الفهرس العام




    عقائد ابن عبدالوهاب
    كلمة المؤلف
    الإسلام موجب لحفظ النفس
    تحريم التفرق والاختلاف
    المسألة الأولى في الشفاعة
    المناقشة مع الوهابيين


      مقدمه
      مقدمة لابد منها من الأحاديث المتواترة الصحيحة الواردة عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحديث « …وستفترق أمتي بعدي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة في الجنة والباقون في النار ».
       هذا الحديث من الأحاديث التي أثبتها المحدثون بكافة طبقاتهم من العامة والخاصة والسنة والشيعة .
       ولا حاجة إلى ذكر المصادر والمدارك لهذه الرواية …
      ومن المضحك أن كل فرقة من الفرق الإسلامية التي تولدت وتكونت خلال هذه القرون تعتبر نفسها هي الفرقة الناجية؛ وتعرف غيرها بأنها من أهل النار.
       وكل يدعى وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا ولسنا الآن في مقام الخوض في هذه المعركة المظلمة المدلهمة ، بل نعرج على ما نقصده من هذا الكلام وما هو معنون في الكتاب من المواضيع التي ستقف عليها .
       من جملة تلك المذاهب التي تولدت قبل قرون تقريبا هو مذهب محمد ابن عبدالوهاب ( الوهابية ) وقبل الشروع في ميدان البحث فلا بأس أن نذكر شيئاً يسيراً من ترجمة حياة محمد بن عبدالوهاب رئيس هذا المذهب الذي ستعرفه : ونقتبس ذلك عن كتاب تاريخ نجد لابن الآلوسي :

    البراهين الجلية _ 4 _

      ( هو محمد بن عبدالوهاب بن سليمان التميمي ، نشأ في بلدة العينية من بلاد نجد ، قرأ الفقه على مذهب أحمد بن حنبل ، وكان من صغره يتكلم بكلمات لا يعرفها المسلمون ، سافر إلى مكة ثم سار إلى المدينة ، واشتغل بالدراسة عند الشيخ عبدالله بن إبراهيم بن سيف ، وأظهر الإنكار على الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند قبره ، ثم رحل إلى نجد ، ثم أتى البصرة يريد الشام ، فلما ورد البصرة أحس المسلمون بذلك فأخرجوه منها ، فخرج هارباً ، وبعد مدة جاء إلى بلدة حريملة من نجد ، وكان أبوه في تلك البلدة ، فجعل ينكر على مسلمي أهل نجد عقائدهم ، فنهاه أبوه فلم يمتنع حتى مات أبوه فتجرأ على إظهار عقائده والإنكار على المسلمين ، وتبعه حثالة من الناس ، إلى أن ضج الناس ، وهموا بقتله ، فخرج قاصداً العينية ، ورئيسها يومذاك عثمان بن أحمد بن معمر ، فأطمعه ابن عبدالوهاب في ملوكية نجد فساعده عثمان فتظاهر الرجل بنواياه ، وهدم قبر زيد بن الخطاب ، فعظم أمره ، وبلغ الخبر إلى صاحب الأحساء والقطيف سليمان بن محمد بن عزيز ، فأرسل سليمان كتاباً إلى عثمان يأمره بقتل الرجل ، فلما ورد الكتاب إلى عثمان أرسل إلى محمد بن عبدالوهاب وأخبره وأمره بالخروج من البلدة ، فخرج الرجل إلى الدرعية وذلك سنة 1160 .
       الدرعية هو المكان الذي خرج منه مسيلمة الكذاب ، وأظهر الفساد ، وكان صاحبها محمد بن سعود من قبيلة عنيزة ( أحد أجداد الأسرة السعودية ) فتوسل الرجل بامرأة الحاكم إليه ، وأطعمه في العز والغلبة على بلاد نجد ، فبايعه محمد بن سعود على سفك دماء المسلمين ـ يسميه الجهاد في سبيل الله ـ وجعل ابن سعود يحز لنصرته الجيوش ، ويألب لترويج طريقته العساكر حتى استقام امره ، فكتب إلى رؤساء بلاد نجد وقضاتها يطلب منهم الطاعة

    البراهين الجلية _ 5 _

      والانقياد ، فأجابه قوم وأهمله آخرون ، فجهز الجيش من أهل الدرعية ، وقاتلهم وقتل من خالفه من المسلمين ، حتى دخل بعض إلى طاعته طائعين ومكرهين ، وتمت إمارة بلاد نجد لآل السعود بالسيف والغلبة حتى مات ابن عبدالوهاب سنة 1206 … )
      بقي دينه الجديد ، وحامت الحكومة السعودية عن هذا المبدأ … وقاتلوا المسلمين ، وقتلوا ودمروا ، وأحرقوا ، وأفسدوا في البلاد والعباد وجرت منهم الويلات على المسلمين ، وما قتلوا في هذه المدة خارجاً عن الدين ، بل كان جميع المقتولين مسلمين موحدين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وذنبهم الوحيد أنهم لا يعتنقون المبدأ الجديد الذي اخترعه ابن عبدالوهاب واعتقد به .

    عقائد ابن عبدالوهاب

       إنه يزعم أنه هو الموحد الوحيد ، وغيره من المسلمين كفار مشركون ، وهذا بعض مظاهر توحيده :
      إنه يعتقد أن الله جالس على العرش حقيقة ، وأن له يداً ورجلا ، وساقاً وجنباً ، وعيناً ووجهاً ولساناً ونفساً ، وأنه يتكلم بحرف وصوت ، وخلاصة القول أنه يعتقد التجسم الذي أطبق المسلمون على كفره .
       وإن لابن عبدالوهاب عقائد وأحكاماً حول القبور اختص بها ، وأفتى بها من غير دليل شرعي ، بل الأدلة قائمة على خلاف ما حكم به ، وأن مذهبه حول القبور أنه يحرم عمارتها والبناء حولها ، وتعاهدها والدعاء والصلاة عندها ، بل يجب هدمها وطمسها ومحو آثارها ، حتى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويزعم

    البراهين الجلية _ 6 _

      هو وأتباعه أن المشاهد المشرفة والقبور التي فيها بمنزلة الأصنام ، ويقولون في قبر النبي أنه الصنم الأكبر.
       وبالجملة فإن الوهابيين كتلة إرهابية شعارها التدمير والتحطيم ، والقسوة والهمجية ، وأنهم يبذلون كل ما لديهم من نشاط وقوة لمكافحة فئة واحدة من المسلمين يشهدون أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ويصلون ويحجون.
       وإن في تاريخ حياتهم المظلمة فجائع ومآسي لا تنسى مدى الدهر ، ومنها هجومهم على مدينة كربلاء المقدسة في سنة 1216هـ المصادف 1801م ، وإليك الواقعة كما ذكرها المرحوم البحاثة القدير الأستاذ الدكتور السيد عبدالجواد الكليدار في كتابه : « تاريخ كربلاء »
      نذكره حرفياً :
       الحائر والهدم والحرق والنهب والتقل على يد الوهابيين في 18 ذي الحجة سنة 1216 .
       إن أعظم فاجعة بعد واقعة الطف مرت على كربلاء في التاريخ؛ هي غزو الوهابيين لها في عام 1216 ، تلك الفاجعة التي لا تزال تردد صداها البلاد الإسلامية والأوربية معاً ، فأسهب في فظاعتها المؤرخون من مسلمين وأوربيين … فعدوها وقعة طف ثانية في التاريخ … فندع المجال أولاً للأوربيين .. فنعطى دور الكلام أولا للمستر ستيفن هميسلي ، لو نكريك الإنكليزي أن يتكلم أمام المرأى العام العالمي والتاريخ بصراحته وحريته … يقول في كتابه « أربعة قرون من تاريخ العراق » :
       « لم تكن أعراب نجد تختلف في العقيدة والمذهب عن بقية المسلمين إلى أواخر القرن الثاني عشر الهجري حين نشر بينهم محمد بن عبدالوهاب تعاليمة الجديدة التي جاءت موافقة لميول أمة بدوية تعيش على الفطرة معتمدة على الغزو في معيشتها ، ولاقت قبولاً حسناً من محمد بن سعود أميرهم ، وقد تلقى

    البراهين الجلية _ 7 _

      محمد بن عبدالوهاب دروسه في كليات بغداد الدينية ، فأتيح له أن يجلب الأخطار العظيمة على هذه البلاد التي أقام فيها ، وانتقل من بغداد إلى المدينة ثم إلى عوينة في نجد..
       إلى أن يقول : على أن الفاجعة الكبرى كانت على قاب قوسين أو أدنى ، تلك الفاجعة التي دلت على منتهى القسوة والهمجية والطمع الأشعبي ، واستعملت باسم الدين ، وأن الجيوش الوهابية تحركت للغزو المختص بالربيع … انتشر خبر اقتراب الوهابيين من كربلاء عشية اليوم الثاني من نيسان 1801 عندما كان معظم سكان البلدة ( كربلاء ) في النجف يقومون بالزيارة ، فسارع من بقي في المدينة لإغلاق الأبواب ، غير أن الوهابيين وقد قدروا بستمائة هجان وأربعمائة فارس ، نزلوا فنصبوا خيامهم وقسموا قوتهم إلى ثلاثة أقسام ، وفي ظل أحد الخانات ( من ناحية محلة باب المخيم فتحوا ثغرة في السور فدخلوا أحد الخانات فجأة ) هاجوا أقرب باب من أبواب البلد ، فتمكنوا من فتحه عسفاً ودخلوا ، فدهش السكان وأصبحوا يفرون على غير هدى ، أما الوهابيون الخشن فقد شقوا طريقهم إلى الأضرحة المقدسة وأخذوا يخربونها؛ فاقتلعت القصب المعدنية ، والسياج ثم المرايا الجسيمة ، ونهبت النفائس والحاجات الثمينة من هدايا الباشوات والأمراء وملوك الفرس وكذلك سلبت زخارف الجدران وقلع ذهب السقوف ، وأخذت الشمعدانات والسجاد الفاخر ، والمعلقات الثمينة ، والأبواب المرصعة وجميع ما وجد من هذا الضرب ، وقد سحبت جميعها ونقلت إلى الخارج.
      وقتل زيادة على هذه الأفاعيل قراب خمسين شخصاً بالقرب من الضريح ، وخمسمائة أيضاً خارج الضريح في الصحن ، أما البلدة نفسها فقد عاث الغزاة المتوحشون فيها فساداً وتخريباً ، وقتلوا من دون رحمة جميع من صادفوه ،

    البراهين الجلية _ 8 _

      كما سرقوا كل دار ، ولم يرحموا الشيخ و لا الطفل ، ولم يحترموا النساء ولا الرجال ، فلم يسلم الكل من وحشيتهم ولا من أسرهم ، ولقد قدر البعض عدد القتلى بألف نسمة ، وقدر الآخرون خمسة أضعاف ذلك ، عدا الجرحى.
       إلى آخر ما ذكره المؤرخون من فجائع هذه الطائفة الوحشية القاسية الظالمة.
       وفي سنة 1344 أفتى فقهاء المدينة بوجوب هدم القبور في البقيع وغير البقيع في المدينة وخارجها ، وفي اليوم الثامن من شهر شوال من تلك السنة صدر الأمر ونفذ الحكم ، فأهووا على قبر الصديقة الطاهرة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فهدموا قبرها ، فكأنها ما كفاها المصائب التي جرت عليها من الأولين أيام حياتها ، حتى قام الآخرون بإتمامها بعد وفاتها ، ثم هدموا مرقد الأئمة الأربعة من أهل البيت وهم :
      سبط الرسول الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
      الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام.
      الإمام الباقر محمد بن علي عليه السلام.
      الإمام الصادق ، جعفر بن محمد عليه السلام ، وقبة العباس عم النبي ، وقبر سيدنا إبراهيم ابن رسول الله ، وقبور زوجاته وعماته ، وقبر فاطمة بنت أسد وحمزة سيد الشهداء عم رسول الله وغيرهما من قبور أهل البيت ، ولعلهم إنما أقدموا على تلك الجرائم عملا منهم بالآية الشريفة : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) .
       وقد كتب المغفور له آية الله السيد محمد حسن القزويني كتاباً في الرد على فتاوى رئيس هذه الفئة الباغية الطاغية ونفدت نسخ الكتاب ، وقد

    البراهين الجلية _ 9 _

      انتشرت في هذه الأيام أباطيلهم وكلماتهم المسمومة في بلاد الإسلام أكثر فأكثر ، فإنهم استغلوا كتاباً مأجورين ، فجعلوا يدعون البسطاء من المسلمين المساكين إلى هذا الدين الجديد الخطر ، فرأيت لزاماً على أن أعيد طبع الكتاب لما فيه من فوائد ومنافع إرشاداً للجاهل وتنبيهاً للغافل ، ولئلا يكون للناس على الله حجة والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل.
      كربلاء المقدسة
      السيد محمد كاظم القزويني
      غرة رجب / 1382هـ

    البراهين الجلية _ 11 _

    كلمة المؤلف
    بسم الله الرحمن الرحيم    الحمد لله ، والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله الطاهرين.
       وبعد : يقول العبد الجاني محمد حسن الموسوي الطباطبائي؛ هذه رسالة وجيزة أوردت فيها من الكتاب والسنة المعتبرة عند المسلمين ما يفصح عن بطلان ما لفقته الطائفة الوهابية من كتاب ( منهاج السنة ) لأحمد بن تيمية ، وقبل الشروع فيها لابد من تمهيد مقدمتين :
       الأولى : أن من القواعد المضروبة شرعا إصالة الإباحة في الأفعال والأقوال ما لم ينه عنها الشارع خصوصاً أو عموماً من غير معارض. وعليها الأدلة من الإجماع وحكم العقل والنقل ، وقد اعترف بها ابن تيمية قائلاً ـ في منهاج السنة في الرد على الأشاعرة القائلين بتعذيب من لاذنب له ـ : « بأن هذا مخالف للكتاب والسنة والعقل أيضاً ».
       أقول : والإجماع أيضاً ، وذلك لأن المسلمين طراً ، بل وسائر أهل الملل والنحل ـ كما تفصح عنه الآيات التي ستتلى عليك ـ على إباحة فعل عند فقط بيان من الشارع على المنع وعدم الرخصة ، والعقل ناطق بأن من القبيح عقاب العبد على فعل فعله قبل أني ينهاه عنه مولاه ، أو بل وصول نهيه إليه والنقل مصرح كتاباً وسنة :
       فمن الكتاب : قوله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (1) )

    ---------------------------
    (1) الإسراء : 15.

    البراهين الجلية _ 12 _

      دل على نفي التعذيب مطلقاً عمن لم يبعث إليه الرسول ولم تقم عليه الحجة ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حي عن بينة ، ولئلا يكون للناس على الله حجة وإلا كانت لهم الحجة ، كما قال عز من قائل : ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله) وقوله تعالى : ( كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا .. ) إلخ الآية
      دلت على أن جميع من يلقى في النار إنما هو بعد تمامية الإنذار ، وقوله سبحانه : ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ) إلى قوله تعالى : ( ( أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ) صرح فيه تبارك وتعالى باعتراف المخاطبين من الجن والإنس بأنهم جاءتهم الرسل وقصوا عليهم الآيات ، وبينوا لهم التكاليف ، لكنهم حيث كفروا بآيات ربهم وعصوا رسلهم أهلكوا الله بهذا السيب ، وإلا فلا يعذب من لم يكن عالماً بالآيات ، أو لم يأتهم النذير لقوله عز شأنه : ( ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ) أي من الأمر بالطاعة ، والنهى عن المعصية ، فلو عذبهم لكان ظلماً. نزه سبحانه نفسه عن الظلم بقوله تعالى : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) وبين أن المعذبين في النار هم الظالمون لأنفسهم بالمعصية ، وترك الطاعة ، فمن لم يكن ظالماً لا تجوز عقوبته .
       ولو عوقب لكان ظلماً عليه .
       وبالجملة دلت الآيات على أن كل من صنع مثل صنع الأمم الخالية ، فأنكروا على الله آياته ورسله ، وفعلوا المنكرات والقبائح بعدما تمت عليهم الحجة ، وظهرت لهم التكاليف الإلهية والزواجر الشرعية عوقب عن إنكاره

    البراهين الجلية _ 13 _

      وإقدامه على القبائح المنهى عنها ، حيث يقول سبحانه : ( وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ ) فالمؤاخذة لا تكون إلا بالبيان وظهور الزواجر الإلهية ، فلو لم تظهر لم تكن لله على الناس حجة .
       قال ابن تيمية : الأصل الذي عليه السلف والجمهور : أن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها ، فالوجوب مشروط بالقدرة ، والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور أو محظور بعد قيام الحجة ، انتهى.
       وهذا هو الذي نسبه في ص20 من الجزء الثالث من « منهاج السنة » إلى أبي حنيفة والشافعي وابن حزم ، وهذا هو المطابق لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه الكل ، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال : « رفع عن أمتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه .. إلخ.
       وفي سنن ابن ماجة ، باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وفيه عن أبي هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « ما أمرتكم بشيء فخذوه ، وما نهيتكم عنه فانتهوا » وفي أيضاً عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا » ومثل ذلك رواية البخاري ، وفي سنن ابن ماجة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يوشك الرجل متكئاً على أريكته يحدث بحديث من حديثي ، فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل فما وجدنا فيه من حلال استحللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ».

    البراهين الجلية _ 14 _

       قوله : ألا وإن ما حرم رسول الله .. إلخ ، يدل على أن ما لم يحرمه الرسول لم يكن حراماً من جانب الله ، ولم يكن مثل ما حرم الله ، وهذا و سابقه تفسير لقوله تعالى : ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) .
       ثم إن الغرض من وضع هذه المقدمة بيان أنه لا وجه لإنكار الطائفة الوهابية على فرق المسلمين ـ خصوصاً الإمامية ـ أموراً لم يرد من الشرع فيها نهى وزجر ، وإن الحكم فيها بالانتهاء والارتداع جزماً و حتما خلاف ما عليه كتاب الله و سنة رسوله ، بل يكون بدعة لأنه إدخال ما ليس من الدين في الدين ، وحكم بغير علم ، واحتمال كونه من الدين لا يصيره من الدين ، وإلا لما كان معنى لقوله صلى الله عليه وآله وسلم :
      « وما نهيتكم عنه فانتهوا » بنحو القضية الشرطية المستفاد منها عدم الانتهاء عند عدم النهى.
       المقدمة الثانية : في بيان أن من القواعد الشرعية أصولاً وفروعا قاعدة التأويل والاجتهاد ، والغرض من تمهيد هذه المقدمة بيان أن أناساً من هذه الأمة أخذتهم العصبية و الجهالة ، فزعموا أنها الهداية والديانة ، فجعلوا يخاطبون من عداهم ـ ممن ليس على مذهبهم و على طريقتهم ـ يا كافر و يامشرك و يتعدون عليهم في أماكنهم ، والبقاع التي تحت سلطتهم ، بالضرب والسب والشتم خلافاً لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، واعتداءاً منهم على المسلمين ، إذ ليس فيما أقدموا عليه من التعدي في الكتاب و السنة عين ولا أثر !
       والعجب : مع ذلك أنهم يجعلون أنفسهم من أهل السنة ، والحال أن السنة النبوية ، والشريعة العامة المحمدية ـ مضافاً إلى سيرة المسلمين والعلماء و أئمة المذهب ـ على خلاف صنعهم ، والإنكار على أفعالهم !!
       قال ابن تيمية في ص19 من الجزء الثالث من ( منهاج السنة ) ، في الجواب

    البراهين الجلية _ 15 _

      عن المطاعن في الجماعة. إن أكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير يخرجها عن أن تكون ذنوباً ، وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر ، وعامة المنقول الثابت من الخلفاء الراشدين من هذا الباب ، انتهى.
       أقول : وذلك كما في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ». قال : فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم ، فقال : هكذا .
      وقال في ص20 : قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن على وغيرهم لا يؤثمون مجتهداً مخطأ ، لا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية ، كما ذكر ذلك ابن حزم عنهم وغيره ، ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية ، ويصححون الصلاة خلفهم ، والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين ، ولا يصلى خلفه .
       وقالوا : هذا القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين : أنهم لا يكفرون ولا يفسقون ، ولا يؤثمون أحداً من المجتهدين المخطئين ، لا في مسألة علمية ولا عملية ، انتهى.
       وقال ابن حزم في ص247 من أواخر الجزء الثالث من كتاب « الفصل في الأهواء والملل والنحل » ما هذه ألفاظه : « وذهبت طائفة إلى أنه لا يكفر ولا يفسق مسلم بقول قاله في اعتقاد أو فتيا ، وأن كل من اجتهد في شيء من ذلك فدان بما رأى أنه الحق فإنه مأجور على كل حال ، إن أصاب فأجران ، وإن أخطأ فأجر واحد ، انتهى.

    البراهين الجلية _ 16 _

       أقول : إن كان ما ذكره أئمة الدين هو الأساس والأصل المعتمد عليه عند المسلمين فبأي وجه صحيح شرعي يقدمون أقوام على رفض من عداهم من المسلمين ورميهم بالكفر والشرك ؟؟ حتى قاموا يسومونهم سوء العذاب ويجعلون بلادهم بلاد حرب. وقد قال عز من قائل : ( إنما المؤمنون أخوة ) وقال تعالى : ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ) وقال عز شأنه : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) وقال سبحانه : ( الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ) وقوله تعالى : ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ) وقال عز شأنه : ( فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) .

    الإسلام موجب لحفظ النفس

       وفي الصحاح ما هي ناطقة بأن من قال : لا إله إلا الله، محمد رسول الله كان محترم المال والعرض والدم. ويكفيك ما في البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ بن جبل ، حين بعثه إلى اليمن : إنك ستأتي قوماً أهل كتاب ، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله.
      فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم.
       وفي البخاري في باب فضائل علي عليه السلام : أنه عليه السلام حين أعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الراية يوم خيبر صرخ : يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس ؟

    البراهين الجلية _ 17 _

      قال : قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم.
       وفي البخاري عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أمر بالإيمان بالله وحده قال : أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ قالوا :
      الله ورسوله أعلم ، قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، وأن تعطوا من المغنم الخمس.. الحديث.
       قلت : وأنت أيها المطلع على الكتاب المبين ، والواقف على شريعة سيد المرسلين هل ترى لأعمال العداوة والنصب لأهل الحق وأخيك المسلم من جهة غير التعدي لحدود الله ؟
       ومعلو : أن مذهب الإسلام وما جاء به خير الأنام صلى الله عليه وآله وسلم بمجنب ( بمعزل ) عن أمثال هذه التعديات : ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) .
      فمن حكم بما يراه فقد اتبع هواه الذي نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله عز شأنه : ( وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ ) وأمر أن يحكم بما أنزل الله ، فمن خرج عن ذلك فقد أنكر على الله بعدما جاءه الحق ، وأتته البينات ، فالميزان في متابعة الحق : المصير إلى ما حكم به القرآن ، وإلا فما من طائفة إلا وهي على زعمها تأمر بالعدل والحسان كما هو الغالب المتداول بين الجهلة ، حيث أن المطاع منهم والشيخ فيهم يحكم بالعادات الجارية ، لا بما يقوله الكتاب والسنة ، فيشملهم قوله سبحانه : ( فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ) وقوله تعالى : ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) إن لم يستحلوا خلاف قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وإلا فإن استحلوا ذلك فأولئك هم الكافرون حيث يقول سبحانه ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم

    البراهين الجلية _ 18 _

      بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) نعم لو فرض أن المسلمين تنازعوا أو اختلفوا إلى شيء فالواجب عليهم أن يردوه إلى الله والرسول لقوله تعالى : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) وقوله سبحانه : ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ) ومع ذلك لو طعن طاعن في طائفة من المسلمين وجعلوا يرمونهم بالسب والشتم ونسبة الكفر والإلحاد كان ذلك تفرقاً منهياً عنه بقوله عز شأنه : ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ) وقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) وقوله سبحانه : ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) فالله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بالاعتصام بحبله ، ونهاهم عن التفرق ، وفسر الاعتصام بحبله بالتمسك بدينه ، ولا ريب أن دينه الأسلام لقوله تعالى : ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ) والإسلام هو الإيمان المفسر بالشهادتين .

    تحريم التفرق والاختلاف

       فإذن : المسلمون على ملة واحدة ، نعم جعل لهم حدوداً وحرمات لا يجوز التعدي عنها لقوله تعالى : ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا ) فحرم عليهم الظلم ، وحرم عليهم دمائهم وأعراضهم وأموالهم ، ففي الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه واله وسلم قال في حجة الوداع : إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا : هل بلغت ؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب.
       وفي البخاري ـ بطرق عديدة ـ عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنه قال في حجة

    البراهين الجلية _ 19 _

      الوداع : أنظروا ولا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض .
       والمقصود من هذه المقدمة أن عمل الوهابية خلاف ما عليه الكتاب والسنة ، لتطابقها على لزوم التودد والتحابب بين المسلمين ، لا على التنافر والتعاند ورمي بعضهم بعضاً بالكفر ، والتعدي بالضرب والشتم .
       وما علينا إلا البلاغ المبين ، تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق ، إذا عرفت ما مهدناه لك فنقول : ان هذه الرسالة مشتملة على مسائل ، وخاتمة .

    المسألة الأولى في الشفاعة

       قالت الوهابية : الشفاعة للأنبياء والأولياء منقطعة في الدنيا ، وإنما هي ثابتة لهم في الآخرة ، فلو جعل العبد بينه وبين الله تعالى وسائط من عباده يسألهم الشفاعة كان ذلك شركا ، وعبادة لغير الله تعالى ، فاللازم أن يوجه العبد دعاءه إلى ربه ويقول : اللهم اجعلنا ممن تناله شفاعة محمد صلى الله عليه واله وسلم ولا يجوز له أن يقول : يا محمد اشفع لي عند الله.
      محتجين عليه بقوله تعالى : ( وان المساجد لله ، فلا تدعوا مع الله أحداً ) وقوله سبحانه : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) وقوله جل شأنه : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) وقوله عز من قائل : ( لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) .
       قال محمد بن عبد الوهاب في رسالته « كشف الشبهات » : فإن قال : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى الشفاعة ، واطلبه مما أعطاه الله. فالجواب : أن الله أعطاه الشفاعة ، ونهاك عن هذا ! وقال : فلا تدع مع الله أحداً ، وأيضاً : فإن الشفاعة أعطاها غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصح أن الملائكة يشفعون ، والأولياء يشفعون ،

    البراهين الجلية _ 20 _

      والأفراط يشفعون ، أتقول : إن الله أعطاهم الشفاعة فاطلبها منهم ؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين.
       وقالت الإمامية : إن الشفاعة ثابتة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصالح المؤمنين والملائكة المقربين ، فيجوز الاستشفاع بهم إلى الله تعالى ، لنهوض الكتاب والسنة عليه ـ الآيات الدالة على جواز الاستشفاع فمن الكتاب قوله سبحانه : ( ولو أنهم إذا ظلموا جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما ) دلت الآية على أن العاصين متى جاؤوا إلى الرسول تائبين ، وجعلوا يتوسلون به في طلب المغفرة من الله ، واستغفر عند ذلك لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيما ، فلو كان الاستشفاع من النبي صلى الله عليه وآله شركاً لله لما وجدوا الله تواباً رحيما ، لأن الله سبحانه لا يغفر أن يشرك به .
       قال الفخر الرازي في التفسير : يعني لو أنهم عند ما ظلموا أنفسهم بالتحاكم إلى الطاغوت ، والفرار من التحاكم الى الرسول ، جاؤوا إلى الرسول وأظهروا الندم على ما فعلوه ، وتابوا عنه ، واستغفروا منه ، واستغفر لهم الرسول بأن يسأل الله أن يغفرلهم عند توتبهم لوجدوا الله تواباً رحيما ، انتهى.
       وقال أيضاً عند ذكر الفائدة للعدول عن الخطاب الى الغيبة : وإنما قال : واستغفر لهم الرسول.
       ولم يقل : واستغفرت لهم ، إجلالا للرسول وأنهم إذا جاؤوه فقد جاؤوا من خصه الله برسالته ، وأكرمه بوحيه وجعله سفيراً بينه وبين خلقه ، ومن كان كذلك فالله لا يرد شفاعته... الخ.
       أقول : وما ذكره من كون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سفيراً بين الله تعالى وبين

    البراهين الجلية _ 21 _

      العباد هي الواسطة التي أثبتها الإمامية ، وسائر الفرق من المسلمين الذين أثبتوا للنبي الشفاعة المطلقة ، بل أقول : إن النكتة في العدول من الخطاب إلى الغيبة هي الإشارة والدلالة على أن هذا المقام الكريم ، وغفران الله باستغار الشفيع غير مختص بشخصية النبي.
       وإنما هو عام لكل سفير ، ومن له جهة القرب من الله.
       المقتضية للأهلية للشفاعة .
       ومنها : قوله تعالى ـ حكاية من أولاد يعقوب ـ : ( يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ) ، وقول يعقوب : ( سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ ) ، فإنه صريح في سؤالهم وتوسلهم بأبيهم إلى الله في الاستغفار وطلب العفو ، ونزول الرحمة في الدنيا قبل الآخرة.
       ومنها : ما تضمن الأمر باستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين من قوله تعالى : ( واستفغر لذنبك وللمؤمنين ) وقوله سبحانه : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ) ومن المعلوم أن الأمر به يلازم جواز الاستشفاع بالنبي لأنه لا يأمر بالشرك والكفر ، أيأمركم بالكفر بعد إذا أنتم مسلمون ؟ وقول ابن عبد الوهاب : « إن الله أعطى نبيه الشفاعة ، ولكن نهاك عن الاستشقاع به ! » كلام شعري ، مبناه الخيال ، فإنه مثل أن يقول : إن الله تعالى أعطى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة سقاية الحوض ، ولكن نهى الناس من الورود عليه والاستسقاء منه !
       أو يقول : إن الله تعالى أكرم العباس ( عم النبي ) بسقاية الحاج ، ولكن نهى الحاج عن الوفود عليه !! فهل يجد الإنسان لمثل هذا الكلام معنى وأنه إذا راجع وجدانه يرى أنه إذا قال السلطان لبعض غلمانه : ( إني فوضت إليك

    البراهين الجلية _ 22 _

      تولية أمور رعيتى ، ولكن نهيت الرعية عن المراجعة إليك في أمورهم ) عد كلامه هذا سفهاً ولغواً. جواز الاستشفاع بالنبي والأئمة ومنها : قوله تعالى : ( مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا ) دلت.
       على جواز وقوع الشفاعة الحسنة من المؤمنين ، بعضهم في حق بعض ، ومتى جاز التوسل بالشفيع ولو كان ذلك شركا لما صح الإذن في الشفاعة لا عقلا ولا سمعاً ، مع أنها مأذون فيها ، ومرغب إليها بقوله سبحانه : يكن له نصيب منها .
       والوجه في ذلك : أن الشفاعة عبارة عن اجتماع الشفيع مع المشفوع له في الدعاء والمسألة ، إذ الشفاعة مشتقة من الشفع وهو أن يصير الإنسان نفسه شفعاً لصاحب الحاجة ، كي يجتمع معه على المسألة من الله تعالى ، فهي دعاء وطلب من الله تعالى ، وطلب لدعاء الشفيع إلى الله ، لا دعاء مع الله ، والآية دالة على حرمة الدعاء مع الله ، لا الدعاء من الله تعالى ، وأين من ذاك ؟
       ومن السنة : ما في البخاري ـ في باب : إذا استشفعوا إلى الأمام ليستسقي لهم لم يرهم ـ وباب : إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط ـ فراجع .
       فإن قلت : إن الله حكم بكفر عبدة الأوثان ، وشركهم ، لأجل قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله. قلت : نعم ، إن الله حكم بكفر هؤلاء .
       لكن منشأ كفرهم أحد الأمرين : إما بغيهم وعتوهم على الله بجعلهم من لا أهلية له من جانب الله شفيعاً ووسيلة يتوسلون بها إلى الله.

    البراهين الجلية _ 23 _

       وإما عبادتهم لذلك الشفيع ، حيث قالوا : ( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) وأين هذا من جعل الأنبياء شفعاء ، لا شركاء معه في الدعاء ، فإن الاستشفاع بهم لا يكون كفراً ولا شركا لوجهين ، بين مجمل ومفصل : أما الوجه الأول فهو أن للإمامية ـ بل وقاطبة المسلمين الذين يجوزون الاستشفاع ـ سؤالا من ابن عبد الوهاب ، وهو أنه هل ثبتت الشفاعة في الشريعة أم لا ؟.
       فإن قال : لا . أنكر ما أقر به أولا : من أن الشفاعة أعطاها الله غير النبي أيضاً وأنكر على الله ما في القرآن ، وإن قال : نعم .
    قلنا له هل الشفيع شريك مع الله في المغفرة ؟ أو أنه شريك مع المشفوع له في طلب المغفرة ، فإن قال بالأول فقد أثبت لله سبحانه الشريك ، وصار إلى ما فر منه ، وإن قال بالثاني أقر بالحق الذي عليه المسلمون ، وإن قال بالفرق بين الدنيا والآخرة قلنا له : إن ما يكون شركا في الدنيا لا يكون طاعة في الآخرة ، وإن الشرك شرك وقبيح في الدنيا والآخرة .
       وأما الوجه التفصيلي الثانوي فهو أنه لو كان التوسل بالشفيع عبادة له لما جاز الأمر بالتوسل في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) فإن المراد بالوسيلة ما يتوسل به إلى الله تعالى ، ولا يختص بالأفعال العبادية ، أو مطلق الطاعة ، أو الكتاب والسنة ، بل اللفظ بظاهره عام ، لا معدل عنه .
       فيعم مطلق الوسائل التي أمر الله تعالى باتباعها ، والاعتصام بها ، من الأنبياء الذين هم حبل الله الممدود من السماء في قوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) .

    البراهين الجلية _ 24 _

       فإن المراد من الحبل في الآية هي الواسطة بين الله تعالى وبين عبادة شبهت بالحبل الرابط بين الشيئين.
       فقول الوهابية : إن الواسطة ملغاة في الشريعة : يرده الكتاب والسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أهل بيته واصحابه بطرق صحيحة ، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : « مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجى ، ومن تخلف عنها غرق » وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر : « إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً ».
       ومعنى التمسك بهما التوسل بهما في الشدائد ، وجعلهما سبباً للنجاة من الهلكة في الدنيا والآخرة .
       ثم إن الجواب عما استدل به الوهابي من قوله تعالى : ( فلا تدعوا مع الله أحداً ) هو أن المنفي بالآية الدعوة مع الله ، دون الدعوة من الله بواسطة الشفيع ، وطلب دعائه أيضاً إلى الله ، حسبما ذكرنا. على أن المراد من النهي الانتهاء من جعل الشريك لله تعالى في العبادة ، بقرينة قوله سبحانه : ( وإن المساجد لله ، ) فالمعنى كما عن المفسرين قاطبة : إن المساجد لله ، فلا تعبدوا مع الله غيره ، كما في قوله تعالى : ( ولا تدعوا مع الله إلهاً آخر ) وهذا يقوله كل مخلص في عبادته ، ولكنه لا دخل بمسألة الاستشفاع فإن الاستشفاع نظير طلبك من المقرب عند الملك أن يشاركك في طلب مسألتك من الملك.
       وأما الجواب عن الآيات الأخر : مثل قوله تعالى : ( لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ ) ، وقوله تعالى : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) فنقول :

    البراهين الجلية _ 25 _

    المناقشة مع الوهابيين

       إن مقتضى الآية الأولى ثبوت الشفاعة لمن اتخذ عند الرحمن عهداً ، أي إيماناً ، فالمؤمنون يملكون الشفاعة ، كما أن مقتضى الآية الثانية ثبوت الشفاعة بعد الإذن والرضا من الله تعالى ، ونحن نقول به للأنبياء والأولياء ، ولو كان شركا لما جاز الإذن والرضا بالشفاعة ، نعم لا يجوز القول بأنه : يا محمد يا رسول الله اغفرلي ذنبي .
       وذلك لأنه لا يغفر الذنوب إلا الله ، وجميع المسلمين على ذلك ، وأما القول بأنه : يا محمد اشفع لي عند ربك .
       فليس من الشرك ، إذ الشرك هو أن تدعوه مع الله في حاجتك ، لا أن تسأله أن يدعو الله في غفران ذنوبك.
       ثم إن ابن عبد الوهاب لما لم يعلم حقيقة العبادة توهم أن طلب الشفاعة من الشافعين يكون من عبادة الصالحين ، وهذه غفلة منه عن أن العبادة عبارة عن وقوف العبد بين يدي معبوده ، وإظهار غاية الخضوع والخشوع ، لا مطلق التعظيم والخضوع ، ولذا لم يذهب أحد من المسلمين بأن تعظيم المؤمنين أو الأنبياء والمرسلين حال حياتهم من عبادة الصالحين ، ومثل هذا الاستشفاع بهم إلى الله حال حياتهم وبعد مماتهم ، فمن يعبد الله ويوحده لا يجد من نفسه حين ما يطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشفاعة أن يعبده في ذلك ، ولعل ابن عبد الوهاب رأى أن رواج مذهبه منوط برمي المسلمين بالشرك دون من ينسب إليه ، فرماهم بما لا يتفوه به إلا جامد أو معاند ، فقال في رسالته « كشف الشبهات » ما حاصله : إن الطلب من الشفيع ينافي الإخلاص في التوحيد الواجب على العباد بقوله تعالى : ( مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ، وقوله سبحانه : ( ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا ) .

    البراهين الجلية _ 26 _

       وإن الوقوف على قبر محمد صلى الله عليه وآله والاستشفاع منه من جعل الآلهة ، فهم يصيحون كما صاح إخوانهم : أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشئ عجاب !! !
       فيا للعجب من هذا التقحم والتهاجم على المسلمين الموحدين ، وقد عرفت دفعه والجواب عنه بما حاصله : إن دعوة الشفيع بعد ثبوت الإذن والرضا من الله تعالى لا تنافي دعوة الله تعالى. ولا تنفك عنها ، كما أن إطاعة الرسول لا تنفك عن إطاعة الله تعالى في قوله تعالى : ( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) فمن ادعي المنافاة فقد أبطل جعل الشفيع من الله ، وهذا إنكار على الله ، ولا نقول بأنه يصيح كما صاح إخوانه :
      إنا كفرنا بالذي أرسلتم به ، وإنا به لكافرون بل نقول : سيعلمون غداً من اصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ، استدرك في الشفاعة (1) وهو أن الشيخ سليمان بن سحمان ذكر كلاما طويلا في كتاب « الهدية السنية » صحيفة 64 إلى أواخر 68 ، وعنوانه : « لا الشفاعة الشرعية أو الشفاعة الشركية والشفاعة الحق »... ثم أورد جملة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الدالة على وقوع الشفاعة التي من جملتها قوله تعالى : ( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) ، : ( يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ) ، ( وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى) .

    ---------------------------
    (1) استدرك المؤلف هذا الموضوع في آخر الكتاب مما يظهر أنه كتبه بعد انتهائه في تأليفه وحيث أعدقا طباعة الكتاب الثالثة رأينا إلحاقه بموضوعه أليق، الناشر

    البراهين الجلية _ 27 _

      ومنها حديث الصحيحين ، وفيه : إن الله يقول لرسوله أربع مرات : يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع.
       ورواية البخاري عنه صلى الله عليه وآله وسلم : أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال : ( لا إله إلا الله ) خالصاً من قلبه .
       ورواية الترمذي وابن ماجة عنه صلى الله عليه وآله وسلم : أتا بى آت من عند ربي فخيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة ، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً .
       أقول : وقد مر عليك حديث استسقاء عمر بالعباس ، وحديث توسل الأعمى إلى الله بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحديث توسل آدم عليه السلام حيث قال يارب أسألك بحق محمد ألا غفرت لي .
       فقال الله : كيف عرفت محمداً ولم أخلقه بعد ؟ قال : رأيت على قوائم العرش مكتوبا : ( لا إله إلا محمد رسول الله ) فقال الله : وإذا سألتني يحقه فقد غفرت لك .
       وقد صح في الحديث : إن في هذه الأمة المرحومة شفعاء إلى الله ، وإن منهم من يشفع لأكثر من ربيعة ومضر ، وللفتام والقبيلة .
       واذا عرفت أدلة شفاعة النبي والأئمة البالغة حد التواتر ، وأمعنت النظر فيها ، علمت أن الاستشفاع الذي عليه المسلمون خلفاً عن سلف إنما هو على قسمين :
       ( أحدهما ) أن يقدموا النبي أو الولي الوجيه عند الله أمام طلب الحاجة بأن يقسم على الله به وبحقه في الفضل والإيمان والطاعة لله ، كما جاء في حديث ابن عمر في توسل آدم وما روي : من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم الضرير التوجه إلى الله به

    البراهين الجلية _ 28 _

      صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن يطلب من الله أن يشفعه فيه ، كما أسنده أحمد عن عثمان بن حنيف ، وكذا ابن ماجة والترمذي وصححه ، وكذا الحاكم في مستدركه والسيوطي في جامعه ، وكما رواه البخاري من استسقاء عمر بالعباس وتوسله إلى الله به .
       ( وثانيهما ) أن من له حاجة الى الله يطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأل الله قضاءها ويرجو منه أن يشاركه في الدعاء إلى الله ومسألة تلك الحاجة منه جل وعلا ، يفعل ذلك السائل اعتماداً على وجاهة الشفيع عند الله وقربه من الله تعالى .
       وإن المسلم الذي يؤدي الشهادتين مخلصاً هو الذي أذن الله نبيه بالشفاعة كما دلت عليه روايات البخاري والترمذي وابن ماجة ، وكذا روايتا الحارث ابن قيس وأبي سعيد عنه صلى الله عليه وآله وسلم .
       هذا هو ما عند المسلمين في التوسل والاستشفاع لا غيره ، وقد جاء به الكتاب والسنة ، ومن نسب غير ذلك إليهم فقد افترى عليهم؛ إما جهلا بما عليه المسلمون في توسلهم واستشفاعهم اعتماداً على الكتاب والسنة ، وإما عناداً لرسول الله وأوليائه في بقاء كرامتهم في الإسلام ولياقتهم للاستشفاع بأحد القسمين المذكورين ، وإما تمويهاً وتلبيساً على بعض العوام للاستعانة بهم على ما حرمه الله من دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم .
       والعجب أن الشيخ سليمان ذكر الآيات الواردة في الاستشفاع بالأوثان والأصنام ، فحاول أن يتشبت بها لنفي الشفاعة ، حتى نسب إلى المسلمين الشرك والكفر ، والحال أنه من آيات الشفاعة بإذن الله وأحاديثها ما بلغ التواتر.
       ومعلوم أن عمل المسلمين على مقتضى دلالتها ، فاللازم على الشيخ شرعا

    البراهين الجلية _ 29 _

      الحكم بمقتضاها ، فيجعل بتدبر القرآن والأحاديث ما للمسلمين (1) وما على المشركين على المشركين ، ولا يجاول بقياسه أن يخلط الإيمان بالشرك والمشروع بالمحظور وما أذن فيه لمن يرتضيه بما يسخطه وينفيه ( ما هكذا تورد ياسعد الإبل ).
       فإن المسلمين يقولون : إن الله هو إلهنا ومعبودنا ، وهو الذي أذن لنبيه في الشفاعة لنا ، ومع ذلك ليس لك من الكتاب والسنة حاجز عن قولك في صحيفة 66 : إن الكتاب والسنة دلا على أن من جعل الملائكة والأنبياء أو ابن عباس أو أبا طالب أو المحجوب وسائط بينهم وبين الله ليشفعوا لهم عند الله لأجل قربهم من الله ـ كما يفعل عند الملوك ـ أنه كافر مشرك حلال الدم والمال وإن قال : اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله وصلى وصام .
       ياشيخ : إن عمر استشفع بالعباس إلى الله في الاستسقاء فماذا تقول ؟؟ وكل أحد يعلم أن استشفاع المسلمين بالانبياء والأولياء إلى الله إنما هو على نهج استشفاع عمر بالعباس ، وماذا تريد يقولك « كما يفعل عند الملوك » فهل تريد بذلك ما زعمته في صحيفة 667 : من أن الشفاعة عند الملوك إنما تكون لأخبارهم بما يجهلونه من حال الرعية ، أو لعجزهم عن تدبير رعيتهم ، أو لخوفهم من الشفيع أو حاجتهم إليه ؟
       فأنا وسائر المسلمين نخبرك أنه ليس في المستشفعين إلا من يعتقد أن الله هو العالم بكل شئ والقادر على كل شئ ، وأنه اذن لأوليائه بالشفاعة للمسلمين

    ---------------------------
    (1) للمسلمين .

    البراهين الجلية _ 30 _

      رحمة منه بهم وكرامة للشفيع عنده كما أوضحناه ، وحاشا أن يستشفع المسلمون بالنحو الذي تزعمه في شفاعة السلاطين.
       على أن شفاعة الملوك لا تنحصر بما زعمته ، فإن الملك قد يكون تشفيعه رحمة للرعية وإكراماً للشفيع من دون جهل ولا عجز ولا خوف ولا حاجة .
       يا شيخ : أبيت إلا أن تقول : كافر مشرك حلال الدم والمال وإن شهد الشهاديتن وصام وصلى ، فإن لسانك في فمك وقلمك بيدك وما الله بغافل عما تعملون وهو المستعان على ما تصفون .
      ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .