الفهرس العام

إحتجاجه ( عليه السلام ) على اليهود من أحبارهم ممن قرأ الصحف والكتب في معجزات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكثير من فضائله .

  الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره ، (1) الذي لا يحول ، ولا يزول ،

---------------------------
<=
وتصل إلى جزء وتنفصل عن سابقه وهكذا ، ويقابلها السكون الذي هو : (التوقف والخمود فيما يقبل الحركة) والحركة والسكون كلاهما من الحوادث المستندة في وجودها إلى علة ، وحيث ثبت أن لا موجد إلا الله ولا خالق سواه فيكون هو الذي خلقهما وأجراهما على نفسه ، وأحدثهما في ذاته ، ولاستحالة أن يكون مخلوقه جزء ذاته ، نفى أمير المؤمنين عليه السلام ذلك في صورة استفهام إنكاري في قوله ، (وكيف يجري عليه ما هو أجراه ؟؟
ويعود إليه ما هو أبداه ، ويحدث فيه ما هو أحدثه ؟! ) ثم إنه عليه السلام شرع في إقامة الأدلة على استحالة هذه النسبة فقال :
1 ـ ( إذا لتفاوتت ذاته ) أي: تغيرت ، لأنها تكون متحركة تارة وساكنة أخرى فالحركة والسكون من الحوادث المتغيرة، فيكون محلا للحوادث ، وذلك من لوازم الإمكان، فيكون واجب الوجود ممكن الوجود، وهو مستحيل.
2 ـ ( ولتجزأ كنهه ) لأن الحركة والسكون من لوازم الأجسام والأجسام مركبة فيلزم حقيقته التركيب وهو باطل.
3 ـ ( ولامتنع من الأزل معناه ) لأن الحركة والسكون من لوازم الأجسام الحادثة والحادث لا يكون أزليا.
4 ـ ( ولكان له وراء إذ وجد له إمام ) إذ لو جرت عليه الحركة لكان له إمام يتحرك نحوه وحينئذ يلزم أن يكون له وراء لأنهما أمران إضافيان لا ينفك أحدهما عن الآخر وحينئذ يكون له وجهان وكل ذي وجهين منقسم وكل منقسم ممكن.
5 ـ ( ولالتمس النمام إذ لزمه النقصان ) إذ هو في حركته يتوجه نحو غاية إما لجلب نفع أو لدفع ضرر ، وذلك كمال مطلوب له لنقصان لازم لذاته وذلك يستلزم الإمكان فهو باطل.
وإذا لقامت آية المصنوع فيه وثبت إمكانه وحدوثه وتحول دليلا يستدل بوجوده على خالقه .
(1) أي خرج بسلطان امتناعه التجردي ، وعدم شموله بحد ، ودخوله تحت العدد وامتناعه عن نظر العيون، وعدم جريان الحركة والسكون عليه خرج بهذا السلطان من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره من الممكنات.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 302 _

  ولا يجوز عليه الأفول، (1) لم يلد فيكون مولودا ، ولم يولد فيصير محدودا (2) جل عن اتخاذ الأبناء ، وطهر عن ملامسة النساء، لا تناله الأوهام فتقدره ، ولا تتوهمه الفطن فتصوره ، ولا تدركه الحواس فتحسه ، ولا تلمسه الأيدي فتمسه ، ولا يتغير بحال ، ولا يتبدل بالأحوال ، ولا تبليه الليالي والأيام ، ولا يغيره الضياء والظلام ، ولا يوصف بشئ من الأجزاء، ولا الجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ولا بالغيرية والأبعاض ، ولا يقال له حد ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية ، ولا أن الأشياء تحويه ، فتقله أو تهويه ، ولا أن شيئا يحمله فيميله أو يعدله ، (3) ليس في الأشياء بوالج ، ولا عنها بخارج ، يخبر لا بلسان ولهوات ، ويسمع لا بخروق وأدوات ، يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفظ ، ويريد ولا يضمر ، يحب ويرضى من غير رقة ، ويبغض ويغضب من غير مشقة ، ويقول ـ لما أراد كونه : ( كن فيكون ) لا بصوت يقرع ، ولا نداء يسمع ، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا ، (4) ولا يقال

---------------------------
(1) لا يحول : لا يتغير ، والأفول : الغيبة.
(2) الولادة تحصل بانفصال شئ عن آخر من جنسه ونوعه ، فالوالد والولد يشتركان في النوع والصنف والعوارض ، ولا يكون هذا الانفصال والتجزي إلا بواسطة المادة القابلة للتجزأة ، وإذا كان كذلك فهو متولد من مادة وصورة ، ويحتمل أن يكون المراد بالمولود المخلوق ، فيكون المعنى لم يلد فيثبت كونه جسما مخلوقا ، وعلى كلا التقديرين سواء كان مولودا من مادة وصورة ، أو كان جسما مخلوقا ، فإنه يكون محدودا بالحدود المنطقية ، والأبعاد الهندسية .
(3) لا تناله الأوهام فنقدره بمقدار وكم ، وشكل وكيف ، والفطنة سرعة للفهم ولا تتوهمه الفطن فتصوره بصور خيالية أو عقلية ، ولا تدركه الحواس بنحو المباشرة ولا تلمسه وتحسه الأيدي بنحو المماسة ، ولا يتغير أبدا، ولا يوصف بالغيرية والأبعاض فصفاته لا يغاير بعضها بعضا ، وليس هو بذي مكان يحويه ، فيرتفع بارتفاعه وينخفض بانخفاضه ، كما أنه غير محمول على شئ ، فيميله إلى جانب ، أو يعدله على ظهر من غير ميل
(4) يحفظ عباده ويحرسهم، ولا يتحرز ولا يخاف ويبغض ويغضب ولا
=>

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 303 _

  له : ( كان بعد أن لم يكن ) فتجري عليه صفات المحدثات، ولا يكون بينه وبينها فصل ، ولا له عليها فضل ، فيستوي الصانع والمصنوع ، ويتكافأ المبتدع والبديع (1) خلق الخلائق على غير مثال خلا من غيره (2) ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار (3) وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصنها من الأود والاعوجاج ، ومنعها من التهافت والانفراج (4) أرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستفاض عيونها ، وخد أوديتها (5) فلم يهن ما بناه ، ولا ضعف ما قواه، هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته ، والباطن لها بعلمه ومعرفته ، والعالي على كل شئ منها بجلالته وعزته ، لا يعجزه شئ منها طلبه ، ولا يمتنع عليه فيغلبه ، ولا يفوته السريع منها فيسبقه ، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه ، خضعت الأشياء له ، وظلت مستكينة لعظمته (6) لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره ، فتمتنع من نفعه وضره ، ولا كفؤ له فيكافئه (7) ولا نظير له فيساويه ، هو المفني لها بعد وجودها ، حتى يصير موجودها كمفقودها ، وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها ، وكيف ! ولو اجتمع

---------------------------
<=
يستلزم بغضه وغضبه مشقة وانزعاجا ، كما هو الحال بالنسبة لنا مما يستلزمانه فينا من فوران دم القلب واضطرابه ، يقول ـ لما أراد كونه ـ كن فيكون وليس المراد بالقول هو التكلم الحقيقي حتى يكون له صوت يقرع الآذان فيسمع وإنما كلامه سبحانه هو نفس فعله ، وخلقه للأشياء وتصويرها ينشؤه ويمثله لجبرئيل في اللوح وليس هو بقديم ولو كان قديما لكان إلها ثانيا .
(1) في بعض النسخ ، ( الصفات المحدثات ).
(2) خلا : أي مضى .
(3) أرساها: أثبتها على غير قرار.
(4) الأود ـ بالتحريك ـ الاعوجاج ، والتهافت ، التساقط قطعة قطعة.
(5) الأسداد ـ جمع السد ـ بمعنى الجبل أو الحاجز ، وبالضم بمعنى السحاب الأسود ، وخد: بمعنى شق
(6) الاستكانة: الخضوع.
(7) أي: يساويه في جوب الوجود

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 304 _

  جميع حيوانها: من طيرها ، وبهائمها ، وما كان من مراحها ، وسائمها ، وأصناف أشباحها، وأجناسها ، ومتلبدة أممها وأكياسها (1) على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت ، وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة حسيرة (2) عارفة بأنها مقهورة مقرة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضعف عن إفنائها ، وأنه يعود سبحانه بعد فناء الدنيا وحده لا شئ معه ، كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ، لا وقت ولا مكان، ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلا شئ إلا الواحد القهار ، الذي إليه مصير جميع الأمور، بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها ، وبغير امتناع منها كان فنائها ، ولو قدرت على الامتناع لدام بقائها ، لم يتكاده صنع شئ منها إذا صنعه ، ولم يؤده منها خلق ما براه وخلقه ، ولم يكونها لتشديد سلطان ، ولا لخوف من زوال ونقصان، ولا للاستعانة بها على ند مكاثر ، ولا للاحتراز بها من ضد مساور (3) ولا للإزدياد بها في ملكه ولا لمكاثرة شريك في شركته ، ولا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها ، ثم هو يفنيها بعد تكوينها لا لسأم دخل عليه من تصريفها وتدبيرها ، ولا لراحة واصلة إليه ، ولا لثقل شئ منها عليه ، لا يمله طول بقائها فيدعوه إلى نزعة إفنائها ، لكنه سبحانه دبرها بلطفه ، وأمسكها بأمره ، وأتقنها بقدرته ، ثم يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها ، ولا استعانة بشئ منها عليها ، ولا لانصراف من حال وحشة إلى حال استيناس ، ولا من حال جهل وعمى إلى حال علم والتماس ، ولا من فقر ولا حاجة إلى غنى وكثرة ، ولا من ذل وضعة إلى عز وقدرة .

---------------------------
(1) المتلبدة : ذو البلادة ضد الأكياس .
(2) الخاسئ : الذليل الصاغر ، والحسير : الكال المعيى .
(3) لم يتكاده : لم يشق عليه ، لم يؤده : لم يثقله ، الند: المثل ، المكاثرة المغالبة بالكثرة ، المساورة : المواثبة.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 305 _

  ومن خطبة له عليه السلام: (1) الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد (2) ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر ولا تحجبه السواتر ، الدال على قدمه بحدوث خلقه ، وبحدوث خلقه على وجوده وباشتباههم على أن لا شبه له ، الذي صدق في ميعاده ، وارتفع عن ظلم عباده ، وقام بالقسط في خلقه ، وعدل عليهم في حكمه ، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه ، واحد لا بعدد ، ودائم لا بأمد ، وقائم لا بعمد ، تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة (3) وتشهد له المرائي لا بمحاضرة (4) لم تحط به الأوهام بل تجلى لها بها ، وبها امتنع منها، وإليها حاكمها (5) ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيما ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيدا ، بل كبر شانا ، وعظم سلطانا .
  ومنها في الاستدلال عليه تعالى بعجيب خلقه من أصناف الحيوان وغيرها:
  ولو فكروا في عظيم القرة، وجسيم النعمة، لرجعوا إلى الطريق، وخافوا عذاب الحريق، ولكن القلوب عليلة ، والأبصار مدخولة ، أفلا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه، وأتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر ، وسوى له العظم والبشر انظروا إلى النملة في صغرة جثتها ، ولطافة هيئتها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر، كيف دبت على أرضها، وصبت على رزقها ، تنقل الحبة إلى جحرها ، وتعدها في مستقرها ، تجمع في حرها لبردها ، وفي ورودها لصدورها ، مكفولة برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا يغفلها المنان، ولا يحرمها الديان ، ولو في

---------------------------
(1) ج 2 ص 137 من نهج البلاغة.
(2) المراد بالشواهد : الحواس
(3) أي: لا بطريق المشاعر والأحاسيس.
(4) أي: المرئيات تشهد له بالوجود من غير أن يكون محسوسا معها.
(5) أي: لم تحط به العقول بل بها تجلى وظهر وثبت وجوده لها وبالنظر والتعقل علمنا أنه ممتنع من أن تدركه العقول وجعل العقول السقيمة المدعية بالإحاطة به تعالى خصمه ، ثم حاكمها إلى العقول السليمة فحكمت عليها.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 306 _

  الصفاء اليابس، والحجر الجامس، ولو فكرت في مجاري أكلها ، وفي علوها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما في الرأس من عينها وأذنها ، لقضيت من خلقتها عجبا ، ولقيت من وصفها تعبا ، فتعالى الذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها ، ولم يشركه في فطرتها فاطر ، ولم يعنه على خلقها قادر ، ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هو فاطر النحلة، لدقيق تفصيل كل شئ ، وغامض اختلاف كل حي ، وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف ، والقوي والضعيف في خلقه إلا سواء ، كذلك السماء والهواء ، والريح والماء ، فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر ، والماء والحجر ، واختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجر هذه البحار والأنهار ، وكثرة هذه الجبال وطول هذه القلال ، وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات، فالويل لمن أنكر المقدر، أو جحد المدبر، وزعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم صانع ، لم يلجؤا إلى حجة فيما ادعوا، ولا تحقيق فيما أوعوا، وهل يكون بناء من غير بأن ، أو جناية من غير جان ، وإن شئت قلت في الجرادة: إذ خلق لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين ، وجعل لها السمع الخفي، وفتح لها الفم السوي ، وجعل لها الحس القوي، ونابين بهما تقرض ، ومنجلين بهما تقبض ترهبها الزراع في زرعهم ، ولا يستطيعون ذبها ولو أجمعوا بجمعهم ، حتى ترد الحرث من نزواتها ، وتقضي منه شهواتها ، وخلقها كله لا يكون إصبعا مستدقة ، فتبارك الله الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها ، ويعفر له خدا ووجها ، ويلقي بالطاعة له سلما وضعفا ، ويعطي له القياد رهبة وخوفا ، والطير مسخرة لأمره ، أحصى عدد الريش منها والنفس ، وأرسى قوائمها على الندى واليبس قدر أقواتها وأحصى أجناسها، فهذا غراب ، وهذا عقاب ، وهذا حمام ، وهذا نعام دعا كل طائر باسمه ، وكفل له برزقه ، وأنشأ السحاب الثقال فأهطل ديمها ، وعدد قسمها ، قبل الأرض بعد جفوفها ، وأخرج نبتها بعد جدوبها .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 307 _

  وروي أنه وفد وفد من بلاد الروم إلى المدينة على عهد أبي بكر وفيهم راهب من رهبان النصارى فأتى مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومعه بختي موقر ذهبا وفضة وكان أبو بكر حاضرا وعنده جماعة من المهاجرين والأنصار .
  فدخل عليهم ، وحياهم ، ورحب بهم ، وتصفح وجوههم ، ثم قال :
  أيكم خليفة رسول الله وأمين دينكم ؟
  فأومي إلى أبي بكر فأقبل إليه بوجهه ثم قال أيها الشيخ ما اسمك ؟ قال ، عتيق ، قال ثم ماذا ؟ قال : صديق ، قال : ثم ماذا ؟ قال: لا أعرف لنفسي اسما غيره فقال: لست بصاحبي فقال له : وما حاجتك ؟
  قال : أنا من بلاد الروم جئت منها ببختي موقر ذهبا وفضة ، لأسأل أمين هذه الأمة من مسألة إن أجابني عنها أسلمت ، وبما أمرني أطعت، وهذا المال بينكم فرقت وإن عجز عنها رجعت إلى الوراء بما معي ولم أسلم، فقال له أبو بكر : سل عما بدا لك.
  فقال الراهب: والله لا أفتح الكلام ما لم تؤمني من سطوتك وسطوة أصحابك فقال أبو بكر : أنت آمن، وليس عليك بأس ، قل ما شئت .
  فقال الراهب: أخبرني عن شئ : ليس لله ، ولا من عند الله، ولا يعلمه الله.
  فارتعش أبو بكر ولم يحر جوابا ، فلما كان بعد هنيئة قال - لبعض أصحابه -:
  ائتني بأبي حفص عمر ، فجاء به فجلس عنده ثم قال :
  أيها الراهب سله ، فأقبل بوجهه إلى عمر وقال له مثل ما قال لأبي بكر فما يحر جوابا ثم أتى بعثمان ، فجرا بين الراهب وعثمان مثل ما جرى بينه وبين أبي بكر وعمر فلم يحر جوابا .
  فقال الراهب : أشياخ كرام ، ذووا فجاج لإسلام ، ثم نهض ليخرج .
  فقال أبو بكر : يا عدو الله لولا العهد لخضبت الأرض بدمك .
  فقام سلمان الفارسي رضي الله عنه ، أتى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وهو

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 308 _

  جالس في صحن داره مع الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ، وقص عليه القصة.
  فقام علي ( عليه السلام ) وخرج ومعه الحسن الحسين ( عليهما السلام ) حتى أتى المسجد ، فلما رأى القوم عليا ( عليه السلام ) ، كبروا الله، وحمدوا الله، وقاموا إليه أجمعهم ، فدخل علي ( عليه السلام ) وجلس فقال أبو بكر : أيها الراهب سله فإنه صاحبك وبغيتك ، فأقبل الراهب بوجهه إلى علي عليه السلام ثم قال :
  يافتى ما اسمك ؟
  قال : إسمي عند اليهود ( إليا ) وعند النصارى ( إيليا ) وعند والدي ( علي ) وعند أمي ( حيدرة ) قال : ما محلك من نبيكم ؟
  قال : أخي وصهري وابن عمي لحا .
  قال : الراهب : أنت حاصبي ورب عيسى ، أخبرني عن شئ ليس لله ، ولا من عند الله، ولا يعلمه الله.
  قال : ( عليه السلام ) على الخبير سقطت :
  أما قولك ( ما ليس لله ) : فإن الله تعالى أحد ليس له صاحبة ولا ولد.
  وأما قولك ( ولا من عند الله ) : فليس من عند الله ظلم لأحد.
  وأما قولك ( لا يعلمه الله ) : فإن الله لا يعلم له شريكا في الملك.
  فقام الراهب، وقطع زناره ، وأخذ رأسه وقبل ما بين عينيه ، وقال: ( أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وأشهد أنك أنت الخليفة وأمين هذه الأمة، ومعدن الدين والحكمة ، ومنبع عين الحجة، لقد قرأت اسمك في التوراة إليا ، وفي الإنجيل إيليا، وفي القرآن عليا ، وفي الكتب السابقة حيدرة ، ووجدتك بعد النبي وصيا ، وللإمارة وليا ، وأنت أحق بهذا المجلس من غيرك ، فخبرني ما شأنك وشأن القوم ؟ ( فأجابه بشئ فقام الراهب وسلم المال إليه بأجمعه ، فما برح علي ( عليه السلام ) مكانه حتى فرقه في مساكين أهل المدينة، ومحاويجهم ، وانصرف الراهب إلى قومه مسلما .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 309 _

  وروي أنه اتصل بأمير المؤمنين عليه السلام أن قوما من أصحابه خاضوا في التعديل والتجريح فخرج حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ، أيها الناس إن الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه ، أراد أن يكونوا على آداب رفيعة ، وأخلاق شريفة ، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلا بأن يعرفهم : ما لهم ، وما عليهم ، والتعريف لا يكون إلا بالأمر والنهي ، والأمر والنهي لا يجتمعان إلا بالوعد والوعيد ، والوعد لا يكون إلا بالترغيب والوعيد لا يكون إلا بالترهيب والترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم، وتلذ أعينهم ، والترهيب لا يكون إلا بضد ذلك ، ثم خلقهم في داره وأراهم طرفا من اللذات، ليستدلوا به على ما ورائهم من اللذات الخالصة التي لا يشوبها ألم، ألا وهي الجنة ، وأراهم طرفا من الآلام ليستدلوا به على ما ورائهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبها لذة ، ألا وهي النار فمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطا بمحنها ، وسرورها ممزوجا بكدرها وهمومها قيل : فحدث الجاحظ (1) بهذا الحديث ، فقال : هو جماع الكلام الذي دونه الناس في كتبهم ، وتحاوره بينهم .
  قيل : ثم سمع أبو علي الجبائي (2) بذلك ، فقال صدق الجاحظ هذا ما لا يحتمله الزيادة والنقصان .

---------------------------
(1) الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الليثي البصري اللغوي النحوي كان من غلمان النظام ، وكان مائلا إلى النصب والعثمانية ، وله كتب منها : ( العثمانية ) التي نقض عليها أبو جعفر الإسكافي ، والشيخ المفيد ، والسيد أحمد بن طاووس ، وطال عمره وأصابه الفالج في آخر عمره ومات في البصرة سنة 255 .
الكنى والألقاب ج 2 ص 121
(2) الجبائي: أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان ( ويطلق ) على ابنه أبي هاشم عبد السلام بن محمد ويقال لهما : الجبائيان وكلاهما من رؤساء المعتزلة، ولهما مقالات على مذهب الاعتزال ، والكتب الكلامية مشحونة بمذاهبهما واعتقاد هما ، توفي أبو علي الجبائي سنة 303 .
الكنى والألقاب ج 2 ص 126

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 310 _

  وروي عن علي بن محمد العسكري ( عليهما السلام ) ـ في رسالته إلى أهل الأهواز في نفي الجبر والتفويض (1) : أنه قال :
  روي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : أنه سأله رجل بعد انصرافه من الشام فقال:
  يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام أبقضاء وقدر ؟
  فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : نعم يا شيخ ما علوتم تلعة (2) ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من عند الله وقدر .
  فقال الرجل: عند الله أحتسب عنائي ، والله ما أرى لي من الأجر شيئا .
  فقال علي ( عليه السلام ) : بلى فقد عظم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم ذاهبون ، وعلى منصرفكم وأنتم منقلبون ، ولم يكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين ، ولا إليه مضطرين .
  فقال الرجل: وكيف لا نكون مضطرين والقضاء والقدر ساقانا ، وعنهما كان مسيرنا ؟!
  فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لعلك أردت قضاءا لازما ، وقدرا حتما ولو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، وسقط الوعد والوعيد ، والأمر من الله والنهي ، وما كانت تأتي من الله لائمة لمذنب ، ولا محمدة لمحسن ، ولا كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المذنب ،

---------------------------
(1) تتلخص عقيدتنا نحن الشيعة الإمامية الاثنى عشرية في ( القضاء والقدر ) بما يلي : لما كان الله سبحانه وتعالى مفيض الوجود ومعطية ، فالأفعال الصادرة منا تكون داخلة تحت سلطانه ، ومن جملة مقدوراته ، ومن ناحية كونها صادرة منا ونحن أسبابها الطبيعية فهي داخلة تحت قدرتنا واختيارنا ، وهو لم يجبرنا عليها ، بل أعطانا للقدرة والاختيار في أفعالنا ولذا فهو حين يعاقبنا على المعاصي لا يكون ظالما لنا ، ولا فوض خلقها إلينا حتى تخرج عن سلطانه وخلاصة الكلام إننا نقول بالطريق الوسط في القول بين القولين كما علمنا أئمتنا ( عليهم السلام ) وكما قال إمامنا الصادق ( عليه السلام ) :
( لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين ) .
(2) التلعة: ما علا من الأرض.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 311 _

  ولا المذنب أولى بعقوبة الذنب من المحسن، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان، وجنود الشيطان، وخصماء الرحمن، وشهداء الزور والبهتان، وأهل العمى والطغيان (1) هم قدرية هذه الأمة ومجوسها ، إن الله تعالى أمر تخييرا ، وكلف يسيرا ، ولم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكرها ، ولم يرسل الرسل هزلا ، ولم ينزل القرآن عبثا ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ، ذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار ثم تلى عليهم : ) وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ) (2) قال : فنهض الرجل مسرورا وهو يقول :
أنـت الإمام الذي نرجو iiبطاعته      يوم النشور من الرحمن iiرضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا      جـزاك  ربـك عنا فيه iiإحسانا
ولـيس مـعذرة في فعل iiفاحشة      قـد  كنت راكبها فسقا وعصيانا
كـلا  ولا قـائلا نـاهيه iiأوقعه      فـيه عـبدت إذا يا قوم iiشيطانا
ولا أحـب ولا شاء الفسوق iiولا      قـتل  الـولي له ظلما iiوعدوانا
أنـى يحب وقد صحت iiعزيمته      على  الذي قال أعلن ذاك iiإعلانا

  وروي أن رجلا قال : فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين ؟ قال :
  الأمر بالطاعة ، والنهي عن المعصية، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية، والمعونة على القربة إليه، والخذلان لمن عصاه ، والوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب، كل ذلك قضاء الله في أفعالنا، وقدره لأعمالنا ، وأما غير ذلك فلا تظنه فإن الظن له محبط للأعمال .
  فقال الرجل: فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك.
  وروي أنه سئل عن القضاء والقدر فقال :
  لا تقولوا : وكلهم الله عليه أنفسهم فتوهنوه ، ولا تقولوا أجبرهم على المعاصي فتظلموه ، ولكن قولوا : الخير بتوفيق الله، والشر بخذلان الله، وكل سابق في علم الله.

---------------------------
(1) في بعض النسخ ( أهل الغي والطغيان ) .
(2) الإسراء ـ 23.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 312 _

  وروى أهل السير: أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال:
  يا أمير المؤمنين خبرني عن الله أرأيته حين عبدته ؟
  فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : لم أك بالذي أعبد من لم أره.
  فقال له : كيف رأيته يا أمير المؤمنين ؟
  فقال له : يا ويلك لم تره العيون بمشاهدة العيان ، لكن رأته العقول بحقايق الإيمان ، معروف بالدلالات ، منعوت بالعلامات ، لا يقاس بالناس ، ولا يدرك بالحواس فانصرف الرجل وهو يقول : الله أعلم حيث يجعل رسالته .
  وروي أن بعض الأحبار جاء إلى أبي بكر فقال له :
  أنت خليفة نبي هذه الأمة ؟
  فقال : نعم .
  قال : فإنا نجد في التوارة أن خلفاء الأنبياء أعلم أممهم، فخبرني عن الله أين هو أفي السماء أم في الأرض ؟
  فقال له أبو بكر : في السماء على العرش.
  قال اليهودي: فأرى الأرض خالية منه ، وأراه ـ على هذا القول ـ في مكان دون مكان .
  فقال أبو بكر : هذا كلام الزنادقة أعزب عني (1) وإلا قتلتك .
  فولى الرجل متعجبا يستهزئ بالإسلام ، فاستقبله أمير المؤمنين عليه السلام فقال له : يا يهودي قد عرفت ما سألت عنه ، وما أجبت به ، وإنا نقول:
  إن الله عز وجل أين الأين فلا أين له ، وجل عن أن يحويه مكان ، وهو في كل مكان ، بغير مماسة ولا مجاورة ، يحيط علما بها ، (2) ولا يخلق شئ من تدبيره تعالى ، وإني مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدق ما ذكرته لك ، فإن عرفته أتؤمن به ؟ قال اليهودي: نعم ، قال :

---------------------------
(1) عزب: غاب وخفي فهو ( عازب ) .
(2) وفي بعض النسخ: ( بما فيها ) .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 313 _

  ألستم تجدون في بعض كتبكم : أن موسى بن عمران كان ذات يوم جالسا إذ جاءه ملك من المشرق، فقال له : من أين جئت ؟ فقال : من عند الله، وجاءه ملك آخر من المغرب فقال له : من أين جئت ؟ فقال : من عند الله، ثم جاءه ملك فقال: من أين جئت ؟ فقال : قد جئتك من السماء السابعة من عند الله عز وجل .
  وجاء ملك آخر قال : قد جئتك من الأرض السابعة السفلى من عند الله عز وجل فقال موسى ( عليه السلام ) : سبحان من لا يخلو منه مكان ، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان ، فقال اليهودي: أشهد أن هذا هو الحق المبين ، وأنك أحق بمقام نبيك ممن استولى عليه .
  وروى الشعبي: أنه سمع أمير المؤمنين ( عليه السلام ) رجلا يقول: ( والذي احتجب بسبع طباق ) فعلاه بالدرة ثم قال له :
  يا ويلك إن الله أجل من أن يحتجب عن شئ ، أو يحتجب عنه شئ ، سبحان الذي لا يحويه مكان ، ولا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء ، فقال الرجل:
  فأكفر عن يميني يا أمير المؤمنين ؟
  قال : لم تحلف بالله فيلزمك كفارة ، فإنما حلفت بغيره .
  وعن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال :
  جاء حبر من الأحبار إلى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقال: يا أمير المؤمنين متى كان ربك ؟
  فقال له : ثكلتك أمك ومتى لم يكن حتى يقال : متى كان ؟! كان ربي قبل القبل بلا قبل ، وبعد البعد بلا بعد ، ولا غاية ولا منتهى لغايته انقطعت الغايات عنه فهو منتهى كل غاية .
  فقال : يا أمير المؤمنين أفنبي أنت ؟ فقال : ويلك إنما أنا عبد من عبيد محمد .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 314 _

  روي عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه ( عليهم السلام ) عن الحسين بن علي ( عليهما السلام ) قال : إن يهوديا من يهود الشام وأحبارهم كان قد قرأ التوراة والإنجيل والزبور وصحف الأنبياء ( عليهم السلام ) وعرف دلائلهم ، جاء إلى مجلس فيه أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفيهم علي بن أبي طالب ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وأبو سعيد الجهني .
  فقال : يا أمة محمد ما تركتم لنبي درجة ، ولا لمرسل فضيلة ، إلا أنحلتموها نبيكم ، فهل تجيبوني عما أسألكم عنه ؟ فكاع القوم عنه (1).
  فقال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : نعم ما أعطى الله نبيا درجة ، ولا مرسلا فضيلة إلا وقد جمعها لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وزاد محمدا على الأنبياء أضعافا مضاعفة .
  فقال له اليهودي: فهل أنت مجيبي ؟
  قال له : نعم سأذكر لك اليوم من فضائل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما يقر الله به عين المؤمنين، ويكون فيه إزالة لشك الشاكين في فضائله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، إنه كان إذا ذكر لنفسه فضيلة قال: ( ولا فخر ) وأنا أذكر لك فضائله غير مزر بالأنبياء ، ولا منتقص لهم ، ولكن شكرا لله على ما أعطى محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مثل ما أعطاهم، وما زاده الله وما فضله عليهم .
  قال له اليهودي: إني أسألك فأعد له جوابا .
  قال له علي ( عليه السلام ) : هات .
  قال اليهودي: هذا آدم ( عليه السلام ) أسجد الله له ملائكته، فهل فعل لمحمد شيئا من هذا ؟
  فقال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، أسجد الله لآدم ملائكته فإن سجودهم له لم يكن سجود طاعة ، وإنهم عبدوا آدم من دون الله عز وجل ، ولكن اعترافا بالفضيلة ، ورحمة من الله له ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعطي ما هو أفضل من هذا ، إن الله

---------------------------
(1) كاع القوم عنه: هابوه وجبنوا .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 315 _

  عز وجل صلى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها ، وتعبد المؤمنين بالصلاة عليه فهذه زيادة له يا يهودي .
  قال له اليهودي: فإن آدم ( عليه السلام ) تاب الله عليه بعد خطيئته ؟
  قاله له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد نزل فيه ما هو أكبر من هذا من غير ذنب أتى، قال الله عز وجل: ( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) (1) إن محمدا غير مواف يوم القيامة بوزر ، ولا مطلوب فيها بذنب .
  قال اليهودي: فإن هذا إدريس رفعه الله عز وجل مكانا عليا ، وأطعمه من تحف الجنة بعد وفاته ؟
  قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعطي ما هو أفضل من هذا إن الله جل ثناؤه قال فيه: ( ورفعنا لك ذكرك ) (2) فكفى بهذا من الله رفعة ، ولئن أطعم إدريس من تحف الجنة بعد وفاته ، فإن محمدا أطعم في الدنيا في حياته : بينما يتضور جوعا فأتاه جبرئيل ( عليه السلام ) بجام من الجنة فيه تحفة ، فهلل الجام وهللت التحفة في يده ، وسبحا ، وكبرا ، وحمدا ، فناولها أهل بيته ، ففعلت الجام مثل ذلك ، فهم أن يناولها بعض أصحابه فتناولها جبرئيل ( عليه السلام ) وقال له : كلها فإنها تحفة من الجنة أتحفك الله بها، وأنها لا تصلح إلا لنبي أو وصي نبي ، فأكل منها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأكلنا معه ، وإني لأجد حلاوتها ساعتي هذه.
  قال اليهودي: فهذا نوح عليه السلام صبر في ذات الله تعالى ، وأعذر قومه إذ كذب ؟
  قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) صبر في ذات الله عز وجل فأعذر قومه إذ كذب ، وشرد ، وحصب بالحصا ، وعلاه أبو لهب بسلا ناقة وشاة ، فأوحي الله تبارك وتعالى إلى جابيل ملك الجبال، أن شق الجبال وانته إلى أمر محمد فأتاه فقال : إني أمرت لك بالطاعة فإن أمرت أن أطبق عليهم الجبال فأهلكتهم بها ، قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( إنما بعثت رحمة رب أهد أمتي فإنهم لا يعلمون ) ويحك يا يهودي إن نوحا لما شاهد غرق قومه رق عليهم رقة القرابة، وأظهر عليهم شفقة

---------------------------
(1) الفتح ـ 2.
(2) الشرح ـ 4.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 316 _

  فقال: ( رب إن إبني من أهلي (1) ) فقال الله تعالى : ( إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح (2) ) أراد جل ذكره أن يسليه بذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما غلبت عليه من قومه المعاندة شهر عليهم سيف النقمة ، ولم تدركه فيهم رقة القرابة ، ولم ينظر إليهم بعين رحمة .
  فقال اليهودي: فإن نوحا دعا ربه ، فهطلت السماء بماء منهمر ؟
  قال له ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، وكانت دعوته دعوة غضب ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هطلت له السماء بماء منهمر رحمة ، وذلك أنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما هاجر إلى المدينة أتاه أهلها في يوم جمعة فقالوا له : يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) احتبس القطر، واصفر العود، وتهافت الورق، فرفع يده المباركة حتى رأي بياض إبطه ، وما ترى في السماء سحابة ، فما برح حتى سقاهم الله حتى أن الشاب المعجب بشبابه لهمته نفسه في الرجوع إلى منزله فما يقدر على ذلك من شدة السيل، فدام أسبوعا ، فأتوه في الجمعة الثانية فقالوا : يا رسول الله تهدمت الجدر ، واحتبس الركب والسفر ، فضحك ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال : هذه سرعة ملالة ابن آدم، ثم قال : ( اللهم حوالينا ولا علينا اللهم في أصول الشيح ومراتع البقع ) (3) فرأي حوالي المدينة المطر يقطر قطرا ، وما يقع بالمدينة قطرة ، لكرامته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عز وجل .
  قال له اليهودي: فإن هذا هود قد انتصر الله من أعدائه بالريح ، فهل فعل لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) شيئا من هذا ؟
  قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعطي ما هو أفضل من هذا إن الله عز وجل قد انتصر له من أعدائه بالريح يوم الخندق ، إذ أرسل عليهم ريحا تذروا الحصى ، وجنودا لم يروها ، فزاد الله تعالى محمدا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بثمانية ألف ملك ، وفضله على هود، بأن ريح عاد ريح سخط ، وريح محمد ريح رحمة ، قال الله تعالى :

---------------------------
(1) هود ـ 45.
(2) هود ـ 46.
(3) الشيح نبات أنواعه كثيرة ، كله طيب الرائحة ، والمراتع جمع مرتع وهو موضع الرتع أي: الخصب والبقع جمع بقعة: القطعة من الأرض.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 317 _

  ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جائكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها (1) ) قال له اليهودي: فهذا صالح أخرج الله له ناقة جعلها لقومه عبرة ؟
  قال علي ( عليه السلام ) لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعطي ما هو أفضل من ذلك ، إن ناقة صالح لم تكلم صالحا ، ولم تناطقه ولم تشهد له بالنبوة ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بينما نحن معه في بعض غزواته إذا هو ببعير قد دنا ، ثم رغا فأنطقه الله عز وجل فقال :
  ( يا رسول الله فلانا استعملني حتى كبرت ، ويريد نحري ، فأنا أستعيذ بك منه ) فأرسل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى صاحبه فاستوهبه منه ، فوهبه له وخلاه ، ولقد كنا معه فإذا نحن بأعرابي معه ناقة له يسوقها ، وقد استسلم للقطع لما زور عليه من الشهود فنطقت الناقة فقالت : ( يا رسول الله إن فلأنا مني برئ ، وإن الشهود يشهدون عليه بالزور ، وإن سارقي فلان اليهودي ).
  قال له اليهودي: فإن هذا إبراهيم قد تيقظ بالاعتبار على معرفة الله تعالى وأحاطت دلالته بعلم الإيمان ؟
  قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك وأعطي محمدا أفضل منه ، وتيقظ إبراهيم وهو ابن خمسة عشر سنة ومحمد ابن سبع سنين ، قدم تجار من النصارى فنزلوا بتجارتهم بين الصفا والمروة ، فنظر إليه بعضهم فعرفه بصفته ورفعته ، وخبر مبعثه وآياته ، فقالوا : يا غلام ما اسمك ؟ قال : محمد قالوا : ما اسم أبيك ؟ قال : عبد الله قالوا : ما اسم هذه ؟ وأشاروا بأيديهم إلى الأرض قال : الأرض قالوا ، وما اسم هذه ؟ وأشاروا بأيديهم إلى السماء قال : السماء قالوا : فمن ربهما ؟ قال : الله، ثم انتهرهم وقال : أتشككوني في الله عز وجل ؟! ويحك يا يهودي لقد تيقظ بالاعتبار على معرفة الله عز وجل مع كفر قومه إذ هو بينهم : يستقسمون بالأزلام ، ويعبدون الأوثان ، وهو يقول : لا إله إلا الله.
  قال له اليهودي : فإن إبراهيم ( عليه السلام ) حجب عن نمرود بحجب ثلاث ؟

---------------------------
(1) التوبة ـ 26 .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 318 _

  قال علي ( عليه السلام ): لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حجب عمن أراد قتله بحجب خمس ، فثلاثة بثلاثة واثنان فضل ، قال الله عز وجل ـ وهو يصف أمر محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
  ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ) فهذا الحجاب الأول ( ومن خلفهم سدا ) فهذا الحجاب الثاني ( فأغشيناهم فهم لا يبصرون (1) ) فهذا الحجاب الثالث ثم قال : ( إذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا (2) ) فهذا الحجاب الرابع ثم قال : ( فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ) فهذه حجب خمس .
  قال له اليهودي: فإن هذا إبراهيم قد بهت الذي كفر ببرهان نبوته ؟
  قال علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أتاه مكذب بالبعث بعد الموت وهو: أبي بن خلف الجمعي معه عظم نخر ففركه ثم قال: يا محمد ( من يحيي العظام وهي رميم (3) ) ؟ فأنطق الله محمدا بمحكم آياته ، وبهته ببرهان نبوته ، فقال:
  ( يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (4) ) فانصرف مبهوتا .
  قال له اليهودي: فهذا إبراهيم جذ أصنام (5) قومه غضبا لله عز وجل ؟
  قال علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد نكس عن الكعبة ثلثمائة وستين صنما ، ونفاها عن جزيرة العرب، وأذل من عبدها بالسيف .
  قال له اليهودي: فإن إبراهيم قد أضجع ولده وتله للجبين (6)؟
  فقال علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ولقد أعطي إبراهيم بعد الاضطجاع الفداء، ومحمد أصيب بأفجع منه فجيعة إنه وقف على عمه حمزة أسد الله، وأسد رسوله وناصر دينه ، وقد فرق بين روحه وجسده ، فلم يبن عليه حرقة ، ولم يفض عليه عبرة ، ولم ينظر إلى موضعه من قلبه وقلوب أهل بيته ليرضي الله عز وجل بصبره ويستسلم لأمره في جميع الفعال، وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لولا أن تحزن صفية لتركته حتى

---------------------------
(1) يس ـ 9.
(2) الإسراء ـ 45.
(3) يس ـ 78.
(4) يس ـ 79.
(5) جذ أصنامهم: استأصلها إشارة إلى قوله تعالى ( فجعلهم جذاذا ) أي فتانا مستأصلين
(6) تله : إشارة إلى قوله تعالى : وتله للجبين أي : صرعه وهو كقولهم كبه لوجهه .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 319 _

  يحشر من بطون السباع، وحواصل الطير، ولولا أن يكون سنة بعدي لفعلت ذلك .
  قال له اليهودي: فإن إبراهيم ( عليه السلام ) قد أسلمه قومه إلى الحريق فصبر فجعل الله عز وجل عليه النار بردا وسلاما (1) فهل فعل بمحمد شيئا من ذلك ؟
  قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما نزل بخيبر سمته الخيبرية فصير الله السم في جوفه بردا وسلاما إلى منتهى أجله، فالسم يحرق إذا استقر في الجوف كما أن النار تحرق ، فهذا من قدرته لا تنكره .
  قال له اليهودي: فإن هذا يعقوب ( عليه السلام ) أعظم في الخير نصيبه إذ جعل الأسباط من سلالة صلبه ، ومريم بنت عمران من بناته ؟
  قال علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعظم في الخير نصيبا إذ جعل فاطمة سيدة نساء العالمين من بناته ، والحسن والحسين من حفدته.
  قال له اليهودي: فإن يعقوب عليه السلام قد صبر عليه فراق ولده حتى كاد يحرض (2) من الحزن.
  قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، حزن يعقوب حزنا بعده تلاق ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبض ولده إبراهيم ( عليه السلام ) قرة عينه في حياته منه ، فخصه بالاختيار ، ليعظم له الادخار فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يحزن النفس، ويجزع القلب ، وأنا عليك يا إبراهيم لمحزونون ، ولا نقول ما يسخط الرب، في كل ذلك يؤثر الرضا عن الله عز وجل ، والاستسلام له في جميع الفعال.
  قال له اليهودي: فإن هذا يوسف قاسى مرارة الفرقة، وحبس في السجن توقيا للمعصية ، والقي في الجب وحيدا ؟
  قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قاسى مرارة الغربة، وفراق الأهل والأولاد والمال ، مهاجرا من حرم الله تعالى وأمنه ، فلما رأى الله عز وجل كآبته واستشعاره والحزن ، أراه تبارك اسمه رؤيا توازي رؤيا يوسف في تأويلها

---------------------------
(1) إشارة إلى قوله تعالى: ( وقلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وآل إبراهيم )
(2) يحرض: يهلك .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 320 _

  وأبان للعالمين صدق تحقيقها ، فقال : ( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إنشاء الله آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين لا تخافون (1) ) ولئن كان يوسف عليه السلام حبس في السجن، فلقد حبس رسول الله نفسه في الشعب ثلاث سنين ، وقطع منه أقاربه وذووا الرحم والجأوه إلى أضيق المضيق، ولقد كادهم الله عز ذكره له كيدا مستبينا ، إذ بعث أضعف خلقه فأكل عهدهم الذي كتبوه بينهم في قطيعة رحمه، ولئن كان يوسف ألقي في الجب، فلقد حبس محمد نفسه مخافة عدوه في الغار حتى قال لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ، ومدحه إليه بذلك في كتابه .
  فقال له اليهودي: فهذا موسى بن عمران آتاه الله عز وجل التوراة التي فيها حكمه ؟
  قال له علي ( عليه السلام ) : فلقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعطي ما هو أفضل منه أعطي محمد البقرة وسورة المائدة بالإنجيل ، وطواسين وطه ونصف المفصل والحواميم بالتوراة ، وأعطي نصف المفصل والتسابيح بالزبور ، وأعطي سورة بني إسرائيل وبرائة بصحف إبراهيم وموسى ( عليهما السلام ) ، وزاد الله عز وجل محمدا السبع الطوال (2) وفاتحة الكتاب (3) وهي السبع المثاني والقرآن العظيم وأعطي الكتاب والحكمة .
  قال له اليهودي: فإن موسى ناجاه الله على طور سيناء ؟
  قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك، ولقد أوحى الله إلى محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عند سدرة المنتهى، فمقامه في السماء محمود ، وعند منتهى العرش مذكور .
  قال اليهودي: فلقد ألقى الله على موسى بن عمران محبة منه ؟
  قال علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، وقد أعطي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما هو أفضل من هذا ، لقد ألقى الله محبة منه فمن هذا الذي يشركه في هذا الاسم إذ تم من الله به

---------------------------
(1) الفتح ـ 27 .
(2) السبع الطوال من البقرة إلى الأعراف والسابعة سورة يونس ، أو ( الأنفال وبراءة ) لأنهما سورة واحدة عند بعض .
(3) هي سورة الحمد.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 321 _

  الشهادة فلا تتم الشهادة إلا أن يقال: ( أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ) ينادى به على المنابر فلا يرفع صوت بذكر الله إلا رفع بذكر محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معه .
  قال له اليهودي: فلقد أوحى الله إلى أم موسى لفضل منزلة موسى عليه السلام عند الله قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ولقد لطف الله جل ثناؤه لأم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن أوصل إليها اسمه ، حتى قالت : أشهد والعالمون : أن محمدا رسول الله منتظر وشهد الملائكة على الأنبياء أنهم أثبتوه في الأسفار، وبلطف من الله ساقه إليها ، وأوصل إليها اسمه لفضل منزلته عنده، حتى رأت في المنام أنه قيل لها : إن ما في بطنك سيد ، فإذا ولدته فسميه محمدا ، فاشتق الله له اسما من أسمائه، فالله المحمود وهذا محمد قال له اليهودي: فإن هذا موسى بن عمران قد أرسله الله إلى فرعون وأراه الآية الكبرى ؟
  قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد أرسل إلى فراعنة شتى ، مثل أبي جهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة ، وأبي البختري ، والنضر بن الحرث ، وأبي بن خلف ، ومنبه ونبيه ابني الحجاج ، وإلى الخمسة المستهزئين: الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، والأسود بن المطلب، والحرث بن أبي الطلالة ، فأراهم الآيات في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه ألحق .
  قال له اليهودي: لقد انتقم الله عز وجل لموسى من فرعون ؟
  قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك ، ولقد انتقم الله جل اسمه لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الفراعنة، فأما المستهزؤون فقال الله: ( إنا كفيناك المستهزئين ) (1) فقتل الله خمستهم كل واحد منهم بغير قتلة صاحبه في يوم واحد، فأما الوليد بن المغيرة:
  فمر بنبل لرجل من جزاعة قد راشه (2) ووضعه في الطريق فأصابه شظية (3) منه

---------------------------
(1) الحجر ـ 95.
(2) راش السهم: الزق عليه الريش .
(3) الشظية: الفلقة من العصا ونحوها .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 322 _

  فانقطع أكحله (1) حتى أدماه، فمات وهو يقول : ( قتلني رب محمد ) وأما العاص ابن الوائل السهمي: فإنه خرج في حاجة له إلى موضع فتدهده (2) تحته حجر ، فسقط فتقطع قطعة قطعة ، فمات وهو يقول: ( قتلي رب محمد) وأما الأسود بن عبد يغوث: فإنه خرج يستقبل ابنه زمعة ، فاستظل بشجرة ، فأتاه جبرئيل فأخذ رأسه فنطح به الشجرة ، فقال لغلامه: امنع هذا عني فقال : ما أرى أحدا يصنع شيئا إلا نفسك ، فقتله وهو يقول: ( قتلني رب محمد ) وأما الأسود بن الحرث: فإن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دعا عليه أن يعمي الله بصره ، وأن يثكله ولده ، فلما كان في ذلك اليوم خرج حتى صار إلى موضع أتاه جبرئيل بورقة خضراء فضرب بها وجهه فعمي ، فبقي حتى أثكله الله ولده ، وأما الحرث بن أبي الطلالة: فإنه خرج من بيته في السموم فتحول حبشيا ، فرجع إلى أهله فقال: أنا الحرث ، فغضبوا عليه فقتلوه وهو يقول : ( قتلني رب محمد ).
  وروي أن الأسود بن الحرث أكل حوتا مالحا فأصابه غلبة العطش، فلم يزل يشرب الماء حتى انشق بطنه ، فمات وهو يقول : ( قتلني رب محمد ) (3) كل ذلك في ساعة واحدة، وذلك أنهم كانوا بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقالوا له: يا محمد ننتظر بك إلى الظهر فإن رجعت عن قولك وإلا قتلناك ، فدخل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منزله فأغلق عليه بابه مغتما لقولهم ، فأتاه جبرئيل عن الله من ساعته فقال : يا محمد السلام يقرأ ( عليك السلام ) وهو يقول لك : ( اصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) (4) يعني أظهر أمرك لأهل مكة ، وادعهم إلى الإيمان، قال ، يا جبرئيل كيف أصنع بالمستهزئين وما أوعدوني ؟ قال له : ( إنا كفيناك المستهزئين ) قال : يا جبرئيل كانوا الساعة بين يدي قال : كفيتهم ، وأظهر أمره عند ذلك، وأما بقية الفراعنة : قتلوا يوم

---------------------------
(1) الأكحل: عرق في اليد يفصد .
(2) تدهده : تدحرج .
(3) الظاهر أن هذا الكلام للمؤلف رحمه الله أدخله في الخبر.
(4) الحجر ـ 94.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 323 _

  بدر بالسيف ، (1) فهزم الله الجميع وولوا الدبر .
  قال له اليهودي: فإن هذا موسى بن عمران قد أعطي العصا فكان تحول ثعبانا ؟
  قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما هو أفضل من هذا ، إن رجلا كان يطالب أبا جهل بدين ثمن جزور قد اشتراه، فاشتغل عنه وجلس يشرب ، فطلبه الرجل فلم يقدر عليه ، فقال له بعض المستهزئين: من تطلب ؟
  فقال : عمرو بن هشام ـ يعني أبا جهل ـ لي عليه دين ، قال ، فأدلك على من يستخرج منه الحقوق ؟ قال : نعم ، فدله على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكان أبو جهل يقول :
  ليت لمحمد إلي حاجة فأسخر به وأرده ، فأتى الرجل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : يا محمد بلغني أن بينك وبين عمرو بن هشام حسن صداقة ، وأنا أستشفع بك إليه ، فقام معه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأتى بابه ، فقال له، قم يا أبا جهل فأد إلى الرجل حقه ، وإنما كناه بأبي جهل ذلك اليوم ، فقام مسرعا حتى أدى إليه حقه ، فلما رجع إلى مجلسه قال له بعض أصحابه: فعلت ذلك فرقا من محمد (2) قال : ويحكم أعذروني ، إنه لما أقبل رأيت عن يمينه رجالا معهم (3) حراب تتلألأ ، وعن يساره ثعبانين تصطك أسنانهما ، وتلمع النيران من أبصارهما ، لو امتنعت لم آمن أن يبعجوا بالحراب بطني (4) وتقضمني الثعبانان ، هذا أكبر مما أعطي موسى ، وزاد الله محمدا ثعبانا

---------------------------
(1) روي عن ابن مسعود قال :
كنا مع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فصلى في ظل الكعبة، وناس من قريش وأبو جهل نحروا جزورا في ناحية مكة ، فبعثوا وجاءوا بسلاه فطرحوه بين كتفيه ، فجاءت فاطمة ( عليها السلام ) فطرحته عنه ، فلما انصرف قال :
( اللهم عليك بقريش ، اللهم عليك بأبي جهل ، وبعتبة ، وشيبة ، ووليد بن عتبة ، وأمية بن خلف ، وبعقبة بن أبي معيط ) قال عبد الله ولقد رأيتهم قتلى في قليب بدر
(2) فرقا : فزعا .
(3) في بعض النسخ: ( بأيديهم ) .
(4) يبعجوا ـ بفتح العين ـ يشقوا .

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 324 _

  وثمانية أملاك معهم الحراب، ولقد كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يؤذي قريشا بالدعاء ، فقام يوما فسفه أحلامهم، وعاب دينهم ، وشتم أصنامهم، وضلل آبائهم، فاغتموا من ذلك غما شديدا ، فقال أبو جهل : والله للموت خير لنا من الحياة، فليس فيكم معاشر قريش أحد يقتل محمدا فيقتل به ، قالوا : لا ، قال ، فأنا أقتله فإن شائت بنو عبد المطلب قتلوني به ، وإلا تركوني ، قال : إنك إن فعلت ذلك اصطنعت إلى أهل الوادي معروفا لا تزال تذكر به ، قال : إنه كثير السجود حول الكعبة فإذا جاء وسجد أخذت حجرا فشدخته (1) به فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فطاف بالبيت أسبوعا، ثم صلى وأطال السجود ، فأخذ أبو جهل حجرا فأتاه من قبل رأسه ، فلما أن قرب منه أقبل فحل قبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاغرا فاه نحوه ، فلما أن رآه أبو جهل فزع منه وارتعدت يده ، وطرح الحجر فشدخ رجله ، فرجع مدمى ، متغير اللون، يفيض عرقا ، فقال له أصحابه: ما رأيناك كاليوم ؟! قال : ويحكم أعذروني ، فإنه أقبل من عنده فحل فاغرا فاه فكاد يبتلعني ، فرميت بالحجر فشدخت رجلي ، قال اليهودي: فإن موسى قد أعطي اليد البيضاء، فهل فعل بمحمد شيئا من ذلك ؟
  قال له علي ( عليه السلام ) ، لقد كان كذلك ، ومحمد صلى الله عليه أعطي ما هو أفضل من هذا ، إن نورا كان يضئ عن يمينه حيثما جلس ، وعن يساره حيثما جلس ، وكان يراه الناس كلهم .
  قال له اليهودي: فإن موسى ( عليه السلام ) قد ضرب له طريق في البحر، فهل فعل بمحمد شئ من هذا ؟
  فقال له علي ( عليه السلام ) ، لقد كان كذلك ، ومحمد أعطي ما هو أفضل هذا، خرجنا معه إلى حنين فإذا نحن بواد يشخب ، فقدرناه فإذا هو أربعة عشر قامة ، فقالوا : يا رسول الله العدو من ورائنا والوادي أمامنا ، كما قال أصحاب موسى :
  ( إنا لمدركون ) فنزل رسول الله ثم قال : ( اللهم إنك جعلت لكل مرسل دلالة ، فأرني قدرتك ) وركب صلوات الله عليه ، فعبرت الخيل لا تندى حوافرها ، والإبل

---------------------------
(1) الشدخ: كسر الشئ الأجوف.

الإحتجاج (الجزء الأول) _ 325 _

  لا تندى أخفافها، فرجعنا فكان فتحنا .
  قال له اليهودي: فإن موسى ( عليه السلام ) قد أعطي الحجر فانبجست منه اثنتي عشرة عينا قال علي عليه السلام: لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما نزل الحديبية وحاصره أهل مكة، قد أعطي ما هو أفضل من ذلك، وذلك: إن أصحابه شكوا إليه الظمأ وأصابهم ذلك حتى التقت خواصر الخيل ، فذكروا له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فدعا بركوة يمانية ثم نصب يده المباركة فيها ، فتفجرت من بين أصابعه عيون الماء، فصدرنا وصدرت الخيل رواء ، وملأنا كل مزادة وسقاء ، ولقد كنا معه بالحديبية فإذا ثم قليب جافة ، فأخرج ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سهما من كنانته فناوله البراء بن عازب وقال له! اذهب بهذا السهم إلى تلك القليب الجافة فاغرسه فيها، ففعل ذلك فتفجرت اثنتا عشرة عينا من تحت السهم ، ولقد كان يوم الميضاة عبرة وعلامة للمنكرين لنبوته ، كحجر موسى حيث دعا بالميضاة فنصب يده فيها ففاضت الماء وارتفع، حتى توضأ منه ثمانية آلاف رجل فشربوا حاجتهم ، وسقوا دوابهم ، وحملوا ما أرادوا.
  قال اليهودي: فإن موسى ( عليه السلام ) أعطي المن والسلوى فهل أعطي لمحمد نظير هذا قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعطي ما هو أفضل من هذا ، أن الله عز وجل أحل له الغنائم ولأمته ، ولم تحل الغنائم لأحد غيره قبله ، فهذا أفضل من المن والسلوى ، ثم زاده أن جعل النية له ولأمته بلا عمل عملا صالحا ولم يجعل لأحد من الأمم ذلك قبله ، فإذا هم أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر .
  قال له اليهودي: إن موسى عليه السلام قد ضلل عليه الغمام ؟
  قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك ، وقد فعل ذلك بموسى في التيه ، وأعطي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أفضل من هذا ، إن الغمامة كانت تظله من يوم ولد إلى يوم قبض في حضره وأسفاره ، فهذا أفضل مما أعطي موسى .
  قال له اليهودي: فهذا داود عليه السلام قد لين الله له الحديد ، فعمل منه الدروع ؟
  قال له علي ( عليه السلام ) : لقد كان كذلك ، ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أعطي ما هو أفضل