمر : يا علي دعنا من كلامك ، فإنا لا نقوى على حجتك ، فإن أتيت بشهود عدول ، وإلا فهو فيء للمسلمين لا حق لك ولا لفاطمة فيه ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام يا أبا بكر تقرء كتاب الله ؟ قال : نعم ، قال : أخبرني عن قول الله عز وجل:
( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) (2) فيمن
---------------------------
<=
قال حدثنا عبد الله عن عمر بن عثمان ببغداد شفاها قال : أخبرني عمر بن الحسن بن علي بن مالك قال: حدثنا جعفر بن محمد الأحمسي قال : حدثنا حسن بن حسين قال : حدثنا أبو معمر سعيد بن خثيم وعلى بن القاسم الكندي ويحيى بن يعلى وعلي بن مسهر عن فضل بن مرزوق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزل قوله : ( آت ذا القربى حقه ) أعطى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاطمة فدكا ، قال عبد الرحمن بن صالح كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى يسأله عن قصة فدك فكتب عبد الله بهذا الحديث رواه الفضل بن مرزوق عن عطية فرد المأمون فدكا إلى ولد فاطمة انتهى .
(1) إذ أنها عليها السلام كانت صاحبة اليد والمسلمون يمثلون دور المدعي.
(2) روى محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: عن عمر بن أبي سلمة ربيب رسول
=>
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 123 _
نزلت فينا أم في غيرنا ؟ قال: بل فيكم ، قال: فلو أن شهودا شهدوا على فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بفاحشة ما كنت صانعا بها؟ قال كنت أقيم عليها الحد، كما أقيمه على نساء المسلمين، قال: إذن كنت عند الله من الكافرين، قال: ولم قال: لأنك رددت شهادة الله لها بالطهارة ، وقبلت شهادة الناس عليها ، كما رددت حكم الله وحكم رسوله ، أن جعل لها فدكا قد قبضته في حياته ، ثم قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبيه عليها ، وأخذت منها فدكا، وزعمت أنه فيء للمسلمين ، وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : البينة على المدعي: واليمين على المدعى عليه ) فرددت قول: رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ): البينة على من أدعى، واليمين على من ادعي عليه ، قال: فدمدم الناس وأنكروا ، ونظر بعضهم إلى بعض ، وقالوا: ( صدق والله علي بن أبي طالب عليه السلام ) ورجع إلى منزله .
قال: ثم دخلت فاطمة المسجد، وطافت بقبر أبيها، وهي تقول:
قـد كـان بـعدك أنـباء iiوهنبثة لـو كنت شاهدها لم تكثر الخطب إنـا فـقدناك فـقد الأرض وابلها واختل قومك فاشهدهم ولا تغب (1) قـد كـان جبريل بالآيات iiيونسنا فـغاب عـنا فكل الخير iiمحتجب وكـنت بـدرا ونورا يستضاء iiبه عـليك ينزل من ذي العزة iiالكتب تـجهمتنا رجـال واسـتخف iiبنا إذ غـبت عنا فنحن اليوم iiنغتصب
---------------------------
<=
الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال نزلت هذه الآية على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ـ سورة الأحزاب آية: 33 ) في بيت أم سلمة رضي الله عنها فدعى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاطمة وحسنا وحسينا فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره ثم قال: ( اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) ، قالت أم سلمة وأنا معهم يا رسول الله قال: ( أنت على مكانك وأنت على خير ) .
(1) في كشف الغمة ) ثم التفتت إلى قبر أبيها متمثلة بقول هند ابنة أثانة:
قـد كـان بـعدك أبناء iiوهنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب إنـا فـقدناك فقد الأرض وابلها واختل قومك لما غبت iiوانقلبوا
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 124 _
فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت مـنا الـعيون بتهمال لها iiسكب
قال: فرجع أبو بكر وعمر إلى منزلهما، وبعث أبو بكر إلى عمر فدعاه ثم قال: له أما رأيت مجلس علي منا في هذا اليوم ؟ والله لئن قعد مقعدا آخر مثله ليفسدن علينا أمرنا، فما الرأي ؟ فقال عمر: الرأي أن تأمر بقتله ، قال: فمن يقتله ؟ قال: ( خالد بن الوليد ) (1).
---------------------------
(1) خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي.
قال ابن حجر: ـ في الإصابة ـ ( وشهد مع كفار قريش الحروب إلى غزوة الحديبية، كما ثبت في الصحيح: أنه كان على خيل قريش طليعة ، ثم أسلم في سنة سبع بعد خيبر وقيل قبلها ، ووهم من زعم أن أسلم سنة خمسة ) .
وقال ابن الأثير ـ في أسد الغابة : ( ولا يصح لخالد مشهد مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبل فتح مكة ، ولما فتح رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكة بعثه إلى بني جذيمة من بني عامر بن لؤي فقتل منهم من لم يجز قتله ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ) .
فأرسل مالا مع علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فودى القتلى وأعطاهم ثمن ما أخذ منهم حتى ثمن ميلغة الكلب، وفضل معه فضلة من المال فقسمها فيهم فلما أخبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك استحسنه. "...
و ( قال ) فيه أيضا: ( ثم إن أبا بكر أمره بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على قتال المرتدين منهم مسيلمة الحنفي في اليمامة، وله في قتالهم الأثر العظيم، و ( منهم ): مالك ابن نويرة من بني يربوع من تميم وغيرهم إلا أن الناس اختلفوا في قتل مالك بن نويرة فقيل: ( إنه قتل مسلما) لظن ظنه خالد به، وكلام سمعه منه، وأنكر عليه أبو قتادة وأقسم أنه لا يقاتل تحت رايته ، وأنكر عليه ذلك عمر بن الخطاب... ) .
و (قال) في أسد الغابة أيضا: ـ في ترجمة مالك بن نويرة ـ ( فلما فرغ خالد من بني أسد وغطفان، سار إلى مالك وقدم البطاح فلم يجد به أحدا كان مالك قد فرقهم ونهاهم عن الاجتماع فلما قدم خالد البطاح بث سرايا فأتى بمالك بن نويرة ونفر من قومه فاختلف السرية فيهم ، وكان فيهم أبو قتادة وكان فيمن شهد أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا فحبسهم في ليلة باردة ، وأمر خالد فنادى: أدفئوا أسراكم ـ وهي في لغة كنانة: القتل ـ فقتلوهم
=>
الإحتجاج (الجزء الأول) _ 125 _
فبعثوا إلى خالد فأتاهما ، فقالا: نريد أن نحملك على أمر عظيم ، قال:
احملاني على ما شئتما ، ولو على قتل علي بن أبي طالب ، قالا: فهو ذلك ، قال خالد: متى أقتله ؟ قال أبو بكر: احضر المسجد وقم بجنبه في الصلاة ، فإذا سلمت فقم إليه واضرب عنقه ، قال: نعم .
فسمعت أسماء بنت عميس (1) وكانت تحت أبي بكر ، فقالت: لجاريتها
---------------------------
<=
فسمع خالد الواعية، فخرج وقد قتلوا ، فتزوج خالد امرأته، فقال عمر لأبي بكر: سيف خالد فيه رهق وأكثر عليه فقال أبو بكر: تأول فاخطأ ولا اشيم سيفا سله الله على المشركين، وودى مالكا ، وقدم خالد على أبي بكر ، فقال له عمر: يا عدو الله قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته لأرجمنك ).
( قال ): ( وقيل إن المسلمين لما غشوا مالكا وأصحابه ليلا ، أخذوا السلاح فقالوا: نحن المسلمون، فقال أصحاب مالك: ونحن المسلمون ، فقالوا لهم: ضعوا السلاح فوضعوه وصلوا ، وكان خالد يعتذر في قتله ، أن مالكا قال: ما أخال صاحبكم إلا قال كذا فقال أو ما تعده لك صاحبا ؟ فقتله ، فقدم متمم على أبي بكر ، يطلب بدم أخيه وأن يرد عليهم سبيهم فأمر أبو بكر برد السبي، وودى مالكا من بيت المال، فهذا جميعه ذكره الطبري وغيره من الأئمة ويدل على أنه لم يرتد ، ) انتهى.
وجعله أبو بكر واليا من قبله على الشام فلما ولي عمر الخلافة عزله ومات فيها بحمص في خلافة عمر .
راجع ( الإصابة لابن حجر، أسد الغابة لابن الأثير، ابن أبي الحديد ج 4 من شرح النهج، الإستيعاب ) .
(1) أسماء بنت عميس الخثعمية: هي أخت ميمونة زوج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واخت لبابة زوج العباس بن عبد المطلب وأم الفضل وعبد الله.
هاجرت مع زوجها جعفر بن أبي طالب ( عليه السلام ) إلى الحبشة.
ذكر ابن الأثير في ( أسد الغابة ): ( أن عمر بن الخطاب قال لها: نعم القوم لولا أننا سبقناكم إلى الهجرة، فذكرت ذلك للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال: بل لكم هجرتان: إلى أرض الحبشة وإلى المدينة ) وأعقبت أسماء من جعفر بن أبي طالب الطيار
=>