الفهرس العام


صالح المؤمنين وأطراف المواجهة
الملحمة القرآنية والإسرار النبوي
الأوّل ـ آفاق الوحـدة


  عن ابن عبّـاس في قوله تعالى : ... الآية ، قال : ليس أحد من الموحّدين إلاّ يعطى نوراً يوم القيامة ، فأمّا المنافق فيطفأ نوره ، والمؤمن مشفق ممّا رأى من إطفاء نور المنافق ، فهو يقول : ( ربّنا أتمم لنا نورنا ) ) (1).
  وفي الدرّ المنثور عن مجاهد : ( قال : قول المؤمنين حين يطفأ نور المنافقين ) (2).
  وأعظم بها من سورة قد اشتملت على العديد من الدلالات والتلويحات ، تعريضاً بأطراف الحادثة ، وبالسُـنن الإلهية في مثل هذا النمط من الفتن ، التي تحاك كيداً من الوسط الداخلي في المسلمين ...
  وقد أفصح بذلك الزمخشري في ما مرّ من مقاله : ( ... وأسرار التنزيل ورموزه في كلّ باب بالغة من اللطف والخفاء حدّاً يدقّ عن تفطّن العالم ويزلّ عن تبصّـره ).
  ومثله قال الرازي : ( وأمّا ضرب المثل بامرأة نوح المسمّاة بواعلة ، وامرأة لوط المسمّاة بواهلة ، فمشتمل على فوائد متعدّدة لا يعرفها بتمامها إلاّ الله تعالى ...
  ـ إلى أن قال : ـ ومنها التنبيه على أنّ التضـرّع بالصـدق في حضـرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب ) (3).
  وكذلك مقولة ابن القيّم التي تقدّمت ، قال ـ بعد أن ذكر التعريض بهما وتحذيرهما وتخويفهما ـ : ( وأسرار التنزيل فوق هذا وأجلّ منه ، ولا سيّما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلاّ العالمون ).

---------------------------
(1) فتح القدير 5 / 255.
(2) الدرّ المنثور 6 / 245.
(3) التفسير الكبير 3 / 51.

عدالة الصحابة _ 344 _

  وها قد حان أن ننقل أسرار التنزيل ولطائفه ورموزه ، وأسرار الأمثال في هذه السورة عن أئمّة الهدى من آل محمّـد صلوات الله عليهم ...
  فقد روى علي بن إبراهيم القمّي في تفسيره ، بسند صحيح عن الصادق (عليه السلام) في ذيل الآية الأُولى في سبب نزولها : كان سبب نزولها ـ وذكر قصّة حلفه (صلى الله عليه وآله) أن لا يطأ مارية ، ثمّ إخباره (صلى الله عليه وآله) حفصة باستيلاء أبيها على الأمر من بعد استيلاء أبي بكر عليه بعده (صلى الله عليه وآله) ، وقوله (صلى الله عليه وآله) لها : ( فإن أنت أخبرت به فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) ، وأنّها قالت : من أخبرك بهذا ؟ قال : الله أخبرني ـ فأخبرت حفصة عائشة من يومها بذلك ، وأخبرت عائشة أبا بكر ، فجاء أبو بكر إلى عمر فقال له : إنّ عائشة أخبرتني عن حفصة كذا ، ولا أثق بقولها ، فسل أنت حفصة.
  فجاء عمر إلى حفصة فقال لها : ما هذا الذي أخبرت عنك عائشة ؟
  فأنكرت ذلك وقالت : ما قلت لها من ذلك شيئاً.
  فقال لها عمر : إن كان هذا حقّاً ؟ فأخبرينا حتّى نتقدّم فيه.
  فقالت : نعم ، قد قال ذلك رسول الله.
  فاجتمع أربعة على أن يسمّوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فنزل جبرئيل بهذه السورة : ( يا أيّها النبيّ ... تحلّةَ أيْمانكم ) ، يعني قد أباح الله لك أن تكفّر عن يمينك ، ( والله مولاكم ... فلمّا نبأت به ) أي أخبرت به ، ( وأظـهره الله عليه ) يعـني : أظهر الله نبـيّه على ما أخبرت به وما همّوا بـه من قتله ، ( عرّف بعضه ) أي : أخبرها وقال : ( ولمَ أخبرت بما أخبرتك ) به ؟ (1).

---------------------------
(1) تفسير القمّي 2 / 360.

عدالة الصحابة _ 345 _

صالح المؤمنين وأطراف المواجهة

  روى محمّـد بن العبّـاس ، بسـنده عن الصادق (عليه السلام) : ( قال : إنّ رسـول الله (صلى الله عليه وآله) عرّف أصحابه أمير المؤمنين (عليه السلام) مرّتين ، وذلك أنّه قال لهم : أتدرون من وليّكم من بعدي ؟
  قالوا : الله ورسوله أعلم.
  قال : فإنّ الله تبارك وتعالى قد قال : ( فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ) يعني أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وهو وليّكم بعدي ...
  والمرّة الثانية يوم غدير خمّ ، قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ) (1).
  وقد تقدّم أنّ مقتضى الحادثة وتنازع الأطراف فيها يقتضِ هذا التوزيع في طرفي المواجهة ، وقد مرّ جملة من روايات أهل سُـنّة الجماعة في كون ( صالح المؤمنين ) هو عليّ (عليه السلام) ...
  ولا يخفى سرّ التعبير بالمفرد المضاف إلى الجمع ، إذ أنّه يختلف عمّا لو كان : ( صالح من المؤمنين ) ، أو : ( صالحـو المؤمنين ) ، فإنّه يقتضي التساوي في الصلاح والإيمان ، فإفراده من بين مجموع المؤمنين وإدراجه في سلك انتظام جبرئيل الروح الأمين والملائكة قاض بعلوّ درجته.
  وروى في الدرّ المنثور ، قال : ( وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، بسند ضعيف عن ابن عبّـاس ، عن النبيّ صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ، قال : السبّق ثلاثة : فالسابق إلى موسى يوشع بن نون ، والسابق إلى عيسى صاحب يس ، والسابـق إلى محمّـد صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم عليّ بن

---------------------------
(1) تأويل الآيات 2 / 669 ح 3.

عدالة الصحابة _ 346 _

  أبي طالب.
  وأخرج ابن عساكر من طريق صدقة القرشي ، عن رجل ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم : أبو بكر الصديق خير أهل الأرض إلاّ أن يكون نبيّ ، وإلاّ مؤمن آل ياسين ، وإلاّ مؤمن آل فرعون ، أي أنّه دون الثلاثة.
  وأخـرج ابن عـدي ، وابن عساكر : ثلاثـة ما كفروا بالله قط : مؤمـن آل ياسين ، وعليّ بن أبي طالب ، وآسية امرأة فرعون.
  وأخرج البخاري في تاريخه عن ابن عبّـاس ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم : الصدّيقون ثلاثة : حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجّار صاحب آل ياسين ، وعليّ بن أبي طالب.
  وأخرج داود ، وأبو نعيم ، وابن عساكر ، والديلمي ، عن ابن أبي ليلى ، قال : قال رسـول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم : الصديقون ثلاثة : حبيب النجّار مؤمن آل ياسين ، الذي قال : ( يا قوم اتّبعوا المرسلين ) (1) ، وحزقيل مؤمـن آل فرعون ، الذي قال : ( أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله ) (2) ، وعليّ بن أبي طالب وهو أفضلهم ) (3).
  ورواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل بعدّة طرق (4).
  ورواه أحمد في فضائل عليّ (عليه السلام) من فضائل الصحابة (5).

---------------------------
(1) سورة يس 36 : 20.
(2) سورة غافر 40 : 28.
(3) الدرّ المنثور 5 / 262.
(4) شواهد التنزيل 2 / 304 ـ 305.
(5) فضائل الصحابة 2 / 628 و 656 ...
ورواه ابن المغازلي في مناقبه : 245 ، والروض النضير 5 / 368 عن ابن النجّار ، وأبي نعيم في المعرفة ، والسلفي في المشيخة البغدادية الورقة 9 ب و 10 ب ، والدارقطني في عنوان ( خربيل ) من كتاب المؤتلف والمختلف 2 / 770.
ورواه السيوطي في الجامع الصغير 2 / 50 ورمز له بالحسن ، وبطريق آخر ضعيف ، ورواه أيضاً المناوي في فيض القدير 4 / 238 ، وقال : ورواه ابن مردويه والديلمي.

عدالة الصحابة _ 347 _

  وروى ابن كثير في تفسيره : ( قال ابن أبي نجيح : عن مجاهد ، عن ابن عبّـاس : ( والسابقون السابقون ) (1) ، قال : يوشع بن نون سبق إلى موسى ، ومؤمن آل يس سبق إلى عيسى ، وعليّ بن أبي طالب سبق إلى محمّـد رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ) (2).
  وروى مثله السيوطي في الدرّ المنثور ، قال : ( وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عبّـاس : ... ) وذكر مثله ...
  وقال : ( وأخرج ابن مردويه عن ابن عبّـاس في قوله : ( والسابقون السابقون ) ، قال : نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجّار الذي ذكر في يس ، وعليّ بن أبي طالب ، وكلّ رجل منهم سبق أُمّته ، وعليّ أفضلهم سبقاً ) (3).
  وهـذه الروايات (4) من طرقهم قاضـية بأنّ : ( صالح المؤمنين ) هو

---------------------------
(1) سورة الواقعة 56 : 10.
(2) تفسير ابن كثير 4 / 304.
(3) الدرّ المنثور 6 / 154.
(4) وممّن روى أنّ ( صالح المؤمنين ) هو عليّ (عليه السلام) : الآلوسي في روح المعاني 28 / 135 ، وابن كثير في تفسيره 4 / 389 ، والسيوطي في الدرّ المنثور 6 / 244 ، والشوكاني في فتح القدير 5 / 246 ، وابن بطريق في العمدة عن تفسير الثعلبي : 152 ، والگنجي الشافعي في كفاية الطالب : 53 ، والقرطبي في جامع الأحكام 18 / 189 ، والأندلسي في البحر المحيط 8 / 291 ، وابن الجوزي في التذكرة : 267 ، وابن همام في حبيب السير 2 / 12 ، والحسكاني الحنفي في شواهد التنزيل 2 / 259 ، وذكر محمّـد بن العبّـاس في تأويل الآيات 2 / 698 اثنين وخمسين حديثاً من طرق الخاصّة والعامّة.

عدالة الصحابة _ 348 _

  عليّ (عليه السلام) وهو صدّيق هذه الأُمّة الأكبر ، وفاروقها الأعظم بين الحقّ والباطل ، ويقتضيه ما روي مستفيضاً عند الفريقين أنّه : ( قسيم الجنّة والنار ).
  كما أنّ الأشخاص المعنيين بالخبر المفشى تقتضي السورة والآيات بتقابلهم وتباينهم مع موقع الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والدين وصالح المؤمنين ، وأنّ ( صالح المؤمنين ) مولى النبيّ (صلى الله عليه وآله) ووليّه يلي أمره في الدين ، ومن ثمّ كانت هذه الآيات في السورة معلنةً لولاية ( صالح المؤمنين ) ، وأنّه وليّهم بعـد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قبال موقع الطرف الآخر صاحب المكيدة والتدبير على الدين والرسول الأمين (صلى الله عليه وآله).

الملحمة القرآنية والإسرار النبوي

  الحديث الذي أسرّ به النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى حفصة ـ كما تشير إليه سورة التحريم ـ قد سبق وأن أنبأ به القرآن الكريم في سورة البقرة وفي سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله) ، والأُولى من أوائل السور المدينة نزولاً ، والثانية متقدّمة نزولاً على سورة التحريم أيضاً ...
  ففي الأُولى : ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهِدُ اللهَ على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصامِ * وإذا تولّى سعى في الأرض ليُفسـدَ فيها ويُهلكَ الحـرثَ والنسلَ واللهُ لا يحبّ الفسادَ * وإذا قيل له اتّقِ اللهَ أخذتْهُ العزّةُ بالإثمِ فحسْبُهُ جهنّمُ ولبئس المِهادُ *

عدالة الصحابة _ 349 _

  ومن الناس مَن يشري نفسَـهُ ابتـغاءَ مرضـاتِ اللهِ واللهُ رؤوفٌ بالعبادِ ) (1).
  الملفت للانتباه أنّ في هذه الآيات جرى التقابل بين طرفين وموقعين في مجرى الأحداث في مسار الأُمّة ، وها هنا الطرف الثاني الذي تتعرّض له الآيات بالمديـح والثناء ، وبيان أنّه المؤهّل لولاية الأمر من قبله تعالى ، بقرينة تقريع الآيات للطرف الأوّل ، الذي تتوقّع استيلاءه على مقاليد الأُمور ، وتذكر له العديد من الصفات ، مثل : حلاوة المقال مع عداوة القلب ، وخصامه الكثير ولجاجه ، وقساوته عند تولّيه الأُمور بتغريب النتاج المدني البشري ، والإبادة للطبيعة البشرية.
  وها هنا الآيات لم تصف النسل البشـري بصـفة خاصّة ، ممّا يعطي أنّ التقريـع للإبادة مـوردها الطبيعة البشـرية من حيث هي محترمـة كخلق لله تعالى ، بغضّ النظر عن الحرمة من جهة الإيمان أو الإسلام ، وهذا مؤشّر على موارد وقوع هذه الصفة المُتنبَأ بها في الآيات ، وقد مرّت الإشارة إلى هذا البحث في حلقات سابقة.
  والحاصل إنّ الطرف الثاني الذي تمدحه الآيات هو في مقابل الطرف الأوّل المذموم لتولّي الأمر ...
  والممدوح ها هنا كما هو معروف من الروايات ولدى المفسّرين هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، إذ فدّى نفسـه للنبيّ (صلى الله عليه وآله) في ليلة المبيت على فراشـه.

---------------------------
(1) سورة البقرة 2 : 204 ـ 207.

عدالة الصحابة _ 350 _

  وفي السورة الثانية قال تعالى : ( فإذا أُنزلت سورةٌ محكمةٌ وذُكرَ فيها القتالُ رأيت الّذين في قلوبهم مرضٌ ينظرونَ إليك نظر المغشيِّ عليه من المـوت فأوْلى لهـم * طاعـةٌ وقولٌ معروفٌ فإذا عزمَ الأمرُ فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم * فهل عسَيْتمْ إن تولّيْتم أن تُفسدوا في الأرض وتُقطّعوا أرحامكمْ * أُولئك الّذين لعنهمُ اللهُ وأصمّهمْ وأعمى أبصارهمْ ) (1).
  هذه الآيات تشير إلى وقوع استيلاء على مقاليد الأُمور من قبل فئة من المسلمين ، وهم : ( الّذين في قلوبهم مرض ) ، وهذا العنوان قد أشار القرآن الكريم إلى وجوده بين صفوف المسلمين منذ بداية نشأة الإسلام ، كما في سورة ( المدّثر ) ، رابع سورة نزلت على النبيّ (صلى الله عليه وآله) في مكّة في أوائل البعثة ...
  وهذا التقارن بين سورة المدّثر وسورة محمّـد (صلى الله عليه وآله) دالّ على أنّ هدف هذه الفئة من الدخول في الإسلام منذ أوائل عهده هو الوصول إلى مسند القدرة وزمام الأُمور بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، كما هو طمعٌ وهدفٌ أُعلن على لسان كثير مـن القبائل التي كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يدعوها للدخول في الإسلام ، فقد كانت مشارطتهم للدخول في الدين استخلافهم على زمام الأُمور بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، وكان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يرفض هذا الشرط ، ويجيب بأنّ ذلك ليس له ، بل لله عزّ وجلّ ربّ العالمين.
  ومع انضمام سورة التحريم إلى السور السابقة يتّضح جليّاً مفاد الإشارة في السور القرآنية ، وتتبيّن أوصاف مَن تُعرّض به الملحمة القرآنية.

---------------------------
(1) سورة محمّـد (صلى الله عليه وآله) 47 : 20 ـ 23.

عدالة الصحابة _ 351 _

  وقد وقع نظير هذه الأنباء من الرسول (صلى الله عليه وآله) حول مجريات الاستيلاء على السلطة بعده ...
  فقد روى البخاري ، عن عمر بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد : ( قال : أخبرني جدّي ، قال : كنت جالساً مع أبي هريرة في مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالمدينة ومعنا مروان ، قال أبو هريرة : سمعت الصادق المصدّق يقول : هلكة أُمّتي على يدي غلمة من قريش ، فقال مروان : لعنة الله عليهم غلمة ، فقال أبو هريرة : لو شئت أن أقول بني فلان بني فلان لفعلت ...
  فكنت أخـرج مع جـدّي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام ، فإذا رآهـم غلماناً أحـداثاً قال لنا : عسـى هؤلاء أن يكونوا منهم ، قلنا : أنت أعلم ) (1).
  قال ابن حجر في شرحه : ( قال ابن بطّال : جاء المراد بالهلاك مبيّناً في حديث آخر لأبي هريرة أخرجه علي بن معبد ، وابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي هريرة ، رفعه : (أعوذ بالله من إمارة الصبيان ، قالوا وما إمارة الصبيان ؟ قال : إن أطعتموهم هلكتم ـ أي في دينكم ـ وإن عصيتموهم أهلكوكم ، إن في دنياكم بإزهاق النفس ، أو بإذهاب المال ، أو بهما) ...
  وفي رواية ابن أبي شيبة : (إنّ أبا هريرة كان يمشي في السوق ويقول : اللّهمّ لا تدركني سنة سـتّين ولا إمارة الصبيان) ، وفي هذا إشارة إلى أنّ أوّل الأُغيلمة كان في سنة سـتّين ، وهو كذلك ، فإنّ يزيد بن معاوية استُخلف فيها.
  ـ إلى أن قال : ـ تنبيه : يتعجّب من لعن مروان الظلمة المذكورين مع

---------------------------
(1) صحيح البخاري : كتاب الفتن ب 3 ـ فتح الباري 13 / 9.

عدالة الصحابة _ 352 _

  أنّ الظاهر أنّهم من ولده ، فكأنّ الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشـدّ في الحجّة عليهم لعلّهم يتّعظون.
  وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد ، أخرجها الطبراني وغيره ، غالبها فيه مقال ، وبعضها جـيّد ) (1).
  وكذا ما رواه البخاري في الباب الثاني من كتاب الفتن ـ وعنونه : باب قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) : ( سترون بعدي أُموراً تنكرونها ) ـ : ( وقال عبـد الله بن زيد ، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : اصبروا حتّى تلقوني على الحوض ) !!
  ثمّ روى البخاري أحاديث في الباب تدعو إلى السكوت عن سلاطين الجور والإطاعة لهم ، وهي أشبه بنصوص السلطة من النصوص النبوية ...
  قال تعالى : ( والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضهم أولياء بعض يأمرونَ بالمعروف وينْهَوْنَ عن المنكر ) (2) ...
  وقال تعالى : ( المنافقونَ والمنافقاتُ بعضهم من بعض يأمرونَ بالمنكر وينهوْنَ عن المعروف ) (3) ...
  وقال تعالى : ( ولا ترْكنوا إلى الّذين ظلموا فتمَسّكُمُ النارُ ) (4).
  وبمثل هذه الملحمة القرآنية والإسرار النبوي ما رواه البخاري أيضاً في كتاب الفتن : الباب الأوّل والرابع من اقتراب الفتن بعده (صلى الله عليه وآله) ، وإحداث

---------------------------
(1) فتح الباري 13 / 10 ـ 11.
(2) سورة التوبة (البراءة) 9 : 71.
(3) سورة التوبة (البراءة) 9 : 67.
(4) سورة هود 11 : 113.

عدالة الصحابة _ 353 _

  أصحابه بعده (صلى الله عليه وآله) ...
  وكلّ ذلك خارج مخرج التحذير والإنذار ... ( حكمةٌ بالغةٌ فما تُغنِ النُذُرُ ) (1).

---------------------------
(1) سورة القمر 54 : 5.

عدالة الصحابة _ 354 _

  وممّـا يتّصـل بالخلاف في عدالة الصحابـة أمـران رئيسـيّان ، الأوّل : ما هو مصير الوحدة الإسلامية مع الخلاف في عدالتهم ، الثاني : محطّة الفتوحات الإسلامية التي وقعت على يد الخلفاء الثلاثة هي عمدة مستمسكات القائلين بعدالتهم ومكانتهم في الدين. فلا بُدّ من تناول البحث لكلا الأمرين ...

الأوّل ـ آفاق الوحـدة

  إنّ كثيراً من الضلالات ناشئة من العمى في البصيرة ، قال تعالى : ( فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) (1)وقال : ( فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ) (2) ...
  والعمى في البصيرة ينشأ من أسباب مختلفة ، تارة من ضحالة في العلم والفقه ، وأُخرى من اتّباع الهوى والمصالح الدنيوية القصيرة المدى ،

---------------------------
(1) سورة الحجّ 22 : 46.
(2) سورة الأنعام 6 : 104.

عدالة الصحابة _ 355 _

  وإذا اجتمع السببان فالطامّة الدهياء بين العمى والازدواجية.
  قال تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلّكم تهتدون * ولتكن منكم أُمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينْهَوْن عن المنكر وأُولئك هم المفلحون ) (1) ...
  هذه الآية الكريمة كما تعيّن مدار وحدة المسلمين فهي تنبّأ بملحمة خطيرة ، هي : أنّ الوحدة الإسلامية لم ولن تتمّ ولا تتحقّق في هذه الأُمّة وتنال تلك السعادة في ظلّ الأُلفة الأخوية إلاّ بالاعتصام بـ : ( حبل الله ) ، أي التمسّك بحبل الله ، فيكون هذا الحبل عاصماً عن الفرقة ، وعن السقوط في الهاوية ، وعن الضياع في المتاهات ، فما هو ( حبل الله ) ، وما هو سرّ التعبير بـ : ( الحبل ) ؟!
  لـ ( حبل الله ) ـ كما لكلّ حبل ـ طرفان ، طرف تستمسك به الأُمّة ، وطرف آخر عند الله تعالى ، أي أنّ هذا الحبل شيء رابط بين البشرية والغيب ، وسبب متّصل بين الأرض والسماء ، فلا بُدّ أن يكون قطب الوحدة ومركز الاتّحاد سبب موصل مطّلع على الغيب ، وهذا يعطي أنّ سفينة الوحدة والاتّحاد يجب أن ترسو على ما هو حقّ وحقيقة ، لا التوافق على الهوى والهوس.
  وسياق الآية الثانية المتّصلة يصرّح بأنّ الوحدة يجب أن تكون على الخير والمعروف والاجتناب عن المنكر ، بحسب الواقع والحقيقة ، فلو

---------------------------
(1) سورة آل عمران 3 : 103 ـ 104.

عدالة الصحابة _ 356 _

  حصلت وحدة على المنكر واجتناب المعروف ، لكانت هذه فُرقة في منطق القرآن الكريم ، لأنّ الناس افترقوا وابتعدوا عن الحقّ ...
  وهذا يدلّ على أنّ الحقّ والمعروف له وجود وحقيقة في نفس الأمر ، اتّفقت كلمة الأُمّة عليه أم لم تتّفق ، وليس الحقّ ناتجاً ومتولّداً من اتّفاق الأُمّة كي يقال : ( كلّ ما اتّفقت الأُمّة عليه فهو حقّ ، وكلّ ما لم تتّفق عليه فهو باطل ) ...
  ومن ثمّ كان الحسن والقبح في الأفعال ، والصفات ، والاعتقادات ذاتي ، تكويني ، عقلي ، حقيقي ، إذ ليس حسن الشيء بسبب رأي الأكثرية أو توافق الكلّ على مدحه ، ولا قبح الشيء بسبب رأي الأكثرية أو توافق الكلّ على ذمّه ، بل الحسن والمدح والثناء ذاتي ، للكمال ، والقبح والذمّ والهجاء ذاتي ، للنقص ، ومن ذلك يعلم أنّ الثابت الديني ليس وليد الوفاق بل هو مرهون بالأدلّة والبراهين.
  فإذا كان الحقّ ثابت في نفسه فيجب إقامة الوحدة على أساسه ، لا أن تقام الوحدة على أساس الباطل أو الحقّ الممزوج بالباطل ، فنقيم الاتّحاد ولو على النهج السقيفي أو الأُموي أو العبّاسي ، بل هذا اتّحاد على الغواية وتعاون على الإثم والعدوان ، ومن ثمّ لم يبال سيّد الشهداء (عليه السلام) أن يشقّ عصا المسلمين المتآلفين على النهج اليزيدي ، وقال : ( إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جـدّي ، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ).
  فالاصـلاح والنصـيحة للمسلمـين ليس بإقرارهـم على ما هم عليه مـن الفساد والغوايـة ، بل هو بأمرهم بالمعروف والحقيقة ونهيهم عن المنكر والباطل ، ودعوتهم للتعاون على السير على نهج الحقّ والصراط المستقيم.

عدالة الصحابة _ 357 _

  وخذ مثالا لذلك : لو شاهدت مدمناً على المخدّرات وأردت أن تنصحه ، فإنّ نصيحته ليست بمدحه على فعله وتحسينه له ; فهو غشّ ودغل واحتيال ، بل نصيحته بتعليمه بسوء ما هو عليه وقبحه ، وإرشاده إلى الطريق السـوي ...
  وكما قام سيّد الشهداء بتفرقة الجماعة المتجمّعة على الباطل ، قام جدّه النبيّ المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) بتفرقة المجتمع المكّي القرشي ، الذي كان متّحداً على عبادة الأوثان ، وأرشدهم بالأُسلوب التدريجي ، وبالحكمة والموعظة ، وبالتي هي أحسن ، والمداراة ، إلى طريق الصواب والهداية ، ولم تكن مداراته بمعنى ذوبانه في أرجاس الجاهلية ومداهنته لزيغهم وغيّهم ، نعم لا يكون العلاج إلاّ تدريجياً وبتعقّل وتروّي وتؤدة.
  ولك أن تعتبر بسيرة سيّد الشهداء (عليه السلام) ، فإنّه لمّا رأى العالم الإسلامي ساكت على تولّي يزيد بن معاوية للأُمور وفاقاً سكوتياً أخذ في توعية الناس في المدينة المنوّرة ، ثمّ في مكّة عدّة أشهر ، يلتقي بوفود المسلمين في العمرة وموسم الحجّ ويخطب فيهم ، إلى أن أثمرت جهوده (عليه السلام) وبانت في مخالفة أهل العراق للسلطة الأُموية ، فخالفوا وحدة الصفّ التي كانت في جانب يزيد ، وأخذ في توسيع القاعدة الشعبية المخالفة كي تصبح أكثرية ، ثمّ توجّه صوب العراق لإنجاز الإصلاح في الأُمّة ، فلمّا رأى عودة أهل العراق عن مخالفة الصفّ اليزيدي واتّحادهم مع الوفاق الأُموي ، لم يستسلم للوحدة على الباطل والغي حتّى استشهد إحياءً لفريضة الإصلاح والأمر بالوحدة على المعروف والانتهاء عن المنكر.
  فترى أنّ سيّد الشهداء (عليه السلام) لم يقم وزناً للوحدة والاتّحاد على الخطأ والباطل ، وأشاد بالوحدة على طريق الحقّ والهداية ، وهذا هو معنى أنّ

عدالة الصحابة _ 358 _

  الحسن والقبح للأشياء ذاتياً واقعياً ، وليس اعتبارياً خاضعاً لرأي الأكثرية والمجموع وتوافقهم.
  روى الصدوق في معاني الأخبار عن ابن حميد رفعه ، قال : ( جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال : أخبرني عن السُـنّة والبدعة ، وعن الجماعة وعن الفُرقة ؟
  فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : السُـنّة : ما سـنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والبدعة : ما أُحدث من بعده ، والجماعة : أهل الحقّ وإن كانوا قليلا ، والفُرقة : أهل الباطل وإن كانوا كثيراً ) (1).
  وروى النعماني بسنده في كتاب الغَيْبة عن ابن نباتة ، قال : سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) على منبر الكوفة يقول : ( أيّها الناس ! أنا أنف الهدى وعيناه ، أيّها الناس ! لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة من يسلكه ، إنّ الناس اجتمعوا على مائدة قليل شبعها كثير جوعها ) (2).
  وفي رواية هشام المعروفة عن موسى بن جعفر (عليه السلام) : ( يا هشام! ثمّ ذمّ الله الكثرة فقال : ( وإن تُطعْ أكثر مَن في الأرض يُضلّوكَ عن سبيل الله ) (3) ، وقال : ( ولئن سألتَهم مَن خلق السماواتِ والأرضَ ليقولُنّ اللهُ قل الحمد لله بل أكثَرُهُم لا يعلمون ) (4) ، وقال : ( ولئن سألتَهم مَن

---------------------------
(1) معاني الأخبار : 154 ـ 155 ح 3 ، بحار الأنوار 2 / 266 ح 23.
(2) انظر : الغيبة ـ للشيخ النعماني ـ : 170 ، الإرشاد ـ للشيخ المفيد ـ 1 / 276 ، بحار الأنوار 2 / 266 ح 27 ، نهج البلاغة ـ لمحمّـد عبده ـ 2 / 207 رقم 196.
(3) سورة الأنعام 6 : 116.
(4) سورة لقمان 31 : 25.

عدالة الصحابة _ 359 _

  نزّلَ من السماء ماءً فأحْيا به الأرضَ من بعدِ موتِها ليقولُنّ اللهُ قل الحمد لله بل أكثَرُهُم لا يعقلون ) (1) ...
  يا هشام! ثمّ مدح القلّة فقال : ( وقليلٌ من عبادي الشكور ) (2) ، وقال : ( وقليلٌ ما هم ) (3) ، وقال : ( وقال رجلٌ مؤمنٌ من آل فرعونَ يكتُمُ إيمانَهُ أتقتلونَ رجلا أن يقولَ ربّيَ الله ) (4) ، وقال : ( ومَن آمنَ وما آمنَ معهُ إلاّ قليل ) (5) ، وقال : ( ولكنّ أكثَرَهُم لا يعلمون ) (6) ، وقال : ( وأكثَرُهُم لا يعقلون ) (7) ، وقال : ( أكثَرَهُم لا يشكرون ) (8) ) ... الحديث (9).
  ولا يخفى أنّ الروايات في صدد بيان ضوابط وموازين البصيرة الحقّة وتمييزها عن الباطل ، لا في مقام ترك المسؤولية تجاه الأكثرية والقيام بواجب هدايتهم وإرشادهم ، والعناية بأُمورهم بالإصلاح وتقويم العوج وإزالة الفساد ، بل هي في مقام بيان أنّ الاعتداد بشأن موازين منطق التفكير التي هي موازين العلم والعقل والفطرة والسُـنّة غير المحرّفة لا يكون بالمنطق الأكثري بل بالقيم والمبادئ التي تتضمّن هذه الموازين.
  روى في مستطرفات السرائر بسنده عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) ،

---------------------------
(1) سورة العنكبوت 29 : 63.
(2) سورة سبأ 34 : 13.
(3) سورة ص 38 : 24.
(4) سورة غافر 40 : 28.
(5) سورة هود 11 : 40.
(6) سورة الأنعام 6 : 37 ، وتكرّرت هذه الآية في سور عديدة أُخرى.
(7) سورة المائدة 5 : 103.
(8) سورة يونس 10 : 60 ، سورة النمل 27 : 73.
(9) الكافي 1 / 12 ضمن ح 12.

عدالة الصحابة _ 360 _

  قال : ( قال لي : أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكوننّ إمّعَة ، قلت : وما الإمّعة ؟ قال : لا تقل أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس ، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : يا أيّها الناس ! إنّما هما نجدان : نجد الخير ، ونجد الشرّ ، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير ) (1) ...
  والإمّعة : الذي لا رأي له ، فهو يتابع كلّ أحد على رأيه ، والذي يقول لكلّ أحد : أنا معك ، أنا مع الناس.
  وروى الصدوق بسنده عن أبي عبـد الله (عليه السلام) أنّه قال لرجل من أصحابه : ( لا تكون إمّعة ، تقول : أنا مع الناس ، وأنا كواحد من الناس ) (2).
  وهذه الأحاديث أيضاً في مقام تخطئة التأثّر من رأي الأكثرية بسبب الأكثرية ، والحثّ على التمسّك بما هو مقتضى البديهة الفطرية والضرورة الدينية ، وهناك توصيات عديدة في القرآن والسُنّة على طريقة التفكير والاعتقاد كمنهج منطقي ديني لا يسع المقام ذكرها.
  ثمّ إنّ آية الاعتصام بحبل الله تعالى تتضمّن نبوءة بملحمة قرآنية مهمّة ، وهي : أنّ وحدة الأُمّة الإسلامية لا ولن تتمّ إلاّ بالتمسّك جميعاً بحبل الله ، فلا تأمل هذه الأُمّة يوماً ما في الخلاص من ذلّ الفُرقة والتشتّت والضعف أمام الأعداء بدون التمسّك بحبل الله ...
  والرغبة في الوحدة بأن تكون على محور الاعتصام بحبل الله كي لا يقعوا في الفُرقة ، فحبل الله هو العاصم من الفُرقة ، وبدونه سوف تكون الرغبة في الوحدة حلماً وشعاراً أجوف ومجرّد تشدّق باللسان.

---------------------------
(1) مستطرفات السرائر (ضمن السرائر) 3 / 595 ، الاختصاص : 343 ، الأمالي ـ للشيخ المفيد ـ : 210 ح 47 ، بحار الأنوار 21 / 62.
(2) معاني الأخبار : 226 ح 1 ، بحار الأنوار 2 / 26.

عدالة الصحابة _ 361 _

  وحبل الله الذي يدعو إليه القرآن الكريم هو : الثقلان ، لأنّه حبل طرف منه عند الناس وطرف آخر عند الله ، وهذا القرآن الكريم قد تضمّنت عدّة سور قرآنية منه التشديد على أنّ للقرآن قريناً وملازماً لا يفترق عنه ، هو ثلّة مطهّرة من هذه الأُمّة ، لديها علم الكتاب ، فقد قال تعالى في سورة الواقعة : ( فلا أُقسمُ بمواقع النجوم * وإنّه لقسمٌ لو تعلمون عظيمٌ * إنّه لقرآنٌ كريمٌ * في كتاب مكنون * لا يمسُّهُ إلاّ المطهّرونَ * تنزيلٌ من ربّ العالمين * أفبهذا الحديث أنتم مُدْهِنون * وتجعلون رزقَكم أنّكم تُكذّبون ) (1).
  فذكر تعالى أنّ للقرآن وجوداً علوياً غيبياً غير ما تنزّل منه ، لا يصل إلى حقيقته وحقائق ذلك الوجود غير المطهّرين ـ بصيغة الجمع ـ من هذه الأُمّة ، وهم الموصوفون بالطهارة في قوله تعالى : ( إنّما يريد اللهُ لِيُذْهِبَ عنكمُ الرجسَ أهلَ البيتِ ويُطهّرَكم تطهيراً ) (2).
  وكذلك قال تعالى : ( ويومَ نبعثُ في كلّ أُمّة شهيداً عليهم من أنفسِهم وجئنا بكَ شهيداً على هؤلاء ونزّلنا علينا الكتابَ تبياناً لكلّ شيء وهدىً ورحـمةً وبشرى للمسلمين ) (3) ...
  وقد اعترف الفخر الرازي ـ وإن لم تكن أهمّية لاعترافه فأهمّية القرآن ذاتية ـ أنّ الآية دالّة على وجود شخص في زمن لا يزل ولا يخطأ يكون شاهداً على أُمّة كلّ قرن (4) ، وإلاّ فكيف يكون شاهداً وهو مشهود عليه

---------------------------
(1) سورة الواقعة 56 : 75 ـ 82.
(2) سورة الأحزاب 33 : 33.
(3) سورة النحل 16 : 89.
(4) انظر : التفسير الكبير ـ ذيل الآية 89 من سورة النحل.

عدالة الصحابة _ 362 _

  بالذنب أو الضلالة ، كما تبيّن الآية من سورة العنكبوت : ( بل هوَ ـ أي الكتاب أو القرآن ـ آياتٌ بيناتٌ في صدور الّذين أُوتوا العلمَ وما يجحدَ بآياتنا إلاّ الظالمون ) (1) ومثله قوله تعالى في سورة الرعد : ( قل كفى بالله شهيداً بيني وبينَكم ومَن عندَهُ علمُ الكتاب ) (2) وغيرها من آيات الثقلين وأنّهما مقترنان معاً لا يفترقان.
  والحاصل
  أنّ آية الاعتصام تنبّأ بملحمة مهمّة ، وهي : أنّ ضعف وذلّ هذه الأُمّة لفرقتها لا يزول بغير الاعتصام بحبل الله ، وهما الثقلان : الكتاب والعترة ، وبذلك تتحقّق الوحدة ...
  وقد أشارت الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) بنت المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هذه الملحمة القرآنية في خطبتها : ( فجعل الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ... وطاعتنا نظاماً للملّة وإمامتنا أماناً من الفرقة ) (3).
  والمرتضى (عليه السلام) وصيّ المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته القاصعة ـ وهي من أعظم خطبه صلوات الله عليه ، إذ يصف فيها ولاية أهل البيت (عليهم السلام) أنّها توحيد لله تعالى في الطاعة ـ يقول : ( فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولا ، فعقد بملّته طاعتهم ، وجمع على دعوته أُلْفتهم ، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها ، وأسالت لهم جداول نعيمها ...
  وتعطفت الأُمور عليهم في ذرى ملك ثابت ، فهم حكّام على العالمين وملوك في أطراف الأرضين ، يملكون الأُمور على من يملكها عليهم ،

---------------------------
(1) سورة العنكبوت 29 : 49.
(2) سورة الرعد 13 : 43.
(3) الاحتجاج ـ للطبرسي ـ 1 / 258 ضمن ح 49 ، كشف الغُمّة ـ للأربلي ـ 1 / 483.

عدالة الصحابة _ 363 _

  ويمضون الأحكام في من كان يمضيها فيهم ...
  ألا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية ، فإنّ الله سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الأُمّة في ما عقد بينهم من حبل هذه الأُلفة التي ينتقلون في ظلّها ، ويأوون إلى كنفها ، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ، لأنّها أرجح من كلّ ثمن ، وأجلّ من كلّ خطر.
  واعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعراباً ، وبعد الموالاة أحزاباً ، ما تتعلّقون من الإسلام إلاّ باسمه ، ولا تعرفون من الإيمان إلاّ رسمه ، تقولون : النار ولا العار ! كأنّكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه انتهاكاً لحريمه ، ونقضاً لميثاقه الذي وضعه الله لكم ، حرماً في أرضه ، وأمناً بين خلقه ، وإنّكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر ، ثمّ لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم إلاّ المقارعة بالسيف حتّى يحكم الله بينكم ) (1).
  فقوله (عليه السلام) : ( فعقد بملّته طاعتهم ، وجمع على دعوته أُلفتهم ... قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم ... ) إنّ منّة الله على جماعة ووحدة الأُمّة هو بتوسّط ذلك الحبل ، حبل الطاعة ، وهو حبل الأُلفة ، وإنّ في مقابل الموالاة الأحزاب ، أيّ التفرّق والفُرقة ، فلا نصرة لهم من الله تعالى وملائكته والمؤمنين ، كما أنّه (عليه السلام) أخبر الأُمّة بملحمة مستقبلية ، هي الملحمة القرآنية في آية الاعتصام ، أنّهم سيتفرّقون ويضعفون أمام الكفر وتكالب الأعداء وكثرة الحروب حتّى يقدّر الله تعالى النهاية ، ولعلّه إشارة إلى عصر الظهور ...

---------------------------
(1) نهج البلاغة : خطبة 192 ـ القاصعة.

عدالة الصحابة _ 364 _

  ولا يخفى الاقتباس في تعبيره (عليه السلام) بالحبل وإنّه الطاعة ، إذ تضمّن الإشارة إلى آية الاعتصام من الفرقة بحبل الله ، وأنّه طاعتهم وولايتهم.
  فلا يأمل ولا يحلم المسلمـون بتحقّق الأُلفة والوحدة والقدرة لهم على أعدائهم من دون التمسّك بحبل الله ، المتمثّل بولاية وطاعة أهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأنّ إنشاد الوحدة من دون ذلك ممتنع.
  وهذا الإخبار من القرآن ومن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) إخبار إعجاز وتحدّ للمسلمين ، يعضد ذلك العقل والمشاهدة العيانية الاستقرائية لأوضاع المسلمين ...
  أمّا العقل :
  فإنّ المسلمين إن لم يرجعوا في عقائدهم ، ومن ثمّ في أحكامهم وقوانينهم إلى مصدر واحد ، فكيف يتمّ لهم الاتّفاق في نظامهم السياسي والاجتماعي والمذهبي ؟!
  وأمّا المشاهدة العيانية الاستقرائية :
  فهي حاصلة بأنّ مذاهب العامّة لا تكاد تنحصر في عدد معيّن ، وحصرها في أربعة ما هو إلاّ من فعل الخلافة العبّـاسية في القرن الرابع الهجري ، وإلاّ فمذاهب فقهائهم كثيرة كاثرة ، وهي لا تزال في تشعّب مذهبي ـ أي في أُصول القواعد ـ وفقهي واعتقادي ، ولم يبقَ من الأربعة إلاّ العدد فقط ، فهناك ـ الآن ـ مذاهب الوهّابيّة والظاهرية والأباظية والتكفير والهجرة ، وهلمّ جرّاً ، فكيف يرجى خلاص الأُمّة وهم يتّبعون مذاهب فقهية واعتقادية هي في الأصل من وضع الأُمويّـين والعبّـاسيّين ، أي فقه السلاطين واعتقاداتهم ؟ !
  ففقهاؤهم قاطبة ـ إلاّ ما شذّ وندر ـ يحرّمون الخروج على سلطان الجَوْر ، بلغ ما بلغ غيّه وفساده وجوره ، ما لم يكن كفراً بواحاً ، وإن كان وصوله إلى السلطة بالتغلّب والقهر والسيف ، فهل ترى للأُمّة الإسلامية من

عدالة الصحابة _ 365 _

  خلاص ونصرة على عدوّها والحال أنّ على رقاب ورؤوس المسلمين حكّاماً خونة ؟!
  قال المزّي : ( وقال أبو العبّـاس ابن عقدة ـ وذكر المزّي السند إلى حسن بن زياد ، يقول ـ : سمعت أبا حنيفة وسأله : من أفقه من رأيت ؟ فقال : ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمّـد ...
  لمّا أقدمه المنصور الحيرة بعث إليّ فقال : يا أبا حنيفة ! إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّـد ، فهيّئ له من مسائلك الصعاب ، قال : فهيأت له أربعين مسألة.
  ثمّ بـعث إليّ أبـو جـعفر فأتيته بالحـيرة ، فدخـلت عليه وجعفر جالس عن يمينه ، فلمّا بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر ، فسلّمت ، وأذن لي ، فجلست.
  ثمّ التفت إلى جعفر فقال : يا ابا عبـد الله ! تعرف هذا ؟ قال : نعم ، هذا أبو حنيفة ، ثمّ أتبعها : قد أتانا (1).
  ثمّ قال : يا أبا حنيفة ! هات من مسائلك نسأل أبا عبـد الله.
  وابتدأت أسأله ، وكان يقول في المسألة : أنتم تقولون فيها كذا وكذا ، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا ونحن نقول كذا وكذا ، فربّما تابعنا ، وربّما تابع أهل المدينة ، وربّما خالفنا جميعا ، حتّى أتيت على أربعين مسألة ما أحزم منها مسألة.
  ثمّ قال أبو حنيفة : أليس قد روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف

---------------------------
(1) الظاهر أنّ المراد : تتلمذ عندنا ، كما ذكر ذلك المزّي أيضا في تهذيب الكمال : أنّ أبا حنيفة تتلمذ عنده (عليه السلام).

عدالة الصحابة _ 366 _

  الناس ) (1) .
  فها أنّك ترى أنّ أبا حنيفة يستخدمه الخليفة العبّاسي آلة طيّعة ليقابل تنامي نفوذ الإمام الصادق (عليه السلام) في المسلمين ، ومثله الحال في بقية فقهائهم ...
  قال الحافظ ابن عبـد البرّ : ( إنّ محمّـد بن سعد قال : سمعت مالك ابن أنس يقول : لمّا حجّ أبو جعفر المنصور دعاني ، فدخلت عليه فحادثته ، وسألني فأجبته ، فقال : إنّي عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعت (يعني الموطّأ) فتنسخ نسخاً ثمّ أبعث إلى كلّ مصر من أمصار المسلمين منها نسخة ، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدّوها إلى غيرها ! فإنّي رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم ) (2).
  وقد ذكر هذه الحادثة ابن قتيبة الدينوري ، وذكر دخول أكثر فقهاء العامّة على المنصور ، كسفيان الثوري ، وابن ابي ذؤيب ، وابن سمعان ، وأنّ المنصور خطب فيهم ثمّ قسّم عليهم أموالا ، وأنّ بعضهم أخذها ، ومنهم مالك ، وأنّ المهدي العبّاسي أمر لمالك بأربعة آلاف دينار مكافأة على كتابه الموطّأ ، ولابنه بألف دينار ، وأنّ هارون بالغ في الحفاوة به أيضاً (3).
  فبدون ولاية وطاعة المعصوم لا سبيل للنجاة من الفُرقة ، إذ الأهواء المتّبعة مدعاة للفُرقة ، والجهل والجهالات المتفشّـية هي الأُخرى موجبة لاختلاف القول والرأي ، وبالتالي اختلاف الكلمة ...
  وتوحيد الكلمة الذي هو مظهر التوحيد الإلهي لا يتحقّق إلاّ بإمامة

---------------------------
(1) تهذيب الكمال 5 / 79.
(2) كتاب الانتقاء : 41.
(3) انظر : الإمامة والسياسة : 193 ، 195 ، 203 ، 208.

عدالة الصحابة _ 367 _

  أهل البيت (عليهم السلام) ، وذلك لأنّ توحيد الله تعالى على مقامات ومواطن ، فمنه توحيد الذات والصفات والأفعال ، والتوحيد في العبادة بالإخلاص ، والتوحيد في التشريع وهو النبوّة ، والتوحيد في الغاية وهي المعاد ، والتوحيد في الطاعة والولاية وهي الإمامة ، إذ أنّ الأئمّة المعصومين هم أوعية مشيئة وإرادة الله تعالى ، فقيادتهم هي حاكمية لمشيئة الله تعالى وإرادته.
  ولن يستكمل التوحيد حتّى يعمّ قوله تعالى : ( إن الحُكْمُ إلاّ لله ) (1) كلّ المواطن ، وإلاّ فعزل الباري عن مسرح الحياة البشرية وقصر التوحيد على الذات والصفات ـ كما يصنع العلمانيون ـ ليس إلاّ توحيد أجوف صوري ، كما أنّ التوحيد في التشريع ـ النبوّة ـ دون التوحيد في التطبيق هو الآخر توحيد نظري بدون تطبيق ، كما قال الإمام عليّ (عليه السلام) : ( احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ) ، أي ثمرة النبوّة وهي الولاية لأهل البيت (عليهم السلام) ، فولايتـهم وإمامتـهم نهاية معاقل التوحـيد وزبدة مواطنه ، وهو الامتحان الذي فشل فيه إبليس الرجيم ، إذ لم يكفر بتوحيد الذات ولا الصفات بحسب الظاهـر ولا بالمعاد ، بل كـفر بولايـة آدم وخـلافته ، أي بالتوحيد في مقام الطاعة والولاية ، فنجم عن ذلك كفره وحبط عمله ، وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته القاصعة الطويلة ، وسنشير إلى مقطعين منها ...
  الأوّل : ( الحمد لله الذي لبس العزّ والكبرياء ، واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حمىً وحرماً على غيره ، واصطفاهما لجلاله ، وجعل

---------------------------
(1) سورة الأنعام 6 : 57 ، سورة يوسف 12 : 40 و 67.