الفهرس العام


النبيّ هارون (عليه السلام) ونموذج الوحدة
الوحدة وعناوين مختلطة :
الوحدة والتولّي والتبرّي :
معنى وقوام الوحدة :


  اللعنة على مَن نازعه فيهما من عباده ...
  ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين ; فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب : ( إنّي خالقٌ بشراً من طين * فإذا سوّيْتُهُ ونفخْتُ فيه من روحـي فقـعوا لـه ساجـدين * فسجدَ الملائكةُ كلّهم أجمعونَ * إلاّ إبليس ) (1) اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصّب عليه لأصله ، فعدوّ الله إمام المتعصّبين ، وسلف المتكبّرين ، الذي وضع أساس العصـبية ، ونازع الله رداء الجـبرية ، وادّرع لباس التعـزّز ، وخلع قناع التذلّل.
  ألا ترون كيف صغّره الله بتكبيره ، ووضعه بترفّعه ، فجعله في الدنيا مدحوراً ، وأعدّ له في الآخرة سعيراً ، فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس ، إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ـ وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة لا يدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة ـ عن كبر ساعة واحدة ، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته ... ).
  الثاني : ( فاحذروا عباد الله ! أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزّكم بندائه ... ألا وقد أمعنتم في البغي ، وأفسدتم في الإرض ، مصارحة لله بالمناصبة ، ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة ، فالله الله في كبر الحمية ، وفخر الجاهلية ... ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم ! الّذين تكبّروا عن حسبهم ، وترفّعوا فوق نسبهم ، وألقَوْا الهجينة على ربّهم ـ أي قبحوا فعل ربّهم ـ وجاحدوا الله على ما صنع بهم ، مكابرة لقضائه ، ومغالبة لآلائه ،

---------------------------
(1) سورة ص 38 : 71 ـ 74.

عدالة الصحابة _ 369 _

  فإنّهم قواعد أساس العصبية ، ودعائم أركان الفتنة ، وسيوف عنزاء الجاهلية ، فاتقوا الله... ولا تطيعوا الأدعياء الّذين شربتم بصفوكم كدرهم ، وخلطتم بصحّتكم مرضهم ، وأدخلتم في حقّكم باطلهم ، وهم أساس الفسوق ، وأحلاس العقوق ، اتّخذهم إبليس مطايا ضلال وجنداً بهم يصول على الناس ، وتراجمة ينطق على ألسنتهم ، استراقاً لعقولكم ، ودخولا في عيونـكم ، ونفثاً في أسماعـكم ، فجعلـكم مرمى نبله ، وموطئ قدمه ، ومأخذ يده ) ...
  ثمّ بيّن (عليه السلام) في آخر الخطبة خصائصه الموجبة لوصايته بعد النبوّة.
  فبيّن (عليه السلام) أنّ الخضوع لآدم وطاعته وولايته بأمر من الله تعالى هي تواضع لله ، ونفي للكبر ، أي نفي المخلوق استقلاليّته أمام استقلالية الذات الأزلية ، فولاية خليفة الله توحيد لله تعالى في آخر المعاقل التي يطرد منها الكفر ويقام فيها التوحيد ، وذلك المعقل هو ذات الإنسان نفسه ، فهدم كبر الأنانية وإقامة فقر العبد لله بتولّي الإمام المنصوب من قبل الله ، إقامة للتوحيد في صقع الذات الإنسانية ، وإن إبليس قد فشل في هذا الامتحان للتوحيد ، فلم تنفعه دعواه التوحيد في سائر المقامات ، هذا في المقطع الأوّل.
  وأمّا المقطع الثاني فهو (عليه السلام) يبيّن فيه أنّ مَن تقحّموا الخلافة من قبله قد ردّوا على الله تعالى أمره ، وقبّحوا نصبه تعالى وجعله عليّاً (عليه السلام) خليفةً ووصيّاً ، فنهجوا نهج إبليس في الاستكبار ، وأنّهم قواعد أساس العصبية ودعائم أركان الفتنة ، وهذا الحكم منه (عليه السلام) أشدّ ممّا ورد في الخطبة الشقشقية وأصرح في بيان حالهم ...
  ثمّ إنّه (عليه السلام) بيّن أنّ الإفساد في الأرض هو لكون الناس أحزاباً

عدالة الصحابة _ 370 _

  متفرّقين غير مجتمعين على وحدة الطاعة والولاية لخليفة الله في الأرض ، وهذا التفرّق عن الطاعة والولاية يعني مناصبة العداء لله تعالى ، وبالتالي فلا يقبل تعالى على البشر بالبركات والنعم ، مضافاً إلى تأدية الخلاف إلى الخراب بدل الإعمار ، لتخالف الهوى والمصلحة ، فتصبح البشرية في حرمان من البركات الإلهية المقدّرة لها.
  وتتّضـح جليّاً الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى : ( إنّ هذه أُمّتُكم أُمّةً واحدةً وأنا ربّكم فاعبـدونِ ) (1) فلازم كونها أُمّة واحدة توحيدية بتمام التوحيد هو الربوبية لله وحده من دون وجود طاغوت استكباري على أوامره تعالى ، وإلاّ فالأُمّة الإسلامية ستكون أُمماً كثيرة ، كلّ مجموعة تتّبع هوىً ما ، وطاغوتاً ما ، إذ الأُمّة في اللغة والاشتقاق من : أمّ يؤمّ ، أي : قصد واتّبع ، فإذا كانت المقاصد والمناهج الأصلية مختلفة فسيكون المجموع أُمماً لا أُمّة واحدة.
  والإشارة إلى ذلك أيضاً في قوله تعالى : ( قل يا أهلَ الكتابِ تعالَوْا إلى كلمة سواء بيننا وبينَكم ألاّ نعبدَ إلاّ اللهَ ولا نشركَ بهِ شيئاً ولا يتّخذَ بعضُنا بعضاً أرباباً من دونِ اللهِ فإنْ تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون ) (2) ...
  فإن توحّد الربوبية لله تعالى يقضي بتوحيد المنهاج والشريعة والطاعة والولاية ، نعم من أبجديات فقه أهل البيت (عليهم السلام) أنّ أهل الكتاب في ظلّ الحكم الشرعي لهم حقّ التعايش السلمي بضريبة الجزية ، بدلا عن ضريبة الزكاة والخمس الموضوعة على المسلمين ، وأنّ من خصوصيات عقيدة

---------------------------
(1) سورة الأنبياء 21 : 92.
(2) سورة آل عمران 3 : 64.

عدالة الصحابة _ 371 _

  الإمامة أنّ الحاكم الأوّل في النظام الاجتماعي السياسي هو الله تعالى ، سواء في السلطة التنفيذية أو القضائية أو التشريعية ، وسواء على الصعيد السياسي أو العسكري أو المالي أو التقنيني ، وهذه الحقيقة تتحقّق لكون الإمام وعاء مشيئة الله وإرادته ، كما هو الحال في حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، التي يستعرض سيرتها القرآن الكريم في السور المدنية ...
  فإنّ المشاهد في الآيات أنّه عند المنعطفات الحادّة الصعبة سياسياً ، أو عسكرياً من الحرب أو السلم ، أو قضائياً أو مالياً يكون التدبير الجزئي والحكم صادر منه تعالى ، فالحاكم السياسي الأوّل في حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الله تعالى ، وحاكميّته تعالى لا تقتصر على التشريعات الكلية فحسب ، كما هو المزعوم في معتقد المذاهب الإسلامية الأُخرى ، وكما هو الحال في الديانة المسيحية واليهودية : ( وقالت اليهودُ يدُ الله مغلولةٌ غُلّتْ أيديهِم ولُعنوا بما قالوا بل يداهُ مبسوطتانِ يُنفقُ كيفَ يشاء ) (1) ، بل تشمل جميع نواحي الحياة ...
  ولن تجد ـ إذا فتّشت ـ عقيدة تتبنّى حاكمية الله تعالى السياسية والعسكرية و ... وباقي نواحي الحياة فضلا عن حاكميّته في مجال التشريع غير عقيدة الإمامة الإلهية ، وهذا معنى أنّ الإمامة والولاية باب من أبواب التوحيد ومن أبواب ربوبية الله تعالى وحده في النظام الاجتماعي السياسي.

النبيّ هارون (عليه السلام) ونموذج الوحدة

  وقوله تعالى حكاية عن هارون بعد عبادة بني إسرائيل العجل : ( قال

---------------------------
(1) سورة المائدة 5 : 64.

عدالة الصحابة _ 372 _

  يا بنَ أُمَّ لا تأخذْ بلحيتي ولا برأسي إنّي خشِيتُ أن تقولَ فرّقْتَ بين بني إسرائيلَ ولم ترقُبْ قَوْلي ) (1) ...
  ملحمة قرآنية يسطرها لنا القرآن الكريم تبياناً لموقف هارون وصيّ موسى (عليه السلام) بعدما ضلّ كثير من بني إسرائيل عن الهدى إلى عبادة العجل واتّباع السامري ...
  ففي الوقت الذي راعى فيه هارون وحدة بني إسرائيل وحافظ عليها ، إلاّ أنّه لم يتّبع ضلال أكثرية بني إسرائيل والسامري في عبادة العجل لتحقيق الوحدة ، بل قال لهم : ( يا قومِ إنّما فُتِنْتُم به وإنّ ربَّكُمُ الرحمنُ فاتّبِعوني وأطيعوا أمْري ) (2) ، فقام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...
  وكان الأُسلوب الذي اتّخـذه لا بنحو يؤدّي إلى فُرقة بني إسرائيل ولا بنحو ذوبانه هو في الانحراف وترك طريق الإصلاح ، لا سيّما وأنّه لم تكن لديه القدرة على الالتجاء إلى القوّة في الإصلاح ، كما قال : ( ابنَ أُمَّ إنّ القومَ اسْتضْعَفوني وكادوا يقْتُلونَني ) (3) وهو يدلّ على مدى رفض هارون (عليه السلام) للانحراف الحاصل لدى بني إسرائيل ومقاومته السلمية الثابتة لهم بلا مهادنة حتّى كادوا أن يقتلوه.
  والذي قام به هارون (عليه السلام) هو الذي أوصاه به موسى (عليه السلام) : ( وقال موسى لأخيه هارونَ اخْلُفْني في قَوْمي وأصْلِحْ ولا تتّبِعْ سبيلَ المفسدين ) (4) ، فأمره بالإصلاح ونهاه عن اتّباع سبيل المفسدين ، ومن

---------------------------
(1) سورة طه 20 : 94.
(2) سورة طه 20 : 90.
(3) سورة الأعراف 7 : 150.
(4) سورة الأعراف 7 : 142.

عدالة الصحابة _ 373 _

  ثمّ لمّا رجع موسى إلى قومه وقال : ( يا هارونُ ما مَنعكَ إذ رأيْتَهم ضلّوا * ألاّ تتّبِعنِ أفَعَصَيْتَ أمْري * قال يَبْنَؤُمَّ ... ) (1).
  وكانت مساءلة موسى (عليه السلام) عن عدم اتّباع هارون (عليه السلام) له ، أي عن عدم مفارقة هارون لبني إسرائيل ولحوقه بموسى كي يحلّ عليهم العذاب ، أو عن عدم مقاتلته لتيّار الانحـراف والضلال في بني إسرائيل ، فأجابه بتحرّيه طريق الإصلاح من الاهتمام بمصير بني إسرائيل ، وإرشادهم إلى الصواب ، ونهيهم عن الضلال ، ومقاطعته وتبرّيه عن سبيل المفسدين ، ورضى موسى (عليه السلام) بفعله.
  وفي الحقيقة إنّ مساءلة النبيّ موسى (عليه السلام) لوصيّه النبيّ هارون (عليه السلام) عن دوره في هذا الحدث الداهية الفظيع ، وكذلك أخذه برأسه ولحيته ، ليس لإدانة أخيه ووصيّه ، أو شكّه في استقامته ، بل هي لإجل بيان مدى فظاعة الانحراف والضلال الذي ارتكب ، كما قال موسى : ( بئسما خَلَفْتُموني من بعدي ) (2) ، ( قال فإنّا قد فتَنّا قوْمكَ من بعدِكَ وأضَلّهُمُ السامِريُّ ) (3) ، وكذلك لدفع تهمة تخاذل هارون عن الحقّ ...
  وهي أيضاً نظير مساءلة الله تعالى للنبيّ عيسى يوم المعاد : ( وإذ قال الله يا عيسى ابنَ مريمَ أأنت قلت للناس اتّخذوني وأُمّيَ إلهينِ من دون الله قال سبحانك ما يكونُ لي أنْ أقولَ ما ليس لي بحقّ إن كنتُ قلْتُهُ فقد علِمْتَهُ تعلمُ ما في نفسي ولا أعلمُ ما في نفسك إنّك أنت علاّمُ الغُيوب * ما قلتُ لهم إلاّ ما أمَرْتَني به أن اعْبُدوا اللهَ ربّي

---------------------------
(1) سورة طه 20 : 92 ـ 94.
(2) سورة الأعراف 7 : 150.
(3) سورة طه 20 : 85.

عدالة الصحابة _ 374 _

  وربَّكم ) (1) إذ هي لبيان العظيمة التي ارتكبها النصـارى من الشـرك، لا لإجل عتاب النبيّ عيسى (عليه السلام) ، كيف وهو تعالى عالم ببراءة ساحته عن انحراف النصارى ؟!
  وكذلك لكون مساءلة ومحاسبة النبيّ عيسى (عليه السلام) تدلّ على عظم الخـطب في الحـدث ، الذي يسـتدعي مساءلة كلّ أطراف الحدث عنه ، حتّى مثل النبيّ ، ولتبرئة عيسى (عليه السلام) عن ضلال النصارى ، وهذا الأُسلوب من فنون الكلام والبيان ، فكذلك الحال في مساءلة النبيّ موسى (عليه السلام) لوصيّه هارون (عليه السلام) ...
  وكذلك في مساءلة الصدّيقة الزهراء لوصيّ المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( اشتملت مشيمة الجنين ، وقعدت حجرة الظنين ، نقضت قادمة الأجدل ، فخانك ريش الأعزل ؟! ) (2) فهي لم تكن ـ كما يوهمه عمى البصيرة ـ جزعاً منها (عليها السلام) أو عتاباً لأمير المؤمنين ، وإنّما هي (عليها السلام) في صدد بيان انحراف القوم وشدّة ضلال ما ارتكبوه ، ولكي يتبيّن أنّ عليّاً (عليه السلام) لم يكن سكوته عن مقاتلتهم تخاذلا منه أو جبناً أو نكصاً عن الحقّ ، بل لأنّ صدامه المسلّح معهم يوجب تزلزل عقيدة الناس بالدين ، والنزاع على السلطة في نظر وذهنية عامّة الناس من أكبر أمثلة التنازع على الدنيا وأعظمها ، وبالتالي سيسري شكّهم في دواعي الوصيّ (عليه السلام) إلى دواعي ابن عمّه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ كلّ ما جرى هو تغالب على الملك ، كما قال ذلك يزيد بن معاوية :

---------------------------
(1) سورة المائدة 5 : 116 ـ 117.
(2) الأمالي ـ للشيخ الطوسي ـ : 683 ح 1455 ، المناقب ـ لابن شهرآشوب ـ 2 / 50.

عدالة الصحابة _ 375 _

  لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل (1)
  وقول أبي سفيان عند فتح مكّة للعبّـاس : ( إنّ مُلْك ابن اخيك لعظيم ) فأجابه العبّـاس : ( إنّها النبوّة ) (2).
  فالناس ليس لديهم الوعي والبصيرة الكافية في كون خطورة هذا الانحراف هو شبيه الانحراف الذي حصل في الديانة اليهودية والمسيحية ، وليس هو محض مسند القدرة في النظام الاجتماعي السياسي.
  ثمّ إنّ من سيرة هارون (عليه السلام) تستخلص العبر ، إذ المحافظة على وحدة بني إسرائيل أوجبت عدم المصادمة المسلّحة بين فريقي الحقّ والباطل ، لكن الوحدة لم توجب ذوبان فريق الحقّ في فريق الباطل ، ولا تركهم للنصيحة والوعظ بأُسلوب المداراة ، والوحدة التكتيكية لم توجب إيقاف الإصلاح والأمر بالحقّ والنهي عن الباطل بأُسلوب الحكمة وطريق الموعظة الحسنة ، فضلا عن التنكر والريب في ثوابت الحقّ ، ولا استحسان الباطل وموادّته ، ولا كراهة الحقّ والازدراء به.

الوحدة وعناوين مختلطة :

  ثمّ إنّه في بحث الوحدة هناك محور آخر يثار دائماً ويحصل الخلط المتعمّد فيه ...
  عناوين : السـبّ ، اللعن ، التولّي ، التبرّي ، المداراة ، الموادّة ،

---------------------------
(1) تذكرة الخواصّ : 235 ، البداية والنهاية 8 / 154 ، الإتحاف بحبّ الأشراف : 57.
(2) الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 2 / 135 ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 7 / 76.

عدالة الصحابة _ 376 _

  الاحترام ، التعظيم ، الخلق الحسن ، المحبّة ، الأدب ، تحرّي وكشف الحقيقة في الأحداث التاريخية للمسلمين ، الطعن على الآخرين ، وغيرها من العناوين التي تتداول ، هي موضوعات وأفعال مختلفة ، لكن يتوسّل بمفردات ألفاظ بعضها لإرادة بعضها الآخر تمويهاً ، ولكلّ منها حكم شرعي وعقلي وأخلاقي يختلف عن الآخر ، فترى بعضهم يدافع ـ بذريعة قبح السـبّ ـ حتّى عمّن انحرف عن منهاج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ويتولاّه ، ويعظّمه ، ويتوادده عند ذكره ، ويجعل منه قدوة تحتذى.
  فاللازم تحرير معاني هذه العناوين ، ثمّ بيان أحكامها :
  أمّا السـبّ فهو ـ لغة ـ : الشتم وذكر الشخص بعار ونقيصة ، وهو ـ عرفاً ـ : ذكر الشخص بالألفاظ المستقبحة والشنيعة والمستهجنة والقذرة.
  وأمّا اللعن فهو : الطرد عن الرحمة ، وقد سمّى الله تعالى ابليس بذلك لأنّه أبلس من رحمة الله ، أي يئس وطرد من رحمته.
  وأمّا التبرّي فهو : النفرة ، والقطيعة ، والتباعد ، والتجافي.
  وأمّا المداراة فهي : المجاملة ، وإظهار حسن العشرة واللين ، ونحو ذلك على صعيد التعامل ، ونحوه الخلق الحسن في العريكة والمعشر ، وكذلك الأدب في المعاملة والمخالطة.
  وأمّا المحبّة فهي : ميل قلبي وانعطاف نفساني تجاه المحبوب ، والموادّة : بروز المحبّة أو اشتدادها.
  والاحترام والتعظيم : إبداء حرمة وعظمة الشيء ـ أو الشخص ـ ووضعه في مكانة ومنزلة مرموقة.
  أمّا كشف الحقائق فإنّه ضروري لتكوين رؤية واقعية صادقة ، ولاستخلاص العبر والمنهاج وإلاّ كانت البصيرة زائفة ، وفي هذا المجال

عدالة الصحابة _ 377 _

  لا معنى لطمس ورقة من الحقيقة بذريعة تحاشي الطعن على الآخرين.
  أمّا الطعن على الآخرين : فهو إمّا أن يكون كاذباً غير مطابق للواقع ، أو مطابقاً إلاّ أنّه غير هادف وناشئ عن دواعي متدنّية.
  إذا اتّضحت مفاهيم جملة من العناوين المتداولة في البحث فاللازم بيان حكم كلّ منها ...

الوحدة والتولّي والتبرّي :

  أمّا فريضة التبرّي من أهل الباطل والضلال من ذوي العناد فيدلّ عليه قوله تعالى : ( لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّونَ من حادَّ اللهَ ورسولَهُ ولو كانوا آباءَهم أو أبناءَهم أو إخوانَهم أو عشيرتَهم أُولئك كتب في قلوبِهِمُ الإيمانَ وأيّدهم بروح منه ) (1) ...
  وقوله تعالى : ( يا أّيُها الّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياءَ تُلْقونَ إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءَكم من الحقّ يُخرِجون الرسولَ وإيّاكم أن تؤمنوا بالله ربِّكم إن كنتم خرجْتم جهاداً في سبيلي وابتغاءَ مرضاتي تُسِرّونَ إليهم بالمودّة وأنا أعلم بما أخْفَيْتم وما أعْلَنْتم ومن يفعلْهُ منكم فقد ضلّ سواءَ السبيل ) (2) ...
  وقوله تعالى : ( قد كانت لكم أُسْوةٌ حسنةٌ في إبراهيمَ والّذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برآءُ منكم وممّا تعبُدونَ من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينَكُمُ العداوةُ والبغضاءُ أبداً حتّى تؤمنوا بالله وحْدَهُ ... لقد كان

---------------------------
(1) سورة المجادلة 58 : 22.
(2) سورة الممتحنة 60 : 1.

عدالة الصحابة _ 378 _

  لكم فيهم أُسْوةٌ حسنةٌ لمَن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخِرَ ومَن يتولَّ فإنّ اللهَ هوَ الغنيُّ الحميد ) (1) ...
  وفي هذه الآيات يلاحظ الحثّ على إبراز وإظهار البراءة القلبية والنفسية على مستوى العلاقة الخارجية ، نعم في الآية اللاحقة : ( لا ينهاكم اللهُ عن الّذين لم يقاتِلوكم في الدين ولم يُخرِجوكم من ديارهم أن تبرّوهم وتُقْسِطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين ) (2) ، وهذا ليس تفصيل في المودّة بل في تجـويز البرّ والمعاملة الحسـنة مع غير المعادين منهم ، وإلاّ فالموادّة لا استثناء فيها ، بخلاف المعادين منهم فاللازم إظهار الشدّة معهم : ( أشدّاءُ على الكفّار ) (3).
  وقال تعالى : ( ما كان للنبيّ والّذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أُولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحابُ الجحيم * وما كان استغفارُ ابراهيمَ لأبيه إلاّ عن موعِدَة وعدَها أيّاهُ فلمّا تبيّن له أنّه عدوٌّ لله تبرّأ منه إنّ إبراهيمَ لأوّاهٌ حليمٌ ) (4) ...
  وقال تعالى : ( أمْ حسِبْتُم أن تُتْركوا ولمّا يعلمِ اللهُ الّذين جاهدوا منكم ولم يتّخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجةً والله خبيرٌ بما تعملون ) (5) ، والولجة ـ بالتحريك ـ هي المكان الذي يستتر فيه المار عن المطر وغيره ، والولوج هو دخول شيء في شيء باستتار الأوّل في

---------------------------
(1) سورة الممتحنه 60 : 4 ـ 6.
(2) سورة الممتحنة 60 : 8.
(3) سورة الفتح 48 : 29.
(4) سورة التوبة (البراءة) 9 : 114.
(5) سورة التوبة (البراءة) 9 : 16.

عدالة الصحابة _ 379 _

  الثاني ، فالوليجة هي : الجماعة التي يحتمي بها الشخص وينضمّ إليها ويتحالف معها.
  ولا يخفى تعدّد ألسن البراءة والتبرّي : الأوّل : تحريم الموادّة ، والثاني : تحريم وليجة غير المؤمنين مطلقاً ، والثالث : وجوب التبرّي من الأعداء في الدين ، والرابع : حرمة الاستغفار لهم وهو نحو من طلب الرحمة الإلهية لهم.
  وقال تعالى : ( ومن الناس مَن يتّخذُ من دون الله أنداداً يحبّونَهم كحبّ الله والّذين آمنوا أشدُّ حبّاً لله ولو يرى الّذين ظلموا إذ يروْنَ العذابَ أنّ القوّةَ لله جميعاً وأنّ اللهَ شديدُ العذابِ * إذ تبرّأ الّذين اتُّبِعوا من الّذين اتَّبَعوا ورأوُا العذابَ وتقطّعتْ بهمُ الأسبابُ * وقال الّذين اتّبَعوا لو أنّ لنا كرّةً فنتبرّأ منهم كما تبرّؤوا منّا كذلك يُريهمُ اللهُ أعمالَهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ) (1) ...
  ويلاحظ في هذه الآيات تقنين المحبّة ـ التولّي والبراءة ـ بتحريم محبّة الأنداد ، والندّ : كلّ من يدعى لغير طاعة الله تعالى ، كما جاء في الروايات ، ويطابق المعنى اللغوي بقرينة السياق ، وأنّ التبرّي من أهل العصيان والطغيان فريضة ، وأنّ هذا العصيان في التولّي والتبرّي يوجب الخلود في النار ; وفي ذلك تعظيم لفريضة التولّي والتبرّي ، وأنّها بمثابة الأُصول الاعتقادية الموجبة للنجاة مع الطاعة ، وللخلود في النار مع المعصـية.
  وهذا لسان خامس في هذه الفريضة ، قال تعالى : ( فلمّا فصل

---------------------------
(1) سورة البقرة 2 : 165 ـ 167.

عدالة الصحابة _ 380 _

  طالوتُ بالجنود قال إنّ الله مبتليكم بنَهَر فمَن شرِبَ منه فليس منّي ومَن لم يطْعَمْهُ فإنّه منّي إلاّ مَن اغترفَ غُرْفَةً بيده فشرِبوا منه إلاّ قليلا منهم ) (1) ، وكان طالوت إماماً لبني إسرائيل وجعل متابعته وعدمها مرتبطة بالتولّي والتبرّي ...
  وكذا قوله تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) (2) ، إذ جعلت المودّة التي هي عماد التولّي لأهل البيت في مصاف أُصول الدين بمقتضى تعادل الأجر مع العمل في ماهية المؤاجرة والمعاوضة ، والعمل هو تبليغ الدين ، وهذه الآية جعلت مدار التولّي في الدين والإسلام والإيمان هو موالاة أهل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهو ممّا يقتضي عصمتهم.
  وقال تعالى : ( يا أيُّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا اليهودَ والنصارى أولياءَ بعضهم أولياءُ بعض ومَن يتولّهم منكم فإنّه منهم إنّ الله لا يهدي القومَ الظالمين * فترى الّذين في قلوبهم مرضٌ يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرةٌ فعسى اللهُ أن يأتيَ بالفتح أو أمر من عنده فيُصْبِحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين * ويقولُ الّذين آمنوا أهؤلاء الّذين أقسموا بالله جَهْدَ أيْمانِهم إنّهم لمعكم حبِطَتْ أعمالُهم فأصْبحوا خاسرين * يا أيُّها الّذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي اللهُ بقوم يُحبُّهم ويُحبّونَهُ أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين ... إنّما وليُّكُمُ اللهُ ورسولُهُ والّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلوةَ ويؤْتون الزكاةَ وهم راكعون * ومَن يتولّ اللهَ ورسولَهُ والّذين

---------------------------
(1) سورة البقرة 2 : 249.
(2) سورة الشورى 42 : 23.

عدالة الصحابة _ 381 _

  آمنوا فإنّ حزبَ الله هُمُ الغالبون * يا أيُّها الّذين آمنوا لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينَكم هُزُواً ولَعِباً من الّذين أُوتوا الكتاب من قبلكم والكفّارَ أولياءَ واتّقوا اللهَ إن كنتم مؤمنين ) (1) ...
  وهذه الآيات كآية مودّة القربى حاصرة للتولّي في الدين بالله والرسول والأئمّة أوصياء النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وقد اتّفق الفريقان على نزولها في عليّ (عليه السلام) وتصدّقه وهو راكع في الصلاة ، كما تدلّ هذه الآيات على كون التولّي لأئمّة الهدى من أهل البيت والتبرّيّ من الأعداء هو من أُصول الإيمان ...
  وتدلّ على أنّ فئة ( الّذين في قلوبهم مرض ) ـ وهي الفئة التي نشأت في صفوف المسلمين في أوائل البعثة النبوية في مكّة ، كما تشير إلى ذلك سورة المدّثر ، رابع سورة نزلت على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ تتولّى أهل الكتاب والكفّار لخوفهم من انقلاب الكفّة لصالحهم على المسلمين ...
  كما أنّ الآية تدلّ على أنّ النصرة لهذا الدين ووليّه منحصرة بعليّ (عليه السلام) وولده (عليهم السلام) بتولّيهم ، وأنّهم حزب الله الغالبون ، وأنّ من يرتدّ عن الدين بترك فريضة التولّي لهم (عليهم السلام) والتبرّي من الكفّار وبقية أعدائهم فسوف يأتي الله بقوم يقومون بفريضة التولّي والتبرّي.
  وقـد روى العامّة بطرق مستفيضة حديثاً بمضمون الآية نفسه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : ( إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً ما مضى فيهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش ) (2).
  وفي روايـة مسـلم : ( لا يزال أمـر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشـر

---------------------------
(1) سورة المائدة 5 : 51 ـ 57.
(2) جامع الأُصول 4 / 440.

عدالة الصحابة _ 382 _

  رجـلا ... كلّهم من قريش ) (1) ، وفي لفظ آخر في صحيح مسلم : ( لا يزال هذا الدين عزيزاً متبعاً إلى اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش ) (2).
  وفي رواية أبي داود السجستاني : ( لا يزال هذا الدين قائماً حتّى يكون عليكم اثنا عشر خليفة ... كلّهم من قريش ) (3) ...
  وفي أُخرى : ( لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ، قال : فكبّر الناس وضجّوا ... كلّهم من قريش ) (4).
  وفي بعضها : ( لا يزال أمر أُمّتي صالحاً حتّى يمضي اثنا عشر خليفة ... كلّهم من قريش ) ، رواه الطبراني في الأوسط (5) و الكبير ، والبزّار (6) ، ورجال الطبراني رجال الصحيح ...
  وفي الكبير : ( لا يزال الإسلام ظاهراً حتّى يكون اثنا عشر أميراً أو خليفة ، كلّهم من قريش ) (7).
  وفي لفظ آخر : ( لا يزال أمر هذه الأُمّة هادياً على من ناواها حتّى يكون عليكم اثني عشر أميراً... كلّهم من قريش ) (8).

---------------------------
(1) صحيح مسلم 3 / 1452 ح 6.
(2) صحيح مسلم 3 / 1453 ، ح 9.
(3) سُـنن أبي داود 4 / 106 ح 4279.
(4) سُـنن أبي داود 4 / 106 ح 4280 ، مفتاح المسند عن المسند 5 / 86 ، 87 ، 107 ، و 7 / 399 ، و 5 / 33 ـ طبعة مصر القديمة ، وقد ذكر لها اثنا عشـر سـنداً ، نقلا عن شرح إحقاق الحقّ ـ للسـيّد المرعشي ـ 2 / 354 ، ولاحظ : 13 / 46 فإنّه نقل مصادر أُخرى عن فتح الباري و إرشاد الساري.
(5) المعجم الأوسـط 6 / 284 ح 6211.
(6) المعجم الكبير 22 / 120 ح 308 ، ومسند البزّار ج 5 ح 1584 نقلا عنه.
(7) المعجم الكبير 2 / 206 ح 1841.
(8) المعجم الكبير 2 / 197 ح 1800.

عدالة الصحابة _ 383 _

  وفي رواية أُخرى : ( لا يزال أمر هذه الأُمّة ظاهراً ... ) (1).
  وفي لفظ آخر : ( لا يضرّ هذا الدين من ناواه حتّى يقوم اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش ) (2).
  وفي لفظ : ( لا تزال أُمّتي على الحقّ ظاهرين حتّى يكون عليهم اثني عشر أميراً ، كلّهم من قريش ) (3).
  وفي لفظ : ( لا تبرحون بخير ما قام عليكم اثني عشر أميراً ... كلّهم من قريش ) (4).
  وفي لفظ : ( لا يزال هذا الأمر عزيزاً منيعاً ، ينصرون على من ناواهم عليه إلى اثني عشر ... ) ... وفي لفظ : ( لن يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً على من ناوأه ، لا يضرّه من فارقه أو خالفه حتّى يملك اثنا عشر ، كلّهم من قريش ) (5).
  وفي بعضها : ( كلّهم من بني هاشم ) (6).
  وفي لفظ : ( لا يزال الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش ) (7).
  وفي لفظ : ( لا يزال هذا الأمر صالحاً ... ) (8).

---------------------------
(1) المعجم الكبير 2 / 196 ح 1797.
(2) المعجم الكبير 2 / 208 ح 1852.
(3) المعجم الكبير 2 / 253 ح 2061.
(4) المعجم الكبير 2 / 253 ح 2060.
(5) المعجم الكبير 2 / 196 ح 1795 و ح 1796.
(6) ينابع المودّة ـ للقندوزي ـ 2 / 315 ح 908 و 3 / 290 ح 4.
(7) المعجم الكبير 2 / 199 ح 1809.
(8) المعجم الأوسط 4 / 366 ح 3938.

عدالة الصحابة _ 384 _

  و : ( لا يزال هذه الأُمّة مستقيماً أمرها ، ظاهرة على عدوّها ، حتّى يمضي منهم اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش ) (1).
  و : ( لا يزال هذا الدين قائماً ... ) (2) ...
  ولاحظ بقية الألفاظ في إحقاق الحقّ (3) .
  فتبيّن من آيات سورة المائدة والأحاديث النبوية أنّ عزّة الدين والإسلام وقوامه بالأئمّة من أهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما أنّ صلاح أمر الأُمّة الإسلامية ومضيّه واستقامته هو بالاثني عشر (عليهم السلام) ، وأنّ هدي أمر الأُمّة بيدهم (عليهم السلام) ...
  كما أن غلبة الأُمّة على أعدائها وعزّها وبقاءها على الحقّ هو ببركة الذي يقوم به أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ، سواء الدور البارز على السطح أو الدور الخفي الذي يتّخذ أشكالا وصوراً مختلفة ، وسواء العلمي أو الاجتماعي أو السياسي أو الأمني أو العسكري أو الاقتصادي أو الأخلاقي المعنوي أو باقي المجالات الأُخرى ...
  وسيأتي أنّ بهم (عليهم السلام) حصل انتشار الإسلام وبأعدائهم حصل توقّف انتشاره ، وبهم (عليهم السلام) تفتّقت بنية الاعتقادات والمعارف الحقّة وبأعدائهم تولّد الزيغ والضلال ، وبهم (عليهم السلام) شيّد للدين منهاجه الأخلاقي والقانوني وبأعدائهم دبّت الأهواء والميول وحصلت الفوضى ، وذلك بيّن واضح لمَن أمعن قراءة التاريخ الاجتماعي طوال الأربعة عشر قرناً.
  ومن الآيات الدالّة على التولّي والتبرّي قوله تعالى : ( ترى كثيراً

---------------------------
(1) المعجم الكبير 2 / 253 ح 2059 ، المعجم الأوسط 6 / 345 ح 6382.
(2) المعجم الكبير 2 / 199 ح 1808 ، و 207 ح 1849.
(3) إحقاق الحقّ 13 / 11 ـ 49.

عدالة الصحابة _ 385 _

  منهم يتولّون الّذين كفروا لبئسَ ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخِطَ اللهُ عليهم وفي العذاب هم خالدون * ولو كانوا يؤمنون بالله وبالنبيّ وما أُنزِلَ إليه ما اتّخذوهم أولياءَ ولكنّ كثيراً منهم فاسقون * لتَجِدَنَّ أشدَّ الناس عداوةً للّذين آمنوا اليهودَ والّذين أشركوا ولتجِدنّ أقْرَبَهم مودّةً للّذين آمنوا الّذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسـينَ ورهباناً وأنّهم لا يستكبرون ) (1) ...
  وهذه الآيات تقابل بين المودّة والعداوة ، والمودّة مقرّرة بين المؤمنين والعداوة مع الأعداء ، والولاء مع أهل الحقّ والقطيعة مع أهل الباطل ، وقد تكون الوظيفة حيثية أو نسبية بقدر ما عند الطرف الآخر من اتّباع للحقّ أو اتّباع للباطل.
  ومثل هذه الآيات طائفة أُخرى دالّة على اتّخاذ العداوة مع الأعداء :
  قوله تعالى : ( مَن كان عدوّاً لله وملائكته ورسلِهِ وجبريلَ وميكالَ فإنّ اللهَ عدوٌّ للكافرين ) (2).
  وقال تعالى على لسان إبراهيم : ( قال أفراءيْتُم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنّهم عدوٌّ لي إلاّ ربَّ العالمين ) (3).
  وقال تعالى : ( وإذا رأيْتَهم تُعْجِبُكَ أجسامُهم وإن يقولوا تسمعْ لقولهم كأنّهم خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبون كلّ صيحة عليْهِم همُ العدوُّ فاحْذَرْهُم قاتَلَهم اللهُ أنّى يُؤْفَكون ) (4).

---------------------------
(1) سورة المائدة 5 : 80 ـ 82.
(2) سورة البقرة 2 : 98.
(3) سورة الشعراء 26 : 75 ـ 77.
(4) سورة المنافقون 63 : 4.

عدالة الصحابة _ 386 _

  وقال تعالى : ( إنّ الشيطان لكم عدوٌّ فاتّخِذوهُ عدوّاً إنّما يدعو حزبَهُ ليكونوا من أصحاب السعير ) (1).
  وقد مرّ قوله تعالى : ( قد كانت لكم أُسوة حسنة في إبراهيم والّذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برآء منكم وممّا تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتّى تؤمنوا بالله وحدَه ) ...
  هذا مضاف إلى آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
  قوله تعالى : ( ولتكن منكم أُمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهَوْن عن المنكر ) (2).
  وقوله تعالى : ( المؤمنون والمؤمناتُ بعضُهم أولياءُ بعض يأمرون بالمعروف وينهَوْن عن المنكر ) (3).
  وقال تعالى : ( لُعِنَ الّذين كفروا من بني إسرائيلَ على لسان داودَ وعيسى ابنِ مريمَ ذلك بما عَصَوْا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهَوْن عن منكر فعلوه ) (4) ...
  ولا ريب في أنّ النهي عن منكر تبرّي منه ، والواجب في النهي عن المنكر أن يكون بنكرانه في القلب أوّلا وبالسعي في إزالته ثانياً ، كما أنّ الواجب في الأمر بالمعروف برضاه وحبّه في القلب أوّلا وبالسعي لإقامته ثانياً ، ومن أحبّ عمل قوم أُشرك معهم ، قال (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( مَن شهد أمراً

---------------------------
(1) سورة فاطر 35 : 6.
(2) سورة آل عمران 3 : 104.
(3) سورة التوبة (براءة) 9 : 71.
(4) سورة المائدة 5 : 78 ـ 79.

عدالة الصحابة _ 387 _

  فكرهه كان كمَن غاب عنه ، ومَن غاب عن أمر فرضيه كان كمَن شهده ) (1).
  فالتولّي للمعروف بالقلب والعمل فريضة ركنية ، والتبرّي من المنكر بالقلب والعمل فريضة ركنية ، ومن أعظم المعروف معرفة الحقّ ، ومن أعظم المنكر جحود الحقّ والإقرار بالباطل ، فظهر أنّ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائم على التولّي والتبرّي ...
  ولا يخفى أنّ لتولّي المعروف والحقّ والأمر به ، وللتبرّي من الباطل والمنكر والنهي عنه ، درجات وأساليب ومقامات مشروحة في محالّها ، فليس النهي عن المنكر والتبرّي من الباطل يعني أُسلوب الحدّة والشدّة بل قد يكون اللين والموعظة الحسنة أنفع وأنجع في إزالة الباطل والمنكر ، إلاّ أنّ الخلط والتشويش يقع بين كيفية أُسلوب اللين وبين استحسان المنكر واستنكار المعروف ، أو بين المداراة وبين الرضا بالباطل ، وكذلك بين مقام التعامل مع الطوائف الأُخرى وبين مقام الحقيقة الدينية الواقعية وفي ما هو داخل الطائفة.
  وبعبارة أدقّ: الخلط في الموازنة بين المحافظة على حقائق الدين وبين تجنّب الفرقة في زمن الهدنة.
  وقد مرّ موقف هارون (عليه السلام) من ضلال بني إسرائيل وتبرّيه من زيغهم في حين عدم تفريطه بوحدتهم وأنّ ردعه عن منكرهم اقتصر فيه على ذلك لعدم قدرته على ما هو أشـدّ درجة ...
  كذلك مرّ موقف سـيّد الشهداء (عليه السلام) من الانحراف في حين كان (عليه السلام)يجعل مصير الأُمّة والمسلمين من مسؤوليّته ...

---------------------------
(1) وسائل الشيعة : أبواب الأمر والنهي ب 2 ح 5.

عدالة الصحابة _ 388 _

  وكذلك موقف سـيّد الوصيّـين في حروب الجمل وصفّين والنهروان ، فهو لم يعر أهمّية لما اقترح عليه جملة ممّن زعم الحرص على وحدة المسلمين من عدم قتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، إذ أنّه (عليه السلام) ـ برواية الفريقين ـ مأمور من النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقاتل الفئات الثلاث ، وأنّه يقاتل على التأويل في الشريعة والقرآن كما قاتل (صلى الله عليه وآله وسلم) على تنزيله ، وأنّ القتال الثاني عين القتال الأوّل في الأهمّية والضرورة لبناء صرح الدين ...
  بـل نشاهـد عـليّاً (عليه السلام) لـم يقـبل البـيعة لنفسـه ـ بـعد قـتل عـمر ـ عندما اشتُرط فيها الأخذ بسُـنّة الشيخـين ، كما أنّه لم يشارك في حروبهم رغم أنّ بسيفه فتح الله على نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وبه قام الإسلام في ربوعه أُمّة وملّة ودولة.
  كذلك موقف الصدّيقة البتول التي شهد القرآن بطهارتها وعصمتها ، ثالثة أصحاب الكساء ، التي احتجّ الله تعالى بشهادتها لصدق النبوّة على أهل الكتاب في واقعة المباهلة ، وروى الفريقان أنّها سيّدة نساء أهل الجنّة ، إذ قامت بالمعارضة الشديدة حتّى استنهضت الأنصار للانقلاب على حكم السقيفة ، مع أنّ الأوضاع بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت مضطربة حسب زعم أهل السقيفة ، وقد أعلن عليّ (عليه السلام) بطلان مشروعية الحكم بامتناعه عن بيعتهم ، كما روى ذلك البخاري.
  وفي قتل عثمان لم يمانع (عليه السلام) وقوعه ، وإنّما كان ينكر على الثوّار هذا الأُسلوب من جهة أنّه يعطي الذريعة لمعاوية وبني أُمية وغيرهم لزعم مظلومية عثمان ، بخلاف حصره ومطالبته بخلع نفسه وتسليم مَن سبّب الفتنة ممّن كان في جهته ، فإنّ ذلك كان قد ارتضاه (عليه السلام) ، وهو مفاد الوساطة

عدالة الصحابة _ 389 _

  التي قام (عليه السلام) بها في المرّة الأُولى ، إلاّ أنّ عثمان اتّهمه بأنّه السبب في كلّ ذلك فاعتزل (عليه السلام).
  وقد منع السـيّد المرتضى في الشافي (1) والشيخ في تلخيصه (2) ثبوت إرسال أمير المؤمنين الحسن (عليه السلام) للذبّ عن عثمان من طرقنا ، ولو سلّم فليس للذبّ عنه بل للوساطة درءاً عن تشعّب الفوضى ...
  وإلى ذلك يشير ما رواه الشريف المرتضى (3) عن الواقدي ، عن الحكم بن الصلت ، عن محمّـد بن عمّار بن ياسر ، عن أبيه ، قال : ( رأيت عليّاً على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قتل عثمان وهو يقول : ما أحببت قتله ولا كرهته ، ولا أمرت به ولا نهيت عنه ).
  وروى البلاذري عنه (عليه السلام) أنّه قال : ( والله الذي لا إله إلاّ هو ما قتلته ولا مالأت على قتله ولا سائني ) (4).
  وروي بطرق كثيرة عنه (عليه السلام) أنّه قال : ( من يسائلي عن دم عثمان فإنّ الله قتله وأنا معـه ) (5) ، وفُسّر بأنّ حكم الله هو قتله وأنّه (عليه السلام) راض بحكم الله تعالى.
  وفي خطبه له جواباً لاعتراض الأشعث بن قيس قال (عليه السلام) : ( ولو أنّ عثمان لمّا قال له الناس : اخلعها ونكفّ عنك ، خلعها ، لم يقتلوه ، ولكنّه قال : لا أخلعها ، فقالوا : فإنّا قاتلوك ، فكفّ يده عنهم حتّى قتلوه ، ولعمري


---------------------------
(1) الشافي 4 / 242.
(2) تلخيص الشافي 3 / 100.
(3) الشافي 4 / 307 ـ 308 ، ورواه البلاذري في الأنساب 5 / 101.
(4) الأنساب 5 / 98.
(5) الغدير ـ للأميني ـ : / 69 ـ 77 ـ 315 ـ 375 ، والشافي 4 / 308 ـ 309.

عدالة الصحابة _ 390 _

  لخلعه إيّاها كان خيراً له ، لأنّه أخذها بغير حقّ ، ولم يكن له فيها نصيب ، وادّعى ما ليس له ، وتناول حقّ غيره ...
  ويلك يا ابن قيس! إنّ عثمان لا يعدوا أن يكون أحد رجلين : إمّا أن دعا الناس إلى نصرته فلم ينصرونه ، وإمّا أن يكون القوم دعوه إلى أن ينصروه فنهاهم عن نصرته ، فلم يكن يحلّ له أن ينهى المسلمين عن أن ينصروا إماماً هادياً مهتدياً ، لم يحدث حدثاً ولم يؤوِ محدثاً ، وبئس ما صنع حين نهاهم ، وبئس ما صنعوا حين أطاعوه ، فإمّا أن يكونوا لم يروه أهلا لنصرته ، لجَوْره وحكمه بخلاف الكتاب والسُـنّة ... ) (1).
  وهكذا مواقف حواريّيه (عليه السلام) تجاه عثمان ، مثل أبي ذرّ وما جرى بينهما ، وموقف عمّار مع عثمان ، بل إنّ مصادر القوم تنسب تدبير خلع عثمان في الدرجة الأُولى إلى عمّار ومحمّـد بن أبي بكر.
  وغير ذلك من مواقفهم (عليهم السلام) ومواقف أصحابهم ـ رضي الله عنهم ـ التي قد يُتخيّل أنّ فيها مصادمة مع الوحدة ، ولم يجدوا في الوحدة معنىً يطغى على الأمر بالحقّ والمعروف والنهي عن الباطل والمنكر ، أي على تولّي الحقّ والتبرّي من الباطل.

معنى وقوام الوحدة :

  ويشير (عليه السلام) إلى الوحدة المعنية التي هي محلّ أهمّية في قوله (عليه السلام) : ( وأيم الله لولا مخافة الفُرقة من المسلمين أن يعودوا إلى الكفر ويعود

---------------------------
(1) كتاب سليم بن قيس الكوفي 2 / 666 ضمن ح 12 ، بحار الأنوار 29 / 469 ضمن ح 55 ، ولها مصادر كثيرة أُخرى ، لاحظ : هامش هذه الخطبة في بحار الأنوار.

عدالة الصحابة _ 391 _

  ( يبور ) الدين لكنّا قد غيّرنا ذلك ما استطعنا ) (1) ، فهو (عليه السلام) يفسّر الفُرقة بمعنى اختلاف المسلمين عن الدين باختيار جملة منهم الخروج عن الإسلام واعتناق الكفر أو ديانة أُخرى ...
  وبيانه (عليه السلام) هذا يفسّر قول هارون (عليه السلام) : ( إنّي خشِيتُ أن تقولَ فرّقْتَ بين بني إسرائيلَ ولم ترقُبْ قَوْلي ) (2) ، أنّه بمعنى تفرّق بني إسرائيل عن دين النبيّ موسى (عليه السلام) لو اصطدم هارون معهم بالسلاح أو قاطعهم بمفارقتهم والخروج عنهم ، وهذا يوجب شدّة تعصّبهم وارتدادهم عن دين موسى (عليه السلام) ، إذ أنّ عبادتهم للعجل بتسويل السامري كانت بخداعه أنّ ذلك من شرع موسى (عليه السلام) : ( فأخرجَ لهم عجلا جسداً له خُوارٌ فقالوا هذا إلهُكم وإله موسى فنسي ) (3).
  أمّا السبّ ، فقد تقدّم افتراقه عن اللعن ، إذ هو الفحش من القول القذر الذي يمارسه حثالى وأسافل الناس ، قال تعالى : ( ولا تسُبّوا الّذين يدعون من دون الله فيسُبّوا اللهَ عدْواً بغير علم ) (4) ، وهو يفترق عن ذكر حقائق الأُمور والأحداث الواقعة في تاريخ المسلمين ، فالسبّ لا يرتبط بها ، وخلط العناوين مثار مغالطة ...
  قال عليّ (عليه السلام) ـ وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم بصفّين ـ : ( إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين ، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم ، وذكرتم حالهم ، كان أصوب في القول ، وأبلغ في العذر ، وقلتم

---------------------------
(1) الأمالي ـ للشيخ المفيد ـ : 154 ـ 156 ح 6.
(2) سورة طه 20 : 94.
(3) سورة طه 20 : 88.
(4) سورة الأنعام 6 : 108.

عدالة الصحابة _ 392 _

  مكان سبّكم : اللّهمّ احقنْ دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتّى يعرف الحقّ مَن جهله ، ويرعوي عن الغي مَن لهج به ) (1).
  فتراه (عليه السلام) في الوقت الذي ينهى عن السبّ ، يحثّ على وصف أعمالهم وذكر حالهم ، أي استعراض حقائق الأُمور وما عليه أهل الباطل من رداءة العمل ورذيلة الحال ، وبيّن (عليه السلام) الغاية من ذلك : ( حتّى يعرف الحقّ مَن جهله ) أي : ليتبيّن طريق الحقّ وأهله وطريق الباطل وأهله ، وتفيق الأجيال من رقدتها وسباتها ، وتبصر الحقّ والهدى ، ولا يصيبها العمى والهذيان ، ( ويرعوي عن الغي والعدوان مَن لهج به ) أي : ينقطع المسلمون السالكون طريق الغي والعدوان ، ولئلاّ يُدعوْن إلى ذلك الطريق الضال ...
  قال ابن أبي الحـديد ـ في ذيل الخطبة في شـرح النهج ـ : ( الذي كرهه (عليه السلام) منهم أنّهم كانوا يشتمون أهل الشام ، ولم يكن يكره منهم لعنهم إيّاهم ) (2).
  كما أنّه (عليه السلام) يبيّن قواعد وضوابط الوحدة الإسلامية ، بقوله (عليه السلام) : ( اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتّى يعرف الحقّ ... ) ، فالقاعدة الأُولى هي : حقن الدماء وسيادة الأمن بين طوائف المسلمين ...

---------------------------
(1) نهج البلاغة : خطبة 206 ، ومن الأمانة عند بعضهم أن يورد هذه الخطبة مقتطعاً منها ما يروق له ، وينقلها بهذه الصورة : ( إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين ، ولكنّكم لو قلتم مكان سبّكم إيّاهم : اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ... كان أصوب في القول ) فحذف الوسط والذيل وأخّر جملة : ( كان أصوب في القول ) ( هفت آسمان ) ، عدد 12 ـ 13 ص 217.
(2) شرح نهج البلاغة 21 / 11.

عدالة الصحابة _ 393 _

  والقاعدة الثانية : إنّ إصلاح ذات البين بين طوائف المسلمين يجب أن يكون على مسير الهداية والحقيقة والابتعاد عن الضلال ، ولغاية معرفة الحقّ ورجوع صاحب الغي عن غيّه ورجوع صاحب العدوان عن اعتدائه وصاحب الدعوة الضالّة عن ترويجه للضلال.
  وكلامه (عليه السلام) طبق هدى الآية : ( وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإنْ بَغَتْ إحداهما على الأُخرى فقاتلوا التي تَبْغي حتّى تفيءَ إلى أمر الله فإنْ فاءَتْ فأصلحوا بينهما بالعدل وأقْسِطوا إنّ الله يُحبُّ المقسطين ) (1).
  فقد دلّت الآية على أنّ إصلاح ذات البين ورفع اختلاف المسلمين ووحدتهم يجب أن يرسو على العدل والقسط والحقّ والهدى ، لا على الظلم وإغماط الحقّ ، وأنّ الإصلاح والوحدة يجب أن تكون على أساس الفيء والرجوع إلى أمر الله تعالى ، لا إلى الأهواء والميول والضلالات.
  ثمّ إنّ في الآية الناهية عن سبّ الّذين يدعون من دون الله نكتة ظريفة ، وهي : أنّ علّة النهي هي تمادي أهل الضلال في ضلالهم وغيّهم وابتعادهم عن سبيل الله ، ولم يعلل النهي بترك مباغضة المؤمنين لأهل الضلال والتبرّي من غيّهم ، ولو على مستوى القلب أو على مستوى السلوك الداخلي في ما بين المؤمنين ، كما أنّ مورد آية النهي عن السبّ هو صعيد التعامل مع أهل الضلال ، وصعيد دعوتهم للهداية.
  وحيث اتّضح الفرق بين السبّ واللعن موضوعاً ، فالمناسب الإشارة إلى حكم اللعن للظالمين والمعتدين ، فإنّه خُلق إلهي ، استعرضه القرآن

---------------------------
(1) سورة الحجرات 49 : 9.